بسم الله الرحمن الرحيم
موسوعة الحافظ عبد الله في 133 لغة
المجلد الرابع عشر

ويحتوي على:

مباحثات مع المعاصرين المخالفين

۱ - الرَّدُّ المُحْكَمُ المَتين على كتاب "القول المبين". - إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي . - إعلام الرَّاكِعِ السَّاجِد بمعنى اتَّخاذِ القُبورِ مَساجِد.

- إِعْلامُ النَّبِيلِ بِجَوازِ التَّقْبِيل.

ه - إتحافُ الأذكياء بجَوازِ التَّوَسُّل بالأنبياء والأولياء.

٦ - مِصْباحُ الزُّجَاجَةِ في صَلاةِ الحَاجَةِ «حديث توسل الضرير». - أسباب الخلاص مِن الأَخْطَاءِ الوَاقِعَةِ في كتاب "تَحْقِيقِ كَلِمَةِ

الإخلاص".

- بيانُ الكَذبِ والبُهْتَانِ فِي دعوى الظُلمِ والعُدْوانِ. ۹ - القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع. ١٠ - بيني وبين الشيخ بكر.

۱ - الرَّد المحكم المتين

على كتاب "القول المبين"

الرد المحكم المتين

O

بسم الله الرحمن الرحيم

ربَّنا لا تؤاخذنا إن نَسِينا أو أخطأنا، ربَّنا هب لنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا

من أمرنا رشدا، ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً، إنَّك أنت الوهاب، ربَّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كل حال، حمدًا يُوافي نِعمه ويُكافئ مَزيده، لا إله إلا هو، خَلَقَ الخَلْق وجعلهم على مراتب فمنهم شقي وسعيد، ومُقرَّبٌ وبعيد، وولي وعَصِيٌّ، وفاجر وتقي، وفضل بعضهم على بعض في الرّزق، فكان منهم الغني والفقير ، والمأمور والأمير، والمرؤوس والرئيس، والمحظوظ والبئيس، كل منهم في ذلك على ما قسم له فَمَا الَّذِينَ

:

فَضِلُوا بِرادَى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء [النحل: ۷۱] له مقاليد السَّموات والأرض، وبيده ميزان الرفع والخفض، يرفع ويخفض، ويبسُط ويقبض، يهدي ويُضل، ويُشقي ويُسعد، يضر وينفع، ويُعطي ويمنع، لا ملجأ منه إلَّا إليه، ولا اعتماد إلا عليه.

فالحمد الله الذي تواضع كل شيء لعظمته، والحمد لله الذي ذلَّ لعزّته، والحمد لله الذي خَضَعَ كل شيء لملكه، والحمد لله الذي استسلم ـ

شيء لقدرته.

كل

والصلاة والسَّلام على نبيه الطَّاهر المطهر، والشفيع المشفّع في المحشر، سيدنا محمد أفضل العرب والعجم، ورسول الله إلى جميع الأمم، واسطة عقد الوجود، والوسيلة العُظمى في وصول الخير إلى كل موجود، فما من خير

مباحثات

وَصَلنا أو يَصِلُّنا في ديننا ودنيانا، في مَعَاشِنا ومَعَادِنا، إلَّا وهو الواسطة فيه والدال عليه، والمرشد إليه، فصلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وجازاه عنا أفضل

وأكمل ما جازى نبيًّا عن أمته، ورضي الله عن آل بيته الطيبين الطاهرين وخيار

صحابته من الأنصار والمهاجرين.

أما بعد: فإنَّ طائفة. المتنطعين من ومن حَذَا حَذْوهم من المتهوسين والمتهوكين، قد أكثروا الصُّراخ والضَّجيج وبالغوا في الصياح والنتيج، ونادوا بالويل والتُّبور، وفاهوا بعظائم الأمور، وزعموا زورا وبهتانا- أنَّ من زار قبرا من قبور الأنبياء أو الأولياء، وتوسل بصاحبه إلى الله أو استشفع به لديه، خرج من زُمرة الموحدين، ودخل في عديد المشركين، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: ٥] فرَّقوا بذلك بين جماعة المسلمين، واتخذوا من ضعفاء العقول أنصارًا لنحلتهم يُروجونها بأساليب تشبه الحق وليست بحق، فلبسوا على العامة أمر دينهم بما ألقوا إليهم من دعاوى كاذبة منمقة، وأقاويل باطلةٍ مُزوَّقة، فعَظُمت الفتنة وجسمت المحنة، شغلوا

بهم

الناس عن الواجب بالمندوب، وألهوهم عن الأهم بما ليس بمهم، أينما ذهبت وجدتهم يُكفّرون أصحاب التوسل والزيارة، بآيات نزعوا بها في غير منزعها، وحرفوها عن موضعها لا يفقهون ما يقولون إن هي إلَّا أشياء تلقفوها، ثُمَّ ألقوها كما تلقنوها، ذلك مبلغهم من العلم، فإن باحثهم باحث فيما يذكرونه من الآيات أو أراد أن ينتقل بهم عن التّوسل والزيارة إلى مواضع أخرى من الدين هامَّةٍ مُهمَّةٍ، ومسائل من أبواب العلم مفيدة جيدة، رأيتهم ينظرون إليه

الرد المحكم المتين

۱۱

شَزْرًا، ويوسعونه فُحْشًا من القول وهجرًا، ويودُّون لو استطاعوا أن يفتكوا به؛ فَرَقًا على بضاعتهم المزجاة أن تُصاب بالإفلاس ويظهر بهرجها لكل أحدٍ من الناس، وفي إفلاسها قضاء عليهم بالمرّة إذ لا يعرفون من الدين غيرها، ولا يُحسنون من العلم سواها، فهم لذلك لا يستطيعون أن ينتقلوا في أبواب العلم، ولا يقدرون أن يهجموا على عويص المسائل لاحتياجه إلى دقة البحث وجودة الفهم، يدعون إلى الاجتهاد وهم عوام وكل منهم في دينه عندهم إمام. هذا مع ما هم عليه من شراسة في الخلق، وإقذاع في القول وتعصب للجهل، وغباوة في التَّقليد، كل هذا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ألا ساء ما

يظنُّون.

۱۲

فصل

مباحثات

ولهؤلاء المتنطعين كتب كثيرة على غرار ما ينتحلونه من تبديع عوام المسلمين، وإكفار عموم الموحدين من المؤمنين، إِلَّا مَن سار سيرهم المعوج على طريقهم المشوك، وفي كتبهم ضروبٌ من الجهل، وصنوف من التكاذيب؛ لأنَّ من دأبهم إذا صدمتهم الحُجَّة وأعوزهم الدَّليل أن يدفعوا بالصدر، ويتترسوا بالكذب، ويختلقوا ألوانا من الاستدلال لا تؤيدها الأصول ولا يوافقها المعقول، ولكنها توافق هواهم وميولهم، فطورًا يقصرون الاحتجاج بالحديث على ما كان موجودًا في الكتب الستة، وذلك إذا علموا من خصمهم القوَّة وأنَّ في استطاعته أن يُلزمهم بأحاديث من كتب السنة المشهورة كـ"المستدرك " وغيره لا قبل لهم بها إلا من طريق ردّها وعدم قبولها، وحينا يجعلون الاحتجاج خاصا بما في الصحيحين فقط، وذلك إذا وجدوا أنَّ السنن الأربعة التي فروا إليها أولا قد اتّسع أمرها عليهم وأتتهم من الأحاديث بما لا يطيقون، وتارةً يزعمون أنَّ تصحيح الترمذي والحاكم غير مقبول عند المحدثين، في حين أنّهم يستدلون به إذا وافق مرادهم، إلى غير ذلك من تقلباتهم

التي يريدون بها مراوغة الحقِّ، ومُدافعة الحُجَّة بما هو بعيد عن المَحَجَّة. أنَّ تخصيصهم الاحتجاج بالكتب الستة دون غيرها باطل لعدة

وجوه

على

أولها: أنَّهم ليسوا من أهل الحديث حتى يُقبل كلامهم فيما يُحتج به من كتبه

وما لا يُحتج به.

الرد المحكم المتين

۱۳

ثانيها: أنَّ الكتب الستة لم تجمع كل الأحاديث ولا نصفها، ففي الاقتصار

عليها والحالة هذه قضاء على كثير من السنة، ورد الجمهرة من الأحاديث بدون مسوع يُسوّغ ذلك، اللهم إلَّا الهوى والتَّعصُّب.

ثالثها: أنه لا معنى لهذا التخصيص ؛ لأنَّه إن كان المراد به أنَّ هذه الكتب اشتهرت وصحت نسبتها إلى أصحابها حتى وثق بما فيها، فسائر كتب السنة كذلك كـ"الموطأ" ، و"المسند"، و"سنن الدارمي"، و"سنن الدارقطني"، و" المستدرك " ، و"سنن البيهقي"، ومعاجم الطبراني وغيرها.

رابعتها : إجماع علماء الحديث وغيرهم على أن الحديث إذا استوفى شروط القبول وجب العمل به سواء كان في الكتب الستة أو غيرها، ولو كان في سيرة البكري مثلا، وعلى هذا عمل المحدثين قاطبة في كتبهم واستدلالهم

ومناظراتهم. وبالجملة فالقول بتخصيص بعض كتب الحديث بالاحتجاج دون بعض من البدع التي أحدثها هؤلاء المتنطعون ليتوصلوا بذلك إلى رد الأحاديث التي تَردُّ نِحلتهم وتقضي عليها وهيهات أن يصلوا إلى ذلك ما دام لهذا العلم في كل خلف حملةٌ عُدولٌ، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل

الجاهلين.

١٤

مباحثات

فصل

قد وقع بيدي أخيرًا كتابٌ من هذا القبيل يُسمَّى: "القول المبين في حكم دعاء ونداء الموتى من الأنبياء والأولياء والصَّالحين" طالعته فإذا هو على ما وصفت من حال كتبهم وأشد؛ فمن ركَّة في العبارة، إلى جهل مطبق، ومن تحريف في تأويل النصوص لتوافق الغرض، إلى رد للأحاديث الصحيحة التي لا تلائم المزاج، إلى ... إلى ... ثما يَكِلُّ عنه لساني، ويعجز عن وصفه بياني،

وماذا عسى أن أقول في كتاب أملاه الهوى، ودفع إليه التعصب، وخطته يد أثيمة عن فكر سقيم ؟! ولقد عجبتُ حين قرأته كيف وُجد هذا الكتاب على هذه الكيفية المزرية،

ولم تُقلم أظفار صاحبه على ما جنته يداه على العلم وأهله؟!

ثُمَّ رأيت أنَّنا في زمانٍ غلب شره على خيره، وزاد جهله على علمه، وأصبحت مائدة العلم يجلس عليها كل وارش، وذهب الورع وخشية الله من

قلوب الناس، فذهب عجبي ولم يبق له عندي محل وتذكرت قول القائل: أَلَا إِنَّها الأيامُ قد صرنَ كلَّها عجائب حتى ليس فيها عجائب وقد علمت أن هذا الكتاب لَقِي على ما فيه رواجا في بعض الأحياء، وأثر على أهلها تأثيرًا كبيرًا، ظهر عليهم حاله؛ فأساءوا ظنهم بالمسلمين، واعتقدوا أنهم ليسوا على شيء، وصار عندهم الطَّعن بالسفاهة في الأحاديث الصحيحة الثابتة أمرًا هينا، وما دروا أنَّه عند الله عظيم، وذهب من قلوبهم تعظيم النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم حتى لقد سمعت مرَّةً أحد الشوقة منهم

الرد المحكم المتين

۱۵

في دكانه وهو يقول - قطع الله لسانه - قال محمد كذا، وفعل محمد كذا، من غير سيادة ولا صلاة، ولا يدري المسكين أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال كما في الصحيح: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر»، وأنَّ الصحابة كانوا لا يذكرونه باسمه المجرد امتثالا لقوله تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ﴾ [النور: ٦٣].

ومنهم من كان يُسوّده مبالغة في تعظيمه كما جاء في "المستدرك " من طريق عبدالواحد بن زياد، حدثني عثمان بن حكيم: حدثتني جدتي الرباب قالت: سمعت سهل بن حنيف يقول : مَرَرْنا بسيل، فدخلت فاغتسلت فيه، فخرجت محموما فنما ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «مروا أبا ثابت يتعوذ»، قال: فقلتُ: يا سيدي والرقى صالحة؟ فقال: «لا رُقَى إِلَّا في نفس أو

مُحمةٍ أو لدغة». قال الحاكم: «صحيح»، وأقره الذهبي.

ورواه أحمد، وأبو داود والنسائي في "الكبرى".

وصح أن جبريل عليه السَّلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال له من حديث: ومَن ذُكرتَ ، عنده فلم يُصَلِّ عليك فماتَ فَدَخَلَ النَّارَ

فأبعده الله، قل: آمين، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «آمين».

ورأيتُ أنهم إن استمروا على حالتهم تلك هلكوا لا محالة؛ لأنها حالة ابتداع وضلال، فأردت أن أنقذهم مما وقوعوا فيه غيرةً عليهم أن يَضلُّوا أو يَزلُّوا فيجعلوا للشيطان عليهم سبيلا فيتّخذهم بابا للفتنة، وذريعة للفرقة، والمسلمون أحوج إلى التوافق والتالف، منهم إلى التنافر والتخالف، فألفت

١٦

مباحثات

هذه الورقات بينت بها عَوَار ذلك الكتاب وما حواه من أباطيل وأوهام دفعني إلى تأليفها الغيرة ،الإسلامية، وحب الدفاع عن الأحاديث النبوية، وسميتها: "الرد الحكم المتين على كتاب القول المبين". والله أسأل متوجها إليه بنبيَّه سيّدنا محمد نبي الرحمة؛ أن يرزقني سدادا في القول، وتوفيقا في العمل، وأن ينفعني بما علمني، ويُعلّمني ما ينفعني،

ويزيدني علما، والحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار.

الرد المحكم المتين

بسم الله الرحمن الرحيم

۱۷

قال المتنطع صاحب الكتاب بعد أن نزع بآيات ليست من الموضوع في شيء كما سيتبين ذلك فيما بعد بحول الله : فهذه رسالتي إلى أهل الإسلام ووصيتي وعهدي بين الله وبين الناس أنّي بلغتُ ما بلغه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لهذه الأمة من الحقِّ فيهما اختلفوا فيه»، إلى أن قال: «ولعلها تكون معذرةً لي عند الله حينما يسأل سبحانه وتعالى العلماء عن إهمالهم تبليغ

دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الوجه الصحيح».اهـ وأقول: في كلامه أمور: الأول: ادّعاؤه أنَّه بلّغ ما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحق وهو ادّعاء كَذِبٌ؛ لأنَّ رسالته ليس فيها إِلَّا رمي المسلمين بالضَّلال والعدوان، وتطبيق آيات الشّرك عليهم ونبذهم بكل عظيمة، وغير ذلك مما لو راه غر جاهل لاعتقد أنَّ المسلمين حقا صاروا ضلالا مشركين.

وهذا خلاف ما بلغه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الحق الذي هو تحسين الظَّنِّ بالمسلمين وحمل أحوالهم على المحامل الحسنة وإرشادهم فيما أخطأوا فيه بالحسنى، وحرمة دعائهم بالكفر والضَّلال إلا لمقتضى شرعي يقتضي ذلك ليس للتأويل فيه مجال ولا يدخله أدنى احتمال، وإلا كان وبال

.

الإكفار راجعا إلى مدعيه، وتضليله حائرًا عليه.

فقد ثبت من حديث ابن عمر وغيره أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال : ما أَعْظَمَكِ وأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَلَلْمُسْلِمُ أَعظمُ حُرْمَةٌ مِنكَ،

۱۸

مباحثات

حَرَّم اللَّه دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ وأَن يُظْنَّ بِه ظَنَّ السَّوء».

وفي الصحيحين عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيها رَجُلٌ قال لأخيه يا كافرُ فقد بَاءَ بها ، أحدهما، إن كان كما قال وإِلَّا رَجَعَتْ

عليه».

وفي "صحيح البخاري" عن أبي ذرّ أنَّه ، سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بالفُسُوقِ ولا يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلَّا ارتدَّتْ عليه

إن لم يكن صَاحِبُهُ كذلك».

ورواه مسلمٌ أيضًا ولفظه: ومَن دَعَا رَجُلًا بالكُفْرِ أو قال: «عدو الله» وليس كذلك؛ إِلَّا حَارَ عليه».

فظاهر هذه الأحاديث أنَّ مَن رَمَى مُسْلِها بالكفر أو الفُسُوقِ ولم يكن

المرميُّ كذلك كان الواصف هو المستحق للوصف المذكور وأولى به. وهذا الظاهر وإن كان غير مرادٍ كما قال شراح الحديث وتأوَّلوا تلك الأحاديث بعدة تأويلات؛ فإنَّه مع ذلك يُفيد زجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وتهديده عليه، ومما أوّلوا به تلك الأحاديث حملها على رمي مسلم بالكفر معتقدا حل ذلك فإنه حينئذ يكون كافرًا.

وأخشى أن يكون المتنطع داخلا في عموم الأحاديث المذكورة بمقتضى هذا التأويل، فإنَّ من قرأ كتيبه الذي نرد عليه يكاد يجزم بأن إكفار المسلمين عنده أسوغ من شُرب الماء، فتبيَّن مما ذكرنا أن هذا المتنطع خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث ارتكب ما نهى عنه وكان بعيدا عن الحق بعد الضَّب من النُّون، وليس لأحدٍ أن يعتذر عنه بأنه متأوّل فيما سلكه من تضليل

الرد المحكم المتين

۱۹

أصحاب التوسل وتطبيق آيات الشرك عليهم على ما سيأتي في كلامه فلا

يلحقه إثم ولا وَعِيدٌ لأَنَّه مُتأول.

لانا نقول: على فرض صحة تأويله - وهو غير صحيح ولا مُسلَّم - كان يجب ألا يحكم عليهم بالضَّلال حتى يتحقق من أنَّهم ليس لهم دليل ولا شُبهة فيما يقولون ويفعلون؛ لأنَّ القاعدة المقرَّرة: أنَّ المسلم لا يحكم بكفره أو ضلاله حتى يفعل أو يقول ما يقتضي ذلك، غير مُتأوّل فيه تأويلا مقبولا على قواعد الشريعة، ولا له عليه دليل وإن كان مُخطئًا فيه إن كان مثله يقبل منه مثل ذلك

الخطأ.

وهذا المتنطع لم يحافظ على هذه القاعدة المقررة بإجماع العلماء، ولا أظنُّه سمع بها بل صار يكيل ألقاب الضَّلال جُزافًا لخصومه أصحاب التوسل وهو يعلم أنَّ لهم أدلَّةٌ بدليل أنه أتى ببعضها في كتابه مُجيبا عنه بما لا يفيد كما سيأتي بيانه، فهلا كانت تلك الأدلة التي سماها شُبها مانعة عنده من تضليل خصومه لو كان عنده نزاهة وورع، هذا لو فرض أنَّه من أهل التأويل، كيف وهو ليس من أهله؟! ؛ لأنه ليس بعالم كما سيأتي في الأمر بعده، فهو لا محالة آثم عاص لربه، مخالف لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم. الأمر الثاني: قوله : ولعلها تكون لي معذرة عند الله حينما يسأل سبحانه

وتعالى العلماء عن إهمالهم ... إلخ.

هذا الكلام يفيد أنَّ هذا المتنطع يعتقد في نفسه أنَّه .

.

العلماء المطالبين من

بالتبليغ والمسؤولين عن الإهمال فيه، أمَّا أنَّه سيسأل عند الله ويؤاخذ بما جنته يداه فهذا مما لا شك فيه، وأمَّا أَنَّه من العلماء فلا .

مباحثات

لأنَّ وصف العالم عزيز لا يتصف به إلا من توفّرت فيه شروط، وهي أن يكون عالما بالقرآن ووجوه تأويله، وبالحديث وعلله ومعانيه حتى يُعطي كل

حديث حقه، بصيرًا بأقوال الصحابة، عارفًا بمواقع الإجماع ومواطن الخلاف، حتى لا يدعي الإجماع في موضع الخلاف وبالعكس، مع شروط أخرى لا تتحقق إلا في المجتهد، ولهذا اصطلح أهل الأصول - وإليهم المرجع في هذا الباب على تخصيص وصف العالم بالمجتهد وكذا الفقيه، وهم في اصطلاحهم آخذون من السلف، فإنّهم كانوا لا يوقعون وصف العالم أو الفقيه إلا على

المجتهد، أما المقلّد فلا يُسمى عندهم عالما باتفاق، ولا فقيها كذلك.

راجع «باب من يستحق أن يُسمَّى فقيها أو عالما حقيقة لا مجازا، وباب فساد التقليد ونفيه من كتاب جامع بيان العلم وفضله" للحافظ ابن عبد البر، وباب الاجتهاد من كتب الأصول ولولا خوف التطويل المنافي لغرضنا في هذا الكتاب لجلبنا من النصوص في هذا الموضوع ما فيه الكفاية. وكذلك الأحاديث الواردة في فضل العلماء ليس المراد بها إلا المجتهدين؛ لأن بهم تقوم الحجة الله على خلقه، وهم ورثة الأنبياء، وأما غيرهم من المقلدين

فليسوا بعلماء في عُرف الشَّرع، وإنما هم نَقَلة علم فقط، فيُشترط فيهم . يُشترط في الراوي من العدالة والضبط.

ما

يُرشد إلى ذلك حديث النعمان بن بشير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «رَحِمَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهِ غَير فقيه، ورُبَّ حامِلِ فِقْهِ إِلى مَن هو أَفْقَهُ مِنه الحديث.

الرد المحكم المتين

۲۱

وعن أبي قِرْصَافَةَ نحوه بلفظ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وحَفِظَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ عِلْمٍ إلى مَن هو أعلم منه...» وذكر الحديث، وفي آخره كرامة لأبي قرصافة مع ابنه. وفي رواية أنسٍ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا ثُمَّ ذَهَبَ بِها إِلى مَن لم يَسْمَعُها؛ فَرُبَّ حَامِلِ فقهِ ليس بفَقِيهِ، ورَبَّ حَامِلِ فِقْهِ إِلى مَن هو أَفْقَهُ مِنه» وللحديث طرق بلغت حد التواتر، وهو كما ترى صريح في أنه ليس كل من حمل الفقه يُسمَّى فقيها وما ذاك إلا لأنَّ الفقيه تشترط فيه شروط زائدة على مجرد حمله للفقه، والعالم كذلك لأنَّه مُرادفٌ للفقيه في عرف الشرع، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم سمَّى العلم بالقرآن والسنة في بعض الأحاديث علما وفي بعضها فقها. وقد صرح البدخشي والسَّعد وغيرهما من أهل الأصول أنَّ الذين يُفتون ا بما حفظوه أو وجدوه في كتب المذاهب كما هو الواقع

الآن هم بمنزلة النقلة

والرواة، فينبني قبول أقوالهم على حصول شرائط الرَّاوي. إذا علم هذا فنرجع إلى صاحب الكتاب ونسأله: هل استيقنت من نفسك بلوغ رتبة الاجتهاد حتى ادعيت أنَّك من العلماء المسئولين عن تبليغ العلم؟ إن قال : نعم كذَّبناه ولا كرامة وكتابه خير شاهد لنا عليه، فإنَّ فيه من أنواع الجهل ما ليس عليه من مزيد.

وإن قال: لا. قلنا له: صدقت، واعترفت ضمنيا بأنَّك عامي، غير أنَّك تمتاز بمعرفة شيءٍ ضَئيل من العلم يُمكنك من مطالعة الكتب العلمية، وإن كنا

۲۲

مباحثات

في شكٍّ من أنَّك تُحسن فهمها، وحيث أنَّك عامي كما تبيَّن، فلِمَ كذبت في كتابك وأفهمت الناس أنك من العلماء المسئولين عن تبليغ العلم؟!!

وليت شعري أي علم أدركت حتى تُسأل عن تبليغه ؟!!

وما حملك على أن ألفت ذلك الكتاب الذي فضحت به نفسك وأطلعت

الناس على ما لم يكونوا يعلمونه من جهلك ؟!! فكنت كالباحث على حتفه

بظلفه، والجَادِع مارن أنفه بكفه.

ألم يكن في إقبالك على إصلاح نفسك واشتغالك بما يُعنيك وازع لك عن

الدخول في مآزق لا تحسنها ولا تدري كيف تتخلص منها؟

فإن كنت تعتقد أنَّ ورقة الشَّهادة التي أخذتها تجعلك في مصاف العلماء

وتُحملك مسؤولية تبليغ العلم فأنت فاسد الاعتقاد بعيد عن الصواب. ألم تعلم أنَّ هذه الورقة هي التي أفسدت العلم؟ بل قضت عليه وجعلت من الجهلة علماء، حيث يتقدَّم لأخذها كلُّ من يحفظ مواضع التعيين لا غير، ويلقيها كما حفظها، فإن لم يحسن الحفظ أو الإلقاء تذرع بوسيلة إلى الممتحنين - وهذه هي الوسيلة المحظورة - فيخرج في كلا الحالين من الامتحان وقد حصل على الورقة ولقب عالما، وأصبح يتطلَّع إلى الوظيفة بتلهف يفوق تلهف الظمآن إلى الماء البارد في اليوم القائظ . فتراه يسأل عن كلّ مقرأة ويبحث عن المأذونيَّة، ويستفهم عن ا المسابقة للإمامة والأذان، كأَنَّه ما كان يُتعب بدنه ويُجهد نفسه إلا ليحصل على

امتحانات

هذا النزر من حطام الدنيا، يتقاضاه كل شهر.

الرد المحكم المتين

۲۳

أنَّه

والمصيبة العظمى أنَّ العامة يتّخذونه مرجعًا لهم في أحكام دينهم مع أ عامي مثلهم لا يفوقهم في شيء إلا أنه أخذ الورقة، والله أعلم كيف أخذها !! فالواقع أن هذه الورقة - وصاحب الكتاب من حملتها- ينبغي أن تكون عنوان الجهل، ورمز ركود الفكر، ونذير التكاسل المنبئ عن ضعف نفسي

وخُلقي معا. وإلا فالعالم الذي همه العلم لا يُثنيه عن غرضه ورقة ولا ورقات، ولا يردُّه عن مطالعة الكتب ومواصلة البحث شهادات، على أنَّ هذه الورقة من أصلها

بدعة في العلم لم تكن في عهد العلماء الذين كانوا بحق علماء.

ومع كونها بدعةٌ فهي مذمومةٌ مُضرة؛ لأنها كانت سبب التقهقر العلمي المشاهد الآن وسبب إقبال حامليها على الوظائف وتكسبهم على حساب العلم بعد أن كان العلماء قبل ظهورها يتعيَّشون من كسب أيديهم وينشرون العلم احتسابًا، فكان العلم إذ ذاك في ازديادٍ مُطَّردٍ وأهله في عزّ ورفعة كلمتهم ـوعة وأمرهم مطاعٌ، لا عند العوام والشوقة فحسب، بل عند الملوك والخلفاء والعظماء، فلما جاءت هذه الورقة وفتحت عليهم باب الوظائف آل الحال بالعلم وأهله إلى ما ترى والأمر الله، ما شاء الله فعل. وحيث إن هذه الورقة بدعة كما قلنا، فما بالنا نرى صاحب الكتاب يتبجح

مسمون

أنه

بها في إمضائه مع ما في ذلك من الغرور المورّث للكبر والعجب في حين يزعم محاربة البدع ؟! أفلا يعتقد أنها بدعةٌ أم يعتقد أنها كانت موجودة على

عهد الصحابة حينما كانوا ينشرون العلم خدمة للدين وطلبا لما عند الله من

٢٤

مباحثات

الثواب؟! لا ندري من أي أمور هذا المتنطع نعجب، أمن تبجحه بأنَّه من العلماء ؟!، أم من استناده في هذا التبجح إلى ورقة ليست من العلم في شيء، ولا

تمتُ إليه بشيء ؟!

الأمر الثالث: لو سلَّمنا جَدَليَّا أنَّ هذا المتنطع من العلماء المسؤولين عن تبليغ العلم كما زعم في كلامه، فماذا فعل فيما هو أهم من التوسل وأشد ضررًا منه لو كان فيه ضرر؟ ، فهذه محلات الخمور مُفتحة الأبواب، وهذه أنواع الربا لا يكاد يخلو منها بيت ولا دكان لا سيما في القُرى والبوادي، وهذه بيوت الزنا تشتغل ليل نهار، كلُّ هذه المصائب العِظام واقعة بين سمع الناس وبصرهم لا يستطيع أحد أن يُنكرها لأنها تحت حماية القانون وبتشريعه، فهل سمع للمتنطع صوت في إنكار تلك الموبقات التي تُخرب البيوت وتفسد الأخلاق وتقضي

على الدين؟!

كلا، مع أنه جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم

أَنَّه قال: «ما ظَهَرَ فِي قَوْمِ الزِّنا أو الرِّبَا إِلَّا أَحلُّوا بِأَنفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّه». وجاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: «لما حُرمت الخمرُ مَشَى أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم بعضهم إلى بعض وقالوا: حُرِّمَتِ الخَمْرُ وجُعلتْ عَدْلًا للشرك». بل هناك ما هو أشد ضررًا مما ذكرنا وأقبح، ألا وهو هذه المحاكم الأهلية التي تحكم بقانون وضعِيٌّ بدلا عن القانون السَّماوي الشرعي، فتنفّذ أحكاما لم يُنزل الله بها من سلطان، وتُعطّل إزاء ذلك أحكام الله وتلزم النَّاس بأشياء ما ألزمهم الله ورسوله إيَّاها ، وهذا غاية ما يكون من الضَّلال والخذلان عياذا بالله.

الرد المحكم المتين

وفي مثل هذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَتَيكَ هُمُ الْكَفِرُونَ ﴾ [المائدة: ٤٤].

ويقول: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَيكَ هُمُ الظَّلِمُونَ ﴾ [المائدة: ٤٥] ويقول : وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَوَلَتَبِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: ٤٧]. أفكان للمتنطع يد في إنكار هذه المحاكم التي وصف الله منفّذ أحكامها بالكفر والظلم والفسق ؟!

كلَّا ثُمَّ كلا ، وما له ولهذا الإنكار الذي يكون سبب ذهاب مُرتبه وربما يؤول به إلى السجن والحبس ؟!

فالمتنطع يتعامى عن هذا حتى كأنه ليس بموجود في البلد ولا يرى أنَّ عليه تبلیغ ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من الحقِّ؛ لأنَّ في هذا التبليغ كما ذكرنا ذهاب المرتب وضياع الوظيفة، وربما كان سُجِن وحُبس أيضًا، ولكنَّه يبرق ويُرْعِد ويَشْتُم ويَسُب ويُجهل ويُسفّه إذا ذُكِر التوسل والزيارة، وحينئذ فقط يرى أنَّ عليه تبليغ دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم على الوجه الصحيح؛ لأنَّ هذا التبليغ ليس فيه ضياع المرتب ولا ذهاب الوظيفة؛ بل فيه مع حفظ المرتّب والوظيفة تقبيل اليد من العوام الجالسين حوله، وحمل النعل، وتشييع إلى البيت بكل إجلال واحترام، فبون بين التبليغ الأول والثاني،

والعاقل من يقدم منفعة نفسه!

ومن

هنا تُدرك أنَّ المتنطع ومن على شاكلته ليس غرضهم خدمة الدين ومحاربة البدع كما يتخرَّصون، ولكن غرضهم خدمة مصالحهم الشخصية

٢٦

مباحثات

والتَّعيش على حساب العلم كما قدمنا، وهم في الواقع جهلاء.

ثُمَّ ابتدأ المتنطع كتابه بخطبة ركيكة تُنبئ عن عجز وعِيَّ، مُلمحا فيها أيضًا بآية لا تُناسب الموضوع إلَّا . عند مزاجه المنحرف، ثُمَّ قال: «فهذه الرسالة

تشتمل على ما يلزم المسلم معرفته من عقائد دينه . اهـ

وأقول: في كلامه أمور:

الأول: ادعاؤه أن رسالته اشتملت على ما يلزم المسلم معرفته ادعاء كاذب؛ لأنَّ رسالته اشتملت على مبحث سماع الموتى وحياتهم في قبورهم ووصول قراءة القرآن إليهم، وهذه الأشياء لو جهلها المسلم طول حياته لما لزمه ضرر في دينه؛ لأنها ليست من المسائل الضرورية في الدين بحيث تجب معرفتها على كل أحد وهذا أوضح من أن يُستدل عليه. الثاني: زعمه أنَّ رسالته اشتملت على عقائد الدين، زعم باطل؛ لأنَّ عقائد

الدين تشتمل على : إلهيات، ونبويات، وسمعيات.

فالإلهيات تبحث فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى وجوبا، واستحالة،

وجوازا.

والنبويات: تبحث فيما يتعلق بالأنبياء والملائكة كذلك، وفي المفاضلة

بينهم وما يناسب ذلك.

والسمعيات: تبحث فيما يتعلق بما بعد الموت من أحوال البرزخ والآخرة.

ورسالته لم تشتمل على شيء من هذا البتّة. الثالث: في ادّعائه أيضًا اشتمال رسالته على العقائد الدينية تخليط غير معقول؛ لأنَّ التَّوسُّل وإن كان له اتصال ما بالعقائد فالكلام فيه هنا من حيث

الرد المحكم المتين

۲۷

الجواز والحرمة، وهو من هذه الحيثية ليس من العقائد في شيء، وإنما هو مبحث فقهي بحث؛ لأنَّ الكلام في الأحكام الشرعية من حيث إثباتها وثبوتها من موضوع علم الفقه على ما هو مُقرَّرٌ في محلّه، كما أن سائر ما اشتملت عليه الرسالة من أحكام القبور وزيارتها وقراءة القرآن للموتى كذلك من مباحث علم الفقه لا العقائد.

فانظر - هداك الله - إلى مؤلّف لا يُفرّق بين ما هو من موضوع الفقه وما

هو من موضوع العقائد ثُمَّ اعجب له كيف نصب نفسه لإرشاد الناس. ثُمَّ قال: «وأودعتها من الأبحاث العلمية على صِغَرِها ما لا يتيسر الحصول عليه من كبار الكتب . اهـ وأقول: جدير بمن لا يُفرّق بين موضوعي الفقه والعقائد فيخلط أحدهما بالآخر كما تقدم، أن يستكثر هذه الرسالة ويرى أن ما فيها من الأبحاث لا يتيسر الحصول عليه من كبار الكتب !!.

وإنه لكذلك، فهل تجد في كبار الكتب خلط موضوع علم بموضوع علم آخر كما هنا؟! وهل تجد في كبار الكتب ما سيمر بك في هذه الرسالة من قواعد مُحرَّفةٍ وأقوال مُزيَّفة وآراء لا ترتكز على دليل؟!

كلا، فقد صان الله كبار الكتب وصَان مؤلّفيها عن هذا التخليط والتحريف، ولهذا نرى أنَّ في عبارته صفةٌ محذوفة دلّ عليها المقام وتقدير تلك الصفة: وأودعتها من الأبحاث العلمية المحرَّفة أو المقلوبة ما لا يتيسر الحصول عليه من كبار الكتب. فبهذا التقدير يستقيم الكلام وينسجم مع حال الرسالة تمام الانسجام.

۲۸

مباحثات

ثُمَّ أتى بلفظ (مقدمة) مُنكَرًا وكان الواجب أن يُعرفه كما عرف الباب الأول وما بعده؛ لأنَّ المقام يقتضي المقام يقتضي ذلك، ولكنه على ما يظهر لم يعرف علم المعاني ولا أدرك ما فيه من الدَّقائق واللطائف حتى يدرك متى يحسن التعريف ومتى يحسن التنكير، وهذا يدلُّ على أنَّ تعريفه للأبواب الثلاثة كان مصادفة طابقت مقتضى الحال.

ثُمَّ قال: «لا بد قبل الكلام في هذه المسألة من معرفة أمور: الأول: الوقوف على مشركي العرب وفرقهم وبيان هذا الأصل ينفع في معرفة الحق في هذه المسائل ويرد قول من قال : إِنَّ آيات القرآن قد نزلت في عُبَّاد الأصنام فقط فلا يصح تنزيلها على غيرهم ممن آمن وصلَّى وصام، فإنَّ هذا القول قد اغتر به كثير من علماء المسلمين.

وبيان فساده من وجهين: الأول: أنَّ أئمة المسلمين متفقون على أصل مشهور وهو أنَّ العبرة في التشريع بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. اهـ وأقول: في كلامه أمور:

الأول: قوله: «لابد قبل الكلام على هذه المسألة معرفة أمورٍ». يوهم القارئ أنَّه مهد لموضوع البحث بعدة أمورٍ ومباحث مع أنه لم يذكر غير أمر واحد ومبحث واحد وهو الوقوف على مشركي العرب وفرقهم، فإمَّا أن يكون قصد هذا الإيهام فهو كاذب آثم، وإما أن يكون لم يقصده فهو أبله لا يدري ما يقول. الثاني: قوله: وبيان هذا الأصل ينفع في معرفة الحق في هذه المسائل». هو صحيح، فإنَّنا إذا عرفنا المشركين وأنهم بجميع فرقهم كانوا يتخذون

الرد المحكم المتين

۲۹

من يدعونه إلها من دون الله كما صرح به القرآن في الآيات التي أوردها المتنطع غير مدرك لها أو متعاميًا عنها وفي غيرها من الآيات، علمنا أنَّ التَّوسُّل غير الإشراك بالضرورة، وأنَّ مَن توسل بشخص إلى الله لم يكن مشركًا، كما أَنَّ مَن توسل بعمل من الأعمال كذلك بإقرار المتنطع نفسه.

الثالث: قوله: يرد قول من قال: إن آيات القرآن قد نزلت في عُبَّاد

الأصنام فقط فلا يصح تنزيلها على غيرهم ممن آمن وصلَّى وصام». لو قول باطل، فإنَّ بيان هذا الأصل يؤيد قول من قال ذلك لا يرده؛ هو وذلك لأنَّ مشركي العرب كما قلنا كانوا يتّخذون من يدعونه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله، ويُحبُّونه كحب الله أو أشد، والآيات نزلت للرد عليهم وذم ما هم عليه من الشرك الصحيح الصريح.

فبأي لغة، بل بأي عقل تُطبّق تلك الآيات على المسلمين الذين يعتقدون أن لا إله إلا الله، ويُفردونه بالوحدانية كلَّ يوم خمس مرات، ويدينون له

بالعبودية في جميع أحوالهم ؟!! سبحانك هذا بهتان عظيم !! فإن ادعى أنَّ تلك الآيات شملتهم بالقاعدة الآتية، فهو ادعاء باطل كما سيأتي، وإن ادعى ذلك بالقياس؛ قلنا: ليس هذا محل قياس؛ لأنَّ الموضوع موضوع شرك وتوحيد، وكفر وإيمان، ولا دخل للقياس في ذلك، ولو سلمنا أنَّه من محل القياس، فأين العلة الجامعة بين الأصل والفرع؟

فإن قال: إن دعاء المسلمين لأهل القبور ونداءهم لهم أشبه دعاء المشركين

لأصنامهم. قلنا له: كذبت، فإنَّ دعاء المشركين دعاء ألوهية وتعبد، ودعاء المسلمين

۳۰

مباحثات

توسل واستشفاع، وبون كبير بين من يقول: يارب أعطني كذا بجاه فلان، وبين من يقول: أعل هبل، خذلني اللات.

وبون كبير بين من يؤمن برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به

من التوحيد الخالص، وبين من يُعارضه ويقول : أَجَعَلَ الْأَلِمَةَ إِلَهَا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَى عُجَابٌ [ ص: ٥].

وبون كبير بين من يقول: عيسى رسول الله وكلمته، وبين من يقول: هو

ابن الله وشريكه في الألوهية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا. وبالجملة: بون كبير شاسع بين المسلمين والمشركين في عقائدهم وأعمالهم

وسائر أحوالهم، فأنى يمكن القياس والحالة هذه ؟! على أنَّ المتنطع أنكر القياس في العقائد والعبادات كما سيأتي في الباب الأول من كتيبه، فلا يُمكنه أن يدعي القياس في هذا المحل. الرابع: قوله: «إِنَّ أئمة المسلمين متفقون على أصل مشهورٍ وهو: «أَنَّ

العبرة في التشريع بعموم اللفظ لا بخصوص السبب». هذا كذب وجهل، وذلك أنَّ هذا الأصل ليس متفقا عليه بهذا الإطلاق

الذي ذكره، بل فيه تفصيلات وخلافات مبسوطة في محلها من أصول الفقه. ونحن نلخصها هنا بما يتفق مع الاختصار الذي نحرص عليه في هذا الرَّد، حتى يتبيَّن القارئ مقدار أمانة هذا المتنطع وسعة علمه الذي يزعم أنَّ عليه تبعة تبليغه.

قال علماء الأصول: خطاب الشارع إمَّا وارد ابتداء، فهو على حاله من

الرد المحكم المتين

۳۱

عموم أو خصوص، وإمَّا وارد عقب سبب مخصوص، كسؤال مثلا. وهو إما مستقل أو لا، فإن لم يستقل بالإفادة بحيث لا يحصل الابتداء به

فهو تابع للسبب في عمومه وخصوصه، وإن استقل بنفسه بحيث لو ورد ابتداء لكان كلاما مفيدًا فهو على ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون أخصَّ من السبب، وهذا لا يجوز إذ يلزم عليه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو ممنوع ، إلَّا إذا أمكنت معرفة المسكوت عنه، كأن كان في المذكور تنبيه عليه فيجوز حينئذ، كما لو سئل الشارع عن حكم من أفطر في نهار رمضان فأجاب: من جامع في نهار رمضان فعليه كفَّارة كالظهار،

فاقتصاره على الجماع يفيد بطريق المفهوم أن الإفطار بغيره لا كفارة فيه. الثاني: أن يكون مساويًا للسبب في عمومه أو خصوصه وهذا واضح. الثالث: أن يكون أعم من السبب وهو قسمان: أحدهما: أن يكون أعم منه في حكم المسؤول عنه وغيره، كما جاء في حديث الترمذي وغيره عن أبي هريرة أنَّ ناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال: «هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَهُ». سألوه عن الوضوء بماء البحر في حالة الضرورة، فأجابهم بجواب عام يشملها وغيرها، وزاد على ذلك حكم ميتته ، فهذا القسم يبقى على عمومه بلا خلاف، وإن كان كلام أبي الطيب الطبري وابن برهان يقتضي جريان الخلاف الآتي في القسم الثاني فيه. وثانيهما: أن يكون أعم من السبب في الحكم الذي وقع السؤال عنه . عنه، مثلا

۳۲

مباحثات

كما جاء في حديث الترمذي وغيره عن أبي سعيد الخدري قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يُلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: «إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُه شيء»، وهذا القسم محل خلاف بين العلماء

وفيه مذاهب :

أحدها: يجب قصره على صورة السبب فلا يتناول غيرها، نقله القاضي أبو الطيب، والماوردي، وابن السمعاني، وابن برهان عن الإمام مالك، وقال به من أصحابه أبو الفرج كما حكاه القاضي عبدالوهاب والباجي، وقال به أيضًا أبو ثور، والمزيّ، والقفال والدقاق، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري، وحكي عن الشافعي ولم يصح عنه.

ثانيها: يجب حمله على العموم، وهو مذهب الشافعي والجمهور وهو

الراجح. ثالثها: الوقف، أي لا يُحمل على عموم ولا خصوص حتى يتبيَّن أحدهما

بالقرائن والأدلة، حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني في "التقريب".

رابعها التفصيل، وهو أنَّه إذا كان السبب سؤال سائل فيختص به، وإذا كان السبب وقوع حادثة ورد الخطاب عقبها فلا يختص بها، حكاه عبد العزيز في "شرح البزدوي". خامسها : تفصيل آخر، وهو أنَّه إن عارض هذا العام الوارد على سبب عام

آخر ورد ابتداء بلا سبب، فإنَّه يقصر على سببه، وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه، وصححه الأستاذ أبو منصور.

قال الشوكاني: «وهذا لا يصلح أن يكون مذهبًا مستقلا، فإنَّ هذا العام

الرد المحكم المتين

۳۳

الوارد ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة فهو دليل خارجي يوجب القصر - أي قصر العام ذي السبب على سببه ولا خلاف في ذلك بين المذاهب كلها» . اهـ فكأنَّ هذا تقييد لمحل الخلاف المذكور.

وبهذا التلخيص الموجز تعلم كذب الاتفاق الذي نقله المتنطع وتستيقن مع

ذلك جهله المطبق.

أن العبرة اللفظ لا

العبرة بعموم

الخامس: وعلى مذهب الجمهور الراجح بخصوص السبب، فمعنى ذلك هنا أنَّ تلك الآيات التي نزلت في مشركي العرب لا تختص بهم لكونها وردت بسببهم بل تعم كل من عبد شيئًا من دون الله واتخذه إلها مع الله، سواء كان هذا المشرك من العرب أم من العجم، وسواء كان في عهد نزول الآية أو بعدها إلى قيام الساعة؛ لأنَّ لفظ المشركين في الآيات يشمله بحسب الوضع اللغوي والشرعي وكونه واردا في طائفة منهم كمشركي العرب لا يكون مانعا من حمله على باقيهم ولا معارضًا له فيجب الأخذ بمدلول اللفظ والتمسك بعمومه حتى يقوم الدليل على التخصيص. وكذلك لفظ الماء في الحديث السابق لا يختص بماء بئر بضاعة لكونه ورد فيه، بل يعم ماء الآبار والأنهار والأمطار؛ لأنَّ ذلك كلَّه يُسمَّى ماءً واللفظ يشمله لغة وشرعا. وكذلك لفظ المسلم في قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «سبحان الله، إنَّ المسلم لا يَنْجُس»، لا يختص بأبي هريرة الذي كان سبب وروده، بل يعم كل

مسلم من ذلك الوقت إلى قيام الساعة. وهكذا كل لفظ عام ورد على سبب خاص، فمعنى حمله على عمومه أن

٣٤

مباحثات

يُحمل اللفظ على ما يتناوله لغةً وشرعًا كما قدَّمناه، وليس معناه أن يحمل اللفظ على ما لم يتناوله ولا هو من مدلوله كما لو حمل لفظ المسلم في الحديث السابق على المسلم والكافر معا، فإنَّه قلب للأوضاع اللغوية والشرعية، وحمل للفظ

على ما لا يحتمله، وهو مع ذلك تلاعب بنصوص الشارع.

إذا علمت هذا تدرك بطلان ما فرعه المتنطع على تلك القاعدة بقوله: «فإذا كانت الآيات التي ذمَّت من كانوا يدعون الأصنام نزلت بسببهم، فإنَّها بالقاعدة المتقدمة تعم كل من عمل عملهم ». اهـ

وذلك لأنَّ لفظ المشركين في الآيات التي ذمَّت عُبَّاد الأصنام لا يتناول المسلمين ولا يمكن أن يتناولهم لا بوضع اللغة ولا في عرف الشرع فتطبيقه عليهم كتطبيق لفظ المسلم في الحديث السابق على الكافر سواء بسواء، إذ أنَّ في كل منهما خروجا عن مدلول اللفظ وتحريفًا في التأويل إلَّا إذا انسلخ المسلمون عن إسلامهم وعبدوا غير الله واتَّخذوا آلهة مع الله كما فعل عباد الأصنام، فحينئذ تشملهم تلك الآيات بالقاعدة المتقدمة، ولكن شيئًا من هذا لم يحصل،

ولن يحصل، إذ يلزم عليه اتفاق الأمة على الشرك وهو محال سمعا . ثُمَّ في كلام المتنطع نفسه ما يؤيد ما ذكرناه، ألا تراه يقول: «فإنّها بالقاعدة المتقدمة تعم كل من عمل عملهم يعني عُبَّاد الأصنام، وعملهم هو عبادة الأصنام واتخاذها آلهة من دون الله، والمسلمون لم يعبدوا من توسلوا به إلى الله، ولا اتخذوه إلها مع الله كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان، فوجب بكلام المتنطع نفسه أن تُحمل تلك الآيات على مشركي العرب التي نزلت بسببهم، وتعم معهم كل مشرك عمل عملهم الذي ذُمُّوا لأجله وهو الإشراك بالله سبحانه

الرد المحكم المتين

٣٥

وتعالى دون المسلمين، فقد رأيت كيف ناقض آخر كلامه أوله، ورجع استدلاله وبالا عليه.

يأبى الله على المبطل إلَّا أن يتناقض ويتخاذل، فإن قال: لم أرد بعمل المشركين خصوص الإشراك واتخاذ الآلهة من دون الله، بل أردتُ ذلك وما في معناه كدعاء الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم والتوسل بهم إلى الله في قضاء الحوائج، فإنَّ ذلك كلَّه يَصْدُق عليه لفظ الإشراك فتكون الآيات على هذا شاملة لأهل التوسل بعموم اللفظ لا بشيء آخر.

قلنا: هذا باطل من وجوه: الوجه الأول: إنَّ حقيقة الإشراك في اللغة تباين حقيقة كل من التوسل والاستغاثة والدعاء؛ لأنَّ الإشراك معناه اعتقاد شريك مع الله في الألوهية وهو كفر، تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، ولهذا فسَّر كثير من أهل اللغة الإشراك بالكفر؛ لأنه كفر بالله وجحد لوحدانيته. وأما التوسل: فهو التقرب إلى الغير يُقال: توسل إلى فلان بكذا إذا تقرب إليه بشيء، والوسيلة ما يُتقرب به، ومنه قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة: ٣٥]، وقوله تعالى: أُولَيكَ اللَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } الآية [الإسراء: ٥٧].

والاستغاثة معناها: طلب الغوث والنجدة، قال تعالى: ﴿فَاسْتَغَتَهُ الَّذِي مِن

شعَيْهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُقِهِ ﴾ [القصص: ١٥] أي طلب إغاثته ونجدته. والدعاء معناه: النداء وطلب الإقبال، يُقال دعا فلانًا إذا ناداه طالبًا إقباله عليه

٣٦

مباحثات

ومنه لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ﴾ [النور: ٦٣].

ودعا الله؛ ناداه بابتهال وخضوع ومنه الله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: ١٨٦].

فإذا كانت هذه الحقائق مُتباينة كما ترى فكيف يصح إرادتها في لفظ واحدٍ وهل هذا إلا تلاعب بالنصوص ؟!.

الوجه الثاني: إنَّ الإشراك الذي حصل من المشركين الذين ذمهم القرآن هو عبادتهم للأنبياء والملائكة والأولياء بناءً على اعتقادهم فيهم أنهم شاركوا الله في الألوهية وأنَّ لهم تأثيرًا في الأشياء، ولذلك ترى القرآن في معرض الرد عليهم يقرر دلائل وحدانية الله وانفراده بالألوهية وأنَّه المنفرد بالإيجاد والإبداع، ولو ذهبنا نسرد الآيات في ذلك لطال بنا الحال وخرجنا إلى حد الإملال؛ لأنَّ ما في القرآن مما يتعلق بالتوحيد والردّ على المشركين كله في هذا المعنى وهو كثير، ومع ذلك لا تجد فيه إشارة إلى التوسل بالمعنى الذي نتكلم عليه؛ لأنه لم يكن من عمل المشركين ولا كان معروفًا لهم، فبطل أن يكون داخلا في تلك الآيات لا بالعموم ولا بالخصوص ولا بنوع من أنواع الدلالات. الوجه الثالث: أنَّ الآيات التي ذمَّت عُبَّاد الأصنام إذا قلنا بعموم تناولها لأهل التوسل كما يقول المتنطع، فلا يخلو حالها من أحد أمرين: إما أن تتناولهم حقيقة أو مجازا، والأول لا سبيل إليه؛ لأنَّا بينا في الوجه الأول أن حقيقة الإشراك تباين حقيقة التوسل وما ذكر معه فلم يبقَ إِلَّا الثاني وهو باطل

لأمرين:

الرد المحكم المتين

۳۷

الأول: أنَّ المجاز لا بد له من علاقة وقرينة، وهما مفقودتان هنا. الثاني: أن تلك الآيات قد استعملت في معناها الحقيقي الذي هو الإشراك بالله كما بينا في الوجه الثاني وهو واضح، فلا يجوز استعمالها أيضًا في المعنى المجازي الذي هو التوسل وما في معناه؛ لأنَّ المقرر في علم الأصول أنَّ اللفظ لا يجوز استعماله في الحقيقة والمجاز معًا، هذا مذهب جمهور أهل العربية الحنفية، ومحققي الشافعية، وجمع من المعتزلة، قال الشوكاني: «وهو الحق»، ودلائل هذا القول مبسوطةٌ في كتب الأصول والبيان فلا تطيل

وجميع

بذكرها.

الوجه الرابع : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أمر بالتوسل به كما في حديث الأعمى الآتي، ولو كان إشراكًا لاستحال أن يأمر به أحدا من أمته. الوجه الخامس: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم توسل بنفسه وبالأنبياء

من قبله كما في قصة وفاة فاطمة بنت أسد رضي الله عنها وستأتي. الوجه السادس: أنَّ الاستغاثة ورد بها الحديث كما سيأتي وذلك دليل قاطع على أنها ليست بإشراك ولا هي من الإشراك في شيء، فكل هذه الوجوه وغيرها تردُّ قول المتنطع: «إنَّ التوسل وما في معناه إشراك وتبين بطلان حمل

الآيات التي ذمَّت المشركين على أهل التوسل وهذا هو الحق الصراح. ثُمَّ قال المتنطع: والوجه الثاني الذي يُبطل حمل الآيات على أهل الأصنام

وحدهم: أنَّ المشركين كانوا أربع فرق:

الأولى تنادي الأصنام، والثانية تُنادي الجنّ، والثالثة تنادي الملائكة،

۳۸

مباحثات

والرابعة تنادي الأنبياء والصالحين من الموتى وكل فرقة تستغيث وتنادي من

تدعوه .

وأقول: هذا الوجه في كلامه فاسد كالذي قبله؛ لأنَّ فرق المشركين التي ذكرها كانت تعبد من تدعوه من دون الله والآيات التي استشهد بها صريحة في ذلك كقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَيْكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يعْبُدُونَ ) قَالُوا سُبْحَنَكَ أَنتَ وَلِتُنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنُّ أَكْثَرُهُم بهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ [سبأ: ٤٠، ٤١].

ا وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتِ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَنَهُ

وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنعام: ١٠٠].

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادُ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ إلى قوله : قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ :

[الأعراف: ١٩٤، ١٩٥].

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ، فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ) أوليك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ

ويَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [الإسراء: ٥٧،٥٦].

قال البغوي في "تفسيره": قوله عزّ وجلَّ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دوني وذلك أنَّ المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف،

فاستغاثوا بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ليدعوا لهم، قال الله تعالى : لا

الرد المحكم المتين

۳۹

للمشركين وادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم أَنَّهَا آهَةٌ فَلَا يَمْلِكُونَ كَيْفَ الضُّر القحط

والجوع عَنكُمْ وَلَا تَحويلا إلى غيركم أو تحويل الحال من العُسر إلى اليسر . اهـ وقال البخاري في "صحيحه" : باب قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ [الإسراء: ٥٦] الآية، ثُمَّ روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: إلى بهِمُ الوَسِيلَةَ } [الإسراء: ٥٧]، قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم».

الذين

قال الحافظ ابن حجرٍ في شرحه : أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجنّ، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا وهم ا صاروا يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة، وروى الطبري من وجه آخر عن ابن مسعودٍ

فزاد فيه والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية. وأما ما أخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن مسعود قال: كان قبائل العرب يعبدون صنفًا من الملائكة يُقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله، فنزلت هذه الآية، فإن ثبت فهو محمول على أنها نزلت في الفريقين، وإلا فالسياق يدلُّ أنَّهم قبل الإسلام كانوا راضين بعبادتهم، وليست هذه من صفات الملائكة، وكذا ما أخرجه من طريق أُخرى ضعيفة

عن ابن عباس أنَّ المراد من كان يعبد الملائكة والمسيح وعُزيرا».اهـ وقال البخاري أيضًا : باب قوله أولَكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة [الإسراء: ٥٧] الآية»، قال الحافظ في شرحه: «ذكر فيه الحديث

٤٠

مباحثات

قبله من وجه آخر مختصرًا، ومفعول يدعون محذوف تقديره: «أولئك الذين آلهة يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وقرأ ابن مسعود تدعون بالتاء

يدعونهم

الفوقانية على أنَّ الخطاب للكفار وهو واضح . اهـ وقال الطحاوي في مشكل الآثار باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في السبب الذي فيه نزلت: أَوْلَيْكَ الَّذِينَ يدعون يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسيلَة [الإسراء: ٥٧] الآية مما أُضيف إلى عبدالله بن مسعود مما يحيط علما أنه لم يقله رأيًا، وإنما قاله توقيفا، ثُمَّ رُويَ من طريقين عن ابن مسعود قال: نزلت لنفر كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والنفر من العرب لا يشعرون بذلك، يعني قوله عزّ وجل: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونهِ ﴾ [الإسراء: ٥٦] إلى قوله : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }

[الإسراء: ٥٧].

ثُمَّ قال : فأنكر منكر هذين الحديثين، وقال: إنَّما أُريد بهذه الآية غير ذلك، فذكر ما قد حدثنا، وأسند عن مجاهد قال يبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ عيسى وعزير والملائكة عليهم السَّلام، وقال: هذا المنكر : هم الذين عَلِمنا أنَّهم عبدوا من دون الله لا من سواهم من الجنَّ».

قال الطحاوي: فكان جوابنا له أنَّ ما قاله ابن مسعود في ذلك أولى مما قاله مجاهد فيه، لموضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد وجدنا الله تعالى أنبأنا في كتابه أن بعض الإنس قد كانوا يعبدونهم بقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَيْكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ) قَالُوا سُبْحَنَكَ أَنتَ وَلِتُنَا مِن

الرد المحكم المتين

دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنُّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ [سبأ: ٤٠ - ٤١]. ولا نعلم عن أحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في تأويل الآية غير ما رويناه عن ابن مسعود في الحديثين الأولين، وليس يصلح خلاف مثل ذلك إلى قول مجاهد، لا سيما وقد أخبر ابن مسعود في أحد حديثيه بنزوله في أولئك النفر الإنسيين الذين كانوا يعبدون الجنيين». اهـ وقال تعالى يُخاطب أهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأوثان والأصنام : إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلُّ فِيهَا خَلِدُونَ عام [الأنبياء: ٩٨ - ١٩٩ إلى قوله : وَنَلَقَهُمُ الْمَلَتِيكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٣].

قال ابن مردويه في "تفسيره" : حدَّثنا محمد بن علي بن سهل، ثنا محمد بن حسن الأنماطي، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ثنا يزيد بن أبي حكيم، ثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، قال: جاء عبدالله بن الزبعرى إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال : تزعم أنَّ الله أنزل عليك هذه الآية: إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وردون قد عُبدت الشمس والقمر والملائكة، وعزيز، وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا فنزلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يصدُّونَ وَقَالُوا وَالِهَتُنَا خَيْرُ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُوَ قَوْمُ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: ٥٧ - ٥٨ ، ثُمَّ نزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَا

-

٤٢

مباحثات

الْحُسْنَ أُولَيكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: ۱۰۱] هذا حديث صحيح رواه الحافظ

الضياء المقدسي في كتابه "الأحاديث المختارة" ما ليس في الصحيحين. وقال ابن إسحاق في "السيرة": «وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحرث حتى جلس معهم، وفي المسجد غير واحدٍ من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حتى أفحمه وتلا عليه وعليهم : إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله -

ب جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨] إلى قوله: الوهم

حصب جهنم

فيهَا لا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٠].

ثُمَّ قام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأقبل عبد الله بن الزبعَرَى السهمي حتى جلس معهم، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحرث لا بن عبد المطلب آنفًا ولا قعد، زعم محمَّدٌ أَنَّا وما نعبد آلهتنا هذه حصب جهنّم ، فقال عبدالله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته الخصمته، فسلوا محمدا كلُّ ما يُعبد من دون الله في جنَّهم مع من عبده فنحن

من

نعبد الملائكة، واليهود تعبد عُزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس ورأوا أنَّه قد احتج فخاصم، فذكر ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «كلُّ من أحبَّ أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنَّهم إنَّما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» وأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَا الْحُسْنَى أُولَيكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [الأنبياء:

الرد المحكم المتين

٤٣

۱۰۱]، أي عيسى وعُزيرا ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله، ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنّهم بنات الله: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا سُبْحَنَةٌ بَلْ عِبَادُ مُكْرَمُونَ ﴾ [الأنبياء: ٢٦] إلى قوله: ﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّت

إله مِّن دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٢٩]. ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنَّه يُعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يصدون [الزخرف: ٥٧] إلى قوله: ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرنَ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمُ﴾ [الزخرف: ٦١] . وقال تعالى مخبرًا عن المشركين في تعجبهم من بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه إلى عبادة الله وحده وأنَّ لا إله إلا هو: ﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرُ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَفِرُونَ هَذَا سَحِرٌ كَذَابُ أَجَعَلَ الْآلِهَةً إِلَيْهَا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عُجَابٌ ) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى وَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا أَحْيَلَقُ ) أَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِن ذِكْرِى بَل لَّمَا يَذُوقُوا عَذَابِ : [ ص: ٤ - ٨].

روى ابن جرير في تفسيره" عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إنَّ ابن أخيك يشتم الهتنا ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه؟ فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال: فخشي أ

٤٤

مباحثات

جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرقّ له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مجلسًا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا عم إنِّي أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتُؤدّي إليهم بها العجم الجزية»، ففزعوا لكلمته وقوله ، فقال القوم كلمة واحدة، نعم وأبيك عشرا، فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا إله إلَّا الله»، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ويقولون: أجعل الآلهة إلها واحدًا، إنَّ هذا الشيء عُجاب قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: بَل لَمَّايَذُوقُوا عَذَابِ [ ص: ۸] .

ورواه ابن جرير أيضًا، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم من وجه آخر

عن ابن عباس نحوه، وقال الترمذي: «حديث حسن». وذكره البغوي أيضًا وزاد في آخره: «فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا أجعل

الآلهة إلها واحدا، كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟!».

وقال تعالى يذكر تلاوم الكفَّار في عَرَصات القيامة لما رأوا العذاب: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ )) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ) قَالُوا بَل لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الصافات: [۲۷ - ۲۹].

إلى قوله: فَإِنَّهُمْ يَوْمَيذٍ فِي الْعَذَابِ مُسْتَرِكُونَ (٢) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَبِنَّا لَتَارِكُوا وَالِهَتِنَا لِشَاعِي

الرد المحكم المتين

٤٥

تَجنُونِ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: ۳۳-۳۷].

قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي، ثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، ثنا حماد، عن سعيد الجريري، عن أبي العلاء قال: «يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله وعُزيرا، فيقال لهم: خذوا ذات الشمال، ثُمَّ يؤتى بالنصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله والمسيح، فيقال لهم: خذوا ذات الشمال، ثُمَّ يؤتى المشركين فيقال لهم: «لا إله إلا الله فيستكبرون، ثُمَّ يقال لهم: «لا إله إلا الله» فيستكبرون، ثُمَّ يقال لهم: «لا إله إلا الله» فيستكبرون، فيقال لهم: خذوا ذات

الشمال، قال أبو نضرة: فينطلقون أسرع من الطير. قال أبو العلاء ثُمَّ يؤتى بالمسلمين فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد الله تعالى فيقال لهم هل تعرفونه؟ فيقولون: نعم، فيقال لهم: فكيف تعرفونه ولم تروه، فيقولون: نعلم أنَّه لا عَدل له، قال: فيتعرف لهم تبارك وتعالى، ويُنجِّي الله المؤمنين». فهذه الآيات كلُّها صريحة كما ترى فيمن يتخذون إلها مع الله ويعبدونه كما يعبدون الله، لا تقبل في ذلك تأويلا ولا تحتمل تغييرًا وتبديلًا، فما بال المتنطع يتعامى عنها، ويأبى إلا أن يحملها على المسلمين، ألم يدر أنَّ هذا من التحريف

في كتاب الله، ألا يخاف أن يكون ممن ذمَّهم الله بقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن موَاضِعِهِ [النساء: ٤٦]، قاتله الله ما أشدَّ جرأته على القول في كتاب الله بالجهل والهوى.

٤٦

مباحثات

ثُمَّ قال المتنطع: والآية تشمل بعمومها من كانوا يدعون الملائكة» يعني قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ، فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِ عَنكُمْ وَلَا تحويلا ﴾ [الإسراء: ٥٦].

ولكنَّا قدَّمنا عن ابن مسعودٍ في صحيح البخاري" أنَّ الآية نزلت فيمن

كانوا يعبدون الجنَّ، وأنَّ الحافظ ابن حجر قال: «إنَّ ذلك هو المعتمد». وما ورد في سبب نزولها أنّها نزلت فيمن كانوا يعبدون صنفًا من الملائكة يقال لهم الجن، أو فيمن كانوا يعبدون عيسى والملائكة وعُزيرا فلم يثبت ذلك. وقدمنا أيضًا عن الطحاوي أنَّ ما قاله ابن مسعودٍ في سبب نزول الآية إنَّما قاله عن توقيف، وأنَّه لا يصح خلافه، والآية ليس فيها عموم حتى يقال أنها تشمل بعمومها من كانوا يدعون الملائكة، فبطل قول المتنطع جملة وبالله

التوفيق.

ثُمَّ قال المتنطع: «إلا أنَّ كلَّ هذه الفرق كانوا يعتقدون أن الخالق لكل شيء هو الله تعالى، وأن دعاءهم لمن يدعون ليقربوهم إلى الله زلفى كما حكى الله تعالى ذلك عنهم جميعا بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقربُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: ٣]» . اهـ وأقول: لا ندري هل بلغت الغباوة بالمتنطع إلى هذا الحد، أو هو التعصب الممقوت والقحة البالغة، أوديا به في هذا الحفرة المهلكة، ولعمر الله إنَّه مُصابٌ بكل ذلك وبأكثر منه، وإلا فالآية كما ترى مُصرحة بأن المشركين عبدوا آلهتهم

ليقربوهم إلى الله زلفى ومعنى العبادة معروفٌ في اللغة والشرع لا يحتاج إلى

الرد المحكم المتين

٤٧

شرح وبيان، وأين هذا ممن يقول يا ربِّ أسألك بحق فلان، أو بجاه فلان أن

تعطيني كذا.

واسمع إلى ما قاله الحافظ ابن كثير في تفسير الآية حتى تزداد يقينا بجهل المتنطع، فهذه عبارته: «أخبر تعالى عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، أي: إنَّما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقرَّبين في زعمهم فعبدوا تلك الصور، تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا، فأمَّا المعاد فكانوا جاحدين له

کافرین به

قال قتادة، والسدي، ومالك، عن زيد بن أسلم، وابن زيد مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:٣] :أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك إلَّا شريكا هو لك، تملكه وما مَلَك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأنَّ هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُونَ ﴾ [النحل : ٣٦]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن

رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: ٢٥]. وأخبر أنَّ الملائكة التي في السماوات من الملائكة المقربين وغيرهم كلهم

٤٨

مباحثات

عبيد خاضعون الله لا يشفعون عنده إلَّا بأذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء

عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبّه الملوك وأبوه، فلا تضربوا الله الأمثال، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا».

هذا كلام ابن كثير وهو ينادي بتجهيل المتنطع في كل ما زوره وافتراه

وبالله التوفيق.

ثُمَّ قال المتنطع: ومن هذا يتبيَّن أنَّ قول بعض الناس: إنَّ الآيات نزلت فيمن كانوا يعبدون الأصنام وحدهم قول باطل، فإنَّ القرآن تكلم مع كل

الفرق كما بينا» . اهـ

وأقول: قد بينا بالقواعد الأصولية، وبما أوردناه من آيات المشركين وتفسيرها أنَّ شيئًا منها - سواء كانت في عباد الأصنام أو في غيرهم- لا ينطبق على أهل التوسل وإن رغم أنف المتنطع الجهول، فارجع إلى ذلك وتأمله جيدا ينشرح صدرك، وتنزاح عن قلبك ظلمات الشك ورين الضلال، والله الموفق

والهادي.

ولنترك الآن مقدّمة الكتاب بعد أن كشفنا ما فيها من كذب وجهل وتضليل، إلى الباب الأول فماذا نجد فيه ؟

الرد المحكم المتين

٤٩

الباب الأول

يقول المتنطع: «في أمور عامة لا بد من معرفتها». اهـ

وأقول : ليس هناك أمور عامَّةٌ ولا خاصَّةٌ، وإِنَّما غرض المتنطع الوحيد أن يذكر عقائد المشركين وبعض الآيات التي تردُّ عليهم، ويحمل ذلك على المسلمين الذين يسألون الله بجاه فلان أو بحق فلان، هذا كل ما في جعبته وهو كل بضاعته، شأن هذه الطائفة المتهوسة كما قدمنا، لا علم عندهم غير هذا

النوع من تحريف الآيات إن صح أن يُسمى التحريف علما.

ثُمَّ قال المتنطع السؤال الأول: ما حكم الذاهب إلى القبور لسؤال أصحابها ودعائهم وندائهم وسؤال الله تعالى والاستغاثة بهم في جلب

النفع ودفع الضرر للمستغيث والسائل؟

بهم

السؤال الثاني: هل يوجد في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، أو عمل أصحابه، أو الذين اتبعوهم بإحسان، أو عمل أو قول الأئمة المجتهدين، أنَّ الأمور المذكورة في السؤال الأول يجوز فعلها لأحد من

الناس؟ » . اهـ

وأقول : في كلامه أمور:

الأول: تعريف السؤال الأول والثاني والمقام يقتضي تنكيرهما، وهذا دليل ثان على أنَّ المتنطع لم يعرف علم المعاني، فهو يُعرف في مقام التنكير كما هنا، ويُنكر في مقام التعريف كما سبق في مقدمة ويأتي في خاتمة.

فإن ادعى أن تعريف السؤالين للعهدية.

مباحثات

قلنا: أي عهدية تعني؟ عهدية الذهن، أو عهدية الخارج؟ وظاهر أنَّ عهدية الذهن لا تصلح هنا البتة، فلم يبق إلا عهدية الخارج وهي باطلة؛ لأنَّه

لم يتقدم ذكر للسؤالين صريحا ولا كناية.

فإن ادعى أنه سبق لهما ذكر ضمني في أمور عامة.

قلنا: هذا على ما فيه يلزم منه :

وهو الأمر الثاني: أن يكون السؤالان من الأمور العامة المذكورة تمهيدا للبحث، وإذا كان كذلك فليقل لنا أين موضوع البحث الذي ألف من أجله هذا الكتاب الذي فضح به نفسه؟

الأمر الثالث : ذِكْر السؤال الثاني تكرار وتطويل وتسويد للورق بدون فائدة، فإن السؤال الأول يكفي عنه إذ لا معنى لقوله فيه: «ما حكم الذاهب إلى القبور ... إلخ»، إلَّا أنَّه هل يوجد في كتاب الله أو سنة رسوله ما يجوز ذلك؟ لأنَّ المسئول عنه في السؤال الأول هو الحكم الشرعي وهو لا يثبت إلَّا بدليل شرعيّ، فظهر أن لا فائدة للسؤال الثاني إلا التكرار الممل، وقد يكون له فائدة عند المتنطع وهو تكبير الكتاب وإيهام أنَّه مليء علما وتحقيقا، لكن هذا الإيهام لا يستسيغه إلَّا ضعفاء العقول أمثاله.

الأمر الرابع: قوله في السؤال الثاني: أو عمل أصحابه أو الذين اتبعوهم بإحسان، أو عمل أو قول الأئمة المجتهدين»، هذا تهويل فارغ، وتموية على البسطاء لينحازوا إليه؛ ذلك لأنَّ المدار في ثبوت الحكم كما قلنا - وهو مقرر في علم الأصول - على وجود الدليل، فحيث وجد ثبت الحكم سواء عمل به كل الصحابة أو بعضهم، وسواء عمل به الأئمة المجتهدون أو لا، ولم نر أحدًا من

۵۱

الرد المحكم المتين العلماء اشترط في الدليل أن يعمل به الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان والأئمة المجتهدون، بل صرَّحوا بأنَّ الدليل متى استوفى الشروط المقررة لقبوله وجب الأخذ به وهذا مع كونه قول العلماء هو الذي يقضي به العقل، إذ ليس أحد مهما عظم قدره حجَّةً على الشرع.

ولكنَّ المتنطع من تلك الطائفة المتهوسة ودأبها -كما قلنا- أن تختلق ألوانا من الاستدلال تُخالف المعقول والمنقول كما وقع هنا، فإنَّ غرضه من ذكر الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان والأئمة المجتهدين فتح باب الهرب لنفسه، حتى إذا صدمه أحدٌ بالأحاديث التي تدلُّ على جواز التوسل أمكنه أن يهرب منها بأن الصحابة ومن ذكر معهم لم يفعلوا ذلك، ولو أنَّ أحدًا أتاه بعمل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين لقال بكل وقاحة: عملهم ليس بحجة ونحن لا نتبع إلا ما جاء في الكتاب والسنة. هذا حال المتنطع وأشكاله؛ يقولون في دين الله بالتشهي والغرض ليس عندهم ورحٌ يَزِعُهم، ولا في قلوبهم خوفٌ من الله يردعهم، وأي خير يُرجى بل

أي دين يبقى لمن ذهب عنه الورع وفارقته خشية الله ؟!

وإذ قد أتينا على ما في كلام المتنطع من خَبْط وجهل، فلنذكر جواب سؤاله بما يكشف عن وجه الصواب القناع، مكتفين في ذلك بكلام ابن تيمية فهو خير ما يُردُّ به عليه؛ لأنَّ ابن تيمية هو ركن هذه الطائفة الركين، إليه يستندون،

وعلى قوله يعتمدون، فقد جاء في "مجموعة الرسائل الكبرى" ما نصه: الاسئل شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه، ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وفقهم الله لطاعته فيمن يقول : لا يُستغاث برسول الله صلى الله

۰۲

مباحثات

عليه وآله وسلَّم، هل يحرم عليه هذا القول؟ وهل هو كفر أولا؟ وإن استدل بآيات من كتاب الله أو أحاديث رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم هل ينفعه دليله أو لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يُخالف ذلك ؟ أفتونا مأجورين.

الجواب: الحمد الله ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة، واتفاق الأئمة أنَّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم الشافع المشفّع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأنَّ الناس يستشفعون به يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم، وأنَّه يشفع لهم، ثُمَّ اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأنَّه لا يُخلد في النار من أهل التوحيد أحد، وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين، وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل، وأما ما أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة، وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه، وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، كما رواه البخاري في "صحيحه" عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنَّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا»، فيُسقون.

وفي "سنن أبي داود" وغيره أنَّ أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم جَهِدَتِ الأنفس، وجاع العيال، وهَلَكَ المال؛ فادع الله لنا فإِنَّا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فسبَّحَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حتَّى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: «وَيْحَكَ إِنَّهُ لا يُسْتَشْفَعُ بِالله عَلى أَحَدٍ مِن خَلْقِهِ؛

الرد المحكم المتين

٥٣

شَأْنُ الله أَعْظَمُ مِن ذلك...» وذكر تمام الحديث، فأنكر قوله نستشفع بالله عليك ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله بل أقره عليه، فعلم جوازه. فمن أنكر هذا فهو ضالّ مُحطى مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل، وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك، ولكن قال لا يُدعى إلَّا الله، وأنَّ الأمور التي لا يقدر عليها إلَّا الله فلا تطلب إلَّا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضًا كما قال تعالى: وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ﴾ [آل عمران: ١٣٥]، وقال: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أحببت وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾ [القصص : ٥٦]، وكما قال تعالى: ﴿ يأيها النَّاسُ أذكرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [فاطر: ٣]

وكما قال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ الله } [آل عمران: ١٢٦] وقال: ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: ٤٠].

فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة

يجب نفيها.

والعبارة الدالة على المعاني إثباتا ونفيًا إن وُجدت في كلام الله ورسوله وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحدٍ وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه وإلا رجع فيه إليه، وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى

٥٤

مباحثات

صحيح لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله، فهذا يُردُّ عليه فهمه، كما روى الطبراني في معجمه الكبير" أنّه كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّه لا يُستغاث بي وإِنَّما يُستغاث بالله».

فهذا إنما أراد به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المعنى الثاني، وهو أن يُطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به، كما في "صحيح البخاري" عن ابن عمر قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستسقي، فما ينزل حتى يجيش له ميزاب :

وأبيضَ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بِوَجْهِهِ يمالُ اليَتَامَى عِصْمَةُ للأَرَامِلِ وهو قول أبي طالب، ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى يجب على كل مكلَّفٍ أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إِلَّا الله، وأَنَّ كُلَّ غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يدي غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى، ولغيره مجاز».

ثُمَّ استمر في تقرير هذا المعنى إلى أن قال:

والاستغاثة بمعنى أن يُطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إمَّا كافر - إن أنكر ما يكفر به - وإما مخطئ ضال، وأمَّا بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو أيضًا مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلَّا الله فهو أيضًا كافر إذا فـ

الرد المحكم المتين

٥٥

قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها.

ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق

كاستغاثة الغريق بالغريق»، وقول الشَّيخ أبي عبدالله القرشي المشهور بالديار المصرية: «استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون»، وفي دعاء موسى عليه السلام: «اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك».

ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق، وكان مختصا بالله صح إطلاق نفيه عمَّن سواه، ولهذا لا يُعرف عن أحدٍ من أئمة المسلمين أنَّه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله وكذلك الاستعانة أيضًا فيها ما لا يصلح إلَّا الله، وهي ا المشار إليها بقوله:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: ٥]

فإنَّه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلَّا الله، وقد يُستعان بالمخلوق فيما

يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال الله تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فعليكُمُ النَّصْرُ ﴾ [الأنفال: ٧٢].

والنصر المطلق هو خلق ما يُغلب به العدو، ولا يقدر عليه إلَّا الله، ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة فإنَّه يكون إمَّا كافرًا، وإما فاسقا، وإما عاصيا إلا أن يكون مؤمناً مجتهدا مخطئًا، فيُثاب على اجتهاده ويغفر له خطأه».اهـ

کلامه

فأفاد أن الاستغاثة بمعنى طلب الشفاعة ونحوها مما هو اللائق بالنبي

07

مباحثات

صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يُنازع فيها مسلم، ولعمر الله إِنَّ هذا هو المعنى الذي يقصده من يستغيث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بغيره من الأولياء، ولا يوجد في المسلمين من يعتقد أن أحدًا من الأنبياء أو الأولياء يقدر على الإغاثة المطلقة، وهي خلق ما به الغوث والنجاة، بل كلهم يعتقدون أنها خاصة بالله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيها أحد، سواء في هذا الاعتقاد عالمهم وجاهلهم، كبيرهم وصغيرهم تقيُّهم وفاجرهم، فأي أحد منهم خاطبته في هذا تجده لا يتزحزح عن هذا الاعتقاد ولا يشك فيه، فلا معنى لإكفارهم في

إطلاق لفظ يريدون به معنى مجمعا على صحته وجوازه.

وقول ابن تيمية في آخر فتواه ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق، وكان مختصا بالله، صح إطلاق نفيه عمَّن سواه ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين جَوَّز الاستغاثة بغير الله». مغالطةٌ ظاهرة؛ فإنَّه أثبت أولا أنَّ الاستغاثة بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لها معنى صحيح لا يُنازع فيه مسلم. وإذ ذلك كذلك فكيف يقول: «ولهذا لا يُعرف عن أحدٍ من أئمة المسلمين جوز الاستغاثة بغير الله».

وأي معنى يريد بالاستغاثة التي لم يجوزها أحد من أئمة المسلمين؟ إن أراد

المعنى المختص بالله فهذا لا يجوزه مطلق المسلمين فضلا عن أئمتهم. وإن أراد المعنى اللائق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد قدَّم أنَّه لا ينازع فيه مسلم، فكيف يقول ثانيًا لم يجوزه أحدٌ من أئمة المسلمين؟! ما هذه إلَّا

مغالطة.

الرد المحكم المتين

وإن أراد أنهم لم يجوزا لفظ الاستغاثة فهذا لا معنى له إذ حيث ثبت أنَّ لها معنى صحيحًا فالعبرة به لا باللفظ.

وقد ذكر في أول فتواه أنَّ الشفاعة ثابتة بالأحاديث المتواترة والإجماع، وأنّ من أنكرها يكون كافرًا بعد قيام الحجة، قال: وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه فأفاد أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ وهو " كذلك، إلَّا أن يرد عن

الشارع المنع من إطلاق لفظ فيُتَّبع أمر الشارع ويوقف عند نهيه. لا يقال: فقد جاء النهي عن إطلاق لفظ الاستغاثة في حديث الطبراني المذكور؛ فإنَّ فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّه لا يُستغاث بي وإِنَّما

يُستغاث بالله».

لأنا نقول : قد أجاب عنه ابن تيمية بما تقدَّم في كلامه وهو: أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم أراد المعنى الثاني، وهو أن يُطلب منه ما لا يقدر عليه إلَّا الله،

وهذا الجواب متعين.

.

لأنَّ على أنَّ الحديث ليس بصحيح؛ الطبراني رواه من طريق ابن لهيعة حيث قال في "معجمه الكبير": حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة المصري، ثنا سعيد بن عفير ثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عبادة قال: «كان في زمن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين...» وذكر الحديث كما تقدَّم، وابن لهيعة متكلم فيه كما هو معروفٌ في كتب الرجال، وقد وصفه ابن حِبَّان بالتدليس وحديثه هذا معنعن، فمن يدرينا لعله دلسه، وعلى فرض صحته فقد عرفت الجواب عنه.

۵۸

مباحثات

وكذلك قول ابن تيمية: ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق

وكان مختصا بالله صح إطلاق نفيه عمَّن سواه»، فيه مغالطة أيضًا. لأنه وإن كان المفهوم من الاستغاثة عند الإطلاق هو المعنى المختص بالله فهذا لا يستلزم أن يفهم منها ذلك المعنى عند التقييد، بل لكل من الإطلاق والتقييد معنى يختص به لا يوجد في غيره، والقائل: يا رسول الله أغثني، أو: أستغيث برسول الله لا يريد بذلك ولا يفهم منه إلَّا الإغاثة اللائقة به صلَّى الله عليه وآله وسلّم وهي : الشفاعة والاستغفار ونحوهما مما هو ثابت بالتواتر والإجماع، ولا يُنازع فيه مسلم، فكيف يصح إطلاق نفي هذا المعنى وهو صحيح جائز شرعا وعقلا؟!.

.

وقد روى البزار بإسناد رجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله مَلائِكَةٌ فِي الأَرضِ سِوَى الحَفَظَةِ، يَكْتُبون ما يَسْقُطُ مِن وَرَقِ الشَّجَرِ، فَإِذَا أَصابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرضِ

فَلَاةٍ، فلينادِ: أَعْينُوا عِبادَ الله».

وروى الطبراني عن عتبة بن غزوان، عن نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إذا أضلَّ أَحَدُكُمْ شَيئًا أو أراد عَوْنًا وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أعينوني». وفي لفظ: «أغيثوني فإنَّ الله عِبادا لا نراهم». وقد جُرب ذلك. قال الحافظ الهيثمي : «رجاله وثقوا على ضعف في بعضهم، إلَّا أنَّ يزيد بن على لم يدرك عتبة».

وروى أبو يعلى، والطبراني عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله

الرد المحكم المتين

۵۹

صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا انْفَلَتَتْ دابَّةُ أَحَدِكُمْ بأَرضِ فَلَاةٍ فلينادِ: يا عباد الله احْبِسُوا، يا عباد الله احْبِسُوا؛ فإنَّ الله حاضِرًا في الأرض سَيَحْبِسُهُ عليكم وإسناده ضعيف.

ففي هذا الأحاديث جواز استغاثة المخلوق والاستعانة به، وذلك لا يكون بالضرورة إلا فيما يقدر عليه ويليق به، أمَّا الإغاثة المطلقة والإعانة المطلقة فهما

مختصان بالله تعالى لا يُطلبان إلَّا منه وهذا معلوم من الدين بالضرورة. وقال النووي في "الأذكار": روينا في كتاب ابن السني عن عبدالله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّهُ أَحَدِكُمْ بأرض فَلَاةٍ فليُنادِ يا عباد الله احْبِسُوا يا عباد الله احْبِسُوا؛ فَإِنَّ الله عزَّ وجلَّ حاضرًا سَيَحْبِسُهُ».

قلت: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العِلم أنَّه انفلتت له دابَّةٌ أظنُّها

بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقاله فحبسها الله عليهم في الحال. وكنتُ أنا مرَّةً مع جماعة فانفلتت مِنَّا بهيمة وعجزوا عنها فقلته فوقفت في

الحال بغير سبب سوى هذا الكلام». اهـ

و المراد ببعض شيوخه الكبار أبو محمد بن أبي اليسر، نقل عنه ذلك في "شرح المهذب المهذب"، "، والمقصود التنبيه على أنه لا يصح إطلاق نفي الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مع صحة معناها، باعتبار أن لها معنى آخر مختصا بالله تعالى إلَّا إن وَرَد عن الشارع المنع من الإطلاق، وهو مفقود هنا،

كيف وقد أذن فيه كما في هذه الأحاديث وأولها إسناده جيد.

مباحثات

وسئل ابن تيمية أيضًا عمَّن يزور القبور، ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بغيره، أو يطلب إزالة المرض الذي بهم ونحو ذلك؟ فأجاب: «الحمد لله رب العالمين، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار ...»، ثُمَّ اندفع في تقرير هذا المعنى والاستدلال عليه ثُمَّ قال: وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو صالح

وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:

إحداها: أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يُعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلَّ، فهذا شراً صحيح يجب أن يُستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.

وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني، ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأنّي أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنّهم يزعمون أنهم يتّخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم وأطال في ذلك. ثُمَّ قال : وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يُجيبه إذا دعوته فهذا هو القسم الثاني، وهو أن لا تطلب منه الفعل ولا تدعوه ولكن تطلب أن يدعو لك كما تقول للحي ادعُ لي، وكما كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم الدعاء فهذا مشروع في الحي كما تقدم، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول ادعُ

الرد المحكم المتين

٦١

لنا، ولا اسأل لنا ربَّك ولم يفعل هذا أحدٌ من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال: «اللهم إنا كنا إذا أجد بنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنَّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون»، ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله ادع لنا واستسق لنا، ونحن نشتكي إليك مما أصابنا ونحو ذلك، لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان...»، وأطال في هذا أيضًا

ثُمَّ قال: وأما القسم الثالث: وهو أن يقول اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان عندك افعل بي كذا وكذا، فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة والتابعين وسلف الأمة، أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغني عن أحدٍ من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام، فإنَّه أفتى أنَّه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. ومعنى الاستثناء قد روى النَّسائي والترمذي وغيرهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: «اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله، إنِّي أتوسل بك إلى ربي

في حاجتي ليَقْضِيَها لي، اللهمَّ فَشَفْعَهُ فِي». فإن هذا الحديث قد استدل به طائفةٌ على جواز التوسل بالنبي صلى الله

٦٢

مباحثات

عليه وآله وسلَّم في حياته وبعد مماته، قالوا وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق لكن فيه سؤال بجاهه، كما في "سنن ابن ماجه" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحَقِّ مَمشاي هذا، فإنِّي لم أخرج أَشَرًا ولا بَطَرًا ولا رياءً ولا سُمْعةً خرجتُ اتقاء سُخْطِكَ وابتغاءَ مَرْضَاتِكَ، أسألك أن تُنقِذَنِي مِن النَّارِ، وأن تَغْفِرَ لِي ذُنوبي، فإِنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا أَنتَ». قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه، وبحق تمشاه إلى الصَّلاة،

والله تعالى قد جعل على نفسه حَقًّا قال الله تعالى : لا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: ٤٧]، ونحو قوله : كان عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا ﴾ [الفرقان: ١٦]. وفي الصحيح عن معاذ بن جبل أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال له: «يا معاذ، أتدري ما حَقُّ الله على العِبادِ؟»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «حَقُّ الله على العِبادِ أَن يَعْبُدُوه ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العِبادِ على الله إذا فعلوا

ذلك؟ فَإِنَّ حَقَّهُمْ عليه أن لا يُعَذِّبَهُمْ».

وقد جاء في غير حديث كان حقا على الله كذا وكذا كقوله: ،

ومَن شَرِبَ الخَمْرَ لم تُقْبَلْ له صَلَاةٌ أربعين يوما، فإن تابَ تَابَ اللهُ عليه، فإن عاد فشَرِبَها في الثالثة أو الرابعة كان حَقًّا على الله أَن يَسْقِيَهُ مِن طِيئَةِ الخَبَالِ»، قيل: وما طينة الخبال ؟ قال: «عُصَارَةُ أَهلِ النَّارِ». وقالت طائفة : ليس في هذا جواز التوسل به في مغيبه وبعد مماته، بل إنها الخطاب

فيه التوسل في حياته بحضوره كما في "صحيح البخاري" أنَّ عمر بن ا

الرد المحكم المتين

استسقى بالعباس» . اهـ وذكر الحديث وآثارًا في هذا المعنى وأطال.

٦٣

هذا ملخص كلامه في الأقسام الثلاثة بعد حذف كثير من التكرار والحشو

اللذين يأتي بهما في أغلب مؤلفاته.

وعليه في بعضه مؤاخذات:

الأولى: قوله: (وأما الميت من الأنبياء والصالحين فلم يشرع لنا أن نقول ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك».

هذه دعوى باطلة بل شُرع لنا ذلك بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا

الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴾ [النساء : ٦٤] . فهذه الآية عامة تشمل حالة الحياة وحالة الوفاة، وتخصيصها بأحدهما يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا.

فإن قيل: من أين أتى العموم للآية حتى يكون تخصيصها بحالة الحياة دعوى تحتاج إلى دليل ؟

قلنا: من وقوع الفعل في سياق الشرط، والقاعدة المقررة في الأصول: «أنَّ الفعل إذا وقع في سياق الشرط كان عاما » ؛ لأنَّ الفعل في معنى النكرة لتضمنه مصدرًا منكرا، والنكرة الواقعة في سياق النفي أو الشرط تكون للعموم

وضعًا.

وقد ذكر ابن كثير وغيره في تفسير هذه الآية حكاية الأعرابي المشهورة، وقد أخرجها البيهقي في "الشعب"، وابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن"،

٦٤

مباحثات

وابن عساكر في "التاريخ " : عن محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فزرته وجلست بحذائه فجاء أعرابي فزاره ثُمَّ قال: ياخير الرسل إنَّ الله أنزل عليك كتابًا صادقا قال فيه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا . وإني جئتك مستغفرا ربَّك من ذنوبي مستشفعًا فيها بك. وفي رواية : وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربي. ثُمَّ بكى وأنشد يقول: يا خيرَ مَنْ دُفِنَتْ بالقَاعِ أَعْظُمُهُ فطَابَ مِن طِيبِهِنَّ الْقَاعُ والأَكَمُ نَفْسِي الفداء لقبر أنتَ سَاكِنُهُ فيه العَفَافُ وفيه الجُودُ والكَرَمُ ثُمَّ استغفر وانصرف فرقدت فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في نومي وهو يقول: «الحق الرجل وبشره أنَّ الله قد غفر له بشفاعتي»، فاستيقظتُ فخرجتُ أطلبه فلم أجده.

قال الحافظ ابن عبد الهادي المقدسي: «هذه الحكاية بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب، عن أبي الحسن الزعفراني، عن الأعرابي.

محمد بن

وقد ذكرها البيهقي في كتاب "شعب الإيمان" بإسنادٍ مُظلمٍ عن : روح بن يزيد البصري، حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أناخ راحلته فعقلها، ثُمَّ دخل المسجد حتى أتى القبر ثُمَّ ذكر نحو ما تقدَّم» . اهـ

70

الرد المحكم المتين قلت: فغاية ما ذكره يقتضي أن تكون الحكاية ضعيفة، إذ لم يذكر في رواتها من هو كذاب أو متهم بالكذب، لا سيّما وقد ذكرها الحافظ ابن كثير ولم يتعقبها، وكذلك أخرجها البيهقي كما تقدَّم، وذكرها أيضًا الحافظ السخاوي في "القول البديع". على أننا لم نذكرها استدلالا واحتجاجا (۱) وإنما ذكرناها استئناسًا وإيضاحا لما قدمناه من أنَّ الآية تفيد العموم حيث إنَّ الأعرابي - وهو عربي - فهم منها ذلك مع إخبار النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الرؤيا بأنَّ الله غفر له بشفاعته

فيه.

ثُم وجدت لهذه القصة شاهدًا، قال ابن السمعاني في "الدلائل": أخبرنا أبو بكر هبة الله ابن الفرج، أنا أبو القاسم يوسف بن محمد بن يوسف الخطيب، أنا أبو القاسم عبدالرحمن بن عمر بن تميم المؤدب، حدثنا علي بن إبراهيم بن علان، أنا علي بن محمد بن عليّ، ثنا أحمد ابن الهيثم الطائي، حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «قدم أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فرمى بنفسه ا على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيتَ عن الله فأوعينا عنك وكان فيما أنزل الله عليك: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر ﴾ ن

(۱) لأننا لا نستدل بالحكاية ولا نحتج بها.

٦٦

مباحثات

لي، فنُودي من القبر أنه قد غفر لك» . اهـ

نقله الحافظ السيوطي في تنوير الحلك"، وقد أشار ابن عبدالهادي في "الصارم المنكي" إلى هذا الأثر وقال: «وضع إسناده بعض الكذابين» ولم يبين

ذلك بدليل، وابن عبد الهادي -مع - حفظه - متعنت في التعصب لرأيه. فإن قيل : طلب الدعاء والشفاعة من الحي معقول ؛ لأنَّ الحي يدعو ويشفع كما كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يسألونه الدعاء فيدعو لهم، ويطلبون الاستغفار فيستغفر لهم، أما الميت فكيف يُعقل منه الدعاء والاستغفار حتى يُقال بجواز طلبها منه ، بل هو مشغول بما هنالك عما هنا، لا يدري ماذا يجري في هذه الدار من منافع ومضار، فعدم جواز طلب الدعاء ونحوه من الميت لعدم أهليته لذلك؛ ولهذا وجب تخصيص الآية السابقة بحالة الحياة للقطع بأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى لم يبق له تعلق بهذه الدار ولا بما فيها؟ فالجواب: أنَّ الأمر ليس على ما توهّمه هذا القائل، وادعاؤه القطع بانقطاع

النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمته بعد وفاته ممنوع.

فقد ثبت بالتواتر والإجماع كما سيأتي أنَّ الأنبياء أحياء في قبورهم، وثبت أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم يستغفر لسيئات أعمالنا كما في حديث عرض

الأعمال الآتي، وهو حديث صحيح.

ووقعت حادثة تشهد بصحة ذلك ذكرها المقريزي في كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة" فقال ما نصه: «وقع في آخر هذا الغلاء أعجوبة في غاية الغرابة لم يسمع بمثلها، وهي أنَّ رجلا من أهل الفلح بجبة عسال - إحدى قرى

الرد المحكم المتين

٦٧

دمشق - خرج بثورٍ له ليَرِدَ الماء، فإذا عِدَّةٌ من الفلاحين قد وردوا الماء فأورد الثور حتى إذا اكتفى نطق بلسان فصيح أسمع من بالمورد وقال: الحمد لله والشكر له، إنَّ الله تعالى وعد هذه الأمة سبع سنين مُجدبة فشفع لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأنَّ الرسول أمره أن يبلغ ذلك، وأنه قال: يا رسول الله فما علامة صدقي عندهم، قال: أن تموت بعد تبليغ الرسالة، وأنه بعد فراغ كلامه صعد إلى مكان مرتفع، وسقط منه ،ومات، فتسامع به أهل القرية، وجاءوا من كل حَدَبٍ يَنسلون، فأخذوا شعره وعظامه للتبرك، فكانوا إذا بخّروا به موعوكًا برئ، وعمل بذلك محضر مثبوت على قاضي البلد، وحمل إلى السلطان بمصر فوقف عليه الأمراء واشتهر بين الناس خبره وشاع ذكره . اهـ

وذكرها أيضًا في كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك"، فهذه معجزة عظيمة شاهدة بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يعلم أحوال أمته ويشفع لهم، وإذا كان كذلك جاز لنا أن نطلب منه الاستغفار ونحوه . أخذا الآية كما قدمنا، بعموم وادعاء تخصيصها لريقم عليه دليل، بل ثبت لمطلق موتى المؤمنين أنهم يشعرون بمن يُسلّم عليهم ويردُّون عليه السلام ويستأنسون به ما دام جالسا عندهم إذا كانوا يعرفونه في الدنيا فكيف يمتنع الدعاء منهم في هذه الحالة؟ بل هو ممكن جائز ليس في العقل ما يحيله، ولا في الشرع ما يمنع منه وبالله التوفيق. المؤاخذة الثانية على قوله: ولم يفعل هذا أحدٌ من الصحابة والتابعين

ولا أمر به أحد من الأئمة» . اهـ

يعني أنهم لم يسألوا الدعاء من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته كما يسألونه منه في حال حياته، وأنت خبير بأن هذا لا يصح دليلا لما يدعيه،

٦٨

مباحثات

وذلك لوجوه:

أحدها: أنَّ. عدم فعل الصحابة لذلك يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا، أي اتفق أنهم لم يطلبوا منه الدعاء بعد وفاته، ويحتمل أن يكون ذلك عندهم غير جائز، أو يكون جائزا وغيره أفضل منه، فتركوه إلى الأفضل، ويحتمل أن يكون تركوه لئلا يتخذ عادةً متَّبعةً ويُترك ما سواه من أنواع الأدعية والعبادات، ويُحتمل غير ذلك من الاحتمالات والقاعدة أنَّ ما دخله الاحتمال سقط به

الاستدلال». ثانيها: أنَّ هذا ترك فعل، أي أنَّ الصحابة والتابعين تركوا طلب الدعاء من

أنَّ

النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، والترك وحده إن لم يصحبه نص على المتروك محظور لا يكون حجّةً في ذلك، بل غايته أن يفيد أن ترك ذلك الفعل : مشروع، وأما أنَّ ذلك الفعل المتروك يكون محظورًا أو غير محظور فهذا لا يستفاد من الترك وحده، وإنّما يُستفاد من دليل يدلّ عليه، ولهذا كان من منع تعدد الجمعة في البلد الواحد واستدلَّ لذلك بأنها لم تتعدد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا في عهد الصحابة، وإنَّما حدث تعدُّدها بعد ذلك بكثير، عُدَّ هذا الاستدلال منه ضعيفًا لما ذكرنا من أن ترك الشيء لا يدل على حكم المتروك.

وقد ذهب جماعة من العلماء منهم عطاء بن أبي رباح، وداود الظاهري، وابن حزم، وابن العربي المعافري إلى جواز تعدد الجمعة في البلد الواحد الحاجة ولغير حاجة، واستدلوا بقوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوَةِ مِن

الرد المحكم المتين

79

يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 9].

قالوا: فقد أوجب الله السعي على من سمع نداء الجمعة، ولم يخص مسجدًا دون مسجد، فكان ذلك دليلا شاملا لحالتي التعدد وغيره، ولم يلتفتوا إلى أنها لم تتعدد في عهد الصحابة والتابعين. ولابن العربي في ذلك تأليف خاص، ذكره لنا مولانا الشيخ الإمام الوالد رضي الله عنه.

فإن قيل: إنَّ ابن تيمية لم يعوّل على مجرد ترك الصحابة لذلك، بل على تفريقهم بين الحالين، فإنّهم في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلم كانوا يطلبون

منه الدعاء ويستشفعون به إلى الله، فلما انتقل تركوا ذلك، فكان التعويل على

هذا التفريق لا على مجرد الترك، فلا يردُّ شيء مما تقدم.

قلنا: هذا مع مخالفته لكلام ابن تيمية لا يفيد أيضًا؛ لأنَّ الحال في الجمعة كذلك فقد كان الصحابة من أهل العوالي وغيرهم يصلون الجماعات في

مساجدهم، فإذا كانت الجمعة تركوا مساجدهم وصلُّوا الجمعة . مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وكذلك كانوا يفعلون في عهد الخلفاء الراشدين، وهذه كانت شبهة من منع تعدد الجمعة لكنَّها لم تفدهم؛ إذ قد بين المجوزون أن نهاية ذلك أنَّهم تركوا التعدُّد وأقرهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، والخلفاء الراشدون، وهذا لا يدلُّ على منع التعدد.

وكذلك نقول هنا : غاية ما ذكره أنَّ الصحابة تركوا طلب الدعاء من النبي

صلَّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته، والترك لا يفيد فلم يصنع شيئًا.

ثالثها: ولو سلمنا أنَّ ترك الصحابة طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه

مباحثات

وآله وسلَّم بعد وفاته حجةٌ في منعه، فمحل ذلك ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وقد عارضه عموم قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ﴾ الآية، فلا يحل ترك هذا العموم الذي هو دليل شرعي باتفاق الأئمة إلى عمل الصحابة أو بعضهم، الذي ليس بدليل على الراجح عند العلماء، فتبيَّن بهذا بطلان إطلاقه السابق وبالله التوفيق.

ومن العجب أن نرى ابن تيمية يُكثر الاستدلال في هذا الموطن بترك الصحابة وهو لا يُفيد كما تبيَّن، على حين أنا نراه يخالفهم فيما فعلوه أو قالوه إذا كان يُخالف رأيه، ولا يستحيي أن يصرح بتخطئة ساداتهم وكبرائهم، كعمر وعلي رضي الله عنهما، أمَّا غيرهم من التابعين والأئمة فلا يقيم لكلامهم وزنًا في سبيل نُصرة قول ذهب إليه، أو رأي رآه، ومن طالع كتبه واختياراته فيها، رأى من هذا العجب العجاب ما يُحيّر الألباب !

المؤاخذة الثالثة: على قوله: «ولا ورد فيه حديث».

هذا من جملة المبالغات التي يطلقها إذا أراد التهويل والتهويش وهذا الأسلوب من المبالغة لا نعلم أحدًا شاركه فيه، فهو فن مفرد في ذلك، ونحن قد بينا أن طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته دليله عموم قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ﴾ الآية مع ما ثبت بالتواتر والإجماع أنَّ الأنبياء أحياء في قبورهم، ومع ما صح في حديث عرض الأعمال أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يستغفر لنا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وأي دليل يُطلب بعد هذا؟!.

الرد المحكم المتين

۷۱

بل لعل كثيرًا من المسائل الفقهية ليس لها دليل قوي يوازي قوة هذا الدليل

كما هو معلوم لمن طالع كتب الفقه وأحاط علما ببعض أدلته. المؤاخذة الرابعة على قوله: بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا

زمن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس».

هذا

بعجيب

وذكر بقية الأثر، ولقد أكثر من الاستدلال بهذا الأثر وأعاده عدَّة مرّاتٍ المناسبة ولغير مناسبة، حتى كأَنَّه حُجَّةٌ قاطعة لا تحتمل بحثاً ولا تأويلا، وليس منه، فقد يكون ممن يرى عمل الصحابي وقوله حجَّةً، وإِنَّما العجيب أن يكون عمل عمر عنده في هذا الموطن حجَّةً ثُمَّ يكون قول عمر وعمله الذي وافقه عليه الصحابة في أن الطلاق الثلاث يقع بكلمة واحدة ليس بحجةٍ !! هذا ما يحيّر عقل الناظر في كتب ابن تيمية ولا يدري بماذا يحكم عليه؟ أمتلاعب هو ؟، أم متساهل؟، أم متناقض؟!!.

وإن كانت الأخيرة أجدر به وأولى؛ لأنه يتناقض في كتبه كثيرًا. ولا يمكن لأحدٍ أن يدعي أنه إنَّما خالف عمر في مسألة الطلاق لوجود الدليل عنده على ذلك؛ لأنَّا نقول : ليس له ولا للشاذين أمثاله في هذه المسألة

وقد

غير حديث ابن عباس في "صحيح مسلم ، وهو محتمل ليس بـ بصريح أجاب عنه الأئمة بما لا يبقى معه أدنى شك ولا احتمال، هذا مع أن جانب عمر ومن معه من الصحابة والأئمة إلا من شدَّ من أتباعهم- يترجح بأحاديث وآثار كما هو واضح لمن جمع أطراف المسألة.

وبعد، فليس في استسقاء عمر بالعباس منع التوسل بالميت كما توهمه ابن تيمية وأذنابه، بل ليس هو من هذا الباب بالمرّة، وبيان ذلك سيأتي في الباب

۷۲

مباحثات

الثاني إن شاء الله تعالى.

المؤاخذة الخامسة : على قوله: «ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله ادع لنا واستسق لنا ونحن نشتكي إليك مما أصابنا، لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط».

ونحن نقول: بلى قد فعل ذلك بعضهم، فقد أخرج البيهقي في "دلائل النبوة" قال: أنبأنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا : أخبرنا أبو عمر بن مطر، . حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح السمان، عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام فقال: «ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنهم مسقون، وقل له عليك الكَيْسَ الكَيْسَ»، فأتى الرجل عمر فأخبره، فبكى عمر رضي الله عنه ثُمَّ قال: يا رب ما آلو إِلَّا ما عَجَزتُ عنه. إسناد هذا الأثر صحيح. ورأيت الحافظ عزاه في "الفتح" إلى ابن أبي شيبة من طريق أبي صالح، عن مالك الدار باللفظ المذكور وقال: «سنده صحيح، والرجل هو بلال بن الحرث

المزني أحد الصحابة كما رواه سيف في "الفتوح" ().

(۱) وإن لم تصح رواية سيف، فالرجل تابعي جزمًا ، ثُمَّ إِنَّ الحجة في إقرار عمر له حيث

لم ينهه عما فعل.

الرد المحكم المتين

۷۳

فهذا صحابي فعل كما ترى ما نفاه ابن تيمية نفيا بأنا، أفلا يحق بعد هذا أن نضرب بإطلاقه السابق عرض الحائط، ولا نحتاج أن تنبهك إلى بطلان قوله بعد ذلك، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإنَّ بطلانه غني عن التنبيه والبيان، والحمد لله رب العالمين.

المؤاخذة السادسة على قوله في القسم الثالث: «لكن لم ينقل عن أحدٍ من

الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنّهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء» . اهـ وهذا أيضًا من جملة تلك الإطلاقات التي بينا بطلانها، وهو إطلاق باطل، فقد صح عن عثمان بن حنيف أنه أمر الرجل الذي كانت له إلى عثمان بن عفان حاجة أن يدعو بهذا الدعاء، فدعا به فقُضيت حاجته، وعثمان بن حنيف صحابي معروف، والرجل الذي دعا إما أن يكون صحابيا أو تابعيًا وعلى كلا الحالين بطل قوله: «لم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة والتابعين أنه دعا بهذا

الدعاء».

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "مجابي الدعاء": حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة، قال: جاء رجل إلى عبد الملك بن أبجر فجس بطنه فقال: بك داءً لا يبرأ قال ما هو ؟ قال : الدُّبَيلَة. قال: فتحوّل الرجل فقال: الله الله الله ربي لا أشرك به شيئًا، اللهم إنِّي أتوجه إليك بنبيك محمد نبي

الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربِّك وربي يرحمني مما بي، قال: فجس بطنه فقال : قد برئت ما بك علة. قلت: كان ابن أبجر حافظًا ثقةً وكان مع ذلك طبيبا ماهرا يداوي الناس مجانا، وهو من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، ومن العجيب أنَّ

٧٤

مباحثات

ابن تيمية نفسه ذكر هذا الأثر في كتابه "قاعدة جليلة"، وقال عقبه ما نصه: فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في

"منسك المروذي" التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء».اهـ وقال أيضًا في فتوى كتبها بمصر سنة ۷۱۱ خاصة بالتوسل ما نصه: «وقد نقل في "منسك المروذي" عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به وأعظم العلماء على النهي في الأمرين» . اهـ بلفظه.

وهذا اعتراف صريح منه منه يبطل إطلاقه السابق ويبين تناقضه وتلاعبه

وهكذا شأنه في سائر كتبه، وذلك دليل واضح على أنَّه مخذول غير موفق. أما دعواه أنَّ أعظم العلماء على النهي عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء، فإنّي أتحداه وأتحدى أذنابه أن يأتوا بعالم واحد صرح بذلك على أن لا يلجأوا إلى الكذب والتحريف، فإنَّهم لن يستطيعوا سبيلا، وبالله التوفيق.

المؤاخذة السابعة على قوله : ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام، فإنَّه أفتى أنَّه لا

يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم». قلت: هذا غلط في النقل عن ابن عبد السَّلام؛ لأنَّ فتواه في الإقسام على الله بخلقه لا في سؤاله بجاه فلانٍ، ونحن ننقل كلامه في ذلك ليتضح المراد، فقد جاء في "الفتاوى الموصلية ما نصه: «الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله .

الرد المحكم المتين

Vo

نسخة أسئلة أجاب عنها الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام ابن أبي القاسم ابن مهذب السلمي رضي الله عنه، وأعاد علينا وعلى الكافة من بركاته.

مسألة: ما يقول وفقه الله تعالى في الداعي يقسم على الله تعالى بعظيم من خلقه في دعائه كالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، والولي والملك، هل يُكره له ذلك أم لا؟». ثُمَّ ذكر عدة أسئلة ثُمَّ قال:

أجاب الشَّيخ رضي الله عنه: أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم علم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: «قل: اللهم إنِّي أُقْسِمُ عليك بنبيك محمد نبي الرحمة»، وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورًا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه سيد ولد آدم وأن لا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُصَّ به نبينا

على علو درجته ومرتبته».

هذا كلام عز الدين بحروفه نقلناه من "الفتاوى الموصلية"، وهكذا نقله أصحاب الخصائص كالحافظ السيوطي والقسطلاني وغيرهما، مستدلين به على أنَّ الإقسام على الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم من خصوصياته، وهذا غير ما نحن فيه وهو سؤال الله بجاه فلان من غير إقسام عليه، وبين المسألتين بون كبير كما لا يخفى، فاشتبه الحال على ابن تيمية ودخلت عليه مسألة في أخرى والكمال الله تعالى.

٧٦

نصه:

مباحثات

على أنّي أميل كثيرًا إلى أنه ليس باشتباه حال ولكنه تحريف مقصود (۱). ورأيت في "طبقات الشافعية" لابن السبكي في ترجمة الأستاذ ابن فورك ما

-

قال عبد الغافر بن إسماعيل : سمعت أبا صالح المؤذن - حافظ مشهور - يقول: كان الأستاذ أوحد وقته أبو علي الدقاق يعقد المجلس ويدعو للحاضرين والغائبين من أهل البلد وأئمتهم، فقيل له يوما : نسيت ابن فورك ولم تدع له فقال : كيف أدعو له وكنت أقسم على الله البارحة بإيمانه أن يشفي علتي، وكان به وجع البطن تلك الليلة».اهـ المؤاخذة الثامنة على قوله : وقالت طائفةٌ ليس في هذا الحديث جواز

التوسل به في مغيبه وبعد مماته ، بل إنّها فيه التوسل في حياته بحضوره». قلت: هذه مغالطة من ابن تيمية وقلة إنصاف تزريان بقدره وتسقطانه من

أعين العلماء، وإلا فهو لا يجهل ما تقرّر عند علماء الأصول وغيرهم،

أنَّ

الحديث إذا ورد في جواز شيء أو غيره كان شرعًا ثابتا مستقرا لا يخص بحالةٍ دون أخرى، بل يجب استمراره إلى قيام الساعة إلَّا أن يخصصه الشارع بحالة من الأحوال، أو ينسخه بالنسبة لبعض الأزمان، فيجب الوقوف عند ما حده

الشارع.

وليت شعري إذا كان الحديث ليس فيه جواز التوسل به في مغيبه وبعد مماته كما يزعم ابن تيمية مكابرةً ومعاندةً، فكيف أمر عثمان بن حنيف -وهو

(۱) وقد بينت ذلك في كتاب "غاية التحرير في الكلام على حديث توسل الضرير".

الرد المحكم المتين

۷۷

راوي الحديث ومشاهد لسبب وروده - ذلك الرجل الذي كانت له إلى عثمان بن عفان حاجة أن يدعو به؟

أترى أنَّ عثمان بن حنيف كان أقل ذكاء وفهما من ابن تيمية ؟!!

تالله إنها لفريةٌ ما فيها مِرْيَةٌ، فالحُجَّة بالحديث قائمة لا يردُّها مثل هذه الأقوال التي لا ترتكز على دليل ولا تستند إلى أصول، وسنوضح ذلك بعدة وجوه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.

وحيث فرغنا من كلام ابن تيمية وبيان ما فيه من المؤاخذات فنعود إلى هذا

المتنطع الجهول ونسأله ماذا يريد بسؤال أهل القبور ودعائهم وندائهم؟ إن أراد سؤالهم ما لا يقدرون عليه، كغفران الذنوب وتفريج الكروب فهذا لا يفعله مسلم ولا يعتقده، بل بطلانه معلوم بالضرورة لكل أحد، فالسؤال عنه جهل وحماقةٌ، كالسؤال عن حرمة الزنا والخمر ونحوهما مما هو معلوم من الدين بالضرورة.

وإن أراد سؤالهم الشفاعة ونحوها مما في استطاعتهم فقد قدمنا أنَّ موتى المؤمنين يشعرون بمن يُسلَّم عليهم ويردُّون عليه السَّلام، فأي مانع من سؤالهم الشفاعة أو الدعاء والحالة هذه؟ هل يكون في ذلك من الإشراك شيء؟ كلا، لا سيما وشفاعة خيار المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة ثابتة بالأحاديث وإجماع أهل السنة، لا يُنكرها إلا مبتدع ضال، وكذلك دعاؤهم والاستغاثة

هما على هذا التفصيل المذكور. أمَّا نداؤهم فإن كان مع طلب شيءٍ فحاله على التفصيل المذكور أيضًا، وإن كان مجردًا عن أي طلب فهو أبعد عن توهم الإشراك، بل ليس مما نحن فيه

۷۸

مباحثات

أصلا؛ وذلك لأنَّ نداء الغائب أو الميت بتنزيله منزلة الحاضر القريب شائع ذائع في الشعر والنثر، وقد تكفّل أهل البلاغة ببيان الأسباب الداعية إلى ذلك. وأما سؤال الله تعالى بهم فهو على ما عرفت من كلام ابن تيمية في القسم الثالث، ليس فيه دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق، لكن فيه سؤال بجاهه فيكون جائزا؛ لأنَّه لا يترتب عليه شيءٌ من المحظورات المفروض ترتبها على الدعاء والنداء والاستغاثة.

على أن السؤال بحق فلان يرجع في الحقيقة إلى التوسل بصفة من صفات الله، فالقائل: «اللهم إني أسألك بنبيك معناه: أسألك بحق محبتك وإكرامك له،

ومحبة الله وإكرامه صفة فعل له تعالى، والتوسل بذلك جائز إجماعا . وكذلك الحال فيمن يتوسل بأحد الصحابة أو الأولياء معناه: توسل

بحب الله لهم وإكرامه إيَّاهم إكراما يليق بحالهم.

وهذا المعنى هو المراد وإن لم يُصرح به المتوسلون في دعائهم، أو غفلوا عنه أحيانًا، فإنه مركوز في طباعهم بدليل أنّهم لا يسألون الله بالعصاة والمذنبين، بل ولا بمن يشكون في ولايته أو صلاحه، وما ذاك إِلَّا لأنهم يعلمون أنَّ هؤلاء لا يحبهم الله ما داموا على حالتهم تلك حتى يتوبوا. وحيث أن التوسل بالمخلوق توسل بحب الله له كما تبيَّن، فسواء كان المتوسل به حيًّا أو ميتا، وسواء كان عالما بمن يتوسل به أو لا فهو جائز؛ لأنَّ حب الله لأوليائه وأصفيائه لا ينقطع بموتهم، والتوسل بهم بهذا المعنى لا يتوقف على علمهم به، وحتى لو لم نقدّر هذا المعنى لم يكن التوسل متوقفا على حياة المتوسل به أو علمه كما هو ظاهر.

الرد المحكم المتين

۷۹

ولا بن القيم في "الفوائد" عبارة جيدة جاء فيها ما نصه : أرباب الحوائج على باب الملك يسألون قضاء حوائجهم وأولياؤه المحبون له الذين هو همهم ومرادهم جلساؤه وخواصه، فإذا أراد قضاء حاجة واحد من أولئك أذن لبعض جُلسائه وخاصَّته أن يشفع فيه رحمةً له وكرامةً للشافع، وسائر الناس مطرودون عن الباب مضروبون بسياط البُعد» . اهـ بلفظه، وهو يؤيد ما قلنا وبالله التوفيق.

ثم قال المتنطع: لا بدَّ لمن أراد أن يعرف جواب هذين السؤالين أن يعلم أولا أنَّ هذه الأمور المسئول عنها لا دخل للعقل ولا للقياس فيها؛ لأنها أمور منها ما يتعلق بالعقائد، ومنها ما يتعلق بالعبادات، ولا سبيل إلى معرفة الأمرين إلَّا من الشرع».اهـ

مع.

وأقول: قد عرفت حكم التوسل والاستغاثة مما أوردناه من كلام ابن تيمية ما كتبناه عليه، وهذا جواب المتنطع في ذلك وهو جواب خال عن كل تحقيق علمي ينادي بجهل صاحبه وفراغ جرابه من العلم. وأول ما افتتح به فيه أن أنكر القياس فصدق عليه المثل العربي: «أول الدَّنّ

دردي». ما هذا يا أيُّها المتنطع الجهول ؟!! ألم تعلم أنَّ القياس أحد الأدلة الشرعية التي بني عليها فقه أئمة المسلمين المعمول بمذاهبهم منذ قرون متطاولة إلى

يومنا هذا؟!!

ألم تعلم أنَّ القياس عمل به الصحابة والتابعون من بعدهم، واستفاض عنهم ذلك وهم خيار الأئمة وسادتها ؟!!

۸۰

مباحثات

ألم تعلم أنَّ القياس عمل به عمر وأمر به أبا موسى الأشعري لما ولاه؟!! ألم تعلم أنَّ القياس عمل به أبو بكر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم؟!! وأخيرًا ألم تعلم أنَّ القياس ثبتت حُرِّيَّته عند الأئمة ا بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم؟!!. إن كنت لا تعرف أنَّ القياس بهذه المنزلة من الأدلة الشرعية - وما إخالك تعرف ذلك فأنت بالحق جاهل.

وإن كنت تريد أن تسلك طريق من أنكر القياس فاعلم أن إمامك في هذا السبيل إبراهيم بن سيّار النظام المعتزلي.

وقد كان مع اعتزاله فاسقا يدمن الخمر، ونسبت إليه عقائد الكفر أنَّ جماعة أ من المعتزلة ألفوا كتبا في إكفاره، منهم أبو الهذيل

والإلحاد، حتى

وغيره، فهو أول من نفى القياس والإجماع، وتابعه طوائف من الخوارج. فإن كنت لا بدَّ مصرا على إنكار القياس فقد سبقك إليه النظام وأنعم به

إماما لك، وتابعه الخوارج وأنعم بهم إخواناً.

وإن كنت تريد أن تنفي القياس في العبادات والعقائد دون عيرهما فهذا مذهب طريف تستحق عليه الإعجاب والتقدير إذ لم يسبقك إليه سابق ولا يوافقك عليه لاحق، ونصيحتنا إليك نصيحة مشفق عليك، أن تقرأ كتب الأصول الكبيرة وكتب النظر ، بإرشاد شيخ في هذا الفن، خِرِّيتٌ ماهر حتى تتقن قراءتها وتُجيد فهمها فحينئذ يحسن القول منك في قبول القياس أو إنكاره، أما كلامك الآن فهو هادمٌ لقدرك، من غير أن يضر حُجَّيَّة القياس شيئًا، وبالله

التوفيق.

الرد المحكم المتين

۸۱

ثُمَّ ذكر المتنطع قوله تعالى: فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: ٥٩]، وفسره بما قد يُناقش فيه، ثُمَّ قال: ومادام هذا هو الميزان الذي أرشدنا الله إلى اتباعه، ووزن

ما نختلف فيه من الأحكام به فلنجر عليه في جواب هذين السؤالين . اهـ وأقول: لقد ارتقى المتنطع مُرتقى صعبًا، وحلق في جو بعيد لا يلبث أن يهوي منه في مكانٍ سَحِيق، حيث يتصدّع منه فتذهب أهواؤه ذات اليمين وذات الشمال، فالخطاب في قوله تعالى: فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول ، وإن كان عاما للأمة فهو بالضرورة العقلية مخصوص بالعلماء منهم؛ للقطع بأنَّ من ليس له قدرة الاستنباط من الكتاب والسنة إنَّما سبيله أن يرجع إلى العالم ويسأله عن حكم الله، وليس له أن يتكلم في شيء من التفسير والأحكام إلا ناقلا عن العلماء غير متصرف في ذلك؛ لأنَّه ليس أهلا للتصرف في نقول العلماء.

هذا مما لا خلاف بينهم فيه ولا نزاع والدليل من القرآن على تخصيص هذه الآية قوله تعالى في السورة نفسها: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَ أَنَّ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرُ مَنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء:

قال البغوي في "تفسيره": «قوله: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ } أي: إلى رأيه ولم

يحدثوا به حتى يكون النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحدث .

به

۸۲

مباحثات

وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ) أي : ذوي الرأي من الصحابة مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، أي: يستخرجونه وهم العلماء، أي: يعلمون ما ينبغي أن يكتم وما ينبغي أن يفشى، والاستنباط الاستخراج، يقال: استنبط الماء استخرجه» . اهـ فأفادت هذه الآية أنَّ من لا يقدر على الاستنباط وهو العامي، يردُّ الأمر

إلى من يقدر على الاستنباط وهو العالم.

وهذه الآية هي دليل مَن فسَّر أولي الأمر بالعلماء في قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنكُم ﴾ [النساء: ٥٩]، فقد قال ابن عباس وجابر والحسن والضَّحَّاك ومجاهد: المراد بأولي الأمر الواجب طاعتهم: الفقهاء والعلماء الذين يُعلمون الناس معالم دينهم. قاله البغوي. وسواء صح هذا التفسير أو لم يصح فالإجماع قائم على أنَّ العالم هو الذي له قدرة الاستنباط من الكتاب والسنة، وهو الذي يستخرج الأحكام منهما، وأن غيره يجب عليه الرجوع إليه في ذلك، ونعني بالعالم: المجتهد، لا الذي يقرأ الكفراوي ومقرراتٍ من صغار الكتب ويأخذ بذلك ورقة تُسمى شهادة العالمية، فإنَّ هذا ليس بعالم في الشرع ولا يكون عالما حتى يعود اللبن في الضرع، فالمتنطع يجب عليه الرجوع في الأحكام إلى ما قاله الأئمة، وليس له أن يتصرف بفكره السقيم لا في الأحكام ولا في التفسير؛ لأنَّه عامي وإن أخذ ألف شهادة، وبالله التوفيق. ثُمَّ قال المتنطع: «إنَّ الله عزّ وجلَّ قد قال في سورة (الإسراء) توبيخا لمن

الرد المحكم المتين

۸۳

سأله بالأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ

فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: ٥٦] . اهـ

وأقول: ما كنت أظنُّ أنَّ الوقاحة تصل بالمتنطع إلى هذا الحد الممقوت المزري، ولا أراه تلقى هذا المعنى إلَّا من الباطنية الذين يقولون: إنَّ للقرآن والسنة معاني لا يعلمها إلا من كان مثلهم، وأنَّ ما فيهما من الأوامر والنواهي ونحوهما رموز ومَثَل لأشياء يفهمها هم ومن على شاكلتهم، فيقولون: إنَّ الأمر بالصلاة والزكاة رمز إلى ولاية محمَّد وعليّ، بدليل توافق عدد الحروف، وأنَّ الصوم إشارة إلى كتمان الأئمة وقت استتارهم من الظلمة، بدليل وإني تذرتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا ﴾ [مريم: ٢٦] الآية .

فأراد بالصوم هنا الصموت وأنَّ النهي عن الخمر والميسر مراد به أبو بكر وعمر لأخذهما الخلافة من عليّ، أمَّا المتخذ من العنب ونحوه فليس بحرام؛

لأنه نبات من الطيبات وقد قال الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: ۳۲] الآية. فَحَمْل المتنطع الآية على أهل التوسل يوافق تفسير الباطنية، على أنهم حالا منه؛ لأنّهم استدلوا على باطلهم بالقرآن، وإن كان استدلالهم باطلا، أما المتنطع فلم يستدل على باطله بشيء، وإنما أرسله دعوى تتعثر في أذيال الخجل.

أحسن

وبعد: فليس في علماء الإسلام من فسَّر الآية بما فسره بها المتنطع لا من الصحابة ولا من التابعين ولا أهل التفسير بعدهم، ولا خطر ذلك المعنى

٨٤

مباحثات

ببالهم، بل صانهم الله منه ومن كل باطل، حتى جاء المتنطع بجهله ووقاحته فتحمل إثم ذلك التفسير، وصدق عليه الوعيد المذكور في حديث ابن عباس: مَن قال في القُرْآنِ برأيهِ فَلْيَتَبَوَّاْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ». رواه الترمذي وغيره، فهنيئًا

له بهذا الوعيد. وقد تكلمنا .

ا على هذه الآية فيما تقدَّم، وأنَّ المراد بها المشركون الذين كانوا

يعبدون الجن على الصحيح، أو الملائكة أو عزيرًا وعيسى وأمه، وقدَّمنا تفسير

البغوي لها بما يوافق ذلك.

والمقصود أن إجماع المفسرين من الصحابة وغيرهم منعقد على أنَّ المراد بالآية المشركون الذين يعبدون غير الله وإن اختلفوا في تعيينهم، ونقل كلامهم هنا يطول من غير حاجةٍ إليه، وإنّما غرضنا أن نبين بطلان ما افتراه المتنطع

وبيان ذلك من وجوه الأول: أنَّ الآية كما قدَّمنا نزلت في عُبَّاد الجنّ كما في "صحيح البخاري"، فيجب أن تقصر عليهم ولا تعمُّ غيرهم؛ لأنَّ الفعل الذي خوطبوا به وهو ادعوا مثبت، والفعل المثبت ليس بعام.

الثاني: ولو قلنا: إنَّه عام بناءً على قول أبي عبد الله البصري المعتزلي: إِنَّ قول القائل: «افعلوا» يحمل على الاستغراق فتكون الآية عامة، فمعنى عمومها على هذا أن تشمل عُبَّاد الجنّ وغيرهم من المشركين كعباد الملائكة والأصنام، لكنها لا تشمل المسلمين الذين يسألون الله بنبيه أو وليه؛ لأنَّ الفعل لا يصلح أن يكون خطابًا لهم لا في اللغة ولا في الشرع.

الرد المحكم المتين

الثالث: أنَّ معنى قوله: ﴿ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم اسألوهم واطبلوا منهم وارغبوا إليهم، وهذا لا يوجد في المتوسل ولا ينطبق عليه؛ لأنَّ المتوسل لا يسأل المتوسل به، ولكن يسأل الله به، ولا يرغب إليه ولكن يرغب إلى الله به. فإن قيل: فهذا عمل المشركين.

قلنا: كلّا، ولو كان هذا عملهم فقط لما كانوا مشركين، ولما استحقوا الدم

والعقاب.

ولكن عملهم ما رواه العوفي عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا وهم الذين يدعون يعني الملائكة والمسيح وعزيزرًا، وقد صرح بهذا في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا

مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ ﴾ [الزمر: ٣].

الرابع: لا خلاف أنَّ مفعولي يدعون من قوله : أَوْلَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ [الإسراء: ٥٧] محذوفان، فلا جائز أن يكون التقدير أولئك الذين يدعونهم وسيلة بالمعنى الذي نتكلم عليه؛ لأنَّ قوله: زَعَمْتُم مِّن دونه يمنع من هذا التقدير، فتعين أن يكون التقدير: «يدعونهم آلهة» كما قدره الحافظ ابن حجر في كلامه المتقدم، وهذا هو الذي يؤيده صدر الآية.

فهذه الوجوه الأربعة توضّح بطلان قول المتنطع السابق، وبطلان قوله بعد: « أي: قل يا أيُّها الرسول للذين يسألونني بعبادي من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة، أو يسألونهم دوني، نادوا الذين ظننتم أنهم يستطيعون أن

مباحثات

يجلبوا لكم نفعا أو يدفعوا عنكم ضرا .... الخ.

ووجه خامس يبطل كلامه أيضًا، وهو أنَّ ما ذكره من حمل الآية على المعنيين تقدير ليس فيها ما يدلُّ عليه، بل فيها ما يبطله ويهدمه من أساسه كما

تقدم.

ووجه سادس يبطل كلامه أيضًا، وهو أن آخر الآية يدلُّ على جواز التوسل، فكيف يدلُّ صدرها على منعه ؟!!

قال البغوي في "تفسيره : أُولَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوسيلة يعني: الذين يدعون المشركون أنهم آلهة يعبدونهم، قال ابن عباس وهم عيسى وأمه، وعزيز، والملائكة، والشمس والقمر، والنجوم،

ومجاهد:

يبْتَغُونَ } أي: يطلبون إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) أي : القُرْبة. وقيل: «الوسيلة: الدرجة» ، أي: يتضرعون إلى الله في طلب الدرجة العليا، وقيل: الوسيلة كل ما يُتقرب به إلى الله تعالى.

وقوله : أَيُّهُمْ أَقْرَبُ معناه: ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقال الزجاج: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله تعالى ويتقرب إليه بالعمل الصالح». هذا كلام البغوي.

فانظر إلى قوله: « ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به»، وهو لا شك

أعلم بالتفسير من المتنطع، أفتراه أشرك بهذا الكلام؟!

وقد أزرينا بمقام البغوي حيث قلنا: إنَّه أعلم من المتنطع كما قال الشاعر: ألم تر أنَّ السَّيفَ يَنقُصُ قدره إذا قيل هذا السَّيْفُ أَمْضَى مِن العَصَا

الرد المحكم المتين

۸۷

والحقيقة أنَّ البغوي عالم حافظ من حُفَّاظ السنَّة، والمتنطع عامي فالفرق

بينهما كالفرق بين العلم والجهل، أو بين السماء والأرض. وقال الحوفي مثل ما قال البغوي حسبما نقله عنه أبو حيان في "البحر المحيط"، وبالله التوفيق.

ثُمَّ قال المتنطع: «ولا بدَّ من حمل الآية على ما قلناه، وإخراج غير العقلاء من الأصنام وغيرها من الآية، وتخصيصها بالمقربين من عباد الله لقوله بعدها :

أَوَلَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ الآية».

ثُمَّ قال: والأصنام وغيرها مما عُبد من دون الله لا شأن لها بعلم الدين

والعمل به، ولا هي ترجو رحمةً ولا تخاف عذابًا».اهـ وأقول: ما ذكره من تعين حمل الآية على المقربين من عباد الله غير متعيّن،

وادعاؤه باطل، واستدلاله لذلك بآخر الآية استدلال فاسد. والحق الذي لا غبار عليه أنَّ الآية على القول بعمومها تشمل جميع المشركين من عباد الملائكة والجن والأصنام والحجارة، إذ ليس شمولها لبعض هؤلاء بأولى من شمولها لبعض آخر، وكون الإشارة في قوله: أُولَيكَ الَّذِينَ ﴾ الآية، راجعا إلى المقربين فقط لا يوجب تخصيص الآية بعبادهم؛ وذلك لأنَّ المقرر في علم الأصول أنَّ «عود الضمير وما في معناه إلى بعض أفراد العام لا

يُخصص العام، وبقيت في كلامه مناقشات لفظية رأينا الإعراض عنها أولى. ثُمَّ قال المتنطع بعد كلام من هذا القبيل الذي بينا بطلانه: «إذا عرفت هذا، فاعلم أنَّ سؤال أي مخلوق من المخلوقين عدوان على ما أنزله الله، وخروج عن

۸۸

مباحثات

آيات كتابه، وخال عن الفائدة، وضلال بحكم القرآن؛ لأنَّ المسئول من الخلق بعد الموت لا يسمع . سائله ولا يُجيبه ويتبرأ منه يوم القيامة؛ لأنَّه إِمَّا جمادٌ، وَإِمَّا عبد مشغول بما هو فيه من أمور الآخرة، كما قال تعالى في سورة (الأحقاف):

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ وَهُمْ عَن دُعَابِهِمْ

عَقِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا هُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا ﴾ [الأحقاف: ٥ - ٦] . ثُمَّ نقل كلام البيضاوي في تفسير الآية، ثُمَّ قال: «فأنت ترى أنَّ كلام المفسر صريح في حمل الآية على العقلاء والأصنام وغيرها، وإذا كان الله قد جعل من سأل الموتى وغيرهم من المخلوقين من أضل النَّاس بسؤاله هذا، فلا شك أنَّ السؤال يكون ضلالا وحراما ممن علم هذه الآية ثُمَّ سأل بعد

ذلك» . اهـ

وأقول: لا يزال المتنطع متمسكا بخطته المعوجة في حمل آيات المشركين على المسلمين، وهو تحريف للنصوص ظاهر، وتلاعب بالآيات لا يليق إلا بالمتنطع وأشكاله، فآية الأحقاف التي ذكرها صريحةٌ كما ترى في المشركين الذين يعبدون غير الله، وكلام البيضاوي الذي نقله صريح في ذلك أيضًا، ومع هذا أبى إلا أن يحملها على المسلمين الذين يدعون الله ويسألونه بنبيه أو وليه، فإن ادعى فيها العموم فقد أبطلناه في الآيات السابقة، حيث ادعى مثل هذه الدعوى، وإن ادَّعى القياس فقد أبطله فيهما تقدَّم، فكيف يقول به هنا؟ ما هذا

إلا تناقض ! ونحن نسأله: ما معنى سؤال المخلوق الذي هو عدوان على ما أنزله الله،

الرد المحكم المتين

وخروج عن آيات كتابه، وخال عن الفائدة، وضلال بحكم القرآن؟

۸۹

إن كان المراد به عبادة المخلوق من دون الله أو سؤاله ما يختص بالله كغفران

الذنوب، فليقل فيه ما شاء من أنواع التقبيح، فإنَّه لكذلك وأكثر من ذلك، ولكن ليس أحد من المسلمين يفعله أو يقصده.

وإن كان المراد به سؤال المخلوق ما يقدر عليه كالشفاعة الثابتة للمؤمنين بعضهم لبعض، أو سؤال الله به، فوصف هذا بالعدوان هو العدوان، والحكم عليه بالضلال هو الضلال؛ لأنَّ السؤال بهذا المعنى لا مانع منه كما قدمنا، فلا معنى لهذا التهويل الذي يراد به إبطال الحق وإحقاق الباطل، وخير للمتنطع أن يرجع عن هذه الخطة في تحريف كتاب الله والتقول على الله، فليس يستفيد هذا إلا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، إلا أن يتداركه الله بعفوه،

من

وبالله التوفيق.

وبعد أن انتهى المتنطع من تحريف الآيات السابقة وتنزيلها على المسلمين ظلما وعدوانًا، وظنّ أنَّه بذلك التحريف أصاب المحزَّ، أراد أن يستدل بالسنة على نمط استدلاله بالقرآن فقال: «وأمَّا السنة فمنها عند أصحاب السنن، حديث ابن عباس في منع سؤال غير الله تعالى وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لو اجْتَمَعُوا على أن يَنْفَعُوكَ لم يَنْفَعُوكَ إلَّا بشيءٍ قد كَتَبَهُ اللَّهُ لكَ، ولو اجْتَمَعُوا على أن يَضُرُّوكَ لم يَضُرُّوكَ إلَّا بشيء قد كَتَبَهُ اللهُ عليك، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». صححه الترمذي وحسنه» . اهـ

۹۰

مباحثات

وأقول: في كلامه أمور:

الأول: أنَّ الحديث لم يُخرجه من أصحاب السنن إلَّا الترمذي، وأما أبو

داود، وابن ماجه والنسائي، فلم يخرجوه ، فأول ما بدأ في الاستدلال بالسنة

الكذب في عزو الحديث كما ترى.

الثاني: أن الحديث غير صحيح، قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": «هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية حنش الصنعاني عن ابن

عباس، وخرَّجه الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني مع إسنادين آخرين منقطعين، ولم يميز بعضهما من بعض، ولفظ حديثه: «يا غلام -أو ياغُلَيم- أُعلمك . ، كَلماتٍ يَنْفَعُكَ الله بهنَّ» فقلت: بلى، فقال: «احْفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّف إلى الله في الرَّخَاءِ يَعْرِفُكَ في الشَّدَّةِ، وَإِذا سَأَلتَ فَاسأَلِ اللهَ،

وإِذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله، قد جَفَّ القَلَمُ بما هو كائن .... الحديث. وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبدالله وعمر مولى غَفْرَة، وابن أبي مليكة، وغيرهم.

وأصحُ الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي. كذا قاله

ابن منده و غیره.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وعبد الله بن جعفر، وفي أسانيدها كلها ضعف، وذكر العقيلي أنَّ أسانيد الحديث كلها لينةٌ، وبعضها أصلح من بعض، وبكل حال فطريق حنش التي

الرد المحكم المتين

۹۱

خرجها الترمذي حسنةٌ جيدة».

هذا كلام الحافظ ابن رجب، ومنه نعلم أنَّ الحديث لم يبلغ درجة الصحة

لما رأيت في طرقه من الضعف والانقطاع.

الثالث: ولو قلنا: إنَّ الحديث بلغ درجة الصحيح لتقويه بالطريق المذكورة فإنَّه إنَّما يدلُّ على منع سؤال غير الله بدلالة مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة ليس متفقا على الاحتجاج . على الاحتجاج به، فقد أنكره أبو حنيفة، والقفال الشاشي، وأبو حامد المروزي.

وذكر شمس الأئمة السرخسي الحنفي في كتاب "السير": «أنه ليس بحجة في خطابات الشرع، والذين قالوا بحُجَّيَّته اختلفوا: هل هو حجةٌ من حيث

اللغة، أو الشرع، أو العرف العام، أو العقل والقياس؟ أقوال لهم. ثُمَّ اختلفوا في مقتضاه: هل يدلُّ على نفي الحكم عما عدا المنطوق به مطلقا،

سواء كان من جنس المثبت، أو لم يكن، أو تختص دلالته بما إذا كان من جنسه. فإذا قال: في سائمة الغنم الزكاة، فهل نفى الزكاة عن المعلوفة مطلقا سواء كانت من الغنم أو البقر أو الإبل؟ أو هو مختص بمعلوفة الغنم؟ وجهان لهم، رجحوا منهما الثاني، واختلفوا فيه أيضًا على وجه آخر، فكيف يسوغ الاحتجاج به مع وجود الخلاف في حجيته وفي كيفيتها وفي مقتضاه كما

علمت؟!

الرابع: ولو قلنا: إنَّ مفهوم المخالفة حجة كما هو مذهب الجمهور وهو الراجح، فالحديث يدلُّ بمفهومه على منع سؤال غير الله مطلقا حتى في الأمور الضئيلة التي جرت العادة فيها بسؤال الناس بعضهم بعضا، مع أنَّ الإجماع

۹۲

مباحثات

منعقد على جواز السؤال فيها، كما لو سأل شخص آخر أن يناوله شربة ماء، أو يتوسط له عند كبير في تحصيل مصلحةٍ، أو دفع مظلمة، أو يسأله أن يقرضه دراهم أو نحو ذلك مما كان شائعا في عهد الصحابة والتابعين وهلم جرا إلى وقتنا هذا، ولم يقل أحد بمنعه، بل وردت أحاديث تجوز سؤال الناس في بعض الأحوال وتحض على إعطاء السائل كحديث: «إِنَّ المسألةَ لا تَصْلُحُ إِلَّا لثلاث: إِلَّا لَذى فَقْرٍ مُدْقِعِ، أو لذى غُرْمٍ مُفْظِعِ، أو لذى دَمِ مُوجِع». رواه أبو داود، والبيهقي، عن أنس. وكحديث: اللسَّائِلِ حَقٌّ وإِن جَاءَ على فَرَس»، ورد من حديث عليّ،

وفاطمة، وابنيهما، والهرماس بن زيادٍ رضي الله عنهم. والأحاديث في هذا كثيرة، وكلُّ ذلك سؤال لغير الله جَزْما، فيكون الحديث المتقدم مخصوصا لا محالة، ويكون المراد به منع سؤال غير الله في الأمور العظام التي لا تليق إلا بالله، ولا يقدر عليها إلا هو سبحانه وتعالى. الخامس: ولو قلنا: إنَّ الحديث عام ليس بخاص، وإنَّ الأمور المذكورة

-

لا تصلح أن تكون مخصصةً له على ما يرد على ذلك من منع ظاهر - فليس منع سؤال غير الله فيه من باب الواجب المحتّم، بل هو من باب الندب والإرشاد إلى ما هو الأولى واستنهاض النفوس إلى تحصيل الأكمل، وذلك

.

أن

الهمة برفع عن الخلق والالتجاء إلى الخالق ورد الأمور كلها إليه سبحانه وتعالى، كما جاء في بعض الآثار: «إنَّ اللهَ أوحى إلى موسى، لا تَسْتَحِي تسْأَلَنِي فِيها يَنُوبُكَ حَتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِكَ ومِلْحِ عَجينكَ»، أو كلامًا هذا معناه، وقد وردت الأحاديث بما ذكرنا

الرد المحكم المتين

۹۳

فعن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعةً، أو ثمانية، أو سبعة فقال: «ألا تُبايعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؟»، وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، قال: ألا تبايعون رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم؟»، فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال: «أن تَعْبُدُوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتُطيعوا، وأسرَّ كلمةً خفيَّةً، ولا تسألوا الناس»، فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إيَّاه»، رواه

مسلم.

وعن ابن أبي مليكة قال: «ربما يسقط الخطام من يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه».

قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا فننا ولكه قال: إِنَّ حِبي صلَّى الله عليه وآله

وسلم أمرني أن لا أسأل النَّاسَ شيئًا». رواه أحمد.

وروى الطبراني في "الكبير" من طريق علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَن يُبايع»، فقال ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: بايعنا يا رسول الله، قال: «على أن لا تسأل أحدًا شيئًا»، فقال :ثوبان فماله يا رسول الله؟ قال: «الجنة»، فبايعه ثوبان.

قال أبو أمامة فلقد رأيته بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه

وهو راكب، فربما وقع على عاتق رجل فيأخذه الرجل فيناوله فما يأخذه منه حتى يكون هو ينزل فيأخذه». ورواه بنحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح، عن

٩٤

مباحثات

ثوبان نفسه.

فهذه الأحاديث ونحوها مما لم نذكره وهو كثير تبين أنَّ المراد بحديث ابن عباس: منع سؤال الناس، وقطع التطلُّع لما عندهم، ورفع الهمة عما في أيديهم،

وهذا غير ما نحن فيه.

السادس: أنَّ الحديث يدلُّ كما قلنا على منع سؤال غير الله مطلقا، والمتنطع

يرى جواز سؤال الناس بعضهم بعضًا فيما جرت به الأسباب الدنيوية وقضت به العادة المألوفة، كما قال فيما سيأتي: ولم يكن في عهدهم - يعني الصحابة -

-

سؤال الله بالمخلوق، ولا سؤال المخلوق للمخلوق قضاء حاجةٍ فوق ما جرت عليه الأسباب والسنن الإلهية بين الأحياء من سؤال بعضهم بعضًا الدعاء، وما في وسعهم أن يقضوه بعضهم لبعض من السعي في الخير ودفع الضرر، وغير ذلك من شؤون الدنيا التي أمرنا بالسعي فيها؛ لأنّها من باب التعاون على البر

والتقوى». هذا كلامه، وهو صريح في مخالفة الحديث الذي استدل به هنا، ولا يُسوّغ مخالفته دعواه أنَّ ذلك من باب التعاون على البر والتقوى؛ لأنَّ الحديث عام كما

قلنا.

وقد علمت مما تقدَّم أنَّ بعض الصحابة كانوا لا يسألون أحدًا أن يناولهم السوط إذا سقط من يدهم ولا خطام ناقتهم، وليس في الأمور التي جرت العادة بسؤال الناس بعضهم بعضًا فيها أهون من مناولة السوط والخطام، فدل ذلك على أنهم فهموا منع السؤال على العموم.

وليس غرضنا أن نلتزم هذا، ولكن غرضنا أن نبين أنَّ المتنطع خالف

الرد المحكم المتين

۹۵

الحديث الذي استدل به من غير أن يُقدِّم على ذلك دليلا، فهو متلاعب

بالنصوص، متناقض في الكلام.

السابع: أنَّ الحديث خارج عن محل النزاع؛ لأنَّه يدل على منع سؤال غير الله،

وكلامنا في التوسل الذي هو سؤال الله بنبيه أو وليه وأين هذا من ذاك؟! بل لو شئنا أن ندعي أنَّ الحديث دليل على جواز التوسل، وأن معنى قوله: إذا سألت فاسأل الله أي بمُقرَّب من خلقه وبدونه؛ لأنَّ الفعل في سياق

الشرط يعم، لما كان في استطاعة المتنطع أن يردَّ هذه الدعوى.

الثامن: احتج المتنطع هنا بتصحيح الترمذي وتحسينه، لاعتقاده أنَّ الحديث يوافق هواه، وسيقول في الباب الثاني عند الكلام على حديث الأعمى الذي يردُّ نحلته ويقضي عليها ما نصه: «ولهذا قال كثير من شراح الكتاب كالعراقي: أنَّ الترمذي لا يُعوّل على تصحيحه فضلًا عن تحسينه؛ لأنه صحح الضعيف جدًّا، كحديث: (مِفْتاحُ الصَّلاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُها التكْبِيرُ، وتحليلها التسليم، وهذا عند أهل الحديث مسلّم به». اهـ فانظر هداك الله إلى هذا التناقض البين الذي لا يصدر إِلَّا من أبله مُغفَّل لا يدري ما يقول، تجده يؤيد ما قدَّمناه أول الكتاب من أنَّ هذه الطائفة المتهوسة تحتج بتصحيح الترمذي والحاكم إذا احتاجوا إليه، ثُمَّ لا يلبثون أن ينكروه ويردوه إذا خالفهم؛ فرارًا من أن يُلزموا بالحُجّة، أو يلجئوا إلى قول خصمهم

إلجاء، مع أنهم لا يعرفون التصحيح والتحسين ، ولا معنى التضعيف والتوهين، وبالله التوفيق.

٩٦

مباحثات

ثُمَّ قال المتنطع: ومنها في الصحيحين أنَّه لما نزل عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربان [الشعراء: ٢١٤] صَعِدَ الصَّفَا ونادى بطون قريش، فلما اجتمعوا ناداهم بطنا بطنا فقال: «يَا بني كعب بن لُؤَيِّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مرة بن كعب... إلى أن قال: «يا صَفيَّة عمَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنقذي نَفْسَكِ مِن النَّارِ، فَإِنِّي لا أُغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شِئْتِ، أنقذي نَفْسَكِ مِن النَّارِ، فَإِنِّي لا أُغْني عنكِ مِن الله

شيئًا» . اهـ

وأقول: منطوق هذا الحديث يفيد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لا ينفع أقاربه بشفاعة ونحوها ، وإذا كان لا ينفع أقاربه، فلأن لا ينفع أمته من باب أولى، فدل الحديث بمنطوقه ومفهومه الأولوي على أنَّ النبيَّ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم لا ينفع أقاربه ورَحِمَه بشفاعةٍ ولا نحوها، وأنَّه لا يُغني عـ من الله شيئًا، وهو مُعارَضُ في كل ذلك.

عنهم

أما منطوقه : فيعارضه ما رواه الطبراني، والدارقطني من طريق الحسن ابن سهل، عن ابن عُيِّينَة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أنه سمع عمر رضي | الله عنه يقول للناس حين تزوج ابنة علي رضي الله عنهما: ألا تُهنُّوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «يَنْقَطِعُ يومَ القِيامَةِ كُلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ إِلا سَبَبي ونَسَبي ، قال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح غير الحسن بن سهل، وهو ثقة». ورواه البيهقي من طريق وهيب بن خالد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه،

الرد المحكم المتين

أنَّ

عمر

۹۷

الله عنه خطب أم كلثوم إلى عليّ فذكر القصة، إلى أن قال: رضي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «كلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يومَ القِيامَةِ إِلَّا ما كان مِن سَبَبي ونَسَبي».

وكذا أخرجه الدارقطني من طرق عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عمر،

وقال البيهقي: «هو مرسل حسن».

وأخرج البيهقي من طريق ابن أبي مليكة، أخبرني حسن بن حسن، عن أبيه، أنَّ عمر رضي الله عنه خطب إلى عليّ رضي الله عنه أم كلثوم فقال له علي: إنها تصغر عن ذلك، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: كلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِع يومَ القِيامَةِ إِلَّا سَبَبي ونَسَبي»، فأحببتُ أن

يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سبب ونسب. وكذا رواه الحافظ ابن السكن في صحاحه من طريق حسن بن حسن، عن ا

أبيه، عن عمر. وروى الفقيه أبو الحسن ابن المغازلي في "المناقب" من طريق عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قال سمعت عاصم بن عبدالله بن عمر قال: صعد عمر رضي الله عنه المنبر فقال : أيُّها الناس والله إنَّه ما حملني على علي في ابنته إلَّا أَنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ وصِهْرٍ مُنْقَطِع إِلَّا نَسَبِي وصِهْرِي، وأنها يأتيأن يومَ القِيامَةِ يَشْفَعانِ

لصاحبهما.

وأخرجه الدارقطني، وأبو نعيم من طريق يونس بن أبي يعفور العبدي هو أبو يحيى قال: حدثني أبي قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول:

۹۸

مباحثات

سمعت عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كل سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعُ يومَ القِيامَةِ إِلَّا سَبَبي ونَسَبي»؛ ولذلك رغبتُ في أم

كلثوم

وأخرج الدارقطني من طريق الليث بن سعد، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر قال: خطب عمر إلى علي ابنته من فاطمة رضي الله عنهما، وأكثر تردُّده إليه، فقال علي: يا أمير المؤمنين ما عندي إلا صغيرة، فقال عمر : وما يحملني على كثرة تردُّدي إليك إِلَّا أَنِّي سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «كلُّ حَسَبٍ ونَسَبٍ وسَبَبٍ وَصِهْرٍ مُنْقَطِع يومَ

القِيامَةِ إِلَّا حَسَبي ونَسَبي وصِهْري».

وروى الدولابي في الذرية الطاهرة" من طريق واقد بن محمد بن عبدالله بن عمر، عن بعض أهله قال: خطب عمر إلى عليّ رضي الله عنهما ابنته أم كلثوم، وأمها فاطمة عليهما السَّلام، وذكر القصة وفي آخرها قال عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كلُّ سَبَبٍ مُنْقَطِع يومَ القِيامَةِ إِلَّا سببي، فأردت أن يكون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم سبب

وصهر.

وقصة خطبة عمر رضي الله عنه ابنة عليّ رضي الله عنهما، وتصريحه بأنَّ الحامل له على خطبتها هو الحديث المذكور مرويَّةٌ عن عمر رضي الله عنه من طرق كثيرة، ذكرها الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد"، والسيد السمهودي في "جواهر العقدين"، والحافظ السخاوي في "استجلاب ارتقاء الغرف"،

وغيرهم.

الرد المحكم المتين

۹۹

وروى أبو صالح المؤذن في أربعينه في فضل الزهراء، والحافظ أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر، من طريق شريك القاضي، عن شبيب بن غرقدة، عن المستظل بن حصين، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعُ يومَ القِيامَةِ إِلَّا سَبَبي ونَسَبي، وكلُّ وَلَدِ أَمَّ فَإِنَّ عَصَبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة، فأنا أبوهم وعصبتهم».

ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة" من طريق بشر بن مهران، حدثنا شريك به. ولفظه: أن عمر خطب إلى عليّ رضي الله عنه ابنته أم كلثوم فأعتل على عليه بصغَرِها، فقال: إني لم أرد الباءة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كلُّ نَسَبٍ وسَبَبٍ مُنْقَطِع يومَ القِيامَةِ ما خَلا سَبَبي ونسبي، وكلُّ وَلَدِ أب فإِنَّ عَصَبَتَهُمْ لأبيهم ما خلا وَلَدَ فاطمةَ فأنا أبوهم

وعَصَبَتَهُمْ».

وكذا رواه ابن السمان والدارقطني من طريق بشر بن مهران، عن شريك

به نحوه.

وروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي، عن ابن

عبَّاس أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «كل سبب ونسب منقطع

يومَ القِيامَةِ إِلَّا سَبَبي ونَسَبي».

.

ورواه أحمد والحاكم والبيهقي عن المِسْوَر بن تَخْرَمَةَ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «فاطمةُ مَضْغَةٌ مِنِّي، يَقْبِضُنِي مَا يَقْبِضُها، ويَبْسُطُني ما

بسطها، وإنَّ الأنساب يومَ القِيامَةِ تَنْقَطِعُ غير نَسَبي وسَبَبي وصهري».

ورواه الطبراني في "الأوسط" من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن

1..

مباحثات

محمد بن عباد بن جعفر، سمعت عبد الله بن الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: كلُّ نَسَبٍ وصِهْرٍ مُنْقَطِع يومَ القِيامَةِ إِلَّا نَسَبي وصِهْري»، ورواه ابن عساكر من طريق البغوي، ثنا سليمان بن عمر الأقطع، ثنا إبراهيم بن عبدالسلام، عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. فذكره. وكذا رواه عبدالله بن أحمد في زيادات المسند من حديث ابن عمر. وبالجملة فطرق الحديث كثيرة فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجير،

وصححه التاج السبكي في أول "الطبقات" وغيره (). والحديث يدلُّ دلالة صريحة على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ينفع أهله وأقاربه في الآخرة بالشفاعة، إذ لا معنى لكون نسبه وسببه وصهره موصولة يوم القيامة حين تنقطع الأنساب والأسباب إلا ذلك. يؤيد ما قلناه ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول على المنبر : «ما بالُ رِجَالٍ يقولون: إِنَّ رَحِمَ رَسولِ الله لا تَنْفَعُ قَوْمَهُ يومَ القِيامَةِ؟!، بلى والله إِنَّ رَحِي مَوْصُولَةٌ فِي الدُّنيا والآخِرَةِ، وإِنِّى أيُّهَا النَّاسُ فَرَطٌ لكم على الحَوْضِ».

وروى الطبراني عن عبدالرحمن بن أبي رافع، عن أم هاني ابنة أبي طالب أنها خرجت متبرجة قد بدا قُرْطاها فقال لها عمر رضي ا الله عنه: اعملي فإنَّ

(۱) بل هو حديث مشهور.

الرد المحكم المتين

۱۰۱

محمدًا لا يُغني عنك شيئًا. فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بال أقوام يزعمون أنَّ شفاعتي لا تنال أهل بيتي، وإنَّ شفاعتي تنال (حا) و(حكم)».

وحا، وحكم قبيلتان في اليمن قال الحافظ الهيثمي: «وهو مرسل

ورجاله ثقات.

وروى البزار بإسناد ضعيف كما قال السيد السمهودي في "جواهر العقدين" عن ابن عباس قال: تُوفّي لصفيَّة بنت عبد المطلب -رضي الله عنها - ابن؛ فبكت عليه، فقال لها: «تبكين ياعمة؟ مَن تُوفِّي له ولد في الإسلام كان له بيت في الجنة يسكنه». فلما خرجت لقيها عمر بن الخطاب فقال: ياصفية سمعت صراخك، إنَّ قرابة محمَّد لا تُغني عنك من الله شيئًا. فبكت، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم تبكي، ففزع من ذلك وخرج، وكان صلى الله عليه وآله وسلم مُكرِمًا لها، يبرُّها ويحبها ، فقال لها: «ياعمة تبكين وقد قلت لك ما قلت»، فقالت: ليس ذلك أبكاني. وأخبرته بما قال الرجل، فغضب صلى الله عليه وآله وسلَّم وقال: «يا بلالُ هَجْر بالصَّلاة» ففعل، ثُمَّ قام صلَّى الله عليه وآله وسلّم: فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بال أقوام يزعمون أنَّ قرابتي لا تنفع، إنَّ كُلَّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِع يومَ القِيامَةِ إِلَّا سَبَبي ونَسَبِي، وَإِنَّ رَحِمي مَوْصُولَةٌ في الدُّنيا والآخرة». قال عمر رضي الله عنه: فتزوجت أم كلثوم لما سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ، وأحببت أن يكون بيني

وبينه نسب وسبب.

وأخرج الحاكم بسند ضعيف أيضًا عن جابر قال: كان لآل رسول الله

۱۰۲

مباحثات

صلى الله عليه وآله وسلَّم خادمٌ يقال لها بريرة، فلقيها رجل فقال لها: غطّي شعيفاتك فإنَّ محمَّدًا لن يُغني عنك من الله شيئًا. فأخبرت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فخرج يجرُّ ردائه مُحمَرَّةً وجنتاه وكنا معشر الأنصار نعرف غضبه بجر ردائه وحمرة وجنتيه - فأخذنا السلاح ثُمَّ أتينا فقلنا: يا رسول الله

مرنا بما شئت، والذي بعثك بالحق نبيا لو أمرتنا بأمهاتنا وأولادنا وآبائنا المضينا لقولك فيهم، ثُمَّ صعد المنبر فحمد الله عزّ وجلَّ وأثنى عليه ثُمَّ قال: «من أنا؟» قلنا: رسول الله، قال: نعم، ولكن من أنا ؟ قلنا: محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قال: «أنا سيد ولد آدمَ ولا فَخْرَ، وأنا أوَّل من تَنشَقُ الأرضُ عنه يومَ القِيامَةِ ولا فَخْرَ، وصاحِبُ لِواءِ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَفِي ظِلَّ عَرْشِ الرحمن عزَّ وجلَّ يوم القيامة يَومَ لا ظَلَّ إِلَّا ظِلُّه ولا فَخْرَ، ما بال أقوامِ يزعمون أنَّ رَحِي لا تَنْفَعُ ؟ بلى ! حتّى يبلغ (حا) و(حكم)، إِنِّي لأشفّع فَأَشْفَعُ

حتَّى إِنَّ مَن أَشْفَعُ لَه لِيَشْفَعُ، حَتَّى إِنَّ إِبليس ليتطاول طَمَعًا في الشفاعَةِ». فهذه الأحاديث كلُّها تعارض منطوق الحديث المتقدم، وأما مفهومه فيعارضه حديث الشفاعة الطويل وفيه: «فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت له ساجِدًا فيَدَعُنى ما شاء اللهُ ثُمَّ يُقال لى : ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهُ وقُلْ يُسْمَعْ واشْفَعْ تُشفّع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميدٍ يُعلَّمني، ثُمَّ اشفع فيَحُدُّ لي حَدًّا، ثُمَّ أُخرجهم من النار وأُدخلهم الجنَّة، ثُمَّ أعود فأقع ساجدًا مثله في الثالثة أو الرابعة، حتَّى ما يبقى في النَّارِ إِلَّا مَن حَبَسَهُ القُرآنُ». قال قتادة: أي وجب عليه

الخلود.

الرد المحكم المتين

۱۰۳

وفي الصحيح عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: «يَخْرُجُ قومٌ مِن النَّار بشفاعة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم فيدخلون الجنَّةَ يُسمون الجَهَنَّميّين».

الحفاظ.

وجاء عن أنس وغيره أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «شَفاعَتِي لأهل الكبائِرِ مِن أُمَّتي». صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والذهبي والبوصيري والهيثمي والسيوطي ، وغيرهم من ! وأحاديث الشفاعة متواترة، ورواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أكثر من أربعين صحابيا، ورواياتهم مُخرَّجة في الصحيحين، والسنن، والمسانيد، والمعاجم، وغيرها من كتب السنة، وهي تدلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله

وسلم ينفع أمته بالشفاعة في مواطن:

أحدها في إراحتهم من كرب الموقف.

ثانيها: في قوم استحقوا النار بذنوبهم فلا يدخلونها.

ثالثها: في إخراج قوم من النار وإدخالهم الجنة.

رابعها: في زيادة الدرجات لبعض أهل الجنَّة، بل ثبت في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يشفع في عمه أبي طالب أذ يجده في غمرات من النار فيخرجه إلى ضحضاح منها، وجاء في الصحيحين أيضًا أنه أهون أهل

النار عذابًا.

فإن قيل: فكيف الجمع بين هذه الأحاديث، وبين الحديث الذي استدل به

المتنطع

قلت طريق الجمع بينها من وجوه ثلاثة :

مباحثات

الأول: أنَّ الحديث الذي أتى به المتنطع أخبر بالحقيقة، فإنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك لأحدٍ من الله شيئًا، لاضرا ولا نفعا، وهذا لا يُنافي أنَّ الله أمته بالشفاعة الخاصة والعامة، وقد فعل، كما دلت

يملكه نفع أقاربه وجميع . عليه الأحاديث التي أوردناها وغيرها، فهو لا يملك إِلَّا ما يُملكه له مولاه عزّ

وجل.

وكذا قوله: «لا أُغني عنكم من الله»، أي: بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله به من شفاعة أو مغفرة من أجلي، وقد أكرمه الله بذلك، وإنما أطلق الكلام في الحديث ولم يُقيّده لاقتضاء المقام ذلك؛ لأنَّه مقام تخويف وحثّ على العمل، ولأجل أن يحرّضهم على أن يكونوا أوفي الناس حظا من التقوى والخشية الله عزَّ وجلَّ. ذكر هذا المعنى المحب الطبري في "ذخائر العقبى". الثاني: أنَّ الحديث كان قبل أن يُعلمه الله بأنه يشفع وينفع يوم القيامة رحمه بالانتساب إليه دون غيره، ذكره السيد السمهودي في "جواهر العقدين"، ويؤيده أنَّ الحديث ورد عند نزول قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرين

وكان ذلك بمكة في أوائل ما بعث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. الوجه الثالث: أن يكون المقصود من الحديث تحذيرهم من الشرك، وأنَّه لا يملك لهم من الله شيئًا إن أشركوا ، أو استمر من كان منهم مشركا على إشراكه؛ لأن المشرك لا حظ له في الشفاعة ولو كان أخص الأقربين، بل محكوم عليه

بالخلود في النار أبد الآبدين، أعاذنا الله منها وجميع أحبائنا بمنه.

وهذا الوجه استنبطته ولم أره منصوصًا، ويؤيده ثلاثة أمور:

الرد المحكم المتين

160

أولها: أن أغلب أقاربه كانوا إذ ذاك مشركين كما يُعلم من سبب ورود

الحديث.

ثانيها: أنه لم يوجه الخطاب إلى المؤمنين منهم فقط بل عمهم جميعا كما جاء في الصحيح، فشمل مؤمنيهم ومشركيهم، فوجب أن يكون الخطاب على وتيرة واحدة هي التحذير من الشرك كما هو واضح.

ثالثها: ما ثبت في الصحيح في قصة وفاة أبي طالب، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: أي عَمَّ! قل لا إله إلا الله كلمةٌ أُحاج لك بها عند الله»، وفي رواية للمحب الطبري: « أُجادل عنك بها».

فأفاد مفهوم الحديث أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يملك لأبي طالب حُجَّةً يحتج بها عند الله إن لم ينطق بكلمة التوحيد، مع أنه أقرب الناس إليه؛ لأنَّ الشرك يمنع من ذلك. كما أفاد منطوقه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يملك نفع أبي طالب

بالشفاعة إذا نطق بكلمة التوحيد، ويجادل عنه بها عند الله ويُحاجج. فتلخص مما ذكرناه أنَّ الحديث الذي أتى به المتنطع لا حجة له فيه لما زعمه، وهكذا شأنه في كتابه - شأن كلّ مُبطل - يأتي بما لا دليل فيه لمدعاه ولا حُجَّةً، فيأتي بعموماتٍ خُصصت في مواضع أُخرى، ويجعل الخاص عاما، والعام خاصا، ويُحرّف النصوص على ما يقتضيه مزاجه السقيم، وهو يعتقد أنَّه قد احتج وخاصم، وحقًا إنَّه قد احتج وخاصم؛ احتج بالجهالة وخاصم بالسفاهة، ومن يقوى على مصاولة الجهالة ومواجهة السفاهة إلا من كان جاهلا سفيها؟!

ד 1

مباحثات

ومما يُؤثر عن الإمام الشافعي أنّه قال: ما ناظرت عالما إلا غلبته، ولا

ناظرت جاهلًا إلَّا غلبني».

ولقد صدق الشافعي رضي الله عنه - فيما قال، فإنَّ العالم لا يستطيع مغالبة الجاهل من أجل سفاهته، وبالله التوقيق.

ثُمَّ قال المتنطع : ولم يثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابه، والذين اتبعوهم بإحسانٍ، ولا عن أحدٍ من الأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم، أنه ذهب إلى قبر نبي، أو ولي، أو صالح، فسأل الله به، أو سأله

حاجة» . اهـ

وأحاديث الشفاعة متواترة، ورواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أكثر من أربعين صحابيا، ورواياتهم مُخرَّجة في الصحيحين، والسنن، والمسانيد، والمعاجم، وغيرها من كتب السنة

وأقول: يكفينا في تكذيب المتنطع فيها زعمه حكاية بلال بن الحرث المزني الصحابي، حيث ذهب إلى قبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقال له: استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا ، وأقرَّه ،عمر، وقد ذكرناها بإسنادها الصحيح فيها تقدم.

وقال الدارمي في "سننه" : حدثنا أبو النعمان، ثنا سعيد بن زيد، ثنا عمرو بن مالك النُّكريُّ، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبدالله، قال: قُحِط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة فقالت : انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطرنا مطرًا، حتى نبت العُشْب وسَمِنت الإبل، حتى تفتقت من

الرد المحكم المتين

۱۰۷

الشحم، فسُمِّى عام الفتق.

فهذه عائشة أم المؤمنين أمرتهم أن يلجأوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في قبره، ويجعلوا من قبره كوى إلى السماء مبالغة في الاستشفاع به صلَّى الله عليه وآله وسلم، وبالضرورة كان في المدينة إذ ذاك صحابة وتابعيون، فلم يُنقل عن أحد منهم أنه أنكر عليها ذلك. ورجال هذا الأثر لا بأس بهم، وسعيد بن زيد وإن كان متكلَّما فيه فهو من رجال مسلم، وقد وثقه ابن معين وغيره.

وقال الخطيب في "تاريخ بغداد" : أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن رامين الاستراباذي، أنبأنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول: «ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إِلَّا سهل الله لي ما أحبُّ».

قلت: موسى هو الكاظم، والخلال أحد أئمة الحنابلة.

وقال الحافظ الخطيب في تاريخ بغداد" أيضًا: أخبرنا القاضي أبو عبدالله الحسين بن علي بن محمد الصيمري: أنبأنا عمر بن إبراهيم المقري: نبأنا مكرم بن أحمد: نبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: «إنّي لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم -يعني زائرا، فإذا عرضت لي حاجةٌ صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تُقضى». فهذا الشافعي أحد الأئمة الأربعة يتبرك بأبي حنيفة، ويتوسل بالدعاء

عنده

۱۰۸

مباحثات

ونظير ذلك ما ذكره التاج ابن السبكي في "طبقات الشافعية" في ترجمة الغزالي الكبير - واسمه أحمد بن محمد - قال: «حكى لي سيدنا الشيخ الإمام العلامة ولي الله جمال الدين عُمدة المحققين محمَّد بن محمد الجمالي حياه الله وبَيَّاه، وأمتع ببقياه: أنَّ قبر الغزالي القديم مشهور بمقبرة طوس، وأنهم يسمونه الغزالي الماضي، وأنَّه جُرِّب من أمره أنَّ من كان به هم، ودعا عند قبره

استجيب له» . اهـ

وذكر ابن السبكي أيضًا في ترجمة ابن فورك: أنَّ الإمام الشهيد أبا الحجاج يوسف بن دوناس العبدلاوي المالكي المدفون خارج باب الصغير بدمشق، قبره ظاهر معروف باستجابة الدعاء عنده، ونقل أيضًا عن عبدالغافر الفارسي: أن قبر ابن فورك ظاهر بالحيرة يُستسقى به ويُستجاب الدعاء عنده، ونقل أيضًا في ترجمة الإمام نصر المقدسي عن الإمام النووي أنَّه قال: سمعنا الشيوخ يقولون: الدعاء عند قبره يوم السبت مستجاب» . اهـ

وقال الحافظ أبو بكر ابن المقري في مسند أصبهان": كنت أنا والطبراني، وأبو الشيخ في مدينة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فضاق بنا الوقت، فواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء أتيت إلى القبر الشريف وقلت: يا رسول الله الجوع الجوع، فقال الطبراني: اجلس فإما أن يكون الرزق أو الموت، فقمت أنا وأبو الشَّيخ فحضر الباب علوي ففتحنا له، فإذا معه غلامان بزنبيلين فيهما شيءٌ كثير ، فقال : يا قوم شكوتم إلى النبي صلى الله عليه وآله

وسلم، فإني رأيته فأمرني بحمل شيء إليكم.

نقل هذه الحكاية الحافظ السخاوي في "القول البديع".

الرد المحكم المتين

۱۰۹

فهؤلاء ثلاثة من كبار حُفَّاظ السنة وعلمائها وهم ابن المقري، والطبراني، وأبو الشيخ، أتوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في قبره وشكوا إليه الجوع، لعلمهم أنه حي في قبره، وأنَّ له شفاعة عند ربه، فأغاثهم الله وأطعمهم على يد

العلوي، بأمر منه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فماذا يقول المتنطع بعد هذا؟ أتراه يخجل ويلعن نفسه على افترائه أنَّ أحدًا من العلماء السابقين لم يفعل ذلك، أم تراه يسافه ويطعن في هؤلاء الحفاظ الذين لو عطس أحدهم لتناثر من رشاش عطاسه آلاف من مثل المتنطع .

وذكر الحافظ السخاوي أيضًا مما عزاه لأبي عبدالرحمن السلمي بإسناده إلى أبي الخير الأقطع قال: دخلت المدينة وأنا بفاقة، فأقمت خمسة أيام لم أذق ذواقا، فتقدمت إلى القبر الشريف وسلَّمت على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وعلى أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وقلت: أنا ضيفك الليلة يارسول الله، وتخليت ونمت خلف المنبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبا بكر عن يمينه، وعمر عن شماله وعليا بين يديه، فحركني علي وقال: قم قد جاء النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقمت إليه وقبلت بين عينيه فدفع إلى رغيفا فأكلت نصفه، فانتبهت فإذا في يدي نصف رغيف.

وأبو الخير الأقطع صاحب هذه الحكاية ذكره القشيري في "الرسالة" وقال: مغربي الأصل، سكن تينات وله كرامات، وفراسة حادة، كان كبير الشأن، مات سنة نيف وأربعين وثلاثمائة، وذكر من كلامه قوله: «ما بلغ أحد إلى حالة شريفة إلَّا بملازمة الموافقة، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض وصحبة الصالحين».

مباحثات

وذكر ابن القيم في كتاب "الكبائر " ، وفي كتاب "السنة والبدعة" له في بيان بدعة الرفض من هذين الكتابين نقلا عن الحافظ السلفي نزيل الإسكندرية،

.

بإسناده إلى يحيى بن عطاف المعدل، أنه حكى عن شيخ دمشقي جاور الحجاز سنين قال: كنت بالمدينة في سنةٍ مُجدبة، فخرجت يوما إلى السوق لأشتري دقيقا برباعي، قال: فأخذ الدقاق الرباعي وقال : العن الشيخين حتى أبيعك الدقيق، فامتنعت من ذلك، فراجعني مرات وهو يضحك، فضجرت منه وقلت: لعن الله من يلعنهما، قال: فلطم عيني فسالت على خدي، فرجعت إلى المسجد، وكان لي صديق من أهل ميَّافارقين جاور بالمدينة سنين، فسألني عما جرى، فأخبرته فقام معي إلى الحجرة المقدسة فقال : السلام عليك يا رسول الله، قد جئناك مظلومين، فخذ بثأرنا ثُمَّ ،رجعنا، فلما جنَّ الليل نمت، فلما استيقظت وجدت عيني صحيحة أحسن ما كانت وذكر بقية القصة فيما حصل لذلك الدقاق من العطب على لعنه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما.

.

والحكايات من هذا النوع كثيرة كما قال ابن تيمية، قال: ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأعرف من هذا وقائع ...... وذكر منها حكاية بلال بن الحرث المزني التي ذكرناها وغيرها، ونحن ننقل كلامه بلفظه، قال في "اقتضاء الصراط المستقيم" عند الكلام على قصد القبر للدعاء عنده وأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين، إلى كثير من هذه الإطلاقات التي يريد بها التهويل كعادته ما نصه: ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أنَّ قوما سمعوا رد السَّلام من النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، أو قبور غيره من الصالحين، وأنَّ سعيد بن المسيب كان . الأذان من القبر يسمع

الرد المحكم المتين

۱۱۱

ليالي الحرة ونحو ذلك، فهذا كله حقٌّ ليس مما نحن فيه، والأمر أجل من ذلك وأعظم، وكذلك ما يُروى أنَّ رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر ـ عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس)، فإن هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيرًا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ، وأعرف من هذا وقائع، وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم أو لغيره من أمته حاجته فتقضى له، فإن هذا قد وقع كثيرًا وليس هو مما نحن فيه» . اهـ وذكر ابن تيمية أيضًا: «أن إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، أو غيره لهؤلاء السائلين لا يدلُّ على استحباب السؤال». هذا منه احتراز عن توهم بعيد، فإنَّ أحدا لا يقصد من ذكر هذه القضايا الاستدلال والاحتجاج وإنما الغرض من ذكرها تكذيب من يزعم كالمتنطع أنَّ شيئًا من هذا لم يحصل في القرون الفاضلة، ويكون تكذيب هذا الزعم أبلغ إذا كان السؤال حاصلا من علماء أجلاء ، إيمانهم ، أثبت، ويقينهم أرسخ، كبلال بن الحرث المزني وعائشة، وأبي الجوزاء، والحافظ ابن المقري، والطبراني، وأبي الشيخ، وأبي الخير الأقطع الزاهد المشهور، وغيرهم كثير ممن لو وزن علم

واحدٍ منهم وإيمانه بعلم ابن تيمية وإيمانه لرجح عليه. وإن كان لابد من التقليد فتقليد هؤلاء أولى من تقليد ابن تيمية وأذنابه ونعني بأذناب ابن تيمية من هم على شيء من العلم وفتنوا بأقوال ابن تيمية من بين أقوال سائر العلماء، لا المتنطع وأشكاله فإنَّه ليس هناك حتى يُعد من أذناب

(1) يلاحظ أنَّ هذه الزيادة من كيس ابن تيمية، ولم ترد في شيء من طرق هذا الأثر.

۱۱۲

مباحثات

ابن تيمية، بل هو على رتبته العامية لم يتز حرح - ولن يتزحزح - عنها قيد شير. وقال القسطلاني في "المواهب اللدنية": وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء، والتضرع والاستغاثة والتشفع، والتوسل به صلى الله عليه وآله

وسلم، فجدير بمن استشفع به أن يُشفّعه الله تعالى فيه».

وتكلم على معنى الاستغاثة، وأنه لا فرق بين التعبير بلفظها، أو بلفظ التوسل، والتشفع، أو التجوه، أو التوجه.

ثُمَّ قال: «ثُمَّ إِنَّ كلَّا من الاستغاثة، والتوسل، والتشفّع، والتوجه، بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم - كما ذكره في تحقيق النصرة" و"مصباح الظلام" - واقع في كل حال قبل خلقه، وبعده في مدة حياته، وبعد وفاته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة».

وتكلم على الحالة الأولى ثُمَّ قال: «وأمَّا التوسل به صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد موته في البرزخ فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء، وفي كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" للشيخ أبي عبدالله ابن النعمان طرفٌ من ذلك، ولقد كان حصل لي داءً أعينى دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة ۸۹٣ بمكة زادها الله شرفًا، فبينما أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء داء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف، ثُمَّ استيقظت فلم أجد بي والله شيئًا مما كنت أجد، وحصل الشفاء ببركة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

الرد المحكم المتين

۱۱۳

ووقع لي أيضًا في سنة ۸۸٥ في طريق مكة بعد رجوعي من الزيارة الشريفة لقصد مصر، إذ صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها أياما فاستشفعت به صلى الله عليه وآله وسلَّم في ذلك، فأتاني آتٍ في منامي ومعه الجني الصارع

لها فقال : لقد أرسله لك صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فعاتبته وحلفته ألَّا .

يعود

إليها، ثُمَّ استيقظت وليس بها ،قلبة، كأنها نشطت من عقال ولا زالت في عافية

من ذاك حتى فارقتها بمكة سنة ٨٩٤ ، والحمد لله رب العالمين» . اهـ

و "مصباح الظلام" محفوظ بدار الكتب المصرية رقم ( ٥٩م ). ثُمَّ نقل المتنطع عن "الكنز" أنَّ أبا حنيفة قال: «أكره أن يقول العبد أسألك بأنبيائك ورسلك، وبمعاقد العزّ من عرشك، وبالبيت الحرام، وبالمشعر

الحرام». اهـ وأقول: قضى الله ولا راد لقضائه، ألا يكون للمتنطع نصيب من الصواب، ولا على كلامه مسحة من الحقِّ، وذلك علامة على أنَّه غير موفق ولا مُعانٍ، فما أجدره بقول القائل: إذا لم يكن عـــون مــن الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده فلقد تتبعنا ما استدل به المتنطع في كتابه، فإذا هو لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون لا دلالة فيه لزعمه، وهذا حال أغلب أدلته، وإما أن يكون حجَّةً

عليه لاله.

و استدلاله بكلام أبي حنيفة من هذا القبيل، وتقرير ذلك: أنَّ أبا حنيفة عبر بأكره فيكون التوسل بالأنبياء والرسل وما ذكر معهم مكروها، والمكروه على

١١٤

مباحثات

ما تقرر في صغار كتب الأصول وكبارها هو ما يكون جائز الفعل مع رجحان الترك عليه، وبعبارة أخرى هو ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله، وإن شئت قلت: هو ما يمدح تاركه ولا يُذمُّ فاعله شرعًا، هذه حقيقة المكروه عند الأصوليين، لا يجهلها صغار الطلبة فضلا عن كبارهم.

وعلى ضوء هذه الحقيقة الأصولية يكون قول أبي حنيفة حجّةً لنا في جواز التوسل، وأنه لا إثم فيه ولا عقاب، وإن كان تركه أرجح، وهذا نقيض غرض المتنطع، فإنَّه إنَّما أتى بكلام أبي حنيفة ليثبت به أنَّ التوسل بدعة من البدع، وضلال بحكم القرآن وعدوان على ما أنزل الله... إلخ جمله السخيفة الركيكة، فكان ما أتى به حجَّةً عليه، قدمها إلى خصومه من حيث لا يشعر، وهكذا شأن المتنطعين المتعنتين يهدمون أنفسهم بأيديهم وهم لا يشعرون، وذلك آية خذلانهم، ولو كان المتنطع يفهم معنى قول أبي حنيفة: «أكره»، ويعرف معنى الكراهة عند الأصوليين لأدرك ضرر استدلاله بهذا الكلام عليه، فيعدل عنه إلى غيره، ولكنه لا يفهم ما ينقل ولا يعقل ما يقول، فقضى على نفسه بيده قضاء محكما.

فإن قيل: ليس معنى قول أبي حنيفة أكره أن يقول العبد: أسألك بأنبيائك ورسالك... إلخ» الكراهة التنزيهية حتى يلزم منه ما ذكرته، بل معناه الكراهة التحريمية بدليل أنَّ صاحب "الكنز" ذكر هذه العبارة في باب الحظر

والإباحة، فيقتضي كلام أبي حنيفة على هذا تحريم التوسل وهو المطلوب. قلنا: هذا المعنى لا يفيد شيئًا، بل هو حجّةٌ عليه أيضًا، وذلك أنَّ من

الرد المحكم المتين

۱۱۵

أصول الحنفية أنهم يفرقون بين قولهم في الشيء هو حرام أو محرم، وبين قولهم مكروه كراهة تحريم، حيث يطلقون العبارة الأولى على ما كان محرَّما بنص قطعي كالزنا، والربا وشرب الخمر وأكل الميتة والخنزير ونحو ذلك، ويطلقون العبارة الثانية على ما ليس في تحريمه نص قطعي.

ففي "الكنز" وشرحه للشيخ مصطفي بن أبي عبدالله الطائي ما نصه: «المكروه تحريما إلى الحرام أقرب عندهما، ونصّ محمَّدٍ: أَنَّ كل مكروه حرام، وأما المكروه تنزيها فإلى الحل أقرب اتفاقا».

وفي "الكنز" أيضًا وشرحه لملا مسكين ما نصه: «المكروه إلى الحرام أقرب عندهما، وقال خلف بن يحيى: المكروه إلى الحلال أقرب، ونص محمد: كل مكروه حرام، وإنما لم يطلق عليه لفظه؛ لأنَّه لم تثبت حرمته بدليل قطعي كما في

الحرام» . اهـ

إذا علم هذا، فحمل قول أبي حنيفة : أكره على الكراهة التحريمية يكون معناه في اصطلاح أبي حنيفة وأبي يوسف أنَّ التوسل إلى الحرام أقرب، وفي اصطلاح محمد بن الحسن أنه ليس في حرمة التوسل دليل قطعي، وكلا المعنيين يُكذِّبان المتنطع في زعمه أنَّ التوسل ضلال وإشراك، وأنَّ القرآن كلَّه إِلَّا يسيرًا منه - يدل على حرمته، ويحكم بشرك أصحابه، إذ لو كان الأمر كذلك لما خفي على أبي حنيفة وصاحبيه، وقد كانوا - خصوصا أبا حنيفة - مضرب المثل في الذكاء والفطنة وصفاء الذهن وجودة القريحة، ثُمَّ يدركه المتنطع في آخر الزمان وهو على ضدّ هذه الصفات الجليلة، فقد رأيت أن قول أبي حنيفة - على

117

مباحثات

كلا الاحتمالين - يصفع المتنطع ويصرعه ويقضي عليه قضاء لا يُرجى له بعده

رجوع.

ثُمَّ بعد هذا رجعنا إلى كتب الحنيفة فوجدنا المتنطع كذب عليهم في شيئين : الأول: ادعاؤه أنَّ صاحب "الكنز" نقل تلك العبارة عن أبي حنيفة مع أنه

لم ينقلها عنه ولا ذكر اسمه فيها.

الثاني: ادعاؤه أنَّ كلام أبي حنيفة في التوسل، مع أنه في الإقسام على الله

بخلقه، وقد حرَّف العبارة ولم ينقلها على أصلها، بل حذف منها بعض كلمات تبيَّن أن مراد أبي حنيفة الإقسام على الله بخلقه لا التوسل.

وهاك العبارة على أصلها سالمة من كذب المتنطع وتحريفه، ففي "الكنز" وشرحه للشيخ مصطفي ابن أبي عبدالله الطائي ما نصه: «وكره الدعاء بأن يقول: أسألك بمقعد العز من عرشك، ولو بتقديم العين، وعن أبي يوسف لا بأس به، والأحوط الامتناع، وبأن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك،

وبحق البيت والمشعر الحرام، لأنَّه لا حق للخلق على الخالق». اهـ

فانظر إلى عبارة "الكنز" فلا تجد فيها ذكرًا لأبي حنيفة، وتأمل تعليل الشارح بأنه لا حق للخَلْقِ على الخالق، تجد المسألة مفروضة في الإقسام على الله بخَلْقِه، لا في مجرد سؤاله بهم كما هو زَعم المتنطع

يوضح هذا ما جاء في شرح العقيدة الطحاوية" ونصه: وإن كان مراده - أي الداعي الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذورٌ أيضًا؛ لأنَّ الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز ، فكيف على الخالق، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه

الرد المحكم المتين

۱۱۷

رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك، حتى كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمقعد العزّ من عرشك، ولم يكرهه أو يوسف لما جاء من الأثر فيه .اهـ.

والأثر الذي أشار إليه هو ما جاء عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اثنتا عشرة ركعة تُصلِّيهنَّ مِن ليل أو نهارٍ، وتتشهد بين كل ركعتين، فإذا تشهدتَ في آخر صلاتك فأثْنِ على الله عزَّ وجلَّ، وصلّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرَّاتٍ، وقل: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قدير عشر مرَّاتٍ، ثُمَّ قل: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَاقِدِ العِزَّ مِن عَرْشِكَ، ومُنتَهَى الرَّحْمَةِ مِن كتابك، واسْمِكَ الْأَعْظَمِ، وَجَدِّكَ الْأَعْلَى، وَكَلِماتِكَ التَّامَّةِ، ثُمَّ سَلَّم يَمينا وشمالا، ولا تُعَلّموها السُّفهاءَ فَإِنَّهم يَدْعُونَ بها فيُستجاب

هم".

رواه الحاكم وقال: قال أحمد بن حرب: قد جربته فوجدته حقا، وقال إبراهيم بن على الدبيلي: قد جربته فوجدته حقا، وقال الحاكم: قال لنا أبو زكريا: قد جربته فوجدته حقا.

والحديث وإن كان ضعيفًا فهو من باب الترغيب والفضائل، والاعتماد في مثل هذا - كما قال الحافظ المنذري - على التجربة لا على الإسناد، ولعلك بعد هذا البيان تحققت كذب المتنطع وخيانته، وكفى بهما خزيا وعارًا، وبالله

التوفيق.

۱۱۸

مباحثات

ثُمَّ قال المتنطع : وقال مالك رحمه الله: ما رأينا أحدا من الأمة يذهب إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يسأله حاجة، إلَّا أنَّ عبدالله بن عمر كان إذا قدم من سفر ذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسلم عليه وعلى أبي بكر وعمر ثُمَّ ينصرف، نقله القاضي إسماعيل في كتابه "المبسوط" عن مالك بالسند الصحيح إليه . اهـ وأقول: هذا أيضًا مكذوب كسابقه ، فلم ينطق مالك بهذا الكلام أصلا، ولا رواه القاضي إسماعيل لا في "المبسوط" ولا في غيره من كتبه، وادعاء المتنطع أنَّ سنده صحيح كذب مركّب على كذب، وهو لمير "المبسوط"، ولا

عرف موضوعه، ولا درى هل يسند القاضي فيه أو لا؟ وإنما غرضه أن يثبت مزاعمه، فلا يجد لإثباتها سبيلا إلَّا أن يكذب في النقل، ويُحرّف النصوص، ويقول على الأئمة ما لم يقولوا، وإن رأيا يقوم على هذه الأكاذيب لرأي فاسد كاسد حري به أن لا يقوم حتى يقع، ولا

يستمسك حتى يهي. وإليك عبارة الإمام مالك كما نقلها القاضي عياض في "الشفا" ، قال في فصل في زيارة قبره عليه السلام وفضل من زاره وسلَّم عليه وكيف يُسلّم ويدعو ما نصه: «قال مالك في "المبسوط": لا أرى أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يدعو، ولكن يسلّم ويمضي». وفي "الشفا" في هذا الفصل أيضًا: قال مالك في "المبسوط": «وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء»، وقال فيه أيضًا : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف

الرد المحكم المتين

۱۱۹

على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فيصلي عليه، ويدعو له، ولأبي بكرٍ وعمر، فقيل له: إنَّ ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه؛ يفعلون ذلك في اليوم مرَّةً أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرّة أو المرتين، أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعةً، فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أوّل هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده . اهـ

فهذه عبارات الإمام مالك في "المبسوط"، نقلها القاضي عياض كما ذكرنا، ونقلها بواسطته ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"، والتقي السبكي في "شفاء السقام"، وابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" وغيرهم، وليس للإمام مالك في المبسوط ولا في غيره غير هذه العبارات، وهي كما ترى في السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والدعاء عند قبره. وقد فرق مالك بين الغرباء وأهل المدينة في ذلك، حيث أجاز للغرباء ومن جاء من سفرٍ أن يأتوا القبر ويسلّموا ويدعو عنده، وكرهه لأهل المدينة المقيمين، لما في فعلهم ذلك من اتخاذ القبر الشريف عيدا، وهو منهي . والمتنطع حرَّف العبارة كما رأيت في كلامه، وأخرجها عن معناها الذي هو كراهة قصد القبر الشريف للسلام والدعاء عنده إلى ما ذكره، ليتوصل بذلك إلى زعمه الفاسد، وما درى المسكين أنَّ هذا التحريف لا يُفيده، بل يكون حجَّةً عليه إذ لا يلزم من عدم رؤية مالك أحدًا من الأمة جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله حاجةً عدم وقوع ذلك، ولو سُلّم فلا يلزم من عدم

عنه،

۱۲۰

مباحثات

وقوعه عدم جوازه، ولو سُلّم فلا يلزم من عدم جوازه كونه ضلالا وإشراكا كما هو زَعْمُ المتنطع، فغاية ما تفيده العبارة بعد ذلك التحريف أنَّ ما لكا لمير في عصره وفي العصر الذي قبله أحدًا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لو سُلّم لا يُفيد حرمة التوسل، فضلا عن كونه ضلالا وإشراكا، فكيف

وقد صح ذلك من فعل بلال بن الحرث المزني وغيره كما تقدم ؟!! ومما يدل على أنَّ تلك العبار مكذوبة على مالك أنَّ المالكية صرحوا بجواز التوسل، ولو كان عن إمامهم قول بكراهته كما هو مفاد تلك العبارة لما استجازوا مخالفته.

ولو فرضنا أنهم خالفوه الحكوا كلامه ونقلوه على أنه ضعيف أو مؤوّل، كما يحكون أقوال ابن القاسم، وأشهب وابن المواز ونحوهم من رجال المذهب، بل قول الإمام أولى بذلك، فلما لم يفعلوا دلّ ذلك على أنَّ الإمام مالكا ليس له قول بكراهة التوسل فضلا عن منعه، إذ من المستحيل عادة أن يكون له قول بذلك لا يعرفه أصحابه، ولا عرَّجوا عليه، ثُمَّ يدركه المتنطع مع عدم اطلاعه

وضيق باعه.

وإليك بعض نصوصهم في ذلك:

قال ابن الحاج في "المدخل" في باب زيارة القبور بعد أن ذكر الزيارة المشروعة ما نصه : وهذه صفة زيارة القبور عموما فإن كان الميت المزار تمن ترجى بركته فيتوسل به إلى الله تعالى، وكذلك يتوسل الزائر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم بل يبدأ بالتوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم إذ هو العمدة في التوسل والأصل في هذا كله والمشرع له فيتوسل به صلَّى الله

الرد المحكم المتين

.

۱۲۱

عليه وآله وسلَّم وبمن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وقد روى البخاري عن أنس أن عمر رضي الله عنه كان إذا قحطوا اسْتَسْقَى بالعباس فقال: «اللهمَّ إِنَّا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وآله وسلَّم فتسقينا وإنَّا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا فيُسْقَون».

ثُمَّ يتوسل بأهل تلك المقابر - أعني بالصالحين منهم في قضاء حوائجه ومغفرة ذنوبه، ثُمَّ يدعو لنفسه ولوالديه والمشايخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين، ولمن غاب عنه من إخوانه ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرَّفهم وكرَّمهم فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر، فمن أراد حاجةً فليذهب إليهم وليتوسل بهم فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه، وقد تقرر في الشرع وعلم ما الله تعالى بهم من الاعتناء وذلك كثير مشهور وما زال الناس من العلماء والأكابر كابرا عن كابر مشرقا ومغربًا

يتبركون بزيارة قبورهم ويجدون بركة ذلك حسًا ومعنى.

وقد ذكر الشيخ الإمام أبو عبدالله ابن النعمان رحمه الله في كتابه المسمى بـ"سفينة النجاء لأهل الالتجاء في كرامات الشيخ أبي النجاء" في أثناء كلامه على ذلك ما هذا لفظه: «تحقق لذوي البصائر والاعتبار أن زيارة قبور الصالحين محبوبةٌ؛ لأجل التبرك مع الاعتبار فإنَّ بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم، والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين». ولا يعترض على ما ذُكر أنَّ من كانت له حاجة فليذهب إليهم وليتوسل

۱۲۲

مباحثات

بهم بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تُشدُّ الرَّحَالُ إِلَّا لثلاثة مَساجِدَ: المسجدِ الحرام، ومسجدي، والمسجد الأقصى».

وقد قال الإمام الجليل أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب آداب السفر من كتاب " الإحياء" له ما هذا نصه: «القسم الثاني وهو أن يُسافر لأجل العبادة إما لجهاد أو حجّ إلى أن قال: ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء وقبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا تُشدُّ الرحال إلا لثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي والمسجد الأقصى؛ لأنَّ ذلك في المساجد لأنها متماثلة بعد هذه المساجد، وإلا فلا فرق بين زيارة الأنبياء والعلماء والأولياء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتا عظيمًا بحسب اختلاف درجاتهم عند الله عزّ وجلَّ، والله تعالى أعلم . اهـ

ثُمَّ تكلم على حكم من نذر المشي إلى المسجد، أو إلى زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره؛ لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون ثُمَّ يُثني على الله بما هو أهله، ثُمَّ يُصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم، ثُمَّ يترحم عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثُمَّ يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبة، :

الرد المحكم المتين

۱۲۳

ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالاجابة ببركتهم، ويقوي حسن ظنه في ذلك؛ فإنهم باب الله المفتوح وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، ومن عجز عن الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم، ويذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام والكرام لا يردُّون من سألهم ولا من توسل بهم ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم».

هذا كلام ابن الحاج بحروفه وهو مالكي ومن أشد الناس محاربة للبدع، وما ألف كتاب "المدخل" إِلَّا لهذا الغرض، ونقل العلامة الونشريسي في "المعيار"، والمحقق ابن هلال في نوازله أنَّ العلامة قاسما العقباني سُئل عمن جرت عادته بزيارة قبور الصالحين فيدعو هنالك ويتوسل بالنبي عليه السلام وبغيره من الأنبياء صلوات الله على جميعهم، ويتوسل بالأولياء الصالحين، ويتوسل بفضل ذلك الولي الذي يكون عند قبره على التعيين.

فهل يسوغ له هذا ويتوسل إلى الله في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعم نبينا أو لا؟

فأجاب: يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبابه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما وكان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، وقبل مولانا وسيلتهم وقضى حاجتهم وسقاهم، ومازال هذا يتكرّر في الذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، ومازالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهؤلاء السادات نفعنا الله

بهم

وأفاض علينا من بركاتهم، وورد في بعض الاخبار أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله

١٢٤

مباحثات

وسلم علم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: «قل: اللهم إنِّي أُقسم عليك بنبيك محمد نبي الرحمة» فقال عز الدين بن عبدالسلام: «هذا الخبر إن صح يكون مقصورًا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه سيد ولد آدم ولا يُقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وإنَّ هذا إنَّما خُصَّ به نبينا على علو درجته ومرتبته». اهـ قلت: جاء هذا فيما يتعلق بالقسم على مولانا العظيم، لا فيما يرجع إلى

التوسل إلى الله سبحانه والله الموفق بفضله» . اهـ كلامه. ونص على هذا المعنى أيضًا العلامة الولي الكبير سيدي محمد بن ناصر

بن

الدرعي في أجوبته، والعارف أبو زيد الفاسي، والمحقق محمد سيدي عبد القادر الفاسي في شرح الحصن ، وغيرهم، وحكوا عن بعض المالكية ما يُخالف ذلك كقول ابن العربي: «لا يُزار قبر يُنتفع به إلَّا قبر نبينا صلى الله عليه

وآله وسلم». وكقول العلامة الشار مساحي المالكي: «إنَّ قصد الانتفاع بالميت بدعةٌ إِلَّا في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وأجابوا عنهما بأنّهما خلاف قول الجمهور، وخلاف عمل الأمة... إلخ كلامهم».

ونقلوا أيضًا أنَّ ابن عبد السَّلام المالكي منع التوسل بغير النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وأنَّ ابن عرفة أجازه لتوسل عمر بالعباس، وأجابوا عن

کلام ابن عبد السلام بأنَّه لا مُعوّل عليه، وأن الراجح ما قاله ابن عرفه. ونصوا على أنَّ التوسل بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم متفق على جوازه،

الرد المحكم المتين

۱۲۵

أي: عند المالكية، وألف مفتي فاس السيد المهدي الوزاني المالكي رسالةً في جواز التوسل ردَّ بها على الشيخ محمد عبده فتواه بالمنع، وكذلك ألف لهذا الغرض العلامة الشيخ المشرقي المالكي رسالة سماها: "إظهار العقوق ممن منع التوسل بالنبي والولي الصدوق" وكلتاهما مطبوعتان (۱).

وكل هذا يُنادي بتكذيب تلك العبارة، وأنَّ مالكًا ما تكلم بها ولا خطرت على باله، بل نقلوا عنه ما يُخالفها مخالفة صريحةً قاطعة للشك رافعة للاحتمال، فذكر القاضي عياض في "الشفا" في فصل: في أنَّ حرمة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته»، قال: حدثنا القاضي أبو عبدالله محمد بن عبدالرحمن الأشعري، وأبو القاسم أحمد بن بقي الحاكم، وغير واحدٍ فيها أجازونيه قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات: نا أبو الحسن علي بن فهر نا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن الفرج: نا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب نا يعقوب بن إسحاق بن أبي اسرائيل: نا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد؛ فإنَّ الله تعالى أدَّب قومًا فقال : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، ومدح قوما فقال : إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } الآية. وذم قومًا فقال: (۱) وألف من قبلهما العلامة المحقق الشيخ الطيب بن كيران رسالة ردَّ بها على سعود بن عبدالعزيز النجدي، ووصمه فيها بالابتداع، وهي مطبوعة أيضًا، وفيها تحقيقات

رائقة.

١٢٦

مباحثات

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ الآية [الحجرات: ٢ - ٤] وإنَّ حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر، وقال يا أبا عبدالله : أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السَّلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله

واستشفع به فيشفعك الله ، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جاء وك [النساء : ٦٤] الآية .

فهذه الحكاية عن الإمام مالك صريحة في جواز التوسل، بل استحبابة وهي وإن كانت ضعيفة الإسناد (۱) فقد تلقاها أهل المذهب بالقبول وعملوا بمقتضاها، وناهيك بالقاضي عياض حيث استدل بها ولم يتعقبها بما يخالفها، ولهذا لا يحفظ عن أحدٍ من المالكية قول بمنع التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو كراهته، بل كلهم متفقون على جوازه واستحبابه، وإنما اختلفوا في التوسل بغيره كما تقدم، وبكل هذا بل بأقل منه علم كذب المتنطع فيما نقله فعليه ما على الكاذب الخائن.

(تنبيه): قال ابن فرحون المالكي في "مناسكه": «اختلف أصحابنا في محل الوقوف للدعاء ففي "الشفاء" قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلَّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكًا فقال يا أبا عبدالله أستقبل القبلة وادعو أم أستقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ فقال مالك: ولم تصرف

(۱) وادعاء ابن تيمية كذبها مردود عليه ولا كرامة.

الرد المحكم المتين

۱۲۷

وجهك عنه؛ وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم

القيامة ؟ !

وقال مالك في "المبسوط " : لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يُسلّم ويمضي، ولعل ذلك ليس اختلاف قول منه وإنما أمر المنصور بذلك؛ لأنه يعلم ما يدعو ويعلم آداب الدعاء بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم، فأمن عليه من سوء الأدب فأفتاه بذلك، وأفتى العامة أن يُسلّموا وينصرفوا؛ لئلا يدعوا تلقاء وجهه الكريم، ويتوسلوا به في حضرته إلى الله العظيم فيما لا ينبغي الدعاء به أو فيما يكره أو يحرم ، فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم بآداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسّلام والانصراف» . اهـ كلامه. ثُمَّ قال المتنطع : وقال الشافعي رحمه الله : أدركنا أهل بلدنا يهدمون القبور

بمكة، فلا أُجيز رفع القبر عن الأرض ولا تجصيصه ولا البناء عليه». اهـ وأقول: إن صحت هذه العبارة عن الشافعي - وليست بصحيحة ولا هي من جنس المألوف من كلامه - فهي خارجة عن محل النزاع؛ لأنها تتعلق بالبناء على القبور ورفعها عن الأرض، ونحن كلامنا في التوسل ولا تلازم بين المسألتين؛ إذا ليس من شرط التوسل أن يكون عند القبر، ولا من شرط القبر المتوسل بصاحبه أن يكون مبنيا مُجصَّصًا، فإدخال حديث تجصيص القبر وبنائه في حديث التوسل وجوازه خبل في العقل يجدر بصاحبه أن يُقبَر قبل الممات.

فإن قيل: فما الدليل على أن تلك العبارة مكذوبة على الشافعي؟ قلنا: الدليل على ذلك أنَّ العبارة تُفيد منع رفع القبر مطلقا مع أنه صح عن الشافعي خلافه، ففي "المجموع" للنووي ما نصه: «يُستحبُّ أن يُرفع القبر

۱۲۸

مباحثات

عن الأرض قدر شير هكذا نصَّ عليه الشافعي والأصحاب، واتفقوا عليه إلَّا أنَّ صاحب التتمة استثنى فقال : إلَّا أن يكون دفنه في دار الحرب فيُخفى قبره بحيث لا يظهر مخافة أن يتعرّض له الكفّار بعد خروج المسلمين. فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه مخالف لحديث علي رضي الله عنه، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أن لا تَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ»، فالجواب ما أجاب به أصحابنا، قالوا: لم يُرِد التسوية بالأرض وإنَّما أراد تسطيحه جمعا بين

الأحاديث» . اهـ

فهذا النقل عن الشافعي صريح في تكذيب المتنطع، هذا مع أنَّ الشافعية اختلفوا في تسطيح القبر وتسنيمه أيهما أفضل؟ رجح كلا منهما جماعةٌ، كما ذكره النووي في "المجموع" وقال: «إنَّ الراجح الذي نص عليه الشافعي، وقطع به جمهور الأصحاب أنَّ التسطيح أفضل، وهو مذهب مالك وداود». قال:

وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد التسنيم أفضل، فانظره تستفد». ودليل آخر على تكذيب المتنطع وهو أنَّ كلام الشافعي في هدم البناء على

القبور إذا كان في مقبرة مُسْبَلَةٍ لا في غيرها. ففي "المجموع" للإمام النووي ما نصه: «قال الشافعي والأصحاب: يكره أن يُجصص القبر، وأن يُكتب عليه اسم صاحبه أو غير ذلك، وأن يُبنى عليه، هذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال مالك وأحمد وداود وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يُكره، دليلنا الحديث السابق يعني حديث جابر: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أن يُجصَّص القبر وأن يُبنى عليه أو يُقعد أو يُكتب عليه قال أصحابنا رحمهم الله ولا فرق في البناء بين أن يبنى بيتا أو -

الرد المحكم المتين

۱۲۹

قبة أو غيرهما ، ثُمَّ يُنظر فإن كانت مقبرةً مُسْبَلَةً حُرم عليه ذلك، قال أصحابنا: ويُهدم هذا البناء بلا خلاف. قال الشافعي في "الأم": ورأيت من الولاة من يهدم ما بني فيها ، ولم أرَ الفقهاء يعيبون عليه ذلك؛ ولأنَّ في ذلك تضييقا على الناس، قال أصحابنا : وإن كان القبر في ملكه جاز بناء ما شاء مع الكراهة، ولا يُهدم عليه، قال أصحابنا : وسواء في كراهة التجصيص للقبر في ملكه أو المقبرة المسبلة، وأما تطيين القبر فقال إمام الحرمين والغزالي: يُكره، ونقل أبو عيسى الترمذي في "جامعه المشهور : أنَّ الشافعي قال: لا بأس بتطيين القبر، ولم يتعرض جمهور الأصحاب له فالصحيح أنه لا كراهة فيه كما نص عليه ولم يرد فيه نهي . اهـ

فانظر إلى كلام الشافعي على حقيقته كما نقله شيخ مذهبه؟ وانظر كيف حرفه المتنطع ليوافق غرضه - لو نفعه ذلك التحريف - ثُمَّ احكم عليه بعد بما

تشاء.

وخلاصة مذهب الشافعي في ذلك: أن تجصيص القبر والبناء عليه والكتابة كلُّ ذلك مكروه كراهة تنزيه فقط، ثُمَّ إن كان البناء في غير المقابر المسيلة لم يُحرم ولم يُهدم، وإن كان فيها حرم ووجب هدمه، وفي هذا يقول

الشافعي: «رأيت من يهدمها من الولاة ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك». وكل هذا بمعزل عن التوسل الذي هو موضوع الكلام، كما هو واضح لا

يحتاج إلى بيان، والله الموفق لا ربَّ غيره. ثُمَّ قال المتنطع: «إذا عرفت هذا فاعلم أنَّ سؤال الله بخلقه، أو سؤال خلقه حاجة من الحاجات حدثٌ وبدعةٌ من البدع التي لم تكن إلا بعد انقراض

۱۳۰

مباحثات

القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنهم خير

القرون، كما في (صحيح الترمذي) عن عمر .

وذكر حديث عمر: «أوصيكم بأصحاب ثُمَّ الذين يَلُونَهُم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِب... الحديث.

قال: وقد ثبت في الصحيحين أنَّه لا نجاة إلا للفرقة التي تكون على

مثل ما كان عليه صلَّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه...» إلى قوله: «من باب

التعاون على البر والتقوى » . اهـ

وأقول: في كلامه أمور:

الأول: ادعاؤه أن سؤال الله ،بخلقه، أو سؤال خلقه حاجة من الحاجات حدث وبدعةٌ ؛ كذبٌ مُركَّب على جهل كما يُعلم مما تقدَّم ومما سيأتي، ولو لم يرد في ذلك إلا حديث الضرير، وقصة عثمان بن حنيف، وبلال بن الحارث المزني، وعائشة، وقول مالك الذي أسنده عياض كما تقدم، وحكاية الحفاظ الثلاثة، لكان كافيًا في تكذيب المتنطع المبتدع، فكيف ومع ذلك دلائل ستأتي إن شاء الله

تعالى؟!.

الثاني: إطلاقه لفظ الصحيح على جامع الترمذي" جهل بهذا الكتاب خاصة وبالصناعة الحديثية عامةً؛ وذلك لأنَّ السنن الأربعة لم يلتزم أصحابها الصحة، بل اخرجوا فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، كما قال الحافظ ابن الصلاح في "المقدمة". قال الحافظ السيوطي: ومن أطلق عليها الصحيح كقول السلفي في الكتب الخمسة : " اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب"، وكإطلاق الحاكم

الرد المحكم المتين

۱۳۱

على الترمذي الجامع الصحيح، وإطلاق الخطيب عليه وعلى النسائي اسم

الصحيح فقد تساهل» . اهـ وفي "الألفية":

ومن عليها أطلَقَ الصَّحِيحا فقد أَتَى تَسَاهُلًا صَرِيحا يعني من أطلق اسم «الصحيح» على السنن الأربعة فقد تساهل، والتساهل إنَّما هو بالنسبة للسلفي والحاكم والخطيب ونحوهم من أهل هذا الشأن، أما بالنسبة للمتنطع فإطلاق الصحيح على الترمذي جهل منه صريح،

وكذب قبيح. الثالث: أنَّ ذلك المتنطع لم يُطلق اسم الصحيح على "الترمذي" عرفانا منه بقدره ومحبة فيه كلا! فإنَّه ما عرف الترمذي، ولا أدرك مقدار حفظه، ولا قرأ كتابه، ولا عرف ميزته بين كتب السنن النبوية، وإنما أطلق عليه اسم الصحيح

لغرضين:

أحدهما: إيهام الضعفاء والأميين أنَّه إنَّما يحتج بالأحاديث الصحيحة؛ لينجروا إليه، ويلتفوا حوله، ويخلعوا عليه من ألقاب المدح التي يحبها ما تقر به عين صغار النفوس أمثاله.

وثانيهما: كون الحديث الذي نقله عن الترمذي يوافق هواه فأراد أن يُقوي استدلاله به بأنه مُخرّج في كتاب كله صحيح ، وهذا النوع من الحيل المكشوفة لا يروج في سوق العلم والاستدلال، وإنَّما ينفعه في التهويش على العوام البسطاء

أمثاله.

الرابع: قوله: «وقد ثبت في الصحيحيين أنَّه لا نجاة إلا للفرقة التي تكون

۱۳۲

مباحثات

على مثل ما كان عليه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه». كذب على الصحيحين؛ إذ أنَّ حديث: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فِرْقةً، وتفرَّقَتِ النَّصارى على اثنتين وسبعين فِرْقَةً، وتَفَرَّقَتْ أُمتى - وفي رواية: وستَفْتَرِقُ أُمَّتى - على ثلاث وسبعين فِرْقَةٌ، كلُّها فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً،

وهى الجماعة»، وفي رواية: «هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي».

لم يخرجه البخاري ولا مسلم، ولا أخرجه الأربعة بذلك اللفظ، وإنَّما أخرجه غيرهم، كما يُعلم من مراجعة كتب السُّنَّة النبوية.

الخامس: ثُمَّ هذه اللفظة التي استدل بها وعزاها للصحيحين كذبا ووقاحة - هي حُجَّةٌ عليه لا له؛ إذ قد جاء تفسيرها في بعض طرق الحديث بما

يُبين ذلك.

ففي

"معجم الطبراني" عن أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك، قالوا: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يوما علينا ونحن نتمارى في شيء من أمور الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله، ثُمَّ انتهرنا فقال: «مَهْلا يا أُمَّةَ محمَّدٍ إِنَّا هَلَكَ مَن كَان قَبْلَكُمْ بِهذا، ذَرُوا المِرَاءَ

لِقِلَّةِ خيره، ذَرُوا المَرَاءَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يُمارِي، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ الْمُمارِيَ قد تمَّتْ خَسارَتُهُ، ذَرُوا المَرَاءَ فَكَفَى إِنَّما أن لا تزالَ مُمارِيَّا، ذَرُوا المِرَاءَ فَإِنَّ الْمُجَارِيَ لَا أَشْفَعُ له يومَ القِيامَةِ، ذَرُوا المَرَاءَ فأنا زَعِيمٌ بثلاثة أبيات في الجَنَّةِ: في رباضها، وأوسطها، وأغلاها - لمن تَرَكَ المِرَاءَ وهو صادقٌ، ذَرُوا الْمِرَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا نَهَانِي عنه ربي بعد عِبادة الأوثان المِرَاءُ، فإنَّ بني إسرائيلَ افْتَرَقُوا على إحدى وسبعين فرْقَةٌ، والنَّصَارَى على ثنتين وسبعين فِرْقَةً كلُّهم على الضَّلَالَةِ إِلَّا السَّوَادَ

الرد المحكم المتين

۱۳۳

الأعظم». قالوا: يارسول الله من السواد الأعظم؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي من لم يمارِ في دين الله ، ومَن لم يُكَفِّر أَحَدًا مِن أهل التوحيد بذنبٍ غُفِرَ له...» وذكر بقيَّة الحديث. فدلالة السياق فيه تدلُّ على أنَّ المراد بما كان عليه صلى الله عليه وآله وسلّم هو وأصحابه: ترك المراء في الدين وعدم إكفار المسلمين، والمتنطع على نقيض هذا؛ فإنَّه على ما بلغني من أصحابه شديد المراء في الدين بحق وبغير حق، لا يمكن أن يرجع عن قول قاله ولو قام على خطئه ألف دليل، أما إكفار المسلمين فكتابه هذا شاهد عليه بذلك مع تصريحه به في كثير من مجالسه مع أصحابه كما بلغني.

فأنت ترى المتنطع قد استدل بما هو ذمّ له، ونعي على حاله غير فاهم المعناه، ولا مدرك مغزاه، وهكذا يكون الخذلان وعدم التوفيق نسأل الله أن يلهمنا رشدنا بجاه نبیه آمین. (تنبيه): قوله في الحديث الذي أوردناه: «ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ المُمارِي لَا أَشْفَعُ له يوم القيامة» ليس على ظاهرة من أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع للماري، بل هو مؤوّل على معنى لا أشفع له يوم القيامة مع من أشفع له أولا، كما ورد في الحديث أنَّه يشفع أولا لأهل بيته، ثُمَّ لأصحابه، ثُمَّ للعرب، وهكذا على الترتيب، وأنَّ من يشفع له أولا أفضل، فيكون الماري على هذا محروما من أفضلية الأولية في الشفاعة. أو يؤوّل على معنى لا أشفع له يوم القيامة حتى ينفذ فيه الوعيد بوقوع العقاب عليه، أو نحو ذلك من التأويلات ليتفق هذا الحديث مع ما تواتر عنه

١٣٤

مباحثات

صلى الله عليه وآله وسلَّم من أنه يشفع لجميع أمته حتى لا يبقى منهم أحد في النار مهما بلغت به المعاصي بشرط موته على الإسلام، نسأل الله أن يرزقنا شفاعته في الدنيا والآخرة من غير سابقة عذاب، ولا محنة عقاب، وأن يوفقنا

لا تباع سنته وطريقته فهو الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم.

ثُمَّ استدل المتنطع على أنَّ الموتى لا يشعرون بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتُ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون ﴾ [النحل : ۲۰ - ۲۱] ، ثُمَّ قال: «وهذا الوصف لا ينطبق إلا على العقلاء من الأموات لا على الأصنام؛ لأنه لا يقال في جانبها بعث، ولا علم

به . اهـ

وأقول: دعواه أنَّ الآية واردة في الموتى دعوى باطلة، واستدلاله على ذلك بأن الأصنام لا يُقال في جانبها بعث ولا علم به، استدلال فاسد ناشيء عن عدم شعوره وإدراكه، والحقُّ الذي لا يجوز غيره أنَّ الآية واردة في الأصنام والأوثان كما قال قتادة وأهل التفسير وقوله تعالى: أَمْوَاتُ غَيْرُ أَحْيَاءِ مجاز

عن كونها جمادات لا أرواح فيها فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل.

وقوله تعالى: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ في تفسيره ثلاثة أقوال: الأول: أنَّ المراد به الأصنام، وفيه دليل على أنها تبعث وتجعل فيها الحياة، فتبرأ من عابديها، وهذا جائز لا مانع منه عقلا ولا شرعًا، والله على كل شيء

قدير.

الثاني: أن يكون المراد به الأصنام أيضًا لكن لا على سبيل الحقيقة، بل على

الرد المحكم المتين

۱۳۵

سبيل المجاز، وأنَّ الأصنام لا تدري متى تكون الساعة، فكيف يرجى عندها

نفع أو ثواب.

الثالث: أنَّ المراد به الكفَّار، أي: لا يشعر هؤلاء الكفَّار الذين يعبدون الأصنام متى يبعثون، قال ابن كثير في تفسيره" هذه الآية: «أخبر الله أنَّ الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون كما قال الخليل: أتعبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: ٩٥-٩٦]. وقوله: أَمْوَاتُ غَيْرُ أَحْيَاء ) أي: هي جمادات لا أرواح فيها؛ فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي: لا يدرون متى تكون الساعة، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء، وهو خالق كل شيء». اهـ

وقال البغوي: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } يعني: الأصنام وقرأ عصام ويعقوب يدعون بالياء، لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَتُ أَي: الأصنام الله غَيْرُ لَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ ) يعني: الأصنام ال ايان متى يبعثون [النحل: ۲۰-۲۱]، والقرآن يدل على أنَّ الأصنام تبعث وتُجعل فيها الحياة فتبرأ من عابديها، وقيل ما يدري الكفَّار عبدة الأصنام متى

يبعثون» . اهـ

و بما ذكرناه لك في تفسير الآية تعلم بطلان ما قاله المتنطع فيها، وتدرك مع ذلك جرأته على القول في كتاب الله بغير علم، وذلك دليل على رقة دينة، وهوان نفسه عليه حيث أوردها المهالك.

١٣٦

مباحثات

وقد كان كبار الصحابة والتابعين يتحرَّجون عن تفسير ما لا علم لهم به فجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سُئل عن تفسير قوله: ﴿ وَفَنكِهَةٌ وا أَبا ﴾ [عبس: ۳۱]، فقال: «أي سماءٍ تُظلُّني، وأي أرض تُقلني، إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم».

وعن أنس أنَّ عمر قرأ على المنبر : وَفَكَهَةً وَأَبَا ، فقال: هذه الفاكهة قد

عرفناها فما الأب؟ ثُمَّ رجع إلى نفسه فقال: «إنَّ هذا لهو التكلف يا عمر». وقال ابن أبي ملكية: سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال له ابن عباس : فما يوم كان مقداره خمسين الف سنة؟ فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال له ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم.

وجاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبدالله يسأله عن آية من القرآن

فقال : أحرج عليك أن كنت مسلما لما قمت عنِّي، أو قال: أن تُجالسني. وقال عمرو بن مُرَّة: سأل رجلٌ سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن وسَل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه يعني:

عكرمة.

وقال يزيد بن أبي يزيد كنَّا نسأل سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال، وكان أعلم الناس فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع. وقال عبيد الله بن عمر : لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في

التفسير منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع.

الرد المحكم المتين

وقال هشام بن عروة: ما سمعت أبي يؤول آيةً من كتاب الله قطُّ .

۱۳۷

وقال ابن سيرين سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن فاتَّقِ الله، وعيلك بالسداد. وقال مسلم بن يسار : إذا حدَّثت عن الله حديثا فقف حتى تنظر ما قبله

وما بعده.

وقال إبراهيم النخعي كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال الشعبي : والله ما من آيةٍ إِلَّا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله

عزّ وجل.

قال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر هذه الآثار وغيرها ما نصه: «فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما من تكلّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة لأنهم تكلموا فيهما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد». اهـ فانظر إلى ما كان عليه السلف الصالح من تهيب القول في التفسير، مع أنهم أهل لذلك ،ك، وعنهم أُخِذ، ثُمَّ وازنه بحال المتنطع وجرأته، مع أنه لا يبلغ عشر العشر مما أوتوا من العلم ، ثُمَّ احمد الله على أن سلمك مما ابتلاه به، نسأل الله السلامة والتوفيق آمين. ثُمَّ استدلَّ المتنطع أيضًا بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادُ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ } قال: «ثُمَّ بَيَّن الله

۱۳۸

مباحثات

سبحانه وتعالى على وجه التبكيت أنهم أضعف مِنَّا بعد موتهم، فقال: أَلَهُمْ أَرْجُلُ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنُ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ عَذَانٌ يَسْمَعُونَ بها ثم أمر رسوله أن يعجزهم بطلبهم من الموتى أن يكيدوا رسول الله إن كانت لهم أسرار وقدرة على كيده وهو يذم من سألهم فقال: قُلِ ادْعُوا

شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ﴾ [الأعراف: ١٩٤-١٩٥] . اهـ

وأقول: روى أبو عبيد قال : ثنا هشيم ثنا عمرو بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن مسروق، قال: اتَّقوا التفسير فإنَّما هو الرواية عن الله. وهذا إسناد

صحيح.

وصح عن الشعبي أيضًا أنه قال كما تقدَّم: والله ما من آيةٍ إِلَّا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله عزّ وجلَّ.

هذان أثران صحيحان عن إمامين كبيرين من التابعين ينطقان بأن التفسير رواية عن الله؛ لأنَّه تعيين المراده عن كلامه، وحيث أنَّ الأمر كذلك؛ فيحق لنا أن نقول بكل صراحة: إنَّ المتنطع كذب على الله تعالى في تفسير هذه الآية في

موضوعين

الأول: أنَّ الآية واردة فيمن يعبد غير الله كما قال أهل التفسير، والمتنطع

أتى بها في سياق ردَّه على من سأل الله بخلقه ويتوسل بهم إليه. الثاني: أنَّ المراد بالآية الأصنام والمتنطع حملها على الموتى من الأنبياء والأولياء والصالحين، قال البغوي في "تفسيره " : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ) يعني : الأصنام، عِبَادُ أَمْثَالُكُمْ يريد أنها مملوكة أمثالكم، وقيل:

الرد المحكم المتين

۱۳۹

أمثالكم في التسخير أي: أنهم مسخَّرون مذلَّلون لما أريد منهم، قال مقاتل: قوله: عِبَادُ أَمْثَالُكُمْ ﴾ أراد به الملائكة، والخطاب مع قوم كانوا يعبدون

الملائكة والأول أصحُ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ أنها آلهة، قال ابن عباس: فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم و إن كُنتُم صدقين أنَّ لكم عندها منفعة، ثُمَّ بيّن عجزهم فقال: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ

بها أَمْ هُمْ أَيْدِ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَذَانُ يَسْمَعُونَ بِهَا أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات، وليست للأصنام هذه الآلات، فأنتم مفضّلون عليها بالأرجل الماشية، والأيدي الباطشة، والأعين الباصرة، والآذان السامعة، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم، وقل ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ يا معشر المشركين، ثُمَّ كيدُونِ أنتم وهم فَلَا تُنظِرُونِ [الأعراف: ١٩٤-۱۹٥] أي: لا تمهلوني واعجلوا في كيدي». اهـ

191

وقال ابن كثير في تفسيره" قوله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ هُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۹۱-۱۹۲] إلى قوله تعالى: وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَكَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يبْصِرُونَ } [الأعراف: ۱۹۸] هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة الله، مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئًا من الأمر، ولا تضرُّ ولا تنفع ولا تبصر، ولا تنتصر لعابديها، بل هي . جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم

الأنداد

١٤٠

مباحثات

وبطشهم، ولهذا قال : أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ .

:

}

وتكلم في تقرير هذا المعنى، واستشهد له بعدة آيات، ثُمَّ قال: «وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم المدينة، فكانا يعدوان في الليل

على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبًا للأرامل؛ ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح - وكان سيدا في قومه - صنم يعبده ويُطيِّبه، فكانا يجيئان في الليل فينگسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجئ عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفًا، ويقول له: انتصر، ثُمَّ يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيعه أيضًا، حتى أخذاه مرَّةً فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك، نظر فعلم أنَّ ما كان عليه من الدين باطل

وقال:

تالله لو كنتَ الهَا مُسْتَدَن لم تَكُ والكَلْبُ جميعا في قَرَن

ثُمَّ أسلم فحسن إسلامه، وقتل يوم أُحدٍ شهيدًا رضي الله عنه».

ثُمَّ قال: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ ﴾ [الأعراف: ١٩٣] الآية يعني: أنَّ هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دَحاها، كما قال ابراهیم: يَابَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: ٤٢] ثُمَّ ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها أي مخلوقات مثلهم، بل الأناس أكمل منها؛ لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئًا من ذلك».

الرد المحكم المتين

١٤١

إلى أن قال: «وقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } إلى آخر الآية مؤكد لما تقدم، إلا أنه بصيغة الخطاب، وذاك بصيغة الغيبة، ولهذا قال: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۹۷]، وقوله: ﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَنهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۹۸]، كقوله تعالى : إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ﴾ [فاطر: ١٤]، وقوله: وَتَرَبَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۹۸] إنهما قال : يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ، أي: يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرةٌ وهي جمادٌ، ولهذا عاملهم معاملة من يعقل؛ لأنها على صُورٍ مُصوّرة كالإنسان ، وَتَرَنهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ فعبر عنها بضمير من يعقل، وقال السدي: المراد بهذا المشركون، وروي عن مجاهد نحوه، والأول أولى، وهو اختیار ابن جرير، وقاله قتادة» . اهـ كلام ابن كثير .

وليس ببدع من المتنطع أن يكذب على الله في تفسير هذه الآية كما تبين! فقد كذب في تفسير الآيات قبلها كما تقدَّم، بل كل كلامه المتعلق بالتفسير كذب على الله، وجهل بما لكتابه العزيز من حرمة وجلال، وما له في نفوس العلماء من هيبة ، وكمال، نسأل الله أن يُفهمنا القرآن الكريم، ويُعلمنا من لدنه علما آمين. ثم قال المتنطع: بيان عقيدة المشركين كما بينها القرآن...» وذكر أنَّ المشركين لم يكونوا يعتقدون فيمن يعبدونهم من دون الله، أنهم يرزقونهم أو يحيون أو يميتون، بل كانوا يعتقدون أنَّ هذه الشئون وغيرها بيد الله؛ واستشهد

على ذلك بقوله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ

١٤٢

مباحثات

وَالْأَبْصَرَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيْتَ مِنَ الْحَيَّ [يونس: ٣١] إلى قوله :

فَأَنَّى تُصرَفُونَ ﴾ [يونس: ۳۲]، وبقوله تعالى : قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن

كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ (٥)

AL

السبع وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (1) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [المؤمنون:

٤ - ٨٧ إلى قوله تعالى: سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَلِيمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ )

فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [المؤمنون: ۹۱ - ۹۲] . ثُمَّ ذكر أنَّ المشركين إنما جاءهم الإشراك من تحكمهم على الله في تعيين من يدعونهم شفعاء، مع أنَّ الشفاعة موقوفة على مشيئة الله وإذنه لمن شاء من خلقه، ولا يُعلم لمن يُعطي الإذن من خلقه بعد النبيين؛ ثُمَّ استدل لذلك بقوله تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَؤُنَا عِندَ اللَّهِ ﴾ [يونس: ۱۸]، وبقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ } [الزمر: ، ثُمَّ تكلّم في هذا المعنى إلى أن قال: «من هذا كله يتبيَّن أن سؤال غير الله من الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين خروج على القرآن والسنة، وعمل المهتدين من الأئمة، وعبت لا فائدة منه للسائلين وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: ١٨٦] . اهـ

وأقول: غرض المتنطع أن يتخلّص من هذا كله إلى الحكم على المسلمين الذين يسألون الله بأنبيائه وأوليائه بالاشراك والضلال، وأنهم اتخذوا الأنبياء والأولياء شفعاء، كما أن المشركين اتخذوا من عبدوهم من دون الله شفعاء،

الرد المحكم المتين

١٤٣

وفاته أنَّ الفرق بين هؤلاء وأولئك، أنَّ هؤلاء مشركون عبدوا غير الله واتخذوا معه آلهة، وأولئك مسلمون يشهدون أن لا اله إلا الله ويفردونه بالوحدانية والعبادة، وتوسلهم في الدعاء بنبي أو ولي ليس من عبادة غير الله في شيء، ولا هو من اتخاذ إله مع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرًا، ولو كان المسلمون بمجرد التوسل مشركين، ويصح أن تحمل عليهم آيات المشركين وتعمهم كما هو صنيع المتنطع - لانقلبت الأوضاع اللغوية والشرعية، وصح أن يُطلق لفظ العالم على الجاهل والجهال على العالم، والمسلم على الكافر والكافر على المسلم، والطائع على العاصي والعاصي على الطائع، والمبتدع على السُّنِّيّ والسُّنِّي على المبتدع، إذ ما من لفظ من هذه الألفاظ إلا ويمكن تعميمه في غيره، باعتبار فعل من الأفعال أو صفة من الصفات ويرتفع حينئذ الوثوق بالمدلولات اللغوية والشرعية؛ إذ لا ندري إذا سمعنا لفظ المسلم، هل أريد به المسلم فقط، أو أريد معه الكفار أيضًا؟ والتعميم ليس له قاعدة معيَّنة على أصل المتنطع، فنكون عند سماع هذه الألفاظ العامة ونحوها مشككين فيها، هل أُريد بها مدلولها أو غيره معه أيضًا؟!!

ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ اللغة العربية عامة، ونصوص الشريعة المطهرة خاصة من هذا الخلط الذي يُريد أن يُشينه بها المتنطع في آخر الزمان،

واستدلاله بقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: ١٨٦] مما يدل على بلادته، فإن هذه الآية دليل على جواز التوسل وذلك لأن لفظ الداع فيها عام وكذا لفظ دَعَانِ أيضًا عام لوقوعه في سياق الشرط فتكون الآية شاملة للدعاء بتوسل وبدونه بدليل

١٤٤

مباحثات

حديث الأعمى الآتي وغيره، ولو كان التوسل دعاء لغير الله للزم على ذلك أن يكون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم مخالفًا للقرآن وآمرا بدعاء غير الله وذلك محال قطعا فبطل قول المتنطع جملة وبالله التوفيق.

ثم قال المتنطع: مبحث في أمور ثلاثة لابد من معرفتها».

وذكر في الأمر الأول منها : أن الذين يسألون الموتى يطلبون منهم شفاء المريض وإكثار الرزق وزيادة الأجل وقضاء الحاجة وأنهم يقفون خاشعين أمام قبورهم أكثر من خشوعهم في الصلاة . اهـ

وأقول: كونهم يقفون أمام قبورهم خاشعين أكثر من خشوعهم في الصلاة كذب ظاهر لا يحتاج إلى بيان وغاية ما يفعلون أنهم يتأدبون الأدب المطلوب في زيارة الأولياء وليس كل أدب خشوعًا، ولا كل خشوع يوازي خشوع

الصَّلاة فضلا عن أن يكون أكثر منه.

وأما أنهم يسألون منهم الرزق وشفاء المريض ونحو ذلك فهذا إن صح محمول على التجوز في التعبير، والمعنى أنهم يطلبون منهم أن يطلبوا من الله ذلك، وقرينه هذا المجاز حاليَّة، وهي كون القائل لذلك مسلما موحدا، وهذا التجوز شائع ذائع، يُقال: رَزَق الأميرُ الجند، وأطعم الغني الفقراء، وعال

الرجل أهله، مع أنَّ الذي يرزق ويُطعم ويعول هو الله سبحانه وتعالى. وقد قرر أهل المعاني هذا المعنى في باب الإسناد العقلي من كتب البلاغة وجعلوا من المجاز العقلي قول القائل: أنبت الربيع البقل، وحكموا بأنَّ القرينة على هذا المجاز كونه صادرًا من موحد، ونصوا على أنَّ المجاز العقلي كما يكون

في الإخبار - كما تقدَّم - يكون في الإنشاء أيضًا، نحو: يَنهَمَنُ ابْنِ لِي صَرْحًا

الرد المحكم المتين

١٤٥

[غافر: ٣٦]، ولينبت الربيع ما شاء، وليَصُم نهارك.

ومما يُحكى عن الشيخ محمد عبده أنَّه كان مرةً جالسا مع الشيخ الظواهري الكبير، بجانب ضريح السيد أحمد البدوي رضي الله عنه، وجاءت قرويةٌ تزور فسمعاها تقول: يا سيد يا بدوي اشف لي ابني، فتغيظ الشيخ محمد عبده وقال للشيخ الظواهري - وكان شيخًا للمسجد : أنت هنا تسمع هذا الكفر الصراح ولا تُنكره، فصاح الشيخ الظواهري بالقروية، وقال لها: سمعناك تطلبين من السيد البدوي أن يشفي ابنك، وهل هو يشفي المرضى؟ فقالت له: لم أرد هذا، وأنها أردت أنَّ السيد البدوي بما له من منزلة عند الله يطلب من الله شفاء ابني، وأنا عارفةٌ أنَّ الشفاء بيد الله ، فقال الشيخ : محمد عبده: أما إذا كان ذلك كما تقولين فلا كُفر. على أنا لا نحتج بهذه الحكاية على جواز مثل هذه العبارة، بل نحن لا نجيزها، ونُعلّم من يقولها أن يعدل عنها إلى التعبير السائغ الجائز؛ لما في ظاهرها من طلب الشفاء من غير الله، وهو مُستنكرٌ مُستكره؛ لما فيه من الإيهام، ولكننا في الوقت نفسه لا نجيز إكفار عوام المسلمين بعبارة لهم فيها تأويل يتمشى مع قواعد اللسان العربي، لا سيما مع ظهور قصدهم وأنهم إنما أرادوا من العبارة ذلك التأويل، كما في الحكاية المذكورة، فكيف يجوز إكفارهم والحالة هذه؟! وإكفار المسلم ليس بالهين عند الله الذي يعلم السر وأخفى. ثُمَّ ذكر المتنطع في الأمر الثاني: أنَّ التقرب إلى الله بغير ما شرعه مردود على فاعله، لا يزيده من الله إلَّا بعدًا، واستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوَلَدُكُم بِالَّتِي تُقَرِيكُمْ عِندَ نَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَيْكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِعْفِ

١٤٦

مباحثات

بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ وَامِنُونَ ﴾ [القصص: ۳۷]، وذكر الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أُحبَّه» . اهـ

وأقول: غرضه من هذا أن يتخلّص إلى أنَّ التوسل غير مشروع، فيكون التقرب به يزيد من الله بُعدًا هذا كل هواه وغاية مناه؛ وهيهات أن يصل إلى ذلك، والآثار التي ذكرنا وغيرها مما سيأتي تُكذِّبه وتدفع في صدره، ولو لم يكن إلا حديث الأعمى لكان وحده عمّى على المتنطع، كيف ومعه غيره! فالحقيقة أن التوسل مشروع جائز، ودليل جوازه أقوى من دلائل كثير من

المسائل الفقهية بل لو تتبعت كتب الفقه لوجدت الأئمة أخذوا في كثير من الأحكام بأحاديث ضعيفة، والتوسل من دليله ما هو صحيح، وما هو حسن، وما هو ضعيف، فلا معنى للتوقف في مشروعيته مع هذا، ولا وجه لإنكاره إلا أن يكون ذلك من جاهل أعمى ، أو متعصب يتعامى، فليس كلامنا معه. والحديث القدسي الذي ذكره هو الذي حمل الناس على التوسل بالأولياء؛ وذلك لأن في آخره: «فإذا أَحْبَبْتُهُ كنتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ التي يَمْشِي بها، ولئن سَأَلَني لأُعْطِيَنَّهُ، ولئن اسْتَعَاذَنِي لأُعِيدَنَّهُ».

فقد قطع الله على نفسه عهدًا بإجابة دعاء الولي فيكون الولي مُجاب الدعوة إذا دعا لنفسه أو لغيره، وقد استفاض عن كثير من الأولياء أنهم دعوا لأُناس

أو عليهم، فأجاب الله دعاءهم وقبل طلبهم، فالحديث كما قلنا

مع

ما

الرد المحكم المتين

١٤٧

استفاض من قبول دعائهم لغيرهم هو الذي حمل الناس على التوسل بهم؛

ولا تنس حكاية القروية السابقة.

ولا يمكن التفريق بين حالتي الحياة والموت؛ لأنَّ موتى المؤمنين كما قلنا

يشعرون بمن يُسلّم عليهم، ويستأنسون به ويردون عليه السلام. بل تعرض أعمال الأحياء على أقاربهم الأموات، فيستبشرون بها إن كانت أعمالا صالحة، ويدعون لهم بالهداية إذا كانت خلاف ذلك؛ وإذا كان هذا حال مطلق المؤمنين فكيف بالأولياء الذين جاهدوا أنفسهم في الله، وهانت عليهم الدنيا، بل العالم كله في سبيل مرضاة خالقهم وبارئهم، لا شك أنهم أعظم، وحالهم في ذلك أكمل وأتم. وقد استفاض عن كثير من الأولياء من السلف الصالح وغيرهم، أنهم كانوا يقرأون القرآن في قبورهم، سمع ذلك منهم عدة أُناس في وقائع مختلفة، كما استفاض أيضًا أنَّ أجسادهم شوهدت صحيحةً غير بالية بعد مضي سنين عليها في القبر، وهذا كثير مشاهد إلى وقتنا هذا في وقائع كثيرة لا يأتي عليها

الحصر، ومن أنكر شيئًا مما ذكرناه فلا يخلو إما أن ينكر جوازه أو وقوعه. فإن كان يُنكر جوازه أحلناه على مبحث كرامات الأولياء من كتب التوحيد، فقد استدلُّوا الجوازها بما لا يبقى معه شكٍّ ولا احتمال، وقرروا أَنَّ كرامات الأولياء هي في الحقيقة معجزات لنبيهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ودلائل على صدق دينه، وفي الهمزية

والكَرَامَاتُ مِنهم مُعجزات نالهــا مـــن نَوَالِك الأولياء وقرروا أنها لا تنقطع بالموت؛ لأنَّ مصدرها فضل الله على وليه، وفضل الله

١٤٨

مباحثات

لا ينقطع ()، كل هذا مقرَّرٌ مُبيَّن مدلّل عليه في كتب الكلام بما يكفي ويشفي. وإن كان يُنكر وقوعه أحلناه على الكتب التي ذكرت ذلك، ككتاب "أهوال القبور" للحافظ ابن رجب الحنبلي، و"كفاية المعتقد" لليافعي، وكتاب "العمل المقبول في زيارة الرسول" لابن الزملكاني، وشرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" للحافظ السيوطي وغيرها، وفي كتاب "الروح" لابن القيم شيء من هذا؛ على أن من طالع الكتب المسندة، ككتب ابن أبي الدنيا، و"حلية" أبي نعيم

ونحوها، وجد فيها أثارًا كثيرةً تُؤيَّد ما قلنا وتعضده، وبالله التوفيق. ثُمَّ ذكر المتنطع في الأمر الثالث: «أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم لم يترك شيئًا يُقربنا إلى الله إلا بيَّنه لنا، فمن زاد في هذا الدين شيئًا على بيان الله ورسوله، يزعم أنه بدعة حسنة، فقد ضَلَّ» . اهـ

وأقول: قسم عز الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى البدعة باعتبار اشتمالها على المصلحة والمفسدة أو خلوها عنهما إلى أقسام الحكم الخمسة: الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة؛ ومثل لكل قسم منها، وذكر ما يشهد له من قواعد الشريعة، وكلامه في ذلك كلام ناقد بصير أحاط خُبْرًا بالقواعد الفقهية، وعرف المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها؛ ومَن مثل سلطان العلماء في معرفة ذلك؟ فجاء تقسيمه للبدعة مؤسسا على أساس من الفقه وقواعده متين؛ ولذا وافقه عليه الإمام النووي، والحافظ ابن حجر، وجمهور العلماء، وتلقوا كلامه بالقبول، ورأوا أنَّ

(۱) ولنا كتاب "الحُجَجُ البيِّنات في إثبات الكرامات" وهو مفيد جدا.

الرد المحكم المتين

١٤٩

العمل به متعيَّن في النوازل والوقائع التي تحدث مع تطور الزمان وأهله. حتى جاء صاحب "الاعتصام " فخرج عن جمهرة العلماء وشد بإنكار هذا التقسيم فبرهن بهذا الإنكار على أنه بعيد عن معرفة الفقه، بعيد عن فهم قواعده المبنية على المصالح والمفاسد، لا يعرف ما فيه مصلحة فيطلب تحصيلها بفعله، ولا يدري ما فيه مفسدة فيطلب اجتنابها بتركه ولا ما خلا عنهما فيجوز فعله وتركه على السواء، وأخيرًا برهن على أنه لم يتذوّق علم الأصول تذوقا يُمكنه من معرفة وجوه الاستنباط، وكيفية استعمالها، والتصرف فيها بما يناسب الوقائع، وإن كان له في الأصول كتاب "الموافقات" فهو كتاب قليل الجدوى الفائدة، وإنما هو بارغ في النحو له فيه شرح على "ألفية ابن مالك" في أربعة مجلدات دلّ على مقدرته في علم العربية؛ على أنَّا وإن كنا نعلم أنَّ للشاطبي دراية بعلم أصول الفقه على سبيل المشاركة، فلا نشك في أنَّ سلطان العلماء فيه

عديم

أمكن، وعلمه بقواعده أتم، وقواعده الكبرى خير شاهد على ذلك. وإني لأعجب من الشاطبي كيف أنكر على سلطان العلماء ذلك التقسيم ؟ ! مع أنه بناه كما قلنا على اعتبار المصالح والمفاسد التي اعتبرها الشارع في ترتيب الأحكام على وفقها ، ولم يُنكر على المالكيَّة القول بالاستصلاح الذي لم يعتبره الشارع، ولا قبله جمهور العلماء، بل أنكروه وأبوا أن يُرتبوا عليه أحكاما كما فعل المالكية؛ لعدم اعتبار الشارع له، ما القول بهذا مع إنكار ذاك إلا تعصب مذهبي ظاهر.

ولا يمكنه أن يتمسك لإنكاره بحديث: كل بدعة ضلالةٌ»؛ لأنَّ البدعة

التي هي

ضلالة

من غير استثناء هي البدعة الاعتقادية، كالمعتقدات التي

10.

مباحثات

أحدثها المعتزلة والقدرية والمرجئة ونحوهم على خلاف ما كان يعتقده السلف الصالح، فهذه هي البدعة التي هي . ضلالة؛ لأنها مفسدة لا مصلحة فيها، أما البدعة العملية بمعنى حدوث علم له تعلق بالعبادة أو غيرها لم يكن في الزمن الأول فهذا لابد فيه من التقسيم الذي ذكره عز الدين بن عبدالسلام، ولا يتأتى فيه القول بأنه ضلالةٌ على الإطلاق؛ لأنه من باب الوقائع التي تحدث على ممر الزمان والأجيال، وكل واقعة لا تخلو عن حكم الله تعالى، إما منصوص عليه، أو مستنبط بوجه من وجوه الاستنباط، والشريعة إنما صلحت لكلِّ زمانٍ ومكان، وكانت خاتمة الشرائع الإلهية وأكملها بما حوته من قواعد عامة، وضوابط كلية، مع ما أُوتيه علماؤها من قوَّة الفهم في نصوصها، ومعرفة

بالقياس والاستصحاب وأنواعهما، إلى غير ذلك مما خُصَّت به شريعتنا الغراء، ولو اتبعنا طريقة الشاطبي، وحكمنا على كل عمل حدث بعد العصر الأول بأنه بدعة ضلالة، من غير أن نعتبر ما فيه من مصلحة أو مفسدة، لزم على ذلك

إهدار جانب كبير من قواعد الشريعة وقياساتها، وتضييق لدائرتها الواسعة، وفي ذلك ما لا يخفى.

فظهر بهذا البيان الوجيز خطأ إنكار الشاطبي رحمه الله تعالى، وصواب ما

ذهب إليه عز الدين بن عبد السلام، ووافقه عليه جمهور العلماء كما قلنا. أما المتنطع فليس هناك حتى ينتصب في مصاف من يقبل البدعة أو ينكرها، وهو في إنكاره مردد صدى كلام الشاطبي ليس غيره، فهو بمنزلة البوق يردد صوت نافخه من غير أن يحصل في ذاته من ذلك الترديد وصف ثابت، إلا أنه منفوخ فيه، نسأل الله أن يُلهمنا الصواب آمين.

الرد المحكم المتين

101

ثُمَّ نقل المتنطع عن الشاطبي، عن مالك قوله: «من زعم أَنَّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلَّم ترك شيئًا مما يُقرّب إلى الله لم يُبينه، فقد اتهمه بأنه خان

الرسالة». اهـ

وأقول: في المسألة حديث مرفوع أخرجه الحاكم وغيره عن ابن مسعود، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس مِن عَمِلٍ يُقَرِّبُ مِن الجَنَّةِ إلَّا قَد أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا عَمَلٍ يُقرِّبُ إِلى النَّارِ إِلَّا وقد نهيتكم عنه، فلا يَسْتَبْطِئنَّ أحد منكم رِزْقَهُ؛ فإنَّ جبريل ألقى في رُوعِى أنَّ أحدا منكم لن يخرج مِن الدُّنيا حتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فاتقوا الله أيها النَّاس، وأجملوا في الطلب، فإن اسْتَبْطَاً أحد منكم رِزْقَهُ، فلا يَطْلُبُهُ بمَعْصِيةِ الله؛ فإنَّ اللَّهَ لَا يُنالَ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَتِهِ». وهو حديث صحيح.

وفي الصحيح من قول عائشة: مَن زَعَمَ أَنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كَتَمَ شيئًا ما أنزل الله عليه، فقد أعظم الفرية على الله تعالى»، فالعدول عن هذا - خصوصا الحديث المرفوع - إلى قول مالك يدلُّ على أنَّ المسألة ليس فيها أعلى من ذلك، مع أنَّ الواقع خلافه كما علمت؛ والعذر للمتنطع فيما فعل؛ فإنه ضيق العَطَن قصير الباع، فمن المستحيل على مثله عادةً أن يطلع على الحديث، أو يقف على قول عائشة أو غيرها من الصحابة، ولعل وقوفه على

قول مالك في "الاعتصام" - إن صح ذلك كان من أعجب المصادفات. وبعد: فليس قول مالك في محل النزاع، ولا له به ارتباط ما، وأين حديث

تبليغ الرسالة وبيان ما يُقرب إلى الله من جواز التوسل ؟! إنَّ بينهما لَبَوْنًا. ثُمَّ ليس فيمن ينتمي إلى الإسلام من يعتقد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله

١٥٢

مباحثات

وسلم كتم شيئًا من الرسالة، كيف وهم يعلمون أول ما يعلمون، أنه يجب في حق الرسل وجوبًا عقليا : الصدق والأمانة، والتبليغ؟! فالحق أنَّ الاستدلال في هذا المعنى بقول مالك عبثّ ظاهر، كالاستدلال على الشمس وهي في كبد السماء، أو على وجود النهار بوجود الضّياء.

وليس يصح في الأذْهَانِ شيءٌ إذا احتاجَ النَّهار إلى دليـــل وإن دلّ هذا الاستدلال على شيء فإنما يدلُّ على إفلاس المتنطع، وأنه ليس بيده نص في تحريم التوسل عن أحدٍ من الأئمة المعمول بكلامهم، فيعمد إلى نقل الأقوال ذات اللوازم البعيدة؛ ليتوصل بلوازمها إلى مطلوبه، فغرضه من نقل كلام الإمام مالك المذكور، التوصل إلى حرمه التوسل، ولكن بعد

مقدمات هي: أولا: أن التوسل لم يكن في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وعهد

أصحابه.

وثانيا : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يأمر به، ولا شَرعه لأُمَّته.

وثالثًا: فيلزم من ذلك أنَّ التوسل لا يُقرب إلى الله.

ورابعا: لأنه لو كان يُقرب إلى الله لبينه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وخامسا: فمن زعم أنه يُقرّب إلى الله، مع أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم

يبينه، فقد اتهمه بأنه خان الرسالة؛ لقول مالك «من زعم.... إلخ ما تقدم. ولو سلمت هذه المقدّمات، وصحَّ أنَّ لازم المذهب في اللوازم البعيدة يُعدُّ مذهبًا، تم له ما أراد من قول الإمام، ولكن هيهات، ما إلى ذلك من سبيل، والله الموفق لا رب غيره.

الرد المحكم المتين

الباب الثاني

في أدلة التوسل

١٥٣

ثُمَّ قال المتنطع الباب الثاني: في شُبَه تمسك بها طائفة من الجاهلين، وتبعهم فيها كثير من علماء المسلمين وزعموا أنها تجيز ما منعنا في الباب الأول، ونحن نبينها هنا ونردها بما لا يُدفع» . اهـ

وأقول: يتعيَّن أن يُقرأ قوله: «يَدفَع» بفتح المثناة التحتية، والفاء مبنيا للمعلوم؛ لأنَّ ما أجاب به عما سماه شُبها لم يدفع واردا، ولا اشتمل في نفسه

على معنى مُحصَّل، كما سيتبيَّن ذلك عند نقد كلامه بحول الله تعالى.

قال المتنطع: «الشبهة الأولى: قالوا: قال الله تعالى: ﴿ قُل لَّا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْنَ [الشورى: ۲۳]، وحملوا القُربى على أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما أهل بيته وأنَّ من مودتهم زيارتهم بعد موتهم، والاستشفاع بهم...». إلى أن قال: ولا شكّ أنَّ هذه الدعوى لا تتم لهم إلَّا إذا كان الخطاب المذكور في الآية لعموم الأمة، وكان معنى الآية أنه صلى الله عليه وآله وسلّم أمر أن يُبلغ الأمة أن لا يسألها أجرًا على تبليغ رسالته، إلَّا أن يَودُّوا قرابته أحياءً وأمواتا، ونحن نقول: أنَّ في الآية أقوال: أولها وهو أصحها: أنَّ الخطاب الخصوص قريش، وللكفار منهم على الأخص، الذين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى حاصروه في شِعبِ أبي طالب، ومنعوا عنه وأصحابه الزاد والماء، وكل

١٥٤

مباحثات

مساعدة، وأن المراد بالقربى هي صلة القرابة التي بينه وبينهم، وأن المعنى في ) الآية: أنَّ الله أمره أن يُبلّغ كفَّار قومه أنه لا يسألهم على تبليغ الدين أجرًا، لكنه يسألهم أن يراعوا ما بينهم وبين النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من ا الله القرابة، وأن يَودُّوهم بدل أن يُعادوهم ويؤذوهم، وهذا القول هو الذي ارتضاه البخاري في "صحيحه"، وساق حديث ابن عباس يُفسر به الآية على ما قدمناه» . اهـ

وأقول: إن تعجب فعجب من تناقض المتنطع وتلاعبه، فقد قدَّم أول كتابه أنَّ أئمة المسلمين متفقون على أصل مشهور، وهو أنَّ العبرة في التشريع بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كذب في هذا الاتفاق كما بينا - ؛ ليتوصل بذلك إلى حمل آيات المشركين على المسلمين كما فعل في الباب الأول، أما هنا حيث إن حمل الآية على العموم يُنافي غرضه ويقضي على مزاعمه، فسرعان ما نسى ذلك الاتفاق الذي اختلقه بنفسه، وخطّته أنامله الأثيمة، وادعى بكل وقاحة أنَّ الخطاب في الآية لخصوص قريش، وللكفار منهم على الأخص، مع أن حمل الآية على مودة آل البيت قال به كثير من أئمة التفسير، منهم سعيد بن جبير، سُئل عن قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَسْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى قال : قربي محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم». أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"،

وهو في "صحيح البخاري" مع رد ابن عباس عليه. ومنهم زين العابدين علي بن الحسين، فعن أبي الديلم قال: «لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنهما أسيرًا، فأُقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم وأستأصلكم، وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن

الرد المحكم المتين

١٥٥

الحسين -رضي الله عنهما : أقرأت القرآن؟ فقال: نعم، قال: أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم :قال ما قرأت قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ؟ قال : وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم». رواه ابن جرير. وأما عمرو بن شعيب، فعن أبي إسحاق السبيعي قال: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْ ، فقال : قُربى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. رواه ابن جرير أيضًا. فهؤلاء ثلاثة من ا الأئمة فسروا القُربى في الآية بآل البيت كما رأيت، ويؤيدهم في ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو نعيم، والديلمي من طريق مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: قُل لَّا أَسْتَلكُم

عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْنَ أن تحفظوني في أهل بيتي وتودُّوهم بي». فماذا يقول المتنطع بعد هذه النصوص الصريحة في حمل الآية على آل البيت

النبوي؟! أيدعي أنه أعلم بالتفسير من هؤلاء أم ماذا يفعل؟ على أننا لو سألناه ما الذي أوجب حمل الآية على الخصوص دون العموم؟ ما اهتدى إلى جواب صحيح يُخلّصه من مُخالفة الأصل الذي حكى الاتفاق عليه في أول كتابه كذبًا، فإن لجأ إلى التمسك بتفسير ابن عباس كما هو ظاهر صنيعه، بل صریح آخر كلامه، قلنا: هذا لا يُفيد. أما أولا: فلان كلام ابن عبّاس أو غيره لا يُجيز العدول عن أصل اتفق عليه أئمة المسلمين بإقرار المتنطع نفسه، أنَّ وهو العبرة بعموم

اللفظ لا

بخصوص السبب، لا سيما مع ظهور هذا الأصل هنا ومساعدة اللفظ عليه.

١٥٦

مباحثات

وأما ثانيا: فلأن غير ابن عباس خالفه في ذلك التفسير، ورأى أنَّ الآية عامة، كما قدمنا عن سعيد بن جبير، وزين العابدين، وعمرو بن شعيب، وإذا اختلفت العلماء نعني المجتهدين - فليس قول أحدهم أولى بالقبول من قول الآخر، ما لم يترجح عليه بمرجح من القواعد الأصولية، ومخالف ابن عباس هنا يترجح كلامه بأمرين: الحديث المرفوع المتقدم، وقاعدة العبرة بعموم

اللفظ.

ولئن تنازلنا مع المتنطع وسلَّمنا له أنَّ الآية خاصة بقريش، وبالكفار منهم على الأخص، وأنَّ تفسير ابن عباس هو الراجح كما ارتضاه البخاري، أتيناه بما لا قبل له على دفعه، ولا تُخلّص له منه إلَّا بقبوله، وهو الأحاديث التي تؤكد حق آل البيت، وتوجب مودتهم واحترامهم، وتدل على أنَّ المقصر في ذلك ناقص

الإيمان، قليل الدين

منها: حديث زيد بن أرقم قال : قام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يوما خطيبًا فينا بماءٍ يُدعى حما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووَعَظ ، ثُمَّ قال: «أما بعد : أيها النَّاس إنما أنا بشر يوشِكُ أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله تعالى، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثَّ على كتاب الله ورغب فيه، وقال: وأهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي، أُذكِّرُكم الله في أهل بيتي» رواه أحمد، ومسلم، والنسائي من طرق. ورواه الترمذي ولفظه: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تَضِلُّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر

الرد المحكم المتين

عترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتَّى يَردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني

فيهما»، قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب».

ورواه الترمذي أيضًا عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في حَجَّته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: «يأيها الناسُ، إني تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله،

وعترتي أهل بيتي»، قال الترمذي: «حديث حسن غريب».

وله طرق عن زيد بن ثابت عند أحمد بإسناد جيد كما قال الحافظ الهيثمي، وعن أبي هريرة عند البزار بإسناد ضعيف، وعن علي عند البزار بإسناد ضعيف أيضًا، وعن أبي سعيد الخدري عند الطبراني في "الأوسط" بإسنادٍ مختلفٍ فيه، وعن حذيفة بن أسيد عند الطبراني بإسناد ضعيف، وعن غيرهم.

ومنها حديث العباس بن عبد المطّلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُل الإيمانُ حتَّى يُحِبَّكم الله ولرسوله»، في رواية: «والله لا يَدْخُلُ قَلْبَ امرئ مسلمٍ إِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكم الله ولقرابتي»، رواهما أحمد، وإسناد الروايتين جيد، ورواه الترمذي باللفظ الثاني

وصححه.

ومنها: حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَحِبُّوا الله لما يَغْدُوكُم به مِن نِعَمِه، وأَحِبُّوني بحُبِّ الله، وأَحِبُّوا أهل بيتي

بحُبّي، رواه الترمذي وقال: «حسن غريب».

ومنها: حدیث ابن عمر قال آخر ما تكلّم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اخْلُفُوني في أهل بيتي»، رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد ضعيف.

١٥٨

مباحثات

ومنها حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: «والذي نَفْسِي ِبيَدِهِ لا يَبْغَضُنا أهل البيتِ رَجُلٌ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ». رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم.

وفي "صحيح البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: «ارقبوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته».

وفي "صحيح البخاري" أيضًا أنَّ أبا بكرٍ قال لعلي رضي الله عنهما: «والله لقرابة رسول الله صلَّى الله عليه وآل وسلَّم أحبُّ إليَّ أن أصل من قَرَابتي».

رضي

وقال عمر بن الخطاب الله عنه للعباس رضي الله عنه: «والله أسلمت كان أحبَّ إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأنَّ

لإسلامك يوم إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من إسلام

الخطاب». وقال الحافظ ابن كثير : فحال الشَّيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين» . اهـ فهذه الأحاديث وغيرها مما لم نذكره وهو بالغ حد التواتر أصرح في المقصود، وأوضح في الدلالة على المراد، فلو سلمنا أنَّ الآية خاصَّةٌ، فلنا في هذه الأحاديث كفاية وبلاغ؛ وقد صح أنَّ عمر استسقى بالعباس، وفي ذلك كما قال العلماء: إشارة إلى الاستشفاع بآل البيت، والتبرك بهم. فأين يذهب المتنطع بعد هذه الدلائل الواضحة الصريحة الصحيحة ؟!!

تالله إنه لمحجوج ومغلوب، سواءٌ ادعى خصوص الآية، أو اعترف بعمومها، هداه الله ووفقنا وإياه آمين.

الرد المحكم المتين

١٥٩٠

ثُمَّ قال المتنطع: ويدل على هذا الذي بيناه، أنَّ أصحاب المشاهد التي يزورها الجاهلون اليوم لم يكونوا موجودين عند نزول الآية ولا بعدها بسنين، وإنما وُلد لعلي بعد الهجرة أولاده وبناته، ولا نزاع بين أهل الحديث والتفسير سورة (الشورى) نزلت في أوائل ما نزل من السور قبل الهجرة بزمن

أنَّ

طويل» . اهـ

ساعة

وأقول : استدلاله بأنَّ الآية نزلت بمكة قبل وجود أولاد علي رضي ا وبناته، فتكون بسبب ذلك خاصَّةً لا تشمل أهل البيت، مما يدل على جهله وغباوته؛ لأنَّ كون الآية شاملة لأهل البيت لا يتوقف على وجودهم . نزولها، بل يكفي وجود أفرادٍ منهم كعليّ، وفاطمة رضي الله عنهما، ويسري الحكم على باقيهم، كما هو الشأن في سائر الآيات والأحاديث التي تكون عامة، ولو كان ما استدل به المتنطع صحيحًا، لزم على ذلك أن لا تحرم الزكاة إلا على المذكورين في قول القائل: علي وعبَّاسٌ عَقِيلٌ وجَعفَرُ وحمزة هــم آل النبي بلا نكر وعلى أولادهم دنية، كالحسن والحسين، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الذين كانوا موجودين حينما حُرّمت الزكاة على آل

جعفر؛ لأنَّ .

هؤلاء هم

البيت دون غيرهم، مع أنَّ الإجماع منعقد على خلاف ذلك كما يُعلم من

مراجعة كتب الأحكام. بل لو كان استدلاله صحيحًا لزم منه قصر أحكام الشريعة على الصحابة؛

لأنهم هم الدين كانوا موجودين . نزول الآيات وورود الأحاديث، فيترتب على ذلك تعطيل أحكام القرآن والأحاديث بالنسبة إلى التابعين ومن

17.

مباحثات

بعدهم إلى وقتنا هذا، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى على من له أدنى عقل

نسأل الله الهداية لنا أجمعين آمين.

ثُمَّ قال المتنطع القول الثاني: أنَّ الخطاب لعموم الأمة، وأنَّ الآية تدل على أنه يجب على كل إنسان أن يَصِلَ قرابته ورحمه، والمعنى لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا، لكن أسألكم أن تصلوا أرحامكم، وأن تودُّوا أقاربكم، وهذا القول أقوى الأقوال في الآية، لولا حديث ابن عباس . اهـ

وأقول: هذا القول الذي ادعى أنه أقوى الأقوال مختلق مكذوب، لم يقل به أحد من المفسرين فيهما نعلم، ولا هو مطابق لنظم الآية ومعناها، ولا نُبعد أن يكون المتنطع اختلقه من عند نفسه، فقد عهدناه في هذا الكتاب هجاما على القول في كتاب الله بغير علم، قوَّالًا للباطل، خوانًا في النقل عن العلماء، ولهذا صرنا نكذب ما ينقله أو يقوله، بعد أن تحققنا بكذبه وخيانته وعدم فهمه،

وسقط من أعيننا بتاتا، ولكنَّا نسأل الله لنا وله التوفيق آمين. ثم قال المتنطع القول الثالث: أنَّ هذه الآية كانت في أول الإسلام، ثُمَّ

نسخت بقوله تعالى في سورة (ص) : قُلْ مَا اسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ ص: ٨٦] أي لا أسألكم أجرًا أبدًا لا مودة قرابتي، ولا غيرها والخطاب على هذا العموم الأمة أيضًا» . اهـ وأقول: هذا القول ضعيف ساقط، لا يجوز المصير إليه، ولا الاعتماد عليه؛ لأنه مخالف لما تقرّر في علم الأصول، من أنَّ النسخ لا يُصار إليه إلَّا إذا تعارض الدليلان تعارضًا يتعذر معه الجمع بينهما بوجه من الوجوه، أو ثبت بطريق من الطرق التي يثبت بها النسخ، وهي مُبيَّنةٌ في كتب الأصول، ولا شيء

الرد المحكم المتين

١٦١

من ذلك بموجود هنا البتة، ولهذا ردَّه العلماء، قال الحافظ في "الفتح": «وزعم

بعضهم أنَّ هذه الآية منسوخةٌ ، وردَّه الثعلبي بأنَّ الآية دالة على الأمر بالتودُّد إلى الله بطاعته، أو باتباع نبيه، أو صلة رحمه بترك أذيته، أو صلة أقاربه من أجله، وكل ذلك مستمر الحكم غير منسوخ» . اهـ

وقال البغوي بعد أن نقل هذا القول عن الضَّحَّاك، والحسين بن الفضل ما نصه: «وهذا قول غير مرضي؛ لأنَّ مودَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وكفَّ الأذى عنه، ومودة أقاربه، والتقرب إلى الله بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين، وهذه أقاويل السلف في معنى الآية، فلا يجوز المصير إلى نسخ شيء من هذه الأشياء، وقوله: ﴿ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ، ليس باستثناء متصل بالأول، حتى يكون ذلك أجرًا في مقابلة أداء الرسالة، بل هو منقطع، ومعناه: ولكني أذكركم المودة في القُربى، وأذكركم قرابتي منكم، كما روينا في حديث زيد بن أرقم، «أُذَكِّرُكُمْ الله في أهل بيتي» . اهـ بحروفه. فقد تحققتَ سقوط القول بالنسخ، وأنه مخالف للمنقول، ولما تقرر في علم الأصول، ومع هذا أيَّده المتنطع بقوله: «وهذا هو اللائق بمقام المخلصين في الدعوى إلى الله، فضلا عن الرسل، فكيف وقد حكى الله عن جميع رسله أنهم

لا يسألون العباد على رسالة ربهم أجرًا، وإنما يسألون الله تعالى، كما حكى عن نوح وَيَقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَا لَّا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: ٢٩]، وعن هود: يَنقَومِ لَا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [هود: ٥١)، وكما في سورة (يس)، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَنقَوْمِ

١٦٢

مباحثات

اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ )) أَتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْتَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [يس:٢٠، ٢١] إذا كان هذا ثابتا فيمن دونه منزلةٌ من الرسل، فكيف يجوز لمسلم أن يزعم أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم يطلب أجرًا على تبليغ الرسالة، سبحانك هذا بهتان عظيم . اهـ وأقول: قد يكون هذا الكلام مُسلَّما مقبولا لو أنَّ الاستثناء في الآية كان متصلا، فتكون المودة بالقربى حينئذ مطلوبةً على أنها أجر في نظير أداء الرسالة، فيحتاج إلى ادعاء النسخ وتأييده بما ذكره المتنطع، أما والاستثناء منقطع كما تقدم في كلام البغوي، وجزم به الزَّجَّاج وغيره، فلا داعي لكلام المتنطع، لانهياره بانهيار النسخ من أصله، كما تقدَّم تقرير ذلك وتوضيحه، ويجب أن تعلم أنَّ حمل الاستثناء في الآية على الانقطاع دون الاتصال هو المتعين، وذلك

لوجوه:

الأول: أنَّ حمل الاستثناء على الانقطاع تكون الآية معه مُحكمة، لا تحتمل نسخا ولا غيره، بخلاف حمله على الاتصال، فإنه يعرض الآية لاحتمال أن تكون منسوخة كما قال به بعضهم والنسخ خلاف الأصل كما تقرر في

الأصول، ولا شكّ أنَّ ما لا يؤدّي إلى خلاف الأصل أرجح مما يؤدي إليه. الثاني: أن حمل الاستثناء على الانقطاع تكون الآية معه على حقيقتها، لا احتمال فيها للمجاز، بخلاف حمله على الاتصال، فإنه يوجب حمل الأجر على

المجاز في بعض المعاني التي فُسّرت بها الآية، والمجاز خلاف الأصل أيضًا. الثالث: أنَّ الآية نزلت بسبب كفار قريش، فلو حمل الاستثناء على الاتصال كان المعنى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يطلب منهم أجرًا على

الرد المحكم المتين

١٦٣

تبليغ الرسالة وهو باطل؛ إذ كيف يعقل أن يطلب منهم أجرًا على شيء يُكذبونه فيه، ويُجاهرون بأنه شاعر مجنون، إلى آخر الأقوال السخيفة التي

حكاها الله عنهم في القرآن، هذا مما لا يسوغ في عقل من العقول.

فتعين حمل الاستثناء على الانقطاع، ويكون المعنى حينئذ: لا أسألكم على ما أتيتكم به أجرًا قطُّ، ولكن أطلب منكم أن تودُّوني، وبالأولى لا تؤذوني، ولا تؤذوا أهل بيتي لقرابتي فيكم، فكأنه يقول: إن لم تتبعوني للنبوة، فاحفظوني للقرابة وهذا المعنى واضح لا غبار عليه، وبالجملة فالقول بالنسخ وتأييده بما ذكره المتنطع باطل، لا عبرة به، نسأل الله التوفيق آمين.

ثُمَّ قال المتنطع: «القول الرابع: ما سلكه كثير من أهل التفسير، وهو أنَّ المراد به علي وفاطمة وأولادهما، وهذا القول مع مخالفته لنزول الآية، وحديث

نقلا

ابن عباس في تفسيره لها، لا يستند إلى شيء صحيح من السنة». اهـ وأقول: هذا القول مع كونه لكثير من أهل التفسير - كما اعترف به المتنطع الحافظ عن - اللفظ لا في "الفتح" - مؤيد بقاعدة أنَّ العبرة بعموم بخصوص السبب، وهذه القاعدة نقل المتنطع الاتفاق عليها في أول كتابه وإنما خالفها هنا لغرض في نفسه كما نبهنا عليه فيما سبق، وإن كان ابن عباس حملها على الخصوص، فقد خالفه سعيد بن جبير، وزين العابدين، وعمرو بن شعيب، والسدي، حيث حملوها على آل البيت، وليس قول ابن عباس بأولى من قول هؤلاء، لا سيما مع وجود ما يُرجّح كلامهم، كما بيناه عند الكلام على القول الأول، والله الموفق. ثُمَّ قال المتنطع: «هذا خلاصة ما ذكره الحافظ في "الفتح" في تفسير الآية

١٦٤

المذكورة» . اهـ

مباحثات

وأقول: من هذا تتحقق أنَّ القول الثاني مختلق مكذوبٌ كما قلنا؛ لأنَّ المتنطع صرّح كما ترى بأنه أتى بخلاصة ما في "الفتح"، وذلك القول غير موجود فيه، فاعترف بكذبه من حيث لا يشعر، وفضح نفسه وهو لا يدري، وصدق عليه المثل العربي : صَدَقني سِنَّ بَكْرِه»، وهذا عين الخذلان، نسأل الله أن يعافينا بمنه وكرمه آمين. ثُمَّ قال المتنطع: «الشبهة الثانية: ما أخرجه الحاكم، وابن حبان وصاحب "الدر المنثور" في تفسير قوله تعالى: فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَتِ ﴾ [البقرة: ٣٧] الآية، عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه بالأكل مِن الشَّجَرَةِ، نَظَرَ فرأى مكتوبًا على باب الجنة : لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقال: اللهمَّ إِنِّي أتوسل إليك بمحمَّد وآل محمَّدٍ إِلَّا غَفَرْتَ لي خطيئتي، فقال الله عزّ وجلَّ: يا آدم، مِن أين عَلِمْتَ بمحمَّد حتّى تسألني به، فقال: نظرتُ فرأيتُ مَكْتوبًا على باب الجنَّة، فعلمتُ أنَّك لم تَقْرِن اسمك إلا بأحب الأسماء إليك فقال: قد غفرت لك». وهذا الحديث مع خُلو الكتب السبعة منه، قد صححه الحاكم على عادته في عدم المبالاة في تصحيح الموضوعات». اهـ

وأقول: في كلامه أمور:

الأول: أنه عزا الحديث لابن حبان، وهو عزو خطا، فَإِنَّ ابن حِبَّان لم يُخرج الحديث لا في "الصحيح"، ولا في "الثقات"، ولا في "الضعفاء"، وإنما أخرجه

الرد المحكم المتين

١٦٥

الطبراني في "المعجم الصغير"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي، وأبو نعيم

كلاهما في "دلائل النبوة"، وابن عساكر في "التاريخ".

من

الثاني: عزوه إخراج الحديث لصاحب "الدر المنثور"، يدل على فرط غباوته، ويُنبئ عن منتهى جهله، وذلك أنَّ صاحب "الدر المنثور" - وإن كان الحفاظ، بل هو خاتمتهم لم يكن ممن يروون الأحاديث بأسانيدهم كالبخاري، وابن حِبَّان، وأبي نعيم، وابن عساكر، وابن النجار لتأخر زمنه عن هؤلاء، مع انقطاع الرواية بالإسناد قبل وقته بمدة، كما يعلم من مراجعة كتب المصطلح، فلا يصح أن يقال : أخرج السيوطي في "الدر المنثور"، أو في "الجامع الصغير" لما علمت، نعم يصح أن يقال: خرج بتشديد الراء بناءً على اصطلاح المحدثين في الفرق بين أخرج وخرَّج، حيث يستعملون اللفظ الأول فيمن يسند، واللفظ الثاني فيمن يعزو الحديث إلى من أسنده، فيقولون أخرج الطبراني، والديلمي حديث كذا، وخرَّجه ابن حجر، أو السيوطي، أي: عزاه إلى من أخرجه، وقد يستعمل بعض المحدثين خرج بمعنى أخرج، وهو المحافظ ابن رجب في كتبه، أما استعمال أخرج مكان خرج فلم يستعمله أحد . ا منهم، بل هو جهل صريح لا يصدر إلَّا من المتنطع وأشكاله

اصطلاح

وبالله التوفيق. الثالث: قوله: «عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر»، وهذا خطأ واضح؛ لأنَّ عبدالرحمن بن زيد بن أسلم روى الحديث، عن أبيه،

عن جده، عن عمر، كما في "المستدرك" وغيره.

١٦٦

مباحثات

الرابع: أنه حرف لفظ الحديث، فزاد فيه ونقص، ونحن نذكر الحديث على أصله، حتى يُدرك ما فيه من التحريف، فعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لما اقترف آدم عليه السلام الخطية، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال: يا ربّ لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنَّك لم تُضِف إلى اسمك إلَّا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليَّ، إذ سألتني بحقه، فقد غفرت لك، لولا محمد ما خلقتك، وهو آخر الأنبياء من ذريتك».

هذا لفظ الحديث برمته، فوازنه بما ذكره المتنطع، تجد بينهما فرقًا بينا الخامس: قوله: «وهذا الحديث مع خلو الكتب السبعة منه، قد صححه الحاكم على عادته في عدم المبالاة في تصحيح الموضوعات».

منه،

ظاهر هذا الكلام، بل صريحه أنَّ العلامة الفارقة بين صحة الحديث ووضعه، هي وجوده في الكتب السبعة وعدمه؛ لأنه رتب كون هذا الحديث من الموضوعات التي يُصححها الحاكم بلا مبالاة، على خلو الكتب السبعة فينتج من هذا أنَّ كل حديث خلت منه الكتب السبعة موضوع، فإن انعكست العلامة عنده، وليس انعكاسها ببعيد من عقليته الفاسدة، لزم حينئذ أنه كل حديث وجد في الكتب السبعة ليس بموضوع، ولا شك أنَّ هذا إنما يتمشى على قاعدة هذه الطائفة المتهوسة في اختلاقهم لرد الأحاديث طرقًا لا يوافقها عقل، ولا يؤيدها نقل كما نبهنا على ذلك أول الكتاب، أما على طريقة

الرد المحكم المتين

١٦٧

العلماء من المحدثين، والأصوليين، والفقهاء، فالعلامة المذكورة فاسدة الاطراد والانعكاس، بل المدار عندهم على وجود شروط القبول وعدمه، فكل حديث استجمع شروط القبول فهو صحيح وإلا فلا، سواء أوجد في الكتب السبعة أو خارجها، وهذا هو الذي يؤيده العقل كما لا يخفى؛ إذ لا تلازم بين وضع الحديث وخلو الكتب السبعة منه، إلا في مخ مثل مع المتنطع، وفقنا الله إلى ما

فيه السداد.

السادس: ادعاؤه أنَّ الحاكم لا يُبالي في تصحيح الموضوعات، جرأة منه بالغة، يستحق عليها أن يُسل لسانه من منتهاه، حتى لا يعود إلى التقول في ساداته العلماء بمثل هذا الهراء، فإنَّ الحاكم عالم جليل، وحافظ كبير مجمع على صدقه وعدالته ومعرفته بعلم السنة، وتقدمه فيه وإمامته، كما اعترف بذلك الحافظ الذهبي وغيره من أئمة هذا الشأن، ويكفي دليلا على ذلك أنَّ الحافظ البيهقي تلميذه وخريجه وقد أكثر من الرواية عنه في كتبه إكثارًا بالغا، ولا يصفه إلا بأبي عبد الله الحافظ، فكيف يصح مع هذا أن يوصف بعدم المبالاة في عبدالله تصحيح الموضوعات، إذ لو صح وصفه بذلك، وثبت عليه لكان مجمعا على فسقه وخيانته لتعمده تصحيح نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأبى الله ذلك والمسلمون، ويظهر لي أنَّ المتنطع تخيل أنه وسط جماعة الأوباش الملتفين عليه التفاف الذباب على القمامة، يشتم هذا ويلعن ذاك، وهو شتام لعان، فحصلت منه تلك الكلمة الجريئة في حق الحاكم، وما درى أنه تهجم على مقام إمام كبير، وحافظ من حفاظ السنة النبوية خطير، بحيث لو

١٦٨

مباحثات

ادعى النبوة في أمَّةٍ مِثل المتنطع لأعجزهم أن يأتوا بمثل كتابه "المستدرك"،

ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، هدانا الله وإيَّاه آمين.

السابع: ادعاؤه أيضًا أنَّ الحاكم لا يبالي في تصحيح الموضوعات جهل منه كبير، بما حققه الحافظ فيما يُعزى من التساهل إلى الحاكم، وهو مذكور في كتب المصطلح المتداولة المعروفة، فقد جاء في تدريب الراوي" للحافظ السيوطي، عند الكلام على "المستدرك" وتساهل صاحبه، ما نصه: «قال شيخ الإسلام - الحافظ ابن حجر : وإنما وقع للحاكم التساهل لأنه سود الكتاب لينقحه، فعاجلته المنية، قال : وقد وجدتُ قريب نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من "المستدرك" إلى هنا انتهي ! الحاكم، قال: وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلَّا بطريق الإجازة، قال: والتساهل في القدر المملى قليل

يعني

بالنسبة إلى ما بعده» . اهـ

فأنت ترى أنَّ الحافظ حقق أنَّ سبب تساهل الحاكم معاجلة المنية له قبل تنقيح الكتاب، وصرّح بأنَّ التساهل في القدر المملى والمنقح قليل جدا، وهنا يحسن إنشاد البيت المشهور: إذا قالتْ حَذَامِ فصدقوها فإنَّ القـــول مــا قـالـت حَذَامِ فمن يجرؤ بعد هذا التحقيق على نسبة التساهل أو عدم المبالاة إلى الحاكم،

إلَّا أن يكون جاهلا هالكًا في الجهل مثل المتنطع، وبالله التوفيق. الثامن: على أنَّ ادعاء المتنطع أنَّ الحاكم لا يُبالي في تصحيح الموضوعات تهويل فارغ، وتهويس لا يجدي؛ وذلك لأنَّ . جميع ما في "المستدرك" من الأحاديث الموضوعة نحو مائة حديث، جمعها الحافظ الذهبي في جزء خاص

الرد المحكم المتين

١٦٩

كما قال الحافظ السيوطي، ولا شكّ أنَّ هذا العدد قليل بالنسبة إلى ضخامة كتاب "المستدرك"، وكثرة ما فيه من الأحاديث، بل حقق الحافظ الذهبي الذي لخص المستدرك أنَّ جميع ما فيه من الأحاديث الضعيفة، بما فيه من الموضوع نحو الربع، وأنَّ ثلاثة أرباعه كلها أحاديث صحيحة، إما على شرط الشيخين أو أحدهما ، أو صحيحة لا على شرط واحد منهما. قال الحافظ السيوطي في "التدريب" ما نصه: «وقال أبو سعيد الماليني: طالعت "المستدرك" الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره، فلم أرَ فيه حديثا

جملة

على شرطهما، قال الذهبي : وهذا إسرافٌ وخُلو من الماليني، وإلَّا ففيه . وافرة على شرطهما، وجملة كثيرة على شرط أحدهما، لعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده، وفيه بعض الشيء، وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات» . اهـ

هذا هو التحقيق العلمي الذي أنتجه الاطلاع والمعرفة، وهو ناطق بقلة الأحاديث الضعيفة في "المستدرك" بجانب أحاديثه الصحيحة الكثيرة، أما الأحاديث الموضوعة فقد علمت أنها أقل من القليل، وكل هذا على جهالة المتنطع وكذبه أدل دليل، وبالله التوفيق. ثُمَّ قال المتنطع: قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" في الكلام على عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: سأل رجل مالكًا بحضرة الشافعي عن عبدالرحمن بن زيد وهو مدار طريق هذا الحديث، يعني: لم يُرو من غير طريقه - فقال مالك: إذا أشكل عليكم إسناد حديث فائتوا به عبدالرحمن بن

۱۷۰

مباحثات

زيد، فإنه يُحدثكم به، عن أبيه، عن جده، عن نوح عليه الصَّلاة والسلام! وهذا أبلغ ما يقال في تكذيب الإنسان، وقال مالك رحمه الله أيضًا: إنه يروي الأحاديث المناكير، فقد روى أن سفينة نوح طافت بالبيت، وصلت ركعتين! وكما كذبه مالك بأبلغ تكذيب كذَّبه الشافعي، وأحمد بن حنبل، وعامة أئمة الحديث، حتى قال الحافظ عبد الحقِّ في الكلام على رواة الحديث: لا نعرف أحدًا من أهل العلم يحتج بحديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم؛ وقال الحافظ الذهبي في تعليقه على الحاكم صحيفة (٦١٥) جزء ثاني سطر سبعة إلى تسعة: قوله: صحيح، قلتُ : بل موضوع فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يرويه عن مجهول»، وقد أطال الحافظ في "تهذيب التهذيب" في توهين عبدالرحمن بن زيد توهينا شديدًا بما نقله عن أئمة الحديث من الطعن عليه، وهذا أخف ما نقلناه عنه، فمن أراد الزيادة فليراجعه» . اهـ كلامه

وأقول: فيه أمور:

الأول: أنَّ الحكاية التي نقلها عن مالك مقلوبة، وصوابها كما في "الميزان" وغيره، أنَّ رجلًا ذكر بحضرة مالك حديثاً، فقال: من حدثك به؟ فذكر إسنادًا منقطعا، فقال مالك : اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه،

عن نوح عليه السلام. أن هذه الحكاية لا تدل على تكذيب عبدالرحمن بن زيد كما زعم

الثاني: المتنطع، وهو كاذب في زعمه، وإنما معناها أنَّ مالكًا يرى أنَّ عبدالرحمن بن زيد ليس من المتقنين في الحديث، وأنه بلغ في الغفلة وعدم الإتقان بحيث يروي المتون بالأسانيد المنقطعة الظاهرة الإنقطاع، غير مميز بين ما يصح منها وما لا

الرد المحكم المتين

۱۷۱

يصح، هذا مراد مالك من عبارته المذكورة لا يصح غيره، والدليل عليه أنَّ أحدا لم ينسب عبدالرحمن بن زيد إلى الكذب، لا مالك ولا غيره، بل وصفوه بالعبادة والتقشف، كما سيأتي بحول الله .

و دليل آخر: وهو ما ذكره خالد بن خداش قال: قال لي الدراوردي، ومعن، وعامة أهل المدينة لا ترد عبدالرحمن، إنه كان لا يدري ما يقول، ولكن عليك بعبد الله ؛ يعني أخاه.

الغفلة

فهذا الكلام يفيد أنَّ عبدالرحمن كان معروفًا عند أهل بلده بما ذكرناه من - ة وعدم الإتقان، ولا شك أنَّ مالكًا مدني، ولعله كان فيمن أرشد خالد بن خداش كما يقتضيه ظاهر قوله، وعامة أهل المدينة، فتعين أن يكون مراده من العبارة السابقة ما ذكرناه، لا ما زعمه المتنطع .

الثالث: قوله: وقال مالك رحمه الله أيضًا: إنه يروي الأحاديث المناكير،

فقد روى أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين».اهـ هذا كذب صُرَاحٌ، فما نطق مالك بهذا الكلام، ولا نقله الحافظ في "تهذيب

ه

التهذيب" الذي نقل منه المتنطع، ولا ذكره الذهبي في "الميزان"، بل ولا نعلمه في شيء من كتب الرجال كما سيتبيَّن بعد إن شاء الله . الرابع: قوله : وكما كذَّبه مالك بأبلغ تكذيب، كذبه الشافعي وأحمد بن حنبل، وعامة أئمة الحديث».

هذا كذب أيضًا، فما كذَّب مالك عبد الرحمن، ولا كذَّبه الشافعي ولا أحمد بن حنبل، ولا أحدٌ من أئمة الحديث فضلا عن جميعهم، فلعنة الله على الكاذبين!! الخامس: قوله: حتى قال الحافظ عبدالحق في الكلام على رواة الحديث:

۱۷۲

مباحثات

لا نعلم أحدًا من أهل العلم يحتج بحديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم». هذا كذب أيضًا، فإنَّ عبد الحقِّ لم يتكلم على هذا الحديث، ولا ذكره في شيء من كتبه، وإنما هو شيء اختلقه المتنطع من قبل نفسه، ليؤيد به مذهبه، فإن أراد أن يقول: إنَّ عبد الحقِّ تكلّم على حديث آخر جاء في سنده عبدالرحمن بن زيد، فعبارته لا تساعد على ذلك ولا تفيده.

السادس : ولو فرض أنَّ ما نقله عن عبد الحق صحيح - وهو ليس بصحيح لما تبين من كذبه غير مرة - فلا يُفيد أن عبد الرحمن بن زيد كذاب، لا بدلالة مطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل غاية ما يُفيده كلام عبدالحق - إن صح - أنَّ عبدالرحمن ضعيفٌ، والضعيف لا يُحتج بحديثه كما تقرر في علم الحديث، وأين الضعف من الكذب، إنَّ بينهما لَبَوْنًا بائنا.

السابع: تبيَّن لي من نقل المتنطع لكلام عبدالحق، وإتيانه به على أنه غاية ومبالغة لما قدمه من تكذيب عامة أئمة الحديث لعبد الرحمن بن زيد، أنه - أعني : المتنطع - لا يفهم ألفاظ الجرح، ولا يُفرّق بين مراتبها، على ما هو معروف عند أهل هذا الشأن، فهو لذلك يفهم من تضعيف المحدثين لعبد الرحمن بن زيد أنهم يقصدون تكذيبه، ونسبته إلى الوضع، وما درى أنَّ الجرح مراتب متفاوتة، وأن قولهم في الراوي: ضعيف، أو لا يُحتج به، أختُ بمراحل من قولهم كذَّابٌ، أو وضاع، أو نحو ذلك من الألفاظ الشديدة في الجرح، فبرهن بذلك على ما قدَّمناه غير مرَّةٍ، من أنه - أعني المتنطع - جاهل خائن لا يُحسن شيئًا من العلم، ولا يُؤمَن - إذا نقل - على شيء منه، هداه الله . الثامن: قوله: «وقد أطال الحافظ في "تهذيب التهذيب" في توهين

الرد المحكم المتين

۱۷۳

عبدالرحمن بن زید توهيناً شديدًا ...» إلى أن قال: «وهذا أخف ما نقلناه عنه فمن أراد الزيادة فليراجعه».

هذا الكلام من المتنطع يشتمل على الكذب، وقلة الحياء، أما الكذب ففي قوله: «وهذا أخف ما نقلناه عنه»، مع أنه نقل أولا عن "تهذيب التهذيب" أنَّ مالكًا كذَّبه بأبلغ تكذيب، وكذلك الشافعي، وأحمد، وعامة أئمة الحديث وإذا كان كذلك، فبربك قل لي أيُّ شيءٍ يكون أشدُّ . من التكذيب المشتمل على تفسيق من نُسب إليه وعصيانه ؟!! اللهم إلَّا أن يكون مراده أ أن صاحب "تهذيب التهذيب" نقل عن أئمة الحديث أنهم أكفروا عبدالرحمن وحكموا بخروجه عن مِلَّة الإسلام، وبالضرورة شيء من هذا لم يحصل، فتبيَّن أنَّ المتنطع كاذب في ادعاء الأخفية، إذ لا أخف من الكذب.

وكذب آخر في كلام المتنطع، وهو أنَّ قوله: «وهذا أخف ما نقلناه عنه» يقتضي أن كلام عبد الحق موجود في تهذيب التهذيب" وليس كذلك، فانظر إلى هذه الجملة على صغرها كيف اشتملت على كذب مكرر، فيصح لنا أن نقول بحق : إنَّ المتنطع أوتي جوامع الكذب !! وأما قلة الحياء: ففي قوله: فمن أراد الزيادة فليراجعه»، حيث أحال على "تهذيب التهذيب"، وهو يعلم أنَّ في الاطلاع عليه انتهاك ستره، وافتضاح كذبه، فليس في الوقاحة وقلة الحياء أشدُّ من هذا، نسأل الله السلامة والعافية. التاسع: لقد أكثر المتنطع من الكذب في ترجمة عبدالرحمن بن زيد ونسب ذلك إلى "تهذيب التهذيب" ، فرأينا أن ننقل نصَّ الكتاب المذكور حتى تنجلي

الحقيقة، وتظهر ناصعة ساطعة، فما غرضنا إلا ذلك، والله الموفق.

١٧٤

مباحثات

حجر

ما نصه: «عبدالرحمن بن

جاء في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن . زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني، روى عن أبيه، وابن المنكدر، وصفوان بن سليم، وأبي حازم سلمة بن دينار، وعنه ابن وهب، وعبدالرازق، ووكيع، والوليد بن مسلم، وابن عيينة، وعيسى غنجار، وهارون بن صالح الطلحي، ووهب بن سعيد بن عطية السلمي، وأبو مصعب الزبيري، وسويد بن سعيد الحدثاني، ومحمد بن عبيد المحاربي، وعيسى بن حماد زغبة، وآخرون، وروى عنه مالك بن مغول، ويونس بن عبيد، وهما أكبر منه وزهير بن محمد التيمي، ومرحوم بن عبدالعزيز العطار، وهما من أقرانه.

قال أبو طالب عن أحمد: ضعيفٌ، وقال أبو حاتم: سألت أحمد عن أولاد زيد أيهم أحبُّ إليك؟ قال: أسامة، قلت: ثُمَّ مَن؟ قال: عبدالله، ثُمَّ ذكر عبدالرحمن، وضجع في عبد الرحمن ، وقال الميموني عن أحمد عبد الله أثبت من عبد الرحمن، قلت فعبد الرحمن؟ قال: كذا ليس مثله، وضعف أمره قليلا، وقال عبدالله بن أحمد: سمعت أبي يُضعف عبد الرحمن، وقال: روى حديثا منكرًا: «أُحلَّتْ لنا ميتتان ودمان»(۱)، وقال عمرو بن علي هو الفلاس- لم أسمع عبدالرحمن - وهو ابن مهدي - يُحدِّث عنه ، وقال الدوري عن ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال البخاري، وأبو حاتم ضعفه علي بن المديني جدًّا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيفٌ، وأمثلهم عبدالله، وقال أيضا: أنا لا أحدث ، عن عبدالرحمن وعبد الله أمثل منه، وقال النسائي: ضعيف، قال ابن عبد الحكم: سمعتُ الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثا منقطعًا، فقال:

(1) على أن هذا الحديث حسن، كما يعلم بالوقوف على طرقه.

الرد المحكم المتين

اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يُحدثك عن أبيه عن نوح، وقال خالد بن خداش : قال لي الدراوردي، ومعن، وعامة أهل المدينة : لا ترد عبدالرحمن، إنه كان لا ما يدري يقول، ولكن عليك بعبد الله، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا، وقال في موضع آخر: هو أحبُّ إليَّ من ابن أبي الرجال، وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وهو ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم، وهو ممن يُكتب حديثه، قال البخاري: قال لي إبراهيم بن حمزة: مات سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقلت: وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفًا جدا، وقال ابن خزيمة ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه، هو رجل صناعته العبادة والتقشف، وليس من الحديث، وقال الساجي: ثنا الربيع، ثنا الشافعي قال : قيل لعبد الرحمن بن زيد، حدثك أبوك، عن . جدك، أنَّ . رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إِنَّ طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين؟ قال: نعم، قال

سفينة

نوح

أحلاس

الساجي: وهو منكر الحديث، وقال الطحاوي: حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف وقال الحربي: غيره أوثق منه، وقال الجوزجاني: أولاد زيد ضعفاء، وقال الحاكم، وأبو نعيم: روى عن أبيه

أحاديث موضوعةً، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه». اهـ فهذه الترجمة منقولةٌ من "تهذيب التهذيب" كما هي، لم تنقص منها حرفا واحدا، وهي على كثرة ما فيها من نصوص التضعيف، ليس فيها نص يفيد

١٧٦

مباحثات

تكذيب عبدالرحمن ونسبته إلى الوضع بل فيها على العكس نصوص تصفه بالصلاح، والصدق، والعبادة، والتقشف، وأنَّ ضعفه أتى من قبل سوء حفظه وغفلته، فأين يذهب المتنطع، وماذا يقول؟!

فإن تعلَّق بحديث السفينة الذي ذكره الشافعي، فلا متعلق له فيه؛ وذلك

.

عن

جده

لأنَّ هذا الحديث رواه عبدالرحمن بن زيد بإسناد منقطع، عن أبيه، ع مرفوعا، وبين النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وبين جده مفاوز تنقطع دونها أعناق الإبل، فلا شك أنَّ الحديث اختلقه كاذب في فترة هذا الانقطاع الكبير،

ووقع إلى عبدالرحمن بن زيد فرواه كما سمعه، غير مدرك ما فيه من الانقطاع ونكارة المعنى، وهكذا شأن الصالحين القليلي المعرفة بالحديث، يروون أحاديث موضوعةً بحسن نية منهم غير قاصدين وضعها كما بين ذلك بأمثلته في كتب المصطلح، نعم لو أن عبد الرحمن بن زيد روى حديث طواف السفينة بإسناد متصل رجاله ثقات على شرط الصحيح، لتعين الحمل فيه عليه ويكون هو المتهم بوضعه دون غيره، كما هي القاعدة عن المحدثين، أما والحديث مروي بإسناد منقطع، فليس من المعقول أن يتهم به عبدالرحمن، بل ولا يُعاب بروايته إلا من حيث غفلته ورواج الحديث عليه مع : نكارة معناه، وكذلك قول الحاكم، وأبي نعيم روى عن أبيه أحاديث موضوعةً، معناه أيضًا: أنه رواها وراجت عليه من غير أن يقصد وضعها، وعبارتهما تفيد ذلك، إذ لو أرادا أن يصفاه بالكذب والوضع لقالا : وضع على أبيه أحاديث كما هي عادتهم فيمن يصفونه بالكذب والوضع، وهذا ظاهر لمن سَبَر كتب الرجال،

الرد المحكم المتين

۱۷۷

وخبر اصطلاح أهلها، ولما ذكر الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" حديث: «أَعْطُوا الأجيرَ أَجْرَهُ، قبل أن يَجفَّ عَرَفَهُ»، قال عقبه ما نصه: «رواه ابن ماجه من رواية عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وقد وثق، قال ابن عدي: أحاديثه حسان وهو من احتمله النَّاس، وصدقه بعضهم، وهو ممن يُكتب

حديثه . اهـ

فظهر أن ليس أحد من أهل الحديث كذَّب عبدالرحمن بن زيد، بل المتنطع

هو الذي كذب وافترى، فعليه إثم كذبه جزاء وفاقًا.

العاشر: أنَّ عبدالرحمن بن زيد بن أسلم - رغم ما أطال به المتنطع في ترجمته من الكذب والتحريف في النقول - هو ضعيفٌ فقط، لا أقل ولا أكثر، والدليل على ذلك أنَّ الحافظ ابن حجر الذي ترجمه في "تهذيب التهذيب" بما نقلناه آنفا، ال ترجمه أيضًا في "تقريب التهذيب" فقال ما نصه: «عبدالرحمن بن زيد بن أسلم

العدوي مولاهم ضعيفٌ من الثامنة، مات سنة اثنتين وثمانين». اهـ بلفظه . وقد قال في خطبة "التقريب" إنه يحكم على كل شخص من الرواة المذكورين فيه بحكم يشمل أصح ما قيل فيه، وأعدل ما وصف به، بالخص عبارة، وأخلص إشارة. فينتج من هذين النصين أنَّ أصح حكم قيل في عبدالرحمن وأعدل وصف وُصِفَ به، أنه ضعيفٌ فقط كما قلنا، وناهيك بهذا الحافظ ابن حجر الذي لم يُصدره إلا بعد استيعاب النصوص

الحكم من والموازنة بينها، فهو رجل الفن وطبيب علله وأمير جيوشه، إذا قال صدق وإذا حَكَم عَدل، ولهذا اقتصر الخزرجي في الخلاصة على التضعيف، فقال ما نصه:

۱۷۸

مباحثات

عبدالرحمن بن زيد بن أسلم المدني، عن أبيه، وعنه وكيع، وابن وهب، وقتيبة، وخلق، ضعفه أحمد وابن المديني، والنسائي، وغيرهم، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة» . اهـ بلفظه

ولعلَّ الدَّهَشَ والعجب يستوليان عليك إذا علمت أنَّ الذهبي أيضًا اقتصر على تضعيفه، حيث قال في "الميزان" ما نصه: «عبدالرحمن بن زید بن أسلم العمري مولاهم المدني، أخو أسامة، وعبدالله، قال أبو يعلى الموصلي: سمعت يحيى بن معين يقول : بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء، وروى عثمان الدارمي، عن يحيى بن معين يقول: بنو زيد ضعفاء، وقال البخاري: عبدالرحمن ضعفه علي جدًّا، وقال النسائي: ضعيف، وقال أحمد: عبدالله ثقة، والآخران ضعيفان، ثُمَّ ذكر له أحاديث، منها حديث السفينة ذكره موقوفا على أسلم غير مرفوع، وهذا يُبيّن أنه لم يثبت عن عبدالرحمن رفعه، والظاهر أنَّ به عن الإسرائيليات، فإن فيها من مثل هذه المناكير الشيء

أسلم حدث.

الكثير». هذا حاصل ما في "الميزان" ، وهو لا يفيد أكثر من التضعيف الذي حكم به الحافظ كما تقدم، وبالله التوفيق.

الحادي عشر : قوله في نقل كلام الذهبي فيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم يرويه عن مجهول.

هذا كذب على الذهبي وتحريف لكلامه، وكيف يقول الذهبي هذا الكلام وهو يعلم أن عبدالرحمن يروي الحديث عن أبيه، ويعلم أنَّ أباه زيدًا ثقة

الرد المحكم المتين

۱۷۹

معروف من رجال الستة، وأيم الله إنَّ هذا الكذب من المتنطع مكشوف لا يَرُوج إلا على مثله، وستأتيك عبارة الذهبي على وجهها لتتحقق من قراءتها بما قلناه إن شاء الله .

الثاني عشر : أن حديث توسل آدم ليس بموضوع، رغم ما أطال به المتنطع من التهويش، والكذب، والتحريف في كلام الحفاظ، فإن تشوقت نفسك إلى معرفة الدليل على صحة ما نقول، فأصخ سمعك واحفظ ما يلقى إليك، فهو الدواء الناجح، يمحو إن شاء الله ما أصاب القلب والعقل من داء جهالة المتنطع وسخافته، وكذبه وسفاهته، والله الموفق لا رب غيره. قال الحاكم في "المستدرك": حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل: حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري : حدثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأ عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لَّا اقْتَرَفَ آدمُ الخَطِيئَةَ قال: يا رَبِّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ محمد لما غَفَرْتَ لي فقال الله يا آدم، وكيف عَرَفْتَ محمَّدًا ولم أَخْلُقُهُ؟ قال: يا ربِّ، لأنَّك لما خَلَقْتَني بِيَدِكَ ونَفَخْتَ فِيَّ مِن رُوحِكَ رَفَعْتُ رأسي فرأيتُ على قوائم العرشِ مَكْتُوبًا لا إله إلَّا الله محمَّدٌ رسولُ الله فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لم تُضِف إلى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الخَلْقِ إليك، فقال الله : صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأُحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ

ادْعُني بحَقِّهِ فقد غَفَرْتُ لك، ولولا محمد ما خَلَقْتُكَ».

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرتـه

۱۸۰

مباحثات

لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب».

فكتب الحافظ الذهبي على قوله صحيح ما نصه: «قلت: بل موضوع؟ عبدالرحمن: واءٍ، قال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته له في هذا الكتاب، قلت: رواه عبد الله بن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا، عن إسماعيل بن

مسلمة عنه» . اهـ بلفظه .

وأقول: لقد تعالى كل من هذين الحافظين الجليلين، وحكما على الحديث بما

لا يُسلَّم، والإنصاف خلاف قولهما معا، فالحديث ليس كما قال بصحيح الحاكم، ولا بموضوع كما قال الذهبي. أما أنه ليس بصحيح فظاهر؛ لأنَّ عبدالرحمن بن زيدا عبدالرحمن بن زيد ليس من شرط

الصحيح، وأما أنه ليس بموضوع فلوجوه: الأول: أنَّ عبدالرحمن بن زيد، ليس بكذَّابٍ ولا متهم، وإنما هو ضعيفٌ فقط، والقاعدة عندهم أنَّ الحديث لا يُحكم بوضعه بمجرد كونه من رواية ضعيف أو ضعيفين، بل لابد أن توجد فيه قرائن تدل على الوضع كنكارة المعنى، أو مخالفة الحديث لأحاديث مجزوم بصحتها على وجه يتعذر الجمع

بينهما، أو نحو ذلك.

وهذا الحديث لا نكارة فيه ولا مخالفة، وأيُّ نكارة في أن يُكرم الله نبيه وأحب الخلق إليه بهذه الكرامة، وقد أكرمه بغيرها من الكرامات التي لا تُحصى، فجلعه نبيا وآدم بين الماء والطين وأخذ العهد على جميع الرسل والأنبياء أنه إن ظهر في حياتهم أن يؤمنوا به وينصروه، وخصه بالشفاعة

الرد المحكم المتين

۱۸۱

العظمى التي لا يُشركه فيها نبي مرسل ولا مَلَكٌ مُقَرَّبِّ، زيادة على ما له من الشفاعات، ورفع ذكره فلا يُذكر الله إلا ذكر نبيه معه، فليس في الحديث والحالة هذه نكارة ولا مخالفة، فأَنَّى يكون موضوعا.

الثاني: أنَّ عبدالرحمن بن زيد روى له الإمام أحمد في "المسند"، وهذا دليل على أنه أعني عبدالرحمن - لم يصل في الضعف إلى حد أن يكون حديثه موضوعا؛ لأنَّ أحمد لم يرو في "المسند" على كبره حديثاً موضوعًا، وإن كان ابن الجوزي قد ذكر في كتاب "الموضوعات" أحاديث منه ذوات عددٍ، فقد ردَّ عليه الحافظ وانتدب للدفاع عنه في كتاب خاص سماه: "القول المسدَّد في الذَّب عن المسند للإمام أحمد" قال في مقدّمته ما نصه: «أما بعد: فقد رأيتُ أن أذكر في هذه الأوراق ما حضرني من الكلام على الأحاديث التي زعم بعض أهل الحديث أنها موضوعةٌ، وهي في "المسند الشهير" للإمام الكبير أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، إمام أهل الحديث في القديم والحديث، والمطلع على خفاياه، المثير لخباياه، عصبيةً مِنّي لا تخل بدين ولا مروءة، وحَمِيَّةٌ للسنة لا تُعدُّ بحمد الله من حَمِيَّة الجاهلية، بل هي ذب عن هذا المصنف العظيم، الذي تلقته الأمة بالقبول والتكريم، وجعله إمامهم حُجَّةً يُرجع إليه، ويُعوّل عند الاختلاف

عليه . اهـ

وقال في "تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأربعة": «ليس في المسند حديث لا أصل له، إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة منها حديث عبدالرحمن بن عوف أنه

يدخل الجنة زحفًا، قال: والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك

۱۸۲

مباحثات

سهوا، أو ضُرِب وكتب من تحت الضرب». اهـ قلت: قد ذكر في "القول السدو"

شواهد لحديث عبدالرحمن بن عوف

بعضها قوي الإسناد، وذكر الحافظ المنذري في "الترغيب" أنَّ له طرقًا عن جماعة من الصحابة، لا يخلو أجودها من مقال.

وقال الحافظ ابن كثير: لا يوازي "مسند أحمد" كتابٌ مُسنَدٌ في كثرته وحُسن سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جدا» . اهـ

والمقصود أنَّ "المسند" عظيم القدر عند ا عظيم القدر عند الحفاظ، حتى لقد نص الحافظ في تجريد زوائد "مسند البزار"، أنَّ الحديث إذا كان فيه، لا يُعزى إلى غيره من المسانيد اكتفاء عنها به، وإذا كان كذلك فرواية أحمد لعبد الرحمن بن زيد في "المسند"، الذي هذا حاله ،ووصفه، دليل على أن حديثه لا ينحط إلى درجة

الموضوع. الثالث: أنَّ

حديث توسل آدم عليه السّلام، رواه البيهقي في "دلائل النبوة"، وهو ملتزم أن لا يُخرّج في كتابه حديثاً يعلم أنه موضوع، كما نص عليه الحافظ السيوطي في كتاب التوحيد، من "اللآليء المصنوعة"، ردًّا على ابن الجوزي، حيث حكم بوضع حديث أورده من طريق ابن شاهين، وهو عند

البيهقي في "الأسماء والصفات".

الرابع:

أنَّ البيهقي ذكر في مقدمة كتابه "الدلائل"، ما يفيد قبول الأحاديث التي يرويها في هذا الكتاب وهي ضعيفة، ونحن ننقل عبارته بنصها

لتتيقن صحة ما ذكرناه.

قال البيهقي في مقدَّمة "دلائل النبوة" ما نصه: «ويعلم أنَّ كلَّ حديث

الرد المحكم المتين

۱۸۳

أوردته فيه، قد أردفته بما يشير إلى صحته، أو تركته مهملا وهو مقبول في مثل ما أخرجته، وما عسى أوردته بإسنادٍ فيه ضعف أشرت إلى ضعفه، وجعلت الاعتماد على غيره، وقد صنف جماعةٌ من المتأخرين في المعجزات وغيرها كتبا، وأوردوا فيها أخبارًا كثيرةً من غير تمييز منهم صحيحها من سقيمها، ولا مشهورها من غريبها ، ولا مرويها من موضوعها، حتى أنزلها من حَسُنت نيته في قبول الأخبار منزلةً واحدةً في القبول وأنزلها من ساءت عقيدته في قبولها منزلةً واحدةً في الرد، وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع، الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، ولا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مَعْمَرًا فيما اعتمد عليه أهل السنة من الآثار...» إلى أن قال: ومن وقف على تمييزي في كتبي بين الأخبار وسقيمها، وساعده التوفيق علم صدقي فيما ذكرته، ومن لم ينعم النظر في ذلك، ولم يُساعده التوفيق، فلا يُغنيه شرحي لذلك وإن أكثرت، ولا إيضاحي له وإن أبلغت كما قال الله عز وجل: وَمَا تُغْنِي الْأَيْتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا

صحيح

يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: ١٠١] . اهـ بلفظه.

وكأنَّ البيهقي رحمه الله يعني بأهل البدع الذين زاغت قلوبهم عن قبول الأخبار: المتنطع وأشكاله، فإنهم ردُّوا جمهرة من الأحاديث بمجرد مخالفتها لهواهم، واشترطوا لقبول الأخبار شروطًا ما أنزل الله بها من سلطان كما قدمنا بيانه في أول هذا الكتاب أتم بيان.

١٨٤

مباحثات

ولقد بلغني عن شيخهم وداعيتهم الشَّيخ رشيد رضا، أنَّ بعض المجددين من الملحدين عرض عليه رأيا كان يحبُّ أن يُفرده بمؤلف، وذلك الرأي هو الاقتصار على القرآن دون السنة في التشريع وغيره، فوافقه الشيخ عليه، وهذه الموافقة إن صحت تدلُّ على الانسلاخ من الدين، والخروج عن جملة المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.

وقال البيهقي أيضًا بعد مقدَّمة "الدلائل" التي نقلنا منها العبارة السابقة، ما نص المراد منه: «أما بعد: فلما فرغت بعون الله وحُسن توفيقه من تخريج الأخبار الواردة في الأسماء والصفات والرؤية والإيمان، والقدر، وعذاب القبر، وأشراط الساعة والبعث والنشور والميزان والحساب، والصراط والحوض، والشفاعة، والجنَّة والنَّار، وغير ذلك مما يتعلق بالأصول وتمييزها، أردتُ والمشيئة الله أن أجمع بعض ما بلغنا من معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل نبوته فاستخرت الله عز وجل في الابتداء بما أردته، واستعنت به على إتمام ما قصدته، على نحو ما شرطته في مصنفاتي من الاكتفاء بالصحيح من السقيم، والاجتزاء بالمعروف من الغريب، إلا فيما لا يتضح المراد من الصحيح أو المعروف دونه، فأورده والاعتماد على جملة ما تقدمه من

الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ» . اهـ باختصار يسير. وقال أيضًا في أواخر "الدلائل"، في باب ما يُستدل به على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يستخلف أحدًا بعينه في أمر أمته، بعد أن ذكر حديثا في وصيَّة على، وأشار إلى أنه حديث طويل في الرغائب والآداب ما نصه: «وهو

الرد المحكم المتين

حديث موضوع، وقد شرطت في أول الكتاب أن لا أُخرج في هذا الكتاب

حديثا أعلمه موضوعا» . اهـ بلفظه .

فمن هذه النصوص تعلم قدر "كتاب دلائل النبوة" خصوصا، وسائر كتب البيهقي عموما، وأنه لا يروي فيها الموضوع أصلا، وإنما يروي الضعيف مع الإشارة إليه، أو إهمالها مع الاعتماد على صحيح غيره، أو لكون الضعيف مقبولاً في مثل ما رواه فيه كما قال، أو لغير ذلك مما بينه، فروايته لحديث توسل آدم عليه السلام والحالة هذه، دليل على أنه ليس بموضوع. الخامس: أنَّ البيهقي اقتصر على تضعيف الحديث فقط، فإنه قال في «باب ما جاء في تحدث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بنعمة ربه عزَّ وجل لقول الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِتْ ﴾ [الضحى: ١١] من كتاب "الدلائل" ما نصه: حدثنا أبو عبدالله الحافظ إملاء وقراءةً، قال: حدثنا أبو سعيد عمرو بن بن بن منصور العدل إملاء، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري بمصر - قال أبو الحسن: هذا من رَهْط أبي عبيدة بن الجراح قال: أخبرنا إسماعيل بن مسلمة، قال: أخبرنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. وذكر الحديث كما تقدم، ثُمَّ قال: تفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه، وهو ضعيف . اهـ بلفظه من نسخة عتيقة صحيحة، عليها خط الجمال يوسف بن

محمد

محمد

عبدالهادي، والعلامة مغلطاي، والحافظ السيوطي.

١٨٦

مباحثات

وهذا نص صريح من الحافظ البيهقي بضعف الحديث يؤيد ما ادعيناه،

وبالله التوفيق.

السادس: أنَّ الحديث أعني : حديث توسل آدم عليه السلام- له شاهد يؤيده، فقد أخرج ابن المنذر في "تفسيره" عن محمد بن علي بن حسين بن علي عليهم السلام قال: لما أصاب آدم الخطيئة عَظُم كربه، واشتدَّ ندمه، فجاءه جبريل عليه السَّلام فقال: «يا آدم، هل أدلك على بابِ تَوْبَتِكَ الذي يتوبُ اللهُ عليك منه؟ قال: بلى يا جبريل، قال: قُمْ في مَقامِكَ الذي تُناجي فيه ربَّكَ، فَمَجدُهُ وامدح فليس شيء أحب إلى الله من المدح، قال: فأقول ماذا يا جبريل؟ قال: فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحَمْدُ، يُحيي ويُمِيتُ، وهو حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخير كله وهو على كلّ شيءٍ قدير، ثُمَّ تَبوء بخَطِيئَتِكَ فتقول: سُبْحانَكَ اللهم وبحَمْدِكَ، لا إله إلَّا أَنتَ، رَبِّ إِنِّي ظلمتُ نَفْسِي، وَعَمِلْتُ السُّوء، فاغْفِرْ لي إنه لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا أَنتَ اللهم إني أسألك بجاه محمَّدٍ عَبْدِكَ، وكرامَتِهِ عليك أن تَغْفِرَ لي خَطيئتي»، قال: ففعل آدم، فقال الله: «يا آدم من علمك هذا؟ فقال: يا ربِّ إنك لما نفخت في الرُّوحَ، فقمتُ بَشَرًا سَوِيًّا أَسْمَعُ وأبصر وأعقل وأنظر، رأيت على ساق عرشك مكتوبا: الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله، فلما لم أرَ على أثر اسمك اسم ملَكِ مُقرَّب ولا نبيٌّ مُرسل غير اسْمِهِ، عَلْمْتُ أَنه أكرم خَلْقِكَ عليك، قال: صَدَقت، وقد تُبْتُ عليك وغَفَرْتُ لك».

بسم

الله الرحمن

محمد بن علي بن الحسين هو أبو جعفر الباقر، من ثقات التابعين وساداتهم، خرج له الستة، روى عن جابر، وأبي سعيد، وابن عمر وغيرهم.

الرد المحكم المتين

عمرو:

۱۸۷

ثُم وجدتُ له شاهدًا آخر مرفوعًا، فروى ابن الجوزي في كتاب "الوفا بفضائل المصطفى" من طريق أبي الحسين بن بشران: حدثنا أبو جعفر محمد بن حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح: ثنا محمد بن صالح: ثنا محمد بن سنان العَوَقِيُّ : ثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة، عن عبدالله بن شَقِيقٍ، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله متى كنتَ نبيًّا؟ قال: «لما خَلَقَ اللهُ الأرض، واستوى إلى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَواتِ، وخَلَقَ العَرْشَ، كتب على ساقِ العَرْشِ محمَّدٌ رسولُ الله خاتم الأنبياء؛ وخَلَقَ اللهُ الجنَّةِ التي أَسْكَنَهَا آدَمَ : وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وآدم بين الرُّوحِ والجسد، فلما أحياه الله تعالى نَظَرَ إلى العَرْشِ فرأى اسْمِي، فأخبره اللهُ أَنه سَيِّدُ وَلَدِكَ، فلما غَرَّهما الشيطانُ تابا واسْتَشْفَعا باسْمِي إليه». إسناد هذا الحديث قوي (١) وهو أقوى شاهد وقفت عليه الحديث عبدالرحمن بن زيد.

وفي الباب ما رواه أبو بكر الآجُرِّيُّ في كتاب "الشريعة" قال: ثنا هارون بن يوسف التاجر : ثنا أبو مروان العثماني: حدثني أبو عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أنه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم، قال: «اللهم إني أسألك بحَقِّ محمَّدٍ عليك، قال الله تعالى: وما يدريك ما محمد؟ قال: يا رب رفعتُ رأسي فرأيتُ مكتوبا على عرشك لا إله إلَّا الله محمد رسول الله، فعلمتُ أنه أكرمُ خَلْقِكَ».

فانضمام هذا الأثر إلى حديث عبد الرحمن بن زيد يُفيده قوَّةً كما لا يخفى.

(۱) كما قال الحافظ في "الفتح" وغيره.

۱۸۸

مباحثات

أما قوله في الحديث: «الولاه يا آدم ما خَلَقْتُكَ»، فقد أخرج الحاكم نفسه شاهدا له عن ابن عباس، فقال: حدثنا علي بن حمشاذ العدل: حدثنا هارون بن ا العباس الهاشمي: حدثنا جندل بن والق: حدثنا عمرو بن أوس الأنصاري: حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى عيسى عليه السَّلام: يا عيسى آمِن بمحمَّدٍ وَأَمر مَن أَدْرَكَهُ مِن أُمَّتِكَ أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خَلَقْتُ آدم، ولولاه ما خَلَقْتُ الجنَّةَ والنَّارَ ، لقد خَلَقْتُ العَرْشَ على الماءِ فاضْطَرَبَ فكتبتُ عليه لا إله إِلَّا الله محمد رسول الله فَسَكَنْ». قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد»، فكتب عليه الذهبي ما نصه: «أظنُّه موضوعا على سعيد» . اهـ

ولا يخفى أنَّ هذا الظَّنَّ من الذهبي لم يقم عليه دليل، فلا اعتداد به، كيف

وقد ورد من طريق آخر عن ابن عباس مرفوعا ؟! قال الديلمي في "مسند الفردوس": أخبرنا أبي: ثنا أبو طالب بن على بن

الحسين: ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا محمد بن إبراهيم البزار: ثنا عبدالله بن إسحاق المدائني : ثنا محمد بن بشار : حدثنا عبيد الله بن موسى القرشي : ثنا الفضل بن جعفر بن سليمان، عن عبدالصمد بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا: «أتاني جبريل فقال: يا محمد إِنَّ الله يقول: لولاك ما خَلَقْتُ الجنَّة، ولولاك ما خَلَقْتُ النَّارَ». وعبد الصمد ضعفه العقيلي، وقال: حديثه غير محفوظ. والمقصود أن حديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قصة توسل آدم عليه

السلام ليس بموضوع، ولا تسمح القواعد الحديثية أن يكون موضوعا

الرد المحكم المتين

۱۸۹

للوجوه التي ذكرناها خلافًا للذهبي - رحمه الله تعالى، فإنه تشدد كثيرًا، كما أنَّ الحاكم تساهل فيه كثيرًا، والصواب أنَّ الحديث ضعيفٌ مُنجَبِر بحديث ميسرة الفجر، وهو حديث قوي كما سبق آنفًا، وبأثر الباقر وغيره ( رضي الله عنهم. ثُمَّ مما يجب التنبه له: أنَّ قول الحافظ الذهبي عن الحديث: رواه عبدالله بن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا؟ إن كان غرضه بهذا إعلال الحديث بجهالة بن مسلم فلا معنى لهذا الإعلال؛ إذ الحديث معروف بعبدالرحمن بن زيد على أنَّ عبدالله بن مسلم الفهري معروف، إذ قد تقدَّم في ذكر سند البيهقي في الوجه الخامس : أنَّ ابن إسحاق بن راهويه يروي عنه الحديث بمصر، وأخبر أنه من رهط أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وهذا تعريف له

عبدالله

في الجملة.

وقد وجدتُ له متابعًا عن عبد الرحمن بن زيد؛ قال الطبراني في "المعجم الصغير": ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري: ثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري : ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني، عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر ، فذكر الحديث كما تقدَّم وزاد فيه: «أنه آخر النبيين من ذريتك، وأنَّ أمته آخر الأمم من ذريتك»، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" من طريق عبدالله بن إسماعيل ابن أبي مريم، عن عبدالرحمن بن

زید، به نحوه، لكن وقفه على عمر ، والموقوف في هذا الباب له حكم المرفوع، والله ولي التوفيق.

(۱) وبذلك يكون حديث توسل آدم حسنًا لغيره، فيُحتج به بلا نزاع.

۱۹۰

مباحثات

ثُمَّ قال المتنطع: «الشبهة الثالثة: وهي أقوى الشبه، ما أخرجه الترمذي عن

و

عثمان بن حُنَيْفٍ - رضي الله عنه - وحسّنه، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كُفَّ بصره، فقال له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن شئتَ احتسبت عند الله، وإن شئتَ دعوتُ لك فرَدَّ اللهُ بَصَرَكَ»، فقال عثمان رضي الله عنه: أُحبُّ أن يُردَّ عليَّ بصري يا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قم فتوضأ وصَلَّ ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة أن ترد عليَّ بَصَري» ، ثُمَّ قام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فتوضأ وصلى ركعتين، ثُمَّ دعا له فردَّ الله عليه بصره». انتهي ما رواه الترمذي، وأما الزيادة التي بعد ذلك المنسوبة إلى عثمان بن حنيف أنه علم رجلًا آخر في عهد عثمان بن عفان الله عنه، : فإنَّ عثمان كان لا يسمع له شكواه ولا يقضي حاجته، فلا فعل ما علمه عثمان بن حنيف قضى له عثمان بن . عفان حاجته هذه الزيادة كلُّها مكذوبةٌ يُكذِّبها من أساسها أنَّ عثمان بن عفان لو فعل ذلك مع أحدٍ من الناس لكان ظالماً ، وقد خلت منها كتب السنة كلُّها».اهـ وأقول: في كلامه أمور:

وقد

رضي

الأول: قوله: «إنَّ عثمان بن حنيف جاء إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم . كُفَّ بصره صريح في أنه كان أعمى، ورُدَّ إليه بصره بالدعاء المذكور في الحديث، وهو تحريفٌ في رواية الحديث، ناشئ عن عدم الاطلاع على الكتب الحديثية الميسورة التي لا يجمل بالمتعلّم أن يجهلها، فضلا عمن يدعي أنه من العلماء المسئولين عند الله على تبليغ العلم!! فإن كان هذا هو العلم الذي سيسأل المتنطع عن تبليغه، فتبا له من علم وتبا لصاحبه، وخير للرجل أن

الرد المحكم المتين

۱۹۱

يعيش جاهلا موفور الكرامة، من أن يكون عالما منتهك السَّتْر كالمتنطع، فلو أنه رجع إلى "جامع الترمذي" وهو مع كونه مطبوعا متداولا- أحد الكتب الستة التي بلغت في الشهرة والذيوع، بحيث لا يجهلها العوام والجهلة، لعلم أن عثمان بن حُنيفٍ -رضي الله عنه - إنما روى قصة الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يشكو إليه ذهاب بصره، ولم يكن هو أعمى قط، وإنما نسبة العمى إليه من عماية المتنطع .

الثاني: أنه حرف الحديث فزاد فيه ونقص منه، كما سيتبين بعد إن شاء الله،

وليس هذا من الرواية بالمعنى، بل هو تحريف من جهل المتنطع.

الثالث: قوله: «ثُمَّ قام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فتوضأ وصلَّى ركعتين.. إلخ. صريح في أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فعل الوضوء والصلاة والدعاء، وهذا كذب قبيح يوجب لصاحبه مقعدًا في جهنم، كما في الحديث المتواتر، فليس في شيء من طرق هذا الحديث وألفاظه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم توضأ وصلَّى ودعا، وإنما الموجود المعروف أن الأعمى فعل ذلك فرد الله عليه بصره.

الرابع: أنَّ المتنطع إنما نسب إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه توضأ وصلى ودعا؛ ليتأتّى له أن يقول في الجواب : أنَّ هذا التوسل كان بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فيكون خاصا بحال حياته، كما أشار إليه في الوجه الأول من أجوبته الساقطة، ولكن هذا كذب قبيح كما قدَّمناه ، وهو مع ذ خيانة في نقل أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وتبا لرأي ينبني على الكذب والخيانة، وتالله إنَّ ذلك لعلامة على إفلاس صاحبه.

ذلك

۱۹۲

مباحثات

الخامس: قوله عن القصة التي حصلت في عهد عثمان بن عفان: أنها مكذوبة، جهل منه فاضح، بل هي قصة صحيحة لا نزاع في صحتها كما سيأتي. السادس: أنَّ تكذيب المتنطع للقصة المذكور يتنافى قوله سابقا: إِنَّ

. مع

الترمذي حسن الحديث؛ وذلك لأنه إذا كان الحديث حسنا فيجب أن تكون القصة كذلك؛ لأنها مرويَّةٌ بإسناد الحديث نفسه، وما أوقع المتنطع في هذا التنافي إلا جهله وعدم اطلاعه. السابع: استدلاله على تكذيب القصة بأنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه لو فعل ذلك مع أحدٍ من الناس كان ظالما، جهل منه وعدم اطلاع؛ لأنَّ في آخر القصة ما ينفي هذا، فقد جاء فيها كما سيأتي أن عثمان

.

رضي

الله عنه اعتذر

للرجل بأنه كان ناسيًا لحاجته، وأنه لم يذكرها إلَّا في تلك الساعة، ولا يخفى أنَّ الناسي غير مؤاخذ بالنص والإجماع.

الثامن: قوله: «وقد خلت منها كتب السنة كلها»، كذب بحث، فهي موجودة في معجم الطبراني"، و"دلائل النبوة" للبيهقي، و"الترغيب

والترهيب" للحافظ المنذري، وغيرها من كتب السنة. وإذ قد فرغنا من الكلام مع المتنطع فيها أبداه من جهل وكذب وتحريف،

فلنتكلم على طرق الحديث وألفاظه، ووجه دلالته على المقصود فنقول: قال الترمذي في أبواب الدعاء من جامعه": حدثنا محمود بن غيلان: ثنا عثمان بن عمر: ثنا شعبة، عن أبي جعفر عن عمار بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أنَّ رجلًا ضرير البصر أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، فقال : ادع الله أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وأن شئت صبرت فهو خير

الرد المحكم المتين

۱۹۳

لك»، قال: فادْعُه ، قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في».

قال الترمذي: حديثٌ حسن صحيحٌ غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا

الوجه، من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي».

قلت: كذا في نسختي المطبوعة بالهند من "جامع الترمذي"، ولعل زيادة لفظ : (غير) سهو من الترمذي رحمه الله ، وإلا فأبو جعفر هو الخطمي كما صرح

به ابن أبي خيثمة والطبراني وغيرهما، وسيأتي كلامهم.

وقال ابن تيمية ما نصه: هكذا وقع في الترمذي، وسائر العلماء قالوا: هو أبو جعفر الخطمي ، وهو الصَّواب، وأيضًا فالترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء، بل رووه إلى قوله: «اللهم فشفعه في».اهـ

بلفظه .

ورواه النسائي في "عمل" اليوم والليلة" عن محمود بن غيلان، عن عثمان

ابن عمر بالسند المذكور.

ورواه أيضًا عن محمد بن عمر، عن حماد - هو ابن سلمة - عن أبي جعفر،

عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف. ورواه أيضًا عن زكريا بن يحيى، عن ابن مثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف

نحوه.

ورواه ابن السُّنّي أيضًا من طريق معاذ بن هشام، عن أ عن أبيه، عن أبي

١٩٤

مباحثات

جعفر به.

ورواه ابن ماجه في الصَّلاة عن أحمد بن منصور بن سيَّارٍ، عن عثمان بن عمر بسنده السابق (۱).

وقال الإمام أحمد : حدَّثنا روح بن عُبادة: ثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني، سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يُحدِّث عن عثمان بن حنيفٍ، أَنَّ رجلًا ضريرا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا نبي الله ادعُ الله أن يعافيني، قال: «إن شئتَ أخرَّتُ ذلك فهو خيرٌ لآخرتك، وإن شئت دعوتُ لك»، قال: لا بل ادع الله لي فأمره أن يتوضأ، وأن يُصلّي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء، ثُمَّ ذكر الدعاء نحو رواية الترمذي، قال: ففعل الرجل فبرئ.

ورواه الحاكم من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة به، وقال: «صحيح على شرط الشيخين»، وأقره الذهبي.

ورواه أيضًا من طريق عون بن عمارة البصري، ومن طريق شبيب بن سعيد الحبطي كلاهما عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدني -وهو الخطمي ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وجاءه رجل ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول الله ليس لي قائد، وقد شقّ عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ائت الميضأة فتوضأ، ثُمَّ صلّ ركعتين وقل...». فذكر الدعاء المتقدّم، قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا

(۱) وقال عقبه: «قال أبو إسحاق: هذا حديث صحيح».

الرد المحكم المتين

١٩٥

الحديث، حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط.

أيضًا.

ثُمَّ قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري»، وأقره الذهبي

وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه " : حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا حماد بن سلمة: أنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف، أنَّ رجلا أعمى أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إني أصبت في بصري فادع الله لي، قال: اذهب وصَلِّ ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أستشفع بك على ربي في ردُّ بَصَري، اللهم فشَفَعْني في نَفْسي، وشفّع نبي في ردَّ بَصَري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك»، فرد الله عليه بصره.

قال ابن أبي خيثمة : أبو جعفر هذا الذي حدَّث عنه حماد بن سلمة اسمه عمير بن يزيد، وهو أبو جعفر الذي يروي عنه شعبة، ثُمَّ روى الحديث من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر .

وقال البيهقي في "دلائل النبوة": باب ما جاء في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ - هو الحاكم - قال : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: ثنا العباس بن محمد الدوري، وأخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي: ثنا أبو علي حامد بن محمد الهروي: ثنا محمد بن يونس قالا: ثنا عثمان بن عمر: ثنا شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث، عن عثمان بن حنيف، أنَّ رجلًا ضريرا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: ادعُ الله أن

١٩٦

مباحثات

يعافيني، قال: «فإن شئتَ أخرتُ ذلك وهو خير لك، وإن شئت دعوت الله»، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيُحْسِن الوضوء، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فيقضيها لي، اللهم شفعه في، وشفّعني في نفسي، هذا لفظ حديث العباس، زاد محمد بن يونس في روايته قال: فقام وقد أبصر . ورويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح، عن روح بن عبادة، عن شعبة قال: ففعل الرجل فبَراً.

وكذلك رواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، وأخبرنا أبو عبدالله الحافظ : أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سهل الدياس بمكة: ثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ ثنا أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي: حدثني أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني -وهو الخطمي-، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال: يا رسول الله ليس لي قائد، وقد شقّ عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ائت الميضأة فتوضأ، ثُمَّ صلّ ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه في وشفّعني في نفسي»، قال عثمان: فوالله ما

تفرقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن فيه ضير قط.

الرد المحكم المتين

۱۹۷

أخبرنا أبو سعيد عبدالملك بن أبي عثمان الزاهد - رحمه الله - : أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشَّاشِيُّ القَفَّال: أخبرنا أبو عَرُوبَة: ثنا العباس بن الفرج: ثنا إسماعيل بن شبيب ثنا أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أنَّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجةٍ، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ، ثُمَّ انت المسجد فصل ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي، واذكر حاجتك ثُمَّ رُح حتى أروح، فانطلق الرجل وصنع ذلك، ثُم أتى باب عثمان بن عفان، فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطَّنفِسَة، فقال: انظر ما كانت لك من حاجةٍ، ثُمَّ إِنَّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلَّمته ، فقال له عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكن سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَوَ تَصْبِر» فقال: يا رسول الله ليس لي قائد، وقد شقّ عليَّ، فقال: «ائتِ المِيضَأَةَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّ ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيُجَلِّي لي عن بَصَري، اللهم شفعه في وشفّعني في نَفْسي»، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل الرجل كأن لم يكن به ضرر .

۱۹۸

مباحثات

وقد رواه أحمد بن شبيب بن سعيد ، عن أبيه بطوله أيضًا: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان أخبرنا عبدالله بن جعفر بن دَرَسْتَوَيْه:

ثنا يعقوب بن سفيان ثنا أحمد بن شبيب بن سعيد... فذكره بطوله. وذلك فيما ذكر شيخنا أبو عبد الله الحافظ أنّ عليَّ بن عيسى بن إبراهيم حدثهم: ثنا إبراهيم بن محمد بن يزيد السَّكُوني: ثنا يعقوب بن سفيان الفارسي: ثنا أحمد بن شبيب بن سعيد: ثنا أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيفٍ، أَنَّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان الله عنه في حاجة ... فذكر

الحديث.

-رضي

ورواه أيضًا هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامه بن سهل، عن

عمه وهو عثمان بن حنيف». هذا كلام البيهقي بحروفه.

وقال الطبراني في ترجمة عثمان بن حنيف من "معجمه الكبير": حدثنا طاهر بن عيسى ابن قيرس المصري المقري: ثنا أصبغ بن الفرج: ثنا ابن وهب - يعني عبدالله -، عن أبي سعيد المكي - يعني شبيب بن سعيد-، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حُنيفٍ، أنَّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن - عفان

رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ، ثُمَّ انت المسجد فصل فيه ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد

الرد المحكم المتين

.

۱۹۹

نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي» وتذكر حاجتك، ورخ - حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثُمَّ أتى باب عثمان بن عفان رضي أ الله عنه، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطَّنفسة فقال : ما حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له، ثُمَّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة وقال ما كانت لك من حاجة فاذكرها؛ ثُمَّ إِنَّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان ابن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلَّمته ولكني شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «أَوَ نَصْبر»، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شقّ عليَّ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ائتِ المِيضَاةَ فتَوَضَّا، ثُمَّ صَلَّ ركعتين، ثُمَّ ادْعُ بهذه

الدعوات»، قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط.

ورواه في "المعجم الصغير" فيمن اسمه طاهر من شيوخه من هذا الطريق

بهذا اللفظ، ثُمَّ قال ما نصه : الميروه عن روح بن القاسم إِلَّا شَبِيب بن سعيد أبو سعيد المكي، وهو ثقةٌ، وهو الذي يروي عنه أحمد شبيب، عن أبيه، عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد وهو ثقةٌ، تفرد به عثمان بن عمر بن فارس، عن شعبة والحديث صحيح» . اهـ كلام الطبراني بحروفه.

۲۰۰

مباحثات

قال ابن تيمية ما نصه: «والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه، ولم يبلغه رواية روح بن عبادة، عن شعبة، وذلك إسناد صحيح يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر» . اهـ بلفظه.

وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" ما نصه: «الترغيب في صلاة الحاجة ودعائها، عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه، أنَّ أعمى أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: «أو أدعك»، قال: يا رسول الله إنه قد شقّ عليَّ ذهاب بصري، قال: «فانطَلِقُ وتَوَضَّأ ، ثُمَّ صَلَّ ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أ أسألك وأتوجه إليك بنبيّي محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه إلى ربِّى بك أن يَكْشِفَ لي عن بصري، اللهمَّ شَفّعْهُ فيَّ وشَفَعْني في نَفْسي»، فرجع وقد كشف الله عن

بصره.

رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب»، والنسائي واللفظ له، وابن ماجه وابن خزيمة في "صحيحه" ، والحاكم وقال: صحيح على شرط

البخاري ومسلم، وليس عند الترمذي: «ثُمَّ صَلَّ ركعتين».

عفان

ورواه الطبراني وذكر في أوله قصةً، وهي أنَّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن الله عنه في حاجةٍ له وذكر القصة بتمامها، ثُمَّ قال: قال الطبراني

رضي

بعد ذكر طرقه: والحديث صحيح». هذا كلام الحافظ المنذري.

وكذا نقل تصحيح الطبراني ووافقه الحافظ الهيثمي، في باب صلاة الحاجة من "مجمع الزوائد" ، ووافق على تصحيح الحديث أيضا النووي في باب أذكار

الرد المحكم المتين

۲۰۱

صلاة الحاجة من كتاب "الأذكار"، والحافظ في "أمالي الأذكار"، والحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى" ، وابن تيمية في غير موضع من كتبه، ونقل تصحيحه عن الترمذي والحاكم، والحافظ أبي عبدالله المقدسي صاحب "المختارة" وغيرهم، وبالجملة فالحديث صحيح بإجماع الحفاظ، لا مطعن فيه ولا مَغْمَز، وقد بلغني أنَّ بعض المعاصرين - ما . جمع بين بدعتي الوهابية والتجسيم - تعرّض لهذا الحديث في كتاب له سماه: "الصراع" ورده بأمرين:

الأول: جهالة أبي جعفر .

الثاني: أنَّ الحديث اشتمل على معجزة وهي ردُّ بصر الأعمى، وذلك مما تتوفر الدواعي على نقله؛ فيبعد أن يتفرد به عثمان بن حنيف دون سائر الصحابة.

هذا حاصل ما علق بذهني من رده وكلا الأمرين باطلان.

أما الأول: فقد تقدَّم في كلام الطبراني، وابن أبي خيثمة، أنَّ أبا جعفر هو الخطمي المدني، وأنَّ اسمه عمير بن يزيد، وأنه ثقة، وفي "الخلاصة" للخزرجي ما نصه: «عُمير بن يزيد بن عمر بن حبيب الأنصاري الخطمي أبو جعفر المدني ثُمَّ البصري، عن أسعد بن سهل، وابن المسيب، وعنه هشام الدستوائي، وشعبة، وثقه ابن معين والنسائي» . اهـ بلفظه .

قلت: وروى عنه أيضًا حماد بن سلمة، وروح بن القاسم كما تقدم في رواية

النسائي والبيهقي، فإن كان أبو جعفر لا يزال مجهولا رغم هذا كله فليس في الدنيا ثقة معروف.

۲۰۲

مباحثات

وأما الأمر الثاني: فبطلانه ظاهر؛ لأنه ليس من شرط كل معجزة أن تُنقل بطريق التواتر أو الشهرة، بل فيها المتواتر، وفيها الآحاد كما لا يخفى على من تتبع كتب السنة المطهرة، فهذا حديث تسبيح الطعام، وإخبار الذراع بأن فيها شما، مرويين بطريق الآحاد ، مع أن تسبيح الطعام وإخبار الذراع من المعجزات العظيمة، بل هما أعظم من ردّ بصر الأعمى؛ لأنَّ تكلم الجماد أمر لم يُعهد في العادة أصلا، بخلاف ردّ بصر الأعمى، فإنه مع كونه غريبا يُقربه أنَّ البصر من شأن الإنسان، ووصفٌ من صفاته، وقد عُهد ردُّ بصر الأعمى بعد ذهابه

.

العارض من العوارض باستعمال بعض الأدوية كما كان معروفًا عند أطباء العرب، ولا يزال إلى الآن عندنا بالمغرب فرقةٌ متخصصة في هذا، تداوي من

.

عمي لعارض، فيرجع إلى حالته الأصلية، والمقصود أن المعجزة التي اشتمل عليها حديث عثمان بن حنيفٍ ليست بأعظم من معجزة تسبيح الطعام، وإخبار الذراع بالسُّمّ، وغيرها من المعجزات التي رويت بطريق الآحاد، ويظهر لي أنَّ هذا المبتدع سمع شيئًا عند الأصوليين ولم يُحسن فهمه، فأخطأ في

تطبيقه،

وذلك أنَّ أهل الأصول نصُّوا على: «أنَّ ما يُقطع بكذبه، الخبر المنقول آحادًا فيما تتوفّر الدواعي على نقله»، ففي "جمع الجوامع" وشرحه، عطفا على ما يقطع بكذبه من الأخبار ما نصه: والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي على نقله تواترا، كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة من المقطوع بكذبه، لمخالفته للعادة، خلافًا للرافضة، أي في قولهم: لا يُقطع بكذبه؛ لتجويز العقل

الرد المحكم المتين

۲۰۳

صدقه، وقد قالوا بصدق ما رووه منه في إمامة علي رضي الله عنه نحو: «أنت الخليفة من بعدي، مشبهين له بما لم يتواتر من المعجزات، كحنين الجذع وتسليم الحجر، وتسبيح الحصى. قلنا هذه كانت متواترة واستغني عن تواترها إلى الآن بتواتر القرآن، بخلاف ما يذكر في إمامة علي، فإنه لا يُعرف، ولو كان؛ ما خفي على أهل بيعة السقيفة» . اهـ

وادعاء أنَّ هذه المعجزات كانت متواترة لا يُسلَّم، فالصواب في الجواب أن يُقال: استغني عن تواتر ما نقل آحادًا من المعجزات، بتواتر القرآن وهذا جواب مطرد في جميع الصور. وأجاب الإسنوي بجواب آخر، وهو أ أنَّ هذه المعجزات لم تتواتر المشاهد لها، لكن قال: وللشيعة أن يجيبوا بهذا الجواب فيقولوا: إنما لم يتواتر النص على إمامة على لقلة سامعيه.

لقلة

قلت: قد يمنع جوابهم بأنَّ الغرض من النص على إمامة معيَّن منع الخلاف وقطع النزاع، وذلك يقتضي أن يقصد الشارع إخبار جماعة الصحابة بأن الإمام هو فلان لينتهوا عند قوله لا إخبار فرد أو اثنين، وهذا بخلاف المعجزات فإنَّ الغرض منها وهو الدلالة على صدق الرسالة حصل بالقرآن، وبما تواتر منها كالإسراء والمعراج ونحوهما، فلم يلزم تواتر جميعها لحصول الغرض ببعضها المتواتر. فمن النَّصَّين المتقدمين تعلم أنَّ الأصوليين معترفون بأن من المعجزات ما لم يتواتر، ولم يقولوا: يقطع بكذبها، بل أجابوا عنها بما تقدم، وتتحقق أيضًا ما

٢٠٤

مباحثات

قدمناه من أنَّ ذلك المبتدع لم يُحسن فهم ما في الأصول، فأخطأ في تطبيقه حيث أراد أن يجعل حديث عثمان بن حنيفٍ من قبيل المردود، مع أنه من قبيل المقبول باتفاق الأصوليين، بدليل أنهم اعترفوا بصحة أحاديث من جنسه، وأجابوا عن معارضة الرافضية لهم بها بما نقلناه عن الجلال المحلي، والجمال الإسنوي، ولو كان ما ذكره ذلك المبتدع يقتضي ردَّ حديث عثمان بن حنيف للزم رد أحاديث من جنسه في صحيحي "البخاري" و"مسلم"، وهذا ما لا يقبله عقل ولا يؤيده نقل. والحاصل أنَّ الوهابيين لما وجدوا هذا الحديث يدفع في صدورهم، ويحز في نحورهم، تمحلوا في رده، وتكلّفوا في ذلك المشاق، وهيهات أن يُردَّ الحديث الصحيح بمثل هذه التمحلات الباردة، والتعللات الفاسدة، ونعوذ بالله من تعصب يُفضي إلى الجهل، ومن تعشفٍ يؤدّي إلى إبطال الحق، وبالله التوفيق. وحيث علمتَ أنَّ الحديث صحيح، فاعلم أنه يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في حضوره وغيبته، في حياته وبعد موته، وبيان

ذلك من وجوه الأول: أنَّ هذا الحديث وإن كان ورد بسبب سؤال هذا الضرير فغيره مثله

في ذلك، للقطع الجازم باستواء الناس في الأحكام الشرعية. الثاني: أنه وإن كان الخطاب فيه متوجّهًا إلى الضرير، فهو محمول على العموم من حيث الشرع؛ للإجماع المتيقن من جميع العلماء على أن خطابات الشارع محمولةٌ على العموم وإن كانت خارجة مخرج الخصوص، حتى يقوم

الرد المحكم المتين

الدليل على تخصيص شيء منها فيوقف عنده، وهو هنا مفقود. الثالث: أنَّ الضرير سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يدعو له، فعلمه الدعاء المذكور، فعُدُوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم عن الدعاء المطلوب منه إلى ذكر، دليل على أنه أراد أن يُشرع لأمته حكما عاما لا يختص بواحد منهم دون آخر. الرابع: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أرشد الضرير إلى الصلاة والدعاء، والصلاة مشروعة لجميع الناس بالإجماع، فكذلك هذا الدعاء يكون مشروعا لجميع الناس أيضًا، والتفريق بينهما تعطيل لبعض الحديث من غير دليل، وهو تلاعب لا يُقبل.

مع.

الخامس: ولو فرضنا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم دعا لهذا الضرير - أنَّ الحديث لا يدلُّ على ذلك أصلا، فدعاؤه يدل على جواز التوسل في الحالات؛ لما تقرّر في علم الأصول أنَّ فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء يدلُّ على جوازه، لأنه لا يفعل المحرم ولا المكروه، ويندب

عموم

الاقتداء به فيه؛ لقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ

[الأحزاب: ٢١].

السادس: أنه لو كان الحديث خاصا بهذا الضرير، أو بحال الحياة دون الممات، أو في الحضور دون الغيبة، لبيّن ذلك كما بيَّن لأبي بردة أنَّ الجذعة من المعز تُجزئه في الأضحية ولا تُجزئ أحدًا غيره، متفق عليه من حديث البراء بن

عازب.

٢٠٦

مباحثات

السابع: أنه لو كان الحديث خاصا بذلك الضرير، أو بحالة الحياة ولم يبين النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذلك، لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو ممنوع؛ لأنه تكليف بما لا يعلم.

الثامن: أن عثمان بن حنيف وهو رواي الحديث وأعرف بالمراد منه، حمله على العموم، حيث أرشد الرجل الذي كانت له حاجة عند عثمان بن عفان الله عنه، وطال انتظاره لقضائها، إلى الدعاء المذكور، وهذا يؤيد ما

رضي

قدمناه.

التاسع: أنَّ الحديث المذكور أخرجه الترمذي في "جامعه"، وقال في العلل ما نصه: «جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به، وبه أ به، وبه أخذ بعض أهل العلم، ما خلا حديثين حديث ابن عباس أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر، وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إذا شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، وإن عادَ في الرابعة فاقْتُلُوهُ»، وقد بينا عِلَّة الحديثين في

الكتاب» . اهـ

وهذا يدلُّ على أنَّ حديث التوسل معمول به، وأنَّ من عرضت له حاجةٌ فله أن يدعو بالدعاء المذكور؛ لأنه لم يستثنه مع الحديثين اللذين استثناهما من جملة الأحاديث المعمول بها، فبقي داخلا فيها، على أنَّ ذينك الحديثين عمل بهما

أيضًا.

فعمل بالأول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، وابن المنذر، والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي، فأجازوا الجمع في الحضر للحاجة من

الرد المحكم المتين

۲۰۷

غير الأعذار المعروفة، بشرط أن لا يُتَّخذ ذلك عادةً، وهو دليل شاذلية المغرب في جمعهم أحيانًا بين المغرب والعشاء جمع تأخير، إذا طال بهم مجلس الذكر، كما بين ذلك أخي السيد العلامة محمد الزمزمي في كتاب "الانتصار لطريق الصوفية الأخيار ()، وهو جيد مفيد.

وعمل بالحديث الثاني ابن حزم، وأسند من طريق قاسم بن أصبغ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: ائتوني برجل أقيم عليه حد في الخمر فإن لم أقتله فأنا كاذب. العاشر : أن حفاظ الحديث ونقاده فهموا من حديث الضرير العموم، حيث ترجموا عليه في كتبهم بتراجم تفيد ذلك، فذكره الترمذي والحاكم، والبيهقي في كتاب الدعوات على أنه من الدعوات المأثورة المشروعة؛ وذكره ابن ماجه، والمنذري، والهيثمي في كتاب الصلاة؛ لأنَّ الصلاة المأمور بها فيه داخلة في باب التطوع والنفل ؛ وذكره النووي في باب أذكار صلاة الحاجة، على أنه من جملة الأذكار التي تقال عند عروض حاجةٍ، وهذا اتفاق منهم على أنَّ الحديث معمول به، وأنه عام الجميع الناس في جميع الحالات، ولو كان خاصا بذلك الضرير، أو بحالةٍ دون حالةٍ، لم يكن لذكرهم له في كتب الأحكام وغيرها فائدة، ولنبهوا على أنه غير معمول به كما نبهوا على غيره من الأحاديث التي تكون مخصوصة أو منسوخة، وهذا ظاهر جدا.

الحادي عشر: أنَّ ابن أبي خيثمة روى الحديث بزيادة في آخره وهي قول

(۱) ولشقيقنا الحافظ أبي الفيض كتاب: "إزالة الخطر عمن جمع بين الصلاتين في الحضر" نفيس جدا وهو مطبوع.

۲۰۸

مباحثات

النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم للضرير: فإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك»، وتقدمت هذه الرواية بإسنادها الصحيح، وهي دالة على العموم كما لا يخفى. وقد أعل ابن تيمية هذه الزيادة بعلل واهية، لا يليق صدورها من عالم بالصناعة الحديثية فقال : لم يروها ،شعبة، ورَوّح بن القاسم وهما أحفظ من

حماد.

قلنا: فكان ماذا؟ أليس حماد ثقةً من رجال الصحيح، وزيادة الثقة مقبولة؟ قال: اختلاف الألفاظ يدلُّ على أنَّ مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى. قلنا: تعبيرك «بقد» دليل على أنك لست متحققا من صحة دعواك، ولن تستطيع تحقيقها لأنك تعلم أن أحدًا لم يجز أن يُزاد في الحديث ما ليس منه،

سواء في ذلك من أجاز الرواية بالمعنى ومن منعها.

قال: قد تكون مدرجةً من كلام عثمان. قلنا: هذه دعوى مثل سابقتها، والإدراج لابد من دليل يدلُّ عليه، وأين

هو هذا الدليل؟ قال: ولو ثبتت لم تكن فيها حجّةٌ، بل غايتها أن يكون عثمان بن حنيف

ظنَّ أنَّ الدعاء يُدعى ببعضه دون بعض.

قلنا: بل هي .

حجة قاطعة لك ولأذنابك، وما تقولته على عثمان مبني على

ظنك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم دعا لذلك الضرير، وظنُّك باطل، ولو كان حصل دعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لنقله عثمان الذي شاهد القصة ونقلها، ولو أراد عليه الصَّلاة السَّلام أن يدعو للضرير لدعا له كما دعا

الرد المحكم المتين

۲۰۹

لغيره، من غير أن يُجيله على الوضوء والصَّلاة والدعاء، فلما أحاله وعلمه دل على أنه لم يدع، ولذا ترجم البيهقي على الحديث بقوله: باب ما جاء في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر» إلخ كلامه السابق، ولو سلم أنه دعا فذلك لا يقتضي تخصيص الحديث، ولا تقييده كما هو ظاهر، كيف ودعاؤه عليه الصلاة والسَّلام لأمته ثابت في حياته وبعد انتقاله كما يأتي إن شاء الله . قال: هذه الزيادة تناقض الحديث.

مع

قلنا: نعم في نظرك ونظر أذنابك، أما عند العلماء المنصفين فهي منسجمة الحديث تمام الانسجام، وعلى دعواك أنها مدرجة، فهل كان عثمان من البلاهة والغفلة بحيث يُدرج في الحديث ما يُناقضه وهو لا يشعر؟ إِنَّ هذا لشيء عجيب !!

قال: أعرض أهل السنن عنها.

قلنا: فكان ماذا؟ وهل كل صحيح في السنن؟ فما هذا التعليل البارد الذي اخترعته لرد ما يُخالف هواك، وتبعك عليه أذنابك؟ هذا مع أنك اعترضت فيما سبق بأن الترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظ الحديث كما استوعبه سائر العلماء، والآن تجعل عدم استيعابهم حجَّةً تُعلَّل بها زيادة صح سندها، فما هذا

التناقض الغريب؟!

الثاني عشر: أنَّ الأصل الواجب في كلام الشارع استواء جميع الناس فيه، لا فرق بين رجل وامرأة، ولا بين أحمر وأسود، ولا بين جني وإنسي، إلَّا إذا قام الدليل على تخصيصه بالنسبة إلى بعض الأشخاص أو الأزمان فيُتَّبع، وإذا كان

۲۱۰

مباحثات

كذلك، فادعاء تخصيص الحديث المذكور بذلك الضرير، أو بحالة دون حالةٍ،

أن يكون

خلاف الأصل؛ فيحتاج إلى دليل من مُدَّعيه، والدليل لا يخلو من أحد أمور: الأول: أنَّ الدعاء المذكور في الحديث يُوهم الناس لو أخذ فيه بالعموم أنه لابد في الدعاء من التوسل بواسطة، وهذا محظور لأنه يُناقض الآيات الدالة على أن الله تعالى لم يجعل بينه وبين عباده في الدعاء واسطة، ولأنه يشبه عقيدة المشركين الذين اتخذوا وسطاء يتوسطون لهم إلى الله بزعمهم، فيكون ذلك الدعاء المؤدي إلى هذا المحظور محظورًا، وحيث ورد عن الشارع الأمر به في

حادثة معينة، وجب قصره عليها، فلهذا كان الحديث خاصا بذلك الضرير. الثاني: أن النداء والخطاب فيه بقوله: «يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي» إنما يليقان بالحي الحاضر، لا الميت أو الغائب، فلهذا كان الحديث خاصا بحالة

حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وحضوره، دون حالة موته أو غيبته. الثالث: أنَّ الصحابة لم يتوسلوا بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله، بل توسلوا بالعباس وغيره من الأحياء، فكان تركهم التوسل به صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله، مع أنهم كانوا يتوسلون به في حياته وحضوره بينهم؛ دليلًا على تخصيص الحديث بحالتي الحياة والحضور، وهذا أمثل ما يحتمل من الأدلة القاضية بتخصيص الحديث في نظر المتنطع وأشكاله، وهي باطلة. أما الأول: فالإيهام المذكور فيه توهم وخيال، إذ لو كان في ذلك الدعاء أدنى إيهام لما خفي على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الذي لـ لقنه للضرير، وأمره أن يدعو به، وهو صلَّى الله عليه وآله وسلم إنما بعث للقضاء على

الرد المحكم المتين

۲۱۱

الشرك، وعلى كل ما يُقرّب إليه من قول وعمل، فمحال عقلا أن يُلقن أحدًا من أُمته شيئًا يُوهم نوعا من الإشراك، أو يُشبه عقيدة المشركين، ومن جوز هذا على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فهو كافر مرتد يُستتاب، فإن تاب وإِلَّا

قتل، فبطل هذا الوجه من أساسه.

وأما الوجه الثاني، فيبطله أمور ثلاثة:

(1)m

الأول: إجماع العلماء على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حي في قبره، كما قال الحافظ السخاويُّ في "القول البديع" الثاني: الأحاديث التي تدلُّ على عرض أعمال أُمَّته . تدل على عرض أعمال أُمته عليه، وأنَّ علمه بعد انتقاله كعلمه في الدنيا، وسيأتي الكلام على هذه الأحاديث في الشبهة

السادسة.

الثالث: إجماع الأمة المستفاد من النصوص المتواترة على قولهم في التشهد في الصَّلاة: السَّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وهذا نداء وخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم بعد انتقاله، ومحال أن تجتمع الأُمَّة كلُّها على نداء ومخاطبة ميت لا يدري ولا يشعر، فبطل الوجه الثاني أيضًا من أساسه. وأما الوجه الثالث: فيبطله أمران:

الأول: أنَّ ترك الصحابة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله ليس مُسلَّما على إطلاقه، بل هو منقوض بفعل عثمان بن حنيف، وبلال

المزني، وعائشة رضي الله عنهم، وقد تقدم ذكر ذلك.

(1) وابن حزم في "المحلى".

۲۱۲

مباحثات

الثاني: ولو سُلّم تركهم على إطلاقه فنهايته أن يكون إجماعا سكوتيا، والإجماع السكوت مُختلفٌ في حقيقته وفي تسميته إجماعا وفي الاحتجاج به، فكيف يُخصص به والحالة هذه - دليل من الأدلة الشرعية التي لا خلاف فيها وقد قدمنا أنَّ ترك الشيء لا ينهض دليلًا على المنع، فظهر أن ليس شيء من هذه الوجوه يُصبح مخصصا لحديث الضرير، فوجب أن يبقى على العموم في

الأشخاص والأحوال، كما هو المتعين في كلام الشارع، وبالله التوفيق. ثُمَّ قال المتنطع: «وأمَّا الجواب عما رواه الترمذي فمن وجوه: الأول: أنه لا نزاع في جواز التوسل به في حال حياته، فإنه كان يدعو لمن سأله، كما أنَّ هذا

جائز بغيره من الأولياء والصالحين حال حياتهم بإجماع المسلمين». اهـ وأقول: هذا جواب مردودٌ ؛ لأنه مبني على مقدمة بينا بطلانها فيما تقدم، وهي: أنَّ الحديث خاص بحالة الحياة، وليت شعري من أخبره بذلك حتى

بنى عليه هذا الجواب الباطل المردود ؟!.

ثُمَّ قال: «وقد أمرنا الله أن ندعو للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في صلواتنا وغيرها بقوله تعالى: يايها الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [الأحزاب: ٥٦]، كما أوصانا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن نكثر من الصَّلاة عليه، وهو دعاء له بالرحمة والسَّلامة، فقول القائل اللهم صل على محمد معناه: اللهم ارحمه وارفع درجاته وسلّمه» . اهـ

وأقول: لستُ أدري ولا المنجم يدري ما معنى هذا الكلام، وما علاقته بالذي قبله ؟!!

الرد المحكم المتين

۲۱۳

فإنه كان يتكلَّم على أنَّ التوسل من الحي بطلب الدعاء منه جائز، وهو توسل واستشفاع لا شك فيه، وأين هذا من أمر الله لنا بالصَّلاة على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؟ إن كان يريد بذلك أنَّ الله أمرنا أن نتشفّع في نبيه بدعائنا له بالصَّلاة عليه فهذا ضلال في الاعتقاد، زيادةً على كونه قلبا للحقيقة؛ فإنَّ الثابت بالقرآن والسنة المتواترة والإجماع، وهو المعروف للعوام والصبيان أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هو الشفيع المشفّع، وهو الذي يقال له في الموقف العظيم: «قُلْ تُسْمَعْ ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ». فمتى انعكس الحال، حتى صارت الأمَّة تشفع في نبيّها بدعائها له بالصَّلاة عليه؟! تالله ما هذا إِلَّا ضلال

وزيع من قائله ومعتقده ! ثُم تفسيره الصَّلاة بالسلامة تفسير باطل. أما أولا : فليس في كتب اللغة أنَّ الصلاة معناها السلامة، بل ولا مناسبة

بينهما لا في المعنى ولا في الاشتقاق.

وأما ثانيًا: فلأنَّ السَّلامة إمَّا أن تكون من أذى الناس، أو من الذنوب

والآفات، أو من العذاب والعقاب، وكل هذا باطل هنا: أما الأول : فلأنَّ الله ضمن العصمة لنبيه من الناس أن ينالوه بسوء، فقال

تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: ٦٧].

وأما الثاني: فلأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معصوم لا يُمكن أن يفعل ذنبًا أصلا، وحاشاه من ذلك، وهو معصوم أيضًا من الآفات المنفردة

كالجذام ونحوه. وأما الثالث: فبطلانه أوضح من أن يُستدل عليه، وأي عقل يستسيغ أن

٢١٤

مباحثات

يُدعى بالسلامة من العذاب لمن يخرج من النار بشفاعته آلاف الآلاف من الخلق يوم القيامة ؟ !!!

وبالجملة: فتفسير الصَّلاة بالسَّلامة باطل لغة ومعنى، ولو فرض أنه صحيح لوجب شرعًا اجتناب استعماله في حقّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لإخلاله بالأدب الواجب؛ لأنَّ الدعاء بالسلامة يقتضي أنَّ المدعو له غير سالم من الآفات أو المعاصي أو العذاب، أو من أذى الناس وقهرهم له، فهو ناقص بهذه الأشياء، يحتاج إلى أن يتكمّل بسلامته منها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قد كمله الله وطهره من كل ما يشين، فهو كما قال القائل: خُلِقتَ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ كأنك قد خُلِقتَ كما تَشاءُ وانظر إلى قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ * [المائدة: ٦٧]؛ تجده يُشير إلى ما ذكرناه من وجوب استعمال الألفاظ اللائقة بمقامة صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أنَّ الله تعالى لم يُعبّر في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بلفظ السَّلامة، لما فيه من اقتضاء النقص المذكور، وإنما عبر بالعصمة التي تليق بمقام الأنبياء وتناسب قدرهم، فإذا كان الله سبحانه وتعالى - وهو خالق الخلق ومالك أمرهم - يسلك مع نبيه هذا المسلك الراقي في الأدب والتعظيم، أفلا يجب علينا معشر العبيد أن نسلك مسلك مولانا ونتبع ما فعل، فإنه إنما فعله إرشادا لنا وتعليما، رزقنا الله حُسن الأدب مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم، واتباع سنته حتى نفوز بسعادة الدارين، آمين.

هذا وقد أطبق العلماء - أهل اللغة وغيرهم على أنَّ الصَّلاة المأمور بها في

الرد المحكم المتين

٢١٥

حق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم معناها دائر بين التعظيم والإجلال والتكريم ورفع الدرجات، كما يُعلم من مراجعة "المجموع" للنووي، و"النهاية" لابن الأثير، و"المصباح" للفيومي وغيرها.

وقد ردَّ ابن القيّم على من فسّر الصَّلاة في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة أو المغفرة، وبيَّن بطلان هذا التفسير من خمسة عشر وجها، ذكرها في الفصل الثاني من الباب الثالث من "جلاء الأفهام"، وكلامه في ذلك نفيس جدا، ينبغي مراجعته والوقوف عليه، نسأل الله أن يعلمنا من لدنه علما، آمين.

ثُمَّ قال المتنطع: «الجواب الثاني على حديث الترمذي: إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، والذين اتبعوهم بإحسان على ترك التوسل بعد انتقاله إلى الدار الآخرة، إجماعًا عمليا قاطعًا، فلم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة، والذين اتبعوهم بإحسان أنه توسل به بعد موته، أو ذهب إلى قبره لذلك، بل الثابت كما في "صحيح البخاري خلافه، وقد روى في الاستسقاء عن عمر رضي الله عنه أنه خرج بالناس يستسقي حين حُبس عنهم المطر فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ادعُ يا عباس، فدعا فسقوا» . اهـ

وأقول: أما ما ادعاه من الإجماع العملي القاطع على ترك التوسل فيكفينا في تكذيبه فعل عثمان بن حنيف، وبلال المزني، وعائشة، ومن بلغه فعل هؤلاء من الصحابة والتابعين فلم يُنكره عليهم، وكذا يكذبه فعل الأئمة مثل

٢١٦

مباحثات

الطبراني، وابن المقري وأبي ،الشيخ، وأبي الخير الأقطع الزاهد المشهور-

وغيرهم.

وأما ما فعله عمر رضي الله عنه في الاستسقاء من التوسل بالعباس رضي الله عنه، فذلك هو المتعيّن الذي لا يصح غيره من حيث السنية؛ وذلك لأنَّ السُّنَّة في الاستسقاء أن يخرج الإمام والناس إلى المصلى بظاهر البلد، ويُصلُّوا هناك صلاة الاستسقاء، ويخطب فيهم الإمام ويدعو بنفسه، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أو يأمر من يدعو كما فعل عمر مع العباس، ومعاوية مع يزيد بن الأسود.

فإن قيل : وَلم يتوسل عمر رضي الله عنه بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في

المصلى، وعدل عنه إلى التوسل بالعباس؟

فالجواب على ذلك من وجوه

الأول: أنَّ التوسل بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليس بواجب فيجوز

تركه والعدول عنه إلى غيره.

الثاني: أنَّ الله تعالى يقول: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: ٦٢] الآية. ولا شكّ أنَّ العبّاس كان إذ ذاك من جملة المضطرين، فكان

التوسل به أولى وأنسب

الثالث: أنَّ

الله عنه

عمر رضي الله عنه أراد بالتوسل بالعباس رضي الاقتداء بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في إكرام العباس وإجلاله، وقد جاء

هذا عن عمر صريحًا.

الرد المحكم المتين

۲۱۷

فروى الزبير بن بكار في "الأنساب" من طريق داود، عن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر قال : استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فخطب الناس عمر فقال : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتخذوه وسيلة إلى الله، قال: فما برحوا حتى سقاهم الله. ورواه البلاذري من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن والده، به. الرابع أراد عمر رضي الله عنه بفعله ذلك أن يُبيَّن جواز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من أهل الصلاح والخير ممن ترجى بركته، ولهذا قال الحافظ في "الفتح" عقب قصة توسل عمر بالعباس - رضي الله عنه - ما نصه: «يستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والخير وأهل بيت النبوة». اهـ الخامس: أنَّ توسل عمر بالعبّاس رضي الله عنهما هو في الحقيقة توسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه إنها توسل بالعباس لكونه عم النبي صلى الله عليه

وآله وسلم، ولمكانته منه كما جاء صريحا في كلام عمر والعباس.

أما كلام . عمر قَحَطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فقال: اللهمَّ إِنَّا كُنَّا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون.

. ففي "البخاري" عن أنس أنَّ عمر رضي الله عنه كان إذا

هذا لفظ البخاري. فقوله: «وإنّا نتوسل إليك بعم نبينا صريح فيما قلناه.

۲۱۸

مباحثات

وأصرح منه ما ذكره ابن عبدالبر في "الاستيعاب" حيث قال ما نصه: وروى ابن عباس، وأنس أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحَط أهل المدينة استسقى بالعباس، قال أبو عمر - يعني نفسه : وكان سبب ذلك أنَّ الأرض أجدبت إجدابًا شديدًا على عهد عمر زمن الرمادة، وذلك سنة

سبع عشرة، فقال كعب يا أمير المؤمنين إنَّ بني إسرائيل كان إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر : هذا عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصنو أبيه وسيد بني هاشم، فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس من القحط، ثُمَّ صعد المنبر ومعه العباس فقال: اللهم إنا توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ثُمَّ قال عمر: يا أبا الفضل

قم فادع». وقال أيضا ما نصه: روينا من وجوه عن عمر أنه خرج يستسقي، وخرج معه بالعباس، فقال : اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك صلى الله عليه وآله وسلَّم ونستشفع به فاحفظ فيه لنبيك صلى الله عليه وآله وسلّم كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما، ثُمَّ ذكر بقيَّة الخبر، وفي آخره: «فوالله ما برحوا حتى اعتلقوا الجدر، وقَلَصوا المآزر ، وطَفِقَ الناس بالعبّاس يمسحون أركانه ويقولون: هنيئًا لك ساقي الحرمين». اهـ

وأما كلام العباس نفسه، فأخرج الزبير بن بكار في "الأنساب" بإسناده أنَّ العباس لما استسقى به عمر قال: «اللهم إنه لم ينزل بلاءٌ إلَّا بذنبٍ، ولم يُكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك

الرد المحكم المتين

۲۱۹

بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال

حتى أخصبت الأرض وعاش الناس».

ذكره الحافظ في "الفتح"، فهذه النصوص صريحة في أنَّ توسل عمر وغيره من الصحابة بالعباس كان لمكانته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو توسل به في الحقيقة كما قدَّمنا ، ولم يخطر ببالهم منع التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته.

وكيف يخطر ببالهم ذلك وهم يعلمون أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وإن انتقل عنهم حي في قبره الشريف، تُعرَض عليه أعمالهم، ويدري بصلاتهم وسلامهم عليه، ويردُّ السَّلام عليهم؟!.

على أن بعض الصحابة وهو بلال بن الحرث المزي- توسل في هذه الواقعة نفسها بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، حيث ذهب إلى قبره الشريف وطلب منه أن يستسقي لأمته، فأخبره في المنام أنهم مسقون، وأمره أن يُخبر عمر فأخبره، ولم ينكر عمر ذلك، ولا من سمعه من الصحابة، فهذا دليل على أنهم ما كانوا يعتقدون حرمة التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته، وإنما تركوه للوجوه التي ذكرناها، على أنَّا بَيَّنَّا فيما تقدَّم أن مجرد الترك لشيء لا يدلُّ على حرمة الشيء المتروك، إلَّا إذا دل دليل على ذلك وهو هنا

مفقود.

ثم قال المتنطع : ( الوجه الثالث: أنَّ الحديث المذكور لم يسلم من طعن الحفاظ عليه، ولذلك قال كثير من شُرّاح الكتاب كالعراقي: إنَّ الترمذي لا

۲۲۰

مباحثات

يُعول على تصحيحه فضلا عن تحسينه؛ لأنه صحح الضعيف جدا كحديث: مفتاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ ، وتَحْرِيمُها التَّكْبير، وتحليلها التسليم». وهذا عند أهل الحديث مسلَّم به، وهو مع ذلك معارض بالإجماع الذي قدمناه، وبحديث البخاري في الاستسقاء، هذا فوق أنَّ الترمذي لم يرتق فيه عن درجة الحسن، على أنه في غير محل النزاع، فإنَّ النزاع إنما هو في الوسيلة بالموتى، والحديث في التوسل به صلَّى الله عليه وآله وسلم في حياته كما سلف». اهـ

وأقول: في كلامه أمور:

الأول: ادعاؤه أنَّ الحديث لم يسلم من طعن الحفاظ دعوى لم يؤيدها بدليل فهي . كذب محض، وكيف يكون الحديث مطعونا فيه وقد صححه الترمذي، والطبراني، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي، والمنذري والضياء المقدسي، والنووي، والذهبي، وابن حجر، والهيثمي، والسيوطي. وهؤلاء جهابذة الحديث ونُقاده، فمن ذا الذي يجرؤ على الطعن فيه بعد إجماعهم على

تصحيحه ؟!

الثاني: قوله: «ولهذا قال كثير من شُرّاح الكتاب كالعراقي: إنَّ الترمذي لا يُعوّل على تصحيحه». كذب أيضًا؛ فإنَّ أحدًا من شراح الترمذي لم يقبل ذلك، والمتنطع لمير شرح العراقي، فمن أين له النقل عنه؟ وهو يكذب في النقل عن الكتب المطبوعة "كتهذيب التهذيب" ، و "فتح الباري" وغيرهما -كما بينا ذلك

فيما تقدم - فيكف يؤمن على الكتب المخطوطة التي لم يرها ولو في الرؤيا ؟ الثالث: قوله أيضًا : ولهذا قال شُرَّاح الكتاب... إلخ. يفيد أن الشراح

الرد المحكم المتين

۲۲۱

ردُّوا تصحيحات الترمذي كلها من أجل تصحيحه لهذا الحديث، وهو كذب أيضًا؛ فإنه إن صح أنهم قالوا لا يعوّل على تصحيح الترمذي، فإنما كان ذلك في حديث آخر صححه الترمذي وهو ضعيفٌ، كما قال الذهبي في ترجمة كثير بن عبدالله بن عمر بن عوف المزني من "الميزان" بعد أن ذكر تضعيفه وتكذيب بعض الأئمة له ما نصه: «وأما الترمذي فروى من حديثه «الصُّلْحُ جائز بين

المسلمين» وصححه، ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي».اهـ فمثل هذا التصحيح يكون مردودًا لضعف راوي الحديث، أما حديث الضرير فكيف يعقل رد تصحيح الترمذي من أجله وهو مجمع على صحته؟! هذا ويجب أن تعلم أنَّ كلام الذهبي في عدم الاعتماد على تصحيح الترمذي ليس على إطلاقه كما يُعلم من كتب أهل الحديث، على أن الحافظ العراقي شارح الترمذي ردَّ كلام الذهبي من أصله ، فقال ما نصه: «لا يقبل هذا الطعن منه في حق الترمذي، وإنما جَهل الترمذي من لا يعرفه كابن حزم، وإلا فهو إمام معتمد عليه، ولا يمتنع أن يخالف اجتهاده اجتهاد غيره في بعض الرجال، وكأنه رأى ما رآه البخاري، فإنه روي عنه أنه قال في حديث كثير، عن أبيه،

عن جده في تكبير العيدين: أنه حديث حسن» . اهـ وانظر بقيته في باب فضل الجمعة من "نيل الأوطار"، ومنه يُعلم أنَّ إطلاق الذهبي عدم الاعتماد على تصحيح الترمذي مردود، وأنَّ ما نقله المتنطع عن العراقي مختلق مكذوبٌ ، وقد احتج ابن خزيمة في "صحيحه" بكثير بن عبد الله، كما نص عليه المنذري في أوائل "الترغيب والترهيب".

۲۲۲

مباحثات

الرابع: قوله: «لا يعوّل على تصحيحه فضلا عن تحسينه». كلام لا معنى له؛ لأنه ليس التحسين بأولى من التصحيح، بل الأمر بالعكس، فالصواب أن يقال: لا يعول على تحسينه فضلا عن تصحيحه، وذلك لأنَّ الحسن يُتساهل فيه ما لا يتساهل في الصحيح كما يعلم من كتب المصطلح، هذا لو صح أنَّ الترمذي لا يعوّل عليه، كيف وهو إمام في الصناعة مقدم، وحافظ مُبرِّز، رغم أنف المتنطع الجهول. الخامس: قوله أيضًا : «لا يعوّل على تصحيحه فضلا عن تحسينه». إنما أتى بهذه العبارة التي تفيد أولوية التحسين على التصحيح في الرد وعدم التعويل؛ لأنه ذكر أن الترمذي اقتصر على تحسين الحديث فقط، فأراد أن يوهم بهذه العبارة أنَّ الترمذيّ إذا كان لا يُعوّل على تصحيحه، فلأن لا يُعوّل على تحسينه بالأولى، وعادة المتنطع في هذه الرسالة أن يعتمد في الاستدلال على لوازم بعيدة كما تقدم، أو إيهاماتٍ مكشوفة كهذا، لا تروج إلا على ضعفة العقول قليلي المعرفة مثله، وما درى المسكين أنَّ الأمر عند المحدثين على العكس، فإنهم كثيرا ما يعترض بعضهم على بعض في تصحيح حديث ويقتصرون على تحسينه، فيقول أحدهم مثلا: حديث كذا ليس بصحيح كما قال فلان، بل حسن فقط، كما يعلم من مراجعة كتبهم، وتتبع استعمالاتهم.

ولما ذكر ابن الصلاح تساهل الحاكم في التصحيح، قرر اختيارًا من عنده أنَّ ما صححه الحاكم ولم يوجد فيه كلام لغيره بتصحيح ولا تضعيف، فأقل أحواله أن يُحمل على أنه حسن، ولا يكون صحيحا نظرًا للتساهل المذكور،

الرد المحكم المتين

۲۲۳

فهذا الكلام كما نرى صريح في نقض ما أفهمته عبارة المتنطع. وبالله التوفيق. السادس: قوله لأنه صحح الضعيف جدا، كحديث: (مِفْتَاحُ الصَّلاة الطهور .... إلخ. فيه كذب في موضعين:

الأول: ادعاؤه أنَّ الترمذي صحح هذا الحديث مع أنه لم يصححه. الثاني: ادعاؤه أنَّ الحديث ضعيف جدا مع أنه حسن.

أمَّا أنَّ الترمذي لم يصحح الحديث، فلأنه بعد أن رواه من طريق علي عليه السلام قال ما نصه: «هذا الحديث أصحُ شيء في هذا الباب وأحسن» . اهـ وهذه العبارة لا تفيد صحة الحديث كما نص عليه الحفاظ.

قال النووي في "الأذكار" بعد أن نقل عن الدار قطني أنه قال: أصح شيء في فضائل السور فضل «قل هو الله أحد»، وأصح شيء في فضائل الصلوات فضل صلاة التسبيح، ما نصه: ولا يلزم من هذه العبارة أن يكون حديث صلاة التسبيح صحيحًا، فإنهم يقولون هذا أصح ما جاء في الباب وإن كان ضعيفًا، ومرادهم أرجحه، أو أقله ضعفًا» . اهـ

وأقراه الحافظان ابن حجر، والسيوطي، وإن خالفاه في تضعيف حديث صلاة التسبيح، ورأيا أنه حديثٌ حسن أو صحيح، لا أتذكر الآن، وبينا ذلك

بما يعلم من مراجعته في "أمالي الأذكار " للأول، و" اللآلئ المصنوعة" للثاني. وأمَّا أنَّ الحديث حسن فبيان ذلك: أنَّ الحديث رواه الشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، والأربعة إِلَّا النسائي، والحاكم، والبزار، وابن السكن من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن

علي كرم الله وجه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِفْتَاحُ الصَّلاةِ

٢٢٤

مباحثات

الطُّهُورُ ، وتَحْرِيمُها التَّكْبِيرُ، وتحليلُها التَّسْلِيمُ».

قال الترمذي: «هذا أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن، وعبد الله بن محمد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلَّم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم -يعني ابن راهويه والحميدي يحتجون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل. قال محمد: وهو مقارب الحديث» . اهـ

وصرح الحافظ الهيثمي في غير موضع من "مجمع الزوائد" أنَّ عبدالله بن

محمد بن عقيل حديثه حسن، وبناء على ذلك يكون هذا الطريق وحده على شرط الحسن، فكيف إذا ضُمَّت إليه بقية طرق الحديث، وهي تزيد على ثلاثة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد"، والحافظ في "التلخيص"، ونقلها الشوكاني عنهما في "نيل الأوطار"، لا شك أنَّ الحديث يكون حينئذ قويا، ولا يبعد أن يصحح (۱) ولولا خوف الإطالة والإملال لأفضنا في ذكر الطرق وبيان ما فيها،

لكن غرضنا بيان كذب المتنطع، وهو حاصل بما ذكرنا. وبالله التوفيق. السابع: قوله: «هذا عند أهل الحديث مُسَلَّم به كذب صريح؛ والواقع أنَّ أهل الحديث يُعوّلون على تصحيح الترمذي وتحسينه، وكتبهم تشهد بذلك، فانظر إلى كتاب "الأذكار" للنووي، وكتاب "الترغيب" للمنذري و"الجامع الصغير" للسيوطي، وغيرها من كتب السُّنَّة، بل انظر إلى كتب ابن تيمية، وابن القيم، تجدها ملأى بالنقل عن الترمذي في التصحيح والتحسين مع الاعتماد

(۱) بل هو صحيح.

الرد المحكم المتين

٢٢٥

عليه، والتعويل على ما يقول، وإن كانوا ينتقدون عليه في بعض المواضع فذلك أمر ضروري؛ لأن الخطأ والنسيان من لوازم الإنسان، وجَلَّ مَن لا

يسهو ولا يغفل.

الثامن: قوله : وهو مع ذلك مُعارَضُ بالإجماع الذي قدمناه»، هذا الإجماع كذب كما يُعلَم مما قدَّمناه أيضًا.

التاسع: قوله: وبحديث البخاري في استسقاء عمر بالعباس»، هذا جهل منه في موضعين

الأول: ادعاؤه أنَّ حديث البخاري في استسقاء عمر بالعباس يدل على منع التوسل بالميت وهذا جهل؛ لأن ترك الشيء لا يدل على منعه كما قدمنا بيان ذلك مفصلا.

الثاني: ادعاؤه أنَّ فعل عمر مُعارِضٌ لحديث الضرير، وهذا جهل فاضح؛ لأنَّ من شرط المتعارضين أن يستويا في الرتبة، وإلا لم يكن تعارض؛ لوجوب الأعلى منهما على الأدون، والأمر هنا كذلك، فإن حديث الضرير مرفوع، وفعل عمر موقوف، ومن ذا الذي يُقدِّم الموقوف على المرفوع، إلَّا أن يكون في عقله خَبَل وبه جنون؟!

تقديم

العاشر: قوله: «هذا فوق أنَّ الترمذي لم يرتق فيه عن درجة الحسن»، فيه

كذب واحد، وجهل مُكرَّرٌ مرَّتين

أما الكذب: فادعاؤه أنَّ الترمذي لم يرتق في الحديث عن درجة الحسن، مع

أنه ارتقى فيه إلى درجة الصحة كما تقدَّم في كلامه.

وأما الجهل المكرّر، فالأول منه أنَّ كلامه المذكور يدل على أنه ما رأى

٢٢٦

مباحثات

كتاب الترمذي، ولا كلَّف نفسه تعب ،مراجعته، وهذا جهل فاضح جدا؛ لأن "سنن الترمذي" أحد الكتب الستة، التي هي معصم الإسلام، وعن طريقها وصل لنا قدر غير يسير من نور الهدي المحمدي، وهي مع ذلك بلغت في الشهرة والذيوع بحيث ملأت الأسماع والبقاع، فكيف يسوغ لواعظ يدعي أ أنه مسئول عند الله على تبليغ العِلم أن يجهل واحدا منها ولا يطلع عليه، وليت شعري، أي عِلْمٍ يكون عنده حتى يُسأل عن تبليغه، إذا هو لم يقرأ كتاب الترمذي وبقية الكتب الستة على الأقل؟!

والجهل الثاني: ادعاؤه أنَّ الترمذي اقتصر على تحسين الحديث مريدا بذلك عدم جواز العمل به فيما يظهر، وما درى أن الحديث إذا كان حَسَنًا وجب العمل به؛ لأن الحسن كالصحيح في الاحتجاج والعمل به، على ما هو مُقرَّر عند المحدثين والأصوليين.

الحادي عشر : قوله: «على أنه في غَير محل النزاع، فإِنَّ النزاع إنما هو في الوسيلة بالموتى، والحديث في التوسل به صلَّى الله عليه وآله وسلم في الحياة كما سلف». بطلان هذا يُعلم ما قدَّمناه في الوجوه الإثني عشر، وأيم الله لو أننا سألنا المتنطع ما الدليل على تخصيص الحديث بحال الحياة لاعتراه إبلاس، وإن فمع الإبلاس جوابًا مؤذنا بالإفلاس، ولا يخفى أن حديث الضرير شرع ثابت لا يدخله نسخ ولا تخصيص إلى يوم القيامة، ومَن ادَّعى فيه شيئًا من ذلك فعليه البيان، وإلا فهو متعصب لمذهب الجاهلية. ثُمَّ قال المتنطع: «الشبهة الرابعة: حديث الترمذي أيضًا...»، وذكر حديث

أجاب

ابن عباس في الرجل الذي سمع صاحب القبر يقرأ سورة (الملك).

الرد المحكم المتين

۲۲۷

ثم قال: وإيراد هذا الحديث في الاستدلال على الوسيلة بالموتى ضرب مِن الخلط، فإنَّ التوسل بالقرآن وغيره من صفات الله مجمع على جوازه كما سيأتي، هذا فهذا الحديث مكذوب، قال الترمذي بعد روايته: غريب لا نعرفه إلَّا ومع من هذا الوجه، وأشار بهذا إلى ما طعن به عليه الحفاظ، فإنَّ في طريقه يحيى بن عمرو بن مالك النكري البصري، قال حماد بن زيد: كذَّابٌ يختلق الموضوعات وينسبها إلى الثقات ولولا هذا الرجل في إسناد الحديث لكان من أصح الأحاديث، فإن بقيَّة رجال إسناده رجال الصحيح، وكما كذَّبه حماد كذَّبه يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، قاله الحافظ في "تهذيب التهذيب"».اهـ وأقول: في كلامه أمور: الأول: ادعاؤه أنَّ الحديث ذكر في دلائل التوسل ممنوع، فإننا لا نعرف أحدا من أهل العلم استدل به. الثاني: ولو سلمنا أنَّ أحدا منهم استدل به وذكره، فقوله: إن إيراده في

أنَّ

الاستدلال ضرب من الخلط ممنوع، بل للاستدلال به وجه وجيه، وهو قراءة هذا الرجل لسورة (الملك) في قبره يدل على أنَّ للصالحين في قبورهم حياة وشعورًا، وإذا كان كذلك فيجوز التوسل وسؤال الله . بهم، ، إذ لما يَمْنَعُ التوسل بالميت عند المتنطع وأشكاله الذين لا يؤمنون بالحياة البرزخية عدم شعوره وإدراكه، وهذا الحديث يرد عليهم في ذلك.

الثالث: قوله: (ومع هذا فهذا الحديث مكذوب، كذب منه وجرأة بالغة؛ فإنَّ الحديث ليس بمكذوب أصلا، ولا تسمح القواعد بذلك حتَّى على أسوأ الفروض والتقادير، كما يتبيَّن مما سيأتي.

۲۲۸

مباحثات

الرابع: استدلاله على كذب الحديث بقول الترمذي: إنه غريب جهل منه فاضح، فليس من اصطلاح الترمذي أن يقول عن الحديث المكذوب غريب، إنما يريد إذا أطلق هذا اللفظ ضعف الحديث فقط (۱)، كما نصوا عليه في كتب

المصطلح، وصنيع الترمذي نفسه في كتابه يشهد بذلك ويدل عليه. الخامس: استدلاله على كذب الحديث بقول الترمذي: «غريب» جهل أيضًا بمعنى الغريب عند المحدثين، وبما يريدون منه إذا أطلقوه في مثل هذا الموطن، وتفصيل ذلك يعلم من كتب المصطلح التي ما عرف المتنطع شيئًا منها ولا رآه، كما يدل على ذلك هذا الاستدلال.

السادس: قوله: قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه كذب وتحريف؛ وذلك لأنَّ الترمذي لم يقل هكذا، وإنما قال ما نصه: «هذا الحديث

غريب من هذا الوجه» . اهـ وبين العبارتين فرق لا يخفى على أهل العلم. السابع: قوله في يحيى بن عمرو بن مالك النكري: «قال حماد بن زيد: كذاب يختلق الموضوعات وينسبها إلى الثقات»، هذا الكلام زوره المتنطع في نفسه ثُمَّ نسبه إلى حماد بن زيد؛ لأن كتاب "الميزان" و "تهذيب التهذيب" ليس فيهما هذه العبارة ، فاعجب لشخص يجرح الرواة ويرميهم بالكذب في حين أنه كاذب في ذلك. الثامن: قوله : وكما كذَّبه حماد كذبه يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم، هذا كذب صريح، فإنَّ يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما لم

(1) أما إذا قال: «حسن غريب مثلاً، فيريد بالغرابة التفرد لا الضعف.

الرد المحكم المتين

۲۲۹

يكذبوه، ولا فاهوا بما يدل على ذلك، وإنما ضعفوه فقط، وفرق كبير بين

التكذيب والتضعيف.

التاسع: قوله: «قاله الحافظ في تهذيب التهذيب"»، في هذا العزو كذب ووقاحة: أما الكذب: فهو عزو ما تقدَّم من الكذب المزدوج إلى "تهذيب التهذيب" وهو خال منه .

وأما الوقاحة فهو كذبه على "تهذيب التهذيب"، وهو يعلم أنه مطبوع وأن الاطلاع عليه ميسور لكل أحدٍ، وأن بالاطلاع عليه يفتضح كذبه، وينتهك ستره، فكان ذلك العزو والحالة ما ذكرنا دليلا على وقاحة الرجل، وأنه رفع جلباب الحياء عن وجهه، نسأل الله السلامة والعافية.

وإليك عبارة "تهذيب التهذيب" على أصلها، فقد جاء في حرف الياء منه ما نصه: (يحيى بن عمرو بن مالك النكري البصري، روى عن أبيه، وعنه ابنه مالك، ومحمد بن سليمان بن أبي داود الحراني، وأبو سلمة، ومسلم بن إبراهيم،

وبشر بن الوليد، ومحمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب وغيرهم، قال ابن معين وأبو داود والنسائي والدولابي : ضعيفٌ، وقال الدارقطني: صويلح يعتبر به، وقال غيره: كان حماد بن زيد يرميه بالكذب، وروى له ابن عدي أحاديث وقال: كلها محفوظة، وحديث آخر مما لم أذكره قلت: وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال أحمد بن حنبل: ليس هذا بشيء، وقال الساجي: منكر الحديث» . اهـ بحروفه.

فوازن هذا بما نقله المتنطع ، لتدرك مبلغ أمانته وثقته، فإلى الله المشتكى من هذا الزمن الذي صار فيه المتنطع وأمثاله من العلماء والوعاظ، وهم أحوج

۲۳۰

مباحثات

الناس إلى من يُعلمهم مهمات دينهم، ويُرغبهم في الصدق والأمانة والحياء، ويُنفرهم من أضدادها، حتى يتَّعِظوا في أنفسهم، ويعلموا أن عليهم رقيبا

يحاسبهم فيراقبونه، وعند ذلك فقط يقبل منهم الوعظ، وينفع منهم التذكير. أما الحديث الذي ذكره المتنطع وزعم أنه موضوع، فأخرجه الترمذي في "سننه"، قال: حدثنا محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب، حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة (الملك) حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا رسول الله إني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة (الملك) حتى ختمها، فقال النبي صلى الله

عليه وآله وسلّم: «هي ) المانِعَةُ، هي المنجية، تُنْجِيه من عذاب القبر»، هذا حديث غريب من هذا الوجه» . اهـ كلام الترمذي.

ونقل ابن القيم في كتاب "الروح" عنه أنه قال: «هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن عدي في "الكامل" قال: حدثنا علي بن سعيد الرازي، حدثنا محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب، حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك،

عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس فذكره، ورواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق ابن عدي فقال: باب ما جاء في الرجل الذي سمع صاحب قبر يقرأ سورة (الملك)، أخبرنا أبو سعيد الماليني قال: أخبرنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، فذكر الإسناد السابق، ثُمَّ قال البيهقي بعد ذكر الحديث ما نصه: «تفرد به يحيى بن عمرو النكري وهو ضعيفٌ، إلَّا أنَّ المعناه شاهدًا عن عبد الله بن

الرد المحكم المتين

۲۳۱

مسعود»، ثُمَّ أخرج بإسناد صحيح عن مرَّة، عن ابن مسعود قال: توفّي رجل فأتي من جوانب قبره، فجعلت سورة من القرآن تجادل عنه حتى منعته، قال: نظرت أنا ومسروق فإذا هي (تبارك)» . اهـ

قلت: وهذا وإن كان موقوفًا فله حكم الرفع، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنَّ سورةً مِن القرآن ثلاثين آيَةٌ شَفَعَتْ لرجلٍ حَتَّى غُفِر له، وهي تَبَرَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]»، قال الترمذي: «هذا حديث حسن»، وقال الحافظ ابن عبدالبر: صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنَّ سورةً ثلاثين آيةٌ شَفَعَتْ في صاحبها حتَّى غُفِر له، تَبَرَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ » . اهـ نقله ابن القيم.

إذا تقرر هذا، فاعلم أن حديث ابن عباس ليس بموضوع أصلا، وإنما هو ضعيف ضعفًا قريبا، وبيان ذلك من وجوه الأول: أنَّ يحيى بن عمرو النكري ضعيف فقط، كما علمت من ترجمته التي نقلناها، ولم يرمه بالكذب إلا حماد بن زيد، ولم يبين سببه، فهو تكذيب مردود، لا سيما وقد قال الدارقطني في يحيى : صُوَيلحٌ يُعتبر به»، وهذا يدل على أنَّ ضعفه قريب، بحيث يعتبر بحديثه ولا يترك، فيكون هذا الحديث ضعيفًا. الثاني: أن ابن عدي روى ليحيى أحاديث من جملتها هذا وقال: كلها محفوظة، وهو . دليل صريح على أنَّ هذا الحديث محفوظ غير : شاد ولا مُنكَرٍ، فأَنَّى يأتيه الوضع والحالة هذه؟! الثالث: أنَّ الحديث أخرجه البيهقي في "الدلائل" كما تقدَّم، وهو مُلتزم أن

لا يخرج في كتبه خصوصا "الدلائل" حديثاً يعلم أنه موضوع.

۲۳۲

مباحثات

الرابع: أنَّ البيهقي نصَّ على تضعيفه كما تقدم في كلامه، وهو دليل قاطع

على أنه ليس بموضوع.

الخامس: أنَّ الحديث ذكره الحافظ المنذريُّ في "الترغيب والترهيب"

الحفاظ

وأشار إلى تضعيفه، ولو كان موضوعًا ما خفي عليه ذلك، وهو من النقاد المبرزين. السادس: مما يدل على أنَّ الحديث ليس بموضوع، وأن ضعفه قريب مُحتمل : ورود أخبار وآثار تشهد له فيما تضمنه من فضل سورة (الملك)، وفيما

أفاده من حصول القراءة من الميت في القبر، وحياته فيه حياة لا ندركها. أما الأول: فقد تقدَّم فيه حديث أبي هريرة، وابن مسعود رضي الله عنهما، ونذكر هنا حديثًا ثالثًا أخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير"، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «سُورةٌ مِن القُرآنِ ما هي إلا ثلاثون آيةً خاصَمَتْ على صاحبها حتَّى أَدْخَلَتْهُ الجنَّة، وهي سورة

(تبارك)»، قال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح». وهذا حديث رابع رواه عبد بن حميد في "مسنده"، عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أُتيفك بحديث تفرح

به؟ قال الرجل: بلى، قال: اقرأ تَبَرَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: ١]، احفظها وعلمها أهلك وولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية، والمجادلة تُجادِل أو تُخاصِمُ يومَ القِيامَةِ عند ربها لقارئها، وتطلب له أن يُنجِيَهُ مِنَ النَّارِ إِذا كانت في جوفه، ويُنجِّي الله بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله صلى الله

الرد المحكم المتين

۲۳۳

عليه وسلم: «الوَدَدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلَّ إنسانِ مِنْ أُمَّتِي».

وأما الثاني: وهو ما أفاده من حصول القراءة من الميت في القبر، فيؤيده فيه

ما رواه ابن منده، وأبو أحمد الحاكم في "الكنى" بسند ضعيف، كما قال الحافظ السيوطي، عن طلحة بن عبيد الله قال أردت مالي بالغابة فأدركني الليل

فأويت إلى قبر عبدالله بن عمرو بن حرام، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: «ذلك عبد الله، ألم تَعْلَم أَنَّ اللهَ قَبَضَ أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت، ثُمَّ عَلَّقها وسط الجنة، فإذا كان الليل رُدَّت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك حتّى إذا طَلَعَ الفجرُ رُدَّت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت

فيه».

الصَّمة

وروى ابن جرير في تهذيب "الآثار" وأبو نعيم، عن إبراهيم بن المهلبي قال: حدثني الذين كانوا يمرون بالحصن بالأسحار قالوا: كنا إذا مررنا بجنبات قبر ثابت البناني سمعنا قراءة القرآن.

وأخرج أبو نعيم، عن جبير قال: أنا - والله الذي لا إله إلا هو - أدخلتُ ثابتا البناني لحده، ومعي - ، ومعي حميد الطويل، فلما سوّينا عليه اللَّبِنَ سقطت لَبِنَةٌ، فإذا أنا به يُصَلِّي في قبره، وكان يقول في دعائه: اللهم إن كنتَ أعطيتَ أحدًا مِن خَلْقِكَ الصَّلاةَ في قبره فأعطنيها، فما كان الله ليَرُدَّ دعاءه.

وأخرج ابن مَنْدَه قال : أخبرنا أحمد بن محمد السلمي، وأنبأنا أبو أحمد يوسف الخفاف: أنا القاضي أبو أحمد، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد الأشعري، سمعت

٢٣٤

مباحثات

سلمة بن شبيب قال: سمعت أبا أحمد الحفار - وكان ثقة ورعا- قال: دخلت يوم

الجمعة المقبرة نصف النهار، فما مررت بقير إلا سمعتُ منه قراءة القرآن. قال الحافظ زين الدين بن رجب في كتاب "القبور": «قد يكرم الله بعض أهل البرزخ بأعمال صالحة في البرزخ، وإن لم يحصل له بذلك ثواب، لانقطاع عمله بالموت، لكنه إنما يبقى عمله عليه ليتنعم بذكر الله وطاعته، كما تتنعم بذلك الملائكة وأهل الجنة في الجنَّة، وإن لم يكن على ذلك ثواب؛ لأن نفس ا الذكر والطاعة أعظم نعيما عند أهلها من جميع نعيم أهل الدنيا ولذتها، فما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله وطاعته».

وروى أبو الحسن بن البراء في كتاب "الروضة"، عن عبد الله بن محمد بن منصور: حدثني إبراهيم الحفَّار قال: حضرتُ قبرًا فبدت لينة، فشممت رائحة

المسك حين انفتحت اللبنة، فإذا بشيخ جالس في قبره يقرأ القرآن».

قال ابن رجب: وحدثني المحدث أبو الحجاج يوسف بن محمد السريري: ثنا شيخنا أبو الحسن علي بن الحسين السامري خطيب سامرا وكان رجلا صالحا، وأراني موضعا من قبور سامرا ، فقال : هذا الموضع لا نزال نسمع منه سورة (تبارك الملك).

وروى الحافظ أبو بكر الخطيب بسنده عن عيسى بن محمد الطوماري قال: رأيتُ أبا بكر بن مجاهد المقري في النوم كأنه يقرأ، وكأني أقول له: أنت ميت وتقرأ؟! فكأنه يقول لي: كنت أدعو الله في دبر كل صلاة، وعند ختم القرآن أن

يجعلني ممن يقرأ في قبره، فأنا أقرأ في قبري.

وأخرج الخلال في كتاب "السُّنَّة" من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان - وفيه

-

الرد المحكم المتين

۲۳۵

ضعف، عن أبيه، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: المؤمن يعطى مصحفا في

قبره يقرأ فيه.

وأخرجه ابن البراء في "الروضة" من طريق حفص بن عمر العدني - وفيه

ضعف أيضًا عن الحكم بن أبان.

ورؤي الحافظ أبو العلاء الهمداني في النوم بعد موته وهو في مدينة جدرانها وحيطانها كلها كتب، فسُئل عن ذلك؟ فقال: سألت الله تعالى أن يشغلني بالعلم كما كنت أشتغل به فأنا أشتغل بالعلم في قبري». اهـ كلام الحافظ بن

رجب

نقله الحافظ السيوطي في شرح الصدور" ، ونقل كثيرًا من الآثار في هذا المعنى، فظهر من هذه الوجوه أنَّ الحديث ضعفه قريب محتمل، وأنَّ المتنطع كاذب في ادعائه وضعه، ثُمَّ وقفت على كلام ابن رجب في كتابه المذكور، وبالله

التوفيق. ثُمَّ قال المتنطع: «الشبهة الخامسة : ما رواه ابن ماجه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهم إني أسألكَ بحَقِّ السائلين عليك، وبحَقِّ مَمشاي هذا...» الحديث. وهذا الحديث مع كونه في غاية الضعف، فإنه لو صح لم يفد المستدلين على جواز التوسل بالموتى شيئًا، فإنّ حق السائلين المذكور هو ما

تفضّل الله تعالى به على من دعاه بالإجابة لدعائه المشار إليه بقوله: وَإِذَا سألك عِبادِي عَنِي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: ١٨٦]، وقوله : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: ٦٠] ، على أحد التفسيرين، وهو تفسير

٢٣٦

مباحثات

الدعاء بالطلب، وهو توسل بفضل الله، وهو صفة من صفاته، ولا نزاع فيه،

فأين هذا من الوسيلة بالمخلوق والميت المتنازع فيه؟» . اهـ

وأقول: الحديث المذكور خرَّجه ابن ماجه في "سننه" قال: حدثنا محمد بن سعيد بن يزيد بن إبراهيم التستري : ثنا الفضل بن الموفق أبو الجهم: ثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية - يعني العوفي - عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن خَرَجَ مِن بَيْتِهِ إلى الصَّلاةِ، فقال: اللهمَّ إِنِّي أسألُكَ بحَقِّ السَّائِلِينَ عليك، وأسألُكَ بحَقِّ مَمْشَايَ هذا، فَإِنِّي لم أَخْرُجْ أَشَرًا، ولا بَطَرًا، ولا رياء، ولا سُمْعَةً وخَرَجْتُ اتَّقَاءَ، سُخْطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، فأسألك أن تُعِيذَنِي مِن النَّارِ، وأن تَغْفِرَ لي ذُنُوي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنت أَقْبَلَ اللهُ عليه بوَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ له سبعون ألفِ مَلَكِ».

ورواه أحمد عن يزيد بن هارون، والطبراني في "الدعاء" عن بشر بن موسى، عن عبدالله بن صالح العجلي، وابن خزيمة في كتاب "التوحيد" من طريق محمد بن فضيل بن غزوان، ومن طريق أبي خالد الأحمر، وأبو نعيم الأصبهاني من طريق أبي نعيم الكوفي، خمستهم عن فضيل بن مرزوق به، فزال ما يُخشَى من ضعف الفضل بن الموفق بمتابعة هؤلاء له، ولم يبق إلَّا النظر في حال فضيل وشيخه.

فأما فضيل فثقةٌ كما قال ابن عُيِّينَة، وابن معين وغيرهما، روى له مسلم والأربعة، وأكبر ما عيب به تشيعه وليس ذلك بعائبه على ما تقرر في هذا

الشأن.

الرد المحكم المتين

۲۳۷

وأما عطية فقد ضعفه أحمد، وتكلم فيه هشيم، لكن قال أبو حاتم: «ومع ضعفه يكتب حديثه»، وقال ابن معين: «صالح»، وقال ابن سعد: «كان ثقةً إن شاء الله»، وقال الحافظ في "التقريب " : عطية بن سعد بن جنادة - بضم الجيم وبعدها نون خفيفة - العوفي الجندلي - بفتح الجيم والدال المهملة - الكوفي أبو الحسن صدوق يُخطئ كثيرًا، وكان شيعيا مُدَلّسًا من الثالثة، روى عنه ا ه البخاري في "التاريخ"، وأبو داود، والنسائي» . اهـ

وقال في "أمالي الأذكار " : ضعف عطية إنما جاء من قبل تشيعه، وقيل: تدليسه، وإلا فهو صدوقٌ، وقد أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأخرج

له أبو داود عدة أحاديث ساكنا عليها، وحسّن له الترمذي عِدَّة أحاديث بعضها من أفراده» . اهـ

وهذا الكلام ذكره الحافظ ردًّا على إطلاق النووي في عطية أنه ضعيف، والذي يتحصل مما ذكرناه في عطية: أنَّ حديثه يكون حَسَنًا إذا سلم من

تدليسه، وهذا الحديث كذلك، فيكون حسنا، وقد حسنه ثلاثة

الحفاظ :

من كبار

أولهم: الحافظ أبو الحسن المقدسي، نقل ذلك عنه تلميذه الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب".

وثانيهم: الحافظ العراقي، فقد نصَّ على تحسينه في "تخريج أحاديث

الإحياء".

وثالثهم: شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فـ فإنه بعد أن خرجه في "أمالي

۲۳۸

مباحثات

الأذكار " قال ما نصه : حديث حسن ، أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن خزيمة في كتاب "التوحيد" ، وأبو نعيم ا الأصبهاني، وفي كتاب الصلاة لأبي نعيم، عن فضيل، عن عطية قال: حدثني أبو سعيد.. فذكره، لكن لم يرفعه، فقد أمن

بذلك تدليس عطية العوفي». اهـ نقله ابن علان في "شرح الأذكار".

ولا يخفى أن الموقوف في هذا الباب له حكم المرفوع؛ لأنه مما لا مجال للاجتهاد فيه، فرواية أبي نعيم الموقوفة لا تخدش في رفع الحديث كما قد يتوهم، فالحديث من هذا الطريق وحده حسن كما حكم به هؤلاء الحفاظ.

وله طریق آخر ضعیف نذکره استثناسًا وتتميما للفائدة: قال ابن السُّنّي في "عمل اليوم والليلة : حدثنا ابن منيع،

ثنا الحسن بن

عرفة، ثنا على بن ثابت الجزري، عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن جابر بن عبدالله، عن بلال مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا خَرَجَ إلى الصلاة قال: بسم الله، آمَنْتُ بالله توكَّلْتُ على الله، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عليكَ، وبحَقِّ تَخْرَجي هذا، فإنِّي لم أَخْرُجْهُ أَثَرًا ولا بَطَرًا ولا رياءً ولا سُمْعَةً، خَرَجْتُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِكَ وَاتَّقاءَ سَخَطِكَ، أَسْأَلُكَ أَن تُعيدَنِي مِن النَّارِ وتُدْخِلَني الجنة». الوازع بن نافع ضعيف.

بعد هذا نرجع لمناقشة المتنطع فنقول: «قوله: هذا الحديث مع كونه في غاية الضعف كذب وجهل؛ لأنَّ الحديث حسن كما علمت، وعلى فرض أنه

ضعيف فليس هو في غاية الضعف بل ضعفه قريب لما علمت من حال عطية

الرد المحكم المتين

۲۳۹

العوفي، وأنه صدوق كما قال الحافظ، وحديث الصدوق لا يكون في غاية

الضعف.

وقوله: «لو صح لم يفد المستدلين على جواز التوسل بالموتى؛ فإِنَّ حَقَّ السائلين هو ما تفضّل الله تعالى به على من دعاه بالإجابة لدعائه...» إلى أن قال: «وهو توسل بفضل الله، وهو صفة من صفاته، فأين هذا من التوسل بالمخلوق والميت المتنازع فيه»، غير صحيح؛ فإنَّ الحديث كما قال ابن علان في "شرح الأذكار": يفيد التوسل بحَقِّ أرباب الخير على سبيل العموم»، ومثلهم بالأولى الأنبياء والمرسلون، ولا شك أنَّ حَقّ أرباب الخير لا يبطل بموتهم، بل يثبت ويتأكَّد؛ لأنَّ الدار الآخرة هي محل وفاء الله لعباده الصالحين بالحقوق التي التزمها لهم تفضّلا منه وتَكَرما.

وكون هذا الحق صفة من صفات الله لا يبطل ما نقول - كما توهم المتنطع - بل يؤيده؛ لأن معنى التوسل بالأولياء الذي نقول به: هو سؤال الله بحقهم عليه، وجاههم عنده وكرامتهم لديه، وذلك في التحقيق يرجع إلى التوسل بحب الله وإكرامه لهم، وهذا يستوي فيه الوليُّ الحي والميت؛ لأنَّ الله يحبُّ أولياءه ويكرمهم جميعًا، بل الولي الميت أولى بذلك؛ لأنه في دار الكرامة والجزاء، فظهر أنَّ الحديث يؤيدنا فيما نقول وبالله التوفيق.

هذا وقد رأيت بعض المعاصرين طعن في الاستدلال بالحديث من ناحية أخرى، دلت على ضعفه في اللغة العربية، وذلك أنه قال: «إنَّ الباء في قوله: بحَقِّ السَّائِلين عليك، وبحَقِّ تَمَشَايَ» للتعدية؛ لأن سأل متعد بنفسه وبالباء،

٢٤٠

مباحثات

قال: وفي "القاموس" سأله كذا ، وعن كذا ، وبكذا بمعنى، وفاته أنَّ هذا في السؤال بمعنى الاستعلام كما ترشد إلى ذلك عبارة "القاموس" التي نقلها غير فاهم لها، ويوضحه قول صاحب المختار": وسأله الشيء، وسأله عن الشيء سؤالا ومسألة، وقوله تعالى: سَأَلَ سَابِلُ بِعَذَابِ وَاقِع [المعارج: 1] أي عن

عذاب ،واقع، قال الأخفش : يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان» . اهـ أما السؤال بمعنى الطلب كما في الحديث، فلا تدخل باء التعدية فيه على المفعول، وإنما تدخل على المتوسل به كما هو ظاهر، ولصديقنا العلامة المطلع الشيخ : محمد زاهد الكوثري رحمه الله كلامٌ جيدٌ في هذا الحديث، أحببت أن أنقله تتميما للفائدة. قال في مقاله محق التقول المنشور بالعدد السادس والعشرين من السنة الثامنة لـ"مجلة الإسلام"، بعد تخريج الحديث المذكور ما نصه: «وفي الحديث التوسل بعامة المسلمين وخاصَّتهم، وإدخال الباء في أحد مفعولي السؤال، إنما هو في السؤال الاستعلامي، كقوله تعالى: فَشَلُ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: ٥٩] سَأَلَ سَابِلُ بِعَذَابِ واقع ، وأمَّا السؤال الاستعطا في فلا تدخل الباء فيه أصلا إلَّا على المتوسل به، فدونك الأدعية المأثورة، فتصور إدخالها هنا في المفعول الثاني إخراج للكلام عن سننه ،بهوّى، وصيحة باطل تمجها الأسماع، وليس معنى الحق الإجابة، بل ما يستحقه السائلون المتضرعون فَضْلًا من الله سبحانه وتعالى، فيكون عد بحق السائلين» سؤالا لهذا الدعي هَذَيانًا محضا، ولا سيما عند ملاحظة ما عطف عليه في الحديث. وأما زعم أنه ليس في سياق الحديث

الرد المحكم المتين

٢٤١

ما يصلح أنه يكون سؤالا غير ذلك، فمما يثير الضحك الشديد والهزء المديد، فأين ذهب من هذا الزاعم أن تُعيذَني من النار ؟ وكم يكرر الفعل للتوكيد، فالسؤال في الفعل الأخير هو السؤال في الفعلين المتقدمين، بل لو لم تكن تلك الأفعال من باب التوكيد لدخلت في باب التنازع، فيكون هذا القيد معتبرًا في الجميع على كل تقدير، وأمَّا مَن يحاول ردَّ التوسل بتصور دخوله في ا بغير الله فإنها حاول الردَّ على المصطفى صلوات الله عليه؛ لأنه هو الذي عَلَّم

الحلف

صيغ التوسل، وفيها التوسل بالأشخاص وأين التوسل من الخلف» . اهـ وهو على اختصاره كافٍ في ردّ كلّ ما أورد على الاستدلال بالحديث من اعتراضات، وبالله التوفيق.

ثم قال المتنطع: «الشبهة السادسة حديث: «حياتي خير لكم، وتماتي خير لكم، تُحدِثون ويُحدَثُ لكم، تُعْرَضُ عليَّ أَعْمَالُكُمْ، فما رأيتُ مِن خَيرٍ حَمِدتُ اللهَ، وإن يك سوى ذلك اسْتَغْفَرتُ لكم»، وهذا الحديث وإن اشتهر على ألسنة كبار الناس وصغارهم، فقد خلت منه جميع كتب السُّنَّة، حتى الحاكم الذي يروي ما هَبَّ ودَبَّ، ومع هذا فالذي رواه وقفه على بكر بن عبدالله المزني، وهو تابعي مشهور، ومع ذلك لم يذكر فيه الصحابي أحد من رواة السُّنَّة لا في الكتب، ولا في ضعيفها، وهو منقطع لا يصلح للاحتجاج به، وإنما يأخذه حضرات أهل الدين من دواوين الخطب، ذلك مبلغهم من العلم . اهـ وأقول : الحديث المذكور حديث صحيح لا مَطْعَن فيه ولا مَغْمَز، ورد مِن

صحيح

حدیث ابن مسعود، وأنس بن مالك، ومن مرسل بكر بن عبد الله المزني.

٢٤٢

مباحثات

أما حديث ابن مسعود رضي ا الله عنه، فخرجه البزار في "مسنده" قال: ثنا يوسف بن موسى: ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن سفيان، عن عبدالله بن السائب عن زاذان، عن عبدالله، عن عن زاذان، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله ملائكةٌ سَيَّا حين يُبَلِّغوي عن أُمَّتِي السَّلام».

قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «حَياتي خيرٌ لكم، تُحدِثُونَ ويُحدث لكم، ووفاتي خير لكم تَعْرَضُ على أعمالكم، فما رأيتُ مِن خير

حمدت الله، وما رأيتُ مِن شَرِّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لكم».

قال البزار: «لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد». قال الحافظ العراقي في كتاب الجنائز من "طرح التثريب في شرح

التقريب": «إسناده جيد».

11

وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد"، والمحدث القسطلاني في "شرح البخاري": «رجال إسناده رجال الصحيح.

وقال الحافظ السيوطي في كتاب "المعجزات والخصائص": «إسناده

صحيح».

وكذا قال علي القاري، والشهاب الخفاجي في أول شرحيهما على " الشفاء "(۱)

وأما حديث أنس ، فرواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، وابن عدي في

(۱) وقد توسعت في الكلام على طرق هذا الحديث، وشرح معناه في كتابي "نهاية الأمال في صحة وشرح حديث عرض الأعمال".

الرد المحكم المتين

٢٤٣

"الكامل"، من طريق خراش عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «حَياتي خيرٌ لكم، تُحدِثون ويُخدَثُ لكم، فإذا أنا مُتُ كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعْرَضُ عليَّ أعمالكم، فإن رأيتُ خيرًا حمدت الله، وإن رأيتُ غير ذلك اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لكم».

قال الحافظ العراقي في "المغني": إسناده ضعيف لضعف خراش» . اهـ قلت: لكن له طريق آخر ، قال الحافظ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم اليونارِتي الأصبهاني في "معجمه " : سمعت الشريف واضح بن أبي تمام الزينبي يقول: سمعت أبا علي ابن تومة يقول: اجتمع قومٌ من الغرباء عند أبي حفص ابن شاهين، فسألوه أن يُحدِّثهم أعلى حديث عنده ، فـ ، فقال : لأحدثنكم حديثا من عوالي ما عندي: ثنا عبد الله بن محمد البغوي: ثنا شيبان بن فروخ الأيلي: ثنا نافع أبو هرمز السجستاني: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «حياتي خير لكم...» الحديث، وخرجه ابن النجار في "تاريخ بغداد". ، به. وهذا إسناده ضعيف أيضًا، لاتفاقهم على ضعف أبي هرمز وعن أنس حديث آخر أخرجه أبو نعيم في "الحلية" قال: ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي، ثنا محمد بن مصفى، ثنا بقيَّة ، ثنا عباد بن كثير ، عن عمران هو القصير - عن أنس قال: قال رسول الله

:

، عن معمر بن محمد الأصبهاني، عن الحافظ أبي نصر اليوناري

صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أعمالَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عليَّ في كلِّ يوم جُمُعَةٍ، وَاشْتَدَّ

غَضَبُ الله على الزناة».

.

وأما مرسل بكر بن عبد الله المزني، فأخرجه الحارث بن أبي أسامة في

٢٤٤

مباحثات

"مسنده" قال : ثنا الحسن بن قتيبة ، ثنا جسر بن فرقد، عن بكر بن عبدالله المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حياتي خيرٌ لكم تُحْدِثُونَ ويُخْدَثُ لكم، ووفاتي خيرٌ لكم، تُعْرَضُ عليَّ أَعْمَالُكُمْ، فما كان مِن حَسَنٍ حَمِدَتُ اللهَ، وما كان مِن شَيْءٍ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لكم». إسناده ضعيف؛ لضعف الحسن بن قتيبة. لكن خرجه إسماعيل القاضي المالكي من طريق آخر فقال: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن غالب القطان، عن بكر بن عبدالله المزني به مرفوعًا. وهذا إسناد صحيح، صححه الحافظ ابن عبدالهادي مع تعنته.

وقال أيضا : ثنا حجاج بن المنهال، ثنا حماد بن سلمة، عن كثير أبي الفضل،

عن بكر بن عبدالله به مرفوعًا. وهذا إسناد صحيح أيضًا.

وفي الباب عن سعيد الشامي والد عبد العزيز قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الأعمالُ يومَ الإثنين والخميس على الله، وتُعْرَضُ على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات يومَ الجمعةِ، فيفرحون بحَسَناتِهم وتَزْدادُ

وُجُوهُهم بياضًا وإشراقًا، فاتقوا الله ولا تُؤذوا موتاكم». رواه الحكيم الترمذي في "نوادر" "الأصول" من طريق عبدالغفور بن عبدالعزيز بن سعيد الشامي، عن أبيه، عن جده، وكانت له صحبة. وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد الغفور.

وعن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنكم تُعْرَضُون على بِأَسْمائِكُمْ ومُسَمَّاكم، فأحْسِنوا الصَّلاةَ على» أخرجه عبدالرزاق. وبالجملة فالحديث صحيح لا مطعن فيه، وهو يدل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله

الرد المحكم المتين

٢٤٥

عليه وآله وسلّم يعلم أعمالنا بعرضها عليه، ويستغفر الله لنا على ما فعلنا من سيء وقبيح، وإذا كان كذلك فيجوز لنا أن نتوسل به إلى الله ونستشفع به لديه؛ لأنه يعلم بذلك فيشفع فينا ويدعو لنا، وهو الشفيع المشفّع صلى الله عليه وآله وسلَّم، وزاده تشريفا وتكريما.

وقد أخبر الله في القرآن أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شهيدٌ على أُمَّته،

وذلك يقتضي أن تُعرَضَ أعمالهم عليه ليشهد على ما رأى وعلم. قال ابن المبارك: أخبرنا رجل من الأنصار، عن المنهال بن عمرو، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يومٍ إِلَّا يُعْرَضُ فيه على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أُمَّته غدوة وعشيا، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم، فلذلك يشهد

عليهم، يقول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّتِمٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [النساء: ٤١]) . اهـ

وقال القرطبي في "التذكرة": باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على أُمَّته»، ثُمَّ أورد أثر سعيد بن المسيب السابق، ثُمَّ قال: «قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وأنها تعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، قال: ولا تعارض فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة

والسلام» . اهـ

وروى الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس قال: لما نزلت يَنَايُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَهِدًا } [الأحزاب: ٤٥] وقد كان أمر عليا ومعاذا أن يسيرا إلى

٢٤٦

مباحثات

اليمن، فقال: «انْطَلِقا فبَشِّرا ولا تُنفّرا، ويسرا ولا تُعَسّرا، فإِنَّه قد أُنْزِلَ عَلَيَّ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا على أُمَّتك، ومُبَشِّرًا بالجنَّة، ونَذِيرًا مِن النَّار،

وداعيًا إلى شهادة أن لا اله إلا الله بإذنه، وسراجًا منيرًا بالقرآن».

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «قوله تعالى: شَهدًا ﴾ أي الله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ) كقوله: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: ١٤٣]. اهـ

فالقرآن كما ترى يؤيد حديث عرض الأعمال ويُعضّده. فإن قيل: قد أخبر الله تعالى عن هذه الأمة أنها تشهد على غيرها، ولم يرد في

حديث ولا أثر أنَّ أعمال الأُمَمِ تُعرَضُ عليها.

فالجواب من وجهين الأول: أن عرض الأعمال مما خُصَّ به نبينا عليه الصلاة والسلام كما خُصَّ

في قبره بحياة أكمل من حياة الشهداء، وبأن جسده لا يبلى.

الثاني: أنه ورد في الصحيحين" أنَّ هذه الأمة تشهد على إخبار نبيها وكلامه، وذلك أنها إذا شهدت بأنَّ الأنبياء بلغوا أممهم فيقال: وما علمكم فتقول: أخبرنا نبينا أنَّ الرسل قد بلغوا فصدقناه، هكذا صح في الحديث، وهو واضح لا خفاء به.

فإن قيل: فما تقول فيما رواه الطبراني وغيره عن محمد بن فضالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم أمر قارئًا يقرأ، فلما بلغ قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا

الرد المحكم المتين

٢٤٧

جئْنَا مِن كُلِّ أُمَّتِي بِشَهِيدٍ ﴾ [النساء: ٤١] الآية، بكى حتى اضطرب الحياه وقال: أي رَبِّ، شَهِدْتُ على مَن أنا بين ظهرانيه، فكيف بمن لم أرَ؟»، فربما يفهم بعض الجهلة من هذا أنه ينفي عرض الأعمال.

قلت: هذا الحديث مؤيد لعرض الأعمال لا ناف له، بل هو أحد الأسباب

عن

التي لأجلها أكرم الله نبيَّه بهذه الخصوصية، حتى تكون شهادته على أمته . مشاهدة وعيان، كما أكرمه بعرض أُمَّته مع الأمم الأخرى عليه، وهو في

المدينة، كما ثبت في الصحيحين"، وروى البزار عن حذيفة بن أسيد قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُمته، فقمت خلفه فلما فرغ التفت إلى فقال: كنتَ ههنا ؟ هل سمعت؟»، قلت: نعم.

وبعد فنرجع إلى مناقشة المتنطع فنقول: في كلامه أمور:

الأول: ادعاؤه أنَّ الحديث خلت منه جميع كتب السُّنَّة كذب وجهل؛ فإنَّ الحديث موجودٌ في كثير من كتب السُّنَّة، كـ"طبقات ابن سعد"، و"مسند البزار"، و"مسند الحارث"، و "تاريخ ابن النجار"، و"طرح التثريب" للحافظ العراقي، و"بغية الباحث بزوائد مسند الحارث"، و"مجمع الزوائد" كلاهما للحافظ الهيثمي، والجامع الصغير"، و"الجامع الكبير"، و"الخصائص الكبرى" الثلاثة للحافظ السيوطي، وشرح البخاري" للقسطلاني، و"كنز العمال " للمتقي الهندي، وغيرها. الثاني: ادعاؤه أنَّ الحاكم يروي ما هَبَّ ودَبَّ، جرأةٌ مَبنيَّةٌ على جهل. أما الجرأة: فنطقه بهذه العبارة في حقّ الحاكم وهو حافظ كبير وإمام شهير، بينه وبين المتنطع كما بين السماء والأرض.

٢٤٨

مباحثات

وأما الجهل الذي انبنت عليه هذه الجرأة فهو أنه ما قرأ "المستدرك" ولا راه بعينه، ولا عرف ما فيه من الأحاديث، ولا قيمتها في نظر الحفاظ، وإنما سمع كما يسمع | العامة أنَّ الحاكم روى أحاديث موضوعة، فأخذه عل علاته

وزاد عليه أنه يروي ما هبّ ودبّ، ليوهم بذلك أن الحديث في نهاية الغرابة، وهيهات أن يرد الحديث بمثل هذه التمويهات.

الثالث: قوله : ومع هذا فالذي رواه وقفه على بكر بن عبدالله المزني، خطأ ناشيء عن جهل، فإنَّ مثل هذا لا يُسمى موقوفا، ولا يمكن أن تنطبق عليه حقيقة الموقوف بحال من الأحوال، وإنما تنطبق عليه حقيقة المرسل لا غير، ولكنه فيما يظهر سمع أن عند المحدثين شيئًا يسمونه الموقوف، فأراد أن يطبقه على كل ما هب ودب.

الرابع: قوله: ومع هذا فالذي رواه يناقض قوله السابق: «خلت منه جميع كتب السُّنَّة»، والتناقض شأن المبطل وعلامة الخذلان.

الخامس: قوله : ومع ذلك لم يذكر فيه الصحابي أحد من رواة السُّنَّة، لا في صحيح الكتب، ولا في ضعيفها كذب مبني على جهل، فإنَّ الحديث وارد من طريق ابن مسعود، وأنس، وورد معناه من طريق سعيد الشامي، ومجاهد، كما تقدم كل ذلك، بل وصلت طرقه إلى عشرين طريقا كما أشار إليه أخي الحافظ السيد أحمد في بعض فتاويه

وسيأتي إن شاء الله في مبحث حياة الأنبياء من هذا الكتاب أحاديث كثيرة

في عرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من جملة الأعمال

كما لا يخفى

الرد المحكم المتين

٢٤٩

ثُمَّ قال المتنطع: «هذا مع أنَّ البخاري ومسلم (كذا) قد خرجا حديثا يردُّه، ويُبين أنه صلى الله عليه وآله وسلّم لا يَعْلَمُ عن أُمَّته شيئًا بعد انتقاله إلى الدار الأخرى، وقد أورده البخاري في مواضع من "صحيحه"، ووصلت طرقة عند أهل الحديث إلى خمسة عشر صحابيًا، وهو حديث متواتر في قوة القرآن ولفظه في كتاب "البخاري" في الرقاق: «بَيْنَها أنا أَسْقِي النَّاسَ عَلى حَوْضِي يُؤْتَى بأناسٍ مِن أُمَّتِي يُرِيدُونَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَيُؤْخَذُ بِهِمْ إِلَى جِهَةِ النَّارِ، فأقول : أَصْحَابِي أَصْحَابي، فيُقالُ : إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، ارْتَدُّوا على أَدْبَارِهِمْ بعدما فارَقْتَهُمْ، فأقولُ كما قال العبد الصالح - يعنى عيسى عليه الصلاة والسلام - : وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرقيب عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ } [المائدة: ۱۱۷ - ۱۱۸] وفي بعض الألفاظ تغيير من الرواة وزيادة ونقص. قوله: إِنَّكَ لا تَدْري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» يدل على أنه لا يدري عن أُمته شيئًا بعد موته لأنه إذا جَهِلَ (۱) حال أصحابه الذين عرفوه وعرفهم، فغيرهم من باب أولى» . اهـ

وأقول: أما الحديث المذكور فطرقه التي أعرفها وقرأتها اثنا عشر طريقا

ليس غير.

وهي طريق سهل بن سعد، وأبي سعيد الخدري، وأسماء بنت أبي بكر،

(۱) انظر إلى وقاحة الوهابية، كيف ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم الجهل باللفظ الصريح، وهذا دأبهم قاتلهم الله.

٢٥٠

مباحثات

و ابن مسعود، وأنس، وحذيفة عند ا

الشيخين.

وطريق ابن عباس، وأبي هريرة عند البخاري.

وطريق عائشة، وأم سلمة عند مسلم.

وطريق أبي بكرة عند أحمد والطبراني.

وطريق أبي الدرداء عند الطبراني.

وهذه الطرق كافية في التواتر عند من يرى ذلك، وهو قول محكي في كتب أصول الفقه ومصطلح الحديث، ولكن الصحيح عند جمهور العلماء خلافه كما يعلم من مراجعة ذلك في محله.

وأمَّا ادعاء المتنطع أنَّ الحديث وصلت طرقه إلى خمسة عشر صحابيا فادعاء كاذب، وهو من جملة مفترياته التي شحن بها كتابه، وغرضه من هذا الادعاء التهويل بما ذكره عقبه من أنَّ الحديث متواتر، وأنه في قوة القرآن، وهذا التهويل لا يفيده هنا شيئًا؛ لأمرين:

الأول: أنَّ حديث عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ورد

يرجح

من عشرين طريقا، فطرقه أكثر من طرق حديث الحوض. الثاني: أنَّ المقرَّر في علم الأصول والمصطلح، أنَّ الدليلين المتعارضين لا أحدهما على الآخر إلَّا إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، أمَّا إذا أمكن الجمع بينهما فهو الواجب، ولا يجوز العدول عنه إلى ترجيح أو غيره؛ لأن في ذلك إلغاء لدليل شرعي بغير حقٌّ، وهو حرام بخلاف الجمع فإنَّ فيه إعمال الدليلين، وطاعتهما جميعا.

الرد المحكم المتين

٢٥١

والحديثان هنا غير متعارضين في الحقيقة؛ لإمكان الجمع بينهما وتيسره، فمحاولة المتنطع تقديم حديث من يذاد عن الحوض على حديث عرض الأعمال مُدَّعِيًا في الحديث الأول أنه متواتر وأنه في قوة القرآن محاولة باطلة، وهي تدل على شيئين :

الأول: ضيق عَطَن المتنطع وعدم صلاحيته لفهم الأحاديث والكلام عليها؛ لأن من يفهم التعارض لأدنى سبب، ويفزع إلى الترجيح بمجرد ذلك لعديم الفهم، فاقد التذوق لمعاني الكلام ومراميه، ومن كان بهذه المثابة فجدير به أن يجعل نصف الأحاديث النبوية أو ثلثيها مرجوحة غير صالحة للعمل والاحتجاج، وفي هذا من الخطر ما لا يخفى. الثاني: جهل المتنطع بعلم الأصول، فإن مما تقرر فيه وجوب تقديم الجمع إذا أمكن على غيره، كما سبق آنفًا، مع أنه أعني المتنطع - عنده ورقة تشهد له

بأنه من علماء الأزهر، فلا أدري كيف أخذها وهو بهذا الجهل الفظيع!. وبعد، فإليك طريق الجمع بين الحديثين، ودفع تعارضهما، وقد آثرنا أن ننقله عن بعض أهل هذه الفرقة، وهو صديق للمتنطع، ليكون أبلغ في الرد عليه، فقد ذكر هذا البعض حديث عرض الأعمال من طريق بكر بن عبدالله المزني فقط، وقال: إنه مرسل ليس صحيحًا ولا ثابتا، قال: «وقد ضعف بعض المتأخرين هذا الخبر بطريق آخر فقال : إنه معارض لما هو أصح منه، وأثبت باتفاق أهل العلم والحديث، وهو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما وذكر حديث الحوض نحو ما تقدَّم، ثُمَّ قال: وعندي أنَّ هذا التضعيف ضعيف

٢٥٢

مباحثات

بأربعة أمور (۱):

الأول: أنه لا تعارض البتة؛ إذ حديث عرض الأعمال فيه أنه يعلم نفس الأعمال وأنها خير أو شر ، وأنها منسوبة إلى أُمَّته، ولا يلزم أن يعرف أصحاب العمل الصالح بالتعيين والفاسد كذلك، وحديث لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيه أنه يجهلهم أمن الصالحين أو الطالحين، ولا ينافي أنه يعلم أنَّ أُمَّته جاءت بعمل صالح أو طالح . الثاني: وقت الحادثتين مختلف، أو يمكن أن يكون مختلفا، وحينئذ لا يتحقق التعارض، إذ يجوز أن تعرض عليه الأعمال في البرزخ قبل النشور، ويوم القيامة يوم الفَزَعِ الأكبر يَذْهَلُ عنها ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُل

:

مرضعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَىٰ وَمَا هُم بِكَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج : ٢].

وقال بعض المفسرين في آية (المائدة) : يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَمُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: ١٠٩] أنهم ينسون ما كانوا

يعلمون من تفاقم الهول. الثالث: أن يقال : حديث: «لا تَدْري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» خاص، وحديث

(۱) بقي أمرٌ خامس، وهو أن يكون قوله: إنَّك لا تدري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» فيه استفهام تحذوف تقديره: «أثنك لا تدري...» إلخ، ويكون المعنى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم علم ما أحدثوه لعرض أعمالهم ولكنه نسي فذكره الله فتذَكَّر، فقال: سُحْقًا

سحقا.

الرد المحكم المتين

٢٥٣

«عرض الأعمال عام والخاص مع العام ليس تعارضًا، وطريق الجمع بينهما

معلوم.

الرابع يمكن أن يقال: خبر «العرض على الإجمال، وخبر «لا تدري» على سبيل التفصيل، فهو يعلم إجمالا، ولا يعلم تفصيلا، ونحن نعلم حال أهل الإسلام بالجملة، ولا نعلمها بالتفصيل». اهـ

وأضعف هذه الوجوه الوجه الثاني، وأقواها الأخير(۱)، حتى أن بعض

العلماء جعله متعينا للجمع بين الحديثين المذكورين. وأما الوجه الثالث فهو متجه أيضا؛ لأن حديث: «لا تَدْري ما أَحْدَثُوا بَعْدَك..» جاء فيه: «ليذادن رجالٌ» وفي رواية: «ناس»، وفي رواية: «أقوام»، وكل

هذه جموع مُنكَرةٌ واقعة في سياق الإثبات، والقاعدة الأصولية تقرر أنَّ الجمع المنكر الواقع في سياق الإثبات ليس بعام، بخلاف حديث عرض الأعمال فقد جاء فيه: «تُعْرَضُ عليَّ أَعْمَالُكُمْ» وهذا جمع مضاف، والجمع المضاف من صيغ العموم الموضوعة له حقيقة، كما تقرر في علم الأصول.

وطريق الجمع بين العام والخاص إذا تنافيا ، أن يحمل العام على الخاص بأن يخصص به، وكيفية ذلك هنا أن يقال: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وآله

(۱) وعليه وعلى الأول اقتصر الأبي في "شرح مسلم" فقال: «قيل هو -يعني حديث الحوض - معارض الحديث تعرض عليه أعمال أُمَّته في الدنيا يوم الخميس ويوم

الإثنين؛ لأنه لو علم أعمالهم لا يناديهم به وأجيب بأنها إنما تعرض عليه عرضًا إجماليا، فيقال: عملت أُمَّتك شرا، عملت أُمَّتك خيرا، أو أنها تعرض دون تعيين

عامليها». اهـ

٢٥٤

مباحثات

وسلم تُعرَضُ عليه أعمال أُمَّته، إلَّا أولئك القوم الذين سبق القضاء بنفوذ الوعيد فيهم بذودهم عن الحوض، فلا تعرض عليه أعمالهم حتى لا يستغفر لهم، فلهذا لم

يعلم بحالهم فدعاهم إلى الحوض فقيل له: «لا تَدْري ما أَحْدَثُوا بعدك». وبما قررناه ظهر أنَّ لا تعارض بين الحديثين، وأنَّ لكل منهما تَحْمَلًا غير تحمل الآخر، وتبيَّن أيضًا قصر نظر المتنطع، وخطأ فهمه، وجهله المطبق، وجرأته على الأحاديث النبوية، يضرب بعضها ببعض، ويقدم بعضها على بعض بمحض الهوى والتشهي، وتلك خطة سوء، نسأل الله أن يعافينا منها بمنه، وبالله التوفيق.

(تنبيه) اختلف العلماء في الرجال الذين يذادون عن الحوض اختلافا كبيرًا، وأنا أنقل كلام الحافظ مُلخَصًا، وفيه إشارة إلى صحة حديث عرض الأعمال، وكونه أمرًا ثابتا متقررًا.

قال في "الفتح" في شرح حديث ابن عباس الذي فيه: «وإنه سيجاءُ برجال

مِن أُمَّتي فيُؤخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمالِ فأقولُ : يَا رَبِّ أَصْحَابِ، فيقولُ اللهُ: إِنَّكَ لَا تَدْري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فأقولُ : كما قال العَبْدُ الصَّالِحُ : ﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دمتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: ۱۱۷ - ۱۱۸] قال: فيقال: إنَّهم لم يزالوا مُرْتَدِّينَ على أَعْقَابِهِمْ». ما ملخصه: «وقع في ترجمة مريم من أحاديث الأنبياء، قال الفَرَبْريُّ: ذكر عن أبي عبدالله البخاري، عن قبيصة

قال : هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم يعني وماتوا على الكفر.

الرد المحكم المتين

٢٥٥

وقال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتدَّ قوم مِن جُفاة الأعراب. وقال غيره : قيل: هو على ظاهره من الكفر، والمراد بأُمَّتي أُمَّة الدعوة، ورجح بقوله في حديث أبي هريرة: «فأقول : بُعْدًا لهم وسُحْقًا»، ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم، ولو كانوا من أُمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه. ويردُّ هذا قوله في حديث أنس، وأبي هريرة: «حتى إذا عرفتهم».

وقال ابن التين: يحتمل أن يكونوا منافقين، أو من مرتكبي الكبائر. وقيل : هم من جفاة الأعراب دخلوا في الإسلام رغبةً ورهبة. وقال النووي: قيل : هم المنافقون والمرتدون».

ولتراجع بقية كلامه في شرح الحديث في باب الحشر من كتاب الرقاق. والذي أرجحه وأعتمد عليه أنَّ المراد بالحديث الرجال الذين قاتلوا عليا وأهل البيت وناصبوهم العداوة ، ومن جمع طرق الحديث وألفاظه وتأملها

بإمعان ظهر له ذلك ظهور الشمس في كبد السماء، والله أعلم.

(تنبيه آخر) بعد أن ذكرت الجمع بين الحديثين، وما أرجحه في الذين يذادون عن الحوض، رأيت أن أورد إشكالا في معنى حديث الحوض، لا يمكن للوهابية جميعًا أن ينفكوا عنه، وذلك أنَّ الحديث يفيد أن جماعةً مِن الصحابة يطردون عن الحوض، مع أنَّ الله تعالى عدل الصحابة وأثنى عليهم في كتابه، والجمهور متفقون على عدالتهم جميعًا، حتى المجهولين منهم، فكيف يتأتى هذا مع طرد طائفة منهم عن الحوض ؟! فإن حمل الحديث على المرتدين كما رجّحه جماعةٌ، فالخطابي يجزم بأن أحدًا من الصحابة لم يرتد بعده صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما ارتد قوم من جفاة

٢٥٦

مباحثات

الأعراب ممن لا نصرة له في الإسلام.

وإن حمل على المنافقين، فالنفاق كان على عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم، والحديث يقول: «لا تَدْري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».

وإن حمل على المبتدعة، فالمبتدعة ليسوا أصحابه؛ لأنهم حدثوا بعده. وإن حمل على من حاربوا عليّا عليه السلام، فالأشاعرة والماتريدية لا

يرضون هذا ، ويرون أنَّ أولئك المحاربين كانوا مجتهدين مخطئين. وإن حمل على أُمَّة الدعوة والعصاة مِن أُمَّة الإجابة، فالحديث ينافي ذلك،

لأنه يصرح بأنهم أصحابه يعرفهم ويعرفونه وأنه يناديهم بأسمائهم. ثُمَّ كيف يتبرأ من أصحابه ويقول في حقهم: «سُحْقًا سُحْقًا»، وهو صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يتبرأ من عصاة أُمَّته ؟! بل يشفع لهم ويسعى في خلاصهم

بعد دخولهم النار.

فالحديث مشكل جدًا حتى أنَّ الإمام مالكا ندم على روايته في "الموطأ"

وقال: «ليتني لم أروه، ولم يكتب عنِّي»، نقله الأبي في "شرح مسلم". وما ندم مالك على روايته إلا لما فيه من الإخبار بتبديل الصحابة، وتبري النبي صلى الله عليه وآله وسلّم منهم، وذلك يخالف القرآن والسنة المتواترة وما اتفق عليه جمهور العلماء، فأحسن محامل حديث الحوض على مذهب الجمهور أن يكون من المتشابه الذي يترك معناه إلى الله، بخلاف حديث عرض الأعمال فإنه مع صحته - مؤيَّد بالقرآن والسُّنَّة المستفيضة ومذاهب جمهور العلماء، فأين يذهب الوهابية المتنطعون؟.

الرد المحكم المتين

جميع

٢٥٧

تنبيه آخر: من الإشكال في حديث الحوض أيضًا، أنه يقضي ألا نترضى عن الصحابة، وإنما نترضى عمن نجزم بأنه لا يذاد عن الحوض، وتعيين المطرودين منهم يختلف باختلاف الأغراض، فغلاة الشيعة لا يترضون عن أصحاب وقعة الجمل، والنواصب والخوارج لا يترضُون عن علي وعثمان ومن

معهما، وآخرون لا يترضون عن معاوية ومن كانوا معه، وكل فرقة ترى أنها على الحق، وأنَّ حديث الحوض يؤيدها، فإن طبقنا الحديث على الجميع أدَّى ذلك إلى أنَّ معظم الصحابة لا نترضى عنهم، لأنهم ليسوا أهلا للترضّي وإن خصصناه بفئة دون أخرى، كان تحكما لا معنى له، فليعينوا لنا من هم الصحابة الذين لا نترضى عنهم. فإن لم يفعلوا ولن يستطيعوا أن يفعلوا فليجزموا معنا بأن حديث الحوض مشكل المعنى، متروك الظاهر، لما يلزم عليه من المفاسد التي أوضحناها، أما حديث عرض الأعمال فهو محكم واضح، لا إشكال فيه ولا

خفاء.

ثُمَّ قال المتنطع: «أما بقية ما أوردوه من الآثار والمنامات، وتمسكوا به فنحن في غنى عن الردّ عليه؛ فإنَّ هذا لا يبنى عليه شرع، مع أن أسانيدها كلها

أوهى من بيت العنكبوت، كما يعرف ذلك من له إلمام بأسانيد السُّنَّة». اهـ وأقول: ترك المتنطع كثيرًا من الأدلة الجهلة بها وعدم توفيقه إلى الوقوف عليها، وأراد أن يغطي جهله بادعاء أنه في غنى عن الردّ عليها، وأنَّ أسانيدها أوهى من بيت العنكبوت، فكان هذا الادعاء فاضحًا لجهله؛ إذ أن تلك الآثار

٢٥٨

مباحثات

التي لم يذكرها فيها ما هو صحيح، والضعيف منها لم يصل إلى حد الوهاء كما سيتبيَّن، وقد أردنا أن نشير إليها تتميما للفائدة.

رضي

فمنها ما رواه الطبراني في معجميه "الكبير" و"الأوسط" قال: ثنا أحمد بن حماد بن زغبة، ثنا روح بن صلاح، أخبرنا سفيان، عن عاصم، عن أنس بن مالك الله عنه قال : لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس عند رأسها فقال: «رَحِمَكِ الله يا أُمِّي، كنتِ أُمِّي بعد أمي، تجوعين وتُشبعينَني ، وتَعْرِينَ وتَكْسِينني، وتمنعينَ نَفْسَكِ

طَيِّبَ الطعامِ وتُطْعِمينَني، تُريدين بذلك وَجْهَ الله وَالدَّارَ الآخِرة». ثُمَّ أمر أن تُغَسل ثلاثا ثلاثا، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور وضعه صلى الله عليه وآله وسلَّم بيده، ثُمَّ خلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قميصه

فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه.

ثُم دعا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أسامة بن زيد، وأبا أيوب

الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وغلامًا أسود يحفرون فحفروا قبرها، فلما

بلغوا ا ا اللَّحْدَ حَفَرَهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بيده، وأخرج تُرابَهُ بيده، فلما فَرَغَ دَخَلَ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فاضْطَجَعَ فيه وقال: «الحمد لله الذي يُحيي ويُمِيتُ وهو حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لَأُمِّي فاطمةَ بنتِ أَسَدٍ، وَلَقَنْها حُجَّتَها، وأَوْسِعْ عليها مُدْخَلَها بحَقِّ نَبِيِّكَ والأنبياء الذين مِن قَبلي،

فإِنَّكَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ». وكبر عليها أربعًا، وأدخلها اللَّحْد هو والعباس وأبو بكر رضي الله عنهما.

الرد المحكم المتين

٢٥٩

قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد": «رجاله رجال الصحيح،

غير روح بن صلاح وقد وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف».اهـ قلت: روح بن صلاح هو ابن سيابة بن عمرو الحارثي، يكنى أبا الحرث، ذكره ابن يونس في تاريخ الغرباء" وقال: «هو من الموصل، قدم مصر وحدث بها، رويت عنه مناكير، وذكره ابن عدي في "الكامل"، وروى من طريقه حديثين وقال: له أحاديث كثيرة في بعضها نكرة، وقال الدارقطني : ضعيف في الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحاكم: ثقة مأمون، توفّي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، فالحديث صحيح على رأي ابن حبان والحاكم؛ لأنه على شرطهما، وأما على رأي الدارقطني، وابن عدي فهو ضعيف، لكن ضعفه قريب محتمل، وليس بضعف شديد؛ لأنهما لم يُضعفا روحًا بما يقتضي ترك روايته، بل عبارتهما في تضعيفه تعتبر من العبارات الخفيفة في الجرح، يؤيد ذلك الحافظ الهيثمي الذي نقلناه آنفًا وفيه ضعف، فإن هذه العبارة تفيد قلة الضعف وخفته، كما يعلم من كتب الحديث والرجال. والحاصل أنَّ الحديث على القول بضعفه أحسن وأقوى من كثير من الأحاديث الضعيفة التي احتج بها الأئمة في الأحكام، كما يُعلم بالموازنة بينه وبين تلك الأحاديث، وهي مذكورة في "المنتقى" للمجد ابن تيمية، وتخريج أحاديث "الهداية" للحافظ الزيلعي والتلخيص الحبير" للحافظ، و"بلوغ

قول

المرام " له.

وقولهم: «الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام» ليس على إطلاقه كما

٢٦٠

مباحثات

يفهمه غالب الناس أو كلهم؛ لأنك إذا نظرت في أحاديث الأحكام التي أخذ بها الأئمة مجتمعين ومنفردين، وجدت فيها من الضعيف ما لعله يبلغ نصفها أو يزيد، وربما وجدت فيه المنكر والساقط القريب من الموضوع، كما أشار إلى ذلك شقيقنا العلامة الحافظ السيد أحمد في كتاب "المثنوني والبتار" فليراجع. بل مما أصله مالك وأبو حنيفة الاحتجاج بالمرسل، ومن أصول الإمام أحمد وتلميذه أبي داود الاحتجاج بالحديث الضعيف، وتقديمه على الرأي والقياس، وقدمه أبو حنيفة أيضًا كما نقله ابن حزم عنه، وفي مكتبتنا نسخة خطية من كتاب يُسمَّى "المعيار" رتبه مؤلّفه -وهو مِن . حفاظ المائة الثامنة - على الأبواب الفقهية، وذكر في كل باب منه الأحاديث الضعيفة التي أخذ بها الأئمة الأربعة على الاجتماع والانفراد مع بيان ضعفها وذكر عللها، وهو كتاب نفيس يدل على سعة حفظ مؤلّفه وتبحره في الفقه والحديث والخلاف ولا أبعد أن يكون ابن الملقن.

إذا تقرر هذا فلا يهولنَّك تهويش هذه الطائفة المتهوسة بأن الحديث ضعيف لا تقوم به الحُجَّة لما علمت من عمل الأئمة به، والعجب أنَّ هذه الطائفة نفسها تعمل به إذا وافق مرادها وتقدمه على الحديث الصحيح كما يعلم من الوقوف على ما يستدلون به لبدعهم ونزغاتهم، وهذا تلاعب يوجب

المقت.

ومنها: ما رواه الطبراني عن أبي أمامة الباهلي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: «اللهم أنت أَحَقُّ مَن

الرد المحكم المتين

٢٦١

ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَن عُبِدَ، وأَنْصَرُ مَن ابْتُغِي، وأَرْأَفُ مَن مَلَكَ، وَأَجْوَدُ مَن سُئِلَ، وأَوْسَعُ مَن أَعْطَى، أنت المَلِكُ لا شَرِيكَ لكَ، وَالفَرْدُ لَا يَهْلَكُ، كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَكَ، لن تُطَاعَ إِلَّا بِإِذْنِكَ، ولن تُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِكَ، تُطَاعُ فَتَشْكُرُ، وَتُعْصَى فَتَغْفِرُ، أَقْرَبُ شَهِيدٍ، وَأَدْنَى حَفِيظٌ، حُلْتَ دُونَ النُّغُورِ، وَأَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي، وكتبت الآثار، ونَسَخْتَ الأَجَالَ القُلُوبُ لكَ مُفْضِيَةٌ، والسِّرُّ عندكَ عَلانِيَةٌ، الخَلالُ ما أَحْلَلْتَ والحَرَامُ ما حَرَّمْتَ ، والدِّينُ ما شَرَعْتَ، وَالأَمْرُ ما قَضَيْتَ، والخَلْقُ خَلْقُكَ، والعَبْدُ عَبْدُكَ، وأنت اللهُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ. أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الذي أَشْرَقَتْ لهُ السَّماوات والأرضُ بكلّ حَقٌّ هو لكَ، وبحَقِّ السَّائِلِينَ عليكَ، أنْ تَقْبَلَني في هذه الغَدَاةِ - أو في هذه العَشِيَّةِ - وَأَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ بِقُدْرَتِكَ». قال الحافظ الهيثمي: «في سنده سنده فَضَال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على

ضعفه» . اهـ

قلت: للحديث شاهد قوي، وهو حديث: «اللهمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بحَقِّ السائلين عليك»، فإنه حسن كما بينا ذلك في الكلام على الشبهة الخامسة

بتوسع.

ومنها: ما رواه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "الدلائل"، من طريق عبدالملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي ا الله عنهما قال : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعادت اليهود بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا

٢٦٢

مباحثات

التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعِثَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كفروا به، فأنزل الله: وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يعني وقد كانوا يستفتحون بك يا محمد إلى قوله تعالى: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى

الكفرين ﴾ [البقرة : ۸۹] . هذا إسناد ضعيف لضعف عبدالملك بن هارون. لكن للأثر طرق، فأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من طريق عطاء والضحاك، عن ابن عباس قال: كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم يستفتحون الله يدعون على الذين كفروا

يقولون: اللهمَّ إِنَّا نَسْتَنْصِركَ بحَقِّ النبيِّ الأُمِّي إِلَّا نصرتنا فيُنصرون. فلما جاءهم ما عَرَفُوا - يريد محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- ولم يشكُوا

فيه كفروا به.

وأخرج أيضًا من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان يهود المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة، يستفتحون عليهم ويستنصرون، يدعون عليهم باسم نبي الله فيقولون: اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك، وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا أنك باعثه في آخر

الزمان.

ووجه الدلالة من هذا الأثر ظاهر؛ فإنَّ الله تعالى أقرهم على توسلهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولم يذمهم عليه، وإنما ذَمَّهم على جُحُودِهم و کفر هم به بعد ما شاهدوا من بركة التوسل به ما لا يُنكره إِلَّا مَن كان مثلهم

الرد المحكم المتين

٢٦٣

أعمى القلب والبصيرة، عافانا الله من ذلك بحق نبيه. ومنها: ما رواه الطبراني، عن أُمية بن عبدالله بن خالد بن أسيد قال: كان

النبي

الله عليه وآله وسلّم يستفتح بصعاليك المسلمين، قال الحافظ

المنذري: «رواته رواة الصحيح، وهو مرسل» . اهـ

ومنها: قصة الرجل الذي كانت له إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه حاجة، فأرشده عثمان بن حنيف رضي الله عنه إلى التوسل بالنبي صلى الله عليه

وآله وسلم، فقضيت حاجته. قصةٌ صحيحة صححها الطبراني والبيهقي والمنذري والهيثمي

وهي

وغيرهم، وقد ذكرناها بإسنادها الصحيح في الكلام على الشبهة الثالثة. ومنها: قصة بلال بن الحرث المزني وذهابه إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله

وسلَّم عام الرَّمادة وقوله : يا رسول الله اسْتَسْقِ لأُمَّتك فإنهم قد هَلَكوا. وهو أثر صحيح بنص الحافظ ابن حجر، كما قدمنا ذلك في مناقشتنا لكلام ابن تيمية من هذا الكتاب.

ومنها: ما قدَّمناه مرويًّا بالسند إلى أبي الجوزاء، أنَّ أهل المدينة تُحِطُوا قَحْطا شديدًا فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: انظروا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فاجعلوا منه كُوّى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمُطِرُوا مَطَرًا حتى نبت العشبُ، وَسَمِنَتِ الإبلُ حَتَّى

تفَتَّقَتْ مِن الشَّحْمِ، فَسُمِّي عام الفَتْقِ.

وهذا الأثر رواه الإمام الدارمي في "سننه" تحت ترجمة: «باب ما أكرم الله تعالى به نبیه بعد موته»، وذكره صاحب "مشكاة المصابيح"، فكتب في شرحه

٢٦٤

مباحثات

صاحب "مرقاة المفاتيح" ما نصه: قيل في سبب كشف قبره أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُستَشْفَع به عند الجدب فتمطر السماء، فأمرت عائشة رضي الله عنها بكشف قبره مبالغة في الاستشفاع به، فلا يبقى بينه وبين السماء حجاب». اهـ ومنها قول الإمام مالك لأبي جعفر المنصور - لما سأله: «أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟»: «ولم تصرفُ وَجْهَكَ عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام، بل استقبله واستشفع

به فيُشَفّعه الله . وقد قدَّمنا هذا الكلام بسنده إلى الإمام مالك رضي الله عنه. وفاتنا أن ننبه هناك على أنَّ ابن تيمية زعم أنَّ هذه الحكاية مكذوبة، فإنه تكلم في بعض أجوبته على حكم استقبال القبر الشريف عند الدعاء، وادعى أنَّ أحدا من الأئمة لم يقل باستقبال القبر الشريف عند الدعاء، إلا في حكاية

مكذوبة تُروى عن مالك، قال: «ومذهبه بخلافها».

وزعمه كذب الحكاية المذكورة غير صحيح، بل هو من جملة اطلاقاته التي اعتاد بها التهويل، وكيف تكون مكذوبة ويخفى حالها على كبار علماء المالكية، الذين جمعوا بين الإمامة في الفقه والحديث، كالقاضي عياض، فإنه رواها في "الشفا"، ولم يتعقبها بشيء، ولا تعقبها أحد من المالكية أيضًا، وادعاؤه أنَّ مذهب مالك بخلافها غير صحيح، فقد جاء في الباب الرابع من "الشفا" في فصل في حكم زيارة قبره عليه السلام: قال مالك في رواية ابن وهب: وهو إذا سلَّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويُسَلَّم، ولا يمس القبر بيده، ونقل النووي في كتاب رؤوس المسائل، عن الحافظ أبي موسى الأصبهاني أنه روى عن مالك بن أنس الإمام

الرد المحكم المتين

٢٦٥

رحمه الله أنه قال: إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فيستدبر القبلة، ويستقبل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، ويُصَلِّي عليه ويدعو» . اهـ فهذان النصَّان عن الإمام مالك يؤيدان الحكاية التي حاول ابن تيمية تكذيبها، ويهدمان ادعاءه في غيرها.

ومنها ما تقدَّم عن الشافعي من زيارته لأبي حنيفة ودعائه عند قبره إذا عرضت له حاجةٌ فتقضَى.

ومنها : ما سبق من توسل الخلال شيخ الحنابلة بموسى الكاظم (۱). وقد بقيت أدلةٌ أخرى يراها القارئ مبسوطة في مواضعها من هذا الكتاب، وإنما سردنا هذه النبذة هنا سردًا إجماليا لنبرهن على جهل المتنطع

وكذبه، والحمد لله رب العالمين.

ثُمَّ قال المتنطع مبحث في الوسيلة، وبيان المراد منها في القرآن والسُّنَّة، وذكر أنَّ الوسيلة هي كل شيء يوصل إلى المقصود، كالسفينة التي يعبر عليها

من شاطئ إلى شاطي، والسلّم الذي يُصعد عليه إلى السطح... ونحو ذلك». هذا كل ما ذكره في هذا المعنى، وفاته أنَّ الوسيلة تطلق في اللغة على عِدَّة

معان، هذا أحدها.

والثاني: الحاجة، ومنه قول عنترة:

إِنَّ الرِّجَالَ لهم إليكِ وَسِيلَةٌ أن يَأْخُذُوكِ تَكَحَلِي وتَخَضَبِي

(۱) وذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ في ترجمة صالح بن أحمد التميمي الهمداني السمسار

الحافظ: أنَّ الدعاء عند قبره مستجاب.

٢٦٦

مباحثات

وبهذا فسر ابن عبّاس قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة:

٣٥]، وأنشد البيت المذكور، رواه ابن الأنباري.

والثالث: المحبَّة، وبه فسر ابن زيد قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة: ٣٥] ، رواه ابن جرير من طريق ابن وهب عنه.

والرابع: المنزلة والدرجة، ومنه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا سَمِعْتُمْ المُؤذِّن فقولوا مثلَ ما يقولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ فِي الوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ في الجنة...» الحديث.

والخامس: المسألة أي السؤال - وبه وبالقربة أيضًا فسر السُّدِّيُّ قوله تعالى : اليَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ، قال : «هي

المسألة والقربة». رواه ابن جرير من طريق أسباط عنه.

والوسيلة بالمعنى المتنازع فيه بيننا وهو سؤال الله بأحدٍ مِن كِرام خَلْقِهِ مأخوذة من هذا المعنى الأخير - أعني المسألة - كما هو واضح، وهذا معنى لغوي صحيح، وعليه يخرج قول الناس توسلت إلى الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي سألت الله به ويجوز أن يضمن لفظ التوسل معنى الاستشفاع، وتضمين فعل معنى فعل آخر كثير في اللغة، فيكون معنى توسلتُ بفلان مثلا، استشفعتُ به، وهذا أيضًا معنى صحيح، وهو قريب من المعنى الأول، أو هو هو. والمقصود بيان بطلان ما يدعيه المتنطع وأشكاله، من أنَّ الوسيلة المتنازع

الرد المحكم المتين

٢٦٧٠

فيها ليس لها أصل في اللغة وإنما هي مِن مُحدثات العامة وبِدَعِهِمْ، على أنا نقلنا فيما تقدم عن ابن تيمية أنه لا عبرة بالألفاظ، وإنما العبرة بالمعنى، ونحن قد بينا أن سؤال الله بخَلْقِهِ جائز كما دلّ عليه الحديث الصحيح، فليسموه توسلا، أو استشفاعًا، أو توجها، أو تجوها، أو استغاثة، أو ما شاءوا، فإنَّا لا ننازعهم في

التسمية، ولكنَّا ننازعهم في ادعائهم أنَّ ذلك شِرْكٌ وضلال. ثُمَّ ذكر المتنطع: «أنَّ التوحيد نوعان: توحيد ألوهية، وهو حصر التعظيم بجميع أنواعه في ذات الله تعالى، وينبني على هذا أَنَّ مَن حَلِفَ بغير الله، أو ذَبَحَ، أو نَذَرَ، أو عَظَّم غير الله بقَلْبِهِ ، أو ناداه على جهة التعظيم، أو استغاث به، أو استعان به، فقد ضيّع هذا النوع من التوحيد؛ لأنه صرف أنواعا من العبادات الخاصة بالله تعالى لغيره».

قال: «والنوع الثاني توحيد الربوبية، وهو حصر جميع الآثار والأفعال في ذات الله تعالى، وأنه صاحبها خَلْقًا وإيجادًا، كالخَلْقِ والرِّزْقِ والإحياء

والإماتة... إلخ.

قال: «والعرب كان عندهم هذا النوع من التوحيد ولكن الذي جعلهم مشركين، فقدهم للنوع الأول؛ لأنهم كانوا يذبحون وينذرون لغير الله، ويلتمسون جَلْبَ النفع ودَفْعَ الضر من غير الله، ويصرفون أنواع العبادات الخاصة بالله تعالى لغيره»، قال: ومن هنا يتبيَّن أنَّ الإيمان قد يوجد مع الشرك، فقد يكون العبد معتقدا أنه لا خالق لكل شيء إلَّا الله فيكون من تلك الجهة مؤمنا، ثُمَّ يتقرب إلى غيره بشيءٍ مِن العبادات التي اختص بها تعالى، كالدعاء، والنذر، والتماس النفع ، فيكون بهذا مشركا من حيث لا يشعر، وقد كان هذا

٢٦٨

مباحثات

حال المشركين في عصر التنزيل، فكانوا يؤمنون بالله مع الإشراك به، كما قال:

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: ١٠٦ ] » . اهـ

وأقول: غرضه من هذه الجملة التي سماها «أصلا عظيمًا» إيجاد شبه قوي و تناسب كبير بين حال المشركين والمسلمين، حيث إنَّ المشركين كانوا يعتقدون أنَّ الخالق والرازق والمحيي والميت هو الله، ولم يمنعهم إيمانهم هذا من أن

يكونوا مشركين، وذلك بصرفهم أنواعًا من العبادات لغير الله، كالدعاء والاستغاثة، والذبح، والنذر ونحو ذلك، فكذلك الذين يتوسلون بالأولياء، يكونون أيضا مشركين - في حين أنهم مسلمون - لأنهم دعوا ذلك الولي، أو استغاثوا به، أو ذبحواله ، أو نذروا له، فحالتهم مثل حالة المشركين التي نزل فيها القرآن سواء بسواء، هذا غرضه بإيضاح وتبيين لا محاورة فيه ولا مداورة، وهو غرض خبيث ينطوي على تشريك جمهرة كبيرة من المسلمين وإخراجهم من حظيرة الإسلام، بقياس لم تتم أركانه وشبه لم تتناسب أطرافه، مع تحريف في تأويل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وما هذا شأن مَن يخشى الله ويعتقد أنه مُطَّلع عليه يراه فيا ويله من سوء الحساب وتبا له مما ينتظره من

العقاب.

أما قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: ١٠٦] فروى ابن جرير عن هَنَّاد بن السَّرِي، عن أبي الأحـ هَنَّاد بن السَّرِي، عن أبي الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عكرمة في قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مشْرِكُونَ ، قال : يسألهم مَن خَلَقَ السموات والأرض؟ فيقولون: الله. فذاك

الرد المحكم المتين

٢٦٩

إيمانهم، وهم يعبدون غيره. ذكره البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم. وروى ابن جرير من طريق يزيد بن الفضل الثماني، عن عكرمة في هذه الآية : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ، قال : هو قول الله: وَلَين سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان: ٢٥] فإذا سُئلوا عن الله وعن صفته، وصفوه بغير صفته، وجعلوا له وَلَدًا، وأشركوا به، وروى أيضًا بأسانيد صحيحة كما قال الحافظ في "الفتح" عن عطاء وعن مجاهد نحو

هذا.

فالآية الكريمة لا دلالة فيها لما يقوله المتنطع، سواء كانت واردة في مشركي مكة كما قال الجمهور وهو الصحيح لأن السورة مكية، أم في أهل الكتاب الذين قالوا عزيز ابن الله وعيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

وقد بينا في مقدمة الكتاب بطلان تطبيق الآيات الواردة في الكفار وحملها على المسلمين وبينا فساد استدلال المتنطع بقول العلماء: «العبرة بعموم اللفظ لا

بخصوص السبب بما لا يترك شبهة، فارجع إليه. ثُم قال المتنطع : وقد روى النَّسائيُّ عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلًا يُعلق على صدره شيئًا من خوص النخل، فقال: ما حملك على هذا؟ قال: أستشفي به، فقطعه حذيفة ثُمَّ قال: لا شفاك الله ، ثُمَّ تلا قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ » . اهـ

وأقول: لا وجود لهذا الأثر في سنن النسائي"، ولا يعرف عن حذيفة بهذا

۲۷۰

مباحثات

اللفظ، والمعروف ما وراه حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النجود، عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرًا - قطعة من الجلد- فقطعه أو انتزعه، ثُمَّ قال: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ، وعروة لا يعرف له سماع من حذيفة، فهذا الأثر منقطع.

لكن صح النهي عن الرُّقَى والتمائم، فعن عقبة بن عامر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن عَلَّقَ غَيمَةٌ فَلا أَتَمَّ اللَّهُ لِه، ومَن عَلَّق وَدَعَةٌ فلا وَدَعَ الله له». رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وصححه الحاكم. وعنه أيضًا أنه جاء في ركب عشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم

فبايع تسعة، وأمسك عن بَيْعَةِ رجل منهم، فقالوا: ما شأنه؟ فقال: «إنَّ في عَضُدِهِ تميمة»، فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ قال: «مَن عَلَّقَ فقد أَشْرَكَ»، رواه أحمد والطبراني والحاكم، ورجال

أحمد ثقات.

ودخل ابن مسعود على امرأته وفي عنقها شيءٌ معقودٌ، فَجَذَبَهُ فقطعه، ثُمَّ قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، ثُمَّ قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ الرُّقَى والسَّمائِمَ والتَّوَلَةَ شرك»، قالوا: يا أبا عبدالرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما، فما التَّوَلَةُ؟

قال: شيء تصنعه النساء يتحيَّين إلى أزواجهنَّ، صححه ابن حبان والحاكم. وفي الباب أحاديث غير هذه لا تخلو أسانيدها من ضعف، والرقى جمع رقية - بضم الراء وسكون القاف - وهي معروفة، والتمائم جمع تميمة، وهي خرز

الرد المحكم المتين

۲۷۱

أو قلادة تعلّق في الرأس، والتَّوَلَة بكسر التاء وفتح الواو واللام - مرَّ بيانها في

كلام ابن مسعود، وهي من السِّحْر، وإنما كانت هذه الأشياء من الشرك؛ لأنَّ

أهل الجاهلية أرادوا بها جلب المنافع، ودفع المضار من عند غير الله . قال الحافظ: «ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك، وقال الربيع سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله، قلت: أيرقي أهل الكتاب

المسلمين؟ قال : نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله » . اهـ وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: «المنهي عنه من الرقى، ما كان بغير لسان العرب، فلا يُدرَى ما هو ولعله قد يدخله سِحْرٌ أو كفر، فأَمَّا إذا كان مفهوم

المعنى، وكان فيه ذكر الله تعالى، فإنه مُستَحَبُّ مُتبرك به» . اهـ

وقال ابن التين في شرح البخاري": «الرُّقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخَلْقِ حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عزَّ هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسماني، وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزّم ،وغيره ممن يدعي تسخير الجن له، فيأتي بأمور مشتبهة مركّبة مِن حَقٌّ وباطل، يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين، والاستعانة بهم، والتعوذ بمَرَدَتِهم، ويقال: إنَّ الحيَّة لعداوتها للإنسان بالطبع، تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها وكذا اللديغ إذا رُقي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان فلذلك كُرِه مِن الرُّقَى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصةً، وباللسان العربي الذي يعرف معناه، ليكون بريئًا من

۲۷۲

مباحثات

الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة». اهـ

وقال القرطبي: «الرقى ثلاثة أقسام:

أحدها: ما كان يُرقَى به في الجاهلية مما لا يُعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك، أو يؤدي إلى الشرك.

الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورًا فيستحبُّ. الثالث: ما كان بأسماء غير الله، مِن مَلَكِ، أو صالح، أو مُعَظَّم من المخلوقات، كالعرش، فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله، والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلَّا أن يتضمن تعظيم المرقى به، فينبغي أن يجتنب، كالخلف بغير الله تعالى» . اهـ

ونقل الحافظ إجماع العلماء على «جواز الرُّقى بشروط ثلاثة: الأول: أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته.

الثاني: أن تكون باللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره. الثالث: أن يُعتقَد أَنَّ الرُّقَى لا تُؤثر بذاتها، بل بقدرة الله تعالى» . اهـ

وفي "الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، أنَّ ناسا مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يُقْرُوهُم، فبينما هم كذلك إذ لُدِغَ سيّد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تُقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلًا، فجعلوا لهم قطيعًا مِن الشَّاء، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويَنْفُلُ، فبرأ فأتوا بالشَّاءِ فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فسألوه فضحِك وقال: «وما أَدْراكَ

الرد المحكم المتين

۲۷۳

أَنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوها واضْرِبُوا لِي بِسَهُم»، والراقي هو أبو سعيد الخدري، كما جاء

في بعض روايات مسلم. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس، أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مَرُّوا بماءٍ فيه لديع أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم مِن راقٍ؟ إِنَّ في الماء رَجُلًا لدينا أو سليما، فانطلق رجلٌ منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ فبَرَأَ ، فجاء بالشَّاءِ إلى أصحابه فكَرِهُوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أَجْرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَليهِ أَجْرًا كِتابُ الله ».

عندك

وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، والحاكم وصححه، عن خارجة بن الصلت التميمي، عن عمه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فأسلم ثُمَّ أقبل راجعا من عنده، فمرَّ على قومٍ عندهم رجل مجنون موثق بالحديد، فقال أهله: إِنَّا حُدِّثنا أنَّ صاحبكم هذا قد جاء بخير، فهل شيء تداويه فرقيته بفاتحة الكتاب فبَرَاً، وأعطوني مائة شاة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فأخبرته فقال: «هل قُلْتَ غير هذا؟» قلت: لا، قال: «خُذْها فَلَعَمْرِي لمن أَكَلَ برُقْية باطِلٍ، لقد أَكَلْتَ بُرُقْيَةٍ حَقٌّ». وروى الثعلبي من طريق معاوية بن صالح، عن أبي سليمان قال: مرَّ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في بعض غزوهم على رجل قد صرع، فقرأ بعضهم في أُذُنِهِ بأُمّ القرآن فبَرَاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هي أُمُّ القُرآنِ، وهي شِفاءٌ مِن كلِّ داءٍ».

٢٧٤

مباحثات

وروى الطبراني في "الأوسط"، والدارقطني في "الأفراد"، وابن عساكر بإسناد ضعيف، عن السائب بن يزيد قال : عوّذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بفاتحة الكتاب تَفْلًا.

وروى سعيد بن منصور، والبيهقي، عن أبي سعيد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فَاتِحَةُ الكِتابِ شِفَاءٌ مِن السم».

وروى أبو الشَّيخ في "الثواب" من طريق آخر عن أبي سعيد، وأبي هريرة مرفوعا مثله.

وروى الدارمي، والبيهقي بسند رجاله ثقات، عن عبدالملك بن عمير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فَاتِحَةُ الكِتابِ شِفاءٌ مِن كُلِّ داءٍ». وروى الثعلبيُّ، عن الشَّعبيّ أنَّ رجلًا شَكَا إليه وَجَعَ الخَاصِرَةِ فقال:

عليك بأساس القرآن، وقال: وما أساس القرآن ؟ قال : فاتحة الكتاب. والأحاديث والآثار في الاسترقاء والاستشفاء بالفاتحة كثيرة، وكذا بغيرها من السور والآيات، بل والقرآن كله شفا (۱) كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲]، قال الفخر الرازي وغيره: لفظة من ليست للتبعيض بل للجنس، والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء للأمراض الروحانية، والأمراض الجسمانية. وفي "سنن ابن ماجه ، ومستدرك الحاكم" عن علي عليه السلام، عن

(۱) انظر كتابي كمال" الإيمان في التداوي بالقرآن ، وهو الكتاب الذي أبطلت به دعوى المبتدع الشيخ شلتوت حيث زَعَمَ أَنَّ التداوي بالقرآن مِن قبيل الدَّجل والخرافة.

الرد المحكم المتين النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خير دواء القرآن»، وللسجزي في "الإبانة"، والقضاعي في "مسند الشهاب" عنه أيضًا مرفوعا: «القرآنُ هو الدواء».

وروى ابن ماجه والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين» عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عليكم بالشَّفائين: العَسَلِ، والقُرآنِ». وورد عن ابن مسعود موقوفا عليه أيضا، ورواه ابن أبي حاتم

وغيره.

قال ابن القيم: «إذا ثبت أنَّ لبعض الكلام خواص ومنافع، فما الظن بكلام رب العالمين، ثُمَّ بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها، لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله و مجامعها، وإثبات المعاد، وذكر التوحيد والافتقار إلى الرب في طلب الإعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى الصراط المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق، وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به، ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته، وضال لعدم معرفته له، مع ما تضمنته من إثبات القدر والشرع، والأسماء والمعاد والتوبة، وتزكية النفس، وإصلاح القلب، والرد على جميع أهل البدع،

وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يُسْتَشْفَى بها مِن كُلِّ داءٍ» . اهـ ونقل عن أبي القاسم القشيري أنَّ وَلَدَهُ مرض مرضا شديدا، حتى أشرف على الموت، فاشتد عليه الأمر قال: فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في

٢٧٦

مباحثات

المنام، فشكوت إليه ما بولدي، فقال: أين أنت من آيات الشفاء؟! فانتبهت فأفكرتُ فيها ، فإذا هي في ستة مواضع من كتاب الله، وهي قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [التوبة : ١٤].

وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس : ٥٧].

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابُ تُختَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: ٦٩]. وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲].

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: ٨٠]

قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاهُ [فصلت: ٤٤].

قال : فكتبتها ثُمَّ حَلَلْتُها بالماء وسقيته إياها فكأنما نُشِطَ مِن عِقال».اهـ وكذلك ثبت التعوذ والاسترقاء بأذكار نبوية، رواها البخاري ومسلم وبقية أصحاب الكتب الستة ،وغيرهم وهي كثيرة بلغت مبلغ التواتر الذي

يفيد العلم، وفي كتب الأذكار والدعوات جملة صالحة منها.

بل ورد الإذن في كل رقية نافعة ليس فيها شرك، ولا ما يؤدي إليه. ففي "صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال: «اعْرِضُوا عليَّ رُقاكُم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك».

وفي الصحيح أيضًا عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرُّقَى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رُقيةٌ نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرُّقَى، قال:

الرد المحكم المتين

۲۷۷

فعرضوها عليه فقال: «ما أرى بأسًا، مَن اسْتَطَاعَ مِنكُم أَن يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعُهُ». وفي الصحيح أيضًا عن جابر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لأسماء بنت عُمَيْسٍ : ما لي أرى أجسام بني أخي - يعني جعفر رضى الله عنه - ضارعة نحيفة، تصيبهم الحاجة؟». قالت: لا ولكن العين تسرع إليهم، قال: «ارْقِيهِمْ». قالت فعرضت عليه فقال: «ازقيهم». ورواه أحمد بإسناد

صحيح.

ولأبي داود من حديث الشفاء ء بنت عبدالله أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لها: «ألا تعلمين هذه - يعني حفصة- رقية النملة؟». ورواه أحمد من حديث حفصة بإسنادٍ على شرط الصحيح، والنملة: قروح تخرج في البدن. وروى الطبراني بإسنادٍ حسن عن عبادة بن الصامت قال: كنتُ أرقي من حمة العين في الجاهلية، فلما أسلمتُ ذكرتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «اعْرِضْها عليَّ فعرضتها عليه فقال: «ازق بها فلا بأس بها». ولولا ذلك ما رقيتُ بها إنسانا أبدًا. وروى الطبراني في "الأوسط" عن سهل بن أبي حَثْمَةَ، أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم خرج وخرج معه عبدالرحمن بن سهل، فلما كانا بالحرة نَهَشَت عبد الرحمن بن سهل حَيَّةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ادْعُوا لي عمرو بن حَزْمٍ». فدُعِيَ ، فعرض رقيته على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «لا بأس بها، ازقِهِ». فوضع ابن حزم يده عليه فقال: يا رسول الله هو يموت أو قد مات. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ازْقِهِ وإن

كان قد يَمُوتُ أو قد مَاتَ فرقاه فصح عبدالرحمن وانطلق.

۲۷۸

مباحثات

وفي "الموطأ": أنَّ أبا بكر رضي الله عنه دخل على عائشة رضي الله عنها

وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقها بكتاب الله. والأحاديث في هذا كثيرة، وهي تفيد القطع بجواز الرقى والتعوذ بما ليس فيه شرك ولا يؤدّي إليه، وعليه انعقد إجماع العلماء كما تقدم في كلام الحافظ. أما ما رواه ابن وهب عن مالك من كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان، قال مالك: «ولم يكن ذلك من أمر الناس القديم فهو محمول على ما لم يعرف معناه، أو اشتماله على ما يكره في الشرع كما تقدم تفصيل ذلك في كلام الخطابي والقرطبي وابن التين والحافظ، وقد سئل ابن عبدالسلام عن الحروف المقطعة - أي التي تكتب في الرقى ونحوها - فمنع منها لما لا يُعرَف، لئلا يكون فيه كفر .

وقد أطلت هذا البحث بعض الإطالة ردًّا على هذه الطائفة المبتدعة، التي تنكر التعوذ والرُّقَى بالقرآن ،وغيره وتزعم أنَّ مَن يفعل ذلك يدخل في وعيد الأحاديث الناهية عن الرُّقَى والتمائم التي كان يفعلها المشركون في الجاهلية، وهذا الزعم ليس بمُسْتَغْرَبٍ مِن هذه الطائفة التي دأبت على تحريف النصوص وتشويه الحقائق، واختلاق الأكاذيب لتؤيد رأيها الباطل، وتنسب إلى المسلمين

ما هم منه براء، عافانا الله من ذلك بمنه، وهو الموفّق لا ربَّ غيره. ثُمَّ قال المتنطع: «وأخرج ابن جرير وأصحاب السنن الأربعة: أنَّ رجلا من اليهود جاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إنَّ ما تقولونه حق لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فأنزل الله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا

الرد المحكم المتين

۲۷۹

لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ۲۲]، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقولوا ما شاءَ اللهُ وشاءَ محمدٌ، ولكن قولوا ماشاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ

محمد» . اهـ

وأقول: لا ينقضي عجبي من جرأة هذا المتنطع في الكذب على الله ورسوله، وعلى العلم والعلماء، ولو كان في عصر ابن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني لأدرجوه في طائفة الكذابين الوقحين في الكذب، مثل محمد بن سعيد المصلوب، وجعفر بن نسطور وأضرابهما، فالحديث الذي عزاه إلى ابن جرير ) السنن الأربعة، لم يروه أحدٌ منهم، ولا وجود له في كتبهم، بل لم يأتِ في شيء

من كتب التفسير والحديث أنَّ الآية نزلت بسبب الحادثة المذكورة فيه.

وإليك طرق الحديث وألفاظه؛ لتتيقن صحة ما ذكرناه:

وأصحاب

قال البيهقي في "الأسماء والصفات": أخبرنا أبو عبدالله الحافظ: ثنا علي ابن حمشاذ العدل إملاء: ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة: ثنا جندل بن والق ثنا عبیدالله بن عمر، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حِراش، عن الطفيل بن عبدالله وكان أخا عائشة لأمها ، أنه رأى فيما يرى النائم أنه لقي رَهْطًا مِن النصارى فقال : نعم القوم أنتم لولا أنَّكم تزعمون أن المسيح ابن الله، قالوا: أنتم القوم لولا أنكم تقولون ماشاء الله وشاء محمَّدٌ، ثُمَّ لقي رَهْطًا مِن اليهود فقال: أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أنَّ عُزَيرًا ابن الله، قالوا: وأنتم قوم تقولون ماشاء الله وشاء محمَّدٌ، قال: فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقصها عليه فقال: «حَدَّثْتَ بها أحدًا بعد؟» فقال: نعم. فحمد الله وأثنى عليه

۲۸۰

مباحثات

ثُمَّ قال: «إنَّ أخاكم قد رأى ما بَلَغَكَمُ، فلا تَقُولُوها ولكن قولوا: ما شاءَ اللهُ

وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ».

تابعه شعبة وحماد بن سلمة، عن عبدالملك بن عمير هكذا، وفي رواية شعبة: «ولكن قولوا ما شاء الله، ثُمَّ شاء محمدٌ».

وقيل: عن عبدالملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرَة. قال البخاري: حديث شعبة أصح من حديث ابن عيينة . اهـ

ورواه ابن ماجه في "سننه" في أبواب الكفارات، من طريق أبي عوانة، عن

عبد الملك ابن عمير به.

ورواه بن مَرْدُويَه من طريق حماد بن سلمة: ثنا عبد الملك بن عمير به.

ورواه من طريق آخر عن عبدالملك به نحوه.

ورواه أحمد في "المسند" قال: حدثنا بهز وعفان قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراشي، عن طفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها، أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرَّ برهط من اليهود فقال: من أنتم ؟ قالوا: نحن اليهود ، قال : إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أنَّ عُزَيرًا ابن الله

فقالت اليهود وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ماشاء الله وشاء محمد. ثُمَّ مرَّ برهط من النصارى فقال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح

ابن الله، قالوا: وأنكم تقولون ماشاء الله وشاء محمد.

فلما أصبح أخبر بها من أخبر ، ثُمَّ أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: «هل أخبرتَ بها أحدًا؟» قال: نعم، فلما صلُّوا خطبهم فَحَمِدَ اللهَ

الرد المحكم المتين

۲۸۱

وأثنى عليه ثُمَّ قال: «إِنَّ طُفَيْلًا رأى رؤيا، فأخبر بها مَن أَخْبَر مِنكُم، وإنكم كنتم تقولون كلمةً كان يَمْنَعُني الحياءُ مِنكم أن أنهاكم عنها، لا تقولوا: ماشاء الله

وشاءَ محمد».

قلت: في هذا الحديث دليل على أنَّ تلك الكلمة ليست بشرك، إذ لو كانت كذلك لما استحيى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن ينهاهم عنها من أوَّل لحظة، فسكوته حياء مع تكررها منهم دليل واضح على أنها ليست بشرك، وإنما

نهاهم عنها آخر الأمر لمخالفتها كمال الأدب مع الله.

ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن عمرو، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حراش قال : قال الطفيل بن عبدالله بن أخي عائشة لأمها: أنه رأى

فيما يرى النائم... وذكر الحديث نحوه. ثم قال : خالفه حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير، ثُمَّ روى من طريق حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن الطفيل بن عبدالله بن سخبرة أخي عائشة لأمها، فذكر الحديث بمثله. قال : وهذا أولى بالمحفوظ من الأول. قلت: لأن الطفيل أخو عائشة لأمها، لا ابن أخيها كما جاء في سندا.

الأول.

الحاكم

ورواه الطحاوي في مشكل" "الآثار" من طريق مَعْمَرٍ، عن عبدالملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرَة قال: رأى رجلٌ مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم قوما من اليهود فأَعْجَبَتْهُ هَيْئَتَهُم فقال: إنكم قوم لولا أنكم

۲۸۲

مباحثات

تقولون عُزير ابن الله قالوا وأنتم قوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاءَ محمد، ثُمَّ أنه لقى قوما من النصارى فَأَعْجَبَتْهُ هَيْئَتَهُمْ فقال: إنكم قوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم قوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمَّدٌ . فلما أصبح قَصَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَسْمَعُها منكم فتؤذيني فلا تقولوا: ماشاء الله وشاء محمَّدٌ ، ولكن قولوا: ماشاء اللهُ ثُمَّ شَاءَ محمَّدٌ».

وقال ابن ماجه في "سننه": ثنا هشام بن عمار ثنا سفيان بن عيينة، عن عبدالملك بن عُمير ، عن ربعي بن حِراش، عن حذيفة بن اليمان، أنَّ رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلًا مِن أهل الكتاب فقال : نَعمَ القومُ أنتم ا لولا أنكم تشركون، تقولون : ماشاء الله وشاء محمد، وذكر ذلك للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «أما والله إن كنتُ لأعرفها لكم، قولوا: ماشاء الله ثُمَّ

شاءَ محمد».

لم يروه

أحد .

من الستة غير ابن ماجه ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" من طريق سفيان بن عيينة به، غير أنه قال: «إني كنتُ لأكرهها لكم، قولوا: ماشاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فلانٌ».

والحذيفة حديث آخر مُختصر رواه أبو داود في "السنن" قال: ثنا أبو الوليد

الطيالسي ، ثنا شعبة عن منصور، عن عبد الله بن يسار عن حذيفة رضي ا

الله

عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقولوا ماشاء الله وشاءَ فلانٌ، ولكن قولوا: ما شاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فلانٌ».

الرد المحكم المتين

۲۸۳

ورواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي.

وأخرج البيهقي في "الأسماء والصفات" من طريق جعفر بن عون: أنا الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُكَلَّمه في بعض الأمر فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ، فقال رسول الله صلَّى

الله عليه وآله وسلَّم: «أَجَعَلْتَنِي اللَّهُ عَدْلًا، بل شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ». ورواه البخاري في الأدب المفرد وابن مردويه من طريق سفيان

الثوري، عن الأجلح الكندي به.

ورواه الطحاوي من طريق شيبان النحوي عن الأجلح.

ورواه ابن ماجه من طريق عيسى بن يون ثنا الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا حَلَفَ أَحَدُكُمْ فَلا يَقُلْ ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ، ولكن ليَقُلْ ما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ». هذا اللفظ هو المحفوظ، وروى أبو يعلى، عن عائشة - فيما يعلم عثمان بن

.

عمر راوي الحديث - أنَّ يهوديًا رأى في المنام نعم القوم أُمَّة محمد، لولا أنهم يقولون ما شاء الله وشاء محمَّد، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم

فقال: «لا تقولوا ماشاء الله وشاءَ محمَّدٌ، قولوا ماشاءَ اللهُ وَحْدَهُ».

وروى ابن سعد والنسائي والطبراني من طريق مسعر، عن سعيد بن خالد الجدلي، عن عبد الله بن يسار، عن قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة قالت: جاء خبر من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا محمد نِعْمَ القوم

٢٨٤

-

مباحثات

حَلَفَ

أنتم لولا أنكم تُشركون، قال: وكيف؟». قال: يقول أحدكم لا والكعبة، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنه قد قال - يعني نفسه فمَن - فليَحْلِفُ برَبِّ الكعبة». فقال : نِعْمُ القوم أنتم لولا أنكم تجعلون الله أندادا، قال: «وكيف ذلك؟». قال: يقول أحدكم: ماشاءَ اللهُ وشِئْتَ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنه قد قال: فمن قال منكم فليَقُلْ ما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ». هذا لفظ ابن سعد، وأشار إلى أنَّ قتيلة ليس لها غير هذا الحديث. ورواه الطحاوي في مشكل الآثار ، وابن منده من طريق المسعودي، عن

معبد بن يسار، عن قتيلة بنت صيفي الجهنية به.

وقتيلة - بصيغة التصغير - صحابية ، قال ابن عبدالبر الحافظ: «من المهاجرات

الأول".

فهذا الحديث بجميع طرقه ليس فيه إشارة إلى الآية الكريمة، ولا جاء في شيء من طرقة أنها نزلت بسببه، وأقصى ما ورد في الباب مما له تعلق بالآية، ما رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" قال : حدثنا أحمد بن عمر بن أبي عاصم: ثنا أبو عمرو: ثنا أبو الضَّحَّاك بن مخلد أبو عاصم : ثنا شبيب بن بشر : ثنا عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا ﴾ [البقرة: ٢٢]، قال: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله، وحياتك يافلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ماشاء الله

وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله به شرك.

الرد المحكم المتين

٢٨٥

هذا رأي ابن عبّاس في تفسير الآية، لكنه لم يقل إنها نزلت بسبب قول الرجل ماشاء الله وشئتَ، ولا قال ذلك أحدٌ من الصحابة والتابعين، لا بإسناد صحيح، ولا بإسناد ضعيف، وبذلك تعلم مقدار أمانة المتنطع وحرصه على

الصدق، تاب الله عليه وهداه.

تنبيه: قال الطحاوي في مشكل" "الآثار" بعد أن روى أحاديث حذيفة، وابن عباس، وجابر بن سمرة، وقتيلة بنت صيفي على نحو ما سبق ما لفظه : فكان ما روينا في هذا الباب عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نهيه أُمته أن يقولوا ماشاء الله وشِئْتَ، وأمره إياهم أن يقولوا: ماشاء الله ثُمَّ شِئْتَ، قال قائل: فإن في كتاب الله ما قد دلّ على إباحة هذا المحظور في هذه الأحاديث، ثُمَّ ذكر قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَلِديكَ ﴾ [القمان: ١٤] ولم يقل ثُمَّ لوالديك، فكان جوابنا: أنَّ هذا مما كان مباحًا قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثله في هذه الأحاديث، ثُمَّ نهى عما نهى عنه في هذه الأحاديث فكان ذلك نَسْخًا لما كان مُباحًا مما تلوته قبل ذلك، ومذهبنا أنَّ السُّنَّة قد تنسخ القرآن؛ لأن كل واحد منهما من عند الله ، ينسخ ما شاء منهما بما شاء منهم، ولأنا قد وجدنا كتاب الله دلّنا على ذلك، ثُمَّ ذكر قوله تعالى: وَالَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَآبِكُمْ ﴾ [النساء: ١٥] الآية، مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بعد ذلك: «قد جعل الله لهنَّ سَبِيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جلد مائة

وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرَّجمُ». ثُمَّ قال: أفلا ترى أنَّ الله قال في اللاتي يأتين الفاحشة ما قال، ثُمَّ قال: أو

٢٨٦

مباحثات

يجعل الله لهنَّ سبيلا ، ثُمَّ جعل لهنَّ سبيلا فيها حدا يخالف الحد المذكور في الآية

فدل ذلك أنَّ السُّنَّة قد تنسخ القرآن، كما ينسخ القرآن القرآن» . اهـ كلامه ويؤخذ منه أمران:

الأول: نسخ مادل عليه قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ من جواز العطف بالواو في مثل هذا مما تختص حقيقته بالله بالأحاديث الناهية عن قول الرجل: ماشاء الله وشئت. ويظهر لي أنه لا حاجة إلى ادعاء النسخ لأن تلك الأحاديث فيها كما قال الخطابي وغيره إرشاد إلى استعمال الأدب؛ لأن العطف بالواو يقتضي الجمع والتشريك، بخلاف ثُمَّ فإنها للترتيب والتراخي، فأرشدت الأحاديث إلى اجتناب ما يوهم التسويه تنزيها لمقام الألوهية، وهذا الإيهام منتف في الآية لأنها جاءت في سياق الحضّ على طاعة الوالدين وتقدير حقهما، وشكرهما على ما بذلا من عناية بالغة، وذلك يبعد إيهام تسويتهما مع الله في الشكر كما هو ظاهر. ويجوز أن يقال: إنَّ الأحاديث بنهيها عن قول الرجل ما شاء الله وشئت صححت موقف العبد من ربه، وبيَّنت ما ينبغي أن يسلكه من الأدب مع خالقه، ولكن الله تعالى له أن يقول ما شاء ويفعل ما يشاء، وهذا كما صح النهي عن الإقسام بغير الله مع ورود الإقسام بكثير من المخلوقات في كثير من الآيات، وعلى هذا فلا تعارض والله أعلم. الثاني: جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة، وهي . مسألة عظيمة من مسائل علم

أصول الفقه، اختلفت فيها أنظار العلماء، وتجاذبت آراؤهم، فمنهم من

أجاز

ومنهم من منع، ثُمَّ المانعون اختلفوا هل المنع عقلي أو شرعي فقط، وجلب

الرد المحكم المتين

۲۸۷

نصوصهم واستدلالاتهم يطول ويمل، ويكفي أن تعلم أنَّ الحقِّ جواز نسخ القرآن بالسنة الصحيحة؛ لأن العقل يجيز ذلك ولا يمنعه، ولأن السُّنَّة شرع من الله كالقرآن، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما أتى به فرض بلا نزاع وما قيل مِن أنَّ القرآن قطعي والسُّنَّة فيها الظني وهو خبر الآحاد الخالي عن القرائن ولا يكون الظني ناسخا، فجوابه أنَّ الناسخ من الحديث إنما ينسخ من الآية دوام حكمها واستمراره، وهو ظني، وإن كان متن

الآية قطعيًّا، فاختلفت الجهة وانحل الإشكال، والحمد لله على كل حال. ثُمَّ قال المتنطع : وروى أصحاب السنن أنَّ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم مروا بشجرة قد علق بها المشركون شَيْئًا مِن الخِرَقِ والمسامير فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، أي: اجعل لنا شجرةً نتقرب بها إلى الله كالمشركين والأنواط هي التعاليق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: أتقولون كما قال قوم موسى: أَجْعَل لَّنَا إِلَيْهَا كَمَا هُمْ الهه ﴾ [الأعراف: ۱۳۸] . اهـ

وأقول: عزوه الحديث إلى أصحاب السنن كذب، إذ لم يروه منهم إلَّا

النسائي.

وقوله: «قد علق بها المشركون شيئًا من الخرق والمسامير كذب ثانٍ. وقوله: «أي: اجعل لنا شجرة نتقرب بها إلى الله كالمشركين كذب ثالث. وبيان ذلك: أنَّ الحديث رواه ابن جرير من طريق محمد بن إسحاق ومَعْمَرٍ

وعقيل، كلهم عن الزهري، عن سنان ابن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي: أنهم

۲۸۸

مباحثات

خرجوا من مكة مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى حُنَين قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويُعلِّقون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال : قلتم والذي نَفْسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَيْهَا كَمَا هُمْ وَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْم تَجْهَلُونَ (٢) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُنَبِّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَيَطِل مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف: ۱۳۸ - ۱۳۹]». وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق: ثنا مَعْمَرٌ ، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قِبَلَ حُنَيْنٍ فمررنا بسِدرة فقلت: يا نبي الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل

لموسى : اجْعَل لَّنَا إِلَيْهَا كَمَا لَهُمْ وَ الهَهُ ، إِنكم تتبعونَ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ».

ورواه ابن جرير، وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن أبي حاتم.

وروى ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده عمرو قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح ونحن ألف ونيف، فتح الله مكة وحنينًا حتى إذا كنا بين حنين والطائف أبصر شجرةً كان يُناط بها السلاح فسميت ذات أنواط، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها، فقال رجل: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهؤلاء

الرد المحكم المتين

۲۸۹

ذات أنواط، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: « إِنَّهَا السُّنَنُ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : واجْعَل لَّنَا إِلَيْهَا كَمَا هُمْ وَالِهَةٌ ، قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهَا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ ﴾ [الأعراف: ١٤٠] فوضح من ألفاظ الحديث وطرقه التي أوردناها كذب المتنطع فيما قال،

فعليه ما على الكاذب جزاءً وفاقًا.

ثُمَّ قال المتنطع: «بعد بيان هذا الأصل العظيم ننقل هنا كلام المفسرين من السلف . عن لفظ الوسيلة فقد روى ابن جرير بخمسة أسانيد إلى قتادة وأبي وائل شقيق بن سلمة أنَّ المراد بـ«الوسيلة» في قوله تعالى: ﴿ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوسيلة [المائدة: ٣٥] إنما هو الإيمان والعمل الصالح وهو تفسير ابن عباس في هذه الآية».اهـ

وأقول: كذب في قوله: روى ابن جرير بخمسة أسانيد إلى قتادة وأبي وائل»، فإن ابن جرير روى عنهما قولهما بإسنادين ليس غير، ثُمَّ إنهما فسرا الوسيلة بالقربى ولم يزيدا عليها شيئًا مما نقله المتنطع عنهما زاعما أنَّ ابن جرير رواه عنهما بخسمة أسانيد، وكذلك كذب في قوله: «وهو تفسير ابن عباس في هذه الآية»، بل فسَّرها ابن عباس بالحاجة كما سبق، فما أكثر كذبه في العزو وتحريفه للنقول ؟!.

ثُمَّ نقل المتنطع تفسير الآية عن ابن جرير لكنه لم يذكر لفظه بل ذكر ألفاظ من عنده نسبها إلى ابن جرير كذبًا، ولم يُبيّن أنها منقولة بالمعنى فلا أدري كيف يفهم المتنطع الأمانة الواجبة في نقل كلام العلماء، ولعله أخذ إذنا من ابن جرير

۲۹۰

مباحثات

وغيره في رؤيا منامية أن يتصرف في كلامهم كيف شاء، من غير أن يكون عليه

في ذلك إثم ولا حرج، قاتله الله ما أشد جراءته ووقاحته.

ثُم ذكر المتنطع طائفة من توسل الأنبياء فذكر قول الله تعالى وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: ۸۷] الآية ثُمَّ قال في تفسيرها «أي واذكر صاحب الحوت إذ ذهب مغاضبًا قومه لعدم إيمانهم به فظن أن لن نضيق عليه وركب سفينةً فخرجت القرعة عليه ليذبحوه ويأكلوه فرمى بنفسه إلى البحر فالتقمه الحوت» . اهـ

وأقول: كذب في قوله: فخرجت القرعة عليه ليذبحوه ويأكلوه»، وما أبرعه في اختلاق الكذب !! لا يجد فيه كلفة ولا يشعر بعار يلحقه من أجله، فكتابه على صغره سلسلة من الأكاذيب آخذ بعضها بحجزة بعض، يحدث عن سيرة عنترة أو ينقل من سيرة رأس الغول !!!

كأنه

لقد كان من الميسور عليه لو كان يعرف صدق القول ويحب تحقيق الأنبياء

البحث العلمي - أن يرجع إلى كتب التفسير وكتب التاريخ وقصص ا فيعرف منها قصة مساهمة يونس عليه السلام على حقيقتها.

وحاصلها على ما رواه السُّدِّيُّ في "تفسيره" بأسانيده عن ابن مسعود وغيره أنَّ الله بعث يونس إلى أهل نينوى وهي من أرض الموصل فكذبوه فوعدهم بنزول العذاب في وقت مُعيَّن، وخرج عنها مغاضبًا لهم، فلما رأوا أثار ذلك خضعوا وتضرعوا ،وآمنوا فرحمهم الله فكشف عنهم العذاب، فذهب يونس فركب سفينة فلججت به فاقترعوا فيمن يطرحونه منهم فوقعت القرعة

الرد المحكم المتين

۲۹۱

عليه ثلاثا فالتقمه الحوت.

وروى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح كما قال الحافظ من طريق عمر بن ميمون عن ابن مسعود نحو ذلك، وفيه وأصبح يونس فأشرف على القرية فلم ير العذاب وقع عليهم وكان في شريعتهم من كذب قتل، فانطلق مغاضِبًا حتى ركب سفينة. وقال فيه: فقال لهم يونس إنَّ معهم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه فقالوا: لا نلقيك يا نبي الله أبدًا قال فاقترعوا فخرج عليه ثلاث مرات فألقوه فالتقمه الحوت، فبلغ به قرار الأرض فسمع تسبيح الحصى

فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ ﴾ [الأنبياء: ۸۷] الآية .

وهكذا جاء في كتب التفسير وغيرها فلا حاجة إلى الإطالة بذكر النقول لأن تكذيب المتنطع وبيان جهله حاصل بما ذكرناه والله الموفق لا ربَّ غيره. ثُمَّ قال المتنطع: «التوسُّل مِن السُّنَّة»، وذكر أربعة أحاديث من الأدعية

المأثورة.

وأقول: من التوسل الوارد في السُّنَّة حديث سؤال الضرير وغيره من الأحاديث التي تقدَّم ذكرها في الباب الثاني، فإنَّ بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيفٌ، والتوسل بها مَسْتَحَبُّ كالتوسل بسائر الأدعية المأثورة، والتفريق بينها تحكم لا داعي إليه إلَّا التعصب والهوى نسأل الله العفو

والعافية.

ثُمَّ قال المتنطع: «وقد أنصف الآلوسي في تفسير (سورة المائدة) في الكلام على الوسيلة وحكى فيها الحقِّ، وأنه لا يجوز التوسل بمخلوق من المخلوقين

۲۹۲

مباحثات

إلا أنه توقف في جواز التوسل به صلَّى الله عليه وآله وسلم تابعا للعز بن عبد السلام من أئمة الشافعية نظرًا لحديث الترمذي عن عثمان بن حنيف، وقد تقدم الكلام عليه مستوفيا فلا معنى لهذا التوقف، ولا سيما بعد تصريح إمامه أبي حنيفة رحمه الله بعدم جواز ذلك كما مر » . اهـ

وأقول: في كلامه أمور:

الأول: أنَّ الآلوسي لم يتوقف في التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل صرح بجوازه كما سيأتي في كلامه.

الثاني: أنَّ العزّ بن عبد السلام لم يتوقف في التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تكلّم عليه، وإنما سُئل عن الإقسام على الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجازه على أنه من خصوصيَّاته، وقد نقلت عبارته بلفظها فيما تقدم أثناء مناقشة ابن تيمية وبيَّنتُ أنه أخطأ في نقل كلام ابن عبدالسلام، ولعله

خطأ مقصود، فقد تبيَّن لي أنَّ ابن تيمية غير مأمون في النقل عن العلماء. الثالث: أن أبا حنيفة لم يُصرِّح بعدم جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه

وآله وسلم ولا بغيره كما تقدم بيان ذلك مُفصَّلًا. وإذا قد بينا ما في عبارة المتنطع من أكاذيب متوالية فلنذكر عبارة الآلوسي على حقيقتها، فإنه بعد أن تكلّم عن الوسيلة ونقل كلام العز بن عبدالسلام في الإقسام وكلام ابن تيمية في منع التوسل وأطال في تقريره بما لا يخلو بعضه عن عن مناقشة، وأشار إلى ردّ التقي السبكي على ابن تيمية قال ما نصه: (وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى الله عليه وآله

الرد المحكم المتين

۲۹۳

وسلم عند الله حَيًّا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده، وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وآله وسلَّم أن تقضي لي حاجتي: إلهي أجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وبين قولك إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضًا إلهي أجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأسًا أيضًا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وآله وسلَّم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة مثل أسألك بحرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم ، لعل ذلك كان تحاشيًا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذا ذاك وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام شيء، ثُمَّ اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم قريبي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من تضليلهم كما يزعمه البعض في التوسل بجاه عريض الجاه صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولا للميل إلى أنَّ الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السُّنَّة، فإنه لا يستريب منصف في أنَّ ما علمه الله ورسوله ودرج عليه الصحابه الكرام وتلقاه من

بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا

٢٩٤

مباحثات

بقي ههنا أمران:

الأول: أنَّ التوسل بجاه غير النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لا بأس به أيضًا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أنه له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأمَّا مَن لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يُعلَم تحققه منه عزَّ شأنه، وفي ذلك جرأةٌ عظيمة على الله تعالى.

الثاني: أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك ولا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركًا، وإن لا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا . وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلَّا مِن الله تعالى القوي الغني الفعال لما يُريد» . اهـ

وهو ينادي بتكذيب المتنطع وفضيحته كما لا يخفى، هذا وقد ورد في

التوسل بالحرمة حديث ضعيفٌ لا بأس أن نذكره لتمام الفائدة.

قال السمر قندي: حدثنا أبي ثنا محمد بن موسى: ثنا سلمة بن شبيب: ثنا إبراهيم بن يسار، عن زرعة بن أيوب، عن جويبر، عن الضَّحَّاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ برجل متعلّق بأستار

الرد المحكم المتين

٢٩٥

الكعبة وهو يقول: أسألك بحرمة هذا البيت أن تغفر لي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا عبد الله سَلْ بِحُرْمَتِكَ؛ فَإِنَّ حُرْمَةَ المُؤْمِنِ أَعظمُ یا عند الله مِن حُرْمَةِ هذا البيت.. » الحديث. وهو ضعيف، لكن ورد ما يؤيده في حُرمة المؤمن. فروى ابن ماجه عن عبدالله بن عمر قال رأيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، والذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ المَوْمِنِ أَعْظَمُ عند الله حُرْمَةً مِنكِ، مَالِهِ، وَدَمِهِ، وأَن نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خيرًا ».

وروى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس قال نظر رسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة فقال: «لا إلَهَ إِلَّا اللهُ ما أَطْيَبَكِ، وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكَ، والمؤمنُ أَعْظَمُ حُرْمَةٌ مِنكِ، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جَعَلَكِ حَرَامًا، وحَرَّمَ مِن

المؤمنِ مالَهُ ودَمَهُ وعِرْضَهُ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ ظَنَّا سَيِّئَا».

وللحديث طرق ذكرتها في تعليقاتي على كتاب "تأييد الحقيقة العلية"

للحافظ السيوطي وهو مطبوع.

وسئل الشوكاني عن التوسل بالأموات المشهورين بالفضل وكذلك الأحياء والاستغاثة بهم ومناجاتهم عند الحاجة من نحو: على الله وعليك يا فلان، وأنا بالله وبك، وما يشابه ذلك؟ وتعظيم قبورهم واعتقاد أنَّ لهم قدرةً على قضاء حوائج المحتاجين وإنجاح طلبات السائلين؟ وما حكم من فعل شيئًا من ذلك؟ وهل يجوز قصد قبور الصالحين لتأدية الزيارة ودعاء الله عندها

٢٩٦

مباحثات

من غير استغاثة بهم بل بالتوسل بهم فقط؟

فأجاب برسالة سماها "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" بين فيها معنى الاستغاثة والتشفع والتوسل، وذكر أنَّ الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، وفيما لا يقدر عليه ممنوعةٌ بلا خلاف، ومثلها الاستعانة جوازا ومنعا، وأن التشفع ثابت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم بالتواتر، ثُمَّ قال ما نصه: «وأمَّا التوسل إلى الله سبحانه بأحدٍ مِن خَلْقِهِ في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إن صح الحديث فيه، ولعله يشير إلى الحديث الذي رواه النسائي في "سننه" ، والترمذي وصححه، وابن ماجه وغيرهم: أنَّ أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال يا رسول الله إني أُصِبْتُ في بصري فادع الله لي. فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «توضّأ وصل ركعتين ثُمَّ قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمَّدٍ، يا محمَّدُ إِنِّي أستشفع بك في رَدَّ بصري، اللهمَّ شَفَعْهُ فيَّ» وقال: «فإن كان لك حاجة فمثل ذلك» فردَّ الله بصره، وللناس في معنى هذا قولان:

أحدهما : أنَّ التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: «كنا إذا اجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا» وهو في "صحيح البخاري" وغيره، فقد ذكر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في حياته في الاستقاء، ثُمَّ توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله

تعالى، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان في مثل هذا شافعا وداعيًا لهم.

الرد المحكم المتين

۲۹۷

والقول الثاني: أنَّ التوسل به صلَّى الله عليه وآله وسلّم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه، ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به صلَّى الله عليه وآله وسلم في حياته وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا؛ لعدم إنكار أحدٍ منهم على عمر رضي الله عنهم في التوسل بالعباس الله عنه، وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله

رضي

عليه وآله وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين:

الأول: ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله عنهم. والثاني: أنَّ التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلاً إلا بأعماله، فإذا قال القائل: إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني. فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، أنَّ كلَّ واحدٍ منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شِركًا كما يزعم المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام (۱) ومن قال بقوله لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى:

(۱) ابن عبد السلام لم يتشدّد، والعذر للشوكاني أنه لم يقف على كلامه إلا بواسطة ابن تيمية الذي حوّره لغرض في نفسه.

۲۹۸

!

مباحثات

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: (٣] ونحو قوله تعالى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحدا ﴾ [الجن: ۱۸] وقوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ [الرعد: ١٤] ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه، فإنَّ قولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسّل بالعالم مثلا لم يعبده، بل علم أنَّ له مزيَّة عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله تعالى فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا فإنه نهي عن أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول: «يالله ويالفلان»، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توصل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله : وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ [الرعد: ١٤] الآية فإنَّ هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدعُ إلَّا الله ، ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه، فإذا عرفت هذا، لم يخف عليك ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرنا كاستدلالهم بقوله تعالى: ثُمَّ مَا أَدْرَنكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ

يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسُ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَيذٍ لِلَّهِ ﴾ [ الانفطار: ۱۸ - ۱۹] فإنَّ هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه المنفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسل بنبي أو عالم هو لا يعتقد أنَّ لمن توسل به مشاركة الله جل جلاله في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء

الرد المحكم المتين

۲۹۹

أكان نبيا أو غير نبي فهو في ضلال مبين، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ﴾ [آل عمران: ۱۲۸] قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًا ﴾ [الأعراف: ۱۸۸]

فإن هاتين الآيتين مُصرّحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك لغيره وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء أو العلماء، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبون منه وقال له: «سَلْ تُعْطَ واشْفَعْ تُشفّع وقيد ذلك في كتابه العزيز بأنَّ الشفاعة لا تكون إلا بإذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما نزل قوله تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: ٢١٤] «يا فلان ابن فلان لا أَمْلِكُ لكَ مِن الله شيئًا، يا فلانة بنت فلان لا أَمْلِكُ لَكِ مِن الله شيئًا» فإن هذا ليس فيه إلَّا التصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يستطيع نفع من أراد الله تعالى ضره ولا ضرَّ مَن أراد الله ،نفعه وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا . عن غيرهم شيئًا من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله، فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببًا للاجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم ! م الدين (۱) ، وإذا علمت هذا فاعلم أنَّ الرَّزِيَّة كل الرَّزِيَّة

(۱) تأمل كلام الشوكاني تجده يهدم جميع استدلالات المتنطع من أساسها.

۳۰۰

مباحثات

والبلية كل البلية أمر غير ما ذكرنا من التوسل المجرَّد، والتشفع بمن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور

لهم

وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلَّا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عزّ وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالا، ويصرحون بأسمائهم ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون خُضُوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، وهذا إذا لم يكن شِركًا فلا ندري ما هو الشرك، وإذا لم يكن كفرًا فليس في الدنيا كفر، وها نحن أولاء نقصُّ عليك أدلة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل ، وفي بعضها التصريح بأنه شرك وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير، ثُمَّ بعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال». ثُم أورد أحاديث في النهي عن الرُّقَى والتمائم وعن قول الرجل: ما شاء الله وشئت، وعن الحلف بغير الله، وعن بناء المساجد على القبور، وعن الذبح لغير الله، وعن السحر، وعن إتيان الكاهن والعرَّاف، وعن أشياء من هذا القبيل أطلق الشارع عليها أنها شرك. ثُمَّ قال: «اعلم أنَّ الله لم يبعث رسله ولم ينزل كتبه لتعريف خَلْقِهِ بأنه الخالق لهم والرازق لهم ونحو ذلك، فإنَّ هذا يُقِرُّ به كلُّ مشرك قبل بعثة الرسل

وَلَن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: ۸۷]».

وذكر جملة آيات تسجل على المشركين اعترافهم بأنَّ الخالق والرزاق

الرد المحكم المتين

۳۰۱

والمحيي والمميت هو الله ، ثُمَّ قال: «وإذا تقرر هذا فلا شك أنَّ من اعتقد في ميت من الأموات أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه إما استقلالا أو مع الله تعالى أو ناداه أو توجّه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق فلم يخلص التوحيد الله، ولا أفرده بالعبادة، إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه ودفع الضر عنه هو نوع من أنواع العبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حَجَرًا أو شَجَرًا أو مَلَكًا أو شَيْطانًا، كما كان يفعل ذلك أهل الجاهلية، وبين أن يكون إنسانًا من الأحياء أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين، وكل عالم يعلم هذا ويقر به فإنَّ العِلَّة واحدة وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد، وللحي كما يكون للميت»، وأطال في بيان هذا المعنى وتقريره وأن تسميتة هذا العمل

توسلا أو تشفعا لا يخرجه عن حقيقته؛ لأن العبرة بالمسمى لا بالاسم. ونقل كلام العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليمني في أنَّ هذا من الكفر العملي لا الاعتقادي، وأنه كحديث كفر تارك الصلاة، وكفر إتيان المرأة في دبرها، والحائض في فرجها ... إلى أشباه ذلك، وناقشه فيها أبداه مبديًا الفرق بين الموضوعين، ثُمَّ قال: واعلم أنَّ السائل - كثر الله فوائده- ذكر في جملة ما سأل عنه أنه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين مشهور بالصلاح ووقف لديه وأدى الزيارة وسأل الله بأسمائه الحسنى وبما لهذا الميت من المنزلة هل تكون هذه البدعة عبادةً لهذا الميت؟ ويصدق عليه أنه قد دعا غير الله وأنه قد عبد غير الرحمن وسلب عنه اسم الإيمان؟ أو يكون فاعلا معصية كبيرة أو مكروها؟ وأقول: قد قدَّمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي أو ولي أو

۳۰۲

مباحثات

عالم، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه فهذا الذي جاء إلى القبر زائرا ودعا الله وحده وتوسل بذلك الميت، كأن يقول: اللهم إنّي أسألك أن تشفيني من كذا وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك والمجاهدة فيك والتعلم والتعليم خالصا لك فهذا لا تردُّد في جوازه، لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر؟ فإن كان لمحض الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة فهذا ليس بممنوع، فإنه إنما جاء ليزور وقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور...».

وذكر الأحاديث الواردة في ذلك ثُمَّ قال: «فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مشروع، لكن بشرط ألا يشد راحلته ولا يعزم على سفر ولا يرحل كما ورد تقييد الإذن بالزيارة للقبور بحديث ( لا تشدُّ الرِّحَال إلَّا لثلاثة» وهو مقيد لمطلق الزيارة وقد خصَّ بمُخصصات منها زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم وفي ذلك خلاف بين العلماء (۱)

(۱) لا نعلم في ذلك خلافًا قبل وجود ابن تيمية، وقد كان الناس يشدون الرحلة إلى القبر الشريف بدون نكير من العلماء من ذلك ما رواه الحافظ حمزة السهمي في "تاريخ جرجان" عن محمد بن صول قال: قال صول ليزيد بن الملهب لما افتتح جرجان: هل

في الإسلام من هو أجل منك أسلم على يده؟ قال: نعم، سليمان بن عبد الملك الخليفة- قال فسر حني إليه لأسلم على يده ففعل فلما قدم عليه قال له مثل ما قال لیزید، فقال سليمان: ليس اليوم في المسلمين أحد أجل مني، ولكن لقبر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الفضل . قال: أسلم هناك؟ فسرحه سليمان إلى المدينة فأسلم عند القبر ثُمَّ رجع إلى بلده.

الرد المحكم المتين

۳۰۳

وأما إذا لم يقصد مجرَّد الزيارة بل قصد المشي إلى القبر ليدعو عنده فقط وجعل الزيارة تابعة لذلك، أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء فقد كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بما لذلك الميت من الأعمال الصالحة من دون أن يمشي إلى قبره، فإن قال: إنما مشيت إلى قبره لأشير إليه عند التوسل به فيقال له إنَّ الذي يعلم السر وأخفى ويطلع على خفايا الضمائر لا يحتاج منك إلى هذه الاشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر والمشي إليه، فما أراك مشيت لهذه الإشارة بل مشيت لتسمع الميت توسلك به، وأنت إن رجعت إلى نفسك وسألتها عن هذا المعنى فربما تقر لك به، فإن وجدت عندها هذا المعنى فاعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور.

ثُمَّ تكلّم على بقية أنواع قصد القبور فيراجع كلامه.

وقد نبهناك فيما سبق أنَّ كلام عز الدين بن عبد السلام في الإقسام بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم لا في التوسل به والشوكاني نبع ابن تيمية فغلط. والمقصود أن الشوكاني أجاز التوسل كما أجازه الآلوسي، وأجازه قبلهما : تقي الدين السبكي في "شفاء السقام" وغيره من العلماء، وليس من غرضي استقصاء كلامهم في هذا الموطن فإن ذلك يطول، ولكن غرضي تبيين كذب

المتنطع وإظهار جهله، وهو حاصل بما ذكرت، وبالله التوفيق.

٣٠٤

مباحثات

الباب الثالث

في أحكام القبور

تكلم في هذا الباب علي زيارة القبور وبناء المساجد(۱) عليها، والنذر لأصحابها، وقد نقل اتفاق الأمَّة على أنَّ النهي للتحريم، وقد كذب في نقل هذا الاتفاق كما كذب في غيره على عادته، وقد قال البخاري في "صحيحه": باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور». ثُمَّ روى حديث عائشة: «لَعَنَ اللهُ اليهود والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجِدَ».

وترجم بالكراهة أيضًا الترمذي، ونقل الحافظ عن البيضاوي: «أَنَّ اتَّخاذ المساجد بجوار صالح للتبرك لا يشمله الحديث المذكور؛ لأنه وارد فيمن كانوا يعبدون الأنبياء والصالحين».

وقد حكى المتنطع في هذا الباب عِدَّة اتفاقات مكذوبة، ثُمَّ تكلّم على سماع الميت، فذكر: «أنَّ عائشة وقتادة وأكثر التابعين ذهبوا إلى عدم سماع الميت

احتجاجًا بقوله تعالى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْنَ ﴾ [الروم: ٥٢] وبقوله: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع من فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: ۲۲]. وقالوا هذا قاطع متواتر ظاهر في عدم سماع الموتى فلا يرد إلا بقاطع مثله» . اهـ

مع

استدلالها

وأقول: إنكار عائشة لسماع الموتى ثابتٌ في "الصحيحين" . بالآية، وأما قتادة فلم يُنكر سماع الموتى بل أشار إلى الرد على من أنكره كما

(۱) انظر كتاب "إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور"

لأخينا أبي الفيض الحافظ.

الرد المحكم

٣٠٥

سيأتي، فالمتنطع كاذب فيها نقله عنه، كما كذب على غيره في غير موضع من

كتابه الذي نرد عليه. وأما الآية فهي وإن كانت قطعية المتن فدلالتها ظاهرة، أي أنها تحتمل وجوها من التأويل لا يُنكرها العقل ولا يردُّها النقل؛ فيجب الجمع بينهما

وبين ما يعارضها من الأحاديث كما هو مُقرَّر في علم أصول الفقه. ثُمَّ ذكر المتنطع: أنَّ المجيزين لسماع الموتى استدلوا بحديث أهل القليب وحديث أُمَّ يُجَنِ التي كانت تَقُم المسجد وحديث: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ كان يَعْرِفُهُ فَيُسَلَّمَ عليه إِلَّا رَدَّ اللهُ عليهِ رُوحَهُ حَتَّى يردَّ عليه». ثُمَّ قال: وقالوا هذه الأحاديث تدل على أنَّ الموتى يسمعون، وأجابوا عن

الآيات بأن المنفي فيها سماع الانتفاع لا مطلق السَّماع جمعا بين الأدلة. وقد أجاب المانعون عن هذه الأدلة بأنَّ حديث "الصحيحين" قد أنكرته عائشة وقالت: ما قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ما يقول ابن عمر، ولكنه قال إنهم ليعلمون أنَّ ما كنت أقول لهم حَقٌّ.

وأجابوا عن حديث ابن منده - يعني حديث أُم يُحجَنٍ - بأنه مرسل لا

يصح الاحتجاج به.

وعن حديث الحاكم وغيره - يعني حديث: «ما مِن أَحَدٍ يَمُرُّ بِغَيْرِ أخيه» - بأنه غير صحيح؛ قال الحافظ ابن رجب: «تصحيح الحاكم محكوم عليه عند أهل الحديث بعدم الاعتبار. وهو كما قال ؛ فقد صحح كثيرًا من الأحاديث الموضوعة كما تقدَّمت الإشارة إليه، والحق أنهم لا يسمعون إِلَّا السَّلام عليهم كما ورد به النص، وأنَّ سماع قتلى بدر كان خصوصيَّةٌ له صلى الله عليه وآله

٣٠٦

مباحثات

وسلَّم إذا صَحَ ما قاله ابن عمر».اهـ

وأقول: في كلامه أمور:

الأول: أنَّ هذه الأجوبة التي نسبها إلى المانعين لسماع الموتى زَوَّرها في نفسه، ولم يفه بها أحدٌ مِن المانعين قبله، فهي من جملة الأكاذيب التي حشا بها

كتابه.

الثاني: أنَّ العلماء أخذوا برواية ابن عمر وقدموها على إنكار عائشة عكس ما فعله المتنطع الذي لا يعرف قواعد العِلْمِ.

الثالث: أن ما نقله عن ابن رجب في تصحيح الحاكم كذب على ابن رجب،

وجهل بمقام الحاكم، وقد نبهنا على ذلك فيما سبق.

الرابع: دعواه أنَّ الحاكم يُصَرِّح الموضوعات كذب كما نبهنا عليه في

الباب الثاني.

الخامس: دعواه أنَّ الموتى يسمعون السلام عليهم مناقض لما ادعاه أولا

من عدم سماعهم.

السادس: دعواه أنَّ النصَّ ورَدَ بسماع الموتى للسلام، إن كان مراده بالنص القرآن فهو كاذب، وإن كان المراد به الحديث فقد ادعى أولا أنَّ القرآن القاطع المتواتر دلّ على عدم سماع الموتى ولا يجوز ردُّه إلَّا بقاطع مثله، فكيف رَدَّه الآن بالحديث الدال على سماع الموتى للسلام؟ ما هذا إلا تناقض فاحش يدل على

جهله وعدم إدراكه لما يقول. وإذ قد فرغنا من بيان ما في كلام المتنطع من تناقض وكذب فلنذكر خلاصةً وجيزة لمسألة سماع الموتى مع بيان ما هو الحق في ذلك، والله الموفق.

الرد المحكم

۳۰۷

اعلم أنَّ العلماء اختلفوا في سماع الموتى، فذهب جماعةٌ من أهل العلم وهم الأكثرون كما قال الحافظ ابن عبدالبر - إلى إثبات سماعهم في الجملة، وهو اختیار ابن جرير الطبري وابن قتيبة، ورجّحه ابن القيم وابن رجب وغيرهما. ثُمَّ اختلف هؤلاء فذهب قتادة إلى أن الميت يسمع القول بعد إعادة الروح إلى جسده، قال في حديث أهل القليب أحياهم الله حتَّى أسمعهم توبيخا

وتصغيرًا ونقمَةً وحَسْرَةً ونَدَما . رواه البخاري بعد حديث القليب.

وصرح بذلك طوائف مِن السَّلَف وغيرهم في سؤال القبر فقالوا: لا يسأل

الميت إلا بعد إعادة الروح إليه. وذهب ابن حزم حزم وطائفة إلى أن السؤال للروح خاصة، وكذلك سماع الخطاب للروح خاصَّةً، وأنكروا أن تعاد الروح للجسد في القبر لعذاب أو غيره، ورجح هذا القول ابن عقيل وابن الجوزي من الحنابلة في بعض تصانيفهما.

وذهبت عائشة إلى نفي سماع الموتى إطلاقا، ووافقها جماعة من العلماء

ورجحه القاضي أبو يعلى من الحنابلة في كتاب "الجامع الكبير" له. فالأقوال ثلاثة استدلَّ أهل القول الأول بأحاديث وآثار منها حديث

القليب وهو ثابت في "الصحيحين" من وجوهِ مُتعَدِّدةٍ عن أبي طلحة و وابنه عبدالله أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر بأربعة وعشرين رَجُلًا مِن صناديد قريش، فألقوا في طَوِيٌّ مِن أطواء بدر، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماهم بأسمائهم: «يا أبا جهل بن هشام، يا أُمَيَّة بن خَلَفٍ، يا عتبة بن ربيعة، يا شَيْبة بن ربيعة يا فلان ابن فلان، أليس قد وَجَدْتُمْ ما وَعَدَكُمْ

۳۰۸

مباحثات

رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قد وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِ رَبِّي حَقًّا». فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجسادٍ لا أرواح فيها ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما أنتم بأَسْمَعَ لما أقولُ مِنهم، ولكنَّهم لا يُجيبُونَ».

هكذا رواه الشيخان من حديث ابن عمر، والبخاري من حديث أنس عن

أبي طلحة، ومسلم من حديث أنس عن عمر.

ورواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح، ومن حديث عبدالله بن سيدان نحوه وفيه قالوا يا رسول الله وهل يسمعون؟! قال: يَسْمَعُونَ كما تَسْمَعُونَ ولكن لا يُجيبُونَ».

ومنها ما رواه البزار، وصححه ابن حِبَّان من طريق إسماعيل بن عبدالرحمن السُّدِّي، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الميِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ».

وأخرج ابن حبان أيضًا من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي

هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم نحوه، في حديث طويل. وقال البخاري في "صحيحه": «باب الميت يسمع . يسمع خَفْقَ النِّعال» ثُمَّ روى عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «العَبْدُ إِذا وُضِعَ في قَبْرِهِ وتَولَّى وذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ». وذكر الحديث في سؤال القبر، ورواه مسلم أيضًا، وسماع الميت خَفْقَ النِّعال واراد في عدة أحاديث.

ومنها: الأحاديث الواردة في سؤال القبور وهي كثيرةٌ مُنتشِرَةٌ، وفيها

التصريح بسؤال الملكين له، وجوابه بما يطابق حاله من سعادة أو شقاء.

الرد المحكم

۳۰۹

ومنها: ما شرعه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لأُمَّتِهِ مِن السَّلام على أهل

القبور ومخاطبتهم بلفظ : «السَّلام عليكم دار قوم مؤمنين». قال ابن القيم: (وهذا خطابٌ لمن يَسْمَعُ ويَعْقل؛ ولولا ذلك لكان هذا

الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا. وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويَسْتَبْشِرُ به». ثُمَّ ذكر جملة منها في كتاب "الروح" فليراجع. ومنها: ما رواه ابن أبي الدُّنيا في كتاب "القبور" قال: حدثنا محمد بن عون: ثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان عن زيد بن أسلم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَا مِن رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ ـنده إِلَّا اسْتأَنَسَ بِهِ ورَدَّ عليه حتَّى يَقُومَ إسناده ضعيف جدا. وقال أيضا: حدثنا محمد بن قدامة الجوهري : ثنا مَعْنُ بن عيسى القزاز: أخبرنا هشام بن سعد ثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة قال: إذا مَرَّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسَلَّم عليه رَدَّ عليه السَّلام وعَرَفَهُ، وإذا مَرَّ بقير لا يعرفه فَسَلَّم عليه رَدَّ السَّلام. هكذا رواه موقوفا وهو أشبه. ورواه ابن أبي الدُّنيا، والخطيب في "التاريخ"، من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما مِن عَبْدِ يَمُرُّ بِقَبْرِ رجلٍ كَان يَعْرِفُهُ فِي الدُّنيا فيُسَلِّم عليه إِلَّا عَرَفَهُ ورَدَّ عليه السَّلام». وروى العقيلي في "الضعفاء" عن جعفر بن عمر النهرواني، عن النجم بن بشير بن عبدالملك بن عثمان القرشي : حدثنا محمد بن الأشعث، عن أبي سلمة،

۳۱۰

مباحثات

عن أبي هريرة قال أبو رزين- وهو غير العقيلي-: يا رسول الله إنَّ طريقي على الموتى فهل من كلام أتكلم به إذا مررتُ عليهم؟ قال: «قُل: السلام عليكم يا أهل القبور من المسلمين ، أنتم لنا سَلَفٌ ونحن لكم تبع، وإنا إن شاء الله بكم لاحِقُونَ». فقال أبو رزين: يا رسول الله، يسمعون؟ قال: «يَسْمَعُونَ ولكن لا يَسْتَطِيعُونَ أَن يُجيبوا» قال: يا أبا رزين ألا تَرْضَى أَن يَرُدَّ عليك بِعَدَدِهِمْ مِن

الملائكة؟».

قال العقيلي: «لا يُعرف إلا بهذا الإسناد وهو غير محفوظ، ومحمد بن الأشعث مجهول في النسب والرواية، وأصل السَّلام المذكور على القبور يُروى بإسناد صالح غير هذا».اهـ

وروى الحافظ ابن عبدالبر من طريق الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن بشر بن بكر، عن الأوزاعي ، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بقبر

أخيه المؤمن كان يَعْرِفُهُ فِي الدُّنيا فيُسَلَّم عليه إِلَّا عَرَفَهُ ورَدَّ عليه السَّلام». قال الحافظ عبد الحق الأشبيلي: إسناده صحيح»، ووافقه الحافظ ابن رجب، لكنه أعل الحديث بالنكارة.

والآثار في هذا الباب كثيرة متواترة عن الصحابة والتابعين وأتباعهم. وهي في كتاب "القبور" لابن أبي الدنيا، وكتاب "من عاش بعد الموت" له أيضًا، وكتاب "العاقبة" للحافظ عبد الحق الأشبيلي، وكتاب "أهوال القبور" بن رجب، وكتاب الروح" لابن القيم، وكتاب "شرح الصدور"

للحافظ

للحافظ السيوطي وغيرها.

الرد المحكم

۳۱۱

ومنها: ما رواه أبو الشَّيخ ابن حَيَّان عن عبيد بن أبي مرزوق قال: كانت امرأة بالمدينة تَقُم المسجد فماتت، فلم يعلم بها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فمرَّ على قبرها فقال: ما هذا القبر؟» فقالوا: قبر أُمّ مُحجَنٍ. قال: «التي كانت تَقُمُّ المسجد؟» قالوا: نعم. فصَفَّ الناس فصلى عليها، ثُمَّ قال: «أي العَمَلِ وجدت أفضل؟» قالوا: يا رسول الله أتسمع؟ قال: «ما أنتم بأَسْمَعَ منها». فذكر أنها أجابته: «قَمُّ المسجد». وهذا مرسل وأصل الحديث في "الصحيحين". ومنها: حديث تلقين الميت بعد دفنه رواه الطبراني وغيره عن أبي أمامة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا مَاتَ أَحَدٌ مِن إِخْوانِكُمْ، فسَوَّيْتُمِ التُّرَابَ على قَبْرِهِ، فليَقُمْ أحَدُكُمْ على رأسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ ولا يُحِيبُ ثُمَّ يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قاعِدًا، ثُمَّ يقول: يا فلان بن فلانة، فإنَّهُ يقولُ : أَرْشِدْنا رَحِمَكَ اللَّهُ، ولكن لا تَشْعُرُونَ. فليَقُلْ : اذْكُرُ ما خَرَجْتَ عليه مِن الدُّنيا شَهادَةَ أن لا إلَهَ إِلَّا اللهُ وأَنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسوله، وأَنَّكَ رَضِيتَ بالله رَبَّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيا، وبالقُرآنِ إمامًا، فإنَّ مُنْكَرًا ونَكِيرًا يَأْخُذُ واحِدٌ مِنها بِيَدِ صاحِبِهِ ويقولُ: انطَلِقُ بنا ما نَقْعُدُ عند من قد لُقَنَ حُجَّتَهُ، فيكون اللهُ حَجِيجَهُ دُونَهما». فقال رَجُلٌ: يا رسول الله فإِنْ لم يَعْرِفُ أُمَّهُ؟ قال: «فَيَنْسُبُهُ إِلى حَوَّاءَ، يا فلان بن حَوَّاءَ».

هذا حديث ضعيفٌ لكن جرى عمل الناس عليه، وتلقته الأُمَّة بالقبول، قال ابن القيم في كتاب الروح : ويدل على هذا أيضًا -أي سماع الميت وإدراكه - ما جرى عليه عمل الناس قديمًا وإلى الآن من تلقين الميت في قبره،

ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثا.

۳۱۲

مباحثات

وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل، ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه " من حديث أبي أمامة». وذكر الحديث نحو ما ذكرناه آنفًا ثُمَّ قال: «فهذا الحديث وإن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كافٍ في العمل به، وما أجرى الله سبحانه العادة قطُّ بأن أُمَّة طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولا وأوفرها معارف تُطبق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل، وتستحل ذلك لا ينكره منها مُنكِرٌ ، بل سُنَّة الأول للآخر، ويقتدي فيه الآخر بالأول، فلولا أن المخاطب وإلا كان ذلك بمنزلة الخطاب يسمع للتراب والحجر والخشب والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبةً على استقباحه واستهجانه، وقد روى أبو داود في "سننه" بإسناد لا بأس به: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم حَضَر جنازة رجل فلما دفن قال: «سَلُوا لأخيكم التَّثْبِيتَ فإنَّه الآنَ يُسْأَلُ» فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين» . اهـ المراد منه، وراجع بقيته. ثم وجدت الحافظ ابن حجر تكلَّم في "التلخيص الحبير" على حديث أبي أمامة في التلقين وقال: «إسناده صالح» قال: «وقد قواه الضياء في "أحكامه"،

قال: وروى سعيد بن منصور من طريق راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وغيرهما إذا سُوِّي على الميت قبره وانصرف عنه الناس كانوا يستحبون أن يُقال للميت عند قبره: يا فلان قل: «لا اله إلَّا الله»، قل: «أشهد ألا إله إلا الله»

ثلاث مرات قل: «ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد»، ثُمَّ ينصرف. وأما الذين قالوا إنَّ الميت يسمع بعد عود الروح إلى جسده فاستدلوا

الرد المحكم

۳۱۳

بحديث البراء بن عازب في سؤال القبر وهو حديث طويل وفيه: «وتُعادُ

رُوحه إلى جَسَدِهِ .

وكذلك جاء في حديث جابرٍ وابن مسعود وأبي هريرة وحذيفة وقال الحافظ ابن عبدالبر : ثَبَتَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ما مِن مُسْلِمٍ يَمُرُّ على قَبْرِ أَخِيهِ كان يَعْرِفُهُ في الدُّنيا فَيُسَلِّمُ عليهِ إِلَّا رَدَّ اللهُ عليهِ رُوحَهُ حتّى يرد عليه السلام». وأما الذين قالوا: إِنَّ السؤال والسماع للروح خاصة فاستدلوا بأنَّ الروح لو عادت إلى البدن لزم أن يحيى الإنسان ثلاث مرات ويموت ثلاث مرات والقرآن دل على أنهما حياتان وموتتان». قال ابن رجب: «وهذا ضعيف جدا فإنَّ حياة الروح ليست تامَّةً مُستقلة كحياة الدنيا وكالحياة الآخرة بعد البعث، وإنما فيها نوع اتصال البدن بالروح بحيث يحصل بذلك شعور البدن وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرهما، وليس هو حياةً تامَّةً حتى يكون انفصال الروح به موتا تاما، وإنما هو شبيه بانفصال روح النائم عنه ورجوعها إليه، فإن ذلك يُسمي موتا وحياةً كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا استيقظ : «الحمد الله أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النُّشُور وسماه الله وفاةٌ بقوله: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [الزمر: ٤٢] ومع هذا فلا ينافي ذلك أن يكون النائم حيًّا وكذلك اتصال روح الميت ببدنه وانفصالها لا يوجب أن يصير حيا حياةً مُطلَقةً» . اهـ

وأطال شيخه ابن القيم تقرير هذا المعنى في كتاب "الروح" وناقش ابن حزم مناقشة قيمة، وذكر حديث البراء وقال: «ذهب إلى القول بموجبه جميع

أهل السنة والحديث من سائر الطوائف.

مباحثات

وأما الذين قالوا إنَّ الميت لا يسمع أصلا فاستدلوا بقوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُمِعُ الموتى } [النمل: ٨٠] وبقوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: ٢٢]. وأجابوا عن حديث القليب بوجهين :

أحدهما: أن سماع الموتى وقع فيه معجزة على سبيل الخصوصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

ثانيهما: توهيم ابن عمر في لفظ السماع.

قالت عائشة: ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنهم ليَسْمَعُون الآن ما أقول» وقد وَهَل - تعني ابن عمر - إنما قال: «إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم إنه حَقٌّ» ثُمَّ قرأت قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَ ، وَمَا

أَنتَ بِمُسْمِع من فِي الْقُبُورِ ». أخرجه الشيخان.

والجواب عن ذلك من قبل الجمهور قال ابن القيم: وأما قوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَن فِي الْقُبُورِ فسياق الآية يدل على أنَّ المراد منها: أنَّ الكافر الميت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعًا ينتفع به، كما أنَّ مَن في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعا ينتفعون به، ولم يُرِد سبحانه أنَّ أصحاب القبور لا يسمعون شيئًا البتة، كيف وقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنهم يسمعون خَفْقَ نعال المشيعين، وأخبر أنَّ قتلى بدرٍ سمعوا كلامه وخطابه، وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنَّ مَن سلَّم على أخيه المؤمِن رَدَّ عليه السلام، وهذه الآية نظير قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا

الرد المحكم تمع الصم الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾ [النمل: ۸۰]، وقد يقال نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أنَّ المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأن قلوب هؤلاء

لما كانت ميتةً صماء كان إسماعها ممتنعا بمنزلة خطاب الميت والأصم. وهذا حقى ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع

بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما ، فهذا غير الإسماع المنفي والله أعلم. وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تسمع من لم يشأ الله أن يسمعه إن أنت إلا نذير، أي: إنما جعل الله لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلفك إيَّاه لا على إسماع من لم يشأ الله إسماعه» . اهـ وقال تلميذه ابن رجب: «وأما قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَ ، وقوله : وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ فَإِنَّ السماع يطلق ويراد به إدراك الكلام وفهمه، ويراد به أيضًا الانتفاع به والاستجابة له، والمراد بهذه الآيات نفي الثاني دون الأول فإنها في سياق خطاب الكفَّار الذين لا يستجيبون الهدى والإيمان إذا دعوا إليه كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ

لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: ۱۷۹] الآية.

فنفى السماع والإبصار عنهم؛ لأن الشيء قد يُنفَى لانتفاء فائدته وثمرته، فإذا لم ينتفع المرء بما سمعه وأبصره فكأنه لم يَسْمَعْ ولم يُبْصِر، وسماع الموتى هو

بهذه المثابة، وكذلك سماع الكفار لمن دعاهم إلى الإيمان والهدى». اهـ وقال الحافظ : اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى في قوله: ﴿ إِنَّكَ لَا

شمِعُ الْمَوْتَى وكذلك المراد بمن في القبور فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته

٣١٦

مباحثات

أصلا احتاجت معه إلى تأويل قوله: «ما أنتم بأَسْمَعَ لما أقول منهم»، وهذا قول

الأكثر .

وقيل: هو مجاز، والمراد بالموتى وبمن في القبور الكفار، شُبِّهوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى: من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر، وعلى هذا لا

يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله عنها، والله أعلم . اهـ وارتكاب المجاز في الآية مُتعيَّن للجمع بين الأدلة، مع أن السياق يرشد إليه، وأما دعوى أن سماع أهل القليب كان خصوصيَّة فهي مفتقرة إلى دليل، وهو مفقود، ولو سُلَّمَتْ في هذا الحديث لم تُسَلَّم في حديث سماع خَفْقِ النِّعال وغيره مما سبق ذكره. وأما إنكار عائشة رواية ابن عمر فلا ينهض دليلا في المسألة وذلك لوجوه: الأول: أن ابن عمر شهد القصة وعائشة لم تشهدها، وبالضرورة يرجع من

شهد على من لم يشهد.

الثاني: أنَّ ابن عمر مثبت وعائشة نافية، والمثبِتُ مُقدَّم على النافي؛ لأنَّ معه زيادة علم ليست عند النافي. الثالث: أن عائشة لم تستند في نفيها إلى رواية تُعارضُ رواية ابن عمر وتبين

وهمه، وإنما استندت إلى فهمها واستنباطها ورواية الثقة لا ترد بمثل ذلك. قال الإسماعيلي: «كان عند عائشة مِن الفَهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العِلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رَدُّ رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؛ لأن قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْنَ ﴾ لا

الرد المحكم

۳۱۷

ينا في قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّهم الآن يَسْمَعُونَ»؛ لأنَّ الإسماع هو إبلاغ الصوت مِن المسمع في أذن السَّامِع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن

أبلغهم صوت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك». اهـ

الرابع: أن ما أثبتته عائشة من العِلم لا ينافي رواية ابن عمر التي أثبتت السماع، بل يؤيدها.

قال الإسماعيلي: «وأما جوابها بأنه إنما قال: «إنهم ليعلمون» فإن كانت

سمعت ذلك فلا ينافي رواية يسمعون بل يؤيدها». اهـ

وذلك لأنَّ الموت ينافي العِلم كما ينا في السمع، فإذا جاز إثبات العلم للميت

جاز إثبات السمع له ولا فرق بينهما كما هو ظاهر لا يحتاج إلى بيان. الخامس: أنَّ ابن عمر لم ينفرد بتلك الرواية التي أنكرتها عائشة بل رواها أيضًا أبوه عمر بن الخطاب، وأبو طلحة الأنصاري، وعبدالله بن مسعود، وعبد الله بن سيدان، وتقدَّم عز و أحاديثهم إلى من رواها، ومِن المستبعد جدا أن يكون هؤلاء كلهم واهمين.

السادس: أنَّ عائشة نَفْسَها روت مثل ما روى ابن عمر. قال الحافظ : ومن الغريب أنَّ في "المغازي" لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه: «ما أنتم بأَسْمَعَ لما أقول منهم». وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن

الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصة» . اهـ هذه الخلاصة الوجيزة الصحيحة تعلم أن سماع الموتى بعد عود

ومن

الروح إليهم صحيح لا غبار عليه، وأنه لا تعارض بين الآية والأحاديث

۳۱۸

مباحثات

الواردة في ذلك، بل بينهما توافق وتعاضد، وأن المانعين لسماع الموتى ليس لديهم متمسك قوي، وأنَّ إنكار عائشة ليس بدليل، فشد يدك على هذه الخلاصة واحرص عليها والله يتولى هداك.

ثُمَّ قال المتنطع: «خاتمة: في حياة أهل القبور وتحقيق الحق في حياة الأنبياء

عليهم الصلاة والسلام» . اهـ وأقول: قد أنصف المتنطع هنا حيث أثبت حياة الأنبياء عليهم السلام، وإن أخطأ في الكلام على الأحاديث وعزوها، وأنا أذكر هنا خلاصةً وجيزة

جامعة كتبها شَقِيقنا الحافظ المجتهد السيد أحمد بن محمد الصديق الغماري. قال حفظه الله: «الأنبياء أحياءٌ في قبورهم وأجسادهم لا تبلى، والإجماع منعقد على هذا كما حكاه غير واحد منهم ابن حزم، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" وغيرهما، للنصوص الصحيحة والصريحة والدلائل الكثير القاطعة، فمن أفتى بفناء أجسادهم فقد خَرَقَ الإجماع وكذَّب بما صح عن الله والرسول، فقد ذكر الله تعالى في غير آية من القرآن أنَّ الشُّهداء أحياء في قبورهم، وأجمع المسلمون على أنَّ الأنبياء أرفع درجةً من الشهداء. قال ابن حزم بعد ذكره الآيات الواردة في أنَّ الشهداء أحياء ما نصه: «ولا خلاف بين المسلمين في أنَّ الأنبياء عليهم السلام أرفع قدرًا ودرجةً، وأتم فضيلة عند الله عزَّ وجلَّ، وأعلى كرامةً مِن كلِّ مَن دُونهم، ومَن خَالَفَ في هذا

فليس مسلما» . اهـ

وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بطريق التواتر أنَّ الأنبياء أحياء في قبورهم، وأنَّ أجسادهم لا تبلى.

الرد المحكم

۳۱۹

قال السيد محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ما نصه: «أحاديث حياة الأنبياء في قبورهم: قال السيوطي في "مرقاة الصعود : تواترت بها الأخبار. وقال في "إنباء الاذكياء بحياة الأنبياء" ما نصه: «حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومةٌ عندنا علما قطعيًّا؛ لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت به الأخبار الدالة على ذلك» . اهـ

وقال ابن القيم في كتاب "الروح" نقلاً عن أبي عبدالله القرطبي: «صَحَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى الله عليه وآله وسلَّم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي بـ السماء، خصوصا موسى، وقد أخبر بأنه ما مِن مُسْلِمٍ يُسَلِّم عليه إِلَّا رَدَّ اللهُ عليه رُوحَهُ حتَّى يرد عليه السلام، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأنَّ موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم أحياء موجودون ولا

نراهم . اهـ

وقد نقل كلام القرطبي وأقره أيضًا الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في "شرح عقيدة أهل السُّنَّة" ونصه: قال أبو عبد الله القرطبي : قال شيخنا أحمد بن عمر -

هذا

القرطبي صاحب "المفهم في شرح صحيح مسلم: «والذي يزيح الإشكال إن شاء الله تعالى: أنَّ الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أنَّ الشهداء بعد موتهم وقتلهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين، وهذه صفة الأحياء في الدُّنيا وإذا كان هذا في الشهداء، كان

۳۲۰

مباحثات

الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم

أنَّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء». وذكر الكلام السابق بلفظه. ثُمَّ قال أخي : ويُحقِّق ما ذكره هؤلاء الأئمة من تواتر الأحاديث الدالة على حياة الأنبياء أنَّ حديث عَرْضِ الأعمال عليه صلى الله عليه وآله وسلّم واستغفاره لأُمَّته ورَدَ مِن عشرين طريقًا.

وحديث: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكل أجساد الأنبياء». ورد من طرق كثيرة جمعها الحافظ المنذري في جزء مخصوص ذكره في اختصاره "السنن

أبي داود".

على

وحديث الإسراء، وإخباره صلَّى الله عليه وآله وسلم فيه أنه رأى الأنبياء يصلُّون، نون، وغير ذلك مما هو صريح في حياتهم ورَدَ من طرق خمسة وأربعين صحابيا، سَرَدَ منهم سبعة وعشرين الحافظ السيوطي في "الأزهار المتناثرة" وزاد عليه تلميذه الحافظ الشامي الزرقاني في "شرح المواهب" ما كمل به العدد المذكور كما ذكره شيخنا السيد محمد بن جعفر الكتاني في "نظم المتناثر"، ، أنَّ المسألة كافٍ في إثباتها حديث: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكُلَ أجساد الأنبياء» فإنَّه على انفراده صحيح لا غبار عليه، وقد صححه من الأئمة من لا يُحصى عددهم منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وزاد أنه على شرط البخاري وأقره الذهبي ، وصححه أيضًا النووي في "الأذكار"، والحافظ عبدالغني بن سيعد ، بل قال: إنه حسن صحيح»، والقرطبي في "التذكرة" ودحية فقال: «إنه صحيح محفوظ بنقل العدل عن العدل». وحسنه ابن العربي المعافري فيما نقله الثعالبي عنه في كتاب العلوم الفاخرة" وسكت عنه أبو

الرد المحكم

۳۲۱

داود، وقد قال ما سكت عنه فهو صالح عنده، وصدره الحافظ المنذري في

" الترغيب والترهيب"

ومع تصحيح هؤلاء الحفاظ الذين لا يكاد يَسْلَمُ فِي نَقْدِهِمْ حديث كابن

العربي المعافري، فإنا نورد الحديث بسنده ونتكلم على رجاله.

فقد أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد في "مسنده" وابن أبي عاصم في "الصلاة" له وأبو داود والنسائي وابن ماجه في "سننهم"، والطبران في "معجمه" وابن خزيمة وابن حِبَّان والحاكم في "صحاحهم" والبيهقي في "حياة "الأنبياء" و"شعب الإيمان" وغيرهما من تصانيفه من طريق حسين بن علي الجعفي : ثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي الأشعثت الصنعاني، عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أفضلُ أَيَّامُكُمْ الجُمُعَة؛ فيه خُلِقَ آدم وفيه قُبِضَ، وفيه النَّفْخَةُ وفيه الصَّعْقَةُ فأكثروا عليَّ مِن الصَّلاة فيه فإنَّ صلاتكم مَعْروضَةٌ عليّ». قالوا: وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ يقولون : بليت، فقال: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ على الأرض أن تأكل أجساد

الأنبياء». رجاله كلهم ثقات: أبو الأشعت الصنعاني اسمه: شَراحِيلُ بن آدَةَ، مِن رجال

مسلم وثقة العجلي وذكره ابن حبان في "الثقات".

وعبدالرحمن بن يزيد بن جابر من رجال البخاري ومسلم، وثقة ابن معين والعجلي وابن سعد والنسائي ويعقوب بن سفيان وأبو داود وجماعة. والحسين بن علي الجعفي من رجال البخاري ومسلم، ثقة باتفاق، وكان عثمان بن أبي شيبة يقول: «بخ بخ ثقة صدوق».

۳۲۲

مباحثات

وبه تم الإسناد فإنه شيخ جماعة ممن أخرجوا هذا الحديث، فهذا برهان ما حكم به أولئك الأئمة من الصحة لهذا الحديث.

ثُمَّ إِنَّ له طريقا آخر أخرجه ابن ماجه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أكثروا الصَّلاةَ عليَّ يومَ الجمعةِ فَإِنَّه مشهودٌ تَشْهَدُهُ

الملائكةُ، وإنَّ أحدًا لن يُصَلِّي عليَّ إِلَّا عُرِضَتْ عليَّ صَلاتُهُ حَتَّى يَفْرَغَ منها». قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: وبعد الموتِ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ على الأَرضِ أن تأكل أجسادَ الأنبياء، فنبيُّ اللَّه حَيٌّ يُرْزَقُ».

قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب": «إسناده جيد». وكذا قال العلّامة السمهودي في "وفاء الوفاء"، وقال السخاوي في "القول البديع": «رجاله ثقات لكنه مُنقطع».

قلت: لا يضر انقطاعه؛ فإنَّ الحديث الأول الصحيح شاهد له وعاضد له، وكذا صححه مع التنصيص على انقطاعه - الحافظ البوصيري في "زوائد ابن

ماجه".

وللحديث طريق ثالثٌ مرسل عن ابن شهاب ولفظه: «أكثروا عليَّ مِن الصَّلاةِ في الليلةِ الغَرَّاءِ واليومِ الأَزْهَرِ فَإِنَّها يُؤدِّيان عنكم، وإِنَّ الأرضَ لا تأكل أجساد الأنبياء، وكلُّ ابن آدمَ يأكلُهُ التُّرابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ». أخرجه

النميري كما ذكره السخاوي في "القول البديع".

وله طريق رابع أخرجه ابن ماجه من حديث شداد بن أوس بلفظ حديث

أوس بن أوس المتقدم.

فالحديث

مع صحة إسناده وثقة رجاله وكونهم على شرط البخاري

الرد المحكم

۳۲۳

ومسلم ووجود هذه الطرق العاضدة له لا يرتاب في صحته إلا جاهل أو

متعصب معاند.

ثُمَّ للمسألة أدلَّةٌ أخرى أيضًا، منها حديث «الأنبياء أحياءٌ في قُبورِهِمْ

يُصَلُّون». رواه أبو يعلى قال حدثنا أبو الجهم الأزرق بن علي: ثنا يحي بن أبي بكير: ثنا المستلم بن سعيد، عن الحجاج بن الأسود، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الأنبياء أحياء في قُبورِهِمْ

يُصَلُّون».

ثابت هو البنان لا يُسأل عن جلالته وإمامته، ثقة باتفاق، من رجال

البخاري ومسلم. والحجاج بن الأسود: قال الحافظ في "اللسان": «قال أحمد: «ثقة، رجل صالح»، وقال ابن معين: «ثقة»، وقال أبو حاتم: «صالح الحديث»، وذكره ابن حبان في الثقات. اهـ

وقد اشتبه فيه الحال على الذهبي فقال إنه نكرة يعني مجهولا، ورده الحافظ بأنه معروف روى عن ثابت وجابر بن زيد وأبي نضرة وجماعة. وعنه جرير بن

حازم و حماد بن سلمة وروح بن عبادة وآخرون. ثُمَّ ذكره توثيقه الذي قدمانه. والمستلم بن سعيد من رجال الأربعة، قال أحمد: «شيخ ثقةٌ مِن أهل واسط قليل الحديث»، وقال ابن معين: صويلح»، وقال النسائي: «ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". ويحيي بن أبي بكير: ثقة من رجال البخاري ومسلم، وثقة ابن معين

٣٢٤

مباحثات

والعجلي، وقال أبو حاتم: «صدوق»، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال علي بن المديني: «ثقة».

وأبو الجهم: روى له البخاري في الأدب المفرد" والحاكم في "صحيحه" وذكره ابن حبان في "الثقات".

فهذا حال رجال الإسناد كلهم ثقات ليس في واحد منهم طعن ولا مغمز، فهو صحيح على رأي ابن حِبَّان والحاكم وأمثالهما، حسن على رأى البخاري

وأمثاله.

ثُمَّ له طرق أخرى غير هذا الطريق أخرجها البيهقي في "حياة الأنبياء"

و بها يرتفع إلى درجة الصحيح المتفق عليه، وهو قاطع صريح. ومنها حديث مَرَرْتُ على موسى وهو قائمٌ يُصَلِّي في قبره الذي أخرجه

مسلم وغيره. وحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلَّم بالأنبياء واجتماعه بهم كما تقدم في كلام القرطبي وأنها متواترة، وبها احتج البيهقي أيضًا في "حياة الأنبياء". وقد ورد من ثلاثة طرق عند عبد الرزاق والطبراني في "معجمه" عن عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص ومجاهد: «إِنَّ المؤذِّنَ المُحْتَسِبَ كالشهيد المُتشَحْطِ في دَمِهِ وإذا ماتَ لم يُدَوَّدْ فِي قَبْرِهِ».

وورد من ثلاثة طرق أيضًا من حديث جابر بن عبدالله وأبي هريرة وعبدالله بن مسعود: «إِنَّ حامِلَ القُرآنِ العامِلَ به لا تأكل الأرضُ لَحْمَهُ». أخرج جميعها ابن منده، وإذا ثبت هذا للمؤذن وحامل القرآن فكيف بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام . اهـ

الرد المحكم

٣٢٥

قلت: قد بقيت أحاديث وآثار لا بأس أن نذكرها على سبيل الاختصار. فمنها ما رواه أبو داود والنسائي والبيهقي في "حياة الأنبياء" وابن نفيل في جزئه المعروف من طريق عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن ا الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُمْ قُبورًا، ولا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عليَّ فَإِنَّ صلاتكم تَبْلُغُني حيثما كنتم». رجاله ثقات، سعيد بن أبي سعيد هو المقبري ثقةٌ مِن رجال السنة، وكذلك ابن أبي ذئب واسمه محمد بن عبد الرحمن، وعبد الله بن نافع هو الصائغ المخزومي تلميذ مالك من رجال مسلم والأربعة، قال أبو زرعة والنسائي: «لا بأس به، وقال النَّسائيُّ مرة أخرى: «ثقةٌ»، وقال الخليلي: «لم يرضوا حفظه، ثقة أثنى عليه الشافعي وروى عنه حديثين أو ثلاثة»، وقال ابن قانع: مدني صالح»، وذكره ابن حِبَّان في "الثقات" وقال: «كان . صحيح وإذا حدث مِن حِفْظِهِ ربما أخطأ»، وقال البخاري: «يعرف حفظه وينكر، وكتابه أصح»، وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ، هو لين في حفظه وكتابه أصح»، وقال ابن معين: «ثقة»، وقال أحمد: لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفًا فيه».

وهو

الكتاب

وللحديث مع هذا شواهد ستأتي بحول الله . وروى ابن أبي شيبة وابن مَرْدُويَه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلَّم: «أَكْثِرُوا الصَّلاةَ عليَّ يومَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا مَعْرُوضَةٌ عليَّ». ومنها: ما رواه عبد الرزاق عن مجاهد عن أبي طلحة قال دخلت على النبي

٣٢٦

مباحثات

صلى الله عليه وآله وسلَّم فوجدته مسرورًا فقلت: يا رسول الله ما أدري متى رأيتك أحسن بِشْرًا وأطيب نَفْسًا مِن اليوم؟ قال: «وما يَمْنَعُني وجبريلُ خَرَجَ من عندي الساعةَ فبَشَّرني أنَّ لكلّ عبد صلَّى على صلاةٌ يُكتب له بها عشر حسنات، ويُمحى عنه عشر سيئاتٍ، ويُرفَعُ له بها عشر درجاتٍ، وتُعرَضُ عليَّ كما قالها، ويُرَدُّ عليه بِمِثْلِ ما دَعَا». ومنها: ما رواه البيهقي في "حياة الأنبياء" من طريق أبي رافع، عن سعيد المقبري، عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَكْثِرُوا الصَّلاةَ عليَّ في يوم الجمعة فإنَّه ليس يُصَلِّي عليَّ أحدٌ يومَ الجمعةِ إِلَّا

عُرِضَتْ عليَّ صَلاتُهُ». حديث ضعيفٌ.

ومنها: ما رواه البيهقي أيضًا من طريق حماد بن سلمة، عن بُرد بن سنان، عن مكحول الشامي، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَكْثِرُوا عليَّ مِن الصَّلاةِ في كلَّ يومٍ جمعةٍ؛ فإِنَّ صلاة أُمَّتِي تُعْرَضُ عليَّ

في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم عليَّ صلاةً كان أقربهم مِنِّي مَنْزِلَةٌ». قال الحافظ المنذري : إسناده حسنُ إلَّا أنَّ مكحولا قيل: لم يسمع من أبي

أمامة» . اهـ

وللطبراني بإسناد ضعيف عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن صَلَّى عليَّ صَلَّى اللهُ عليه عَشْرًا، مَلَكٌ مُوكَّلْ بِها حَتَّى يُبَلِّغَنيها». ومنها: ما رواه محمد بن إسماعيل الوراق قال : حدثنا جُبارَةُ بن المُغَلّس: ثنا أبو إسحاق حازم، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَكْثِرُوا الصَّلاةَ عليَّ يومَ الجمعةِ فإِنَّ صلاتكم تُعْرَضُ عليَّ»

الرد المحكم

۳۲۷

قال ابن القيم: وهذا وإن كان ضعيفا يصلح للاستشهاد» . اهـ وللطبراني في "الأوسط" من حديث أنس أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن صَلَّى على صلاةٌ واحدةٌ بَلَغَتْني صَلاتُهُ وصَلَّيتُ عليه، وكُتِبَ له سوى ذلك عشر حسنات».

قال الحافظ الهيثمي : «فيه راو لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات». اهـ وقال الحافظ المنذري : إسناده لا بأس به وهذا يدل على أنه عرف الرجل الذي لم يعرفه الهيثمي.

ومنها: ما رواه أبو يعلى في "مسنده" من طريق عبدالله بن نافع: أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن قال: سمعتُ الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صَلُّوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا، ولا تتخذوا بيتي عِيدًا، صَلُّوا عليَّ وسَلَّموا فَإِنَّ صلاتكم وسلامَكُم يَبْلُغني أين ما كنتم».

وروى الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من طريق حميد بن أبي زينب، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن أبيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حيثما كنتم فصلُّوا عليَّ فإِنَّ صلاتكم تَبْلُغني». قال الحافظ الهيثمي: حميد بن أبي زينب لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح".اهـ

وعزاه الحافظ المنذري إلى الطبراني أيضًا وقال: «إسناده حسن». فلابد أنه عرف حميد بن أبي زينب. وقال ابن أبي شيبة في "المصنف": حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن

۳۲۸

مباحثات

عجلان، عن سهيل عن حسن بن حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». إسناده صحيح وهو مرسل في حكم الموصول كما لا يخفى (۱).

ومنها ما رواه أبو الشيخ والبزار والحارث بن أبي أسامة والطبراني وغيرهم من طريق نعيم بن ضَمْضَم ، عن ابن الحميري، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعالَى مَلَكًا أَعْطَاهُ أَسْمَاءَ الخَلائِقِ فهو قائمٌ على قَبْرِي إِذا مُتُ فليس أَحَدٌ يُصَلِّي علي إلا قال: يا محمد صَلَّى عليك فلان ابن فلان» قال: «فيُصَلِّي الرب تبارك وتعالى على ذلك الرَّجُلِ بِكُلِّ واحدةٍ عَشْرًا».

نعيم بن ضَمْضَم: قال المنذري : فيه خلاف» وقال الذهبي: «ضعفه

بعضهم»، قال الحافظ في "اللسان": «ما عرفت إلى الآن من ضعفه». وابن الحميري: اسمه ،عمران ليّنه البخاري وقال: «لا يُتابع على حديثه» وذكره ابن حبان في "الثقات".

وبقية رجال الحديث رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي. ومنها ما رواه النسائي وأحمد والدرامي والبيهقي وصححه الحاكم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ الله عزّ وجلَّ ملائكة سَبَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عن أُمَّتِي السَّلامَ».

(۱) لأنه محمول على أنه سمعه من أبيه الحسن بن علي عليهم السلام بدليل الرواية السابقة.

الرد المحكم

وروى ابن عدي من حديث ابن عباس مثله .

وتقدم حديث «حياتي خير لكم.... مع بيان صحته.

۳۲۹

ومنها ما رواه البيهقي في "حياة الأنبياء" وابن مَنْدَة في "فوائده" من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار أخي مالك بن دينار قالت: حدثني أبي عثمان بن دينار، عن أخيه مالك بن دينار، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن صَلَّى عليَّ مائةً في يومِ الجمعةِ وليلة الجمعةِ قَضَى الله له مائة حاجَةٍ، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين مِن حوائج الدُّنيا، ثُمَّ وَكَّلَ اللَّهُ بذلك مَلَكًا يُدْخِلُهُ عليَّ في قَبْرِي كما يُدْخِلُ عليكم الهدايا، إِنَّ عِلْمِي بعد مَوْتِي

كعِلْمِي في الحياة».

هذا لفظ ابن منده، وبهذا اللفظ رواه الأصبهاني في "الترغيب" أيضًا. ومنها: ما رواه أبو الشَّيخ ابن حَيَّان من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: مَن صَلَّى عليَّ عند قبري سَمِعْتُهُ، ومَن صَلَّى عليَّ مِن بعيدٍ أُعْلِمْتُهُ». إسناد جيدٌ كما قال الحافظ السخاوي.

ومنها: ما رواه الديلمي في "مسند الفردوس" قال: أنبأنا والدي: أنبأنا أبو الفضل الكرابيسي: أنبأنا أبو العباس بن تركان حدثنا موسى بن سعيد: حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان: حدثني محمد بن عبد الله بن صالح المروزي: ثنا بكر بن خداش ، عن فِطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَكْثِرُوا الصَّلاةَ عليَّ فَإِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بي مَلَكًا عند قَبْرِي فإذا صَلَّى عليَّ رَجُلٌ مِن أُمَّتِي قال لي ذلك المَلَكُ:

۳۳۰

مباحثات

يا محمد إِنَّ فلان ابن فلانٍ صَلَّى عليك». ومنها: ما رواه ابن بَشْكُوال بإسناد ضعيف كما قال الحافظ السخاوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم «أَكْثِرُوا الصَّلاةَ عليَّ في الليلةِ الزَّهْراءِ واليومِ الْأَغَرُ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ فأدعوا لكم وأسْتَغْفِرُ».

ومنها: ما رواه القاضي أبو عبدالله الحصين بن إسماعيل المحاملي قال : ثنا أبو حاتم الرازي: ثنا ابن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر: حدثني حميد بن أبي جعفر، عن الحسن بن علي عليهما السلام، عن أبيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حيثما كنتم فصلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تَبْلُغُني

وروى القاضي إسماعيل في فضل الصلاة ، عن علي عليه السَّلام قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «صَلُّوا عليَّ وسَلَّموا حيثما كنتم فسَيَبْلُغُني سلامُكُم وصَلاتُكم».

ومنها ما رواه ابن راهويه والحرفي وابن بشران والبيهقي عن ابن عباس قال: ليس أحدٌ مِن أُمَّة محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُصَلِّي عليه صلاةٌ إِلَّا وهي تبلغه يقول له الملك: فلانٌ يُصَلِّي عليك كذا وكذا صلاة.

إسناده صحيح وهو موقوف له حكم الرفع.

ومنها ما رواه ابن عبدالبر بسندٍ فيه ابن لهيعة، عن عبدالرحمن بن وردان التابعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «والذي نَفْسِي بِيَدِهِ ما مِنكُم مِن أَحَدٍ يُسَلَّمُ عليَّ إذا أنا مُتُ إِلَّا جاء جبريل فيقول: يا محمد هذا فلان ابن فلان، فيُرفَعُ له في النَّسَبِ حتَّى أعرفه فأقولُ: نَعَمْ. فيقول: هو يَقْرَأُ عليك

الرد المحكم

۳۳۱

السلام ورحمة الله وبركاته. فأقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته». ومنها: ما رواه إسماعيل القاضي قال: حدثنا سليمان بن حرب: ثنا جرير بن حازم قال: سمعتُ الحسن - هو البصري - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تَأْكُلُ الأَرضُ جَسَدَ مَن كَلَّمَهُ رُوحُ القُدُسِ». هذا مرسل صحيح الأسناد.

وروى الزبير بن بكار والبيهقي عن أبي العالية قال: إنَّ لحوم الأنبياء لا تبليها الأرضُ ولا تأكلها السباع.

وروى القاضي إسماعيل عن إبراهيم بن الحجاج: ثنا وهيب، عن أيوب قال: بلغني - والله أعلم - أنَّ مَلَكًا مُوكَّل بكلِّ مَن صَلَّى على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حَتَّى يُبلِّغَهُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وقال أيضا: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار: ثنا هشيم: ثنا حصين بن عبدالرحمن، عن يزيد الرقاشي قال : إِنَّ مَلَكًا مُوكَّلْ يومَ الجمعةِ بِمَن صَلَّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يُبَلِّغُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، يقول: إِنَّ فلانًا مِن أُمَّتِكَ يُصَلِّي عليك.

ورواه سعيد بن منصور في "سننه" وبقي بن مخلد، ومن طريقه ابن بشكوال، لكن بدون ذكر يوم الجمعة.

وقال الدارمي في "سننه" : أنبأنا مروان بن محمد، عن سعيد بن عبدالعزيز قال: لما كان أيام الحرَّة لم يُؤَذِّن في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ثلاثا ولم يقم ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلَّا بهمهَمَةٍ يَسْمَعُها من قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.

۳۳۲

مباحثات

وروى أبو نعيم في "الدلائل" من طريق لوين قال: حدثنا عبدالحميد بن سليمان، عن أبي حازم، عن سعيد بن المسيب قال : لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم غيري، وما يأتي وقتُ الصَّلاةِ إِلَّا سمعتُ الأذان مِن القبر، ثُمَّ أتقدَّمُ فَأُقِيمُ وأُصَلِّي، وإِنَّ أهلَ الشامِ ليدخلون

المسجد زُمَرًا فيقولون انظروا إلى الشيخ المجنون.

وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" عن سعيد أيضا: أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة والناس يقتتلون، قال : فكنتُ إذا حانت الصَّلاةُ أسمع أذانا يخرج من قبل القبر الشريف. وروى الزبير بن بكار في "أخبار المدينة" عنه أيضًا قال: لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أيام الحرة حتَّى عادَ

النَّاسُ. وقال إبراهيم بن بشار: حَجَجْتُ سنةً من السنين فجئتُ المدينة فتقدَّمتُ إلى قبر رسول الله عليه وآله وسلم فَسَلَّمتُ عليه فسمعتُ مِن داخل الحجرة وعليك السلام. نقله التقيُّ السبكي في "شفاء السقام".

وروينا من طرق عن العلامة الإمام الشيخ محمد بن عبدالرحمن الخطاب شارح "مختصر خليل" قال: مشينا مع شيخنا العارف بالله الشيخ عبدالمعطي التونسي لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلما قربنا من الروضة الشريفة ترجلْنا ومعنا الشيخ، فجعل رحمه الله تعالى يمشي ويقف حتى وصلنا إلى الروضة الشريفة، فجعل الشيخ - نفعنا الله به- يتكلم وهو مواجه لقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرفنا من الزيارة سألناه فقال: كنتُ أطلب

الرد المحكم

۳۳۳

من النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم القدوم عليه فإذا قال لي: «أقدم يا عبد المعطي قَدِمْتُ وإلَّا انتظرتُ قال: فلما وصلت إلى الروضة قلت: يا رسول الله أكل ما في البخاري عنك صحيح؟ فقال: «صحيح». قلت: أرويه عنك يا رسول الله؟ قال: «اروه عنِّي». قلت: أروي هذه الحكاية في ثبت العلامة الشيخ يوسف الحسيني الحلبي المسمى "كفاية الراوي والسامع" وفي غيره من الأثبات، وهي صحيحة مروية من طريق الحطّاب أحد أئمة المالكية عن شيخه أحد كبار الأولياء.

وقد ثبت عن جماعة من الكبار كأبي العباس المرسي وغيره أنهم كانوا إذا سلموا على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم سمعوا رَدَّ سلامه، وقد ذكرتُ طَرَفًا مِن ذلك في كتاب "الحُجَجِ البينات في إثبات الكرامات"، وهو مختصر

مفيد.

وقال ابن أبي الدُّنيا : حدثني سويد بن سعيد: حدثني ابن أبي الرجال، عن سليمان بن سُحَيمٍ قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك فيُسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: «نعم وأرد عليهم». قلت: هذه رؤيا حقٌّ مؤيَّدة بحديث أبي هريرة في رد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم سلام مَن يُسَلَّم عليه.

وبما رواه أبو يعلى عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: والذي نَفْسُ أبي القاسِمِ بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ عيسى ابن مريمَ إمامًا مُقْسِطًا، وحَكَما عَدْلًا، فليَكْسِرَنَّ الصَّليب، وليَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ، وليُصْلِحَنَّ ذَاتَ

٣٣٤

مباحثات

البَيْنِ، وليُذْهِبَنَّ الشَّحْناءَ، وليَعْرِضَنَّ المَالَ فلا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ لَئِن قَامَ على قَبْرِي

فقال: يا محمد لأُجِيبَنَّهُ».

قال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح».

وبما رواه الحاكم عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اليَهْبِطَنَّ ابن مريمَ حَكَما عَادِلا وإمامًا مُقْسِطًا، وليَسْلُكَنَّ فَجَّا حاجًا أو مُعْتَمِرًا، وليأتينَّ قَبْري حتَّى يُسَلَّمَ عليَّ ولأرُ دَنَّ عليه».

صححه الحاكم وسلَّمه الذهبي.

ويؤخذ من هذا الحديث أيضًا طلب زيارة القبر الشريف والرحلة إليه للسلام على ساكنه عليه صلوات الله وتسليماته، وقد قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ما نصه: وكان عمر بن عبدالعزيز يبعث بالرسول قاصدًا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم السلام ثُمَّ يرجع . اهـ

وذكره ابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن" كما ذكره غيره، وهو مروي عن عمر بن عبدالعزيز من طرق كثيرة، فهو مُسْتَفِيضُ عنه كما قال التقي

السبكي.

ثابتة

والمقصود أن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم أنَّ مقطوع بها لا يُنازع فيها مَن فِي قَلْبِهِ ذَرَّةً إيمان. أما الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِن أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَليَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ إِلَى

الرد المحكم

٣٣٥

رُوحِي حتَّى أرد عليه السلام». وظاهره يفيد مفارقة الروح لبدنه الشريف في بعض الأوقات، فأجاب عنه العلماء بعدة أجوبة أوصلها الحافظ السيوطي في كتاب "إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء" إلى خمسة عشر جوابًا.

منها: وهو جواب البيهقي في "حياة الأنبياء" أنَّ جملة: «رَدَّ اللهُ» حالية ماضوية مُقَدَّرٌ فيها «قد» كقوله تعالى: أَوْ جَاءُ وَكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ [النساء: ٩٠] أي قد حصرت، وحتّى» حرف عطف لا للتعليل والمعنى: «ما من أحد يُسَلَّمُ عليَّ إِلَّا قد رَدَّ اللهُ روحي قبل ذلك فأرد عليه».

ومنها: وهو للتقيِّ السُّبكي في "شفاء السقام"، وهو أن يكون رَدَّ الرُّوح ردا معنويا، وذلك أنَّ روحه الشريفة مُشتغِلَةٌ بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى من هذا العالم، فإذا سُلَّمَ عليه أقبلت رُوحُهُ الشريفة وردَّت السلام، فعبر عن هذا الإقبال بالرد.

ومنها: أنَّ هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائما لثبوت رَدَّ السلام دائما، فوصف الحياة لازمٌ لرَدّ السلام واللازم يجب وجوده عند ملزومه أو ملزوم

ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائما؛ لأن ملزوم ملزومه ثابت دائما.

قال القسطلاني: وهذا مِن نَفَثَاتِ سِحْرِ البيان في إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة وأجمل فنون البراعة التي هي قطرةٌ مِن بحار بلاغته العُظْمَى». اهـ وبيان اللوازم المذكورة في هذا الجواب أنَّ سلام أفراد الأمة على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ملزومٌ لرَدَّ سلامه عليهم، ورَدُّ السلام ملزوم

لوصف الحياة.

٣٣٦

مباحثات

وأشار إلى هذا المعنى الحافظ السخاوي في "القول البديع"، فإنه ذَكَرَ جملةً مِن الأحاديث في رد السلام وقال: يؤخذ منها حياته على الدوام؛ إذ من المحال أن يخلو الوجود مِن مُسْلِمٍ يُسَلَّمُ عليه في ساعة من ليل أو نهار، ونحن نؤمن ونُصَدِّق بأنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حيٍّ يُرزَق في قبره، وأن جسده الشريف لا تأكله الأرضُ، والإجماع على هذا» . اهـ

وقد أطلت هذا البحث بعض الإطالة؛ لأن كثيرًا مِن الوهابيين الجهلة يُنكرون حياة الأنبياء في قبورهم، ويقولون إنهم كغيرهم من الناس يَبْلُون وهذا جهل وضلالق عافانا الله منه بجاه نبيه.

(تنبيه): زَعَمَ المتنطع أنَّ البخاري ضعف إسناد حديث: «إِنَّ اللهَ حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء». وهذا كذب على البخاري، فليتنبه له، والله

أعلم. ثُمَّ قال المتنطع : وقد اشتهر بين الناس أنَّ الأولياء والعلماء والمؤذنين لا تبلى أجسادهم، وليس لهذا مستند صحيح . اهـ

وأقول: تقدَّم فيما نقلته عن أخي السيد أحمد أنه ورد من ثلاثة طرق أنَّ:

المؤذِّنَ المُحْتَسِبَ كالشَّهِيدِ المُتشَحْطِ في دَمِهِ، وإذا ماتَ لم يُدَوَّدْ فِي قَبْرِهِ». وورد من ثلاثة طرق أيضًا أنَّ حامِلَ القرآنِ العامِلَ به لا تأكُلُ الأَرضُ لَحْمَهُ». وأخرج المروزي عن قتادة قال: بلغني أنَّ الأرضَ لا تُسَلَّطُ على جسد

الذي لم يعمل خطيئة.

وقال

الحافظ السهيلي في الكلام على قصة عبدالله بن الثامر التي فيها أنه

وجد على عهد عمر بن الخطاب في خربة من خرب نجران قاعدًا واضعا يده

۳۳۷

الرد المحكم

على ضربة في رأسه فإذا أخرت يده عنها تنبعث دما وإذا أرسلت يده ردّها عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله، وأنَّ عمر أبلغ ذلك فكتب أن يقر على حاله ويرد عليه الدفن كما كان، ما نصه: (وذكر -يعني ابن إسحاق في السيرة - مَن وَجَدَ أن عبدالله التامر في خربة من خرب نجران أنَّ يُصَدِّقه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَنَا بَلْ أَحْيَاهُ ﴾ [آل عمران: ١٦٩] الآية.

وما وجد في صدر هذه الأُمَّة من شهداء أحد وغيرهم على هذه الصورة لم يتغيَّروا بعد الدهور الطويلة كحمزة بن عبد المطلب رضي | الله عنه، فإنه وجد

حين حفر معاوية العين صحيحًا لم يتغيَّر وأصابت الفأس أصبعه فدميت. وكذلك أبو جابر عبدالله بن حرام، وعمرو بن الجموح، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم استخرجته بنته عائشة من قبره حين رأته في المنام يأمرها أن تنقله من موضعه فاستخرجته بعد ثلاثين سنة لم يتغيَّر، ذكره ابن قتيبة في "المعارف" والأخبار بذلك صحيحة.

وقد قال عليه السلام: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» أخرجه سليمان بن الأشعث.

وذكر أبو جعفر الدوادي هذا الحديث بزيادة: «الشُّهداء والعلماء والمؤذنين»

وهي زيادة غريبة لم تقع لي في مُسنَدٍ، غير أنَّ الدوادي مِن أهل الثقة والعلم. وفي "المسند" من طريق أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الأنبياء أحياء يُصَلُّون في قبورهم». انفرد به ثابت البناني عن

أنسي.

۳۳۸

مباحثات

وقد رُوي أنَّ ثابتا التمس في قبره بعدما دُفن فلم يوجد، فذكر ذلك لبنته فقالت: كان يُصَلِّي فلم تروه؛ لأني كنت أسمعه إذا تهجد بالليل يقول: اللهم اجلعني ممن يُصَلِّي في قبره بعد الموت.

وفي الصحيح أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَرَرْتُ بموسى عليه السلام وهو يُصَلِّي في قَبْرِهِ». اهـ

وقال الحافظ ابن رجب في كتاب أهوال القبور" ما نصه: «وأمَّا مَن شوهد بدنه طريًّا صحيحًا، وأكفانه عليه صحيحة بعد تطاول المدة من غير

الأنبياء عليهم السلام فكثير جدًّا، ونحن نذكر من أعيانهم جماعة:

قال عمر بن شيبة حدثني محمد بن يحيى : حدثنا هشام، عن عبدالله بن عكرمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما سقط جدار بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمر بن عبدالعزيز على المدينة انكشفت قدم من القبور التي في البيت فأصابها شيء فدميت، ففَزِعَ من ذلك ابن عبدالعزيز فَزَعا شديدًا فدخل عروة البيت فإذا القدم قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لعمر:

لا ترع هي قدم عمر بن الخطاب، فأمر بالجدار فبني ورد على حاله. وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا عبد الأعلى بن حماد: ثنا عبد الجبار بن الورد: سمعت أبا الزبير يقول : سمعت جابر بن عبد الله يقول: كتب معاوية إلى عامله أن يجري عَيْنا إلى أحدٍ، فكتب إليه عامله : أنها لا تجري إلا على قبور الشهداء. فكتب إليه: أن أنفذها. قال: سمعت جابرًا يقول: فرأيتهم يخرجون على رقاب الرجال كأنهم رجال نوم حتى أصابت المسحاة قدم حمزة فانبعثت دما.

الرد المحكم وروى مالك

۳۳۹

عن عبدالرحمن بن أبي صَعْصَعَةَ: أنه بلغه عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاري كانا في قبر واحد، وهما ممن استُشْهِدَ يوم أُحدٍ فحفِرَ عليهما ليُغَيَّرا من مكانها، فوجد الميتغيّرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد خرج فوضع يده على جرحه فدفن وهو هكذا فأشيلت يده عن جرحه ثُمَّ أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أُحدٍ وبين ما حفر عليهما است وأربعون سنة.

وقال ابن أبي الدنيا: ثنا أحمد بن عاصم: ثنا سعيد بن عامر، عن المثنى بن سعيد قال : لما قدمت عائشة بنت طلحة البصرة أتاها رجل فقال إني رأيتُ طلحة بن عبيد الله في المنام فقال: قُل لعائشة تُحوّلني مِن هذا المكان فإنَّ النَّزَّ - أي رشح الماء آذاني فركبت في مواليها وحشمها فضربوا عليها واستثاروه فلم يتغيَّر منه إلَّا شعرات في إحدى شقّي لحيته، أو قال رأسه، حتَّى حُوّل إلى موضعه وكان بينهما بضع وثمانون سنة.

وبإسناده عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن أبيه أنه قال: رأيت طلحة لما حول من مكانه، فرأيت الكافور في عينية ولم يتغيَّر منه شيءٌ إِلَّا عَقِيصَتُهُ مالت عن مكانها.

وقال في كتاب "الأولياء" كتب إلي أبو عبد الله محمد بن خلف بن صالح التيمي: أنَّ إسحاق ابن أبي نباته مكث ستين سنة يُؤذِّن لقومه في مسجد بني عمرو بن سعد - يعني بالكوفة - وكان يُعلَّم الغلمان في الكتاب ولا يأخذ الأجر، ومات قبل أن يحفر الخندق بثلاثين سنة، فلما حفر الخندق وكان بين

٣٤٠

مباحثات

المقابر ذهب بعض أصحابه يستخرجه ووقع قبره في الخندق، فاستخرجوه كما دفن لم يتغيَّر منه . . شيءٌ إِلَّا أَنَّ الكفن قد جفَّ عليه ويبس، والحنوط محطوط

عليه، وكان خضيبًا فرأوا وجهه مكشوفا وقد ظهر الحناء في أطراف الشعر. فمضى المسيب بن زهير إلى أبي جعفر المنصور وهو على شاطئ الفرات فأخبره، فركب أبو جعفر في الليل حتى رآه فأمر به فدفن بالليل لئلا يفتتن

الناس. وفي "الترمذي" في سياق حديث صهيب المرفوع في قصة أصحاب الأخدود أنَّ ذلك الغلام الذي قتله الملك وآمن الناس كلهم وقالوا: آمنا برب

الغلام. وجد في زمان عمر بن الخطاب ويده على جرحه كهيئته حين مات. وقد ذكر محمد بن القرظي وزيد بن أسلم وغيرهما قصة عبدالله بن التامر وهو رأس أصحاب الأخذود وقصته شبيهة بقصة الغلام المخرجة في "الترمذي"، وأنه وُجِدَ في زمان عمر رضي الله عنه بنجران ويده على جرحه، وأن جرحه يدمي. وكذا ذكره ابن إسحاق عن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن

حزم

وذكر ابن أبي الدُّنيا في كتاب "القبور" قصة دانيال لما وجده أبو موسى

بالسوس، وأخبارًا كثيرة من أخبار المتقدمين في هذا المعنى.

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي أنَّ الشريف أبا جعفر بن أبي موسى لما دفن بجانب قبر الإمام أحمد بعد موت أحمد بمائتي سنة، رئي كفن الإمام أحمد وهو

يتقعقع.

الرد المحكم

٣٤١

قال: ولما كشف قبر البَربهاري فاحت ببغداد رائحة طيبة ملأت المدينة. قال: وحدثنا محمد بن منصور بن يوسف حدثني أبي قال: كنت في جملة من كشف ابن سمعون لما نقل من بيته إلى مقبرة الإمام أحمد بعد أربعين سنة وكَفَنَّهُ يَتَقَعْقَعُ .اهـ

وقصة نقل طلحة بن عبيد الله أسندها ابن عبدالبر في "الاستيعاب" من طرق، وقال الحافظ العراقي في طرح التثريب" في الكلام على حديث أبي هريرة: كلُّ ابن آدمَ يَأكُلُهُ التُّرابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ» ما نصه: «الرابعة: كون ابن

آدم يأكله التراب عام مخصوص ؛ فإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تبلى أجسامهم الكريمة، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكل أجساد الأنبياء».

واستثنى ابن عبدالبر معهم الشهداء، وحسبك ما جاء في شهداء أُحُدٍ

وغيرهم.

ثُمَّ ذكر حديث جابر لما نقل أباه في خلافة معاوية حين أراد إجراء العين التي في أسفل أُحدٍ وقوله: «وأخرجناهم رطابا يتثنون فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فتقطَّر الدَّمُ، واقتصر القاضي عياض على قوله: «وكثير من الشهداء» فدل على أنه يرى أنَّ بعض الشهداء قد تأكل الأرض جسده، ولعله أشار ذلك إلى المبطون ونحوه من الملحقين بالشهداء، وضم أبو العباس القرطبي إلى الصنفين المؤذن المحتسب؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «المؤذِّنُ المُحْتَسِبُ كالمُتَشَحْطِ في دَمِهِ، وإذا ماتَ لم يُدَوَّدْ فِي قَبْرِهِ». قال: «وظاهر هذا أنَّ

٣٤٢

مباحثات

الأرض لا تأكل أجساد المؤذنين المحتسبين» . اهـ وقال الحافظ في "الفتح" في الكلام على حديث: «كل ابن آدم يأكُلُهُ التُرابُ» ما نصه: «قال العلماء: هذا عام يُخص منه الأنبياء؛ لأنَّ الأرض لا تأكل أجسادهم، وألحق ابن عبد البرِّ بهم الشهداء، والقرطبي المؤذن المحتسب، قال عياض: فتأويل الخبر وهو: كلُّ ابن آدمَ يأكلُهُ التُّرابُ» أي: كلُّ ابن آدم مما

يأكله التراب، وإن كان التراب لا يأكل أجسادًا كثيرةً كالأنبياء» . اهـ وقال الحافظ السخاوي في "القول البديع " ما نصه: «السادسة: يؤخذ من هذه الأحاديث أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حَيٌّ على الدوام، وذلك أنه محال عادة أن يخلو الوجود كلُّه من واحدٍ يُسَلّم عليه في ليل ونهار، ونحن نؤمن ونُصَدِّق بأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حيٌ يُرزَق في قبره، وأن جسده الشريف لا تأكله الأرض، والإجماع على هذا، وزاد بعض العلماء: الشُّهداء والمؤذنين، وقد صح أنه كشف عن غير واحدٍ من العلماء والشهداء فوجدوا لم تتغيَّر أجسامهم، والأنبياء أفضل من الشُّهداء جَزْمًا» . اهـ وذكر الحافظ السيوطي في "شرح الصدور " جملة آثارٍ في هذا المعنى مَعْزُوَّةً لابن أبي الدنيا وغيره.

وذكر العلامة الشيخ أحمد بابا في ترجمة الولي الكبير سيدي محمد بن سليمان الجزولي صاحب "دلائل الخيرات" أنه نُقِلَ مِن قبره بعد موته بسبع وسبعين سنة فوجد كهيئته يوم دفن لم يتغيَّر منه شيء. وذكر النسابة الفضيلي في "الدرر البهية" أنَّ الشريف الصالح الزاهد سيدي عبدالملك بن محمد بن طاهر بن الحسن بن الحفيد الإدريسي مرَّ على قبره

الرد المحكم

٣٤٣

فرس فزلت رجله فانكشف القبرُ عنه فوجد كأنه دفن الآن لم يتغيَّر من جسده شيء، وذلك بعد دفنه بأكثر من أربعين سنة، وحضر لذلك جماعة من الشرفاء والعلماء، منهم الفقيه العلامة القاضي السيد الصادق بن هاشم وشاهدوه» . اهـ ونقل العلامة الوليُّ الكبير السيد محمد بن جعفر الكتاني الحسني بعد دفنه بأربعة أشهر فوجد على حاله لم يتغيَّر منه شيء.

(۱) ليلة

والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا يعسر استقصاؤها بل يتعذر. و تما شاهدته بنفسي أنَّ والدتي رحمها الله رضي عنها توفيت بجمع ) السابع والعشرين من رمضان سنة (١٣٤١) ودفنت بزاويتنا الصديقيَّة التي أنشأها مولانا الإمام الوالد رضي الله عنه بطنجة، ثُمَّ في اليوم السادس من شوال سنة ١٣٥٤ اختار الله والدي لجواره فدفن في الزواية في مكانٍ أوصى أن يُدفن فيه، ورأينا أن ننقل الوالدة إلى جانبه حيث يكون عليهما ضريح واحد فوجدناها كهيئتها لم يتغيَّر منها شيء، شاهدت ذلك بنفسي حين نزلت إلى قبرها، وشاهدت الأخوان الذين قاموا بنقلها في تابوت عُمِل لذلك، وكانوا أكثر من عشرين، فتعجبنا وازددنا يقينًا.

وقد كانت والدتي من الصالحات العابدات، وكانت منقطعة النظير في الكرم

وحسن الخلق، ولها فراسةٌ حادة وأخلاق حميدةٌ جَمةٌ.

وهي حفيدة الولي الشهير والعارف الكبير سيدي أحمد بن عجيبة الحسني

(1) المرأة تموت بجمع هي التي تموتُ بالنفاس وولدها في بطنها، وهي من الشهداء كما

في الحديث.

٣٤٤

مباحثات

صاحب "شرح الحكم" وغيره من المؤلفات، وقد نقل هو أيضًا بعد موته بنحو عشرين سنة لنر - أي رشح ماء كان في قبره فوجد كهيئته، إلَّا أن شق وجهه الذي يلي الأرض أصابه اخضرار من أثر النز.

و بما ذكرناه علم بطلان ما زعمه المتنطع وبالله التوفيق.

قراءة القرآن للموتى

ثُمَّ قال المتنطع: ومما ينبغي علمه هنا أنَّ قراءة القرآن لا تصل الميت ولا تنفعه؛ لإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين لهم على ترك ذلك، ولأنَّ اللهَ ذَكَرَ في القرآن أنَّ حِكْمَة إنزاله إنذار وتبشير للأحياء كما قال تعالى : لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا [يس: ۷۰] بعد قوله: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْهَانُ مبين [يس: ٦٩] وقوله : كِتَبُ أَنزَلْتَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكَ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَتِهِ ﴾ [ ص: ٢٩] الآية، وغير ذلك. وجميع ما ورد من الأحاديث في قراءة القرآن على الموتى في

سورة (يس) وسورة (قل هو الله أحد) باطل فاجتنبه». اهـ وأقول: اشتمل كلامه على خطأ في الدعوى، وغلط في الاستدلال، وكذب

في النقل.

فدعواه أن قراءة القرآن لا تصل الميت ولا تنفعه خطأ، واستدلاله بالآيات المذكورة غلط، ونقله إجماع الصحابة والتابعين على ترك القراءة على الميت كذب، وكذلك دعواه بطلان الأحاديث الواردة في قراءة (يس) و(قل هو الله أحد).

:

وبيان ذلك بتفصيل وإيضاح أن قراءة القرآن على الموتى وإهداء ثوابها إليهم مسألة اختلف فيها العلماء، وقد تكلّم عليها ابن القيم في كتاب "الروح"

الرد المحكم

٣٤٥

فأجاد، كما تكلّم عليها ابن الصلاح والحافظ وغيرهم، ونحن نلخص ما قالوه حتى يظهر الحق واضحًا لا غبار عليه.

فنقول: مشهور مذهب مالك والشافعي أن قراءة القرآن لا تصل الميت، ومذهب أحمد وأكثر المتقدمين أنها تصل، وهو الذي رَبَّحُهُ مُتأخّروا المالكية

وغيرهم. قال النووي في "الأذكار" بعد حكاية الإجماع على أنَّ الدعاء يصل الميت وينفعه ثوابه ما نصه: واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يصل، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعةٌ من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، فالاختيار أن

يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان» . اهـ وقال ابن القيم: واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، نصَّ على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة وصدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو. وقال: الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها. وقال أيضًا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، و(قل هو الله أحد) وقل: اللهم إنَّ فضله لأهل المقابر.

والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل، وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لا دعاء ولا

غيره . اهـ

٣٤٦

مباحثات

وقال الحافظ في الجواب الكافي عن السؤال الخافي" ما نصه: «وأما الحادي عشر وهو هل يصل ثواب القراءة للميت؟ فهي . مسألة مشهورة، وقد كتبت فيها كراسة، والحاصل أنَّ أكثر المتقدمين من العلماء على الوصول، وأنَّ

المختار الوقف عن الجزم على المسألة مع استحباب عمله والإكثار منه». اهـ وأفتى ابن رشد - من أئمة المالكية - أنَّ الميت ينتفع بقراءة القرآن ويصل إليه نفعه ويحصل له أجره إذا نوى القارئ عند القراءة هبة ثواب قراءته له» . اهـ واعتمده غير واحد من المتأخرين، قال ابن هلال المالكي في "نوازله": و به جرى عمل الناس شرقا وغربا، ووقفوا على ذلك أوقافًا، واستمر عليه الأمر أزمنة سالفة» . اهـ قال القرطبي : وقد كان الشيخ عز الدين بن عبدالسلام يفتي بأنه لا يصل الميت ثواب ما يُقرأ له، فلما تُوفّي رآه بعض أصحابه فقال له: إنك كنت تقول : لا يصل إلى الميت ثواب ما يُقرأ ويُهدَى إليه، فكيف الأمر؟ قال له: كنت أقول ذلك في دار الدنيا والآن فقد رجعت عنه لما رأيتُ مِن كرم الله وأنه يصل إليه ثواب ذلك» . اهـ

وهكذا قال غير واحدٍ من العلماء إن قراءة القرآن تصل إلى الميت، وهو القول الصحيح الذي لا يجوز العدول عنه؛ لأنه ثبت في "الصحيحين" عن عائشة أنَّ رجلا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إِنَّ أُمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت

عنها؟ قال: «نعم».

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أنَّ رجلا قال: يا رسول الله، إنَّ أبي

الرد المحكم

٣٤٧

مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفي عنه أن أتصدق عنه؟ قال: «نعم». وفي السنن و"مسند أحمد" عن سعد بن عبادة أنه قال: يا رسول الله إنَّ أُمَّ سعد ماتت، فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: «الماء». فحفر بئرا وقال: هذه لأُمّ

سعد.

وفي "الصحيحين" عن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وَلِيُّهُ».

وفي "الصحيحين عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه

عنها؟ قال: «نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّه أَحَقُّ أَن يُقْضَى».

وفي "صحيح مسلم عن بريدة قال : بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أُمِّي بجارية، وإنها ماتت؟ فقال: وَجَبَ أَجْرُكِ ورَدَّها عليك الميراثُ» قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال: «صومي عنها». قالت: إنها لم تحج قط أفأحُتُ عنها؟ قال: «حُجي عنها».

وفي "صحيح البخاري عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقالت: إنَّ أُمِّي نذرت أن تحج فلم تحجَّ حَتَّى ماتت أفأحُجُ عنها؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عنها، أرأيت لو كان على أُمَّكِ دين كنت قاضية؟ اقضُوا الله، فالله أحَقُّ بالوفاء».

وفي هذا الحديث مشروعية القياس كما قال الحافظ وغيره.

وفي السنن وصحيح ابن خزيمة" عن أبي رزين - بفتح الراء- العقيلي -

٣٤٨

مباحثات

بالتصغير - أنه قال: يا رسول الله ، إنَّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة.

قال: «حُجَّ عن أبيك واعْتَمِرُ».

وبقيت أحاديث أخرى تركتها اختصارًا.

فإذا ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها وصول الصدقة والصيام والحج والعمرة إلى الميت ثبت جزمًا وصول قراءة القرآن إليه؛ لأنَّ كلَّا مِن قراءة القرآن والصدقة والصوم والحج والعمرة عبادة، فإذا ثبت وصول بعضها إلى الميت لزم وصول بعضها الآخر إليه، والتفريق تحكُم لا دليل عليه، وهذا من القياس الواضح الجلي.

بل في ورود النص بوصول الحج إلى الميت نص ضمني بوصول القراءة إليه؛ لأن الحج يشتمل على عبادات كثير منها قراءة القرآن وهذا واضح جدًّا. وقال ابن القيم بعد أن أطال في بيان وصول الأعمال المهداة إلى الميت وأفاض في الاستدلال لذلك، ما نصه: «وأمَّا قراءة القرآن وإهداؤها له تَطَوُّعًا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج. فإن قيل : فهذا لم يكن معروفًا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام، فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه. فالجواب: أنَّ مُورد هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال ؟ وهل هذا إلا تفريق بين

الرد المحكم

٣٤٩

المتماثلات؟، وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.

وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنه لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم، ثُمَّ يقال لهذا القائل: ولو كلفت أن تنقل عن واحدٍ من السلف أنه قال: اللهم ثواب هذا الصوم لفلان. لعجزت فإنَّ القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر، فلم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها

إلى أمواتهم. فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة. قيل: هو صلى الله عليه وآله وسلّم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميّته فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك. وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرَّد نيَّة وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر، والقائل: إنَّ أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا عِلْمَ له به، فإِنَّ هذ الشهادة على نفي ما لم يعلمه، فما يدريه أنَّ السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه، بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم

.

ومقاصدهم، لاسيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم.

٣٥٠

مباحثات

وسر المسألة أنَّ الثواب مِلكُ للعامل فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه، فما الذي خَصَّ مِن هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه، وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار

والأمصار من غير نكير من العلماء» . اهـ كلامه وهو جيد مفيد.

إِلَّا أَنَّ

قوله: «ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعل الناس

اليوم. ليس بصحيح، بل ثبت عنهم ذلك ونقله ابن القيم نفسه في أول كتاب

" الروح" ثُمَّ ذَهَلَ عنه هنا.

حجر

وأنا أذكر ما ورد في ذلك:

عن

قال الطبراني في "معجمه": حدثنا الحسين بن إسحاق التُسْتَريُّ: ثنا علي بن (۱): ثنا مُبشِّر بن إسماعيل: حدثني عبدالرحمن بن العلاء بن اللَّجَلاجِ عبر أبيه قال: قال أبي اللَّجَلاجُ أبو خالد: يا بني إذا أنا مُتُ فالحدني فإذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله وعلى مِلَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ثُمَّ شَنَّ على التراب شَنا، ثُمَّ اقرأ عند رأسي بفاتحة (البقرة) وخاتمتها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك.

ورجال السند موثقون كما قال الحافظ الهيثمي .

(۱) وقع هذا السند" في نصب الراية" المطبوع على نفقة المجلس العلمي بالهند هكذا: ثنا علي بن بحر : ثنا علي بن بشر بن إسماعيل، وكتب مصححه البجنوري يقول في نسخة الدار «ثنا بشر بن إسماعيل».

قلت: كل ذلك خطأ والصواب ما ذكرته هنا، وقد وقع في "نصب الراية" أغلاط رغم اعتناء المجلس العلمي بطبعه وتصحيحه.

الرد المحكم

٣٥١

وروى الطبراني والبيهقي في "الشعب" عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا ماتَ أَحَدُكم فلا تَحْبِسُوهُ وأَسْرِعُوا بِهِ إلى قَبْرِهِ، وليُقْرَأْ عند رَأْسِهِ فَاتِحَةِ الكِتابِ».

ولفظ البيهقي: «فاتحة (البقرة)، وعند رِجْلَيْهِ بخاتمة (سورة البقرة) في قبره». وقال البيهقي أيضًا : حدثنا أبو عبد الله الحافظ : ثنا أبو العباس بن يعقوب: ثنا

العباس بن محمد قال: سألت يحيى بن معين عن القراءة عند القبر فقال: حدثني مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه: قال لبنيه: إذا أنا متُ فضعوني في قبري وقولوا: بسم الله وعلى سُنَّة رسول الله. وسنوا على التراب سَنَّا ثُمَّ اقرأوا عند رأسي أول (سورة البقرة) وخاتمتها فإني رأيت ابن عمر يستحب ذلك.

قال الحافظ في "أمالي الأذكار"، هذا موقوف حسن.

قلت: العلاء بن اللجلاج تابعي وأبوه اللجلاج صحابي.

وليس بين هذه الرواية ورواية اللجلاج تناقض كما قد يتوهم؛ لأن اللجلاج روى ما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما رواه ابن عمر، والعلاء روى ما سمع ابن عمر يوصي به، وإنما نبهت على هذا مع وضوحه لئلا يدعي جاهل متنطع ضعف الحديث واضطرابه. وفي كتاب "الروح" لابن القيم ما نصه: (وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدَّفْنِ، قال عبدالحق يروى أنَّ عبدالله بن عمر أمر أن يُقرأ عند قبره سورة (البقرة) ، ومن رأى ذلك عبد الرحمن بن العلاء

وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولا حيث لم يبلغه فيه أثر، ثُمَّ رجع عن ذلك.

٣٥٢

مباحثات

وقال الخلال في الجامع " : كتاب القراءة عند القبور: أخبرنا العباس بن محمد الدوري: ثنا يحيى بن معين: ثنا مبشر الحلبي: حدثني عبدالرحمن بن العلاء بن اللَّجَلاحِ، عن أبيه قال: قال أبي إذا متُ فضعني في اللَّحْدِ وقل: بسم الله وعلى سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وسنَّ عليَّ الترابَ سَنَّا، واقرأ عند رأسي بفاتحة (البقرة) وخاتمتها؛ فإنّي سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك. قال عباس الدوري سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئا؟ قال: لا. وسألت يحيى بن معين فحدثني بهذا الحديث. قال الخلال: وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق: حدثني علي بن موسى

مع

قدامة

الحداد - وكان صدوقا- قال: كنتُ . أحمد بن حنبل ومحمد بن الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجلٌ ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد يا هذا إنَّ القراءة عند القبر بدعة. فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبدالله ما تقول في مُبشِّرِ الحلبي؟ قال: ثقة. قال: كتبت عنه شيئًا قال : نَعَمْ. قال: فأخبرني مُبشِّرُ، عن عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه: أنه وصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة (البقرة) وخاتمتها. وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك.

فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل (1) يقرأ.

وقال الحسن بن الصباح الزعفراني: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال: لا بأس بها.

(۱) انظر إلى إنصاف الإمام أحمد وسرعة رجوعه إلى الصواب ووازنه بحال الوهابية

وشدة تعصبهم لرأيهم الفاسد.

الرد المحكم

٣٥٣

وذكر الخلال عن الشَّعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرأون عنده القرآن. قال وأخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجروي يقول : مررت على قبر أخت لي فقرأت عندها (تبارك) لما يُذكر فيها، فجاءني رجل فقال : إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى الله أبا علي خيرًا فقد

انتفعت بما قرأ.

أخبرني الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن أخت نصر النمار يقول: كان رجل يجئ إلى قبر أُمه يوم الجمعة فيقرأ سورة (يس) فجاءه في بعض أيامه فقرأ سورة (يس) ثُمَّ قال: اللهم إن كنتَ قسمت لهذه السورة ثوابًا فاجعله في أهل هذه المقابر. فلما كان في يوم الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت أنت فلان بن فلانة؟ قال: نعم. قالت: إنَّ بنتا لي ماتت فرأيتها في النوم جالسةً على شفير ،قبرها فقلت ما أجلسك ههنا؟ قالت: إنَّ فلان ابن فلانة جاء إلى قبر أُمّه فقرأ سورة (يس) وجعل ثوابها لأهل المقابر

فأصبنا من روح ذلك، أو غفر لنا أن نحو ذلك . اهـ

ويؤيد هذا ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي واللفظ له وابن ماجه عن معقل بن يسار: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «قَلْبُ القرآنِ سورة (يس) لا يقرأها رجلٌ يريد الله والدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ له، اقرأوها على موتاكم». صححه ابن حبان والحاكم، وذكر ابن حِبَّان أنَّ المراد بالموتى من حَضَرَهُ الموتُ، ورَبَّحَهُ ابن القيم بوجوه ذكرها في كتاب "الروح"، لكن أخذ ابن الرفعة بظاهر الحديث فصحح أنها تقرأ بعد الموت، وذكر الشوكاني أنَّ لفظ الموتى حقيقة فمن مات، ولا يعدل عن الحقيقة إلا بقرينة، ولا مانع عندي من

٣٥٤

مباحثات

قراءتها على المحتضر ليتدبر ما فيها، وعلى الميت لينفعه ثوابها.

قال القرطبي في "التذكار": وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن دَخَلَ المقابر فقرأ سورة (يس) خَفَّفَ اللهُ

عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها من حسنات» . اهـ

.

ورواه عبدالعزيز صاحب الخلال من حديث أنس أيضًا، وروى القاضي أبو بكر بن عبدالباقي الأنصاري في "مشيخته" عن سلمة بن عبيد الله: قال حماد المكي: خرجتُ ليلةً إلى مقابر مكة، فوضعت رأسي على قبر فنمت فرأيتُ أهل المقابر حلقة حلقة فقلت: قامت القيامة؟ قالوا: لا ولكن رجل من

إخواننا قرأ: (قل هو الله أحد) وجعل ثوابها لنا فنحن نقسمه منذ سنة. وقال محمد بن أحمد المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرأوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد) واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر، فإنه يصل إليهم.

وقال النووي في الكلام على زيارة القبور من "شرح المهذب": "ويستحب أن يقرأ من القرآن ما تيسر ويدعوا لهم عقبها ، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب». اهـ

وقال في "الأذكار" في باب ما يقوله بعد الدفن: «قال الشافعي والأصحاب يستحب أن يقرأوا عنده شيئًا من القرآن، قالوا: فإن ختموا القرآن كله كان حسنًا، وروينا في "سنن البيهقي" بإسناد حسن: أن ابن عمر

استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة (البقرة) وخاتمتها».اهـ وذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ في ترجمة الخطيب البغدادي أنه لما تُوفّي

الرد المحكم

٣٥٥

قُرئ على قبره عِدَّة ختمات.

فتبين من هذه الآثار والنصوص أنَّ القراءة عند القبر كانت معروفة عن

السَّلَفِ.

كما تبين من مجموع ما قدمناه: أنَّ قراءة القرآن تصل الميت كما يصله الدعاء والصدقة والحج والصيام، وليس للمانعين من الوصول ما يصلح لأن يتمسك به إلا قوله تعالى: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم: ٣٩] ولا دليل فيها على منع الوصول أصلا كما تبيَّن مما سيأتي، وقد توهم جماعة أنها تقتضي منع وصول عمل الغير إلى الميت فأجابوا عنها بعدة أجوبة أحدها: أنها منسوخة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَنْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم ﴾ [الطور: :

.

٢١] الآية. أدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء. نقل عن ابن عباس. الثاني: أنها خاصَّةٌ بقوم إبراهيم وموسى صلوات الله على نبينا وعليهما. فأما هذه الأُمَّة المرحومة فلها ما سَعَتْ وما سُعِي لها. قاله عكرمة. الثالث: أن المراد بالإنسان هنا الكافر، فأمَّا المؤمن فله ما سَعَى وما سُعِي

له. قاله الربيع ابن أنس.

الرابع: أنَّ «اللام» في الإنسان بمعنى «على» أي: ليس على الإنسان إلَّا

ما سعى.

الخامس: أنَّ في الآية حذفًا تقديره : (وأن ليس للإنسان إلَّا ما سَعَى أو

سعي له».

السادس: أن المراد بالإنسان في الآية: الحي دون الميت.

٣٥٦

مباحثات

وهذه الأوجه لا تخلوا من ضعف، بل فيها ما هو باطل. السابع: أن ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من باب

الفضل فجائز أن يزيده الله تعالى ما شاء. قاله الحسين بن الفضل. الثامن:

أنَّ الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد ونكح الأزواج، وأسند الخير وتودد إلى الناس فترحموا عليه وأهدوا له العبادات، وكان ذلك أثر سعيه كما قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أطيب

ما أكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِهِ ، وإِنَّ وَلَدَهُ مِن كَسْبِهِ». قاله أبو الوفا ابن عقيل. قال ابن القيم: (وهذا جواب متوسط يحتاج إلى تمام، فإنَّ العبد بإيمانه وطاعته الله ورسوله قد سَعَى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع . عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإنَّ المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعضي في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة، فإِنَّ كلَّ واحدٍ منهم تُضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفًا لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سببا لزيادة أجره، كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر، بل قد قيل: إنَّ الصلاة يضاعف ثوابها بعدد المصلين، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى. وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُهُ بَعْضًا» وشَبَّك بين أصابعه، ومعلوم أنَّ هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا، فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم.

الرد المحكم

٣٥٧

وقد أخبر الله عن حَمَلَةِ العرش ومَن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم، وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين، كنوحٍ وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهم وسلم، فالعبد بإيمانه قد تسبب إلى وصول هذا الدعاء إليه، فكأنه من سعيه، يُوضّحه أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الإيمان سببًا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سَعَى في السبب الذي يوصل إليه ذلك.

وقد دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص : «إنَّ أباك لو كان أقر بالتوحيد نَفَعَهُ ذلك يعني العتق الذي فعل عنه بعد موته، فلو أتى بالسبب لكان قد سعى في عمل يوصل إليه ثواب العتق وهذه طريقةٌ لطيفة حسنة جدا» . اهـ والحديث الذي أشار إليه رواه أحمد وغيره عن عبدالله بن عمرو: أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر خمسة وخمسين، وأنَّ عَمْرًا سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: «أما أبوك فلو أقر بالتوحيد ؛ فصُمْتَ وتَصَدَّقْتَ عنه نَفَعَهُ ذلك» فالحديث يفيد أن سبب انتفاع الميت بها يهدي إليه من الأعمال إيمانه وتوحيده.

التاسع من الوجوه في الجواب عن الآية أنها لم تنف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفت ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين فرق لا يخفى، فأخبر الله تعالى أنَّ الإنسان لا يملك إلا سعيه، أمَّا سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى، قال ابن

القيم: «وكان شيخنا - يعني ابن تيمية - يختار هذه الطريقة ويرجحها» . اهـ

٣٥٨

مباحثات

وفي تفسير "الكشاف" للزمخشري ما نصه: «فإن قلت: أما صح في الأخبار

الصدقة عن الميت والحج عنه وله الأضعاف؟ قلت فيه جوابان: أحدهما: أنَّ سعي غيره لما لم ينفعه إلَّا مبنيا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمناً صالحا، وكذلك الأضعاف كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تابعا

له وقائما بقيامه.

والثاني: أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو

.

بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه». اهـ

وتقييده المؤمن بكونه صالحًا مبني على رأي المعتزلة في أن مرتكب الكبيرة يخلد في النار، وهو خلاف الحق والصواب ما تقدَّم أنَّ الإيمان سبب في انتفاع الميت بما يُهدى إليه، دلّ عليه قوله تعالى في حملة العرش: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ امَنُوا [غافر: ۷] وقوله عليه الصلاة والسلام لعمرو: «أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصُمْتَ وتَصَدَّقْتَ عنه نَفَعَهُ ذلك». ودلائل أخرى كثيرة.

وفي فتاوي الحافظ ابن الصلاح ما نصه: «مسألة في قوله تعالى: ﴿ وَأَن لَّيْسَ الْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وقد ثبت أنَّ أعمال الأبدان لا تنتقل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا مات الإنسانُ انقطعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالح يَدْعُو له». وقد اختلف في القرآن هل

يصل إلى الميت أو لا، وكيف يكون الدعاء يصل إليه والقرآن أفضل؟». أجاب رضي الله عنه: «هذا قد اختلف فيه، وأهل الخير وجدوا البركة في مواصلة الأموات بالقرآن وليس الاختلاف في هذه المسألة كالاختلاف في

الرد المحكم

٣٥٩

الأصول، بل هي من مسائل الفروع وليس نص الآية المذكورة دالا على بطلان قول من قال أنه يصل؛ فإنَّ المراد به أي نص الآية - أنه لا حق له ولا جزاء إلَّا فيما يَسْعَى، ولا يدخل ما يتبرع به الغير من قراءة ودعاء، وأنه لا حق في ذلك ولا مجازاة، وإنما أعطاه الغير تبرُّعًا، وكذلك الحديث لا يدل على بطلان قوله فإنه في عمله وهذا من عمل غيره . اهـ والخلاصة: أنَّ الآية لا دلالة فيها على عدم وصول ما يُهدَى إلى الميت من

الأعمال.

وكذلك قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرَ أَن مُّبِينٌ ( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَفِرِينَ ﴾ [يس: ٦٩ - ٧٠] ليس فيه دلالة على منع إهداء ثواب

القراءة للميت.

ولا أعلم أحدا استدل به لذلك قبل المتنطع، ولعله لغباوته فهم أ أن قوله تعالى: ليُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا يدل بمفهومه على أنَّ القرآن لا يُهدَى إلى الميت وهذا فهم طريفٌ ، وقوله تعالى : كتَب أَنزَلْتَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكَ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَتِهِ ﴾ [ ص: ٢٩] أبعد من سابقه في الدلالة على المنع والاستدلال به على ذلك دليل آخر على غباوة المتنطع. وأين حديث تدبر آيات القرآن من حديث إهداء الثواب الحاصل بتلاوته لفلان؟!. تالله إنَّ بينهما لبونًا شاسعا، ولكن ما الحيلة في غباوة المتنطع وسوء فهمه؟!!.

وبعد، فإنَّ ثواب القرآن يصل إلى الميت وينفعه كما تقدم بيان ذلك

موضحًا بدليله، وقد أفرد هذ الموضوع بالتأليف.

٣٦٠

مباحثات

حجر

فيه

فلإبراهيم بن المظفر كتاب "وصول" القرآن للميت"، وللحافظ ضياء الدين بن عبد الواحد المقدسي جزءٌ في ذلك أيضًا، وللحافظ ابن كراسة كما تقدم في كلامه وطبع منذ بضع سنوات كتاب يُسمى "كشف الشبهات عن إهداء القرآن وسائر القُرب إلى الأموات" وهو كتاب جامع في هذا الموضوع، ألَّفه الشَّيخ محمود ربيع بمعونة أخي السيد أحمد بن الصديق والشيخ علي البولاقي.

بل لم يصنع فيه شيئًا إلا أنه سطا على معلوماتها وجهودهما واغتصبها بسيف الحياء ،والصداقة ونسبها إلى نفسه، وتلك عادته في أغلب مؤلفاته ومطبوعاته.

لي بأنه ما

سمع

وقد فعل معي ذلك أيضًا في كتاب التعريف والإعلام" للسهيلي أعطيته نسخة منه ليطبعها وشفعتها بترجمة المؤلف، ولم يكن يعرف عنه شيئًا بل صرح باسمه قبل ذلك الوقت وأمددته بمعلومات كانت مادة تعليقاته، وقمت بتصحيح الكتاب، فأنكر كل هذا وادعى أنَّ الكتاب عثر عليه في بطون المكاتب، وأنه رآه جديرٌ بالنشر، وأنه لقي تعبًا كبيرًا في تصحيحه و... و... إلخ. فلما عبتُ عليه هذا المسلك في نكران الجميل، اعتذر بنسبة هذا التصرف إلى ابنه، مع أنه هو الذي يكتب له كل ما يصدر باسمه، ثُمَّ تدارك الأمر بعض التدارك فكتب في آخر لحظة راجعه للمرة الأخيرة فلان واستخرج هذه

الأغلاط ... إلخ. فما جزاء هؤلاء المدَّعين الدُّخَلاء؟ وماذا أعدَّ الله لهم من العقاب على ما

الرد المحكم

٣٦١

جنوهُ؟ إنه سبحانه المنفرِدُ بعلم ذلك، والمجازي كلَّ نَفْس بما كسبت هنالك. (تنبيه): جرت عادة بعض الناس أن يقرأوا (الفاتحة) ويهدوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وقد اختلف فيها المتأخرون كما بين ذلك ابن القيم حيث قال ما نصه: «فإن قيل فما تقولون في الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قيل : من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم من لم يستحبه ورآه بدعة؛ فإنَّ الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم له أجر كل من عمل خيرًا مِن أُمَّته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء؛ لأنه هو الذي دلّ أُمَّته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تَبِعَهُ مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء، وكلُّ هدى وعلم فإنها نالته أمته على يده، فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أو لم يُهده، والله

أعلم . اهـ

وعندي أنه لا مانع من إهداء قرآن أو غيره إليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وإن كان له ثواب ما تعمله أُمَّته من الخير؛ إذ لم يأتِ دليل يمنع الإهداء المذكور،

وكون الصحابة لم يفعلوه لا يدل على منعه.

وهذا آخر كتاب "الرد المحكم "المتين" جعله الله عملا متقبلا مشكورًا،

و جعل سعينا صالحًا مبرورًا، إنه البر الرحيم والجواد الكريم.

وكان الفراغ من تبييضه صبيحة يوم الجمعة ثاني يوم عيد الأضحى المبارك سنة ١٣٦٤ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله

رب العالمين.

٣٦٢

مباحثات

اللهم إني أسألك عِلْمَ الخائفين لك، وخوف العالمين بك، ويقين المتوكلين عليك، وتوكَّل المؤمنين بك، وإنابة المخبتين إليك، وإخبات المنيبين إليك، وشكر

الصابرين لك، وصبر الشاكرين لك، ونجاة الأحباء المرزوقين عندك. اللهم يا واسع المغفرة ويا باسط اليدين بالرحمة افعل بي ما أنت أهله. إلهي أذنبتُ في بعض الأوقات، وآمنت بك في كل الأوقات، فكيف يغلب بعض عمري مذنبًا جميع عمري مؤمنًا.

إلهي لو سألتني حسناتي لجعلتها لك مع شدة حاجتي إليها وأنا عبد، فكيف لا أرجو أن تهب لي سيئاتي كلها مع غناك عنها وأنت رب، فيا من أعطانا خير ما في خزائنه وهو الإيمان به قبل السؤال، لا تمنعنا أوسع ما في خزائنك وهو العفو مع السؤال.

إلهي حُجَّتي حاجتي وعدتي فاقتي فارحمني. إلهي كيف أمتنع بالذنب من الدعاء، ولا أراك تمنع مع الذنب من العطاء،

فإن غفرت فخير راحم أنت، وإن عذبت فغير ظالم أنت.

إلهي أسألك تذللا فأعطني تفضلا، إلهي أذقني برد عفوك وأنلني مزيد فضلك وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.

الرد المحكم

تذييل

٣٦٣

رأيت أن أقوم بواجب النصيحة فأنبه على ما شاع بين كثير من الناس في توسلاتهم وزياراتهم للأولياء، فقد توسعوا في ذلك توسعا غير مُرْضِ،

وخرجوا عن الحد المشروع وفاهوا بألفاظ منكرة مثل:

إلى ألفاظ من هذا القبيل ظاهرها يقتضي الكفر، مع ما ينضم إلى ذلك من تقبيل العتبات والأبواب والتمسح بالحديد والخشب، والدخول إلى الضريح على هيئة الراكع أو الساجد، مع تكتيف الأيدي خلف الظهر، وكل هذا ممنوع غير مشروع، والأولياء أنفسهم لا يرضون به، بل يتألمون من فعله ويتبرأون

من فاعله.

وليت الأمر اقتصر بالمتوسلين عند هذا الحد من المنكرات القبيحة ولكنهم زادوا في الطين بلة فتوسلوا بالكفَّار أعداء الله ورسوله، فتراهم يذبحون إلى الأمير تادروس بكنيسة حارة الروم، لطلب الحبل وقضاء الحوائج !!. ويذهبون إلى العريان في دير بطرة، وله مولد كل عام، وتُرتكب فيه فواحش ومنكرات!!. ويذهبون إلى القديسة سانت تريزا في كنيسة بشبرا الطلب الحوائج أيضًا!!. ويحكون عن هؤلاء كراماتٍ في إجابة الطلب وقضاء الحاجات، فأي مسلم يرضى لنفسه أو لأهله وأولاده هذا الكفر الصريح القبيح المصادم لدين

الإسلام؟! لأن هؤلاء الكفَّار

ومعهم

كل

نصراني ويهودي- أعداء الله

ورسوله، وأعداء دينه، وهم مُخَلَّدون في النار لا يخرجون منها أبدا حتى يلج

الجَملُ في سَمِّ الخياط.

٣٦٤

مباحثات

فكيف يسوغ في عقل أحدٍ كيفما كان تفكيره أن يتوسل إلى الله بأعدائه وأعداء رسوله وأعداء دينه؟! إنَّ هذا منتهى الجهل وغاية الكفر عافانا الله بمنه وكرمه.

وكثير من النساء يذهبن يوم الجمعة إلى المغاوري في مغارة بجبل المقطم يطلبن الحبل والأولاد، فتهتك أعراضهنَّ مِن ساكني تلك المغارة وهم قوم إباحيون يعرفون بالبكتاشية، لا يُحرمون حرامًا ولا يدينون بدين، يشربون الخمور ويزنون ويلوطون، بل بلغ من فجورهم أن ينزو بعضهم على بعض كما تنزو الحمير، لا والله بل الحمير أحسن حالا منهم؛ لأننا لم نعهد حمارًا ينزو على حمار مثله، كما يفعل هؤلاء الفجرة الملحدون، هذا وهم يتمتعون بعطف الحكومة ورعايتها ولهم أوقاف تدر عليهم خيراتٍ ومَبَرَّاتٍ، فَإِلى الله المشتكى وبه المستعان وعليه التكلان. فيا أيها المسلم الشحيح بدينه الحريص على حفظ عرضه وكرامته، عليك أن تجتنب تلك الموبقات المنكرات وتُجنّبها أهلك وعشيرتك وإخوانك،

واقتصر في زيارتك وتوسلك على الجائز المشروع.

ودَع كل لفظ مُوهِم، وكل تعظيمٍ يُؤدي بك إلى المحظور الممنوع، كتقبيل (1) وتمسح و وتمسح وسجود وركوع، ولا تذهب إلى قبر كافر في دير كان أو في

(1) وإن كان أحمد أجاز تقبيل القبر، قال الحافظ العراقي: أخبرني الحافظ أبو سعيد العلائي قال: رأيت في كلام ولد أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيل غيره فقال : لا بأس بذلك فأريناه ابن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول:

الرد المحكم

٣٦٥

كنيسة، ولا تُصَدِّق ما يُحكى عنه من الكرامات، واعتقد أنَّ ذلك كله كذب وجهل و خرافات، فإن صح لك منه شيء بالمشاهدة والعيان فاعلم أنه من فعل الشيطان، واعلم أنّ الخوارق تحصل على يد الفجرة الكفرة للاستدراج

سَنَستَدْرِجُهُم مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۸۲].

وللشيطان وجنوده في هذا الباب مجال واسع لإضلال الناس وإغوائهم وحملهم على تعظيم الكفَّار والتبرك بهم والاستشفاع بهم إلى الله، فكن يَقظًا حَذِرًا، واعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض الصحابة: حَيْتُها مَرَرْتَ بِقَيْرِ كَافِرٍ فَبَشِّرْهُ بالنَّارِ»، وقال أيضًا: «والذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمة يهودي ولا نصران ثُمَّ يموتُ ولم يؤمن بالذي أُرْسِلْتُ بهِ إِلَّا كان مِن أصحاب النَّارِ».

هذه نصيحتي إليك فاعمل بها واحرص عليها والله يتولى هداك.

عندي أحمد جليل يقول هذا؟! قال: وأي عجب في ذلك. وفي كتاب "العلل والسؤالات" لعبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يتبرك بمسه، ويقبله. ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى، قال: لا بأس به.

وعن يحيى بن سعيد شيخ الإمام مالك أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر النبوي فمسحه. ونقل عن ابن أبي الصيف والمحب الطبري جواز تقبيل قبور الصالحين، نقله العلامة ابن زكري في شرح همزيته بعد أن حكى عن كثير من العلماء خصوصا المالكية كراهة تقبيل القبر، والله أعلم.

٢ - إرغامُ المُبتدِعِ الغَبي

بجواز التوسل بالنبي و

إنَّ التوسل جَائِز في شَرْعِنا لا يَمْتَرِي فِي حُكْمِهِ شَخْصَانِ إلَّا الذين توهبوا بجَهَالَةٍ وتوسمُوا بِسَفَاهَةٍ بلسان قد حَرَّمُوه وبالغُوا فِي ذَمّه من غير أن يأتوا بأي بَيانِ ولنا حديث ابن حنيف حُجَّةٌ سيبوء من يأباه بالخــــران والله يهديهم ويَشْرَحُ صَدْرَهُمْ لقَبُول مَـا يبدو من البرهان

إرغام المبتدع الغبي -

۳۷۱

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلَّا على الظالمين والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته

والتابعين. وبعد: فإنَّ الشَّيخ الألباني - سامحه الله تعالى - صاحب غَرَضِ وهوى، إذا رأى حديثا أو أثرًا لا يوافق هواه فإنَّه يسعى في تضعيفه بأسلوب فيه تدليس وغش، ليوهم قراءه أنَّه مُصيب مع أنه مخطى بل خاطئ غاش، وبأسلوبه هذا ضلل كثيرًا من أصحابه الذين يثقون به ويظنون أنه على صواب، والواقع

خلاف ذلك.

ومن المخدوعين به من يُدعى حمدي السلفي الذي يُحقق "المعجم الكبير"، فقد أقدم بجرأة على تضعيف أثر صحيح لم يوافق هواه كما لم يوافق هوى شيخه، وكان كلامه في تضعيفه هو كلام شيخه نفسه، فأردت أن أرد الحق إلى نصابه ببيان بطلان كلام الخادع والمخدوع به وعلى الله اعتمادي وإليه تفويضي

واستنادي.

۳۷۲

مباحثات

حديث توسل الضرير

روى الطبراني في "المعجم الكبير" (۹ / (۱۷) من طريق ابن وهب، عن شبيب، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف -رضي الله عنه-: أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن . ، عفان -رضي الله عنه - في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ، ثُمَّ انت المسجد فصل فيه ركعتين، ثُمَّ قل: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي»، وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثُمَّ أتى باب عثمان بن عفان، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطَّنْفِسَةِ، وقال له: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها ،له، ثُمَّ قال: ما ذكرت حاجتك حتى

كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأنتِنا.

ثُمَّ إِنَّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله

خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في.

فقال عثمان بن حنيف والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أو تصبر؟» فقال: يا رسول الله إنَّه ليس لي قائد وقد شقّ

إرغام المبتدع الغبي .

۳۷۳

علي، فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ائت الميضأة فتوضَّأَ ثُمَّ صَلَّ

ركعتين، ثُمَّ ادعُ بهذه الدعوات».

قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا

الرجل كأنه لم يكن به ضُر قط.

صححه الطبراني، وتعقبه حمدي السلفي بقوله:

لا شك في صحة الحديث المرفوع، وإنما الشك في هذه القصة التي يُستدل بها على التوسل المبتدع، وهي انفرد بها شَبيبٌ كما قال الطبراني، وشبيب لا بأس بحديثه، بشرطين: أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه، وأن يكون من رواية شبيب عن يونس بن يزيد، والحديث رواه عن شبيب ابن وهب وولداه إسماعيل وأحمد، وقد تكلّم الثقات في رواية ابن وهب عن شبيب في شبيب، وابنه إسماعيل لا يُعرف، وأحمد وإن روى القصة عن أبيه إلَّا أنّها ليست من طريق يونس بن يزيد ، ثُمَّ اختلف فيها على أحمد. فرواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم من ثلاثة طرق بدون ذكر القصة. ورواه الحاكم، من طريق عون بن عمارة البصري، عن روح بن القاسم به.

قال شيخنا محمد ناصر الدين الألباني: وعون هذا وإن كان ضعيفا فروايته أولى من رواية شبيب لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي».اهـ

وفي هذا الكلام تدليس وتحريف نبينه فيما يلي: أولا : هذه القصة رواها البيهقي في "دلائل النبوة"، من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد: ثنا أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي

٣٧٤

مباحثات

جعفر الخطمي، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف: أنَّ رجللًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه... فذكر القصة بتمامها. ويعقوب بن سفيان: هو الفسوي الحافظ الإمام الثقة، بل هو فوق الثقة، وهذا إسناد صحيح، فالقصة صحيحة جدًّا، وقد وافق على تصحيحها أيضًا الحافظ المنذري في "الترغيب" (ج ٢ / ٦٠٦) والحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (۲ / ۲۷۹)

ثانيا : أحمد بن شبيب من رجال البخاري، روى عنه في "الصحيح"، وفي "الأدب المفرد"، وثقه أبو حاتم الرازي وكتب عنه هو وأبو زرعة، وقال ابن عدي: «وثقه أهل البصرة، وكتب عنه علي بن المديني».

وأبوه شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري أبو سعيد من رجال البخاري أيضا روى عنه في "الصحيح"، وفي "الأدب المفرد"، وثقه أبو زرعة

وأبو حاتم والنسائي والذهلي والدارقطني والطبراني في "الأوسط".

قال أبو حاتم: كان عنده كتب يونس بن زيد، وهو صالح الحديث لا بأس به. وقال ابن عدي: ولشبيب" نسخة الزهري عنده عن يونس عن الزهري أحاديث مستقيمة». وقال ابن المديني: «ثقة كان يختلف في تجارة إلى مصر وكتابه كتاب صحيح». هذا ما يتعلق بتوثيق شبيب، وليس فيه اشتراط صحة روايته بأن تكون عن يونس بن يزيد، بل صرح ابن المديني بأنّ كتابه صحيح، وابن عدي إنها تكلم على نسخة الزهري عن شبيب فقط، ولم يقصد جميع رواياته، فما ادعاه الألباني تدليس وخيانة.

إرغام المبتدع الغبي .

۳۷۵۰

يؤكد ذلك أنَّ حديث الضرير صححه الحفاظ ولم يروه شبيب، عن يونس،

عن الزهري، وإنما رواه عن روح بن القاسم.

ودعواه ضعف القصة بالاختلاف فيها حيث لم يذكرها بعض الرواة عند ابن السني والحاكم لون آخر من التدليس؛ لأنَّ من المعلوم عند أهل العلم أنَّ بعض الرواة يروي الحديث وما يتصل به كاملا، وبعضهم يختصر منه بحسب الحاجة، والبخاري يفعل هذا أيضًا، فكثيرًا ما يذكر الحديث مختصرا و يوجد عند غيره تاما.

والذي ذكر القصة في رواية البيهقي إمام فذ، يقول عنه أبو زرعة الدمشقي: «قدم علينا رجلان من نبلاء الناس، أحدهما وأرحلهما يعقوب بن سفيان يعجز أهل العراق أنْ يَرَوْا مثله رجلا».

وتقديمه رواية عون الضعيف على من زاد القصة لون ثالث من التدليس والغش، فإنَّ الحاكم روى حديث الضرير من طريق عَوْنٍ مختصرًا ثُمَّ قال: «تابعه شبيب بن سعيد الحبطي، عن روح بن القاسم. زيادات في المتن والإسناد، والقول فيه قول شبيب فإنَّه ثقةٌ مأمون».

هذا كلام الحاكم، وهو يؤكد ما تقرر عند علماء الحديث والأصول «أنّ

زيادة الثقة مقبولة»، و«أنَّ مَن حفظ حُجَّةً على من لم يحفظ».

والألباني رأى كلام الحاكم لكن لم يعجبه، لذلك ضرب عنه صفحا

وتمسك بأولوية رواية عون الضعيف عنادا وخيانة.

ثالثا: تبين مما أوردناه وحققناه في كشف تدليس الألباني وغشَّه أَنَّ القصة صحيحة جدا رغم محاولاته وتدليساته، وهي تُفيد جواز التوسل بالنبي صلى الله

٣٧٦

مباحثات

عليه وآله وسلَّم بعد انتقاله ؛ لأنَّ الصحابي راوي الحديث فَهِم ذلك، وفَهُمُ

الراوي له قيمته العلمية، وله وزنه في مجال الاستنباط.

وإنما قلنا أنَّ القصة من فهم الصحابي على سبيل التنزل، والحقيقة أنَّ ما فعله عثمان بن حنيف من إرشاده الرجل إلى التوسل، كان تنفيذا لما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في حديث الضرير.

رضي

قال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا حماد بن سلمة: أنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف الله عنه: أنَّ رجلًا أعمى أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أصبت في بصري فادع الله لي قال: «اذْهَبْ فتوضأ وصَلِّ ركعتين، ثُمَّ قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبي محمد نبي الرحمة، يا محمدُ إِنِّي اسْتَشْفَعُ بك على ربي في رَدُّ بَصَري، اللهمَّ فَشَفَعْني في نَفْسي وَشَفِّعْ نبيِّي فِي رَدَّ بَصَرِي. وإِن كانت حاجةً فافعل مثل ذلك». إسناده صحيح.

والجملة الأخيرة من الحديث تُصرّح بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في التوسل به عند عروض حاجةٍ تقتضيه، وقد أعل ابن تيمية هذه الجملة بعلل واهية بينت بطلانها في غير هذا المحل، وابن تيمية جريء في ردّ الحديث الذي لا يوافق غَرَضَه ولو كان في "الصحيح".

مثال ذلك: روى البخاري في "صحيحه" حديث: «كان الله ولم يكن شيء غيره». وهو موافق لدلائل النقل والعقل والإجماع المتيقن، لكنه خالف رأيه في اعتقاده قدم العالم، فعمد إلى رواية للبخاري أيضًا في هذا الحديث بلفظ: «كان الله ولم يكن شيءٌ قَبْلَهُ» فرجَّحَها على الرواية المذكورة بدعوى أنها توافق الحديث

إرغام المبتدع الغبي .

۳۷۷

الآخر: «أنت الأول فليس قَبْلَكَ شيء».

قال الحافظ ابن حجر: «مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه

الرواية على الأولى لا العكس، والجمع مقدم على الترجيح بالاتفاق». اهـ قلتُ: تعصبه لرأيه أعماه عن فهم الروايتين اللتين لم يكن بينهما تعارض؛ لأن رواية «كان الله ولم يكن شيءٌ قَبْلَهُ». تفيد معنى اسمه الأول بدليل: «أنت الأول فليس قبلك شيء». ورواية: كان الله ولم يكن شيء غيره تفيد معنى

اسمه الواحد بدليل رواية: «كان الله قبل كلُّ شيءٍ».

مثال ثان: حديث أمرُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي عليه السّلام، حديث صحيح، أخطأ ابن الجوزي بذكره في الموضوعات"، وردَّ عليه الحافظ في "القول المسدد"، وابن تيمية لانحرافه عن علي عليه السَّلام كما هو معلوم - لم يكفه حكم ابن الجوزي بوضعه، فزاد من كيسه حكاية اتفاق المحدثين على وضعه، وأمثلة ردّه للأحاديث التي يردُّها لمخالفة رأيه كثيرةٌ يَعْسُر تتبعها.

رابعا: ونقول على سبيل التنزل : لو فرضنا أنَّ القصة ضعيفة تطييبا لخاطر الألباني، وأن رواية ابن أبي خيثمة معلولةٌ كما في محاولة ابن تيمية- قلنا: في حديث توسل الضرير كفايةٌ وغِناءُ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين

أن

علم الضرير ذلك التوسل دلّ على مشروعيته في جميع الحالات، ولا يجوز أ يقال عنه: توسل مبتدع، ولا يجوز تخصيصه بحال حياته صلى الله عليه وآله وسلم، ومن خصَّصه فهو المبتدع حقيقةً؛ لأنَّه عطّل حديثًا صحيحًا وأبطل العمل به، وهو حرام.

۳۷۸

مباحثات

والألباني - عفا الله عنه - جريء على دعوى التخصيص والنسخ لمجرد خلاف رأيه وهواه، فحديث الضرير لو كان خاصا به لبينه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما بيّن لأبي بردة أنَّ الجزَعَةَ من المعز تُجزئه في الأضحية ولا تُجزئ غيره كما في الصحيحين"، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز».

استشكال وجوابه

قد يقال: الداعي إلى تخصيص الحديث بحال حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه من ندائه، وهو عذر مقبول.

والجواب: أنَّ هذا اعتذار مردود؛ لأنَّه تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعليم التشهد في الصَّلاة، وفيه السَّلام عليه بالخطاب ونداؤه: «السّلام عليك أيها النبي وبهذه الصيغة علمه على المنبر النبوي أبو بكر، وعمر، وابن

الزبير، ومعاوية، واستقر عليه الإجماع كما يقول ابن حزم وابن تيمية. والألباني لابتداعه خالف هذا كله وتمسك بقول ابن مسعود: «فلما مات

أنَّ

قلنا: السلام على النبي ، ومخالفة التواتر والإجماع هي عين الابتداع. مع أنه صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ أعمالنا تُعرض عليه، وكذلك صلاتنا عليه صلى الله عليه وآله وسلم تعرض عليه، وثبت أنَّ الله ملائكةٌ سَيَّاحين في الأرض يُبلغونه سلام أُمَّته، وثبت بالتواتر والإجماع أ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم حي في قبره، وأن جسده الشريف لا يبلى، فكيف يمتنع مع هذا نداؤه في التوسل به، وهل هو إِلَّا مِثل ندائه في التشهد؟! ولكن الألباني عنيد شديد العِناد، والألبانيون عندهم عناد وصلابة في

إرغام المبتدع الغبي -

۳۷۹۰

الرأي، أخبرني بذلك عالم ألباني حَضَرَ عليَّ في "تفسير البيضاوي" و"شرح

التحرير" لابن أمير الحاج، وكان وديعا هادئ الطبع، وهو تلميذ لي.

هذا موجز ردنا لدعوى الألباني.

أمَّا من يُدْعَى حمدي السلفي فليس هناك، وإنما هو مجرد مخدوع يردد

الصَّدَى.

خامسا: والذي أقرَّره هنا: أنَّ الألباني غير مؤتمن في تصحيحه وتضعيفه، بل يستعمل في ذلك أنواعًا من التدليس والخيانة في النقل والتحريف في كلام العلماء، مع جرأته على مخالفة الإجماع وعلى دعوى النسخ بدون دليل، وهذا يرجع إلى جهله بعلم الأصول وقواعد الاستنباط، ويدعى أنه يحارب البدع، مثل التوسل بالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتسويده في الصلاة عليه، وقراءة القرآن على الميت، لكنه يرتكب أقبح البدع بتحريم ما أحل الله، وشتم مخالفيه بأقذر الشتائم خصوصا الأشعريَّة والصُّوفيَّة، وحاله في هذا كحال ابن تيمية، تطاول على النَّاس فأكفر طائفة من العلماء وبدع طائفة أخرى، ثُمَّ اعتنق

هو بدعتين لا يوجد أقبح منهما:

إحداهما: قوله بقدم العالم، وهي بدعة كفرية والعياذ بالله تعالى. والأخرى انحرافه عن علي عليه السَّلام، ولذلك وَسَمَهُ علماء عصره بالنفاق، لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعلي: «لا يُحِبُّكَ إِلَّا مؤمنٌ ولا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنافِقٌ».

وهذه عقوبة من الله لابن تيمية الذي يُسمّيه الألباني شيخ الإسلام، ولا

أدري كيف يُعطى هذا اللقب وهو يعتقد عقيدة تناقض الإسلام؟!

۳۸۰

مباحثات

وأظن، بل أجزم أنَّ الحافظ ابن ناصر لو اطلع على عقيدته وما فيها من طامات، لما كتب في الدفاع عنه كتاب "الرد الوافر"، لأنه كتبه وهو مغرور بمن أثنى عليه، وكذلك الألوسي ابن صاحب "التفسير"، لو عرف عقيدته على حقيقتها ما كتب "جلاء العينين".

وشواذ الألباني في اجتهاداته الآثمة، وغشه وخيانته في التصحيح والتضعيف حسب الهوى، واستطالته على العلماء وأفاضل المسلمين؛ كل ذلك عقوبة من الله له وهو لا يشعر، فهو من الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ألا ساء ما يَظُنُّون، نسأل الله العافية مما ابتلاه به، ونعوذ بالله من كل سوء.

والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله الأكرمين.

إرغام المبتدع الغبي .

إلحاق

۳۸۱۰

قال الدارمي في "سننه": حدثنا أبو النعمان: ثنا سعيد بن زيد: ثنا عمرو بن مالك النكري: حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبدالله قال: قحط أهل المدينة قَحْطَا شديدًا، فشَكَوا إلى عائشة، فقالت انظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فافتحوا منه كُوّى إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سَقْفٌ ففعلوا، فمُطِرنا مَطَرًا حتى نبت العُشْبُ ، وسَمِنت الإبل حتّى تفتقت . الشَّحْمِ فَسُمِّي عام الفتقِ.

من

ضعف الألباني هذا الأثر بسعيد بن زيد، وهو مردود؛ لأنَّ سعيدًا مِن

رجال مسلم ووثقه يحيى بن معين.

وضعفه أيضًا باختلاط أبي النعمان، وهو تضعيف غير صحيح؛ لأن اختلاط أبي النعمان لم يؤثر في روايته، قال الدارقطني: «تغيّر بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر وهو ثقة».

وقول ابن حبان: وقَعَ في حديثه المناكير الكثيرة بعد اختلاطه»، رَدَّهُ الذهبي فقال: «لم يقدر ابن حِبَّان أن يسوق له حديثًا مُنكَرًا، والقول فيه ما قال

الدار قطني». وابن تيمية كذَّب أثر ،عائشة، ولا عبرة به لجرأته على تكذيب ما يخالف

هواه.

والحمد لله رب العالمين.

٣- إعْلَامُ الرَّاكِعِ السَّاجِد بمَعْنَى الْخَاذِ القُبُورِ مَساجِد

إعلام الراكع الساجد

٣٨٥

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد الله الواحد الأحد، المُنزَّه عن الصحابة والولد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدٌ ، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد النَّبيِّ الأمين، وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.

وبعد: فهذا جزء سمَّيته: "إعلامُ الرَّاكع الساجد بمعنى اتخاذ القبور

مساجد".

تكلمت فيه على حديث: «لعنَ الله اليهود؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد»،

وشرحت معناه، وبيَّنتُ ما فيه من إشكال لم يتنبه له جميع شراح الحديث فيها

أعلم.

وأسأل الله التوفيق والسداد، فهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

٣٨٦

مباحثات

تخريج الحديث

روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: « قاتَلَ الله اليهودَ اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجدَ ».

وفي رواية لمسلم: «لَعَنَ اللهُ اليهود...» الحديث.

وروى الشَّيخان أيضًا عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم طَفِق يطرح خميصَةٌ له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لَعْنَةُ الله على اليهودِ والنَّصارى؛ اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجد».

وفي "صحيح مسلم" عن جُنْدَبٍ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «أَلَا وَإِنَّ مَن كان قَبْلَكُمْ كانوا يتَّخِذُونَ قُبور أنبيائِهِمْ وصالحِيهِمْ ،مساجدَ، أَلَا فَلا تَتَّخِذُوا القُبور مساجدَ إِنِّي أنهاكم عن ذلك». وللحديث طرق ستأتي إن شاء الله .

معنى الحديث

اتخاذ القبور مساجد معناه السُّجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها، كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان وهو شرك صريح.

وهذا المعنى منطوق اللفظ وحقيقته، وثبتت أحاديث مُبيَّنَةٌ له ومؤيدة: منها: حديث عائشة عند الشَّيخين قالت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد». قالت ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أَخَشي أن يُتَّخذ

إعلام الراكع الساجد

مسجدا. أي: يُسجد له.

۳۸۷

قال القاضي عياض: شدَّد في النَّهي عن ذلك خوف أن يتناهى في تعظيمه، ويخرج عن حد المبرة إلى حدّ النكير فيُعبد من دون الله عزّ وجل، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم لا تجعل قبري وَثَنَا يُعْبَدُ»؛ لأنَّ هذا الفعل كان أصل عبادة الأوثان، ولذا لما كثر المسلمون في عهد عثمان واحتيج إلى الزيادة في المسجد وامتدت الزّيادة حتّى أدخلت فيه بيوت أزواجه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أدير على القبر المشرف حائط مرتفع، كي لا يظهر القبر في المسجد، فيُصلّي إليه العوام، فيقعوا في اتخاذ قبره مسجدا، ثُمَّ بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرَّفوهما حتَّى التقيا على زاوية مثلثة من جهة الشمال، حتى لا يمكن استقبال القبر في الصَّلاة، ولذا قالت: لولا ذلك لبرز قبره» . اهـ وهذا يُبيّن أن اتخاذ القبر مسجدا هو السجود له.

ومنها: ما رواه ابن سعد في "الطبقات" بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم لا تجعل قبري وَثَنَّا لَعَنَ اللهُ

قوما اتَّخَذُوا مِن قُبُورِ أَنبيائِهِمْ مساجدَ».

جملة: «لَعَنَ اللهُ قوما»، بيان لمعنى جعل القبر وثنا.

ومعنى الحديث : اللهم لا تجعل قبري وثنا يُسجَدُ له ويُعبَدُ كما سَجَدَ قوم

لقبور أنبيائهم. ومنها ما رواه البزار عن أبي سعيد الخدري: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بك مِن أن يُتَّخَذَ قبري وَثَنَّا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى اشْتَدَّ غَضَبُهُ على قومِ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبيائِهِمْ مساجدَ».

۳۸۸

مباحثات

إسناده ضعيف، لكن حديث أبي هريرة شاهد له.

ومنها ما رواه ابن سعد في "الطبقات" قال: أخبرنا مَعْنُ بن عيسى: أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وَثَنَا يُعْبَدُ؛ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ على قومِ اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجد». مرسل صحيح الإسناد.

ومنها ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وَثَنَا يُصلَّى له، اشْتَدَّ غَضَبُ الله على قوم؛ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

ورواه عبد الرزاق، عن مَعْمَرٍ، عن زيد به. وإسناده صحيح.

تقرر في علم المعاني: أنَّ الجملتين إذا كانتا بمعنى واحد فإنَّها يُجرَّدان عن العاطف، كما في هذه الأحاديث، لإفادة اتحادهما في المعنى.

هل للحديث معنى آخر؟

ذكر كثير من شراح الحديث : أنَّ اتَّخاذ القبور مساجد يحتمل معنيين:

١ - السجود لها وعبادتها، كما سبق.

٢ - وبناء المساجد عليها، وهذا المعنى خطأ لا يصح.

و بيان ذلك من وجوه

الأول: أنه مجاز، والمجاز لا يجتمع مع الحقيقة في كلمة كما تقرر في علم

البيان، وهو الراجح عند جمهور الأصوليين.

الثاني: وعلى القول الضعيف بجواز اجتماعهما، فإنَّما يمكن ذلك إذا كان في

إعلام الراكع الساجد

۳۸۹

سياق نفي؛ فيصح نفي الحقيقة والمجاز معًا في كلمة، كأن يقال : ما رأيت أسدا، ويراد الحيوان المفترس والرجل الشجاع، والنَّفي أوسع دائرة من الإثبات. والفعل في الحديث مثبت، وهو: «اتَّخذوا»، والفعل المثبت لا يعم، فلا

يُراد به إلَّا الحقيقة.

الثالث: أن بناء المساجد على القبور ثبت فيه حديث بخصوصه وهذا يُبين

أنهما معنيان مختلفان بالحقيقة والمجاز.

روى الشيخان : عن

بناء المساجد على القبور

عائشة رضي الله عنها أنَّ أم حبيبة، وأم سلمة رضي الله

عنهما ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ أولئك إذا كان فيهم الرَّجُلُ الصَّالِحُ فماتَ بَنَوْا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وصَوَّرُوا فيه تلك الصُّوَرَ؛ أولئك شِرَارُ الخَلْقِ . عند الله يومَ القِيامَةِ». فهذا الحديث وارد في بناء المسجد على القبر، ومَن ضَمَّه إلى حديث اتخاذ القبور مساجد وجعل معناهما واحدًا؛ فقد أخطأ ووهم وهما كبيرًا؛ يظهر ذلك بالكلام على معنى الحديث وشرحه. فقوله: «أولئك شِرَارُ الخَلْقِ»، قال الأُيُّ: الأظهر في الإشارة أنها لمن نحت

لحديث

وعبد، وإن كانت لمن نحت فقط فيُحتمل كونهم شِرارًا بتصويرهم؛ . وعيد المصوّرين، فدم أولئك ليس لبنائهم المسجد ولكن لنحتهم التصاوير يؤيد هذا أنَّ البخاري قال في "الصحيح": «باب الصلاة في البيعة»، وقال

۳۹۰

مباحثات

عمر رضي الله عنه: إنَّا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور»، وكان ابن عبّاس يُصلِّي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل. قال الحافظ : «أثر عمر وصَلَه عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال:

-

لما قدم الشّام صنع له رجل من النَّصارى طعامًا - وكان من عظمائهم- وقال:

أحب أن تُجيبني وتُكرمني، فقال له عمر : إنَّا لا ندخل كنائسكم... إلخ ». وأثر ابن عباس وصله البغوي في "الجعديات"، وزاد: «فإن كان فيها تماثيل، خرج فصلى في المطر، أي في محل بارز للمطر».

فصح أن الدم في الحديث لنحت التصاوير والتماثيل لا لبناء المسجد؛ لأنَّه مكان للعبادة لا ذم يلحق فاعله.

أما قول ابن عباس: «لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم زائراتِ القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ، فهو وإن حسنه الترمذي حديث

ضعيف؛ في سنده أبو صالح، اسمه باذان ويقال بادام ضعيف مدلس. وكيف يلعن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم زائراتِ القبور مع أنَّه أباح لهنَّ زيارتها؟! وأخرج ابن سعد في "الطبقات" : أخبرنا عبدالوهاب بن عطاء: أخبرنا عوف عن الحسن، قال: ائتمروا أن يدفنوه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد فقالت عائشة: كان واضعًا رأسه في حجري إذ قال: «قاتلَ اللَّهُ اليهودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ

أنبيائهم مساجد فاجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قُبِضَ في بيت عائشة. قلت: عَزَمَ الصَّحابة على دَفْنِهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم في المسجد، إذ لم يروا في ذلك حَرَجًا لكن منعهم حديث عائشة وخوف أن يُتَّخذ قبره مسجدًا يُسْجَدُ له.

إعلام الراكع الساجد

۳۹۱

وقال البيضاوي : «ما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلةً يتوجهون في الصَّلاة نحوها، واتخذوها أوثانا، لعنهم ومنع ا المسلمين على مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا للتّعظيم له و لا التوجه نحوه، فلا يدخل في ذلك الوعيد» . اهـ

وقال التوربشتي في "شرح المصابيح" في حديث: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد». هو مُخرَّج على وجهين:

أحدهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء، تعظيما لهم وقصد العبادة في ذلك. وثانيهما: أنَّهم كانوا يرون الصَّلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة الله نظرًا منهم . أن ذلك الصنيع أعظم موقعًا عند الله

لاشتماله على الأمرين: عبادته ومبالغة في تعظيم الأنبياء. وكلا الطريقين غير مرضيَّة؛ أما الأولى فشرك جلي، وأما الثانية فلما فيها من

معنى الإشراك بالله عزّ وجل، وإن كان خفيًّا.

والدليل على ذمّ الوجهين قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم لا تجعل قبري وَثَنَا اشْتَدَّ غضب الله على قوم اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد». والوجه الأول أظهر وأشبه». اهـ

۳۹۲

مباحثات

الصلاة إلى القبر

روى مسلم في "صحيحه" عن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوِي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا تَجْلِسُوا على القُبُورِ ولا تُصَلُّوا إليها».

قال العلماء: «النهي في الحديث للكراهة».

قال البخاري : رأى عمرُ أنس بن مالك يُصلِّي عند قبر فقال : القَبْرَ القَبْرَ، ولم يأمره بالإعادة». قال الحافظ : «استنبطه من تمادي أنس على الصَّلاة، ولو كان ذلك يقتضي

فسادها لقطعها واستأنف».

قال: وأثر عمر رويناه موصولاً في كتاب "الصَّلاة" لأبي نعيم شيخ البخاري ولفظه: «بينما أنسٌ يُصَلِّي إلى قبر، ناداه عمر: القبر القبر. فظنَّ أَنَّه يعني القمر، فلما رأى أنه يعني القبر؛ جاز القبرَ وصَلَّى». اهـ

وعلى الكراهة التشبه بعباد القبور.

هل بناء المسجد على القبر كبيرة؟

عده الفقيه ابن حجر الهيتمي في "الزواجر " من الكبائر، وعَدَّ معه إيقاد الشرج على القبر، وزيارة النساء لها، واستدل بحديث ابن عباس الذي مرَّ بيان ضعفه. ثم قال: ولم أرَ مَن عَدَّ شيئًا من ذلك كبيرة، بل كلام أصحابنا مصرح بالكراهة، دون حرمتها فضلا عن كونها كبيرةً، فليحمل كون هذه كبائر على ما إذا عَظُمت مفاسدها، ذكر هذا في آخر كتاب الجنائز.

وعد في صلاة الجماعة ستّ كبائر أخرى، وهي: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد

إعلام الراكع الساجد

۳۹۳

الشرج عليها، واتخاذها أوثانًا، والطَّواف بها، واستلامها، والصَّلاة إليها. ثُمَّ قال: عَدُّ هذه السنة . من الكبائر وقع في كلام بعض الشَّافعية وذكر مأخذه في ذلك، وقال: واتَّخاذ القبر مسجدًا معناه الصَّلاة إليه أو عليه وحينئذ فقوله: والصلاة إليها، مُكرَّر ، إلَّا أن يراد باتخاذها مسجدا الصَّلاة عليها فقط.

الخلاصة

أن اتخاذ القبر مسجدا معناه الصَّلاة إليه أو عليه، كما سبق بيانه، وأكده كلام ابن حجر الفقيه.

وأن بناء المسجد على القبر، ليس في تحريمه حديث صحيح صريح، وحديث أولئك شرار الخلق الإشارة فيه إلى من نحت التماثيل وعبدها أو

نحتها، لا إلى بناء المسجد، بل هو جائز على الأصل، والله أعلم. «تنبیه»: كتاب "الزَّواجر" لابن حجر الهيتمي الفقيه لم يُؤلف مثله في هذا الباب، وهو أوسع وأجمع من كتاب "الكبائر" للذهبي، ومن كتاب "الكبائر " لابن القيم، إلَّا أنَّه ذكر كثيرًا من الكبائر لا دليل عليها إلَّا أحاديث أو آثارًا ضعيفة، فهو في حاجة إلى تلخيص وتهذيب، وفق الله بعض أهل العلم أن يقوم بذلك أحسن قيام.

إشكال

قال الحافظ في "فتح الباري" عند الكلام على حديثه صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لَعَنَ اللهُ اليهود والنصارى»، ما نصه: «وقد استشكل ذكر النصارى فيه؛ لأن اليهود لهم أنبياء، بخلاف النَّصارى ، فليس بين عيسى وبين نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم نبي غيره، وليس له قبر.

٣٩٤

مباحثات

والجواب: أنَّه كان فيهم أنبياء أيضًا لكنهم غير مرسلين كالحواريين، ومريم في قول، أو الجمع في قوله أنبيائهم بإزاء المجموع من اليهود والنصارى، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده قوله في رواية مسلم: «كانوا يتَّخِذونَ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد». ولهذا لما أفرد النَّصارى في الحديث الذي سبق -يعني حديث الكنيسة قال: «إذا ماتَ فيهم الرَّجُلُ الصَّالِحُ»، وما أفرد اليهود في الحديث الذي بعده قال: «قبور أنبيائهم، أو المراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعًا أو اتباعًا فاليهود ابتدعت والنَّصارى اتبعت ولا ريب أنَّ النَّصارى تُعظم قبور كثير من الأنبياء، الذين تعظمهم اليهود».اهـ

إشكال آخر

حديث: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» حديث صحيح، لكن فيه إشكال لم أجد من تنبه له أو أشار إليه، ولم أهتد لحله والجواب عنه، فمن وجد جوابًا صحيحًا مقنعا فليبينه مشكورًا مثابًا عليه عند الله تعالى، نسأله سبحانه أن يوفقنا لفهم كلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهما صحيحًا،

موافقا لقواعد الشريعة، وبالله التوفيق.

والإشكال المشار إليه، يتبيَّن بوجوه:

الوجه الأول: أنَّ اليهود لعنهم الله نسبوا إلى الله مالا يليق بجلاله، قالوا: إنَّ الله فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولةٌ، وقالوا: لما خلق الله السَّماوات والأرض استراح يوم السبت ونسبوا إلى الله الندم، وقالوا: لما سلط عليهم

إعلام الراكع الساجد

٣٩٥

بختنصر فقتل فيهم وشرَّدهم إلى بابل نَدِمَ على ذلك وشَدَّ شَعْرَ رأسه حَسْرَةً

وندامة.

ويعتقدون في الله أَنَّه ،جسمٌ، تعالى عن قولهم علوا كبيرًا، فمن ينسب إلى الله

هذه النقائص لا يتصوّر منه أن يتخذ قبور أنبيائه مساجد.

الوجه الثاني: أن اليهود لعنهم الله، آذوا أنبيائهم قال الله تعالى: ياتها الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ اذَوْا مُوسَى فَبَرَّاهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَحِيهَا ﴾

[الأحزاب: ٦٩] ثبت في "الصحيحن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كانت بنو إسرائيل يَغْتَسِلُونَ عُرَاةٌ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلى سَوْءَةَ بَعْضٍ، وكان موسى عليه السَّلام يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يَغْتَسِلَ معنا إلا أنه آدَرُ، فَذَهَبَ يَغْتَسِلُ يومًا فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ قال: فجَمَعَ موسى عليه السَّلام بأَثَرِهِ، يقول ثوي حَجَر ثوي حَجَر، حتَّى نَظَرَتْ بنو إسرائيل إلى سَوْءَة موسى وقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحَجَرُ حين نُظِرَ إليه، فأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بالحَجَرِ ضَرْبًا». وللحديث طرق في

صحيح البخاري وغيره.

ومع

هذا طعن فيه الشَّيخ عبدالوهاب النجار في "قصص الأنبياء"، وتكلم فيه بكلام دلّ على جهله بقواعد علم الحديث والأصول، مع جرأته على القول بغير علم ولا تثبت.

وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، يَنقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ

٣٩٦

مباحثات

أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ﴾ [الصف: ٥]. وجاء في إذاية قومه له روايات

منها ما رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس في قصة قارون أَنَّهُ اتَّفق مع

بني إسرائيل أن يتهموا موسى عليه السلام أنَّه زنى ببغي من بغاياهم. ومنها: ما رواه الحاكم وغيره عن ابن عبّاس، عن علي رضي الله عنهما قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون عليه السلام فقالت بنوا إسرائيل الموسى عليه السلام أنت قتلته، كان أشدَّ حبّاً لنا منك وألين، فأذوه في ذلك؛ فأمر الله الملائكة عليهم السّلام فحملوه فمرُّوا به على مجالس بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته، فبرأه الله من ادعائهم بقتله.

ومنها: قولهم له: اجْعَل لَّنَا إِلَهَا كَمَا لَهُمْ الهَهُ ﴾ [الأعراف: ۱۳۸] . ومنها قولهم :له : فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلَا إِنَّا هَهُنَا فَعِدُونَ

[المائدة: ٢٤].

ومنها: أنهم رموه بالسحر والجنون. وقد فعلوا هذا كله وغيره مع موسى عليه السَّلام وهو أكبر أنبيائهم وصاحب (التَّوراة) التي فيها شريعتهم.

وآذوا داود عليه السَّلام، اتهموه بأنه عَشِقَ امرأة أوريا وزنى بها، وأخبرته أنها حملت منه وخاف الفضيحة فأرسل إلى زوجها وكان في غزوة، بحجة أن يسأله . ، عن سير القتال، وقصد أن يُلمَّ بزوجته؛ فتنتفي التهمة عنه، ولكن أوريا كان تقيا، لم يجب أن يتمتع بزوجه، وإخوانه في القتال، فنام على باب داود،

إعلام الراكع الساجد

۳۹۷

فأرسل إلى قائد الجيش يأمره أن يجعل أوريا في الذين يحملون التابوت فلا

يرجع حتّى يموت أو ينتصر، فمات.

وهي ا ، القصَّة المشار إليها في القرآن بنبأ الخصم، غير أنَّ المفسرين لطَّفوها فقالوا: إنَّه لما رأى امرأة أوريا وأعجبته طلب من زوجها أن يتنازل عنها له. والقصة مكذوبةٌ من أصلها، بجميع ما قيل فيها، كما بينته في "قصة داود عليه السلام".

وأنكروا نبوَّة سليمان عليه السَّلام وقالوا: كان ملكًا حكيما بنى ملكه على السحر، قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَنُ ﴾ [البقرة: ١٠٢].

وقالوا عن عيسى عليه السلام: إنه ابن يوسف النجار، ورموا مريم عليها السلام بالزنا، قال الله تعالى: وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَنا عَظِيمًا ﴾ [النساء: ١٥٦].

فكيف تتفق أذيَّتهم للأنبياء مع اتخاذ قبورهم مساجد؟!!

الوجه الثالث:

أن اليهود لعنهم الله قتلة الأنبياء والصالحين، سجل الله عليهم ذلك في عدة آيات من القرآن الكريم:

في سورة البقرة): ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِنَايَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ

النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: ٦١].

أَفَكُلَمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا

تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: ۸۷] .

۳۹۸

مباحثات

قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: ٩١]. وفي سورة آل عمران): إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِنَايَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ

بِغَيْرِ حَقِّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم

بعذاب أليم ﴾ [آل عمران: ۲۱].

ذالك بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِنَايَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍ ﴾ [آل

عمران: ۱۱۲].

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَةٍ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: ۱۸۱]. قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلُ مِن قَبْلِي بِالْبَيِّنَتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن

كنتم صدِقِينَ ﴾ [آل عمران: ۱۸۳].

وفي سورة (النِّساء): فَبِمَا نَقْضِهِم مِيتَقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِنَايَتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَق ﴾ [النساء: ١٥٥].

وفي سورة (المائدة) : لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَقَ بَنِي إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كلما جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾

[المائدة: ٧٠]

وفي هذه الآيات نكتتان:

إحداهما : أنَّ التَّعبير بالفعل المضارع يَقْتُلُونَ * يُفيد أنَّ قتل اليهود للأنبياء

عليهم السلام، يتجدد مرةً بعد أخرى، ولم ينقطع في وقت من الأوقات.

إعلام الراكع الساجد

۳۹۹

والأخرى: أنَّ قوله تعالى: أَفَكَلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ

اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: ۸۷].

كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾

[المائدة: ٧٠].

لفظ: «كلما فيهما يفيد التكرار والعموم، والمعنى أن اليهود في جميع عصورهم، لا يخلو حالهم مع أنبياءهم من أمرين: التكذيب أو القتل، ولا يمكن أن يقال : مرَّ عليهم عصر الم يقتلوا فيه نبيًّا أو صالحا؛ وينبني على هذا:

الوجه الرابع أن قتل الأنبياء أمر عادي عند اليهود لعنهم الله، لا يرون فيه ما ينكر أو

يستقبح، بل قد يفتخرون به.

كما في شأن عيسى عليه السَّلام، زعموا أنَّهم قتلوه وقالوا متبجحين

مستهزئين: إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ [النساء : ١٥٧].

الوجه الخامس:

أنهم لإصرارهم على عادتهم الخبيثة في قتل الأنبياء، حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مرَّتين، مع أنهم كانوا ينتظرون ظهوره ويستنصرون

به إذا حاربوا أعدائه.

قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَفِرِينَ ﴾ [البقرة: ٨٩].

ثبت في "الصحيحين" وغيرهما أنهم سموا ذراع شاة وقدَّموها للنَّبيِّ

٤٠

مباحثات

صلى الله عليه وآله وسلم فذاق منها وأخبرته الذراع أنها مسمومة، وبقي أثرها يعاوده كل سنة حتّى قال عند انتقاله إلى الرفيق الأعلى: «ما زالت أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعاوِدُني حتَّى كان هذا أوانُ انقطاعِ أَبْهَرِي»؛ فمات صلى الله عليه وآله وسلم

شهيدا.

ومرة أخرى خرج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى يهود بني | النضير يستعينهم في دية قتيلين من حلفائهم، فقالوا: نَعَم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه اجلس حتَّى تَطْعَم وترجع بحاجتك وجلس النبي إلى جنب جدارٍ من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لم تجدوا الرجل على مثل حاله هذه فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرةً فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمر بن جَحَّاش، فقال: أنا لذلك، وصعد ليُلْقِي عليه صخرة كما قال. فأتى الخبر إلى النبي - منى الله عليه وآله وسلم من السماء بما أرادوا به من الغدر فقام راجعا إلى المدينة، ومعه أبو بكر وعمر وعلي وغيرهم من الصحابة. فتاريخ اليهود لعنهم الله - سلسلة اعتداءات متوالية، كفروا بآيات الله وكذَّبوا أنبيائهم وآذوهم وقتلوهم وقتلوا صلحائهم، ونفوا نبوَّة سليمان وقتلوا يحيى وزكريا، وقدموا رأس يحيى هديَّة لراقصة عاهرة؛ فكيف يمكن مع هذا

أن يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؟!!

الوجه السادس :

أنَّه لا يُعرف قبر نبي إسرائيلي أو صالح منهم في مكان معين بالتحديد، فكيف يتخذون قبورهم مساجد وهم يجهلونها؟!

إعلام الراكع الساجد

٤٠١

وقال زُكْرَة بن عبد الله سمعتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:

لو أعرفُ قَبْرَ يحيى بن زكريَّا لزُرْتُهُ».

قال ابن عبدالبر : إسناده ليس بالقوي فضعفه قريب».

الوجه السابع: أنَّ اليهود يؤمنون بإله واحد، وإن كانوا يعتقدون فيه بالتجسيم والتشبيه، وكنائسهم خالية لا قبر فيها ولا صورة، والطَّائفة العُزيرية منهم انقرضت قبل عهد النبوة، وهم لا يعرفون قبر عُزير أيضًا.

الوجه الثامن:

أن القرآن العظيم ذكر أنواع المعبودات التي عبدها المشركون من عهد نوح عليه السلام، فذكر الملائكة وعيسى وعُزيرا والشَّيطان وفرعون والجن والشَّمس والقمر والشِّعرى والكواكب ووَدًّا وسُواعًا وَيَغُوث ويَعُوق ونَسْرًا

وعجل السَّامري وبَعْلًا واللات والعُزَّى ومَنَاة والتماثيل والأصنام. وجاء في كتب السيرة ذكر إساف ونائلة وهبل، والنار معبودة فارس. ولم يأتِ في القرآن ولا كتب السيرة أنَّ قبرًا عُبد من دون الله، أو حصل به إشراكا كما حصل في المعبودات المذكورة.

٤٠٢

الخلاصة

مباحثات

يتلخص مما مرَّ أمورٌ :

أحدها: أن حديث لَعَنَ اللهُ اليهود موقوف عن العمل به حتّى يوجد وجه للجمع بينه وبين ما سبق من الوجوه المذكورة؛ لأنَّه لا يجوز العمل بدليل مع وجود ما يعارضه.

ثانيها: أنَّ السُّجود للقبور وعبادتها شرك صريح معلوم من الدين بالضرورة، كعبادة الأوثان والأصنام.

ثالثها: أنَّ بناء المسجد على القبر غير اتَّخاذه مسجدا، وغير دفن الميت في

مسجد مبني.

أما الأول: فقد بيناه فيما سبق بدليله.

وأما الآخر : فقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبدالله الأنصاري: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب قالا : قال أبو بكر: أين يُدفن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم؟ قال قائل منهم: عند المنبر وقال قائل منهم: حيث كان يُصلِّي يؤم

النَّاس.

وقال أيضا : أخبرنا معن بن عيسى أخبرنا مالك بن أنس أنه بلغه أنَّ

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما تُوفِّي قال ناسُ: يُدفن عند المنبر . فهؤلاء النَّاس لم يُشيروا بدفنه صلى الله عليه وآله وسلم عند المنبر، أو حيث كان يؤم النَّاس، إلا لعلمهم بأنَّ هذا لايدخل في بناء مسجد على القبر

إعلام الراكع الساجد

٤٠٣

وهؤلاء كانوا صحابة.

وهنا ينتهي ما أردته من الكلام على معنى اتخاذ القبور مساجد، وفي كتاب "إتقان الصنعة" تكلمت على الصَّلاة في مسجد فيه قبور وبينت صحتها،

فلينظره من أراد ذلك.

وبالله التوفيق.

٤٠٤

مباحثات

مسائل يجب التنبيه عليها المسألة الأولى

تقرر في علم الأصول أنَّ الأمة الإسلامية لا تجتمع على ضلالة، لقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يَجْمَعُ اللَّهُ أُمَّتِي على الضَّلالَةِ» وله طرقٌ كثيرة ذكرتها في تخريج أحاديث "منهاج البيضاوي"، وهو متواتر، فالأمة معصومة في إجماعها عن الخطأ والضَّلال، وهذا مُقرَّر في علم الأصول بأدلته.

المسألة الثانية

ضاق المسجد النبوي عن المصلين، فلم يعد يستوعبهم بعد الزيادة التي زادها عمر وعثمان رضي الله عنهما فأمر الوليد بن عبدالملك عامله على المدينة المنورة عُمر بن عبدالعزيز بهدم بيوت أمهات المؤمنين وإدخالها في المسجد توسعة له، فدخل فيه بيت عائشة رضي الله عنها وفيه القبور الثلاثة، فبكى

يومئذ كثير من الناس على هدم البيوت لا على دخول القبور في المسجد. وكان لا بدَّ من الهدم؛ لأنَّ المصلحة اقتضته، والذي قام بذلك ونفذه عُمر بن

عبدالعزيز العالم الصالح، ولمير هو ولا غيره من العلماء أن إدخال القبور في المسجد مخالف للدين وللحديث ومباين لمقاصد الشريعة، ثُمَّ تولى الخلافة بعد ذلك وكان خليفة راشدًا فلم يَبْنِ جدّار يحجز بين القبر الشريف والمسجد، ولم يقترح عليه ذلك أحدٌ من العلماء في عصره، ثُمَّ جاء أئمة المسلمين لزيارة المسجد النبوي وفيه القبور، فلم يُنكروا ذلك.

وكان الإمام مالك مسموع الكلمة عند أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي،

إعلام الراكع الساجد

٤٠٥

ولو أشار عليه بعمل حاجز بين الروضة والمسجد لنفذه في الحال، لكنه لم يُشر

عليه بذلك.

وتوالت القرون، والمسجد النبوي يُزار من طبقات الأمة على اختلاف أنواعها، والروضة الشريفة داخله يزورنها ويتبركون بها، وأهدوا لها الهدايا

المختلفة، وهذا إجماع قطعي يُفيد أنَّ وجود القبر في المسجد لا شيء فيه. يضاف إلى هذا الإجماع القطعي حديث: «ما بين قبري ومنبري روضَةٌ من رياض الجنة». وهذا الحديث ترجم له البخاري بقوله: «باب فضل ما بين القبر والمنبر»، وإن كان قد رواه بلفظ: «بيتي» فللإشارة إلى أنَّ قبره في بيته وجاء في "صحيح البخاري" بلفظ : «قبري» في رواية ابن عساكر، ورواه جماعة بلفظ قبري أيضا.

قال البزار : حدثنا محمد بن عبدالرحيم: ثنا محمد بن إسحاق: حدثتني عبيدة بنت نابل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله

وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري، أو قبري ومنبري روضة من رياض الجنة». قال الحافظ الهيثمي : رجاله ثقات». قلت: سعد هو ابن أبي وقاص،

ومحمد بن إسحاق روى له البخاري، وهو ضعيف في روايته عن مالك. وقال البزار أيضًا: حدثنا عبدالصمد ابن سليمان المروزي: ثنا أبو نباته: ثنا سلمة بن وَرْدَان ، عن أبي سعيد بن المعلى عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما بين قبري ومنبري روضةٌ من

رياض الجنة».

وقال الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق": أخبرنا الحسن بن أبي

٤٠٦

مباحثات

بكر: أخبرنا أحمد بن إسحاق بن نيخابَ الطيبي: ثنا الحسن بن المثنى: ثنا عفان: ثنا عبدالواحد بن زياد : ثنا إسحاق بن شرفي مولى ابن عمر قال: حدثني أبو بكر بن عبدالرحمن بن عبد الله بن عمر ، عن ابن عمر قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة».

وقال الخطيب في الموضح " أيضًا (١/ ٤٣١): أخبرني الأزهري: حدثنا علي بن عمر الحافظ : حدثني محمد بن محمد بن داود السجستاني: ثنا مكي بن عبدان: ثنا يحيى بن محمد بن يحي الذهلي: حدثنا أحمد بن المنذر القرشي : ثنا

مالك . عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة».

ورواه أبو نعيم في "الحلية" من طريق عبدالله بن نافع، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنَّة، وإنَّ مِنبَري لعلى حَوْضي».

وللحديث طرقٌ عن أبي سعيد الخدري، وأم سلمة، وعبدالله بن زيد، وجابر بن عبدالله وعمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وأسانيد أحاديثهم مذكورة

في كتاب "إحياء المقبور" وهو حديث صحيح جدا، ويؤخذ منه أمران: أحداهما : استحباب زيارة القبر الشَّريف والصَّلاة في الروضة الشريفة. والآخر: الإشارة إلى إدخال القبر في المسجد ؛ لأنَّه لا يتيسر أن يكون ما بين القبر والمنبر روضة إلَّا بكونهما داخل المسجد لا خارجه، وهذا مُدرَك بالضرورة الحسية.

إعلام الراكع الساجد

٤٠٧

فاقتراح بعض المتزمتين في هذا العصر أن يبني جدار يحجز الروضة الشريفة عن المسجد، خروج عن إجماع الأمة، وغفلةٌ عما يُفيده الحديث، وتنطع

يأباه الدين.

.

المسألة الثالثة

الله عنه انفلت من المشركين بعد

أول ما بني المسجد على القبر، في العهد النبوي. وبيان ذلك: أنَّ أبا بصير الثقفي رضي ا صلح الحديبية، وذهب إلى سيف البحر، ولحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو، انفلت من المشركين أيضًا، ولحق بهم أناس من المسلمين حتى بلغوا ثلاثمائة، وكان يُصلّي بهم أبو بصير، وكان يقول: «الله العلي الأكبر، من ينصر الله فسوف يُنصر». وهذا رَجَزُ.

فلما لحق به أبو جندل، كان هو يؤمهم وكان لا يمر بهم عِيرٌ لقريش إلَّا

أخذوها وقتلوا أصحابها.

فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم تُناشده الله والرَّحم إِلَّا أرسل إليهم، فمن أتاك . . منهم فهو آمن، وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه، ومن معهم من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم.

فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على أبي جندل وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بيده يقرأه، فدفنه أبو جندل مكانه، وبنى على قبره مسجدا.

رواه موسى بن عقبة في "المغازي"، وابن إسحاق في "السيرة" عن

٤٠٨

مباحثات

الزهري، عن عروة، عن المسور ومروان.

وكان الإمام مالك يقول : عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة؛ فإنها أصح المغازى». وكان يحيى بن معين يقول: «كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب».

قال أخي في كتاب "إحياء المقبور": "وبلا شك يدري كل ذي حس سليم يعرف سيرة الصحابة مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه لا يمكن

إحداث أمر عظيم مثل هذا ولا يذكرونه له صلى الله عليه وآله وسلّم. وكذلك يستحيل أن يحدث مثل هذا من أصحابه ويكون حراما يجر إلى كفر وضلال ثُمَّ لا يُعلمه الله تعالى به كما أعلمه بمسجد الضرار وبقصد أصحابه من بنائه، وأمر بهدمه، فإذن لا شك أنّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم علم ببناء المسجد على قبر أبي بصير ولم يأمر بهدمه؛ إذ لو أمر بذلك لنقل في الخبر نفسه، أو في غيره لأنه شرع لا يجوز أن يضيع . اهـ

ويؤيد هذا أنَّ أبا جندل رجع إلى المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فلا بد أنَّه حكى له جميع أعمالهم في سيف البحر. و«سيف»: بكسر السين، ساحل البحر.

المسألة الرابعة

لا يوجد دليل على حرمة الصَّلاة في مسجدٍ فيه قبور، ولم يقل أحد من

الأئمة بذلك، بل هم مجمعون على وجود القبور في المسجد النبوي. وحديث: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ اتَّخذوا مِن قُبور أنبيائهم مساجد» لا يجوز

الاستدلال به من جهة معارضة القرآن ،له ولا يوجد وجه للجمع بينهما.

إعلام الراكع الساجد

٤٠٩

وحديث: أولئك إذا كان فيهم الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنوا على قبره مسجدا وصَوَّروا فيه تلك الصُّوَرَ أولئك شرار الخَلْقِ . عند الله يوم القيامة». سبب وروده أنَّ أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنهما رأتا بالحبشة كنيسة يقال لها: مارية، فيها تماثيل وتصاوير، فأخبر النبيُّ صلَّى الله عليه

وآله وسلم أنَّ وضْعَ التَّصاوير في أماكن عبادتهم من قبيح فعلهم، مع

التصاوير منهي عنها في البيوت فكيف بأماكن العبادة؟!.

أنَّ

فالدم في الحديث منصب على التصاوير لا على بناء المسجد، لأنه يوافق القرآن

في قول الله تعالى: غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا } [الكهف: ٢١]. ويؤيد هذا أنَّ عمر رضي الله عنه لما ذهب إلى بيت المقدس وعزمه راهب أن يتغدى عنده في الكنيسة قال له :عمر: إنَّا لا ندخل كنيستكم لما فيها من التصاوير، وتغدى معه خارجها، فالتصاوير هي مصدر الدم ومبعثه. استدل بالحديث على حُرمة بناء المسجد على القبر، لم يفهم معناه

لغفلته

عن سبب وروده.

المسألة الخامسة

اعترض المبتدع الألباني، على أخي في استدلاله لبناء المسجد على قبر بآية (الكهف)؛ لأنَّ الله تعالى أقرهم على ما قالوا، وبنى اعتراضه على أمرين: الأول: «لا يصح اعتبار عدم الردّ عليهم إقرار لهم، إلَّا إذا ثبت أنهم كانوا ، مسلمين صالحين، وليس في الآية إشارة إلى ذلك، بل يُحتمل أنهم كانوا كفار وفُجار وهو الأقرب».

٤١٠

مباحثات

الثاني: «أَنَّ الله رَدَّ صنيعهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم وذكر حديث: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ اتَّخذوا مِن قُبور أنبيائهم مساجد». ثُمَّ قال: «فَأَيُّ رَدُّ أوضح من هذا؟».

وذكر أن من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث الصحيحة كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام، بقوله تعالى في الجن المذللين لسليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن تَحْرِيبَ وَتَمَثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ راسيت ﴾ [سبأ: ١٣]» . اهـ

وما أبداه خطأ محض لا نصيب له من الصواب وبيان ذلك:

أن احتمال أن يكون مقترحو بناء المسجد كفَّارًا بعيد جدا يأباه السياق، وإن قال به بعض المفسرين والصواب ما ذكره ابن عباس والسدي وغيرهما أنَّ أهل البلد كان فيهم مشركون ينكرون البعث ومَلِكها ومن معه ،مسلمون، فلما عثروا على أهل الكهف، وعلم أهل البلد أنهم قاموا بعد ،قرون، انتصر الملك على منكري البعث بدليل مادي محسوس، و س، ولما رجع الفتية إلى كهفهم تنازع أهل البلد في شأنهم، فقال المشركون ابنوا عليهم بنيانا، وقال الذين غلبوا على أمرهم، هم

الملك وأصحابه : لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ﴾ [الكهف: ٢١]. ومن المعقول جدا أن يبني المسلمون على فتية مؤمنين، وليس من المعقول

أبدًا أن يقترح المشركون بناء مسجد ولا يوافقون عليه.

ولم يقع ولا يجوز أن يقع أن يحكي الله تعالى عملا أو قولا لكافرٍ ثُمَّ يُقره عليه.

إعلام الراكع الساجد

وإليك أمثلة من ذلك :

٤١١

نبه الله على مسجد الضّرار وفساد نيَّة بانييه، وقال لنبيه صلى الله عليه وآله

وسلَّم: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ﴾ [ التوبة: ١٠٨].

وقال اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه، فرد عليهم بقوله : فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ [المائدة: ۱۸] .

وقال اليهود يد الله مغلولةٌ فردَّ عليهم: غُلَتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا

[المائدة ٦٤].

وقال اليهود: «إنَّ الله فقير ونحن أغنياء»، فردَّ عليهم: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: ۱۸۱]. وقال المشركون: «اتَّخذ الرحمن ولدا»، فردَّ عليهم: سُبْحَنَهُ، بَلْ عِبَادُ تكرمون [الأنبياء: ٢٦].

وهكذا لا نجد قولا لكافر أو مشرك يحكيه الله تعالى إلَّا أعقبه برده، وهذا

ما يرجح أن مقترح بناء المسجد على أهل الكهف مسلمون. و حديث: «لَعَنَ اللهُ اليهودَ اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد». لا يصح

الاستدلال به ولا يجوز العمل به لما سبق من بيانه فالاستدلال بآية (الكهف) صحيح لا يوجد ما يعارضه، وتنظير الاستدلال بها بالاستدلال بآية (سبأ)، غفلة كبيرة عن سياق الآيتين.

والسياق يجب اعتباره في الكلام على أي آية من القرآن الكريم، وترك اعتباره يوقع في خطأ كبير، كما هنا، فسياق آية (سبأ) في الكلام على الملك الذي

٤١٢

مباحثات

خص الله به سلیمان عليه السَّلام حيث قال رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنْبَغِي لأحدٍ مِنْ بَعْدِي [ ص: ٣٥]، فأجاب الله له وذكر تسخير الجن من جملة ما خصه به، فالاستدلال بها على إباحة التماثيل لا يصح ولا يجوز.

يُؤيد ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمسك شيطانا كان يشغله في صلاته، وخنقه حتى سال لعابه على يديه الشريفة، وهَمَّ أنْ يربطه بسارية في المسجد حتَّى يُصبح ويراه صبيان المدينة. قال: «ثُمَّ تذكرت قول أخي سليمان:

هَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِن بعدي؛ فَأَطْلَقْتُهُ». فهذا الحديث يُبيّن أنَّ ما أعطيه سليمان خاص به، لا يكون لغيره ولا يجوز له، أما سياق آية (الكهف)، فهو يختلف عن هذا غاية الاختلاف حسبما مَرَّ

بيانه بالتفصيل.

المسألة السادسة

حديث الصحيحين: «لا تُشدُّ الرّحالُ إلَّا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي، والمسجد الأقصى».

أخذ بظاهره بعض العلماء فمنع السفر إلى غير هذه المساجد المذكورة في الحديث. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه يقتضي منع السفر للتجارة، وطلب العلم، وصلة الرحم وغير ذلك. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «قال بعض المحققين قوله: «إِلَّا إلى ثلاثة مساجد» المستثنى منه ،محذوفٌ، فإما أن يُقدَّر عاما فيصير: لا تُشدُّ

الرحال إلى مكان في أي أمرٍ كان إلَّا إلى ثلاثة مساجد، أو أخص من ذلك.

إعلام الراكع الساجد

٤١٣

لا سبيل إلى الأوّل لإفضائه إلى سدّ باب السفر للتجارة، وصلة الرحم،

وطلب العلم، وغيرها؛ فتعيَّن الثاني والأولى أن يُقدر ما هو أكثر مناسبة وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصَّلاة فيه إلَّا إلى المساجد الثلاثة، فيبطل بذلك قول من

منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين والله أعلم. وقال السبكي الكبير: ليس في الأرضِ بُقْعَةٌ لها فضل لذاتها حتَّى تُشَدَّ الرحال إليها غير البلاد الثلاثة، ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره، ورتب عليه حكما شرعيًّا، وأمَّا غيرها من البلاد فلا تشد الرحال إليها لذاتها،

بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات. قال: وقد التبس ذلك على بعضهم، فزعم أنَّ شدَّ الرحال لمن في غير الثلاثة داخل في المنع، وهو خطأ، لأنَّ الاستثناء إنَّما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث : لا تُشدُّ الرحال إلى مسجد من المساجد، أو إلى مكان من الأمكنة، لأجل ذلك المكان إلَّا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال إلى زيارة، أو

طلب علم ليس إلى المكان، بل من في ذلك المكان».اهـ

ويؤيده ما رواه أحمد من طريق شَهر بن حَوْشَب قال: سمعت أبا سعيد - وذكر عنده الصَّلاة في الطُّور - فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم:

لا ينبغي للمُصلِّي أن يشد رحاله إلى مسجد تُبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومسجدي» قال الحافظ: وشهر حسن الحديث، وإن كان فيه بعض الضعف» . اهـ

وروى البزار . عائشة

عن

رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلَّم: «أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحقُ

٤١٤

مباحثات

المساجد أن يُزار ويشد إليه الرَّواحل: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى،

ومسجدي». في سنده عن موسى بن عُبيدة الربدي وثقه ابن سعد ووكيع، والجمهور ضعفوه لكنهم وصفوه بالصلاح.

وقال زيد بن الحباب : كنا عند موسى بن عبيدة بالربذة، فأقمنا عنده ومرض ومات، فأتيت قبره ومعي رفيق لي، فجعل ريح المسك يفوح من قبره، فجعلت أقول لرفيقي: أما تَشمُّ؟ أما تَشمُّ؟ وليس بالربذة يومئذٍ مِسك ولا

عنبر.

قال البزار: «موسى بن عُبيدة رجل مفيد وليس بالحافظ وأحسب إنما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة».

وهذا الحديث مُؤيَّد بحديث شَهْر، وهما يُفيدان ترك شد الرحلة إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، فلو نذر شخص صلاة ركعتين أو أكثر، بجامع القرويين أو الأزهر، لم يلزمه أن يشدَّ الرّحلة إليه، ويفي بنذره بالصَّلاة في أي مسجد ببلده.

ولو نذر الصَّلاة في أحد المساجد الثلاثة لزمه الرّحلة إليها عند الجمهور، لأنها مساجد الأنبياء. وروى أبو الفتح الأزدي، وأبو الحسن العسكري، وأبو موسى المديني من طريق بقيَّة، عن عمرو بن عتبة، عن أبيه، عن زيادة بن سمية: سمعت زكرة ابن عبدالله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لو أعرفُ مَوْضِعَ قَبْرِ يحيى لزُرْتُهُ».

إعلام الراكع الساجد

٤١٥

قال أبو حاتم زيادة بن سمية ليس هو الأمير المشهور الذي استخلفه معاوية، وقال ابن عبد البر : ليس إسناده بقوي، ومن المعلوم أن قبر يحيى عليه

السَّلام بالشّام، فالحديث يُفيد جواز الرحلة لزيارة القبور.

والقرآن يؤيده في ذلك لأنَّ الله تعالى رخص في كتابه الكريم للمسافر أن يتيمم، ويقصر الصَّلاة، ويُفطر في رمضان، ولم يقيد السفر بأن يكون للمساجد الثلاثة، بل جعله سفرًا عاما يشمل السَّفر للتجارة، وطلب العلم، وصلة الرحم، وزيارة الإخوان والصَّالحين أحياء وأمواتا، وزيارة الفسحة والنزهة، وكل سفر واجب أو مندوب أو مباحٍ، وهذا هو اليسر الذي أراده الله لنا في قوله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: ١٨٥] المسألة السابعة

تواتر عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهُورًا، فأيُّها رَجُلٌ مِن أُمَّتي أدركته الصَّلاةُ، فعنده مسجده وطهوره». وهذا

من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع العلماء.

والخصائص لا تُنسَخ ولا يُستثنى منها، ولهذا حمل العلماء الحديث الوارد في النهي عن الصَّلاة في المقبرة على الكراهة ولم يحملوه على البطلان، بل حتَّى مَن حَمَل النهي على التحريم قال: إنَّ الصَّلاة صحيحة، ونص الحافظ البيهقي، والحافظ ابن عبد البر، والحافظ بن حجر على أن حديث: «لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها محمول على الكراهة فقط، بل رجح حافظ المغرب ابن

عبد البر عدم الكراهة واعتمادهم في ذلك كله على الحديث السابق ذكره.

٤١٦

وهذا نص الفتوى لمفتي الديار المصرية على المذاهب الأربعة:

مباحثات

۱ - قال فقهاء مذهب أبي حنيفة: تُكره الصَّلاة في المقبرة إذا كان القبر بين

يدي المصلي بحيث لو صلَّى صلاة الخاشعين وقع بصره عليه، فإذا كان القبر خلف المصلي وهو مستقبل القبلة فلا كراهة.

٢ - وقال فقهاء مذهب مالك: الصَّلاة في المقبرة جائزة بلا كراهة إذا خلت عن النَّجاسة.

- وقال فقهاء مذهب الشَّافعيّ: تُكره الصَّلاة في المقبرة غير المنبوشة، سواء كانت القبور أمامه أو خلفه، أو على يمينه أو على شماله، أمَّا الصَّلاة في

المقبرة المنبوشة بلا حائل فباطلة لوجود النجاسة بها.

٤- وقال فقهاء مذهب أحمد بن حنبل: إنَّ الصَّلاة في المقبرة التي تحتوي على أقل من ثلاثة قبورٍ صحيحة بلا كراهة إذا لم يستقبل المصلّي القبر، وإن استقبله كانت الصَّلاة مكروهة.

لذا كانت الصَّلاة في المصلَّى المسؤول عنها صحيحة بلا كراهة في فقه الأئمة

أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، ومكروهةً في فقه الإمام الشافعي رحمهم الله». اهـ ومن هنا يُعلم أنَّ من قال أنَّ الصَّلاة في المسجد الذي فيه قبور باطلة، فهو كاذب، ويدخل في قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أجرؤكم على الفتيا

«من

أجرؤكم على النار»، وحديث: من حدث بحديث يظنُّ أنَّه كذب فهو أحد

الكذابين».

والله سبحانه وتعالى أعلم.

٤ - إِعْلَامُ النَّبِيلِ بِجَوازِ التَّقْبِيلِ

إعلام النبيل

٤١٩

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق والمرسلين،

عن

سيدنا محمد وآله الأكرمين ورضي الله عن الصحابة والتابعين.

وبعد: فقد كنتُ طبعتُ جزء إعلام النبيل، بجواز التقبيل" سنة ١٣٥١ هجرية، وبالرغم من نفَاذِه منذ مُدَّةٍ، لم أهتم بإعادة طبعه، حتى كان من نحو سنةٍ كَثر الطلب عليه من جهاتٍ مُتعدّدة، بمصر والشام ونيجيريا وغيرها، فاعتزمت طبعه ثانية بزيادات لم تكن في الطبعة الأولى، والله المسئول أن ينفع به

في هذه المرة كما نفع به في المرة السابقة، إنَّه جواد كريم.

عبد الله بن محمد الصديق الغماري خادم الحديث الشريف

٤٢٠

مباحثات

اقتفى

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى

الحمد الله وكفى، والصَّلاة والسَّلام على نبينا المصطفى، وعلى آله ومن به

هذا جزء سميته: "إعلام النبيل بجواز التَّقبيل" جعلته جوابًا لمن سألني عن تقبيل اليد وغيرها كالرأس، أله أصل في السنة المطهرة؟ أم هو من البدع

المبتكرة المنكرة؟

والله أسأل أن يوفقني فيه للصواب، إنَّه الكريم الوهاب.

إعلام النبيل .

باب

٤٢١

في ذكرما ورد من تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لغيره روينا في "سنن أبي داود والترمذي"، و"النسائي"، و"مستدرك الحاكم" من طريق إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «ما رأيت أحدًا كان أشبه كلامًا وحديثًا من فاطمة عليها السَّلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان إذا دخلت عليه رحب بها وقام إليها، فأخذ بيدها وقبلها، وأجلسها في مجلسه؛ وكانت هي إذا دخل عليها قامت إليه مستقبلةً وقبلت

يده .

قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه»، وقال الذهبي: «حديث

صحيح.

وأخرج ابن الأعرابي من طريق حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان إذا قدم من مغازيه قبل فاطمة عليها السلام. وروينا في صحيحي "البخاري"، و"مسلم" من حديث أبي هريرة قال: ، قبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الحسن بن على عليهما السلام، وعنده الأقرع بن حابس، فقال: إنَّ لي عشرة من الأولاد ما قبلت أحدا منهم، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ قَالَ: «مَن لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ». وروى أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قال: رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه

٤٢٢

مباحثات

وآله وسلم التزم عليا عليه السَّلام وقبله، ويقول: «بأبي الوحيد الشهيد، بأبي

الوحيد الشهيد».

،

وروينا في "مصنف ابن أبي شيبة"، و "سنن أبي داود"، و"جزء القُبل" لابن الأعرابي من طريق على بن مُسْهِرٍ عن الأَجْلَح، عن الشَّعْبِيِّ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم تلقَّى جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبل ما بين عينيه . وأخرجه الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي :

إلا أنه مرسل».

وقد وصله البغوي في "معجم الصَّحابة" وابن عدي في "الكامل" والبيهقي في "الشعب" من حديث عائشة.

لكن في سنده محمد بن عبدالله بن عبید بن عمير وهو ضعيف، كما قال

الحافظ.

ورواه الدارقطني في "السنن" عن عائشة. وبيَّن في "العلل" أنه ورد عنها

من طريقين ضعيفين.

ووصله البيهقي في "الشُّعب" من طريق مجالد بن سعيد، عن الشعبي،

عن عبد الله بن جعفر به نحوه.

ورواه البزار في مسنده" من طريق عبدالرحمن بن أبي مليكة، عن

إسماعيل بن عبدالله بن جعفر، عن أبيه به .

ورواه الحاكم من طريق الأَجْلَح عن الشعبي عن جابر به.

ووصله الطبراني أيضًا في معجمه الصغير" من حديث أبي جحيفة فقال: حدثنا أحمد بن خالد بن مُسَرِّح - بضم أوَّله وفتح ثانيه وكسر ثالثه مُشدَّدًا

إعلام النبيل

٤٢٣

الحراني بحران: ثنا عمي الوليد بن عبد الملك بن مُسَرَّحٍ: ثنا خَلَد بن يزيد، عن مسعر بن كِدَامٍ عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: قدم جعفر بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحبشة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ما بين عينيه، وقال: «ما أدري أنا بقدوم جعفرٍ أ ر أُسر؟

أم بفَتْحِ خَيْبر؟». ضعيف؛ لضعف شيخ الطبراني.

وأخرجه في "المعجم الكبير" من طريق آخر عن أبي جحيفة، قال الحافظ

الهيثمي : «فيه أنس بن سلم لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات». قلت: فيكون مرسل الشَّعبي بانضمام هذه الأحاديث الضعيفة إليه صحيحًا مُحتجا به، حسبما تقرر في عِلْمَي أصول الفقه، ومصطلح الحديث. ورواه الحاكم عن ابن عمر قال: وجه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة، فلما قدم منها اعتنقه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وقبل بين عينيه... وذكر بقيَّة الحديث في تعليمه صلاة التسابيح.

ثم قال الحاكم: «إسناده صحيح لا غبار عليه»، ووافقه الذهبي. وهذا مما يردُّ على من زعم وضع حديث صلاة التسابيح أو ضعفه. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: حدثتني أمي أم الفضل: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم رأى العبّاس مقبلا فقام إليه، وقبل ما بين عينيه، وأقعده عن يمينه ، ثم قال: هذا عمّي فمن شاء فليباه بعمه..... الحديث. قال الحافظ الهيثمي : «إسناده حسن».

وأخرج الترمذي من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عُروة بن الزبير، عن عائشة قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة

٤٢٤

ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في بيتي، . فأتاه

مباحثات

فقرع الباب، فقام إليه

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عُريانا يَجرُّ ثوبه، والله ما رأيته عريانا قبله

ولا بعده فاعتنقه وقبله. قال الترمذي: «حديث حسن».

ورواه أبو نعيم في "دلائل النبوَّة" عن عائشة قالت: بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ امرأة من بني فَزارة يقال لها أم قرفة جهزت ثلاثين راكبًا مِن وَلَدِها ووَلَدِ ولدها وقالت: اذهبوا إلى المدينة فاقتلوا محمدا، فقال: «اللَّهم الكُلها بوَلَدِها وبعث إليهم زيد بن حارثة في بعث، فالتقوا، فقَتَلَ زيد بني

فزارة، وقتل أُم قرفة وولدها فأقبل زيد حتى قدم المدينة ... الحديث.

وروى الطبراني بإسناد جيد كما قال الدميري في "حياة الحيوان"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أذناي هاتان، وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو آخذ بكفيه جميعا حسنا أو حسينًا، وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: «حُزُقَهُ حُزقَةُ، ارْقَ عين بَقَةٍ فيرقى الغلام فيضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلّم. ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلَّم «افْتَحْ فاك»، ثُمَّ قَبَّله، ثُمَّ قال: «اللَّهُمَّ مَن احبه فإنِّي أُحبُّه» أي فَإِنِّي أُحبُّ مَن أَحبَّه.

وهذه بشارة عظيمة لمحبّ الحسن والحسين عليهما السّلام، بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يحبه.

وروينا في "مسند أحمد" من طريق عبد الله بن الحارث قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يَصُفُّ عبد الله بن عباس وأخويه عبيد الله، وكثيرًا بني

إعلام النبيل.

٤٢٥

العباس ويقول: «مَن سَبَقَ إلى فله كذا ؛ فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره

وصدره، فيلتزمهم ويُقبلهم. قال الحافظ الهيثمي : «إسناده حسن». وأخرج قاسم بن أصبغ عن أبي الهيثم : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم

لقيه فاعتنقه وقبله. قال الحافظ : «سنده ضعيف».

وأخرج الخطيب في "المتفق" بإسنادٍ واءٍ، وأبو موسى في "الذيل" بإسناد مجهول، كما قال الحافظ من طريق الحسن، عن أنس: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لما رجع من تبوك استقبله سعد بن معاذ الأنصاري فقال: «ما هذا الذي أرى بيدك؟ قال: من أثر المر والمسحاة أضرب وأنفق على عيالي؛ فقبل

النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يده وقال: «هذه يدٌ لا تمسها النَّارُ». قلت: سعد بن معاذ هذا صحابي آخر غير ذاك المشهور، نبه عليه الحافظ في "الإصابة".

والمر بفتح الميم وشد الراء: مقبض المسحاة.

ورواه الحافظ حمزة بن يوسف السهمي في "تاريخ جُرجان" قال: حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور ببغداد وأبو العباس بن بطانة بالبصرة، قالا: ثنا محمد بن مخلد، قال أبو الفتح: قُرئ على محمد بن مخلد العطار وأنا أسمع في كتاب "المعجم": حدثكم أبو سعيد محمد بن إسحق بن إسماعيل بن الصلت السمسار البلخي: ثنا محمد بن تميم - يعني الفريابي-: ثنا عبد الله بن عيسى الجرجاني: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن مسعر بن كِدَام، عن ابن عون، عن أنس بن مالك، قال: أقبل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم من غزوة تبوك فاستقبله سعد بن معاذ فصافحه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ثُمَّ قال: «يا

٤٢٦

مباحثات

سعد، ما هذا الذي أرى بيدك؟»، فقال: يا رسول الله، أضرب بالمر والمسحاة

فأنفِقُه على عيالي، قال: فقبل يده وقال: «لا تمسها النَّارُ أبدا».

ثُمَّ رواه من طريق أبي بكر محمد بن سعيد بن حم البخاري: ثنا أحمد بن أحيد بن حمدان: ثنا أبو عمرو قيس بن أنيف: ثنا محمد بن تميم الفريابي: ثنا عبدالله بن عيسى الحراني: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن مشعر، عن عون، عن

الحسن، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بذلك. وروى الخطيب وأبو نعيم والديلمي وابن عساكر من طريقين عن البخاري قال: ثنا عمرو بن محمد بن جعفر: ثنا أبو عبيدة معمر بن المثني: ثنا هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت قاعدة أغزل والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يخصف نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نورًا فبُهِت، فقال: مالك بهت؟ قلت: جعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نورا، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنَّك أحق بشعره حيث يقول :

ومبرا من كل غُيَّرِ حَيْضَةٍ وفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءِ مُغْيَلِ وإذا نَظَرْتَ إِلى أَسِرَّة وَجْهِهِ بَرَقَتْ بُرُوقَ العَارِضِ المُتَهَدِّلِ فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان في يده وقام إليَّ فقبل ما بين عيني وقال: جزاك الله يا عائشة خيرًا، فما أذكر أني سُرِرْتُ كسُروري

بكلامك».

قال أبو على صالح بن محمد البغدادي: «لا أعلم أن أبا عبيدة حدَّث عن هشام بن عروة شيئًا، قال: لكن الحديث حسن عندي حين صار مخرجه محمد بن إسماعيل البخاري». اهـ

إعلام النبيل

٤٢٧

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن الأعرابي في "جزء القبل" عن عائشة قالت: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قبل عثمان ابن مظعون حتَّى رأيتُ الدُّموعَ تَسيل على خده. قال الترمذي: «حديث حسن صحيح».

وأخرجه الطبراني من طريق عائشة بنت مطعون: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه

وآله وسلم قبل عثمان بن مظعون على خده بعد ما مات. قال الحافظ الهيثمي: «في إسناده عبدالرحمن بن عفان الحاطبي، وهو

ضعيف.

(تنبيه): قال ابن عِلَّان في "شرح الأذكار": «في "صحيح البخاري" أنَّه لما توفي عثمان بن مظعون جاء صلى الله عليه وآله وسلم وكشف عن وجهه وقبله

وبكى أهله».

قلت: راجعت المواضع التي فيها هذا الحديث من الصحيح، وهي: «باب الدخول على الميت من كتاب الجنائز، وباب القرعة من كتاب الشهادات»، وباب هجرة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه إلى المدينة» من «كتاب الهجرة »، و«بابا رؤية النّساء، والعين الجارية» من «كتاب التعبير»، فلم أجد في شيءٍ منها ذكرًا للتقبيل ولا للبكاء، فهو غير موجود في البخاري جزمًا، وقد صرّح الحاكم في "المستدرك" بأنَّ الشَّيخين لم يخرجاه والله

أعلم.

٤٢٨

مباحثات

باب: في ذكر ما ورد من تقبيل الصحابة وغيرهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم

تقدم حديث عائشة أنَّ فاطمة عليها السَّلام كانت إذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قامت إليه وقبلت يده.

وأخرج الحافظ أبو بكر ابن المقري في "جزء تقبيل اليد" عن جابر أنَّ عـ رضي الله عنه قبل يد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السَّدي في قوله: ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا لَا تَسْتَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: ١٠١] الآية. قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يوما من الأيام فقام خطيبًا فقال: «سَلُونِي فإِنَّكُمْ لا تَسْأَلُون عن شيءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ». فقام إليه رجل من قريش من بني

سهم يقال له عبد الله بن حذافة - وكان يُطعن فيه – فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: «أبوك فلان فدعاه لأبيه، فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: يا رسول الله رضينا بالله رباً وبك نبيًّا وبالقرآن إمامًا، فاعفُ عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي، فيومئذ قال: «الولدُ للفِراش وللعَاهِرِ الحَجَرُ»، وأُنزِل

عليه : قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَفِرِينَ ﴾ [المائدة: ١٠٢]. وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم وابن الأعرابي في "جزء القُبل"، كلُّهم من طريق يزيد ابن أبي زياد: أنَّ عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أنَّ ابن عمر حدثه قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فحَاصَ النَّاسِ حَيْصةٌ

إعلام النبيل .

٤٢٩

فكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثُمَّ قلنا: لو دخلنا المدينة ثُمَّ بتنا. ثُمَّ قلنا: لو عرضنا أنفسنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فإن كانت لنا توبةٌ وإلا ذهبنا. فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال " من القوم؟ فقلنا: نحن الفرَّارون فقال: بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين» قال: فأتيناه حتى قبلنا يده.

قال الترمذي: «حديث حسن».

ورواه سعيد بن منصور، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشَّيخ، وابن مردويه ، والبيهقي في "الشعب" عن ابن عمر به أيضًا. وأخرج أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وابن الأعرابي في "جزء القُبل"، والبغوي في "معجم الصَّحابة" من طريق مطر بن عبدالرحمن الأعنق، قال: حدثتني جدتي أم أبان بنت الوازع بن زارع، عن جدها زارع - وكان في وفد عبد القيس - قال : لما قدمنا المدينة جعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل

يد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ورجليه.

حسنه الحافظ ابن عبد البر، وجوده الحافظ.

وأخرجه أبو يعلى والطبراني والبيهقي من حديث مزيدة بن مالك

العصري باسناد جيد كما قال الزرقاني في "شرح المواهب".

وأخرج أبو بكر ابن المقري في جزء تقبيل اليد" من حديث أسامة بن شريك قال: قمنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقبلنا يده. كذا عزاه

الحافظ مختصرًا وقال: «سنده قوي».

قلت: وأخرجه ابن الأعرابي بلفظ آخر فقال في "جزء القُبل": حدثنا أبو

٤٣٠

مباحثات

سعيد الحارثي إملاء: ثنا سعيد بن عامر: ثنا شعبة: ثنا زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وعنده أصحابه على رؤسهم الطَّير ، فجاء الأعراب فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ قام وقام النَّاس، فجعلوا يقبلون يده، فأخذتها فوضعتها على وجهي، فإذا هي أطيب من ريح المسك وأبرد من الثلج.

وروى أحمد من طريق أبي جعفر الخطمي عن عمارة بن عثمان، عن خزيمة بن ثابت، أنَّه رأى في منامه يُقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك، ونام له صلى الله عليه وآله وسلم، فقبل جبهته عمارة. قال الحافظ الهيثمي : الميرو عنه غير أبي جعفر الخطمي»، وقال تلميذه

الحافظ : «معروف النسب، لكن لم أرَ فيه توثيقاً».

وأبو جعفر أخرج له الأربعة، ووثقه ابن معين، والنسائي، والطبراني، وصحح له الحاكم حديث توسل الضرير على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

وبقية رجال الإسناد رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي.

وأخرج الحافظ أبوبكر بن المقري في "جزء تقبيل اليد"، والبيهقي في "الدلائل" عن أبي لبابة: أنَّه قبل يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت توبته. وأخرج أبو الشَّيخ، وابن مَرْدُويَه ، عن كعب بن مالك قال: «لما نزلت

توبتي أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقبلت يده وركبتيه». ورواه الحافظ أبو بكر ابن المقري في "جزء تقبيل اليد" وزاد أن صاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فعلا ذلك. وإسناده ضعيف، كما قال الحافظ العراقي في "المغني".

إعلام النبيل .

٤٣١

وأخرج ابن الأعرابي في "جزء القبل" قال: حدثنا علي بن عبد العزيز: ثنا شاد بن فيَّاض: ثنا رافع بن سلمة قال : سمعت أبي يحدث عن سالم - يعني ابن أبي الجعد الأشجعي قال عن رجل من أشجع يقال له زاهر بن حرام - بالراء، وقيل: بالزائ- الأشجعي قال: كان رجلًا بدويا، وكان لا يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلا أتاه بطرفة أو هدية فرآه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في السوق يبيع . سلعة ولم يكن أتاه ، فاحتضنه من ورائه بكفيه، فالتفت فأحس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقبل كفَّيه، فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم مَن يَشْتَرِي العَبْدَ؟ قال: إذن تجدني كاسدا، قال: «ولكنك عند الله

ربيع. وقال ابن الأعرابي أيضًا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، قال: قرأنا على عبد الرزاق، عن مَعْمَرٍ، عن رجلٍ، عن الحسن، عن سوادة بن عمرو وكان يصيب من الخلوق فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ لقيه ذات يوم مختصبًا به وفي يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جريدة فطعنه في بطنه وقال: «ألم أنهك عن هذا؟»، فقال: أقدني يا رسول الله، فكشف عن بطنه، فطفق يقبل بطن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم. ورواه البغوي في معجم الصحابة" من طريق عمرو بن سليط، عن الحسن، عن سوادة به. وأخرج أبو داود من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أسيد بن حضير - رجل من الأنصار - قال: بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح- بينما يضحكهم. فطعنه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم في خاصرته بعود، فقال:

٤٣٢

مباحثات

أصبرني قال: «اصْطَبِرْ» قال: إنَّ عليك قميصا وليس على قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه، قال: إنَّما أردتُ هذا يا رسول الله . إسناده على شرط الشيخين.

وأخرج ابن إسحاق، عن حبان بن واسع، عن أشياخ من قومه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عدل الصفوف في يوم بدر، وفي يده قدح، فمر بسواد بن غزية فطعنه في بطنه، فقال: أوجعتني فأقدني. فكشف عن بطنه فاعتنقه وقبل بطنه، فدعا له بخير

ورواه عبدالرزاق، عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخطى بعرجون فأصاب به سواد بن غزية....

الحديث.

وأخرج البيهقي في دلائل" "النبوّة عن ابن عمر: أنَّ امرأة شكت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال لها «أَتَبْغَضِينَهُ؟»، قالت: نعم، قال: «أَدْنيا رُوْسَكُما فوضع جبهتها على جبهة زوجها، ثُمَّ قال: «اللهم ألف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحِبِهِ، ثُمَّ لقيته المرأة بعد ذلك فقبلت رجليه، فقال: «كيف أنت وزوجك؟ قالت ما طارفٌ ولا تالد ولا ولد بأحب إلي منه، فقال: «أشهد أني رسول الله»، قال عمر: وأنا أشهد أنك رسول الله.

وروى أبو يعلى وأبو نعيم عن جابر بن عبدالله نحوه.

وفي "مغازي "الواقدي وغيرها، في قصَّة فتح مكة وإهدار النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم دم نفر، وأمره بقتلهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، منهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح، فلم يرع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إِلَّا

إعلام النبيل.

٤٣٣

عثمان آخذا بيد ابن أبي سرح واقفين بين يديه، فأقبل عثمان على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: يا رسول الله إنَّ أُمَّه كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتفطمه ، وكانت تلطفني وتتركه؛ فهبه لي، فأعرض رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وجعل عثمان كلَّما أعرض عنه رسول الله بوجهه استقبله فيعيد إليه هذا الكلام، وإنّما أعرض النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عُنُقَهُ؛ لأنَّه لم يؤمنه، فلما رأى أن لا يقوم أحد، وعثمان قد أكب على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يُقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله بايعه فداك أبي وأمي فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «نعم...» ولتنظر بقيَّة الحديث في كتب المغازي والسِّير، وفي كتاب "الصارم المسلول على شاتم

الرسول " لأبي العباس بن تيمية، وهو من أجود مؤلفاته وأنفعها. وأخرج ابن الأعرابي والبزار واللفظ له، من طريق صالح بن حيان، عن عبدالله بن بُرَيْدَةَ، عن أبيه قال: جاء رجل إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال أرني آيةً، قال : اذهب إلى تلك الشَّجَرَةِ فَادْعُها»؛ فذهب إليها فقال: إِنَّ رسول صلى الله عليه وآله وسلّم يدعوك ؛ فمالت عن كل جانب منها حتى قلعت عروقها، ثُمَّ أقبلت حتى جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم

فأمرها أن ترجع، فقام الرجل فقبل رأسه ويديه ورجليه، وأسلم. ولفظ ابن الأعرابي: فقال الرجل: ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له، فقبل رأسه ورجليه، ثُمَّ قال: ائذن لي أن أسجد لك، قال: «لا يسجد أحد

لأحد».

٤٣٤

مباحثات

صالح بن حيان قال الحافظ الهيثمي : «ضعيف».

قلت: و به تعقب الذهبي تصحيح الحاكم للحديث، وإن كان الحافظ العراقي حكى في "المغني" تصحيحه ولم يتعقبه.

وأخرج الترمذي وابن ماجه عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي ، قال له صاحبه لا تقل نبي، إنَّه لو سمعك كان له أربعة أعين، فأتيا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فسألاه عن تسع آيات

بينات ... فذكر الحديث، وقال في آخره: «فقبلا يديه ورجليه».

قال الترمذي: حديث حسن صحيح»، وصححه الحاكم أيضًا. وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" عن كعب قال: «كان إسلام أبي بوحي من السماء، وذلك أنه كان تاجرا بالشام، فرأى رؤيا

بكر الصديق فقصها على بحيراء الراهب فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها، قال: من قريش قال : فإيش أنت؟ قال : تاجر، قال: صدق الله رؤياك فإنَّه يبعث نبي من قومك تكون وزيره في حياته وخليفته بعد موته، فأسرها أبو بكر حتى بعث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فجاءه فقال: يا محمد، ما الدليل على ما تدعي؟ قال: «الرؤيا التي رأيتَ بالشَّامِ»؛ فعانقه وقبل بين عينيه وقال: أشهد أنك رسول. وأخرج أبو داود بإسناد صحيح، والطبراني باسناد رجاله رجال الصحيح، كما قال الحافظ الهيثمي، عن عائشة في قصة الإفك قالت: ثُمَّ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَبشري يا عائشة، فإنَّ الله قد أنزل عُذْرَك» وقرأ عليها القرآن، فقال أبوها: قومي فقبلي رأس رسول صلى الله عليه وآله وسلّم،

إعلام النبيل.

٤٣٥

فقلت: أحمد الله لا إيَّاكما.

وأخرج أحمد والبخاري والنَّسائيُّ عن عائشة: أنَّ أبا بكر . رضي ا الله عنه دخل فبصر برسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهو مُسَجّى ببرده فكشف عن

وجهه وأكب عليه فقبله.

وأخرج البخاري والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس، وعائشة: أنَّ أبا

بكرٍ رضي الله عنه قبل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد موته. (تنبيه): ذكر الشَّيخ زروق في "شرح الرّسالة" حديث أبي سعيد الخدري: أنَّ أباه استشهد في أحدٍ، فخرج مع النَّاس يلقى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين الدفع إلى المدينة قال: قبلت يد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقال: سعد؟» قلت: نعم، قال: «آجرك الله في أبيك». ثُمَّ قال: «صحيح». قلت: لم أقف على إسناد هذا الحديث بهذا السياق، والله أعلم.

فصل

أخرج أبو يعلى وأبو نعيم وابن عساكر عن شداد بن أوس: «أَنَّ رجلا من بني عامر سأل رسول صلى الله عليه وآله وسلّم: ما حقيقة أمرك ؟ فقال: «بدو شأني أَنِّي دَعْوَةُ إبراهيم، وبُشْرَى أخي عيسى، وأني كنتُ بِكْرَ أُمِّي...» وذكر الحديث في ولادته ونشأته واسترضاعه في بني ليث بن بكر، وشق صدره، وقال فيه: «ثُمَّ قال الثالث لصاحبه : تَنَجَّ، فأمر يده بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشَّق بإذن الله تعالى ثُمَّ أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضًا لطيفًا، ثُمَّ قال للأول: زِنه بعشرة مِن أُمَّتِه فَوَزَنُونِي بهم فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ

٤٣٦

مباحثات

قال: زِنْهُ بِمِائَةٍ مِن أُمَّتِهِ فَوَزَنُونِ بهم فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِن أُمَّتِهِ فوَزَنُوني بهم فَرَجَحْتُهُمْ، فقال: دَعُوهُ فلو وزَنْتُوهُ بِأَمَّتِه كلَّها لَرَجَحَهُمْ، ثُمَّ ضَمُّوني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عَيْنَي، ثُمَّ قالوا: يا حبيب لم تُرع، إنَّك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك».

وأخرج البيهقي وابن عساكر من طريق محمد بن زكريا الغلابي، عن يعقوب بن جعفر بن سليمان، عن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن جده العباس بن عبد المطلب، قال: كانت حليمة تُخبر أنها لما فطمت رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم تكلم فقال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرةً وأصيلا» وذكرت قصة شقّ صدره وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال المرضعته ومن معها بعد أن حكى لهم قصة شقّ صدره الشريف وقام الثالث فقال: تنحيا، فقد أنجزتما ما أمركما الله به فيه، ثُمَّ دنا مني فأمر يده من مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وقال زنوه من أمته بعشرة فوزَنُوني فرجحتهم، ثُمَّ قال: دعوه، فلو وزنتموه بأمته كلّها لرجح بهم، ثُمّ أخذ بيدي فأنهضني إنهاضًا لطيفًا، فأكبو على وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا يا حبيب لن تُراع، ولو تدري ما يُراد بك من الخير لقرت عيناك».

في هذين الحديثين من الفقه مضمومًا إلى ما فيهما من دلالة على مشروعية التقبيل - أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أرجح أمته عقلا، وأشدُّها ذكاء، وأقواها فطنة، وأنه لا يوجد في الصحابة فضلا عن غيرهم من يوازيه في فهم شيء من أمور الدين ومسائل التشريع، وكشف أسرار القرآن؛ ذلك أنَّ الملائكة الذين شقوا صدره الشريف، وزنوه بألف من أمته فرجع بهم،

إعلام النبيل .

٤٣٧

وأخبروا أنهم لو وزنوه بأمته لرجح بهم ، ومعلوم بالضرورة العقلية أنَّ الملائكة لم يقصدوا بالوزن معرفة ثقل الأجسام وخفتها، وإنما قصدوا الموازنة بينه وبين أمته عليه السّلام في المعاني الإنسانية السامية من رجاحة العقل، وشفوف النظر ورحابة الصدر، ونحو ذلك مما أهله لتحمل أعباء أعظم رسالة ظهرت على وجه الأرض.

يؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم في "الحلية"، وابن عساكر، عن وهب بن منبه قال: «قرأت إحدى وسبعين كتابًا، فوجدت في جميعها أنَّ الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم إلَّا كحبة رمل من بين جميع رمال الدنيا، وأنَّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أرجح النَّاس عقلا وأرجحهم رأيا».

فمن الضلال البين ما زعمه بعض المبتدعة في كتيب له أنَّ عمر رضي الله عنه وغيره اجتهدوا في فهم الآيات، وأنهم كانوا أصوب من فهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هكذا زعم ذاك المبتدع قاتله الله .

٤٣٨

باب

مباحثات

في ذكر ما ورد من التقبيل عن الصحابة رضي عنهم وغيرهم

روينا في "جزء القبل" لابن الأعرابي قال: أخبرنا يحيى بن أبي طالب أنا عبدالوهاب: أنا إسماعيل بن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما قتل أبي يوم أحد أتيته وهو مُسجَّى فجعلت أكشف عن وجهه أقبله، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يراني ولم ينهني. وأخرج ابن الأعرابي أيضًا قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ: ثنا سليك: ثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن أبي حصين، عن مجاهد قال : لما نزل عذرها - يعني عائشة - قام إليها أبو بكر رضي الله عنهما فقبل رأسها. وهذا

مرسل. وأخرج البخاري، وأبو داود من طريق إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: دخلت مع أبي بكرٍ رضي الله عنه أول ما قدم المدينة فإذا عائشة ابنته مضطجعة، قد أصابتها حمى، فأتاها أبو بكر فقال لها: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدّها. وأخرج سفيان في "الجامع" عن مسعر، عن زياد بن الفياض، عن تميم بن سلمة قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشّام استقبله أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فصافحه وقبل يده، فكان تميم يرى أن تقبيل اليد سنة.

وكذا أخرجه ابن الأعرابي وابن المقري كلاهما في "جزء القبل"، وعبد الرازق في "المصنف، والخرائطي في مكارم الأخلاق"، والبيهقي وابن

إعلام النبيل .

٤٣٩

.

عساكر، وإسناده على شرط مسلم إلَّا أنَّه مُنقطع؛ فإنَّ تميما لم يُدرك القصّة. لكن له طريق آخر ، قال عبد الرازق في "المصنف": أخبرنا مَعْمَرٌ : حدثنا

هشام بن عروة، عن أبيه، قال... فذكره. وهذا إسناد على شرط الشيخين. وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" ، قال : حدثنا عبدالرحمن بن المبارك: ثنا سفيان بن حبيب ثنا شعبة: ثنا عمرو، عن ذكوان، عن صهيب رضي الله عنه قال: رأيت عليا عليه السَّلام يُقبل يد العبّاس ورجليه. إسناده صحيح. وروى عبد الرزاق، وأحمد وأبو يعلى، والطبراني، وابن منده بإسناد صحيح عن أنس - في حديث طويل - : أن العباس رضي ا الله عنه قبل عبدا له بين عينيه ... وانظر تتمّة الحديث في (ص ۱۲۸ ج ٣ ) من "المسند" طبعة أولى. وأخرج الحاكم من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة أنه لقي الحسن بن علي عليهما السّلام فقال: رأيت رسول صلى الله عليه وآله وسلّم قبل بطنك؛ فاكشف الموضع الذي قبله حتى أقبله، فكشف له الحسن فقبله.

صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

وأخرجه ابن عساكر، عن عمار بن أبي عمار: أنَّ زيد بن ثابت قربت له دابة ليركبها، فأخذ ابن عباس بركابه فقال :زيد: تنح يا ابن عم رسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا وعلمائنا، فقال زيد: أرني

يدك، فأخرج يده فقبلها فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. وراه الدينوري في "المجالسة" من طريق ابن المبارك، عن داود بن أبي

هند، عن الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت دابة... إلخ.

وهذا إسناد على شرط مسلم.

٤٤٠

مباحثات

وأخرج ابن الأعرابي قال: حدثنا عباس الدوري: ثنا شبابة: ثنا هشام بن الغز: ثنا حيان أبو النضر قال : قال لي وائلة بن الأسقع -وهو صحابي -: «قدني إلى يزيد بن الأسود فإنَّه بلغني أنه ألم به ، فقدته فلما دخل عليه قلت: إنَّه ثقيل، قد وجه وذهب عقله فقال :نادوه فقلت: هذا أخوك واثلة، فلما واثلة جاءه جعل يلتمس بيده فعرفت ما يريد فأخذت كفَّ واثلة فجعلت