بسم الله الرحمن الرحيم
موسوعة الحافظ عبد الله في 133 لغة
المقالات ومقدمات لبعض الكتب العِلْمِيَّة
۱ - مقالات في عِلْمِ الكَلامِ والمنطق. ۲ - مقالات في القرآن الكريم وعلومه. - مقالات في الحديثِ الشَّريف وعلومه. - مقالات في الفقه الإسلامي.
ه - مقالات في التصوف الإسلامي. ٦ - مقالات في فضائل النبي . مقالات حول مباحثات مع المعاصرين.
- مقالات متنوعة.
۹ - مُقدِّمات لبعض الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ.
(1)
مقالات في علم الكلام والمنطق
علم الكلام والمنطق.
١- بحث في معنى الإله (1)
للطلبة
لفت نظري حين تدريسي "شرح البناني على السُّلَّم" بزاويتنا الصديقية أنه مثل بلفظ «الإله» لنوع من الكلي، فلم يعجبني هذا التمثيل وكتبتُ عليه ثماني ملاحظاتٍ أحببت أن أنقلها إلى القُرَّاء الكرام:
قال صاحب "السلم" :
فمفهمُ اشتراك الكلي كأسَدٍ وعَكْسُهُ الجُزْئِي قال العلامة البناني في "شرحه : يعني أنَّ الكلّي هو الذي يُفهم الشركة في معناه، أي: لا يمنع نفس تصور معناه من صدقه على متعدد، كإنسان وأسد، فدخل في تعريف الكلي أنواع». فذكر النوع الأول ثمَّ قال: «وثانيها ما وُجد منه فرد واحدٌ إِمَّا مع استحالة وجود غيره بدليل خارج عن تصوره كالإله؛ أي: المعبود بحق فإن مجرد تصور معناه لا يمنع من صدقه على متعدّد، لكن قام الدليل القاطع على وجوب انفراد الله تبارك وتعالى بالألوهية واستحالة ثبوتها لغيره، وتفسير الإله بالمستغني عن كل ما سواه المفتقر إليه كلُّ ما عداه لا يمنع كونه كليًّا؛ إذ لا تشخصه؛ لأنَّه بهذا المعنى يحتمل أن يَصْدُق على كثير على سبيل
يوجب
البدلية» . اهـ
وقال محشيه العلامة على قصارة: كان ينبغي إسقاط هذا القسم من أقسام
الكلي لأنه موهم في مقام الألوهية ما لا يصح في حقه
(۱) مجلة دعوة الحق.
تعالى من
التعدد
المقالات والمقدمات
والجسمية والتركيب فلا ينبغي إطلاقه كما صرح به القرافي في شرح "التنقيح" ونصه: «إطلاق لفظ الكُلّيّ على واجب الوجودِ فيه إيهام، تمنع من إطلاقه الشريعة فلذلك تركته أدبا» . اهـ
قال سيدي عيسى السكتاني: وكذا الجزئي يوهم النسبة إلى جزء الشيء
الموضوع للمجموع فذلك مستحيل في حقه تعالى» . اهـ
علم من هذا أنَّ إطلاق لفظ الكُلّيّ على الإله لا يجوز شرعًا للإيهام
المذكور
(1)
وهذا أول خطأ من البناني رحمه الله تعالى. الثاني: ويشاركه فيه القرافي وأهل المنطق؛ أنَّ الإله ليس بكلّي بل هو خاص
بالله تعالى كالرحمن وفي النَّاس كثيرون اسمهم عبد الإله. قال الفيومي في "المصباح المنير": «الإله المعبود وهو الله سبحانه وتعالى، ثُمَّ استعاره المشركون لما عبدوه من دون الله تعالى» . اهـ وقال الراغب في "مفردات القرءان": «وإله حقه أَلَّا يُجمعَ إِذْ لا معبود
سواه لكنَّ العرب لاعتقادهم أنَّ ههنا معبودات جمعوه فقالوا الآلهة». اهـ وفي القرآن الكريم: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءُ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ أدلة
وَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ ﴾ [يوسف: ٤٠]، وهذه الآية من القائلين بأنَّ اللُّغة توقيفية.
تبين من هذا أنَّ الإله عَلَمٌ خاص كما قلنا، وأنَّه لتضمنه معنى العبادة أطلقه
(۱) صرح العلماء أيضًا بأنَّه لا يجوز وصفُ عِلم الله بأنه ضروري وإن كان له معنى صحيح، لإيهامه معنى لا يليق بالله تعالى.
علم الكلام والمنطق .
11
العرب على معبوداتهم على سبيل الاستعارة، وتوهم أهل المنطق أنَّ هذا إطلاق حقيقي، زعموه كليًا مع أنه عَلَمٌ خاص، ونظير هذا إطلاقهم لفظ حاتم على الكريم | اشتقاقا من معنى الكرم الذي اشتهر به حاتم الطائي المعروف، ولم يُخرجه ذلك الإطلاق عن عَلَمِيَّته الشخصية. كذلك لفظ «الإله» لا يخرجه إطلاقه على المعبودات اشتقاقا من معنى العبادة عن علَمِيَّته الخاصة بالله تعالى.
الثالث: أنَّ الكلي إنما يتأتى في الممكنات كالنبي والملك والعرش والكرسي واللوح والقلم والسماء والشمس والقمر والفلك والكواكب والروح والنفس والإنسان والحيوان والنبات وما إلى ذلك مما يتركَّب من أجناس وفصول ويدخل في دائرة المقولات (۱) العشر المجموعة في قول القائل: زيد الطويل الأبيض ابن مالك ببيته بالأمس كان متكـــي بیده غُصن لـــواه فالتوى فهذه عشر مقولات سوى
(1) أخذتُ هذا العلم عن شيخنا العلامة المحقق الشيخ العباس بناني بجامعة القرويين أعاد الله لها مجدها، وهو أحد أربعة علماء عرفوا بالتحقيق.
وثانيهم: العلامة مولاي عبد الله الفضيلي، أخذتُ عنه "رسالة الوضع" ومقدمات "جمع الجوامع".
وثالثهم: العلامة الشيخ الراضي السناني صاحب "الشذرات" أخذت عنه بعض "جمع الجوامع". ورابعهم: العلامة مولاي أحمد القادري أخذت عنه باب الجنايات من "المختصر" بـ "شرح الخرشي"، وأجازني أولهم بما يرويه عن سيدي أحمد بن الخياط رحمهم الله جميعا وأثابهم رضاه.
۱۲
المقالات والمقدمات
أما واجب الوجود سبحانه فهو منزّه عن ذلك، ليس شيء من أسمائه وصفاته كليا يتركَّب من جنس يشترك به مع غيره، ولا من فصل يميزه عنه بل
أسماؤه وصفاته خاصة به الخصوص العلم الشخصي بمسماه.
الرابع: أن الكلي لا يُتصوّر كونه محالا ؛ إذ هو ما له جزئيات موجودة كالحيوان، أو ممكنة الوجود كجبل ياقوت.
والمحال عدم محضّ ليست له صورة في الذهن ولا يمكن أن تكون له صورة، بل لا يُدرَك إلَّا بطريق التشبيه كأن يعقل اجتماع السواد والحلاوة في العنب مثلًا ثُمَّ يقال : مثل هذا الاجتماع لا يكون بين السواد والبياض، وأحيانًا لا يمكن تقريبه بطريق التشبيه لكون الشيء موجودًا معدوما في آن واحد فكيف يتصوّر كونه كليا له جزئيات ؟!!. والذين اعتبروا (الإله» وشريك «الباري» كُلّيين مخطئون واهمون لم يعرفوا معنى المحال على حقيقته، أو اشتبه عليهم الأمر حين وجدوا كليًّا جزئياته معدومة كجبل ياقوت وبحر زئبق فاعتبروا المحال كليا مثله، لكن بينهما بون
شاسع؛ لأنَّ الممكن المعدوم قابل للوجود وقد أخبر الله أنَّ في الجنَّة أنهار لبَن لَمْ يَنغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنهَرُ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّرِينَ وَأَنْهَرُ مِنْ عَسَلٍ تُصفى ﴾ [محمد: ١٥] وهذه أمور ممكنة غير موجودة في الدنيا وهي موجودة في الآخرة. أما المحال فإنه مُغرقٌ في العدم لا يقبل الوجود بحال، لا في الخارج ولا في الذهن، ووجود جزئيات الكلّي مترتب على وجود صورة له في الذهن والمحال
لا صورة له ولا يُذكر إلَّا منفيا. والخلاصة: أنَّ الكلي لا يكون إلا في الممكنات فقط دون الواجب والمحال.
علم الكلام والمنطق
۱۳
الخامس : قول البناني في بيان كلّية الإله: «مجرد تصور معناه لا يمنع من تعدد مصدوقه لكنَّ الدليل القاطع على وجوب انفراد الله تبارك وتعالى بالإلوهية» يشتمل على تناقض؛ إذ حاصله أنَّ الإله مصدوقه جائز التعدد عقلا، والإله واجب الإنفراد في واحدٍ عقلا، وهذا تناقض واضح لا خفاء
فيه.
السادس وهو مبني على ما قبله، أنَّ جواز تعدد الإله ثابت وقيام الدليل القاطع على وجوب تفرد الله بالألوهية لا يمنع منه؛ لأن جواز التعدد مفهوم ذاتي، وما بالذات لا يتخلف، وفي هذا من الخطر ما لا يخفى بل هو هدم
للتوحيد. السابع: أنَّ زيادة لفظ: «بحقِّ» في معنى الإله لا أصل لها في اللغة ولا علاقة للعقل بها؛ فالإله هو المعبود وكونه معبودا بحق حكم شرعي والحكم لا يدخل في الحد. قال صاحب "السلم":
وعندهُمْ مِنْ جُملة المردود أن تدخل الأحكام في الحدود الثامن: قوله أيضًا: «تفسير الإله بالمستغني عن كل ما سواه المفتقر إليه كل
ما عداه لا يمنع كونه كليًّا ؛ إذ لا يوجب تشخيصه؛ لأنه بهذا المعنى يحتمل أن يصدق على كثير على سبيل البدلية» . اهـ إغراق في الخطأ وتشبت به إلى حد التزمت حتى أنه لم يفرق بين ما يُعين
أنَّ
المسمى ويُخصصه وبين ما ليس كذلك، ومن البدهيات في علم المنطق التشخص في الجزئي يمنع الاشتراك فيه فـ«إنسان» كلي يقبل الاشتراك، و «زيد» جزؤه لا يقبل الشركة لتشخصه وتعينه.
١٤
المقالات والمقدمات
فلو فرضنا أنَّ الإله بمعنى المعبود كلي كما قال فإنَّ تفسيره بالمستغني عن كل ما سواه المفتقر إليه كل ما عداه تخصيص له بما لا يشاركه فيه غيره من المعبودات، فهو بمنزلة التشخص في «زيد»؛ ذلك أنَّ المعبودات بجميع أنواعها من ملائكة وإنس وجن وحيوان وأصنام؛ لا يُجيز العقل في شيء منها أن يكون مستغنيا عن كل ما سواه مفتقرًا إليه كل ما عداه؛ لأنها ممكنة والممكن لا يستغني عن المحل والمخصص.
التاسع: قوله: «إذ لا يوجب تشخصه والصواب أن يقول: إذ لا يوجب تعينه؛ لأن التشخص لا يجوز أن يضاف إلى الله سبحانه وتعالى(۱).
يرد في هذا المقال ثلاثة إيرادات نذكرها مع الجواب عنها:
الأول: دعوى أن المحال ليس بكليّ يخالف ما أطبق عليه أهل المنطق من اعتبار شريك الباري كليًّا، وكذا الإله وأن لم يذكره بعضهم تأدبا كما مر وتعريف المحال يقتضي كليته أيضًا. والجواب: مسائل المنطق يُعمَل فيها بما يقضي به العقل والفكر السليم لا بالإجماع أو قول الأكثر، والمنطق الحديث أبطل نظريَّاتٍ أطبق عليها القدماء في
(۱) وحديث : الا شخص أغيرُ من الله من تصرُّف بعض الرواة ولفظه الثابت في أغلب الطرق: «لا أحد أغيرُ من الله، وفي رواية: الا شيء أغيرُ من الله» على أن النووي في شرح مسلم" أوَّلَ لا شخص» بـ«لا أحد» وقال: «عبر بالشخص عن أحد استعارة، وقيل: لا يدلُّ الحديث على إطلاق لفظ شخص على الله وإنَّما يدل على وصفه بالغيرة لأنَّ أَفْعَلَ مِن» يدلّ على المشاركة في الصفة فقط، يقال: لا خيل أسرع من فلان، وكان يقال في سلمة بن الأكوع أسرع من الخيل يوضحه أنك لو قلت: لا إنسان أغير من الله لريفد أنَّ اللهَ يُسمَّى إنسانًا.
علم الكلام والمنطق
المنطق القديم.
۱۵
حدود
ومما لا يخفى على دارس أنَّ الكليات مبادئ التصورات التي هي . ورسوم لماهيَّاتِ الموجودات الممكنة، فالحدود والرسوم تتركب من أجناس
وفصول و خواص كما هو معلوم.
والموجودات نوعان: موجودات بالفعل كالإنسان والشمس، وموجودات
بالقوة كنهر لبن وبحر زئبق وجبل ياقوت، فإنَّ هذه الأشياء ممكنة الوجود وإمكان الشيء كوقوعه فهي موجودة بالقوة.
والكليات التي تدخل في التعريف تقع على أشياء موجودة في الذهن أو الخارج أو فيهما، والمحال لا يتصوّر في العقل وجوده ويسميه الحكماء منفيا وحكى شارحُ "العقيدة الطحاوية" إجماع العقلاء على أنَّ المحال ليس بشيء، والخلاف الذي حكاه صاحب جمع الجوامع" بقوله: «فعلى الأصح المعدوم ليس بشيء ولا ذات ولا ثابت إنّما هو في المعدوم الممكن كما قيَّده به شارحه الجلال المحلي فثبت أن المحال لا يكون كليًّا والعقل لا يمكنه أن يتصوّر أنَّ شخصا قائما قاعدًا ولا ثوباً أبيض أسودَ ، وبالضرورة لا يمكن تصور أفراد لما لا يمكن تصوره في نفسه.
الثاني: قال الشيخ سعيد قدوره في بيان أفراد الكلي الممتنع: «فإنَّ الجمع بين البياض والسوادِ جمع بين الضّدين، والجمع بين القيام والقعود جمع بين الضدين، والجمع بين الترقي والتدلّي جمع بين الضدين، فتبيَّن أن الجمع بين
الصدين واقع على كثيرين وأفراده كلُّها ممتنعة الوجود في الخارج». اهـ
وهذا الكلام يشتمل على أوهام:
١٦
المقالات والمقدمات
١ - أنَّ الجمع بين الضّدين مثال لمحاولة فعل المحال الذي هو اجتماع
الصدين.
- أنَّ أفراد الكلّي ما يتحقق فيها مفهومه كالإنسان يتحقق في جزئياته مفهومه الذي هو حيوان ناطق، وهذا إنَّما يتأتى في الماهيات الممكنة التي يتمايز أفرادها بالتشخيص وغيره في الوجود الذهني أو الخارجي. وماهية المحال عدم بحث لا تقبل الوجود في الخارج ولا في الذهن، والعدم لا تمايز فيه بين المعلمات.
- أنَّ الكلّي إنَّما يطلق على شيء موجود بالفعل أو بالقوة والمحال ليس
بشيء كما مر بيانه.
أمثلة
- أن تعدد الأفراد في الأمثلة التي ذكرها الشيخ سعيد إنما هي أ لمتعلّق المحال أعني : الضّدين فإنَّه لفظ عام يشمل الأبيض والأسود والقيام والقعود وغير ذلك من الأضداد الموجودة. فالتعدد واقع فيها، والترقي والتدلّي، والليل والنهار، والحياة والموت، لا في المحال الذي هو اجتماعها وهو المحكوم بنفيه وقد اشتبه الأمر على الشيخ سعيد رحمه الله تعالى، يوضح ذلك أنَّ المحال الذي لا يتعلق بضدين مثلا كشريك الباري لا يتصوّر له أفراد أبدا. الثالث: من الإيرادات، دخول النفي العام على «إله» في قولنا: «لا إله إلَّا الله يؤيد القول بكليته، لأنَّه لا يجوز أن يقال: لازيد في الدار وإنما يقال: لا
إنسان في الدار. والجواب: أنَّ النَّفي توجه باعتبار الإطلاق المجازي أي: لا معبود إلا الله،
علم الكلام والمنطق
۱۷
وهذا كما يقال: لا حاتم إلا فلان، أي: لا كريم، أو لاقس إلا فلان، أي: لا
فصيح، وهكذا.
فـ«إله» في الكلمة المشرفة كلّي في المعنى المجازي كما أنَّ لفظ حاتم كلّي لاستعماله في الكريم مجازا، مع أنه في الحقيقة علم شخصي وكذلك فس كلي
لاستعماله في الفصيح مجازا وهو في الحقيقة عَلَمٌ شخصي لقُس بن ساعدة. الرابع: اختار السنوسي أنَّ معنى «إله» في كلمة التوحيد لا مستغنيا عن كل ما سواه ومفتقرًا إليه كل ما عداه إلَّا الله، فهو على هذا كلي.
والجواب: أنَّ اختيار السنوسي لهذا المعنى هو الذي غر البناني وأوقعه في ذلك الخطأ الذي مرَّ بيانه والسنوسي إنَّما اختاره ليدعي أن كلمة التوحيد
شاملة للصفاتِ الواجبة الله تعالى لكن اختياره غير صحيح لأمور: أحدها: أنه تكلف في إدخال تلك الصفات بما لا دليل عليه ولا حاجة
تدعو إليه.
ثانيها: أنَّ الإله لم يستعمله العرب إلا بمعنى المعبود، كذلك جاء في القرآن الكريم : إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( وَيَقُولُونَ أَبِنَّا لَتَارِكُوا الهَتِنَا لِشَاعِي تَجنُونِ ﴾ [الصافات: ٣٥ - ٣٦]، ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهُ وَ فِي الْأَرْضِ
-
اله [الزخرف: ٨٤]، ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةً إِلَهَا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْ عُجَابٌ [ ص: ٥] } ﴾
ا لَهُ مَعَ اللَّهِ ﴾ [النمل: ٦٠] ، وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهُ وَاحِدٌ
[النحل: ٥١].
فالإله في هذه الآيات وغيرها مفردًا ومثنى ومجموعا معناه المعبود، ونفي
۱۸
المقالات والمقدمات
المعبودات في الكلمة المشرفة يكفي في إثبات التوحيد ونبذ الشرك ولذلك جعلها الشارع دليلا على الإسلام وعنوانًا له لأنه يلزم بالضرورة من نفي المعبودات نفي الخصائص الألوهية عنها وهي منتفية بضرورة العقل والمشاهدة كما قال الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ وَالِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْنَا وَلَا حَيَوَةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: ٣].
فلا حاجة إلى ما تكلفه السنوسي وغيره في شرح الكلمة المشرفة.
علم الكلام والمنطق
۱۹
٢- النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بعيني رأسه وقلبه
بيان معنى قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ
يكره جماعةٌ من المتسلّفة المدخولين أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم خصيصةً تميّزه عمَّن سواه، وتبعا لهذا الحقد القاتل منعوا أن يكون النبي قد رأى ربَّه ليلة إسرائه، على أنَّ المتأمل في حكمة شق صدره قبيل إسرائه كما رواه البخاري، ثمَّ تكريمه بملاقاة الأرواح في بيت المقدس، ثم رقيه إلى سدرة المنتهى واندماجه في العالم المحجوب، وقيامه فيما وراء السدرة يرى كل ذلك كان إعدادًا وتأهيلاً ليتأتى له ملاقاة فيض التَّجلّي، ولم يكن رفعه إلى قاب قوسين ليقرب من مكان بالذات، تعالى الله عن المكان، ولكن قدسيَّةَ التَّجلّي تستوجب أن يكون صاحبُ هذه الخصوصيَّة في مقامٍ لم يتهيا لمخلوق قبله، حتى يتناسب مقامه وقيامه مع شرف الموهبة الكبرى فيُرفع الحجاب عنه هو، ليرى المحدود غير المحدود في نوره السرمدي كما شاء على ما شاء وإليك الدليل قال: النووي: إنَّه -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- رأى ربِّه . وروى الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى
بعيني )
رأسه،
محمد ربه. فقلت: أليس يقول الله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ ﴾ [الأنعام: ١٠٣] ؟
قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وقد رأى ربَّه مرتين.
وروى النسائي بإسناد صحيح، وصححه الحاكم أيضًا، عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية
لمحمد صلى الله عليه وآله وسلّم؟.
(۱) مجلة المسلم، السنة الرابعة، العدد الثاني عشر، رجب ١٣٧٤ .
المقالات والمقدمات
وللطبراني في "الأوسط" بإسناد رجاله رجال الصحيح غير واحد وثقه ابنُ حِبَّان، عن ابن عباس أنه كان يقول: إنَّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم رأى ربه مرتين مرة ببصره، ومرَّةً بفؤاده.
وروى ابن خزيمة بإسنادٍ قوي عن أنس بن مالك قال: رأى محمد ربه. وروى ابن خزيمة عن عبد الرازق عن معتمر بن سليمان، عن المبارك بن
فضالة قال: كان الحسن -يعني: البصري - يحلف بالله لقد رأى محمدًا ربَّه. وروى ابن خزيمة أيضًا عن كعب قال: إنّ الله قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلوات الله عليهما فرآه محمد مرتين وكلَّم موسى مرتين.
وروى أيضا عن عروة بن الزبير إثبات الرؤية أيضًا.
وروى ابن الجوزي عن الإمام أحمد عن عبدوس بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: «أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء بهم وذكر أشياء
من العقيدة».
إلى أن قال: وإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى ربَّه، فإنَّه مأثورٌ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم صحيح رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس. ورواه علي بن زيد، عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم». اهـ
روى الخلال" في كتاب "السنة" عن المروزي : قلت لأحمد: إنَّهم يقولون إنَّ عائشة قالت: «من زعم أنَّ محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية»، فبأي
علم الكلام والمنطق
معنى تدفع قولها؟ قال: بقول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «رأيتُ ربي».
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أكبر من قولها.
وهذا الحديث رواه ابن عباس، وأشار إلى طرقه في كلامه آنفًا.
۲۱
وأفرد ابن خُزَيمة في كتاب التوحيد بابًا لرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه تعالى وأطال الاستدلال لذلك، وأجاب عن كلام عائشة بأنها نفت
الرؤية، وابن عباس وأنس وغيرهما أثبتوها، والإثبات مقدَّم على النفي. ورُوي عن عبد الرزاق قال: ذكرتُ لمعمر حديث عائشة فقال: ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس. قال ابن خزيمة ومحال أن يقال: إن ابن عباس أعظم على الله الفرية ولا أظنُّ أحدا من أهل العلم يتوهم أنَّ ابن عباس أثبت الرؤية بالظن والرأي ولا أنس بن مالك ولا أبو ذر. هذا ملخص كلام ابن خزيمة. وأما قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ ﴾ [الأنعام: ١٠٣] فلا يدل على
نفي
الرؤية لوجهين: الأول: أنَّ الأبصار لفظ عام، أي: لا تدركه عموم أبصار الناس وخُصَّ
منه بصر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على سبيل التمييز والإكرام، فتكون
الآيةُ من قبيل العام المخصوص وهو كثير في القرآن والسنة.
والثاني: أن الإدراك معناه الإحاطة فالآية الكريمة تنفي الإحاطة، ونفي الإحاطة لا يستلزم نفي الرؤية، ألا ترى أنَّ المؤمنين يرون ربَّهم في الجنة؟ أما
حديث أبي ذرّ فقد أجاب ابن خزيمة بأنَّه كان قبل حصول الرؤية بالفعل.
۲۲
المقالات والمقدمات
٣- رؤية الله في المنام (۱)
النوم؟
اطلعتُ في العدد السابع من المجلة على ما كتبه صديقنا فضيلة الأستاذ الشيخ عبدالرحمن خليفة حفظه الله، جوابًا عمَّن سأل: هل يرى النائم ربَّه في فاستحسنت ما أجاب به غاية الاستحسان، ورأيت أن أعلق عليه بما يكون كالتتمة له من ذكر مسائل تركها فأقول: لا خلاف بين أهل السُّنَّة في أنَّ المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وردَّ بذلك القرآن، وتواترت به الأحاديث كما نص عليه الحافظ الديلمي في مبحث العلق -بفتحتين - من "حياة الحيوان"، والمحدّث الشَّهاب القسطلاني في الكلام على الإسراء من "المواهب"، وذكر الإمام النووي في "شرح مسلم" أنَّ عدَّة من روى ذلك عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عشرون صحابيا، وقد عدَّهم من قبله الحكيم الترمذي فأوصلهم إلى أحد وعشرين، زاد عليه الشيخ قاسم بن قُطلُوبُغا الحنفي في "حاشيته" على "المسايرة" أسماء سبعة من الصحابة فصار المجموع ثمانية وعشرين، وهم كما في "نظم المتناثر " لأبي عبد الله السيد محمد بن جعفر الكتاني : ابن مسعود، وابن عمر وابن عباس، وصُهَيب، وأنس، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وعمار بن ياسر، وجابر، ومعاذ، وثوبان، وعمارة بن روبية الثقفي، وحذيفة، وأبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت، وجرير بن عبد الله اليمني، وأبو أمامة، وبريدة الأسلمي، وأبو برزة، وعبدالله بن الحرث، وابن جزء الزبيدي، وأبو رزين العقيلي، وعبادة بن
(۱) مجلة الإسلام العدد (۱۲) ، السنة (٥)، ٢٢ ربيع ١٣٥٥ .
۲۳
علم الكلام والمنطق الصامت، وكعب ابن عُجرة، وفضالة بن عبيدة، وأبي بن كعب، وعبدالله بن عمرو، وعائشة، وليس هذا بآخر الممكن من ذلك، فمن فحص وتتبع وجد أكثر من هذا القدر يقيناً، وكذلك لا خلاف بين أهل السُّنَّة في جواز رؤية الله في الدنيا يقظة وفي المنام، وخالفهم المعتزلة وكثير من أهل الفرق، قال السيد في "شرح المواقف ما نصه: قال الآمدي اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أنَّ رؤيته تعالى في الدُّنيا والأخرى جائزة عقلا، واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا، فأثبته بعضُهم ونفاه ،آخرون وهل يجوز أن يُرى في المنام؟ فقيل: لا، يُ
وقيل: نعم، والحق أنه لا مانع من هذه الرؤيا وإن لم تكن رؤية حقيقية» . اهـ في "شرح الإمام النووي على مسلم " ما نصه: «قال القاضي: واتَّفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها، وإن رآه الإنسان على صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام؛ لأنَّ المرئي غيرُ ذات الله تعالى إذ لا يجوز عليه سبحانه وتعالى التجسيم، ولا اختلاف الأحوال. قال ابن الباقلاني : رؤية الله في المنام خواطر في القلب
دلالات وهي
للرائي على أمورٍ مما كان أو يكون كسائر المرئيات». اهـ أما وقوع رؤية الله تعالى في الدُّنيا يقظة فلم يحصل لأحد ولن يحصل، قال تعالى لموسى عليه السلام لن تركني [الأعراف: ١٤٣]، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: لن يرى أحدٌ منكم ربَّه حتى يموت» رواه مسلم في كتاب الفتن من "صحيحه" في الكلام على ابن صيَّاد، قال الجلال المحلّي في "شرح جمع الجوامع " : نعم اختلف الصَّحابة في وقوعها له صلَّى الله عليه وآله وسلّم ليلة المعراج، والصحيح: نعم . اهـ
٢٤
المقالات والمقدمات
وكذا صحح وقوعها له جماعةٌ من العلماء وذكروا لذلك أدلَّةً لا يتحملها هذا الموضع، ولم يأتِ المخالف كعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما بحجة تصلح للتمسك، وأمَّا وقوع رؤية الله تعالى في المنام فأنكره جماعة منهم الحافظ ابنُ الصَّلاح وبالغوا في إنكاره، ولا حُجَّة لهم إِلَّا أَنَّهم قالوا: إِنَّ المرئي في النوم خيال ومثال وذلك على الله محال، ولو تأملوا قليلا لأدركوا أنَّ النوم لا يستحيل فيه شيء من ذلك، ثمَّ هم محجوجون بما نقل السلف من رؤيتهم الله تعالى في النوم مما سنذكر بعضه إن شاء الله تعالى، فالصحيح أنَّ رؤية الله في عالم الرؤيا واقعةً، وعلى ذلك جرى المعبرون كما قال المحلّي في "شرح جمع الجوامع"، وقال الحافظ في "فتح الباري" ما نصه : جوز أهل التعبير رؤية الباري عز وجل في المنام مطلقا، ولم يجروا فيها الخلاف في رؤيا النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وأجاب بعضهم عن ذلك بأمور قابلة للتأويل في جميع وجوهها، فتارة يُعبّر بالسلطان، وتارة بالولد وتارة بالسَّيد، وتارة بالرئيس، في أي فنّ كان، فلما كان الوقوف على حقيقة ذاته ممتنعا وجميع من يعبر به يجوز عليهم الصدق والكذب كانت رؤياه تحتاج إلى تعبير دائما، وقال أيضًا بعد كلام ما نصه: قال الغزالي ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام فإنَّ ذاته منزّهة عن الشكل والصورة، ولكن تعريفاته تنتهي إلى العبد بواسطة مثال محسوس مِن نورٍ أو غيره، ويكون ذلك المثال حقا في كونه واسطة في التعريف فيقول الرائي: رأيت الله تعالى في المنام، لا يعني أني رأيت ذات الله تعالى كما يقول في حق غيره، وقال أبو القاسم القشيري ما حاصله لو رأى الله على وصف يتعالى عنه وهو يعتقد أنه منزه عن ذلك، لا يقدح في رؤيته بل يكون لتلك الرؤيا ضرب من التأويل، كما
علم الكلام والمنطق
۲۵
قال الواسطي : من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرائي، وغير ذلك اهـ. وللغزالي في كتاب المضنون به على غير أهله" كلام نفيس في هذا المعنى، والخصه العلامة العطار في "حاشية جمع الجوامع".
إذا تقرر هذا وأنَّ رؤية الله في النَّوم جائزة ولو رئي على صفة يتعالى عنها
وأنَّ ذلك على ضرب من التأويل.
فلنذكر بعض من ورد عنه أنه رأى الله في المنام فنقول:
أخرج الترمذي في "جامعه" قال: ثنا سلمة بن شبيب وعبد بن حميد قالا: ثنا عبدالرزاق عن معمر، عن أيوب عن أبي قلابة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «أتاني الليلة ربي في أحسن صورة»، قال: أحسبه في المنام «فقال : يا محمد هل تدري فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى وجدتُ بردَها بين ثديي، أو قال: في نحري، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم. في الكفارات والدرجات، والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردتَ بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات إفشاء السَّلام، وإطعام الطعام، والصَّلاةُ بالليل والنَّاسُ نيام ثمَّ قال الترمذي : وقد ذكروا بين أبي قلابة وبين ابن عباس في هذا الحديث رجلًا: ثنا محمد بن بشار : ثنا معاذ بن هشام: ثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن
٢٦
ثديي
المقالات والمقدمات
اللجلاج ، عن ابن عبّاس، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «أتاني ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلتُ: لبيك ربي وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلتُ: ربي لا أدري فوضع يده بين كتفي فوجدتُ بردها بين ى فعلمتُ ما بين المشرق والمغرب قال يا محمد، قلت: لبيك رب وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجاتِ والكفَّاراتِ، وفي نقل الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكروهات، وانتظارِ الصَّلاةِ بعد الصلاة، ومن يحافظ عليهنَّ عاش بخير ومات بخير، وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه قال الترمذي : هذا حديثٌ حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن معاذ وعبد الرحمن بن عائش، وقد رُوي هذا الحديث عن معاذ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلَّم بطوله وقال: «إنِّي نَعَسْتُ فَاستَثْقَلتُ نومًا، فرأيت ربِّي
في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟» اهـ كلام الترمذي. قلت: أما حديث معاذ فرواه أحمد والترمذي من طريق أبي سلام عن
عبدالرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات غداةٍ من صلاةِ الصُّبح حتَّى كِدْنا نَتَراءى قرنَ الشَّمس، فخرج سريعًا فثوب بالصَّلاة فصلى وتجوز في صلاته، فلما سلم قال: «كما أنتُم ثمَّ أقبل إلينا فقال: «إنِّي قمتُ من الليل فصليت ما قُدّر لي، فنَعَسْتُ في صلاتي حتَّى استثقلتُ فإذا أنا بربي عزَّ وجلَّ في أحسن صورة، فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب أعادها ثلاثا - فرأيتُه وضَعَ كفَّه بين كتفي حتى وجدتُ بردَ أنامله بين صدري، فتجلّى لي كلُّ شيءٍ وعرفتُ، فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟
علم الكلام والمنطق
۲۷
قلت: في الكفَّاراتِ، قال: وما الكفَّاراتُ؟ قلتُ: نقل الأقدامِ إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصَّلواتِ، وإسباغ الوضوء عند الكريهات، قال: وما الدرجاتُ؟ قلتُ: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاةُ والنَّاس نيام، قال: سل. قلتُ : اللهم إني أسألك فعل الخيراتِ وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردتَ فتنةً بقوم فتوفَّني غير مفتون، وأسألك حبّك وحب من يحبك، وحبَّ عمل يقربني إلى حبك» وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّها حقٌّ فَادْرُسوها وتعلَّمُوها» قال الترمذي: حديث حسن
صحيح.
وأما حديث عبدالرحمن بن عائش فرواه الطبراني بطرق وألفاظ منها أنَّه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: أنت أعلم أي ربِّ، فوضع كفه بين كتفي فوجدتُ بردها بين ثديي فعلمتُ ما في السماوات وما في الأرض، ثم تلا وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ [الأنعام: ٧٥]، ثمَّ قال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ فقلتُ: في الكفارات، قال: وما هُنَّ ؟ قلتُ : المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد خلاف الصَّلواتِ، وإسباغ الوضوء أماكنه في المكارِهِ، قال: قال الله عزّ وجل: من يفعل ذلك يَعِش بخير ويمت بخير ويكون كيوم ولدته أمه، ومِنَ الدرجاتِ إطعام الطعام، وبذلُ السَّلام، وأن تقوم بالليل والنَّاس نيام، ثم قال: يا محمد قل: اللهم إني أسألك فعل الطيِّبات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتَتُوبَ عليَّ، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فتوفَّني غير مفْتُونِ»
۲۸
المقالات والمقدمات
فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «تعلموهنَّ فوالذي نفسي بيده إنَّهنَّ لحق»، ورجاله ثقات غير أنَّ فيه اضطرابًا كثيرًا ذكره الحافظ في ترجمة عبدالرحمن بن عائش من الإصابة" ، وللحديث طرق وألفاظ غير ما ذكرنا، أورده الحافظ الهيثمي في كتاب التعبير من مجمع الزوائد"، والحافظ السيوطي في تفسير سورة (ص) من "الدر المنثور" عند قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَا الأَعلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [ص: ٦٩]، قال البيهقي في "الأسماء والصفات" عقب روايته له ما نصه: ثم تأويله ع عند أهل النظر على وجهين: أحدهما: أن يكون معناه وأنا في أحسن صورة كأنه زاده كمالا وحسنا وجمالًا عند رؤيته.
والثاني: أنه بمعنى الصفة ومعناه أنه تلقاه بالإكرام والإجمال، فوصفه
بالجمال.
وأما قوله: فوضع كفَّه بين كتفي فكذا في روايتنا وفي رواية بعضهم يد، وتأويله عند أهل النظر : إكرام الله إياه، وإنعامه عليه حتى وجد برد النعمة يعني روحها وأثرها في قلبه فعلم ما في السَّماء والأرض، وقد يكون المراد باليد: الصفة بما وجد من زيادة العلم، كتعلُّق اليد التي هي صفة لخلق آدم عليه السلام تعلُّق الصفة بمقتضاها لا على معنى المباشرة، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، لا تجوز عليه ولا على صفاته التي هي من صفات ذاته مماشة أو مباشرة، تعالى الله عزّ اسمه عن شبه المخلوقين علوا كبيرًا . اهـ وأخرج الحافظ ابن الجوزي قال: أخبرنا عبدالملك بن أبي القاسم: أنا عبد الله بن محمد الأنصاري: أنا محمد بن عبد الجليل بن أحمد: أنا محمد بن أحمد بن
علم الكلام والمنطق
۲۹
إبراهيم، وأنا ابن ناصر : أنا أبو علي الحسن بن أحمد: أنا أبو محمد الخلال: أنا عبيد الله بن عبدالرحمن الزهري قالا: ثنا أحمد بن محمد بن مقسم سمعت عبدالعزيز بن أحمد النهاوندي قال: سمعت عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: رأيت ربَّ العزّة عزّ وجلَّ في المنام فقال : يا ربِّ ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك؟ فقال: «كلامي يا أحمد»، قلت: يا رب بفهم أو بغير فهم؟ قال: «بفهم وبغير فهم».
وأخرج ابن الجوزي في مناقب أحمد" أيضًا بإسناده إلى يعقوب ابن أخي معروف عن محمد بن إسحق :قال: رأيتُ القيامة قد قامت، ورأيت رب العزة عزّ وجل أسمع الكلام وأرى النور - فقال: «ما تقول في القرآن؟» فقلت: كلامك يا رب العالمين، قال: «من أخبرك؟» فقلتُ: أحمد بن حنبل، فقال: «الحمد الله»، فدعى أحمد فقال له: «ما تقول في القرآن؟» فقال: كلامك يا رب العالمين، قال: ومن أين علمتَ ؟ قال فصفح أحمد ورقتين فإذا في ورقة شعبة عن المغيرة، وفي الأخرى عطاء عن ابن عبّاس، فدعى شعبة، فقال الله تعالى: «ما تقول في القرآن؟» فقال: كلامك يا رب العالمين، فقال: «من أين علمت؟» قال: أنا عطاء عن ابن عبّاس، فلم يدع عطاء، ودعا ابن عباس، فقال: «ما تقول في القرآن؟ قال: كلامك يا رب العالمين، قال: «أين علمت؟» قال: أنا محمد رسول الله، فدعى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال الله له: «ما تقول في القرآن؟» فقال: «كلامك يا ربَّ العالمين»، قال: «ومن أخبرك؟» قال: جبريل عنك»، قال: «صدقت وصدقوا».
وأخرج ابن الجوزي أيضًا بسنده إلى أبي الحسن بن الحسين الصوَّاف، قال:
۳۰
المقالات والمقدمات
رأيت ربَّ العزّة في المنام فقال لي: يا حسنُ من خالف ابن حنبل عُذِّب»؛ أي: لأنه كان يقول : القرآن كلام الله غير مخلوق.
وقال أبو سعيد الواعظ في كتاب "التعبير " : أخبرنا أبو القاسم الحسين بن هرون بعكا: ثنا أبو يعقوب إسحق بن إبراهيم الأوزاعي: أخبرني عبدالرحمن بن
واصل أبو زرعة الحاضري: ثنا أبو عبدالله التستري قال: رأيت ربي في منامي كأن القيامة قد قامت وقمتُ من قبري، فأُتيتُ بدابَّة فركبتُها ثمَّ عُرج بي إلى السماء فإذا فيها جنَّة، وأردت أن أنزل فقيل لي: ليس هذا مكانك، فعرج بي إلى سماء سماء في كل سماء منها جنَّة حتى صرتُ إلى أعلى عليين، فنزلت ثم أردتُ أن أقعد فقيل لي: تقعد قبل أن ترى ربَّك عزَّ وجل؟ قلت: لا. فقمت فساروا فإذا الله تبارك وتعالى قدَّامَهُ آدم عليه السَّلام، فلما رآني آدم عليه السلام أجلسني يمينه جلسة المستغيث قلتُ: يا ربِّ قد أفلجت على الشيخ بعفوك، فسمعت الله تعالى يقول: «قم يا آدم قد عفونا عنك».
بي
وقال أبو سعيد أيضًا أنا أبو علي الحسن بن محمد الزبيري: ثنا محمد بن المسيب: ثنا عبد الله بن حنيف قال : ثني ابن أخت بشر بن الحرث قال: جاء رجل إلى بشر فقال: أنت بشر بن الحرث؟ قال: نعم. قال: رأيت الرب عزّ وجل في المنام، وهو يقول: انت بشرًا فقل له: «لو سجدت لي على الجمر ما أديتَ شُكْري لما قد بيّنت اسمك في النَّاس».
وقال أبو سعيد أيضًا أنا أحمد بن أبي عمران الصوفي بمكة: أني أبو بكر الطَّرطوسي قال: قال عثمان الأحول تلميذ الخراز: بات عندي أبو سعيد – يعني: الخراز - فلما مضى ثلث الليل صاح بي يا عثمان قم أسرج، فقمت
علم الكلام والمنطق فأسرجت فقال لي: ويحك رأيت الساعة كأنّي في الآخرة والقيامة قد قامت فنوديت فأوقفت بين يدي ربي وأنا أرعُد لم يبق على شعرة إلا قد ماتت، فقال: «أنت الذي تشير إليَّ في السَّماع إلى سلمى وبثينة، لولا أعلم أنك صادق في ذلك لعذبتك عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين».
وذكر القطب الشعراني رضي الله عنه في "الطبقات الكبرى" عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: رأيتُ ربَّ العزّة في النوم فقلتُ: يا رب كيف أجدك؟ فقال: «فارق نفسك وتعال إليَّ».
۳۱
وذكر عبد الحكيم السيالكوتي في حاشية المواقف": أنَّ ممن ورد عنه رؤية الله تعالى في النوم من الصَّحابة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن غيرهم أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ومثل هذا كثير بالغ حد التواتر، وأنا أعرف أناسًا رأوا الله تعالى في المنام منهم شيخنا وشيخ شيوخنا خاتمة المحدثين بفاس السيد محمد بن جعفر الكتاني روح الله روحه ونوّر ضريحه، فقد أثبت ذلك في "مبشراته"، وبلغني أن بعض المتعصبة من علماء بلده استنكروا ذلك لما سمعوه واستعظموه، وليت شعري ما حملهم على الاستنكار والاستعظام! أغاب عنهم ما ذكرناه وما ذكره أهل التعبير؟ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَنهُمُ اللَّهُ مِن فضلِهِ [النساء: ٥٤].
والخلاصة: أنَّه لا داعي لاستنكار رؤية الله في المنام، إذ هي ثابتة واقعة وهي ضرب من المبشرات يكرم الله بها من يشاء من عباده المؤمنين، ولما يقع فيها من الأوصاف المستحيلة على الله كرؤيته على صورة شيخ أو شاب، أو مقبلاً أو مدبرا، لكل ذلك تأويلات تختلف بحسب حال الرائي، عقد لها أهل
۳۲
المقالات والمقدمات
التعبير في كتبهم بابًا خاصًا، هذا ما رأينا كتابته في الحال، وقد كنا عزمنا على تحرير مثله، منذ زمن حيث كان كتب في الموضوع نفسه، فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد سليمان سليمان كتابة تحتاج إلى مناقشة، فلم تساعده الأقدار إذ ذاك على ذلك، ولكل أجل كتاب.
علم الكلام والمنطق
٤- رؤية الأولياء الله (۱)
قال مسروق لعائشة رضي الله عنها : هل رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم ربه عزّ وجلَّ؟ فقالت: سبحان الله !! لقد قَفَّ شعري لما قُلتَ، يرحم الله عائشة كيف لو أدركت زماننا هذا حتى تسمع من يحدثها أنَّ فلانًا الولي يرى الله عيانًا؟! ورؤية النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ربَّه مما اختلف فيها العلماء الصحابة
۳۳
رضي الله عنهم فمن بعدهم، فمِن مُثبت لها ومن منكر، وبنو هاشم كما يقول ابن عباس : كلُّهم على إثباتها، والإمام أحمد ممن يثبتها أيضًا، ويقول: فيما يرويه عنه عبدوس بن مالك العطار، من كلام له بين به أصول السُّنَّة عند السلف: والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من الأحاديث الصحاح، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قد رأى ربَّه، فإنَّه مأثور عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ،صحيح رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم والكلام فيه بدعةٌ، ولكن نؤمن به على ظاهره ولا نناظر فيه أحدا، وسئل عن ذلك كما في "تفسير العشاب " فقال: راه راه راه راه راه حتى انقطع نفسه، وسُئل كما جاء في "علل الأخلاق - عن حديث أبي ذر: نورٌ أَنَّى أراه رأيتُ نورًا . فقال : ما زلت منكرا له وما أدري ما وجهه ؟
قلت: وابن خزيمة يوافق الإمام أحمد على إثبات الرؤية، ويُعلُّ حديث أبي ذر بما تجده في كتاب التوحيد"، والكلام في هذا طويل متشعب أفرد بالتأليف
(۱) مجلة الإسلام.
٣٤
المقالات والمقدمات
فيحتاج بَتُ الرَّأي فيه إلى دراسة واسعة تجمع أطراف ما كتب من الجانبين مع تمحيص دقيق، ثمّ بعد ذلك لا يخفى على الباحث الفطن ما هو الحق الحقيق بالاتباع، ونرجع إلى موضوعنا الذي أنشأنا المقال لأجله.
بلغني أن محيي الدين بن العربي ذكر في "فتوحاته" أنَّه رأى الله عيانا، فأخذتني قشعريرة من سماع هذا الكلام وعلتني الرمضاء، ثم قلت لمحدِّثي بعد وجوم: هذا لا يصح عن ابن العربي، وإن صح فهو مؤوّل يقينا؛ لأنَّ إجماع الصوفية ومعهم علماء الظاهر، قائم على أنَّ رؤية الله في الدُّنيا يقظة لم تقع لأحدٍ غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم على ما في رؤيته من خلاف، وكل قول يكون بمنطوقه أو مفهومه مخالفًا للإجماع يجب طرحه جانبًا أو تأويله بما يوافق الجماعة إن كان للتأويل فيه مجال، هذا ما قرّرته حينئذ، ثم ظهر لي بعد أن أتوسع في التقرير بعض التوسع وأعود عليه بالتنقيح والتهذيب، فلعل فيه استبهاما يحتاج إلى بيان، أو اعتراضا يعوزه جواب، أو نقصا يتوقف على تتميم وتكميل مع ما في إذاعة ذلك ونشره من الفائدة لجمهرة القراء، إذ الموضوع ا يتصل بصميم . العقائد ويدخل في أمهات السَّمعيَّات من علم التوحيد، فإليك طائفة من النصوص لا تتعلَّق بجواز الرُّؤية وإنْ دلَّت عليه التزاما؛ إذ أنَّ ذلك
مفروغ منه في موضعه، ولكنَّها تتسع الوقوع وتبين حكم مدعيه.
في "صحيح مسلم عن بعض أصحاب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال: «تعلموا أنَّ أحدًا منكم لن يرى ربَّه عزّ وجلّ حتّى يموت»، ومثله عند ابن خزيمة من حديث أبي أمامة ومن حديث عبادة بن الصامت (۱) وهو صريح
(۱) رواه أحمد أيضًا.
علم الكلام والمنطق
۳۵
في منع الوقوع، ولذا قال الحافظ في "الفتح": «فإن جازت الرُّؤية في الدنيا
عقلا فقد امتنعت سمعا» اهـ.
وفي "الفتح" أيضًا كلام على حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان عقب قوله: «فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك»، تنبيه دلّ على سياق الحديث، على أن رؤية الله في الدُّنيا بالأبصار غير واقعةٍ، وأما رؤية النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فذاك لدليل آخر، وقد صرح مسلم في روايته من حديث أبي أمامة بقوله
صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا». وأقدم بعض غُلاة الصُّوفيَّة على تأويل الحديث بغير علم، فقالوا: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء وتقديره : فإن لم تكن - أي: فإِن لم تَصِر شيئًا وفنيت عن كأنك ليس بموجود فإنَّك حينئذ تراه، ثم ردَّ هذا التأويل بما
نفسك حتى يطلب هناك.
وفي كتاب "التوحيد" بعد ذكر آيتي الرؤية يوم القيامة: حدثنا جل ثناؤه أنها يعني الرؤية - بعد الموت وأنهم لا يرونه قبل الممات، ولو كان معنى قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَرُ [الأنعام: ۱۰۳] ، على ما تتوهمه الجهمية المعطلة الذين يجهلون لغة العرب، فلا يُفرّقون بين النظر وبين الإدراك، لكن معنى قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَرُ ) أي : أبصار أهل الدنيا قبل الممات، ثم استشهد بحديث أبي أمامة: «النْ ترَوْا رَبَّكم حتّى تموتوا ثم قال : فيه دلالة واضحة اهـ. وفي "تفسير العشاب" وروى مالك أنه سئل عن رؤية الله بالبصر في الدُّنيا فقال: لا يُرى الباقي بالفاني، وذكره القاضي عياض في "إكمال المعلم ولفظه" بعد ذكر جواز الرؤية ووقوعها في الآخرة ، وأمَّا في الدنيا فقال مالك: إنَّما لمير
٣٦
المقالات والمقدمات
سبحانه في الدنيا؛ لأنَّه باق والباقي لا يُرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي، هذا كلام الإمام مالك (۱) شيخ الأئمة وأشدهم إتقانا وتثبتا، ويوافقه في المعنى من كلام علية القوم، قول السهروردي في أعلام الهدى وعقيدة أرباب التقى : أن رؤية العيان متعذرة في هذه الدار؛ لأنها دار الفناء والآخرة هي دار البقاء، فلقوم من العلماء نصيب من علم اليقين في الدُّنيا، وللآخرين أعلى منهم مرتبة - نصيب من عين اليقين، كما قال قائلهم رأى قلبي ربي، وقرأت في استجلاب ارتقاء الغرف" للحافظ السخاوي: وفي "المجالسة" من طريق المدائني قال: بينما محمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام في فناء الكعبة أتاه أعرابي فقال له: هل رأيت الله حيث عبدته فأطرق وأطرق من كان حوله، ثمَّ رفع رأسه إليه فقال: ما كنت أعبد شيئًا لم أره، قال : لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُدرك بالحواس، ولا يُقاسُ بالنَّاس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات،
(1) لما نقل ابن الصلاح عن أبي منصور التميمي أن أصح الأسانيد الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، واحتج بإجماع أهل الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الشافعي، اعترضه مغلطاي الحنفي برواية أبي حنيفة عن مالك إن نظرنا إلى الجلالة وابن وهب والقعنبي إن نظرنا إلى الإتقان، وأجيب عنه بأجوبة منها ما قاله شيخ الإسلام الحافظ أنَّ رواية أبي حنيفة عن مالك لم تثبت وإنما أوردها الدارقطني ثم الخطيب لرواية وقعت لهما عنه بإسنادين فيهما فقال: وأيضًا فإن رواية أبي حنيفة عن مالك إنما هي ذكره في المذاكرة ولم يقصد الرواية عن كالشافعي الذي لازمه وأخذ عنه "الموطأ" إلخ ومعلوم أنَّ القعنبي وابن وهب أنزل من الشافعي بدرجات بل أجلية أبي حنيفة على الشافعي في مقام المنع.
علم الكلام والمنطق
۳۷
لا يجوز في قضيَّته، بَانَ من الأشياء وبانت الأشياء منه، وليس كمثله شيء، ذلك الله الذي لا إله إلا هو . فقال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. وهذا كلام أبي جعفر الباقر صفوة آل بيت النبوَّة، وممن جمع حسب الدين وشرف الأبوة. وفي شرح صحيح مسلم" للإمام النووي بعد ذكر جواز الرؤية ووقوعها في الآخرة وأمَّا رؤية الله تعالى في الدُّنيا، فقد قدَّمنا أنها ممكنة ولكن الجمهور من السَّلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا، وحكى الإمام أبو القاسم القشيري في "رسالته" المعروفة عن الإمام أبي بكر ابن فورك رضي الله عنه، حكى فيها قولين للإمام أبي الحسن الأشعري، أحدهما: وقوعها، والثاني: لا اهـ.
وعبارة "الرسالة القشيرية": فصل: فإن قيل: فهل تجوز رؤية الله بالأبصار اليوم في الدُّنيا على جهة الكرامة؟
فالجواب عنه أنَّ الأقوى فيه أنَّه لا يجوز، لحصول الإجماع عليه وقد سمعت الإمام أبا بكر بن فورك رضي الله عنه يحكي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال في ذلك قولين في كتاب "الرؤية الكبير " .
قلت: قول أبي الحسن الأشعري لا يضر الإجماع شيئًا كما ستعرفه، ألا ترى أنَّ الإمام القشيري حكى الإجماع أولا ثم نقل قول الأشعري، ولو كان مؤثرًا شيئًا لما استجاز حكاية الإجماع، وفي حادي الأرواح" بعد استيعاب أدلة الرؤية يوم القيامة استيعابا بالغا والمنحرفون في باب رؤية الرب تبارك وتعالى نوعان: أحدهما: من يزعم أنَّه يُرى في الدينا ويحاضر ويسامر.
والثاني: من يزعم أنه لا يُرى في الآخرة البتة ولا يكلم عباده.
۳۸
المقالات والمقدمات
وما أخبر الله به رسوله وأجمع عليه الصّحابة والأئمة يكذب الفريقين، وفي
كتاب "التعرف لمذهب التصوُّف": وأجمعوا على أنَّه تعالى لا يُرى في الدنيا بالأبصار، ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان بأنَّه غاية الكرامة وأفضل النعم،
ولا يجوز ذلك إلَّا في أفضل مكانٍ، ولو أعطوا في الدُّنيا أفضل النعم لم يكن بين الدنيا الفانية والجنة الباقية فرق، ولما منع الله كليمه موسى عليه السّلام ذلك في الدُّنيا كان من دونه أحرى، ولا نعلم أحدًا من مشايخ هذه الطريق ولم نر في كتبهم ولا في مصنفاتهم ولا في رسائلهم ولا في الحكايات الصحيحة عنهم، ولا سمعنا ممن أدركنا منهم زعم أنَّ الله يُرى في الدنيا أو رآه أحدٌ من الخلق، إلَّا طائفة غُلاة لم يعرفوا بأعيانهم، بل زعم بعض النَّاسِ أَنَّ قوما من الصوفية ادعوه لأنفسهم، وقد أطبق المشايخ كلهم على تضليل من قال ذلك، وتكذيب من ادعاه وصنفوا في ذلك كتابًا، منهم أبو سعيد الخراز والجنيد في تكذيب من ادعاه وتضليله، وقالوا من ادعى ذلك لم يعرف الله تعالى، وهذه كتبهم تشهد على ذلك، هذا كلامٌ صريح موضّح كافٍ وشاف، وقد أقره عليه شارحه علاء الدين القونوي والحافظ السيوطي في " تأييد الحقيقة العلية"، بل زاد القونوي:
وقد يكون الشَّيطان تراءى لمن ادعى ذلك ودعاه لنفسه وربطه في الضَّلال. قلت: مثل هذا من المزالق الخطرة يجد الشيطان فيه مجالا واسعا للتضليل والإغواء، فلا ينجو إلا من أراد الله به خيرا، كما ذكر العارف
الشعراني في "الطبات"، و"اليواقيت" عن الشيخ عبدالقادر الجيلي رضي ا
الله
عنه قال: تراءى لي مرَّة نورٌ عظيمٌ ملأ الأفق، ثم بدت لي صورة تناديني يا عبد القادر أنا ربك وقد أسقطت عنك التكاليف، فإن شئتَ فاعبدني وإِن شئتَ
علم الكلام والمنطق .
۳۹
فاترك، فقلتُ له: اخسأ يا لعين فإذا ذلك النُّور قد صار ظلاما وتلك الصورة صارت دخانا ثم خاطبني اللعين، وقال لي: يا عبدالقادر نجوت مني بعلمك بأحكام ربك وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق، فقيل للشيخ عبد القادر: فمن أين عرفت أنه شيطان؟ فقال: بإحلاله لي ما حرم الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فإنَّه تعالى لا يحرم شيئًا على ألسنة رسله ثمَّ يبيحه لأحد في السر أبدا، وفي "شرح الفقه الأكبر" لملا علي القاري بعد كلام في هذا المعنى وقد نقل جماعة الإجماع على أنَّ رؤية الله تعالى لا تحصل للأولياء في الدُّنيا، وقد قال ابن الصلاح وأبو شامة: إنَّه لا يُصدَّق مُدَّعي الرُّؤية في الدنيا حال اليقظة، فإنَّها شيء منع منه كليم الله موسى، وفيه أيضًا:
والحاصل: أنَّ الأمة قد اتفقت على أنَّه تعالى لا يراه أحد في الدُّنيا بعينه، ولم يتنازعوا في ذلك، إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم حال عروجه على ما صرح به في "شرح عقيدة الطحاوي" وفي "اليواقيت"، فإن قيل: فهل وقعت رؤية الله تعالى في يقظة الدُّنيا لأحدٍ غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بحكم الإرث له في المقام؟
فالجواب كما قاله الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه: لم يبلغنا وقوع ذلك في الدُّنيا لأحدٍ غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذه دلالة واضحة على أنَّ ابن العربي لم يصح عنه ادعاء الرؤية كما قدمنا، إذ لو صح لنقله العارف الشعراني رضي الله عنه فإنَّه أعرف بكلام الشيخ، لا يغيب عليه منه شيء وأفهم له في غيره.
المقالات والمقدمات
ه حكم الذين يحقرون النبي لا لا لا لا باسم التوحيد والسنة (1) عن ابن عباس قال: إنَّ أعمى كانت له أم ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم تكثر الوقيعة في رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وتشتمه، فقتلها الأعمى، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أشهدُ أنَّ دمَهَا هَدَر». رواه أبو داود والنسائي والبيهقي
وهذا لفظه .
وفي "سنن أبي داود" و "البيهقي" ، واللفظ للأول، عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلتُ: ائذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه. قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي، فقال ما الذي قلت آنفًا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه. قال: أكنتَ فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم. قال: لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. صححه الحاكم وابن تيمية. وقوله: «إن أعمى كان له أم ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم تكثر الوقيعة فيه... إلخ».
وفي "سنن أبي داود" و "سنن ابن "بطة" عن الشعبي عن علي عليه السلام، أن يهودية كانت تشتم النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وتقع فيه فخنقها رجل
حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دَمَها.
وجاء في رواية أن الرّجل كان أعمى، قال ابن تيمية في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" وهذا الحديث نص على جواز قتلها -يعني:
(۱) مجلة المسلم، السنة الخامسة، العدد الرابع، ذي القعدة ١٣٧٤ .
علم الكلام والمنطق .
٤١
اليهودية - لأجل شتم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، ودليل على قتل الرجل
الأمي، وقتل المسلم والمسلمة إذا سبا بطريق الأولى.
وقال أبو بكر بن المنذر: «أجمع عوام أهل العلم على أنَّ مَن سَبَّ النبي يُقتل». وممن قال ذلك: مالك بن أنس، والليث، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي.
وقال القاضي عياض في "الشفا" : اعلم أنَّ جميع من سبَّ النبيَّ أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السبّ له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغضّ منه والعيب له، فهو سب له والحكم فيه حكم الساب؛ يقتل كما نبينه، ولا فصلا من فصول هذا الباب على هذا القصد ولا نمتري فيه تصريحا
نستثني كان أو تلويحا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرةً له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور، أو عيّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة إلى هلم جرا.
وقال الإمام محمد بن سحنون: «أجمع العلماء أنَّ شاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومَن شك في كفره وعذابه كفر».
وقال الإمام ابن عتاب الكتاب والسنة موجبان أنَّ من قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بأذى أو نقص معرضًا أو مصرحًا وإن قل؛ فقتله واجب».
٤٢
المقالات والمقدمات
وسمع رجل قوما يتذاكرون صفة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إذ مرَّ بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال لهم: تريدون تعرفون صفته؟ هي في صفة هذا المار في خلقه ولحيته. فأفتى الإمام ابن أبي زيد القيرواني بقتله وعدم قبول
توبته.
وأفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: الحمال يتيم أبي طالب أنه يُقتل، وفتاوى العلماء ونصوصهم في هذا كثيرة. قوله: «كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل.. إلخ»، لهذا الأثر طرق عند النسائي وغيره، وروى قاسم بن أصبغ في مصنفه"، ومن طريقه ابن حزم، عن أبي برزة قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق، قلت: ألا أقتله؟ فقال أبو بكر: ليس هذا إلا لمن شتم النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
ورويا أيضًا عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه كان على الكوفة لعمر بن العزيز، فكتب إلى عمر: «إنِّي وجدت رجلًا بالكوفة يسبك وقامت عليه البينة فهممت بقتله أو قطع يديه أو قطع لسانه أو رجليه، ثم بدا لي أن أراجعك فيه».
فكتب إليه عمر بن العزيز: سلام عليك أمَّا بعد؛ والذي نفسي بيده لو قتلته لقتلتك به، ولو قطعته لقطعتُك به، ولو جلدته لأقدتُه منك، فإذا جاءك كتابي هذا فاخرج به إلى الكناسة فسبَّه كالذي سبني أو اعفُ عنه فإن ذلك أحبُّ إليَّ، فإنه لا يحل قتل امرئ مسلم يسبُّ أحدًا من الناس إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». وروی محمد بن عبد الملك بن أيمن، ومن طريقه ابن حزم، عن علي بن
علم الكلام والمنطق
المديني
٤٣
قال: دخلت على أمير المؤمنين فقال لي: أتعرف حديثا مسندًا فيمن سب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فيُقتل؟ قلتُ: . نعم. فذكرت له حديث
عبدالرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل، عن عروة بن محمد، عن رجل من بلقين قال: كان رجل يشتم النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن يكفني عدوا لي؟» فقال خالد بن الوليد: أنا. فبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقتله.
فقال أمير المؤمنين: ليس هذا مسندًا هو عن رجل. فقلت: يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وهو اسمه وقد أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فبايعه وهو مشهور معروف. قال فأمر لي بألف دينار.
وقال ابن حزم هذا حديث مسند صحيح، وقد رواه علي بن المديني عن عبدالرزاق كما ذكره ثم قال ابن حزم بعد ذكر ما تقدم من الأثار ما نصه: فصح بما ذكرناه أنَّ كلَّ مَن سب الله تعالى أو استهزأ به، أو سب ملكًا من الملائكة أو استهزأ به، أو سب نبيًّا من الأنبياء أو استهزأ به، أو سب آيةً من آيات الله تعالى أو استهزأ بها - والشرائع كلُّها والقرآن من آيات الله تعالى - فهو بذلك كافر مرتد له حكم المرتد وبهذا نقول».
وقلت: يدخل في هذا ما بلغني عن بعض المتسلّفين ممن انضم أخيرًا إلى القصيمي - قصمه الله - أنه قال في مجلس يضمُّ كثيرًا من الناس: إِنَّ القرآن ناقص؛ لأنه لم يُشير إلى المخترعات الحديثة وأنَّه كان الواجب أن يقول: وإنَّ لكم في (الأورنيوم) لعبرة بدل قوله: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةُ ﴾ [النحل: ٦٦] مثلا وهذا كما ترى كفر صريح يوجب قتل صاحبه والعياذ بالله تعالى.
المقالات والمقدمات
(تنبيه): كثير ما يحصل بين الناس أن يذكر أحدهم نبيا من الأنبياء، أو ملكا من الملائكة على سبيل ضرب المثل كأن يقول: إن قيل في السوء فقد قيل في النبي، أو: إن كُذِّبتُ فقد كُذِّب الأنبياء، أو: صبرتُ كصبر أيوب، أو: لا أفعل كذا ولو نزل علي جبريل، أو أنا أسلم من ألسنة الناس ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله، أو كل الناس أذنبوا حتى الأنبياء، ونحو هذا مما يدور بين الناس في محاورتهم ومخاصماتهم.
قال القاضي عياض في "الشفا" بعد أن ذكر كثيرا من الأمثلة من هذا القبيل ما نصه : فحَقُ هذا - إن دُرئ عنه القتل - الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو ندوره أو قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن
جاء به».
ثم نقل فتاوى عمر بن عبد العزيز ومالك وسحنون وغيرهم فليراجع كلامه، فإنَّه أجاد فيه غاية الإجادة.
وللحافظ السيوطي رسالة "تنزيه الأنبياء عن تشبيه الأغبياء" ألفها بسبب
حادثة وقعت من القبيل المذكور وهي مطبوعة في كتابه "الحاوي للفتاوى". ومن قلة الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سمعته من عالم أزهري - وهو في الواقع جاهل - سمعته يقول في مجلس خليط: إنَّ محمدا أخطأ وسجل الله عليه الخطأ في القرآن أعادها مرتين أو ثلاثة فأخذت بعض الحاضرين حماسة الإيمان وردَّ عليه بأنَّ هذا لا يليق وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يخطئ، فأصر على مقالته وأعادها وقال: إنَّه يأسف على تصريحه
علم الكلام والمنطق
٤٥
هذا ولكن دعاه إليه التعليم.
قلت ما كان أحوجه أن يأسف على قلة أدبه وكثرة جهله وفرط حقده
وتعصبه.
ومقام النبوة أعلى وأجل عن مثل هذا التعبير الشنيع قال ابن السبكي في جمع الجوامع : والصواب أنَّ اجتهاده صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يخطى». قال شارحه الجلال المحلّي: تنزيها لمنصب النبوَّة عن الخطأ في الاجتهاد وقيل: قد يخطئ ولكن ينبه عليه سريعًا لما تقدم في الآيتين: مَا كَانَ لِنَي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ [الأنفال : ٦٧] عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: ٤٣]». ولبشاعة هذا القول عبر المصنف بـ «الصواب» أي: ليفيد أن مقابله غير
صواب، كما قاله العلامة العطار في حاشيته على "جمع الجوامع" والله أعلم.
៩ ។
المقالات والمقدمات
٦- سؤال القبر لا يتأخر عن موعده (۱) (۱)
اطلعت في العدد الرابع والأربعين من مجلة الإسلام" الغراء على أسئلة وأجوبتها للأستاذ الشيخ عبد الجواد محمد الدومي، فإذا هو يجيب من سأله عما يقال: إن نقل الجنّة يستلزم السؤال مرَّتين؛ بأن المصرح به في بعض كتب التوحيد أن الميت إذا علم الله تعالى أنه سينقل من قبره إلى قبر آخر لا يسأل إلا في مقره الأخير . اهـ
وحيث أن هذا الجواب لم يصادف محله من الصواب رأيت أن أبين الحق في
الموضوع مع احترامي لشخص الأستاذ فأقول: إنَّ الميت لا يُسأل إلَّا في قبره الأول سواء أنقل منه إلى قبر آخر أم لم يُنقل
وإذا نقل لم يسأل في القبر الثاني أصلا. هذا ما دلّ عليه عموم أحاديث: ١ - عن عطاء بن يسار قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم لعمر ابن الخطاب: «يا عمرُ ، كيف بك إذا أنت مت فقاسوا لك ثلاثة أذرع وشبرا في ذراع وشيرٍ ثُمَّ رجعوا إليك وغَسَلُوكَ وكَفَّنوكَ وحَنَّطُوكَ، ثُمَّ احْتَمَلُوكَ حَتَّى يَضَعُوكَ فيه ثُمَّ يُهيلوا عليك الترابَ ويَدْفُنوكَ، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتّانا القبر - منكر ونكير - أصواتُهما كالرَّعْدِ القاصِفِ، وأبصارهما كالبرق الخاطف، يُجران أشعارهما، ويبحثان القبر بأنيابها، فتلتلاك وترتراك -أي: أزعجاك- وهو لاك فكيف بك عند ذلك يا عمر ؟».
فقال عمر: و يكون معي مثل عقلي الآن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
(۱) مجلة الإسلام - السنة الثالثة (العدد (٤٦) ٢٥ ذي القعدة ١٣٥٣ .
علم الكلام والمنطق
٤٧
وآله وسلّم: «نعم» قال: إذا أكفيكها.
رواه ابن أبي الدنيا في "القبور"، والبيهقي في "عذاب القبر"، وأبو نعيم في غير أنه مرسل، لكن رواه ابن بطة في "الإبانة" من
"الحلية" بإسناد صحيح . حديث ابن عباس، ورواه البيهقي في "الاعتقاد" من حديث عمر بإسناد ضعيف، ورواه أحمد وابن حِبَّان من حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث
طويل اختصر نا منه لفظ السؤال وكيفيته.
- عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: «اسْتَغْفَرُوا لأخيكم، وسلوا لَهُ التثبيت؛ فإنَّه الآن يُسأل». رواه أبو داود والحاكم وقال: «صحيح الإسناد» وأقره
الحافظ الذهبي. -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: إذا مات العبد أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر وللآخر نكير، فيقولان له: ما كنتَ تقولُ في النبي». وفي رواية: «في هذا الرجل»، وذكر الحديث في كيفية السؤال والجواب من المؤمن والكافر. خرجه الترمذي
وحسنه.
- عن أبي هريرة أيضًا :قال شهدنا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغ من دفنها وانصرف الناس قال: «إنَّه الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهها مثل صياصِي البقر وأصواتهما مثلُ الرَّعد». وذكر الحديث في كيفية السؤال والجواب. رواه الطبراني في "الأوسط" وقال: «تفرد به ابن لهيعة».
٤٨
المقالات والمقدمات
قلت: وهو ثقة بل كان فقيه مصر في وقته، وإنما تكلم فيه لأجل اختلاطه فإن كتبه احترقت في آخر حياته فصار يُحدث من حفظه، وقد استقر عمل الحفاظ على تحسين حديثه، وحسن له الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" عدة
أحاديث تفرد بها ، فحديثه هذا حسن لا سيما وله شواهد مُتعدّدة.
ه - عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ العبد إذا وُضِعَ في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنه يسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيُقْعِدَانِهِ، فيقولان ما كنتَ تقول في هذا الرجل الذي يقال له محمد..». وذكر الحديث في السؤال، رواه الشيخان. ٦ - عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ المؤمن إذا كان في انقطاع مِن الدُّنيا وإقبال مِن الآخرة بعثَ الله إليه ملائكة كأَنَّ وجوهَهم ،الشمسُ معهم حَنُوطُهُ وكَفَنْهُ فَيَجْلِسون مَدَّ بصره، فإذا خرجت رُوحه صلّى عليه كلُّ مَلَكِ بين السماء والأرض، وفتحت أبواب السماء، فإذا صُعِدَ بروحه قيل: أي ربِّ عبدك فلان. فيقول: أرجعوه فأروه ما أعددت له من الكرامة. فتُعاد روحه في جسده، وإنه ليسمع خَفْقَ نِعالهم إذا ولو مديرين، يأتيه مَلَكان فيُجْلِسانِهِ، فيقولان له: مَن رَبُّكَ؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام . فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم..» وذكر الحديث. ثُمَّ قال: «وإنَّ العَبْدَ الكَافِرَ إِذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت إليه ملائكةٌ غِلاظٌ شِداد معهم ثيابٌ مِن نارٍ وسرابيل مِن قَطران فيَحْتَوشُونه فإذا خرجت رُوحه لعنه كلُّ مَلَكِ بين السماء والأرض، وخُلقت أبواب السماء،
٤٩
علم الكلام والمنطق . فإذا صعد بروحه نُبذ وقيل: أي ربِّ عبدك فلان لم تقبله سماء ولا أرض. فيقول: أرجعوه فأرُوه ما أعددتُ له من الشر. فتعاد روحه في جسده، وإنه ليسمع خَفْقَ نِعالهم إذا ولَّوا مُدبرين، ويأتيه ملكان فيُجْلِسانه فيقولان له: مَن رَبُّك؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما دينك؟ فيقول هاه هاه لا أدري. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه لا أدري. فينادي منادٍ من السماء: أنْ كذب عبدي فافرشوا له مِن النَّار، وألبسوه مِن النَّار، وافتحوا له بابًا مِن النَّار. فيأتيه مِن حَرِّها، وسَمُومِها ويُضَيَّق عليه قبره حتى تختلف
أَضْلاعُه». الحديث رواه أحمد وابن أبي شيبة، والطيالسي، وأبو داود، وعبد
ابن حميد، وابن جرير، وهناد، وابن حِبَّان، والحاكم، والبيهقي، بألفاظ متعدّدة
وطرق صحيحة.
حديث تميم الداري وهو بلفظ حديث البراء، ومعناه. رواه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلي في مسنده "الكبير" من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عنه، ويزيد ضعيف.
- عن أبي رافع قال : بَيْنَا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في بقيع الغَرْقَدِ ، وأنا أمشي خَلْفَهُ، إذ قال: «لاَ هُدِيتَ ولا اهْتَدَيْتَ»، قلت: ما لي يا رسول الله ؟ قال: «لَسْتُ إِيَّاكَ أُرِيدُ، ولكنْ أُرِيدُ صاحِبَ هذا القَبْرِ، وسُئِلَ عَنِّي، فَزَعَمَ أَنَّهُ لا يَعْرِفُني». فإذا قَبْرٌ مَرْشُوش عليه ماءٌ حِينَ دُفِنَ صاحِبُهُ. رواه البزار والطبراني والبيهقي بإسناد ضعيف، ورواه أبو نعيم في "الدلائل" من
طریق آخر.
- عن أبي سعيد الخدري قال: شَهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله
المقالات والمقدمات
وسلَّم جَنَازَةً، فقال: «يا أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ هذه الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِها، فإذا الإنسانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عنه أَصْحابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ، فأقعده..» وذكر الحديث.
رواه أحمد، والبزار، وابن أبي الدنيا، والبيهقي بإسناد صحيح. ١٠ - عن ابن عباس قال: إنَّ المؤمن إذا حضرته الموتُ شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنَّة فإذا مات مَشَوْا مع جنازته ثمَّ صلُّوا عليه مع النَّاسِ، فإذا دفن أُجلس في قبره، فيقال له: مَن ربُّك؟» الحديث. رواه أبي حاتم والبيهقي،
وهذا حُكمه الرفع عند أهل الحديث والأصول لأنه مما لا مجال فيه للرأي. فهذه عشرة أحاديث تدلُّ على أنَّ الميت يسأل عند دفنه عقب موته، ولم تفرق في ذلك بين من نقل من قبره ومن لم ينقل، والتمسك بعموم الحديث واجب كما نص عليه الشافعي في مواضع من "الرسالة"، والغزالي في "المستصفى"، وابن السبكي في "جمع الجوامع"، وغيرهم. فمن أين أتى لذلك القائل أن الميت الذي علم الله أنه سينقل من قبره لا يسأل إلا في مقره الأخير ؟! لا أعرف لهذا القول مستندا إلا أن يكون صاحبه قاله تخريجا على كلام البزازي الحنفي فإنَّه قال في فتاويه ما نصه: «السؤال فيها يستقر فيه الميت حتى لو أكله سَبع فالسؤال في بطنه فإن جعل في تابوت أياما لنقله إلى مكان آخر لا يُسأل ما لم يُدفن». اهـ لكن لا يخفى أنَّ أمور الآخرة وما هو من متعلقاتها لا يجوز فيها الرأي والاستظهار، وإنَّما يُرجع فيها لكلام الصادق المصدوق، وهذا منصوص عليه في كتب التوحيد، وليس لأحد أن يقول يمكن أن يكون صاحب ذلك القول استند إلى حديث وقع له لأنا تتبعنا الأحاديث الواردة في سؤال القبر -وهي
علم الكلام والمنطق
سبعون حديثا كما قال الحافظ السيوطي وغيره- وتصفحناها بتتبع طرقها
وألفاظها فوجدناها متضافرة على ما أفادته العشرة أحاديث التي ذكرناها، فإن
جازف أحد وادَّعى وجود حديث يدلُّ على خلاف ما دلت عليه تلك
الأحاديث فليأتنا به، ولا يسعنا إلا قبوله بشرط أن يكون ثابتا.
وبمناسبة الكلام في سؤال القبر أذكر ما شاع بين كثير من النَّاس أنَّ الملكين يسألان الميت بالسريانية، ورأيت البناني قال في "حاشية جمع الجوامع":
إنَّ لفظ سؤالهما هكذا: «أتره أترح كاره سالحين».
이
لكن وجدتُ القطب سيدي عبد العزيز الدَّبَّاغ يقول في "الإبريز": «إنهما يقولان للميت: «مرزة؟ فيجيبهما بقوله : مرد أزره». وهذا مخالف لما ذكره البناني. وقد سئل شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: هل لذلك أصل في السُّنَّة؟ فأجاب بما نصه: «ظاهر الأحاديث أنَّ السؤال بالعربي، ويحتمل مع ذلك أن يكون خطاب كل أحد بلسانه . اهـ
وقال الحافظ السيوطي: «لم أقف في شيء من الأحاديث على أنَّ السؤال بالسريانية» . اهـ وكفاك بهما حُجَّة.
ومما شاع بين النَّاس أنَّ اسم الملكين اللذان يسألان المؤمن مبشر وبشير، وأن منكرًا ونكيرًا إنَّما يسألان الكافر ومن في حكمه، لكن الأحاديث التي ذكرناها وغيرها مصرحة بأن منكرًا ونكيرًا يسألان المؤمن والكافر، وأنهما يبشِّرانِ المؤمن ويوسعان عليه قبره.
نسأل الله أن يختم لنا بالإيمان، ويلهمنا حُجَّتنا، ويُخفّف عنا ضغطة القبر، ويقينا عذابه بفضله وكرمه.
٥٢
المقالات والمقدمات
٧- سؤال القبر لا يتأخر عن موعده (۲) (۱)
شق على الأستاذ الشيخ محمد الطاهر عوض الله ما كتبته تحت هذا العنوان ردا على شيخه فقام ينتصر له في حميَّةٍ كبيرة عن انفعال شديد، غير أن إسرافه في الحمية حمله على الإساءة في الردّ فوجّه إليَّ من التهم ما لا يحسن التفوه به من مثل أهل العلم، كاتّهامه إياي بعدم البصيرة وبعدم الدّراية وبعدم حسن ا
و.. و... إلخ.
النية
وكأن الأستاذ لشدَّة ما تملكه من الغضب نسي أنه يتكلم في مسألة علمية
فخرج من ميدان الرد العلمي إلى دائرة الشتم والسباب. مهلا يا أستاذ مهلا ورفقا بنفسك رفقا، فلتسكن من غضبك ولتسترد من عقلك ولتعلم أنَّك في ميدان علمي ليس للعاطفة فيه مجال ولا للعصبية عليه
تأثير.
لكنه ميدان قرع الحجة بالحجة ومعارضة الدليل بالدليل حتى يظهر الحق واضحًا لا يشتبه فيه اثنان هذه آداب المناقشة العلمية وعلى ضوئها سنناقشك الحساب فيها أبديت ونهدم لك من الشبه ما بنيت.
من
قلت في افتتاح كلمتك أنَّ مصادفة جواب الأستاذ الدومي لمحله الصواب لا تتوقف على كون هذا الرأي المعزو صحيحا في ذاته، إلى أن رميت بتلك الجملة الشائعة المتداولة بين صغار الطلبة وهي: إن كنت ناقلا فالصحة أو مدعيًا فالدليل. وكأنَّك لم تحصل من علم آداب البحث والمناظرة إلا على هذه الجملة التي صرت تستعملها في غير محلها ولم تدر ما قيدوها به من أن
(۱) مجلة الإسلام السنة الثالثة، العدد (٤٧) ذي الحجة ١٣٥٣ .
علم الكلام والمنطق
۵۳
الناقل لرأي إذا بان من قرائن كلامه اعتماده عليه كما فعل الأستاذ الدومي في ذلك الجواب عُدَّ مدعى عليه وتوجه عليه ما يتوجه على صاحب الرأي نفسه التخطئة وغيرها، راجع كتب آداب البحث كرسالة العلامة إسماعيل
من
الكلنبوي وحواشيها للعلامة عمر القره داغي الكردي وغيرهما.
واستدلالك بكلام الشيخ الدردير وغيره ممن سوَّدت الورق بالنقل عنهم بدون فائدة هو مع غرابته شبيه بالمصادرة؛ لأني أبطلت في مقالي الرأي من أصله سواء أكان صادرًا من الدردير أم من غيره، بل لم يكن كلامي في الحقيقة موجها إلا للشيخ الدردير ومن ذكر معه ولم أصرح بأسمائهم تفاديا من التصريح بتخطئتهم وإنما عرضت في كلامي حيث قلت بعد ذكر الأحاديث: فمن أين أتى لذلك القائل... إلخ. فلم تفعل في ردّك شيء سوى أن احتججتَ عليَّ بمن رددت كلامه وقد كنت أظن إذ سمعتُ بردّك أنك أتيت فيه ببحوث علمية قيمة ودلائل متينة فلما رأيت هذا وجدت الأمر أدون مما كنت أظن فتمثلتُ بقول صاحب المقامات: لقد استسمنت ذا وَرم.
ولشدة ما تعجبتُ من الأستاذ حين وجدته ينقل عن العدوي عن الأمير
عن ابن حجر الهيتمي - ويالها من حجّة قوية كسابقتها ما نصه: «إن كان وضعه في الأولى على نية النقل فالظاهر».
سبحان الله !! تراني يا أستاذ أصرح في مقالي بأن أمر الآخرة لا يجوز فيها
الاستظهار ثم تحتج علي بنفس الاستظهار !!
ماذا يسمى هذا في آداب البحث؟! وماذا يسمى في المنطق؟! وماذا يقال له
٥٤
المقالات والمقدمات
عند ذوي العقول ؟! هذا ما نترك الجواب عليه لحضرتك. ثم أفيدك يا أستاذ أنَّ ابن حجرٍ والدردير والصاوي والعدوي وأمثالهم - وإن كانوا علماء أجلاء ليسوا من أهل هذا الشأن ولا استوفوا منه بمكيال ولا ميزان، فدعك من الاحتجاج بكلامهم في هذا المقام فإنه لن يغنيك من الحق شيئًا.
ثم ذكر الأستاذ حديث أبي هريرة الذي فيه كلمة: «حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وظن أنه ظفر بالدليل الحاسم للنزاع فصار يتطاول ويدعي علي
في كلامه دعاوی ختمها بقوله: كما لا يخفى على ذي بصيرة»!.
وإنني ليحزنني أن أخجل الأستاذ وأردُّه خائبا يرضى من الغنيمة بالإياب. يا أستاذ؛ تلك الكلمة التي توهمت أنها حُجَّةٌ قاطعة أعني: «حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك تفرد بها عبد الرحمن بن إسحاق لم يذكرها أحد غيره ممن روى حديث أبي هريرة هذا، بل ولا ذكرت في غيره من بقية أحاديث السؤال وعبد الرحمن بن إسحاق مختلف فيه فوثقه جماعةٌ وضعفه آخرون وذكر بعض
من وثقه ومن ضعفه كالبخاري وابن عدي أنه يروي ما لا يتابع عليه. قلت: كهذه الكلمة؛ لأن أحاديث السؤال رواها أكثر من عشرين راويا
فيهم من هو من رجال الشيخين من طريق جماعة من الصحابة وهم: عمر، وعثمان، وأنس، والبراء، وابن عباس، وجابر، وتميم الداري، وثوبان، وعبدالله بن عمر، وعمرو بن العاص ،وابنه عبدالله وحذيفة، وعبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل، وأبو موسى وأبو هريرة، وعبد الله بن رواحة، وأبو أمامة وأبو الدرداء، وأبو قتادة، وابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وأبو رافع،
علم الكلام والمنطق
وأسماء، وعائشة، وبشير بن أكال.
ومن مرسل عطاء بن يسار، وضمرة بن حبيب، وقتادة، وغيرهم.
ولم يذكر تلك الكلمة أحد من أولئك الرواة إلا عبد الرحمن بن إسحاق
أفيكون أحفظ . . منهم كلّهم وأضبط؟! كلا ثمَّ كلًا، لا يكون ذلك ولن يكون
كيف وقد قال البخاري: ليس هو ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه ؟! فبطل التعلق بتلك الكلمة بتاتا.
وكأني بك تتشبَّتُ بتحسين الترمذي للحديث؟ فأبطل تشبتك بأنَّه إنَّها
٥٥
حسن أصل الحديث أي أصل معناه وهو ما اقتصرت عليه في كلامي. وبيان ذلك أن الحديث إذا كان معناه مشهورًا مثلا ثم جاء في بعض رواياته زيادة منكرة كما نحن فيه أطلق المخرّج لتلك الرواية أنها حسنة أو صحيحة بحسب حال رجالها وعني بذلك أصل الحديث أي: أصل معناه دون الزيادة، ويُحيل في تمييزها على رجال السند فإذا جاء المحدث واطلع على السند عرف من رجاله من يتفرد بما لا يُتابع عليه ومن لا فأمكنه بكل سهولة أن يميز أصل الحديث من الزيادة هذه عادة المحدثين ومن لا يعرفها يقع في أغلاط
فاحشة كما وقع للأستاذ حيث استدل بتلك الكلمة من غير أن يعرف ما فيها. وكما وقع الجماعة في حديث البسملة) حيث نقلوا تحسينه عن ابن الصلاح والنووي مع أنهما حسنا أصل الحديث وهو حديث الحمد كما بينا في مقالنا بالعدد (٤٤) من المجلة وأمثلة هذا كثيرة. ولو سلمنا صحة تلك الكلمة - وهي غير صحيحة - فليس فيها للأستاذ حجَّةٌ لأنَّ لفظ «ذلك» في الموضعين مشار به إلى المضجع الذي يُنعم فيه المؤمن
٥٦
المقالات والمقدمات
والمضجع الذي يُعذَّب فيه الكافر لا على المضجع الذي يُسألان فيه كما توهمه
الأستاذ.
ومعنى الحديث: أن كلا من المؤمن والكافر يبعثه الله من مضجعه ذلك الذي ينعم ويعذَّب فيه سواء أكان هو المضجع الذي سئل فيه بأن لم ينقل منه أم
كان غيره بأن نقل منه بعد السؤال إلى مكان آخر. ويؤيد هذا أن
القبر ليس خاصا بالمسؤولين بل يكون لغيرهم
كالشهيد والمرابط ومن مات ليلة الجمعة أو يومها ومن قرأ (تبارك الملك) كل ليلة فإن هؤلاء لا يسألون، ومع ذلك لا يزالون منعمين حتى يبعثهم الله من
مضاجعهم تلك التي يتنعمون فيها.
فصح أن الميت يُبعث من مضجعه الذي ينعم أو يعذب فيه، سئل أو لا،
كان هو المضجع الذي سئل فيه أو غيره، فتأمل وتفهم.
وأما قول الأستاذ: «إنَّ الإحاطة في أي باب من أبواب السنة لم يدَّعِها أحد من كبار الأئمة فتلك كلمة يلوكها من لا دراية له بعلم الحديث ولا رواية ومثله في إطلاقها على عمومها كمثل من سمع: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الماعون: ٤٤، فصار يطلق أنَّ للمصلين الويل ولم يستمع لبقية الآية حتى يقف على محط الفائدة.
يا أستاذ؛ إذا سمعت أنَّ الأئمة لم يدعوا الإحاطة فاعلم أن ذلك كان في العصور الأولى حيث كانت السنة غير مجموعة والصحابة متفرقين على الأقطار فكان منهم المكي والمدني واليمني والكوفي والبصري والشامي والمصري وكان عند أهل كل قطر من أحاديث الصحابة الذين وفدوا عليه ما ليس عند
علم الكلام والمنطق
OV
غيرهم، وكان الواحد إذا أراد حديثًا واحدًا رحل في طلبه شهرًا وزيادة كما رحل جابر مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس مصغرا- في حديث القصاص، ورحل أبو أيوب الأنصاري كذلك إلى عقبة بن عامر في حديث الستر على المسلم فكانت الإحاطة متعذرة.
ولهذا لما أراد الرشيد أن يحمل الناس على "الموطأ" قال له مالك: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم تفرقوا في البلاد وعند أهل
كل بلد من العلم ما ليس عند غيرهم.
أما
بعد أن استقرت الأخبار وجُمعت في الكتب مرتبة على المسانيد
والمعاجم والأبواب والحروف وأفرد لكل نوع من أنواع الحديث كتب خاصة فلم يقل أحد بامتناع الإحاطة ولا بتعشرها بل هي ممكنة وواقعة.
يرشد إلى ذلك ما صححوه في كتب الأصول والمصطلح من أنَّ الحديث إذا فتش عنه في كتب الحديث ولم يوجد يقطع بأنه مكذوب، فالقطع بالكذب لا يتأتى إلا مع وجود الإحاطة وإلا فلا يمكن الظن فضلا عن القطع وانظر كتب المصطلح تستفد وترشد.
على أني لم أدع الإحاطة في كلامي وإنما قلت: إن أحاديث السؤال سبعون، كما قال الحافظ السيوطي وغيره بزيادة هذا النقل الذي حذفته في نقلك فادعيت الإحاطة بالسبعين لا بما زاد عليها - إن كان وبين المقامين
لكلامي فرق واضح. ثم دعنا من هذا وتعال إلى ميدان الحجّة الدامغة أفليس قد ادعيت على أني ادعيت الإحاطة وقد نقلت في أول كلامك أن المدعي يلزمه الدليل فأثبت
۵۸
المقالات والمقدمات
مدعاك وانت بحديث زائد على السبعين التي أشرت إليها في كلامي حتى
تبرهن بذلك على عدم إحاطتي بأحاديث السؤال.
مع أني أقسم لك قسما بارا غير حانث أنك لو عُمرت عمر نوح عليه السلام لما استطعت أن تأتني بالسبعين فضلا عن أن تزيد عليها حديثًا أو
حديثين، إذن فلا تنازع الأمر أهله وحسبك قول الشاعر:
وإذا لم تر الهلال فسلَّمْ لأنــــــاس رَأَوْهُ بالأبــــــــار أما أنا فمستندي في الإحاطة - إن ادعيتُها - كلام الحافظ السيوطي وأمثاله من أفراد الأمة وبحور الحديث، لا كلام الشيخ العدوي والشيخ الأمير
فاعرف ذلك.
وقول الأستاذ: على أن كثرة الرواية لا تدل على وجود الدراية... إلخ لا موقع له مما قبله في تركيب الكلام العربي؛ لأنه كان يتكلم في الإحاطة وعدمها فكان مقتضى تركيب الكلام العربي أن يقول: على أنَّ كثرة الرواية لا تدل على وجود الإحاطة ويقتصر على هذا حتى يكون آخر الكلام مرتبطا بأوله، لكنه فيما يظهر لما التزم أن يرد علي ولم يجد لديه من الدليل ما يقاوم حجتي استنكف القهقرى فاستعمل في ردّه ما في وسعه، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسعها [البقرة: ٢٨٦]، وليس في وسعه أكثر من الشتم فصار يشتم غير مراع لسياق الكلام من سوابق ولواحق كما فعل هنا، فأي مناسبة لذكر الدراية
أن يرجع
سوى التعريض بعدم درايتي وأني كالصيدلي... إلخ. فلتهنأ بدرايتك يا أستاذ. وكذلك قوله: ولعمري لقد حاولت أن أقنع نفسي بحسن نيتك في مقالك هذا... إلى أن قال: فلم أستطع ذلك بحال» ليس لذكره محل إلا الشتم
علم الكلام والمنطق
۵۹
الصرف وهو فيه أصرح من سابقه.
وأنا أقول للأستاذ: من أين اطلعت على سوء نيتي؟ أمن كلامي، أم
بوحي، أو ولاية، أو إخبار شيطان؟!
وكلُّ هذه الوجوه باطلة، أما الأول فلأن مقالي ليس فيه إلا تخطئة الأستاذ الدومي وتبيين الرأي الحق في الموضوع، ثم ذكر الأحاديث، ثم النقل عن الإمام الشافعي ومن ذكر معه. هذا كل ما في مقالي وليس فيه مايستنتج منه سوء نيتي، وأما بطلان الأوجه الباقية فأظهر من أن يستدل عليه. وهب أني سيء النية كما قلت فماذا يعنيك ؟! إن كانت نيتي حسنة فلنفسي
ا
أو سيئة فعليها وما أنت على بوكيل.
هذا وقد وقع الأستاذ بكلامه ذلك في عدة مخالفات:
۱ - حلفه بغير الله، وقد روينا من حديث ابن عمر بإسناد صحيح: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله وروينا من حديثه أيضًا: «مَن حلف بغير الله فقد
كفر». قال الحاكم: «صحيح» وأقره الذهبي. ٢ - ظنه بي ذلك الظن السيء، وقد روينا من حديث ابن عباس بإسناد حسن وعن ابن عمر بإسناد ضعيف وعن غيرهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نظر إلى الكعبة فقال: ما أعظمَكِ وأعظم حرمتكِ، وللمسلم أعظمُ
حرمةٌ منك، حرَّم الله دمه وماله وعرضه وأن يُظنَّ فيه ظنُّ السُّوء». ٣- جهره بذلك الظن وإشاعته والله يقول: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ ﴾
[النساء: ١٤٨].
وما أوقع الأستاذ في كلّ هذا إلا تعصبه لشيخه والتعصب يفتك بصاحبه
المقالات والمقدمات
أكثر من هذا، ولعمر الله لو خطأت مالكًا أو الشافعي أو أحدًا من كبار العلماء
لما قامت الأستاذ قائمة من
الأهواء عمت فأعت.
أنه لا نسبة بين هؤلاء وبين شيخه ولكنها مع
وأما قول الأستاذ: إني كنت شديد التأثر حين كتابة المقال» فما زاد على أن
تكلم بما هو ساعة الكتابة - حال فيه، والمؤمن مرآة أخيه .
وبعد فلا أزال أكرر على الأسماع أن سؤال القبر لا يتأخر عن موعده أي: الدفن عقب الموت كما تظافرت به الأحاديث من غير مخصص ولا معارض وهو الموعد الذي لم يجعل الله لسؤال الميت موعدًا غيره حتى جاء الاستظهار ممن لا يقبل منه الجزم في هذا المقام. وها قد أعدم السَّند لذلك الرأي فيتحتّم عليك أن توافقني على بطلانه وخطأ من يقول به وتعتقد معي ومع عموم المسلمين ما تواترت بمضمونه الأحاديث وهو أن سؤال القبر لا يتأخر عن موعده، هذا إن أنصفت ولم تلج في التعصب والله يتولى هداك.
علم الكلام والمنطق
- تحريم إكفار أهل القبلة (1)
قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إِلَّا حارَ عليه». رواه مسلم.
من دأب أدعياء السلفية إدعاء كل منهم أنه بلغ ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من الحق وهو ادّعاء كاذب؛ لأنَّ رسالة السلفية ليس فيها رمي المسلمين بالضلال والعدوان وتطبيق آيات الشرك عليهم ونبذهم بكل عظيمة وغير ذلك مما لو رآه غِوٌّ جاهل لاعتقد أنَّ المسلمين حقا صاروا ضلالا مشركين، وهذا خلاف ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من الحق الذي هو تحسين الظن بالمسلمين وحمل أحوالهم على المحامل الحسنة وإرشادهم فيما أخطئوا فيه بالحسنى، وحرمة دعائهم بالكفر والضلال إلا لمقتض شرعي يقتضي ذلك ليس للتأويل فيه مجال ولا يدخله أدنى احتمال، وإلا كان وبال الإكفار راجعا إلى مدعيه وتضليله حائرًا عليه، فقد ثبت من حديث ابن عمر وغيره أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نظر إلى الكعبة فقال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمسلم أعظم حُرمةٌ منك، حرَّم الله دمه وماله وعرضه وأن يُظن به ظن السوء».
وفي الصحيحين عن ابن عمر أنَّ رسول الله ـ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أيها رجل قال لأخيه : يا كافر فقد باءَ بها أحدهما؛ إنْ كان كما قال وإلا رجعت عليه.
وفي "صحيح البخاري عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله
(۱) المسلم، السنة السادسة، العدد (۳) شوال ١٣٧٥.
٦١
٦٢
المقالات والمقدمات
وسلم يقول: «لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه
إن لم يكن صاحبه كذلك».
ورواه مسلم أيضًا ولفظه ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال عدو الله وليس
كذلك إلا حارَ عليه».
فظاهر هذه الأحاديث أن من رمى مسلما بالكفر أو الفسوق ولم يكن المرمي كذلك كان الواصف هو المستحقُّ للوصف المذكور وأولى به وهذا هو الظاهر وإن كان غير مراد كما قال شراح الحديث وتأوّلوا تلك الأحاديث بعدة تأويلات، فإنه مع ذلك يفيد زجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم
وتهديده عليه.
ومما أولوا به تلك الأحاديث حملها على من رمى مسلما بالكفر معتقدًا حِلَّ ذلك فإنه حينئذ يكون كافرا، وأخشى أنَّ الرامي بالكفر يكون داخلا في عموم الأحاديث المذكورة بمقتضى هذا التأويل فإن من قرأ كتب المتسلّفة لا شك يكاد يجزم بأنَّ إكفار المسلمين عندهم أسوع من شرب الماء.
فتبين مما ذكرنا أنَّ فاعل هذا خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حيث ارتكب ما نهى عنه وكان بعيدًا عن الحقِّ بعد الضّب من النُّون، وليس لأحد أن يعتذر عنه بأنه متأوّل فيما سلكه من تضليل المسلمين وتطبيق آيات الشرك عليهم فلا يلحقه إثم ولا وعيد لأنه متأوّل؛ لأنَّا نقول على فرض صحة تأويله - وهو غير صحيح ولا مُسلَّم - كان يجب ألا يحكم عليهم بالضلال حتى يتحقق من أنهم ليس لهم دليل ولا شبهة فيما يقولون ويفعلون؛ لأنَّ القاعدة المقررة أن المسلم لا يُحكم بكفره أو ضلاله حتى يفعل أو يقول ما
علم الكلام والمنطق
يقتضي
٦٣
ذلك غير متأوّل فيه تأولاً مقبولاً على قواعد الشريعة ولا له عليه دليل
وإن كان مخطئًا فيه إن كان مثله يقبل منه مثل ذلك الخطأ وقائل هذا لم يحافظ
على هذه القاعدة المقرّرة بإجماع العلماء فعليه يطبق ما تحصل مما أسلفنا
الأحاديث.
من
٦٤
٩- حديث: «ما شاء الله وشاء محمد»
كلمة ليس فيها شرك (١)
المقالات والمقدمات
قال بعض المتعالمين مع متمسلفة هذا الزمان أخرج ابن جرير و وأصحاب السنن الأربعة أنَّ رجلا من اليهود جاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنَّ ما تقولونه حقٌّ لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد فأنزل الله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ۲۲] فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثُمَّ ما شاء محمد».
وأقول: لا ينقضي عجبي من جرأة هذا المتمسلف في الكذب على الله ورسوله، وعلى العلم والعلماء، ولو كان في عصر ابن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني لأدرجوه في طائفة الكذابين الوقحين في الكذب مثل محمد بن سعيد المصلوب وجعفر بن نسطور وأضرابهما.
فالحديث الذي عزاه إلى ابن جرير وأصحاب السنن الأربعة لم يروه أحد منهم ولا وجود له في كتبهم، بل لم يأتِ في شيء من كتب التفسير والحديث أن الآية نزلت بسبب الحادثة المذكور فيه.
وإليك طرق الحديث وألفاظه لتتيقن صحة ما ذكرناه:
قال البيهقي في "الأسماء والصفات" : أخبرنا أبو عبدالله الحافظ : حدثنا علي بن حمشاذ العدل إملاء: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جندل بن والت: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حراش،
(۱) مجلة المسلم.
علم الكلام والمنطق
عن
70
الطفيل بن عبد الله، وكان أخا لعائشة لأمها: أنه رأى فيما يرى النائم أنه لقي رهطا من النَّصارى فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تزعمون أن المسيح ابن الله. قالوا: أنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. ثم لقي رهطا من اليهود فقال: أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله قالوا: وأنتم قوم تقولون ما شاء الله وشاء محمد قال فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقصها عليه فقال: حدثت بها أحدًا بعد؟». فقال: نعم. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إنَّ أخاكم قد رأى ما بلغكم فلا تقولوها ولكن قولوا: ما شاء الله وحده لا شريك له».
تابعه شعبة وحماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير هكذا، وفي رواية
شعبة ولكن قال ماشاء الله ثم شاء محمد».
وقيل عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة. قال البخاري: حديث شعبة أصح من حديث ابن عيينة.
ورواه ابن ماجة في "سننه" في أبواب الكفارات من طريق أبي عوانة عن عبدالملك بن عمير به ورواه ابن مَرْدُويَه من طريق حماد بن سلمة: حدثنا
عبدالملك بن عمير به ورواه من طريق آخر عن عبدالملك به نحوه.
ورواه أحمد في "المسند" قال: حدثنا بهز وعفان قالا : حدثنا حماد بن سلمة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن طفيل بن سَخْبَرَة أخي عائشة لأمها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرَّ برهط من اليهود فقال: من أنتم؟
.
قالوا: نحن اليهود. قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أنَّ عزيرًا ابنُ الله. فقالت اليهود وأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثُمَّ مرَّ
77
المقالات والمقدمات
برهط من النَّصارى فقال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبح أخبر بها من أخبر ثُمَّ أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره. فقال: «هل أخبرت بها أحدا؟» قال: نعم. فلما صلُّوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إنَّ طفيلا رأى رؤيا فأخبر بها من أخبَر منكم وإنَّكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها، لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد».
قلت: في هذا الحديث دليل على أن تلك الكلمة ليست بشرك إذ لو كانت كذلك لما استحيى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن ينهاهم عنها من أوّل لحظة فسكوته حياءً مع تكررها منهم دليل واضح على أنها ليست بشرك وإنَّما نهاهم عنها آخر الأمر لمخالفتها كمال الأدب مع الله.
ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن عمرو بن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حراش قال : قال الطفيل بن عبد الله بن أخي عائشة لأمها إنه رأى فيها يرى النائم وذكر الحديث نحوه ثم قال : خالفه حماد بن سلمة عن عبدالملك بن عمير. ثم روى من طريق حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن الطفيل بن عبدالله بن سخبرة أخي عائشة لأمها فذكر الحديث بمثله. قال : وهذا أولى بالمحفوظ من الأول. قلت: لأن الطفيل أخو عائشة لأمها لا ابن أخيها كما جاء في سند الحاكم
الأول.
ورواه الطحاوي في "مشكل "الآثار" من طريق معمر عن عبدالملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: رأى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
علم الكلام والمنطق
وآله وسلم في النوم قوما من اليهود فأعجبته هيأتهم فقال: إنكم قوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم قوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم إنه لقي قوما من النَّصارى فأعجبته هيأتهم فقال: إنكم قوم لولا أنكم تقولون المسيح بن الله. قالوا: وإنكم قوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح قصَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «أسمعها منكم فتؤذيني فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثُمَّ شاء محمد».
وقال ابن ماجه في "سننه": حدثنا هشام بن عمار: حدثنا سفيان ابن عيينة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان: أن رجلًا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال : نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون؛ تقولون ما شاء الله وشاء محمد. وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «أما والله إن كنتُ لأعرفُها لكم قولوا ما شاء اللهُ ثُمَّ ما شاء محمد». لم يروه أحد من السنة غير ابن ماجه ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" من طريق سفيان ابن عيينة به غير أنه قال: «إنّي كنتُ لأكرهها لكم قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان.
ولحذيفة حديث آخر مختصر رواه أبو داود في "السنن" قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي : حدثنا شعبة، عن منصور، عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان».
(۲)
مقالات في القرآن الكريم وعلومه
القرآن الكريم وعلومه
۷۱
١٠- وقوف القرآن (1)
من علوم القرآن المتعلقة به والمعينة على فهمه وإدراك معانيه معرفة وقوفه، وهو فن جليل تعرف به كيفية أداء القراءة.
وقد اعتنى العلماء به عناية كبيرة وأفردوه بمؤلفات كثيرة منها: كتاب "الوقف والإبتداء" لثعلب ولابن الإنباري، ولأبي جعفر النحاس، ولأبي عمرو الداني، ولأبي بكر بن مقسم - بكسر الميم وسكون القاف- ولركن الدين السجاوندي البسطامي وللزَّجَّاجي، ولمكي بن أبي طالب القيرواني، ولأبي محمد الحسن بن علي العماني.
وكتاب "الوقف والابتداء" الكبير والصغير، كلاهما للرؤاسي أستاذ
الكسائي والفراء. وكتاب "الوقوف" لأحمد بن كامل بن شجرة القاضي البغدادي المعروف بوكيع صاحب "أخبار القضاة".
الحافظ
وكتاب "وقف التمام" للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة، والتمام من
أنواع الوقوف. وكتاب "منار الهدى في بيان الوقف والابتداء" لأحمد بن محمد بن عبدالكريم الأشموني وهو غير شارح "الألفية".
والأصل في هذا الفنّ ما رواه أبو جعفر النحاس في كتاب "الوقف" والبيهقي في "السنن" من طريق هلال بن العلاء بن هلال الباهلي الرقي: حدثنا أبي، وعبد الله بن جعفر قالا: ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي
(۱) مجلة "دعوة الحق"، العدد الأول، السنة الخامسة عشرة، محرم الحرام ١٣٩٢.
۷۲
المقالات والمقدمات
أنيسة، عن قاسم بن عوف البكري قال: سمعت عبدالله بن عمر يقول: «القد عشنا برهة من دهرنا وإنَّ أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السور على . صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فنتعلم حلالها وحرمها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم، ولقد رأينا اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما أمره؟ ولا زجره؟ ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه». إسناده حسن.
قال النَّحاس: «فهذا يدلُّ علي أنهم كانوا يتعلمون الأوقاف كما يتعلمون القرآن وقول ابن عمر: «لقد عشنا برهة من دهرنا ..... يدلُّ على أن ذلك إجماع
من الصحابة ثابت» . اهـ
وقال الإمام علي عليه السَّلام في قوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْء ان ترتيلا ﴾ [المزمل:
٤]: «الترتيل: تجويد الحروف ومعرفة الوقف».
وقال ابن الأنباري : من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء». وقال النكزاوي: باب الوقف عظيم القدر جليل الخطر؛ لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة
الفواصل».
وقال ابن الجزري في "النشر": «لما لم يمكن للقارئ أن يقرأ السورة أو القصة في نفس واحد، ولم يجز التنفّس بين كلمتين حالة الوصل بل ذلك كالتنفس في أثناء الكلمة وجب حينئذ اختيار وقفة للتنفس والاستراحة وتعين ارتضاء ابتداء بعده
ويتحتم ألا يكون ذلك مما يُجيل المعنى ولا يخل بالفهم إذ بذلك يظهر الإعجاز
ويحصل القصد وبذلك حضّ الأئمة على تعلمه ومعرفته». اهـ
القرآن الكريم وعلومه .
۷۳
ولا نطيل بذكر التقول فإنَّها كثيرة متفقة على وجوب تعلم الوقف والعناية
به لأنه:
الآية.
۱ - يؤدي إلى معرفة معاني القرآن.
٢ - يفيد في استنباط الأدلة منه.
- يُبين إعجازه ويُظهره.
واشترط العلماء لجواز الوقف وصحته ألا يُغيّر المعنى ولا يُفكك نظم
وبناءً على ذلك قالوا: لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه، ولا على الفعل دون مرفوعه أو متعلّقه من مفعول أو حال أو جار ومجرور، ولا على القول دون مقوله، ولا على المبتدأ دون خبره وبالعكس، أو نحو ذلك مما يكون الوقف عليه محيلا للمعنى أو مفككًا للنظم أو ملجا إلى تعشف في
التقدير.
فيجب مراعاة هذه القواعد في الوقوف التي توضع في المصاحف وتلقن للصبيان في الكتاتيب لتكون التلاوة صحيحية لا يعتريها خلل ولا يترتب
عليها إثم. غير أن القواعد المشار إليها لم تراع كما يجب في الوقوف الموضوعة في مصحف ورش؛ فكان فيها أخطاء كثيرة تغيّر المعنى، كفصل بين الفعل ومرفوعه، وبينه وبين متعلقه وبين المعلول وعلته، وبين المتعاطفين، وبين المبتدأ والخبر وعكسه...... ولا يمكن إصلاح الخطأ إلا بتخريج تلك الوقوف على وجه ضعيف في الإعراب أو احتمال بعيد في التقدير وسلوك ذلك في
٧٤
المقالات والمقدمات
القرآن لا يجوز كما صرح به أبو حيان وابن هشام وغيرهما لأنه ينافي فصاحته. وإلى القارئ الكريم أمثلة من تلك الوقوف المخطئة يستبين منها صحة ما
قررته
ا - وَلَتَجِدَتَهُمْ أَحْرَمَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [البقرة: ٩٦] الوقف التّام على أشركوا لأنَّ الواو حرف عطف والجار والمجرور معطوف على الناس ومتعلق بأفعل التفضيل والتقدير ولتجدنَّ اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا.
ومعنى الآية على هذا الوقف ظاهر وموافق للسياق، لكن الوقف في مصاحف ورش على كلمة (حياة) وقف خطأ لأنه يفصل بين المتعاطفين وبين العامل ومعموله، ويغيّر معنى الآية إلى معنى لم يقصد منها ولا يساعد عليه السياق، وقد وجه تصحيحه بوجهين ضعيفين.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: ۱۸۰] الوقف على بِالْمَعْرُوفِ ، وفي
مصاحف ورش الوقف على خَيْرًا ) وهو خطأ لأنه يفصل بين الفعل وهو
:
كتب ومرفو ومرفوعه وهو الْوَصِيَّةُ لأنه نائب فاعل كتب ، وقد وجه تصحيحه بإعرابين بعيدين متكلفين.
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَانتُ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
متشبهت ﴾ [آل عمران: ٧] الوقف على مُتَشَبِهَتُ ومِنْهُ خبر مقدم و اي مبتدأ مؤخّر وجملة المبتدأ والخبر مرتبطة بالكتاب تبين تقسيمه إلى
القرآن الكريم وعلومه .
نوعين: محكم، ومتشابه.
Vo
لكن الوقف في مصاحف ورش على منه وهو يفصل بين المبتدأ وخبره، ويضيع معنى التقسيم الذي أفادته الجملة. وصحح بما لا طائل تحته. وَلِكُلِّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ﴾ [النساء: ۳۳]
ترك فعل ماض و الْوَالِدَانِ فاعله وَالْأَقْرَبُونَ معطوف عليه والوقف عليه لكن الوقف في مصاحف ورش على ترك وفيه فصل بين : الفعل وفاعله.
ه - فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَاء يلَ [المائدة: ۳۱ - ۳۲] الوقف على النَّدِمِينَ ؛ لأنَّه رأس الآية مِنْ أَجْلِ ذالك متعلق كَتَبْنَا علةٌ له والمعنى: من أجل قتل قابيل لهابيل كتبنا على بني إسرائيل ... الآية . لكن الوقف في مصاحف ورش على ذلك وهو يفصل بين المعلول وعلته ويكون الابتداء بكتبْنَا غير حسن لا تربطه مناسبة بما قبله.
-
-٦ وَقَالَ مُوسَى يَفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقُ عَلَى أَن لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: ١٠٤ - ١٠٥] الوقف على الْعَالَمِينَ
وحَقِيق اسم فاعل وعلى متعلق به، وأن لا أقول فاعله. والوقف في مصاحف ورش على حَقِيق وفيه فصل بين اسم الفاعل وفاعله وبين متعلقه.
٧٦
المقالات والمقدمات
لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [يوسف: ٩٢]. عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } متعلقان بمحذوف خبر لا والتقدير: لا تثريب
متوجه عليكم اليوم.
والوقف على اليوم كذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح وقال لقريش: «ما تظنُّون أنّي فاعل بكم؟» قالوا: خيرا؛ أخٌ كريم وابن أخ كريم. فقال: «أقولُ كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكُم اليوم، اذهبوا فأنتُم الطَّلَقاء».
لكن الوقف في المصاحف المغربية على كلمة عَلَيْكُم وهو يفصل بين الظرف وعامله ويحول معنى الآية: يَغْفِرُ اللهُ لَكُم من الدعاء إلى الخبر. فَأَصْبَرَ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: ٣٥]
الوقف على مم والمعنى: ولا تستعجل العذاب للمشركين. لكن الوقف في مصاحف ورش على تَسْتَعْجِل وفيه فصل بين الفعل ومتعلقه. وبقيت أمثلة أخرى سأجمعها في رسالة خاصة.
ولا أدري ما الداعي إلى اختيار هذه الوقوف التي يحتاج تصحيحها - إن أمكن - إلى تمحل في الإعراب وتكلُّف في التقدير مما ينافي بلاغة القرآن التي
أعجزت الإنس والجان؟!.
مصحف حفص المطبوع بمصر أخذت وقوفه من كتب القراءات والتفسير بمعرفة جماعةٍ من كبار قراء السبع وعلماء العربية فجاءت وقوفا صحيحة خالية من التكلف والتمحل.
القرآن الكريم وعلومه
فلماذا لا نفعل مثلهم في مصحف ورش ونضع له وقوفًا سليمة ترشد
۷۷
التالي للمعنى، وتعينه على فهم المراد، وتعفيه من عناء التقدير؟ ولماذا نجمد على وقوف وُضعت من أربعة قرون؟ ومهما قيل في وضعها من فضل وصلاح فإن ذلك لا يجيز إبقائها على وضعها الحالي بل يجب استبدال الصواب مكان الخطأ والحسن مكان القبيح. إننا إن فعلنا ذلك نكون قد قمنا ببعض الواجب علينا نحو جانب من كتاب الله تعالى له أهميته البالغة وفائدته الكبيرة.
۷۸
المقالات والمقدمات
١١- فتنة داود عليه السلام (۱)
اعتمد جُل المفسّرين - إن لم نقل كلّهم في تعيين فتنة داود على ما جاء في الإسرائيليات التي اختلفت رواياتها على جهات:
1 - أنه رأى امرأة تغتسل فأعجبه جمالها وحانت منها التفاتة فأحست ظله فنقَضَتْ شعرها وغطّت به بدنها فزاده ذلك إعجابًا بها، فسأل عنها فقيل هي
امرأة أوريا وزوجها غائب في غَزَاة بالبلقاء.
فكتب داود إلى أمير تلك الغزاة أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت، وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله
عليه أو يقتل. فبعثه وقدمه ففتح على يديه، فبعثه ثانيا، وثالثًا، حتى استشهد. فلما انقضت عدة المرأة تزوّجها داود وهي أم سليمان، فأنزل الله ملكين، قيل هما جبريل وميكائيل، في صورة خصمين يختصمان في نعاج؛ كنيا بها عن النساء فلما حكم بينهما تبسم أحدهما للآخر وغابا فعلم أنه المقصود، أنه كان له وتسعون زوجةً وضَمَّ إليهن زوجة أوريا فاستغفر ربه وخرَّ راكعا
تسعة
وأناب.
وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسير يهما، من طريق ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: إنَّ داود عليه السلام حين نظر إلى المرأة قطَّع بتشديد الطاء قصر مدة الغزو - على بني إسرائيل وأوصى صاحب الجيش فقال: إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت (۱) مجلة دعوة الحق.
القرآن الكريم وعلومه .
۷۹
وكان التابوت في ذلك الزمان يُسْتَنصر به ومن قدم بين يديه لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقتل وتزوّج المرأة ونزل الملكان على داود عليه السلام فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدًا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرضُ جبينه.
وذكر حديثا طويلا قال السيوطي سنده ضعيف. وهذا لا يكفي، لأن يزيد الرقاشي مع ضعفه قال عنه ابن حِبَّان كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تحل الرواية عنه إلا على سبيل التعجب.
فهذا الحديث من كلام الحسن البصري أخذه من الإسرائيليات وليس من
كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو حديث موضوع.
وجاء في حديث موضوع أيضا: إن وفدا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم غلام وضيء فأجلسه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خلف ظهره وقال: «إنما كانتْ فتنةُ أَخِي داودَ من النظر».
وقد وردت هذه القصَّة عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وأبي الجلد، وأبي عمران الجوني، والسدي، والكلبي، ومُقاتل، وفي بعض رواياتها زيادات
منكرة أيضًا.
ووجد القصاص في هذه القصة وزياداتها مادة دسمة لترقيق قلوب العوام
واستنزال دموعه واستدرار نقودهم
والعجب أن ينخدع كثير من السلف بهذه القصة ويذكروها في مواعظهم كما تجد ذلك في كتاب "الزهد" لابن المبارك، ولأحمد بن حنبل مع أنها باطلة
۸۰
المقالات والمقدمات
قطعا وليس في القرآن ما يدل عليها تصريحاً أو تلوحيًا ولا أتى في حديث ثابت
إشارة إليها ولا أدري على أي أساس حُشِرت في كتب التفسير.
٢ - أنَّ داود طلب من أوريا أن يتنازل له عن زوجته حين رآها وأعجبته فنزل الملكان ونبَّهاه بحكاية النعاج إلى أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك وإن كان طلب التنازل عن الزوجة جائزا في شريعتهم وذلك لعظم منزلته وشفوف
رتبته .
روي هذا عن ابن مسعود وابن عبّاس أيضا، وابن زيد، ورجحه الزمخشري في "الكشاف" وابن العربي في "الأحكام" وهذا باطل أيضًا لأنه لم يثبت أن طلب التنازل عن الزوجة كان جائزا في تلك الشريعة، بل المعروف عنهم أن زواج المطلقة زنا ولأنَّ طلب الملك من أحد رعيته يكون غصبا وداود لا يفعل ذلك - جزما - لعصمته. قال ابن العربي: كان ببلدنا أمير يقال له سبر بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجل حاجة فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان الحاجة غصب لها ؟! فقلت له: أما إذا كان عدلا فلا.
لكن غاب عن ابن العربي أنَّ سيف الحياء أشد من سيف الغصب، بل ما وسط الأمير في طلب الحاجة من الرجل إلا استعانة بسيف الحياء الذي لا
يقاوم. ٣- أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها، حكاه ابن العربي في "الأحكام"
فقال: هذا لا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت.
وهو باطل أيضًا لأنَّ قصَّة امرأة أوريا والنظر إليها ومحاولة زواجها باطلة
القرآن الكريم وعلومه
۸۱
من أصلها فما بني عليها باطل أيضًا.
وقد أبطل الإمام الرازي تلك القصة في "تفسيره" من عدة وجوه أفاد فيها
وأجاد.
- أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الآخر. حكاه ابن العربي
أيضًا، وأبداه الإمام الرازي احتمالا وقال: لا شيء فيه.
قال ابن العربي: لا يجوز ذلك على الأنبياء وقال الحليمي: أنه رأى في المدعي مخايل الضعف والهضيمة فحمل أمره على أنَّه مظلوم كما يقول فدعاه ذلك إلى ألا يسأل المدَّعَى عليه فاستعجل بقوله: لقد ظلمك.
وضعفه أبو حيان، وهو جديرٌ بالتضعيف، والصواب أنَّ في الكلام محذوفا تقديره فأقر المدعى عليه فقال لقد ظلمك. قال أبو حيان ولكنه لم يُحك في القرآن اعتراف المدعى عليه لأنه معلوم من الشرائع كلها إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه.
ه - أنه خطب المرأة بعد خطبة أوريا لها فآثروه عليه وزوجوه بها فعوتب على ذلك. وهذا باطل أيضًا.
وقد قيل في فتنة داود غير هذا مما لا أصل له.
قال ابن كثير في تفسيره: «قد ذكر المفسرون هاهنا قصةً أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثًا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه.
ويزيد؛ وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى
۸۲
المقالات والمقدمات
أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يُرد علمها إلى الله عزَّ وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضًا».اهـ
قال أبو حيان: ذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء ضربنا عن ذكرها صفحا». اهـ
وعندي مسلك آخر يدل على بطلان ما ذكره المفسرون، وهو مراعاة السياق وهو مسلك مُهم يجب على المفسّر أن يجعله نُصب عينيه ولا يتكلم على آية حتى ينظر علاقتها بما قبلها؛ لأن آيات القرآن متماسكة آخذ بعضها بحجزة
بعض فمن لم يراع ذلك في تفسيره جانبه التوفيق.
ومتقدموا المفسرين غفلوا عن هذا المسلك فوقعوا في أغلاط كثيرة، وتنبه له المتأخرون كالزمخشري والإمام الرازي والبرهان البقاعي وأبو حيان. وأكثرهم مراعاة لهذا المسلك العلامة البقاعي في تفسيره "ترجمان القرآن" رأيته مخطوطا وهو يطبع الآن، ذكر أنه ألفه في أربعة عشر عاما حتى أوجد
المناسبة بين كل آية وآيةٍ من أول القرآن إلى آخره بطريق مراعاة السياق. وأنا أسلك هذا الطريق في تدريس التفسير بزاويتنا الصدّيقية وقد أُلهمتُ
فيه أشياء كثيرة بحمد الله.
وتعيين فتنة داود عليه السَّلام يتعيَّن فيه تلاوة ما قبل القصة حيث حكى الله تعالى تعنت الكفار في كفرهم وتعصبهم لأصنامهم وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقولهم على سبيل الاستخفاف به: رَبَّنَا عَجَل لَّنَا قِطَنَا قَبْلَ يَوْمِ
الحساب [ ص: ١٦] مع أنهم لا يؤمنون بالبعث.
وذكر من كذب قبلهم الرسل بدءًا من قوم نوح وهلم جرا، ثم قال لنبيه :
القرآن الكريم وعلومه .
۸۳
أصير عَلَى مَ يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ﴾ [ص: ١٧] فأمره بالصبر على إذاية الكفار وذكر قصصا للأنبياء: داود وسليمان وأيوب، صبروا حتى فرج الله عنهم وكان عاقبتهم النصر.
وبدأ بداود لمناسبة سنبينها، ووصفه بالأيد أي: القوة في الدين والصدع بأمر الله والطاعة الله مع قوة بدنه أيضًا.
وذكر قصة الخصومة ليبيّن مدى صبره على جفاء قومه فهذان خصمان إسرائليان مختلفان في غنم بينهما تسوّرا عليه المحراب فأفزعاه ولم يأتيا من الباب وهذا جرم يستحِقَّانِ عليه العقوبة لكنه صبر ولم يعاقبهما.
ثم خاطباه بلهجةٍ جافة : فاحْكُر بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ ﴾ [ص: ۲۲]، أمراه بالحكم بالحق ونهياه عن الجور وهذه قلة أدب يستحقان العقوبة عليها لكنه صبر ولم يعاقبهما بل حكم بالحقِّ؛ لأنه معصوم لا يحكم بالجور، ولهذا أعطاه الله رتبة الخلافة عنه يَدَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾ [ص: ٢٦] والخلافة أعلى من الملك.
وحصل مثل هذا للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم، ناداه جفاة الأعراب: يا محمد اخرج إلينا، فصبر على جفائهم ولكن الله أنزل في ذمهم: إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحجرات: ٤].
وحكم بين الزبير وخصمه وهو أنصاري في شراح الحرة فأغضب
الأنصاري حكمه وقال : أن كان ابنَ عَمَّتِك !
فصبر على قلة أدبه ولكنَّ الله أنزل في حقه: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
ΛΕ
المقالات والمقدمات
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا سَلِيمًا ﴾ [النساء: ٦٥].
أما فتنة داود فتكمُن في قوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ ﴾ [ص: ٢٢] أي: خاف، والخوف طبيعة بشرية فقد خاف موسى وهارون وغيرهما، لكن داود ظنَّ أنَّ خوفه من الخصمين وهو في عبادة الله وفي حضرته فتنةٌ أي: امتحان ظهر فيه
تقصيره فاستغفر ربَّه من التقصير الذي ظنه وخَرَّ راكعا وأناب. وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّه ليغان على قلبي وإِنِّي لأستغفر الله في اليوم سبعين مرَّةً». فالاستغفار لا يستلزم الذنب شرعًا ولا عادةً. هذا ما رأيته في تعيين فتنة داود بعد مراعاة السياق.
وفي تعيينها رأيان آخران
.
أحدهما للإمام الرازي قال في تفسيره": روي أن جماعةً . من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا داود عليه السلام وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوَّروا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم فخافوا فقالوا كذبًا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بعض ﴾ [ ص: ٢٢] فلما علم بقصدهم دعاه الغضب إلى أن ينتقم منهم لكنه مال إلى الصفح والتجاوز عنهم فكانت هذه الواقعة هي الفتنة، أو أنه ظنَّ أنهم
أرادوا قتله ولما لم يتحقق ظنه كان ذلك فتنة فاستغفر منه» . اهـ ملخصا. والآخر لأبي حيان، قال في "البحر المحيط": «والذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أنَّ المتسوِّرين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه إذ ا
القرآن الكريم وعلومه .
كان منفردًا في محرابه لعبادة ربه فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قصَّ الله تعالى وأن داود عليه السلام ظنّ دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنفاذا من الله له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه، فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يقع مظنونه وخرَّ ساجدًا ورجع إلى الله
تعالى فغفر له ذلك الظن ولذلك أشار بقوله: ﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ [ ص: ٢٥] ولم يتقدم سوى قوله: وَظَنَّ دَاوُردُ أَنَّمَا فَنَتَهُ ﴾ [ص: ٢٤] ويعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوزنا عليهم شيئًا من ذلك بطلت الشرائع ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله في كتابه يمر على ما أراده تعالى،
وما حكى القُصَّاص لما فيه غضّ عن منصب النبوة طرحناه» . اهـ
ولو كانت فتنة داود على ما ذكره المفسّرون لزم على ذلك مفاسد: ١ - أنه ليس في سياق الآيات ما يدلُّ عليها أو يرشد إليها.
٢- أن قصة الخصومة تفيد أنه وقع في حب امرأة وحاول انتزاعها من
زوجها، وهذا ضعف في الإرادة وخوَرٌ في العزيمة ينافي ثناء الله عليه بأنه «ذو
الأيد»، أي: القوة.
- أنَّ الله تعالى قال لنبيه: أصبر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ
[ ص: ١٧] وما كان من داود إلا الصبر على عبادة الله وعلى جهالة قومه، لا حبُّ امرأة ومحاولة انتزاعها من زوجها، فكيف أقحم هنا؟!
٤ - أن يكون الله أمر نبيه بالاقتداء بداود في حبّ النساء والافتتان بهنَّ !!. ه - أنَّ الملائكة كذبوا في ادعاء خصومة لم تقع مع أنهم معصومون،
٨٦
المقالات والمقدمات
ودعوى أن ذلك كان منهم على سبيل التمثيل مردودة بأنه يجب نصب قرينة على ذلك ولا قرينة في سياق القصة إطلاقا.
وبالجملة فما ذكر المفسرون في فتنة داود عليه السلام كله مأخوذ من
.
الإسرائيليات التي نهينا عن تصديقها لا سيما إذا كان فيها ما يمس مقام الأنبياء ويخدش عصمتهم، وكذلك فعلوا في تفسير قصة هاروت وماروت ويوسف وأيوب وسليمان، ذكروا إسرائيليات ملأى بالخرافات.
ولا يغرنك نقلها عن كثير من التابعين مثل: الحسن، ومجاهد، وأبي الجلد، والسدي، ومقاتل، والكلبي، وأبي صالح، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبي عمران الجوني، وغيرهم.
فإن هؤلاء يأخذون عن الإسرائيليات على سبيل الموعظة والتذكر. وأخذ عنهم مثل ابن المبارك، وأحمد وابن أبي حاتم وابن جرير، وأضرابهم، وامتلأت كتب التفسير والزهد والرقائق بالإسرائليات حتى اشتبه الأمر على بعض الضعفاء في الرواية فرفعوا منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. كما أن قصة هاروت وماروت مع أناهيد التي أحباها وفي سبيل الوصول إليها شربا الخمر وعلماها الاسم الذي يطلعان به إلى السماء بطلبها فطلعت إلى السماء ومسخت هناك وهي الآن الزهرة. فهذه الخرافة منقولة عن الإسرائيليات ورفعها بعض الرواة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واغتر بعض الحفاظ بنظافة سندها فصححها حديثا نبويًا
مرفوعا، ولم يتنبه لما فيه من علل تقضي بعدم صحته، والكمال الله تعالى.
القرآن الكريم وعلومه
١٢- فتنة سليمان عليه السلام (۱)
قال الله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيهِ، جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص: ٣٤] أخبرت الآية الكريمة أن سليمان فتن، فما هي فتنته؟
۸۷
قال كثير من المفسّرين كانت فتنته بسبب خاتمه، ثم اختلفوا في كيفيتها
على جهات مأخوذة من الإسرائيليات وبيانها على الوجه الآتي:
1 - قال أبو جعفر بن المنادي: حدثنا أبو خالد القرشي: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد عن علي عليه السَّلام قال: بينما سليمان عليه
السلام جالس على شط البحر وهو يلعب بخاتمه فوقع، وكان ملكه في خاتمه. فانطلق فأتى عجوزا فأوى إليها وخلفه الشيطان، فقالت العجوز: اذهب فاطلب وأنا أكفيك عمل البيت فذهب فانتهى إلى صيادين فنبذوا إليه سمكات فأتى بهن فشقت العجوز سمكة فإذا الخاتم فأخذه فقلبه فأقبلت إليه
الجن والطير والوحوش وفرّ الشيطان إلى جزيرة.
فقال سليمان: ائتوني به، قالوا: لا نقدر عليه، إلا أنه يرد علينا في كل أسبوع قال: فصبوا له خمرا فلما شرب سكر فأروه الخاتم فقال سمعا وطاعة فأتوا به سليمان فأوثقه وأمر به إلى جبل الدُّخان فما ترون من الدخان فذاك. هذا لا يصح عن علي عليه السلام وما نطق به قط، وأبو خالد القرشي
متروك، قال يحيى بن معين : كذَّاب خبيث، حدث بأحاديث موضوعة. ٢ - قال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا علي بن الحسين: حدثنا محمد بن العلاء، وعثمان بن أبي شيبة، وعلي بن محمد قالوا: حدثنا أبو معاوية: أخبرنا
(۱) مجلة دعوة الحق.
۸۸
المقالات والمقدمات
الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله
تعالى: وَالْقَيْنَا عَلَى كُرهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص: ٣٤]:
أراد سليمان عليه السَّلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته، وكانت أحبّ نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال
لها: هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين. فلما خرج سليمان عليه السَّلام من الخلاء قال لها: هاتي خاتمي فقالت: قد أعطيته سليمان قال : أنا سليمان :قالت كذبت ما أنت بسليمان، فجعل لا يأتي أحدا يقول له: أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله تعالى.
قال: وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، قال: فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهنَّ تُنكِرْنَ من سليمان شيئًا؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حُيَّض، وما كان يأتينا قبل ذلك. فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظنَّ أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرأوها على الناس قالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه السلام، فلم يزالوا یکفّرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة. وكان سليمان يحمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فدعا سليمان فقال : تحمل لي هذا السمك؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بسمكة من هذا السمك.
19
القرآن الكريم وعلومه قال: فحمل سليمان السمك إلى منزل الرجل فلما انتهى إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه فدانت له الإنس والجن والشياطين، وعاد إلى حاله، وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه، وكان شيطانًا مريدا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثبت في مكان من البيت إلا أن دار مـ من الرصاص.
معه
قال: فأخذوه وأوثقوه فجاءوا به إلى سليمان، فأمر به فنقر له نحت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سُدَّ بالنُّحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيهِ، جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص: ٣٤] يعني: الشيطان الذي كان تسلط عليه.
قال ابن كثير: إسناده إلى ابن عباس قوي ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من أهل الكتاب، وفيهم طائفةٌ لا يعتقدون نبوة سليمان عليه السلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلّط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفا وتكريما لنبيه عليه السلام» . اهـ
قلت: لم يصح هذا الأثر عن ابن عباس لأن في سنده عنعنة الأعمش وهو مدلس قال الذهبي: وربما دلَّس عن ضعيف وهو لا يدري به.
ويظهر من كلام ابن كثير أنه مقتنتع بأنَّ الجني سُلّط على ملك سليمان وإنما
المقالات والمقدمات
استنكر هذا السياق، خصوصًا تسليط الجني على نساء سليمان عليه السلام ولم ينكر القصة من أصلها مع أنها باطلةٌ؛ لأنه وجد كثيرًا من التابعين اعتمدها کمجاهد وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن البصري.
ولا ينقضي عجبي من هؤلاء وغيرهم من التابعين بل وبعض الصحابة الذين يعتمدون روايات أهل الكتاب في تفسير آيات القرآن الكريم، رغم
ورود النهي عن ذلك ورغم مخالفة تلك الروايات لألفاظ القرآن وسياقه. فلفظ : وَالْقَيْنَا عَلَى كُريسيهِ ، جَسَدًا ﴾ [ ص: ٣٤] ينفي أن يكون بطل القصة جنيا سرق الخاتم وجلس على الكرسي وصرَّف الملك مختارا مدة أربعين يوما؛ لأن الإلقاء والجسد ينفيان أن يكون الملقى (۱) حيا مختارًا كما يتبيَّن مما يأتي. روى الفريابي، والحكيم الترمذي من طريق الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ ص: ٣٤] قال: هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوما وكان لسليمان عليه السلام امرأة يقال لها جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة فقضى بينهم بالحقِّ إلا أنه ودَّ أن الحق كان لأهلها فأوحى الله إليه إنه سيصيبك بلاءً فكان لا يدري يأتيه من السماء أم من
الأرض؟.
صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، مع أن فيه عنعة الأعمش على أن الحاكم
علقه عنه .
(۱) بفتح القاف.
القرآن الكريم وعلومه .
۹۱
ومن أين علم لنا أن سليمان تمنى أن يكون الحق مع أهل زوجه؟ وإذا حكم بالحقِّ فلا عتب عليه أن يتمنى خلاف ما حكم به ولو فرض أن عوقب فكيف يعاقب بتسليط شيطان يحكم في الرعية بخلاف الحق أربعين يوما حتى أنكروا عليه ؟!! فهذه عقوبة للرعية أكثر منها لسليمان عليه السلام، وما ذنبهم أن يصيبهم هذا البلاء؟! وصرح ابن عبّاس بأنه تلقى تفسير هذه الآية عن كعب الأحبار
حيث سأله عنها وعن قصة تُبع، رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره".
٤- روى ابن جرير من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: عَلَى كريستهِ جَسَدًا } [ص: ٣٤] قال: شيطانا يقال له آصف، قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه رماه آصف في البحر، فساح سليمان وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه، ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهن، وأنكرنه.
قال: فكان سليمان يستطعِم فيقول: أتعرفونني؟ أطعموني أنا سليمان،
فيكذبونه، حتى أعطته امرأة يوما حوتا، فوجد خاتمه في بطنه.
وهذه قصةٌ باطلة أيضًا وفيها أمور لا تليق بمقام النبوة.
وجاء عن قتادة والحسن وسعيد بن المسيب حكايات في قصة الجني الذي قام بانقلاب ضد سليمان عليه السلام بواسطة سرقة خاتمه واضطربوا في اسمه فقيل: صخر، أو آصف، أو آصر، أو حبقيق، وتلك الحكايات منتشرة في كتب
التفسير. ه روى الطبراني في "الأوسط"، وابن مَرْدُويَه في "التفسير" عن أبي
۹۲
المقالات والمقدمات
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ولد لسليمان بن داود ولد، فقال للشياطين: أين نُوَاربه من الموت؟ فقالوا نذهب به إلى المشرق. قال: يصل إليه الموتُ. قالوا: فإلى المغرب. قال: يصل إليه الموتُ. قالوا: إلى البحار قال: يصل إليه، قالوا: نضعه بين السَّماء والأرضِ.
ونزل عليه ملك الموتِ فقال: يا ابن داود إنّي أمرت بقبض نسمة طلبتها في المشرق فلم أُصبها، فطلبتها في المغرب فلم أُصبها، وطلبتها في البحار، وفي تخوم الأرضين فلم أصبها، فبينا أنا أضعد إذ أصبتها، فقبضتها، وجاء جسده حتى وقع على كرسيه، فهو قول الله عزّ وجلَّ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ وَالْقَيْنَا عَلَى كريستهِ، جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ ص: ٣٤].
في سنده يحيى بن أبي كثير صاحب البصري قال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني : متروك، وقال ابن حِبَّان: يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم،
فالحديث موضوع واقتصار السيوطي على تضعيفه قصور.
ويعجبني موقف أبي حيَّان من هذه القصة حيث قال: «نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، وهي إما من وضع
اليهود أو الزنادقة». اهـ كلامه.
وفتنة سليمان عليه السلام لم يُعيّنها الله تعالى بصريح القول لكن يمكن إدراك تعيينها بتدبر الآيات ومراعاة السّياق التي يغفل عنها معظم المفسرين. وإذا رجعنا إلى أول السورة نجد الله تعالى يحكي تكذيب الكفار لنبيه ويصفونه بأنه ساحر كاذب وبأن ما جاء به اختلاف وافتراء ثم أمر بالصبر وبذكر الأنبياء الذين ابتلوا فصبروا ونالوا الرفعة والمنزلة العظيمة، فبدأ بداود
القرآن الكريم وعلومه .
۹۳
وابنه سليمان ثم قال: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَبوبَ ) [ ص: ٤١]، ﴿ وَاذْكُرْ عِبَدَنَا إِبْرَاهِيمَ
وَاسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [ ص: ٤٥]، وَاذْكُرْ إِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ } [ ص: ٤٨]. ومهد لذكر فتنة سليمان بتزكيته فقال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَنَ نِعْمَ
عنه
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابُ ﴾ [ص: ٣٠]، ومن يزكّيه الله بهذا المدح المؤكَّد كيف يصح عـ ما جاء في تلك الحكايات المكذوبة؟ وأي علاقة بل أي عبرة في استيلاء الشيطان على ملكه؟ أرأيت كيف يسقط المفسرون بغفلتهم عن سياق الآيات وأسلوبها البديع النظام؟!
وفتنة سليمان ثبتت فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال: سليمان بن داود لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحمل شيئا إلا واحدة، جاءتْ بشِقِّ غُلامٍ»، فقال النبي صلى الله عليه
وآله وسلَّم: «لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فُرْسانًا أجمعون». فذلك الشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه أتوا به فرآه سليمان وعلم أن أمنيته لم تتحقق لأنه لم يقل: «إن شاء الله». «وأناب»: أي: رجع إلى تعليق أموره كلّها على المشيئة الإلهية.
ووقع نظير هذا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ بعثت قريش إلى اليهود بالمدينة يطلبون منهم يبعثوا إليهم بأسئلة يمتحنون بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلت إليهم يهود أن سلوه عن أمر أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح. فجاءت قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسألوه عن هذه
٩٤
المقالات والمقدمات
الأشياء فقال: «ائتوني غدًا». ولم يستثن . أي لم يقل: إن شاء الله . فمکٹ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرْجَف أهل مكة، وحتى أحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مكث الوحي عنه وشَقَّ عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاء جبريل بجواب ما سئل عنه وبقوله تعالى: ﴿ وَلَا نَقُولَنَّ لِشَأْيْ إِنِّي فَاعِلُ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].
فأدبه الله على ترك المشيئة كما أدَّب سليمان عليها قبله ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلَّم عن سليمان: «لو قال إن شاء الله لجاهدوا كلهم». أي لرزقه الله الأولاد وكبروا وجاهدوا.
والحكمة في ذكر فتنة سليمان عليه السلام تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما حصل له من ترك المشيئة والتأديب عليها بأن مثله حصل لنبي كريم
أواب.
ومن تمام المناسبة بينهما أنَّ سليمان سخَّر الله له الجنَّ رعايا في مملكته والنبي
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صرف الله إليه الجنَّ ليكونوا من جملة أمته. وترك التعليق بالمشيئة ليس بمعصية بل غايته أن يكون مكروها أو خلاف الأولى والمقرَّر في علم الأصول: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يفعل المكروه للتشريع كما هنا.
اقتداء
فقد ترتب على تأديب الله عليها الحضُّ على سلوك الأولى والأفضل دائما
بصنيع
الله تعالى حيث يقول: ﴿لَقَدْ صَدَفَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّمْ يَا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ عَامِنِينَ ﴾ [الفتح: ٢٧]، وهذه الآية نزلت بعد
القرآن الكريم وعلومه .
۹۵
آية الكهف، وبهذا يكون الله تعالى قد حضّ على التعليق بالمشيئة الإلهية قولا في
آية الكهف وحضّ عليها عملًا في هذه الآية.
وبعد هذا نرد المفاسد والمنكرات في تلك الإسرائليات التي غفل عنها من
فسر بها فتنة سليمان عليه السلام، ويتلخص الرد فيما يلي:
1 - المقرّر في علم أصول الدين أنَّ الشيطان لا يقدر أن يتمثل في صورة نبي أبدا ولا يقدره الله على ذلك، وصح في الحديث المستفيض أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإنَّ الشَّيطان لا يتمثل بي»، وفي رواية: «فإنَّ الشيطان لا يتكوّنني» أي لا يتكون على صورتي هذا في المنام، فكيف باليقظة؟
٢ - من المقرر كذلك: أنَّ الشيطان لا يقدر على الاتصال بنساء نبي والزنا بهن، بل صرحوا بأنَّ نساء الأنبياء لا يزنين وإن كن كافرات، لأنَّ الكفر ينشأ عن تقليد الآباء بخلاف الزنا فإن منشأه خِسَّة الطبع ودناءة النفس وشدة
الغلمة.
ولما جاءت هند أم معاوية وهي مشركة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتبايعه على الإسلام وعرض عليها في البيعة ولا تزنين قالت مستنكرة أو تزني الحرة؟! مع أنها كانت معتزة بشركها باعتباره دينا وجدت عليه أهلها
وقومها.
وقد زل زلة عظيمةٌ مَن فسَّر من المعاصرين خيانة امرأتي نوح ولوط بالزنا، وما خيانتهما إلا ممالأة قومها على الكفر وإيذاء زوجيهما وحق هذا المفسر أن يُعزّر تعزيرًا بالغا.
٩٦
المقالات والمقدمات
- أخبر الله تعالى أنه أعطى سليمان الملك الذي طلبه وقال له: هَذَا
عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ ص: ٣٩] ولم يعلقه بخاتم ولا غيره. ٤- اليهود لعنهم الله ينكرون نبوة سليمان ويعتبرونه ملكًا حكيما، يعنون بالحكمة السحر، ويعتقدون أنه نال الملك وتسخير الجن بالطلسمات السحرية ولذلك قالوا: كان ملكه في خاتمه
وما كان للمفسرين أن ينخدعوا بكذبهم ويدونوه في تفاسيرهم. ه - من أبطل الباطل دعوى أن صورة سليمان كانت في خاتمه أيضًا بحيث لما ذهب الخاتم ذهبت صورته معه وأنكره الناس ولم تعد إليه صورته حتى عاد الخاتم !! كيف ارتبطت صورته التي خلقه الله عليها بخاتم في يده؟! وأي عقل يصدق هذه الخرافة ؟!!
٦- لا يجوز في حقٌّ سليمان النبي عليه السَّلام أن يهرب بولده من الموت ويستعين بالشياطين على ذلك وأنهم وضعوه بين السماء والأرض هذه خرافةٌ
أيضًا.
- الجسد جسم لا روح فيه ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيهِ جسدا ﴾ [ص: ٣٤] وفي الحديث: كنتُ نبيًّا وآدم بين الرُّوحِ والجَسَد». أي: حين كان آدم جسدًا لا روح فيه، فإذا انضم الروح إليه زال عنه اسم الجسد
وسمي إنسانًا أو ملكًا أو شيطانا لأنه حي يعقل ويتحرك بإرادته. فتفسير الجسد في الآية بالشيطان لا تساعد عليه اللغة العربية وينافي دقة التعبير القرآني إذ لو كان المراد شيطانًا كما في الإسرائيليات لقيل: وسلطنا على
كرسيه شيطانا.
القرآن الكريم وعلومه
۹۷
وسؤال
- ما كان الله تعالى ليسلب نبيه ما أعطاه ويلجئه إلى التكفُّف. الناس لا لذنب أتاه إذ هو معصوم ولكن لأن الشيطان سرق خاتمه من زوجه.
والله تعالى يكره لعبده أن يسأل غيره خصوصا من كان نبيا مرسلًا، جاء في بعض الآثار إن الله أوحى إلى موسى عليه السلام: «سلني في كل شيء حتى في شِسْع نَعلِكَ وَمِلْحَ عَجِينِكَ».
۹۸
المقالات والمقدمات
١٣- القرآن دواء للجسم والرُّوح وأنف المضللين راغم (۱) لا شك أن كتاب الله شفاءٌ ودواء وغذاء للجسم والروح، ولكن
الجماعات الوثنية الباطنية العصرية المستترة وراء التسلُّف، والتي تريد أن تقضي على الإسلام من طريق القضاء على معنوياته وأسراره وروحانياته، والتي يسر لها الزمان أسباب الظهور والتغرير لغير وجه الله، هذه الطوائف التي مزقت وحدة المسلمين وشغلتهم عن مصائب الاستعمار بتوافه، والخلافات على الفروع، وابتداع الغيرة على الدين للتمكين للاستعمار المنتظر، وخدمة التبشير القائم، كان من آخر ما فتنوا به الأمة وشغلوها به عن واجبها الأكبر، قولهم بعدم بركة القرآن وأنه لا يصلح للتدواي على أي وجه، وادَّعوا بأنَّ فاعل هذا دجال كافر فاسمع تكذيب هؤلاء المضلين بما لا شك فيه (٢).
القرآن دواء للأجسام
قال ابن ماجه في كتاب الطب من "سننه"، باب الاستشفاء بالقرآن، حدثنا محمد بن عبيد بن عتبة بن عبد الرحمن الكندي، حدثنا علي بن ثابت، حدثنا سعاد بن سليمان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خيرُ الدَّواءِ القرآن». قلت: إسناده
حسن
وللسجزي في "الإبانة"، والقضاعي في "مسند الشهاب" من طريق أبي
(۱) مجلة المسلم، السنة الرابعة العدد السادس، محرم ١٣٧٤هـ.
(۲) الديباجة من المجلة
القرآن الكريم وعلومه .
إسحاق، عن الحارث، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
.
القرآن هو الدواء». وإسناده حسن كما قال المناوي في "التيسير".
۹۹
وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن». قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وسلَّمه الذهبي (۱) وروى الحاكم أيضًا عن ابن مسعود قال: «عليكم بالشفاءين القرآنُ والعسل» وإسناده صحيح أيضًا. وروى الثعلبي من طريق أحمد بن الحارث الغساني، حدثتنا ساكنة بنت الجرود، قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شَفاه الله».
الفاتحة دواء من العقرب:
قال البخاري: باب الشروط في الرُّقية بفاتحة الكتاب»، ثم روى فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ إنَّ في الماء رجلًا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا؟! ، حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله: أخذ على كتاب الله أجرا! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أَحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا
كتاب الله».
ورواه البزار من حديث جابر بن عبد الله وزاد في روايته: فقالوا لهم: قد
(۱) وقال الحافظ ابن كثير بعد أن عزا الحديث لابن ماجه: «إسناده جيد».
۱۰۰
المقالات والمقدمات
بلغنا أن صاحبكم جاء بالنُّور والشَّفاء؟ قالوا: نعم، قالوا: فهل فيكم من راق، فقال رجل من الأنصار أنا أرقيه ... إلخ، وهذا الرجل من الأنصار هو أبو سعيد الخدري، كما سبق في رواية الترمذي وابن أبي حاتم وهذه قصة أخرى. الفاتحة دواء من الجنون:
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني في "السنن" عن خارجة بن الصَّلت عن عمه أنه أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ثم أقبل راجعا من عنده فمرَّ على قوم عندهم رجل مجنون مُوثَقٌ بالحديد، فقال أهله: إنَّا قد حدثنا أن صاحبكم هذا قد جاء بخير فهل عندك شيء تداويه؟ قال: فرقيته بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام كل يوم مرتين فبرأ، فأعطوني مائتي شاةٍ فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فأخبرته فقال: «خذها فلعَمْري من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حقٌّ» (۱). إسناده صحيح وصححه ابن حبان والحاكم
أيضًا.
الفاتحة دواء من الصَّرَع:
روى الثعلبي من طريق معاوية بن صالح، عن أبي سليمان قال: مرَّ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم في بعض غزوهم على رجل قد
(۱) قسم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في هذا الحديث الرقية إلى قسمين: رقية حقٌّ، ورقية باطل، فرقية الحقِّ ما كانت بالقرآن أو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله
·
وسلم، من قوله أو فعله أو تقريره. ورقية الباطل: ما لم تكن كذلك. قال الشوكاني: وعلى الرقية الباطل تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن الرقى، وعلى رقية الحق تحمل الأحاديث الواردة بالإذن بها» . اهـ
القرآن الكريم وعلومه
۱۰۱
صرع، فقرأ بعضهم في أذنه بأم القرآن فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء».
الفاتحة داء من السم:
روى سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي سعيد: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فاتحة الكتاب شفاء من السم».
وروى أبو الشيخ في "الثواب" من طريق آخر، عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مثله.
الفاتحة شفاء لكل داء: روى الدارمي والبيهقي بسند رجاله ثقات، عن عبد الملك بن عمير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «فاتحة الكتابِ شفاء من كل داء». المعوذات دواء نبوي:
أخرج الإمام مالك والبخاري ومسلم عن عائشة، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات وينقُتُ، فلما اشتدَّ وجعه كنتُ أنا أقرأ عليه بيمينه رجاء بركتها .
وفي رواية لمسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرض أحد من أهله نفَثَ عليه بالمعوذات فلها مرض مرضه الذي مات فيه جعلتُ أنفُتُ عليه وامسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي.
والمراد بالمعوذات: (قُل هو الله أحدٌ)، و(قُل أعوذُ برب الفلق)، و(قُل
أعوذُ برب الناس)، نصَّ عليه الحافظ ابن حجر وغيره.
المعوذات مع الماء دواء:
أخرج الطبراني عن أبي عبيد واسمه ،عامر ، وقيل اسمه كنيته، أن أباه
۱۰۲
المقالات والمقدمات
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رأى في عنق امرأة من أهله سيرًا فيه تمائم، فمدَّ يده مدا شديدًا حتى قطع السير وقال : لو أنَّ إحداكن تدعو بماء فتنضحه في رأسها ووجهها ثم تقول : بسم الله الرحمن الرحيم، ثم تقرأ (قل هو الله أحد)، و ( قل أعوذ برب الفلق)، و ( قل أعوذ برب الناس)، نفعها ذلك إن شاء الله . المعوذات دواء من العقرب:
أخرج بن أبي شيبه في "مسنده" عن عبد الله بن مسعود قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يصلّي إذ سجد فلدغته عقرب في أصبعه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقال: «لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره». ثم دعا بماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ويقرأ (قل هو الله أحد) و(المعوذتين) حتى سكنت. وفي مجمع الزوائد" بإسناد حسن زاد (الكافرون).
سورة (الإخلاص) لكل مرض:
أخرج أبو يعلى في "الكبير" عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: مرضتُ وكان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يعُودُني فعوَّذني يوما فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، أعيدك بالله الأحَدِ الصَّمَدِ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من شر ما تجد، فلما استقل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قائما قال: يا عثمان تعوّذ بها فما تعوَّذْتُم بمثلها».
المعوذتان دواء من العين أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يتعوَّذ من أعين الجان، وأعين الإنس، فلما
القرآن الكريم وعلومه .
۱۰۳
نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك، قال الترمذي: «حديث حسن». قلت: معنى الحديث كما قال العلماء: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يتعوذ من العين والحسد، وشر الإنس والجن بتعاويذ من أدعية وأذكار، فلما نزلت المعوذتان صار يتعوّذ بهما وترك غيرهما لأنهما يكفيان عن سائر المعوذات.
آيات تداوي من مس الجن:
أخرج بن ماجه في "السنن" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه أبي ليلى، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه أعرابي فقال: إنَّ
لي أخا وجعًا. قال: «ما وجعُ أخيك ؟ قال به لَم. قال: اذهب فائتني به». قال: فذهب فجاءه به فأجلسه بين يديه فسمعته عوّذه بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول (البقرة)، وآيتين من وسطها، و(إلهكم إله واحد)، و(آية الكرسي)، وثلاث آيات من خاتمتها وآية من (آل عمران) أحسبه قال: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) وآية من (الأعراف) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ وآية من (المؤمنون) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَنهَا أَخَرَ لَا بُرْهَنَ لَهُ بِهِ وآية من (الجن) وَأَنَّهُ تَعَلَى جَد ربنا وعشر آيات من أول (الصافات)، وثلاث آيات من آخر (الحشر)، و(قل هو الله أحد)، و(المعوذتين)، فقام الأعرابي وقد برأ، ليس به
بأس. ورواه أبو يعلى في "المعجم" وأبو نصر السجزي في "الإبانة". آيات تداوي المبتلى:
أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو نعيم وابن مردويه والحكيم الترمذي والخطيب البغدادي من طريق ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش
المقالات والمقدمات
الصنعاني، عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ في أذن مبتلى فأفاق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما قرأتَ في أُذُنِه» قال: قرأت أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَنَا [المؤمنون: (۱۱٥] حتى فرغ إلى آخر السورة، فقال رسول الله
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لو أنَّ رجلا موقنا قرأ بها على جبلٍ لزَال». قال الحافظ الهيثمي : ابن لهيعة فيه ضعف، ولكن حديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح»، وقال الحافظ السيوطي في "التعقيبات": «طريقه على
شرط الحسن». الحكم الأخير:
إذا تأمل القارئ الكريم تلك الأحاديث التي أوردناها معزوة لرواتها وضح له أمران:
الأول: أنَّ التَّداوي بالقرآن العظيم وارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فعله أو أمره أو تقريره، بطرق تفيد القطع واليقين، بحيث لا يسع من وقف عليها وكان عنده مسكة من علم أن يتشكك في ذلك أو يداخله أدنى احتمال
وكيف يبقى مجال للشك أو الاحتمال في شيء رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة عشر صحابيًا هم علي، وابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعلاقة بن صَحَارٍ عم خارجه بن الصلت، والسائب بن يزيد، وعائشة، وعثمان بن عفان، وعبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر، وابن عباس الجهني، وأبو ليلى، وأبي بن كعب.
وفي هؤلاء من الخلفاء الراشدين علي وعثمان، وفيهم من كبار فقهاء
القرآن الكريم وعلومه
1.0
الصحابة علي وابن مسعودٍ وابن عبّاس وعائشة وأبي، ومن حفاظهم أبو سعيد
عن
الخدري وابن عبّاس وجابر وعائشة، أضف إلى ذلك أنَّ الطرق تعدّدت . بعضهم كأبي سعيد وعائشة وعقبة تعدُّدا بلغ حد الشهرة والاستفاضة. الثاني: أن أحاديث التداوي بالقرآن مخرَّجة في كتاب "الموطأ" للإمام مالك، "ومسند الإمام أحمد، وصحيحي "البخاري" و"مسلم"، وسنن "أبي داود" و"الترمذي" و " النسائي" و"ابن ماجه". " وصحيح ابن حِبَّان" "ومستدرك الحاكم"، وسنن الدارقطني"
و"البيهقي" ، "ومعاجم الطبراني"، ومسانيد "البزار" و"أبي يعلى". وتفاسير "ابن جرير " و " ابن المنذر" و " ابن أبي حاتم" و " ابن منده" . و "حلية الأولياء" لأبي نعيم و "تاريخ "بغداد" للخطيب، "ومجمع الزوائد"
للحافظ الهيثمي. وغيرها من كتب السُّنة التي عن طريقها وصل إلينا الهدي النبوي،
وبواسطتها نقلت إلينا شرائع الدين المحمدي. فمن يستطيع بعد هذا كله أن ينكر التداوي بالقرآن الكريم ويجعله من قبيل الدَّجل والخرفات إلا أن يكون عريقا في الجهل غريقا في الابتداع والانحراف عن السنة النبوية المطهرة؟!!.
١٠٦
المقالات والمقدمات
١٤- القرآن هو الدواء (1)
المشروع والممنوع من الرقى والتمائم
عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنَّ الرقى والتمائم والتَّوَلة شرك». قالوا يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم
قد عرفناهما فما التَّوَلة؟ قال : شيء تصنعه النساء يتحبَّين به إلى أزواجهنَّ. صححه ابن حِبَّان والحاكم، وفي الباب أحاديث غير هذه لا تخلوا أسانديها
من ضعف.
و«الرقى»: جمع رُقية بضم الراء وسكون القاف، وهي معروفة. والتمائم: جمع تميمة وهي خَرَز أو قلادة تُعلَّق في الرأس. والتولة: بكسر التاء وفتح الواو واللام مرَّ بيانها في كلام ابن مسعود وهي من السحر.
وإنما كانت هذه الأشياء من الشّرك؛ لأنَّ أهل الجاهلية أرادوا بها جلب
المنافع ودفع المضار من عند غير الله. قال الحافظ: «ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك، وقال الربيع سألتُ الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يُرقى بكتاب الله وما يُعرف من ذكر الله. قلت أيرقي أهل الكتاب
المسلمين؟ قال : نعم إذا رقوا بما يُعرف من كتاب الله وبذكر الله» . اهـ وقال الإمام أبو سليمان الخطابي : المنهي عنه من الرُّقى ما كان بغير لسان العرب فلا يُدرى ما هو، ولعله قد يدخله سحرٌ أو كفر، فأمَّا إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به» . اهـ
(۱) السنة السادسة، العدد الأول، شعبان ١٣٧٥ .
القرآن الكريم وعلومه .
۱۰۷
وقال ابن التين في "شرح البخاري": «الرُّقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى. فلما عزّ هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزّم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والتعوذ بمردَتِهم ويقال: إنَّ الحية لعداوتها للإنسان بالطبع
والاستعانة
بهم
تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رُقي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من الشرك، وعلى كراهة الرقى
بغير كتاب الله علماء الأمة». وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك.
والثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز فإن كان مأثورًا فيستحب. والثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم مــن المخلوقات كالعرش فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى إلا أن يتضمن تعظيم المرقي به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى». اهـ
ونقل الحافظ إجماع العلماء على جواز الرقى بشروط ثلاثة:
الأول: أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته والثاني: أن تكون
۱۰۸
المقالات والمقدمات
باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره والثالث: أن يعتقد أن الرقى لا تؤثر بذاتها بل بقدرة الله تعالى» . اهـ
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنَّ ناسا من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يُقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا لا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاة، فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ، فأتوا بشاة فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فسألوه فضحك وقال: «وما أدراكَ أَنَّهَا رُقْية؟! خُذُوها واضربوا
لي بسهم". والراقي هو أبو سعيد الخدري كما جاء في بعض روايات "مسلم"، وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مروا بماءٍ فيه لديغ أو سليمٌ فعرَضَ لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ إنَّ في الماء رجلًا لديغا أو سليما فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشَّاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا؟! حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله: أخذ على كتاب الله أجرًا!! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أحق ما أخذتُم عليه أجرًا كتاب الله». وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن خارجة ابن الصلت التميمي عن عمه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم، ثم أقبل راجعًا من عنده فمرَّ على قوم عندهم رجل مجنون موثق
القرآن الكريم وعلومه
۱۰۹
بالحديد فقال أهله إنا حُدِّثنا أنَّ صاحبكم قد جاء بخير فهل عندك شيء تداويه؟ فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ وأعطوني مائة شاة، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فأخبرته فقال: هل قلت غير هذا؟ قلت: لا. قال: «خذها
فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقيةِ حَقٌّ».
وروى الثعلبي من طريق معاوية بن صالح عن أبي سليمان قال: مرَّ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في بعض غزواتهم على رجل قد صرع، فقرأ بعضهم في أذنه بأم القرآن فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء».
وروى الطبراني في "الأوسط" والدارقطني في "الأفراد" وابن عساكر بإسناد ضعيف عن السائب بن يزيد قال : عوّذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفاتحة الكتاب تفلّا.
وروى سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي سعيد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فاتحة الكتاب شفاء من السم».
وروى أبو الشيخ في "الثواب" من طريق آخر عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا مثله.
وروى الدارمي والبيهقي بسند رجاله ثقات عن عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «فاتحة الكتاب شفاء من كل داء». وروى الثعلبي عن الشَّعبيّ أن رجلاً شكا إليه وجع الخاصرة، فقال: «عليك بأساس القرآن»(۱) قال : وما أساس القرآن ؟ قال : ( «فاتحة الكتاب
(۱) انظر كتابي كمال" الإيمان" في التداوي بالقرآن وهو الكتاب الذي أبطلت به دعوى
المقالات والمقدمات
والأحاديث والآثار في الاسترقاء والاستشفاء بالفاتحة كثيرة، وكذا بغيرها من
السور والآيات بل القرآن كله شفاء كما قال تعالى: وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲] .
قال الفخر الرازي وغيره لفظة من ليست للتبعيض بل للجنس، والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء للأمراض الروحانية والأمراض الجسمانية».
وفي "سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم" عن علي عليه السلام، عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خيرُ الدَّواء القرآن». وللسجزي في "الإبانة" والقضاعي في "مسند الشهاب" عنه أيضًا
مرفوعا: «القرآن هو الدواء».
وروى ابن ماجه والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين عن ابن مسعود عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «عليكم بالشفاءين العسل
والقرآن». وورد عن ابن مسعود موقوفًا عليه أيضًا رواه ابن أبي حاتم وغيره. قال ابن القيم: «إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين، ثمَّ بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها
لتضمنها جميع معاني الكتاب».
المبتدع الشيخ شلتوت حيث زعم أن التداوي بالقرآن من قبيل الدجل والخرافة.
القرآن الكريم وعلومه .
١٥- جواز التداوي بالقرآن (۱) (۱)
۱۱۱
سبق أن نشرت مجلة "المسلم" طائفة من الأحاديث التي تؤكد استحباب التداوي بالقرآن ردًّا على بدعة منع التداوي به وبالرقى النبوية، وبمناسبة عودة هؤلاء المبتدعة إلى القول بعدم جواز التداوي بالقرآن نعود إلى تتمة هذا الموضوع فنقول : قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «خيرُ الدَّواء القرآنُ ومن لم يسشف بالقرآن فلا شَفاه الله .
الإجماع منعقد على جواز التداوي بالقرآن الكريم بل على استحبابه منذ عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم وهلم جرا إلى أن فست البدع وظهر المبتدعة الذين سموا أنفسهم مصلحين أرادوا أن يصلحوا الدين ويهذبوه ناسين أو متناسين أنَّ الدِّين وضع إلهي نزل به الروح الأمين على سيد العالمين لا يمكن أن تمتد إليه يد أحد من البشر كائنا من كان - بإصلاح أو تهذيب بل الواجب الانقياد لما ثبت عن الله ورسوله لا يتحمل في رده بتكلف تأويل أو تعلل برأي حقير أو جليل؛ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأَوَلَتَيكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: ٥١].
و نحن نورد نصوصًا تثبت ما ذكرناه من الإجماع وتؤيده ليعلم مبلغ إجرام ذلك المبتدع الذي زعم التداوي بالقرآن العظيم دجلا وخرفات، قاتله الله ما أكثر جهله وأشد جراءته. قال الإمام مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبدالرحمن:
(۱) المسلم، السنة الثامنة العدد (٤) ذي القعدة ١٣٧٧ .
۱۱۲
المقالات والمقدمات
أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها فقال أبو بكر: أرقيها بكتاب الله.
قال الإمام أبو الوليد الباجي في "المنتقي": «قول أبي بكر لليهودية: «ارقيها بكتاب الله ظاهره أنه أراد التوارة؛ لأن اليهودية في الغالب لا تقرأ القرآن، ويحتمل - والله أعلم - أن يريد بذكر الله عزّ اسمه، أو رقية موافقة لما في كتاب الله تعالى .
قلت: وإذا جاء الاسترقاء بالتوراة فجوازه بالقرآن أولى وأظهر كما هو ظاهر. وقال الحافظ ابن كثير : وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آيةً من كتاب الله في صحيفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهما مع طيب نفس منها فليشتر به عسلا فليشربه كذلك فإنه شفاء».
قال ابن كثير: أي من وجوه ؛ قال الله تعالى: وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲]، وقال: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ مُبَرَكًا ﴾ [ق:
9]، وقال: فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنت كاترينا [النساء: ٤]، وقال في العسل: فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: ٦٩]. وقال الباجي: كانت عائشة رضى الله عنها كثيرة الاسترقاء، قال مالك في "العتبية": بلغني أنها كانت ترى البثرة الصغيرة في يدها فتلح عليها بالتعويذ فيقال لها: إنها صغيرة. فتقول: «إنَّ الله عزّوجل يعظم ما يشاء من صغير ويصغر ما يشاء من عظيم. وقال ابن القيم في الكلام على علاج العين ودفع ضرر العائن من "زاد
القرآن الكريم وعلومه
۱۱۳
المعاد" ما نصه: ورأى جماعة من السلف أن يكتب له الآيات من القرآن ثم يشربها، قال مجاهد : لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض، ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن ابن عباس أنه أمر أن يكتب لامرأة تعشرت عليها ولادتها أثر من القرآن ثم يغسل وتسقى. رواه أحمد وغيره.
وقال أيوب: رأيت أبا قلابة كتب كتابًا من القرآن ثم غسله بماء وسقاه
رجلا كان به وجع». وقد علق عليه بعض جهلة المبتدعة يناقشه في صحة هذه الآثار وما درى أنها مسندة في كتب لم يرها هذا المبتدع الجاهل ولا يمكنه أن يراها "كمصنف ابن أبي شيبة" و "مسنده" ، و "مصنف عبدالرزاق" وكتب الخلال شيخ الحنابلة وغيرها مما ينقل عنها ابن القيم.
وقال في كتاب "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي": «ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيرًا عجيبًا في الشفاء، ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء ولا أجد طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها
تأثيرا عجيبًا، فكنت أصف ذلك لمن يجد ألما وكان كثيرا منهم يبرأ سريعا». وقال القرطبي في كتاب "الأذكار" في باب الآداب التي تلزم حامل القرآن ومنها أنه: «لا يمحوه باللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء ويتوقى النجاسة من المواضع النجسة والمواضع التي توطأ فإن لتلك الغُسالة حرمة، وكان من كان قبلنا من السلف منهم يستشفي بغُسالته، وفي التنزيل : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲]، وقال: يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: ٥٧].
١١٤
المقالات والمقدمات
وأخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم أن خاتمة القرآن معوذتان لم يتعوذ الناس بمثلها، ورقى أبو سعيد الخدري اللديغ بفاتحة الكتاب فبرأ، وأعطوه
قطيعا من الغنم ثلاثين شاة، وفي الجملة أن الكلام مما يستشفى به».
إلى أن قال: «وقد جاء عن المتقدمين في باب الاحترازات من المخاوف والاستشفاء من الأمراض بآيات القرآن ما هو مذكور في غير هذا الموضع وأنهم انتفعوا بذلك فكان ذلك أدل دليل على أن القرآن من عند الله تعالى ومنها إذا اغتسل بكتابته مستشفيًا من سقم أن لا يصبه على كناسة ولا في موضع نجاسة ولا على موضع يوطأ، ولكن في ناحية من الأرض في بقعة لا يطأها الناس، أو يجد حفرة في موضع طاهر حتى يصيب من جسده في تلك الحفرة ثم يكبها، أو نهر كبير يختلط بمائه فيجري.
وروى الثعلبي عن الشعبي أن رجلا شكى إليه وجع الخاصرة فقال
الشعبي: عليك بأساس القرآن قال وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب. وقال الربيع : سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله . قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا
بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله . نقله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "التوكل": حدثنا محمد بن إدريس: حدثنا موسى بن أيوب: حدثنا بقية عن زرعة بن عبدالله الزبيدي، عن عبدالله بن كريز قال: كتب عامل أفريقية إلى عمر بن عبد العزيز يشكو الهوام والعقارب فكتب إليه وما على أحدكم إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَنَا سُبُلَنَا } [إبراهيم: ١٢].
القرآن الكريم وعلومه
١٦- التداوي بالقرآن والرقى(۲)(۱)
١١٥
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري" في الكلام على حديث أبي سعيد في الرقية بالفاتحة: «في الحديث جواز الرقية بكتاب الله ويلتحق به ما كان بالذكر والدعاء المأثور، وكذا غير المأثور مما لا يخالف ما في المأثور، وأما الرقى بما سوى ذلك فليس في الحديث ما يثبته ولا ما ينفيه، وفيه الاجتهاد عند فقد النصّ، وعظمة القرآن في صدور الصحابة خصوصا الفاتحة». وقال أيضا: «وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف
معناه من غيره، وأن يعتقد أنَّ الرُّقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى». ثم ذكر أحاديث في جواز مطلق الرُّقى إذا لم يكن فيها شرك، راجعه في کتاب الطب من "فتح الباري".
وقال الإمام ابن التين في "شرح البخاري": «الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عزَّ هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني، وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة والتعوذ بمردتهم، ويقال إن الحية لعداوتها بهم للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم فإذا عزم على الحية فأ بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها وكذا اللديغ إذا رُقي بتلك
(۱) المسلم، السنة الثامنة العدد (٥) ذي الحجة ١٣٧٧.
117
المقالات والمقدمات
الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من الشرك، وعلى كراهة الرُّقى بغير كتاب الله علماء الأمة». وقال العلامة المحدّث القاضي أبو عبد الله الشبلي الحنفي في "آكــام المرجان": «قدمنا أن عامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى لا يفقه بالعربية معناها ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى الغير مفهومة المعنى؛ لأنها مظنَّة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك، ومـن رقـع حول الحمى أوشك أن يقع فيه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنـه رخص في الرقى ما لم يكن شركا وقال: من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل». وفي التطبب والاستشفاء بكتاب الله عزَّ وجلَّ غنى تام ومقنع عام، وهـو الـنـور والشفاء لما في الصدور والوقاء الدافع لكل محذور، والرحمة للمؤمنين من الأحياء وأهل القبور، وفقنا الله لإدراك معانيه وأوقفنا عند أوامره ونواهيه، ومن تدبر من آيات الكتاب من ذوي الألباب وقف على الدواء الشافي لكــل داء مواف، سوى الموت الذي هو غاية كل حي فإن الله تعالى يقول: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَى ﴾ [الأنعام: ۳۸] وخواص الآيات والأذكار لا ينكرها إلا من عقيدته واهية ولكن لا يعقِلُها إلا العالمون». وقال العلامة المحدّث القسطلاني في "المواهب اللدنية": اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة من القرآن، فهو للداء شفاء ولصَدَأ القلوب جلاء كما قال تعالى: وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲].
الداء
القرآن الكريم وعلومه .
۱۱۷
ولفظة: من كما قال الإمام فخر الدين- ليست للتبعيض بل
للجنس، والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضًا من الأمراض الجسمانية».
ثمَّ بين ذلك بما يعلم من مراجعته في الجزء الثاني من "المواهب" تحت ترجمة «النوع الأول في طبه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالأدوية الإلهية»، وأغلبه ملخص من "فتح الباري" للحافظ ابن حجر.
ونقل في "المواهب اللدنية وغيرها عن أبي القاسم القشيري أن ولده مرض مرضًا شديدا حتى أشرف على الموت فاشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في المنام فشكوت إليه ما بولدي فقال: صلى الله عليه وآله وسلّم: «أين أنت من آيات الشفاء؟». فانتبهتُ فأفكرت فيها فإذا هي في ستة مواضع من كتاب الله وهي قوله:
1 - وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة: ١٤].
- وَشِفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: ٥٧]. - يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ تُخَتَلَفُ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: ٦٩] . ٤ - وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲] .
ه - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: ٨٠].
٦- قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاهُ ﴾ [فصلت: ٤٤].
قال: فكتبتها ثمَّ حللتها بالماء وسقيته إياها فكأنها نشط من عقال.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار" في الكلام على حديثي ابن عباس وأبي
۱۱۸
المقالات والمقدمات
سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب ما نصه: (وفي الحديثين دليل على جواز الرقية بكتاب الله ويلتحق به ما كان بالذكر والدعاء المأثور وكذا غير المأثور مما لا يخالف ما في المأثور، وأما الرُّقى بغير ذلك فليس في الأحاديث ما يثبته ولا ينفيه إلا ما سيأتي في حديث خارجة».
يريد قوله صلى الله عليه وآله وسلّم لعم خارجة: « خذها فلعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حقٌّ».
قال الشوكاني والرقى الباطلة المذمومة هي التي كلامها كفر أو التي لا يعرف معناها كالطلاسم المجهولة المعنى».
وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني في "الرسالة" ما نصه: ولا بأس بالرقى بكتاب الله وبالكلام الطيب».
قال العلامة ابن ناجي في شرحه عليها : قال في "البيان": كره مالك الرقى بالحديد والملح وعقد الخيوط لأن الشفاء لا يكون إلا بكتاب الله وأسمائه وما يعرف من الذكر».
وقال ابن ناجي أيضًا: الأصل في جواز الاسترقاء قوله تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: ۸۲]، وقوله تعالى: وَهَذَا كتب أَنزَلْتَهُ مُبَارَك ﴾ [الأنعام: ٩٢ ] .
وكذا استدل العلامة الشيخ زروق في "شرح الرسالة" على جواز الاسترقاء بالقرآن بالآية الأولى، وبحديث أبي سعيد الخدري في رقية اللديغ
بالفاتحة.
ثم قال: وأما الكلام العربي المفهوم المحتوي على ذكر الله ورسوله
القرآن الكريم وعلومه
۱۱۹
والصالحين من عباده لا الموهمات والمبهمات. إذ حكى المازري أنَّ مالكًا سئل عن الأسماء المعجمة فقال: وما يدريك لعلها كفر؟ وعلى هذا فالأصل المنع حتى يأتي المبيح، وقال بعضهم الأصل خلاف ذلك حتى يتبيَّن الباطل لأنه صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: «اعرِضُوا عليَّ رُقاكُمْ» فعرضوا فقال: «لا أرى بأسا» الحديث.
ونصوص العلماء على جواز الاسترقاء بالقرآن بل على استحبابه كثيرة
وذلك محل إجماع كما تقدم في كلام ابن حجر وغيره.
(۳)
مقالات في الحديث الشريف وعلومه
الحديث الشريف وعلومه
الإسلام كتاب وسنة
ومنكر السنة جاهل أو فاسق (۱)
۱۲۳
قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يوشك أن يقعد الرجلُ منكم على أَرِيكتِهِ يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حرامًا حَرَّمناه، وإنَّ ما حرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله». رواه
أبو داود والحاكم والبيهقي بإسناد صحيح.
وفي رواية للبيهقي: ألا إنّي أوتيتُ الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيتُ الكتاب ومثله معه ألا يوشِكُ رجلٌ شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتُم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتُم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي» الحديث.
وفي "مسند أبي يعلى عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عسى أ أن يُكذِّبني رجلٌ منكم وهو متكى على أريكته يبلغه الحديث عني فيقول: ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هذا، دع هذا وهاتِ ما في القرآن». وللحديث طرق. قوله: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته » أي: سريره، «يحدث» بالبناء
للمجهول، أي: يحدثه أحد بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله. لله ... إلخ. هذا من أعلام النبوة فقد وقع ما أخبر به صلَّى الله عليه وآله وسلّم وظهر مبتدعة ملاحدة ينكرون الحديث النبوي عملا واحتجاجا ويزعمون أنَّ الحجة في القرآن خاصة، فإن ذكرت لهم قول الله تعالى: وَمَا ءَ انكم الرسول
(۱) المسلم، السنة الخامسة، العدد (۱۰) رجب ١٣٧٥.
١٢٤
المقالات والمقدمات
فَخُذُوهُ ﴾ [الحشر: ٧] قالوا: يعني في القرآن لا في غيره، وهكذا كل آية فيها
الأمر بطاعة الرسول يحملونها على طاعته في القرآن فقط.
ومنهم من يحتج لهذا الرأي الفاسد بحديث: ما جاءكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله».
وهذا حديث مكذوبٌ قال الإمام الشافعي: «ما روى هذا أحد يثبت
حديثه في شيء صغير ولا كبير وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول». وقال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث ما
أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله».
وقال البيهقي في "المدخل": هذا حديث باطل لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن». وقال الحافظ بن عبد البر" في كتاب العلم": «هذه الألفاظ لا تصح عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه». و عارضه ابن حزم فقال: عرضنا هذا الحديث على كتاب الله فخالفه لأنا وجدنا كتاب الله تعالى يقول: وَمَا الكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فانتهوا ﴾ [الحشر: ۷] ووجدنا فيه قُل إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل
عمران: ۳۱) ووجدنا فيه من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: ٨٠ ] . وقد أوردت طرق هذا الحديث الباطل وبيَّنت عللها في كتاب "الابتهاج بتخريج حديث المنهاج" في الأصول.
وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول": «اتَّفق من يُعتد به من أهل العلم على أنَّ السُّنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال
الحديث الشريف وعلومه
١٢٥
وتحريم الحرام وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ألا وإنِّي أوتيتُ القرآن ومثله معه أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك مما لم يأت عليه الحصر» . اهـ
قلت: وقد انعقد إجماع الأئمة والعلماء على العمل بالسُّنة المطهرة والاحتجاج بها في أصول الدين وفروعه إلا ما كان من بعض المبتدعة الزنادقة الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإنهم خرجوا عن إجماع المسلمين ولمزوا السنة وناقليها وأعرضوا عنها فتصدى الأئمة للرد عليهم وبيان زيغهم وضلالهم.
فللإمام الشافعي في ذلك كلام طويل جميل ذكره في "الرسالة" ونقله البيهقي في "المدخل" وعلق عليه بما يؤيده من الأحاديث والأثار فزاده حسنا
على حسن.
وللإمام أحمد بن حنبل كتاب خاص في الرد عليهم، وفي كتاب "العلم" للحافظ ابن عبد البرِّ باب خاص في هذا المعنى ذكر فيه من نصوص الأئمة ما
فيه كفاية.
وللحافظ السيوطي رسالة مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنة" وهي مطبوعة، ذكر أنه ألفها بسبب رافضي زنديق سمعه يقول: إنَّ السُّنة لا يحتج بها
وإنَّ الحجة في القرآن خاصَّة، وهي رسالة مفيدة قيمة.
وللقاضي عياض في "الشفا" فصل حسن في هذا المعنى، وكذا في
"المواهب اللدنية"، وغيرها.
١٢٦
المقالات والمقدمات
والمقصود أنَّ السُّنة أصل من أصول الدين لا يتم الإسلام إلا بالاحتكام إليها والاستسلام لها كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تسليمًا } [النساء: ٦٥].
وروى الإمام الشافعي رضي الله عنه يومًا حديثا وقال: إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله ؟ فاضطرب وقال: يا هذا أرأيتني نصرانيا أرأيتني خارجًا من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زِنَارًا؟ أروي عن رسول الله حديثًا ولا أقول به . اهـ وأقوال الأئمة في هذا كثيرة جدًا. قوله: (وإنَّ ما حرَّم رسول الله مثل ما حرم الله» أي: في وجوب الاجتناب
كما قال في الحديث الآخر : «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».
الحديث الشريف وعلومه
۱۲۷
(1)
١٨- الصحيح لغيره والمتواتر
وجه إلي سؤالا حول هذا الموضوع حضرة الأستاذ العالم البحاثة الشيخ ابن بشير الرابحي الجزائري حفظه الله بسبب ما ذكرته في إحدى مقالاتي المنشورة بهذه المجلة من أنَّ حديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه». صحيح لغيره وليس بمتواتر كما قال الحافظ السيوطي.
وحيث إن سؤال الأستاذ اشتمل على مسائل أربع يستدعي كل منها بحثاً طويلاً رأيت أن أقسم جوابي إلى مسائل بقدرها ليكون الجواب مطابقا للسؤال زيادة على ما في التقسيم من حصر أطراف الموضوع الذي هو أقرب إلى
تحصيله.
المسألة الأولى: رسم المتواتر في علمي المصطلح والأصول بأنه: خبر جمع
يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب عن مشاهد أو مسموع.
والصحيح عند علماء الحديث والأصول عدم انحصار الجمع في عدد معين، بل الشرط عندهم أن يبلغ الجمع في الكثرة إلى حد تُحيل العادة معه أن
يجتمعوا على الكذب أو يتوافقوا عليه.
ورأى جماعة تحديد ذلك الجمع في عدد معيَّن، ثم اختلفوا فقيل: أقل عدد يفيد التواتر أربعة، ورده الباقلاني بأن الأربعة لو كان خبرهم يفيد العلم لما
احتاج القاضي إلى تزكيتهم إذا شهدوا عنده بالزنا.
وقيل: خمسة وتوقف فيه الباقلاني ولا معنى لتوقفه فهو باطل كالذي قبله.
وقيل: سبعة بعدد أهل الكهف.
(۱) مجلة الإسلام.
۱۲۸
المقالات والمقدمات
وقيل: عشرة، وهو قول الإصطخري، واختاره الحافظ السيوطي، قال في
" ألفيته " :
وَمَا رَوَاهُ عَدَدْ جَمْ يَجِبْ إِحَالَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلى الكَذِبُ فالمتواتر، وقَوْمٌ حَدَّدُوا بِعَشْرَةٍ، وَهُوَ لَدَيَّ أَجْوَدُ واستدل له في "تدريب الرواي" بأن العشرة أول جموع الكثرة.
وقيل: اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل.
وقيل: عشرون، لقوله تعالى: إن يكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَبِرُونَ يَغْلِبُوا ماتنين ﴾ [الأنفال: ٥٦] الآية.
وقيل: أربعون، لقوله تعالى: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: ٦٤] وكانوا أربعين كما جاء عن سعيد بن جبير بإسناد
صحيح.
وقيل: سبعون عدة أصحاب موسى عليه السلام.
وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر
وقيل: أربع عشرة أو خمس عشرة أو سبع عشرة مائة على الخلاف في عدد
أهل بيعة الرضوان وقيل: يشترط أن يكونوا جميع الأمة كالإجماع، على قول ضعيف فيه. وقيل: لابد أن يكونوا بحيث لا يحويهم بلد الجواز أن يتفق أهل البلد على
الكذب.
فهذه كل الأقوال في تعيين عدد التواتر وهي واضحة البطلان وليس بينها
الحديث الشريف وعلومه
۱۲۹
وبين دلائلها المذكورة معها ملازمة، وإن بينها الجلال المحلي في بعضها بما لا
يخلو من تكلف.
وأحسن أدلتهم فيما أعلم ما ذكره الحافظ ابن حجر مع الجواب عنه فقال: «وتمسك كل قائل بدليل جاء فيه ذكر ذلك العدد فأفاد العلم وليس بلازم يطرد في غيره لاحتمال الاختصاص . اهـ
المسألة الثانية: علمت أنَّ الصحيح عند المحدثين والأصوليين عدم اشتراط عدد معيَّن في التواتر وأنَّ المدار عندهم على أن يكون الجمع في الكثرة
بحيث تركن النفس إلى خبرهم وتتيقن صدقهم بالضرورة. ولا شك أنَّ حديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» لم يبلغ في الكثرة إلى ذلك الحد، فإن جميع ما له من الطرق تسعة، هي: طريق علي، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وسعيد بن زيد، وسهل بن سعد، وأنس، وعائشة، وأبي سبرة، وأم
سيرة.
فطريق علي: فيه عيسى بن عبد الله العلوي وهو متروك الحديث كما قال الدارقطني وغيره ونسبه بعضهم إلى الوضع. وطريق أبي هريرة فيه مع انقطاعه في موضعين - يعقوب بن أبي أسامة الليثي وهو ضعيف.
وطريق أبي سعيد فيه كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن، والأول ليس بالقوي كما قال ابن معين والثاني قال :أحمد مجهول. وقال البخاري: منكر
الحديث.
وطريق سعيد بن زيد فيه مع اضطرابه - أبو تفال ورباح بن عبد الرحمن
۱۳۰
المقالات والمقدمات
وكلاهما مجهول.
وطريق سهل بن سعد: فيه عبدالمهيمن وأُيُّ ابنا عبّاس، والأول ضعيف، والثاني مختلف فيه.
وطريق أنس : فيه عبد الملك بن حبيب وهو شديد الضعف. وطريق عائشة : فيه حارثة بن محمد وهو ضعيف، قال ابن عدي: بلغني
11
عن أحمد أنه نظر في جامع إسحاق بن راهويه" فإذا أول حديث قد أخرجه هذا الحديث فأنكره جدا وقال: أول حديث يكون في "الجامع" عن
حارثة ؟!» . اهـ
وطريق أبي سبرة وأم سبرة فيه عيسى بن سبرة عن أبيه وهما مجهولان. فكيف تركن النفس إلى خبر هذه حال طرقه فضلا عن كونها لم تخرج عن حد الأحاد؟!
وأزيدك أن لا يمكن ادعاء تواتره على رأي الحافظ السيوطي أيضًا، لأنه اختار كما تقدم عنه- أن أقل عدد يفيد التواتر عشرة، وهذا الحديث لم يبلغها فعد الحافظ السيوطي له من المتواتر ذهول منه عما أختاره في كتبه ومخالف لما ذكره في خطبة كتابيه "الفوائد" المتكاثرة" ، و"الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" من أنه يورد فيهما ما رواه من الصحابة عشرة فصاعدًا. نعم يكتسب الحديث من مجموع طرقه قوة يصير بها صحيحًا لغيره كما قلنا على أن الحافظ ابن حجر . ما صححه وإنما قال بعد ذكر طرقه ما نصه:
والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوَّة تدل على أنَّ له أصلا» . اهـ المسألة الثالثة: إذا علمت أن الحديث غير متواتر بما ذكرناه من القواعد
الحديث الشريف وعلومه
۱۳۱
والدلائل فاعلم أن قول أبي بكر بن أبي شيبة: «ثبت لنا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قاله هو بمعنى قولنا: صحيح لغيره، وذلك لأن لفظ: «ثبت» وما تصرف منه يطلق في اصطلاح المحدثين على الصحيح والحسن كما يعلم من "تدريب الرواي"، بل ذكروا أنَّ الحافظ المطلع لا يعدل عن قوله في الحديث: «صح» إلى قوله: «ثبَتَ إلا لنكتة؛ كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح. فالوصف بثابت أنزل من الوصف بصحيح ومن هذا تعلم أن قول ابن أبي شيبة: «ثبت لنا ... إلخ أدون من قولنا : صحيح لغيره وتعلم أيضًا أن في تعبيرنا بالصحة تساهلا بالنسبة إلى كلام ابن أبي شيبة وكذا بالنسبة إلى كلام
الحافظ الذي نقلناه قريبًا.
وأما قول البخاري: إنه أحسن شيء في هذا الباب فهو بالنسبة إلى الدلالة على تواتر الحديث أبعد من كلام ابن أبي شيبة؛ لأنَّ البخاري قال ذلك في طريق سعيد بن زيد كما في "التلخيص الحبير" وغير معقول أن يكون مراده أن ذلك الطريق بانفراده متواتر بل هذا يجل عنه أصغر محدث فضلا
عن
البخاري. وإنما معنى كلامه أن طريق سعيد بن زيد مع ضعفه أحسن من بقية طرق الحديث، أي: أقل ضعفًا منها في نظره، وهذا من عادة المحدثين معروف؛ يطلقون على أحاديث ضعيفة أنها أصح أو أحسن شيء في الباب يريدون: بالنظر إلى ما هو أضعف منها ، ومن تتبع مواقع استعمالهم في هذا وجد منه ما لا يكاد يدخل تحت حصر، وفي كل علم اصطلاح خاص بأهله ألا ترى إلى
۱۳۲
المقالات والمقدمات
الأصوليين فإنهم يطلقون العام في باب التخصيص على أعم من معناه في باب
العام فإذا ليس في كلام البخاري ما يعكر على كلامنا.
المسألة الرابعة : حديث: «كل أمر ذي بال...» حسنه الحافظ السيوطي في "الدر المنثور" و"نواهد" "الأبكار" والمناوي في " التيسير" وصححه النفراوي في شرح الرسالة" وزعم بعضهم أنه لشهرته وكثرة طرقه كاد أن يكون
متواترا.
وكل هذا خطأ قبيح وتساهل تأباه قواعد الصنعة الحديثية والواقع أن الحديث غريب مطلق، أي: ليس له إلا طريق واحد وذلك الطريق واه بمرة. وبيان ذلك أن الحديث رواه الخطيب في كتابه "الجامع لآداب الراوي والسامع"، ومن طريقه رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في "الأربعين البلدانية: فقال : أخبرنا محمد بن حمزة بن محمد القرشي: أنا هبة الله بن أحمد بن محمد الأكفاني: أنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن علي بن مخلد الوراق، ومحمد بن عبد العزيز بن جعفر البردعي، قالا: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران عرف بابن الجندي، بضم الجيم كما في "تنزيه الشريعة" لابن عراق: ثنا محمد بن صالح البصري بها، ثنا عبيد بن عبدالواحد ابن شريك، ثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ثنا مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كلُّ أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم ا
الرَّحمنِ الرَّحيم فهو أقْطَعُ».
الله
فهذا سند الحديث الوحيد الذي لا يستطيع أكبر محدث ولا أحفظ حافظ
الحديث الشريف وعلومه
۱۳۳
أن يعزّزه بإسناد ثان فضلا عن أكثر.
ولا بأس أن نذكر ما قيل في رجاله من التجريح حتى يتبين ضعفه فنقول: أما محمد بن عبد العزيز :البردعي فقال الخطيب: فيه نظر مع أنه لم يرو كبير شيء. وهذه اللفظة في اصطلاحهم بمعنى ذاهب الحديث أو متروك الحديث. قال في مراتب التجريح في "الألفية" :
وذَاهِبٌ مَتَرُوكَ او فيهِ نَظَرْ وسَكَتَوا عَنْهُ بِهِ لا يُعْتَبَر وأما ابن الجندي: فقال الخطيب: «كان يُضعف في روايته ويطعن عليه في مذهبه، قال لي الأزهري: ليس بشيء» . اهـ
ونقل الحافظ في "اللسان" وابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة" عن ابن الجوزي أنه اتّهمه بوضع حديث في فضل علي عليه السلام وأقراه على ذلك. والحديث في "اللآلي المصنوعة".
وأما محمد بن صالح البصري فهو مجهول، قال الحافظ في "اللسان": «ما عرفت حاله».
وأما عبيد بن عبد الواحد: فهو وإن كان ثقةً لكنه تغيّر في آخر أيامه ولا
يدرى أروى عنه محمد بن صالح البصري قبل التغير أم بعده. وأما مبشر بن إسماعيل : فقد كان ثقةً لكن ضعفه ابن قانع وتكلم فيه غيره، ولذا روى له البخاري متابعة لا استقلالاً. فحال رجال السند كما ترى ولهذا جزم الحافظ بأن الحديث واه، وتبعه على ذلك أبو العلاء السيد إدريس بن محمد العراقي الحسيني، وأبو زيد السيد
عبدالرحمن ولده وإليهما انتهى علم الحديث بالمغرب في القرن الثاني عشر.
١٣٤
المقالات والمقدمات
قال شقيقنا العلامة المحدث السيد أحمد في كتابه "الصواعق المنزلة" : . وللحديث مع هذا علة أخرى وهي شذوذ متنه ومخالفة راويه للجم الغفير من الثقات، فقد رواه من أصحاب الأوزاعي جماعة، منهم: الوليد بن مسلم
وعبيد الله بن موسى العبسي وعبد القدوس بن الحجاج الخولاني وعبد الحميد ابن أبي العشرين وشعيب بن إسحاق الأموي ومحمد بن كثير المضيصي وخارجة بن مصعب وعبد الله بن المبارك وموسى بن أعين والمعافى بن عمران وبقية بن الوليد وابن سماعة كلهم عن الأوزاعي بلفظ «الحمد» بدل «البسملة» إلا أن موسى بن أعين وعبد الله بن المبارك قالا: «بذكر الله».
ورواه عن الزهري غير الأوزاعي جماعة وهم سعيد بن عبدالعزيز ويونس ابن يزيد وعقيل وشعيب بن أبي حمزة ومحمد بن الوليد الزبيدي فذكروه بلفظ : «الحمد» أيضًا.
ثم ذكر هذه الطرق بأسانيدها بما فيها من موصول ومرسل ثم قال ما ملخصه فهؤلاء عشرة من أصحاب الأوزاعي كلهم ذكروه عنه بلفظ: «الحمد» إلا موسى بن أعين وابن المبارك بلفظ : «الذكر» وخمسة من أصحاب الزهري كذلك ذكروه بلفظ : «الحمد» أيضًا فإن كانت المخالفة فيه أي: في حديث البسملة»- من مُبشِّر بن إسماعيل وهو صدوق؛ فحديثه شاد ضعيف لمخالفته العدد الكثير من أصحاب الأوزاعي مع أنَّ فيهم من هو أوثق منه بمراحل وأضبط بدرجاتٍ كابن المبارك.
وإن كانت المخالفة فيه من أحد الضعفاء قبله فالحال ظاهر والحكم أبين بل لا يبعد حينئذ الحكم عليه بالوضع، لأنه إذا حكم على مخالفة المغفل
الحديث الشريف وعلومه
۱۳۵
الصدوق بالنكارة كان الحكم على مخالفة المتّهم بالوضع والمجهول للعدد
الكثير من الثقات أشدَّ من ذلك. اهـ
ومما تقدم يعلم أنَّ الخبر الذي روي من طرق عديدة بأسانيد مختلفة مرسلًا وموصولا بأسانيد جيدة هو خبر «الحمد» لا خبر «البسملة» كما وقع في
السؤال.
وكذلك ما وقع فيه من أن ابن الصلاح والنووي حسناه ليس كذلك؛ فابن الصلاح إنما حسن حديث «الحمد» لا غير كما نقل عنه ابن السبكي في أول. "طبقات الشافعية" ومن نقل عنه سوى هذا كالشيخ زكريا الأنصاري فهو
واهم جزمًا.
وكذلك النووي لم يحسن إلا حديث الحمد» بدليل أنه عزاه لأبي داود وابن ماجه والنسائي في "عمل اليوم والليلة" وأبي عوانة وهؤلاء لم يخرجوا حديث «البسملة» إنما أخرجوا حديث «الحمد» وبدليل أنَّه عزا بعض طرقه
لرواية كعب بن مالك الصحابي وكعب لميرو إلا حديث «الحمد».
والكلام على هذا مستوفى في كتاب الصواعق المنزلة" لشقيقنا المذكور. ولان سلمنا أنَّ ابن الصلاح والنووي حسنا حديث «البسملة» فكم لهما من أغلاط في تصحيح أحاديث ضعيفة وتضعيف أحاديث صحيحة نبه على كثير منها الحافظ ابن حجر في "التلخيص" و"فتح الباري" وغيرهما من
كتبه ؟!
وعلى كل فحديث «البسملة» ضعيفٌ شاذ لا يصلح أن يكون عاضدا
.
لحديث: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه لأن شرط العاضد أن يكون
١٣٦
المقالات والمقدمات
قويا في نفسه حتى يمكن أن يعضد غيره وحديث البسملة» هو أحوج الأحاديث إلى عاضد يعضده ولو سلمنا أنه عضد حديث: «لا وضوء...» إلخ فلا يلزم من مجرد العضد ثبوت التواتر فالعضد أعم ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص.
ثم لوسلَّمنا أنه يلزم من مجرد العضد ثبوت التواتر فيكون الحديث متواترا معنى فلا يصح حمل كلام السيوطي عليه إلا لو عبر بما يشمل حديث «البسملة» كأن يقول مثلا: حديث التسمية في الوضوء ورد من طريق كذا... إلخ، لكنه عبر بما يخرج حديث «البسملة» فإنه في كتاب الطهارة من "الأزهار المتناثرة" عند سرده للأحاديث ما نصه: «حديث : لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» أخرجه الحاكم عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وأبي هريرة، والطبراني عن أبي سبرة، وأحمد عن سهل بن سعد، والبزار عن عائشة، وابن عدي عن علي، وأبو موسى في "معرفة الصحابة عن أم سبرة، وعبد الملك بن حبيب الأندلسي . أنس» . اهـ بحروفه.
وعبارته كما ترى ظاهرة إن لم تكن صريحة في أنه أراد التواتر اللفظي، فلا يصح حمل كلامه على التواتر المعنوي، والله أعلم.
الحديث الشريف وعلومه
۱۳۷
۱۹- حول سماع الحسن البصري من علي عليه السلام (۱) (۱) كنت كتبت مقالاً نقدتُ فيه ما ورد في أذكار الوضوء وكان مما ذكرتُ فيه
أن أهل الحديث لا يثبتون للحسن البصري سماعا من علي عليه السلام ونقلت ذلك عن ابن الجزري فكتب الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف عبد الله بتخصص كلية الشريعة الإسلامية مقالا رجّح فيه سماع الحسن من علي كرم الله وجهه، واستدل بما نقله من كتاب إتحاف الفرقة" ثم طلب مني في ختام كلامه أن أبين له وجهة نظري إذا كان لا يترجّح عندي ما نقله من الكتاب المذكور. وكذا سألني في هذا الموضوع حضرة الأستاذ الشيخ ابن بشير الرابحي
المدير والمدرس بالمدرسة الإحسانية ببلدة القليعة من قطر الجزائر، ولفظ
سؤاله : أصح سماع الحسن من علي عليه السلام أم لم يصح؟ وإذا قلتم بالثاني حسبما نقلتموه عن الحافظ ابن الجزري الشافعي، فما وجه ترجيح الحافظ السيوطي في الفتاوى الحديثية خلاف ما قررتم وتبعه على ذلك غير واحد؟
بينوا لنا وجه الصواب ولكم مزيد الشكر من الملك الوهاب.
ونحن لا يسعنا إلا أن نلبي رغبة الأستاذين الفاضلين خدمة للعلم وإظهارا للحقيقة التي إليها ينتهي بحث الباحث وعندها يقف جواد المناظرة ونوفي سؤالهما حقه من الجواب فنقول :
إنَّ الحسن البصري لا يثبت له سماع من علي عليه السلام وإنما رآه فقط، بهذا قال حفاظ الحديث ونقاده حتى كاد أن يكون مجمعًا عليه بينهم، بل حكى
(۱) مجلة الإسلام السنة الثالثة العدد (٣٦) ٧ رمضان ١٣٥٣.
۱۳۸
المقالات والمقدمات
بعض الحفاظ الإجماع عليه، ولكنه لا يصح لما سيأتي وهذه أسماء من حضرنا
من الحفاظ الذين أنكروا سماع الحسن من علي عليه السلام:
أبو زرعة الرازي، يحيى بن معين البخاري، الترمذي، الذهبي، المزي، ابن ناصر الدين الدمشقي، الدمياطي، أبو الخطاب بن دحية ابن الصلاح، النووي، العلائي، ابن الملقن مُغلطاي البرهان الحلبي، الأبناسي، الهكاري،
أبو حيان العراقي ابن الجزري، ابن حجر العسقلاني، السخاوي. ولا بأس إذا نحن ذكرنا بعض العبارات عن هؤلاء وغيرهم في نفي سماع الحسن من علي عليه السلام بل لعل ذكر ذلك يكون أدعى لقبول النفس
واطمئنانها.
روى همام بن يحيى عن قتادة قال: والله ما حدثنا الحسن عن بدري
مشافهة.
وقال بهز بن أسد: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب هو السختياني قال : ما حدثنا الحسن عن أحد من أهل بدر مشافهة.
وسئل أبو زرعة فقيل له: هل سمع الحسن أحدًا من البدريين؟ فقال: راهم رؤية، رأى عثمان وعليا. قيل هل سمع منهما حديثا؟ قال: لا، رأى عليا بالمدينة وخرج علي إلى الكوفة والبصرة ولم يلقه الحسن بعد ذلك.
وقال علي بن المديني : لمير عليا إلا إن كان بالمدينة وهو غلام. وقال أبو الخطاب بن دحية وأبو عمرو بن الصلاح: لم يسمع الحسن من
علي عليه السلام حرفًا.
وقال النووي: قيل إن الحسن لقي عليا رضي الله عنه ولم يصح.
الحديث الشريف وعلومه
۱۳۹
وقال أبو الحجاج المزي: رأى الحسن عليًّا، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة
-رضي الله عنهم - ولم يصح له سماع من أحد منهم.
وقال ابن الجزري: أهل الحديث لا يثبتون للحسن سماعا من علي مع أنه عاصره بلا شك، وثبت أنه رآه وأنه ولد في خلافة عمر رضي الله عنه، وصح
أنه سمع خطبة عثمان رضي الله عنه.
قلت: والمعاصرة والرؤية لا يلزم منهما اللَّقي والسماع، فهذا الحسن عاصر أبا هريرة وعمار بن ياسر وثوبان رضي الله عنهم، ولم يسمع منهم. ورأى طلحة وعائشة رضي الله عنهما ولم يسمع منهما. وقال الحافظ ابن حجر أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعا والنقول في هذا المعنى كثيرة أفردها الحافظ ابن ناصر الدين بجزء خاص، وكذا الحافظ شمس الدين السخاوي وسنذكر بعضها عند الحاجة إليه في مقالنا هذا إن شاء الله تعالى.
ولم يخالف في هذا من الحفَّاظ الذين وقفنا على كلامهم غير الحافظ ضياء الدين المقدسي صاحب "المختارة" فإنه رجّح سماع الحسن من علي عليه السلام وعبارته: قال الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقيل لم يسمع منه . اهـ ولكنه أرسل كلامه كما ترى دعوى مجردة عن الدليل وقد اختاره الحافظ جلال الدين السيوطي، وبرهن عليه في كتاب "إتحاف الفرقة" بوجوه سنذكرها مع مانبديه عليها من الملاحظات في العدد المقبل إن شاء الله تعالى.
.
١٤٠
المقالات والمقدمات
۲۰ - حول سماع الحسن البصري من علي عليه السلام (۲) (۱) ذكرنا في مقالنا السابق أنَّ الحافظ السيوطي رجح سماع الحسن من علي عليه السلام مستدلاً . بوجوه ) ضمنها كتابه "إتحاف الفرقة" وهي التي اعتمد عليها الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف في مقاله المنشور بالعدد الرابع والثلاثين من "مجلة الإسلام" الغراء.
وقد اعتمدها من قبله جماعة من المتأخرين مثل صفي الدين القشاشي في
كتابه "السمط المجيد" ، وأبي بكر العيدروس في كتابه "الجزء اللطيف"، والجفري في كتابه "كنز" البراهين الكسبية".
غير أن تلك الوجوه ليس شيء منها يثبت سماع الحسن بمقتضى القواعد الحديثية، ولا يغرنك اعتماد الحافظ السيوطي لها فإنه رحمة الله عليه يحصل منه تساهل في بعض الأشياء؛ لأنه كثير التأليف في كثير من العلوم فلم يكن يمكنه
أن يعطي كل مسألة حقها من البحث والنظر اللائقين بها شأن كل مكثر . وما بالعهد من قدم، فقد نقلنا عنه في نقدنا لأذكار الوضوء أنه جعل حديث: «لا وضوء لمنْ لم يَذكر اسم الله عليه» متواترا، وقلنا أن القواعد الحديثية لا تساعد على ما قال، وهو كذلك، لأنَّ جميع ما له من الطرق التسعة كلها ضعيفة ومنها ما هو شديد الضعف على أنَّ المصحح في علمي الحديث والأصول أن تسعة طرق لا تكفي في التواتر. وأغرب من هذا أنه جعل حديث: «الأئمة من قريش» متواترا مع إيراده له
(۱) مجلة الإسلام السنة الثالثة، العدد (٣٧) ١٤ رمضان ١٣٥٣.
الحديث الشريف وعلومه
١٤١
من طرق ثلاثة من الصحابة فقط، وهم: علي وأنس وأبو بردة رضي الله عنهم. وأغرب من هذا وذاك عده حديث شكوى الجمل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المتواتر، مع أنه لم يذكر له إلا طريقا واحدا من حديث أنس.
وله من هذا الشيء كثير يفضي بنا تتبعه إلى الخروج عن المقصود. ولذا كان الحافظ السخاوي أشد إتقانًا منه لعلم الحديث والتاريخ؛ لأنه قصر حياته على هذين العلمين مع ملازمته الحافظ الدنيا على الإطلاق الشهاب ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى.
وهذا يعتبر نقدًا إجماليا لتلك الوجوه، وأما التفصيلي فهو ما أبديه عقب كل جملة من جمل كلامه، وقد كنا نُجِلُّ الحافظ السيوطي عن أن نعرض لكلامه بنقد أو رد لما أودعه الله في قلوبنا من محبته وإعظامه، لكن ألجأنا إظهار الحقيقة فأقدمنا متمثلين بقول الإمام أحمد: « لا محاباة في العلم». قال الحافظ السيوطي في استدلاله ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة
عمر رضي الله عنه، وكانت أمه خيرة مولاة لأم سلمة رضي الله عنها. ونحن نقول: صاحب هذا الكلام هو الحافظ المزي الذي قدمنا ذكره في نفاة سماع الحسن، ومثل كلامه هذا كلام الحافظ ابن الجزري ونقلناه فيما تقدم. وسبقهما إلى ذلك ابن حِبَّان فإنه قال في كتاب "الثقات" ما نصه: الحسن ابن أبي الحسن أبيه يسار مولى زيد بن ثابت الأنصاري وكان من سبي . واسم أمه خيرة مولاة أم سلمة رضي الله عنها. ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه وكان يوم الدار ابن أربع عشرة سنة، واحتلم سنة سبعة وثلاثين، وخرج من المدينة أيام صفين ولم
مَيْسَانَ
١٤٢
المقالات والمقدمات
يلق عليا عليه السلام.
وقد أدرك بعد صفين، رأى عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلّم وما شافه بدريًا قط إلا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعثمان لم
يشهد بدرًا. مات في رجب سنة عشر ومائة وهو ابن سبع وثمانين سنة. اهـ وقريب من هذا قول الحافظ ابن حجر في كتابه "تعريف أهل التقديس": الحسن بن أبي الحسن البصري الإمام المشهور من سادات التابعين، رأى عثمان وسمع خطبته، ورأى عليا ولم يثبت سماعه منه ، كان مكثرًا من الحديث ويرسل كثيرًا عن كل أحد» . اهـ
فوضح من هذا أن نفاة سماع الحسن يقرُّون بأن ولادته كانت في خلافة عمر وبأنه رأى عليا عليه السلام بل هم الذين أوصلوه إلينا وهذا تحقيق منهم بالغ، فإنهم لو لم يذكروا ذلك لكان لمثبت السماع أن يقول: لم يقفوا عليه، فلذلك نفوا، لكنهم أثبتوا أن ولادته كانت في خلافة عمر وبأنه رأى عليا
وقالوا مع ذلك لم يسمع منه ، فلم يكن في تحقيق النفي أبلغ مما فعلوه. وحينئذ فما ذكره الحافظ السيوطي أدلُّ على النفي منه على الإثبات. ثم قال الحافظ المذكور وكان علي رضي الله عنه يزور أمهات المؤمنين ومنهم أم سلمة رضي الله عنها، والحسن في بيتها مع أمه، وكان الحسن يحضر الجماعة خلف عثمان رضي الله عنه وعلي عليه السلام إذ ذاك بالمدينة.
ونحن نقول: لا نعلم أحدًا ذكر هذا في ترجمة الحسن، والحافظ السيوطي أبداه على أنه استنباط منه كما يعلم بالوقوف على كلامه، واستنبطه من شيئين: 1 - أن عليا كان يزور أمهات المؤمنين والحسن في بيت أم سلمة
وهي
الحديث الشريف وعلومه
إحداهن.
١٤٣
٢ - أن الصبي يؤمر بالصلاة لسبع سنين، فمن المعلوم أن الحسن لما بلغ سبع سنين أمر بالصلاة فكان يحضر الجماعة... إلخ.
ونحن نفيد أن هذا الاستنباط غير صحيح، والحسن إنما كان في بيت أم سلمة وهو رضيع، وذكر النووي وابن خلكان والحافظ ابن حجرٍ أ أنه نشأ بوادي القرى وهو موضع يبعد من المدينة بثمانية برد، وموقعه بينها وبين الشام، فكيف يمكن للحسن أن يصلي الجماعة خلف عثمان؟!
هذا مع أنه لم ينقل عن الحسن أنه سمع من عثمان أكثر من خطبة، وما نقل عنه أنه سمع من أم سلمة، وغير معقول أن يكون في بيتها ويسمع ممن يزورها ثم لا يسمع منها وهي صاحبة البيت، فهذا يدلك على بطلان ذلك الاستنباط. ثم قال الحافظ السيوطي: ورد عن الحسن ما يدل على سماعه. ثم ذكر ما
رواه أبو نعيم عن يونس بن عبيد :قال قلت للحسن يا أبا سعيد إنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. ولم تدركه؟ قال: يابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك.. إلى أن قال: كل شيء سمعتني
أقول: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فهو عن علي عليه السلام. ونحن نفيد أن هذا الكلام لا يصح عن الحسن، ذلك لأنَّ أبا نعيم رواه من طريق أبي حنيفة الواسطي، عن محمد بن موسى الحرشي؛ وهما ضعيفان، عن ثمامة بن عبيدة؛ قال علي بن المديني: إنه كذَّاب. عن عطية بن محارب؛ واه غير معروف. فالإسناد كما ترى مسلسل بالضعفاء والمتروكين ولذا لم يقل بمقتضاه
الحافظ المزي مع أنه أسنده في ترجمة الحسن من كتابه "تهذب الكمال".
١٤٤
المقالات والمقدمات
ومما يدل على بطلان هذا الكلام عن الحسن ما اشتهر عند المحدثين قاطبة وصرح به الحسن نفسه من أنه كان يرسل عن كل أحد.
قال ابن عون: قلت للحسن: عمن تحدّث هذه الأحاديث؟ قال: عنك وعن ذا وعن ذا.
ولهذا نص المحدّثون على أنَّ مرسلات الحسن من أضعف المراسيل. قال الإمام أحمد مرسلات سعيد بن المسيب أصح المراسيل، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح فإنّهما كانا يأخذان عن كل أحد.
وقال الحافظ العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح.
فلو كان ذلك الكلام صحيحًا عن الحسن لكانت مراسيله صحيحة ولما استجاز المحدثون أن يقولوا إنها أضعف المراسيل؛ لأنَّ العلة التي لأجلها رُدَّ المرسل وهي الجهالة بالساقط من الإسناد مفقودة في مرسل الحسن على فرض صحة ذلك الكلام عنه، وقد عرَّفناك أنه لا يصح لأن إسناده ظلمات بعضها
فوق بعض.
ثم ذكر الحافظ السيوطي أحاديث وقعت من رواية الحسن عن علي عليه السلام، وهي:
۱ - حديث: «رفع القلم عن ثلاثة ... إلخ.
۲ - حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم». - حديث: «إذا كان في الرهن فضل .... إلخ.
٤ - حديث: «يا علي قد جعلنا إليك هذه... الحديث.
الحديث الشريف وعلومه
١٤٥
ه - حديث: من قال كل يوم ثلاث مرات: صلوات الله على آدم...
الحديث».
٦ - «الخلية والبرية... إلخ»، وهو وما بعده موقوف.
ليس في مس الذكر الوضوء».
۸- «طوبى لكل عبد نومة».
۹ - كفنتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في قميص أبيض.... إلخ. ونحن نستدرك عليه حديثًا آخر من رواية الحسن عن علي عليه السلام في أن أولاد الزنا يعتقون ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة الحسن بن عمارة من
" تهذيب التهذيب".
وسنتكلم على هذه الأحاديث في العدد المقبل إن شاء الله تعالى.
١٤٦
المقالات والمقدمات
۲۱- حول سماع الحسن البصري من علي عليه السلام (۳) (۱) ثم أراد الحافظ السيوطي أن يقوِّي استدلاله بتلك الأحاديث فقال في
الحديث الأول منها: «أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه». ونحن نقول لا شيء من تلك الأحاديث يثبت ما قال، وذلك أنها معنعنة لم يصرح فيها بالتحديث، ثم هي معلة بالانقطاع بين الحسن وعلي عليه السلام، وهذا النوع من الانقطاع يسميه المحدثون: الإرسال الخفي، وإليك ما قاله المحدثون في بعض تلك الأحاديث
قال الترمذي عقب روايته لحديث رفع القلم عن ثلاثة ما نصه: «حديث علي حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن علي ولا نعرف للحسن سماعًا من علي بن أبي طالب» . اهـ
فالترمذي لم يقتصر على تحسين الحديث كما أفهمه نقل الحافظ السيوطي عنه بل استغربه من طريق الحسن عن علي عليه السلام ثم أ أعله
الحسن.
بعدم سماع
ولعل أحدا يستشكل تحسين الترمذي للحديث مع اعترافه بانقطاعه، والحسن كالصحيح في أنه لابد من اتصال ،سنده، ولكنه لا إشكال في ذلك؛ لأن الترمذي إنما حسنه باعتبار طرقه ألا ترى أنه أضاف إلى قوله: «حسن غریب» قوله: «وقد روي من غير وجه عن علي» وهو كما قال؛ فإنَّ للحديث طرقًا ذكر بعضها هو، وخرجها أبو داود وغيره، وهذه عادة الترمذي في
(۱) مجلة الإسلام السنة الثالثة، العدد (۳۸) ۲۱ رمضان ۱۳۵۳.
الحديث الشريف وعلومه
١٤٧
"جامعه " يصحح ويحسن أحاديث ضعيفة باعتبار ما لها من الطرق، ويشير إلى ذلك بقوله: وقد روي من غير وجه وقال الحافظ الذهبي في "تلخيص المستدرك" عقب رواية الحاكم للحديث المتقدم ما لفظه: «صحيح فيه إرسال» . اهـ
أتدري ماذا يعني بالإرسال؟ يريد به عدم سماع الحسن من علي عليه السلام وقدمنا أنَّ هذا يسمَّى إرسالا خفيًّا، وضابطه: أن يروي الراوي بصيغة محتملة للسماع كـ «عن عمن عاصره ولم يسمع منه، كحال الحسن مع علي عليه السلام، ولما روى الدارقطني حديث الخلية والبرية... إلخ قال عنه محشيه المحدث أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ما نصه: «الحديث منقطع؛ الحسن لم يسمع من علي رضي الله عنه» . اهـ
فهي غير
:
ومثل هذا يقال في بقية تلك الأحاديث لأن مخرجها واحد وصيغة أدائها واحدة، فلا نطيل بالنقول في هذا المعنى، ولا يقولن أحد: إنَّ المقرر في علم الحديث أن عنعنة المعاصر محمولة على السماع فتكون تلك الأحاديث التي عنعنها الحسن عن علي عليه السلام متصلة مسموعة؛ لأنا نقول: محل حمل العنعنة على السماع إذا لم يكن صاحبها مدلّسًا، أما إذا كان مدلّسًا . محمولة على السماع كما قال الحافظ وغيره، والحسن البصري كان مدلّسا فكيف تحمل عنعنته على السماع ؟! ولعل القارئ يستغرب كون الحسن مدلّسا مع ما هو معلوم من إمامته وجلالته وثقته، لكن لا غرابة في ذلك فقد وصفه بالتدليس النسائي وابن حبان والذهبي وغيرهم من أئمة هذا الشأن، وذكره الحافظ في الطبقة الثانية
١٤٨
المقالات والمقدمات
من المدلسين في كتابه "تعريف أهل التقديس".
وهذه عبارة الذهبي؛ قال في ترجمة الحسن بن أبي الحسن المؤذن البغدادي من كتابه "الميزان" بعد أن نقل عن ابن عدي أنه منكر الحديث ما نصه: «أما سميه الإمام البصري فثقة لكنه يدلس عن أبي هريرة وغير واحد فإذا قال: «حدثنا» فهو ثقة بلا نزاع». اهـ
ثم قال الحافظ السيوطي وقع في "مسند أبي يعلى" قال: ثنا جويرية بن أشرس: أخبرنا عقبة بن أبي الصَّهباء قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عليا يقول... وذكر الحديث.
ونحن قبل أن نخوض في الكلام على هذا الحديث ننبه على خطأ وقع في إسناده، وذلك أنه وقع في كلام الحافظ السيوطي جويرية بن أشرس وتبعه على ذلك كلُّ من نقل عنه، مع أنه ليس في الرواة من اسمه جويرية بن أشرس والصواب في اسمه: حوثرة بن أشرس، قال ابن حِبَّان في كتاب "الثقات" ما نصه: «حوثرة بن أشرس العدوي أبو عامر من أهل البصرة يرروي عن .
حماد
ابن سلمة والبصريين حدثنا عنه الحسن بن سفيان وأبو يعلى مات سنة إحدى وثمانين ومائتين . اهـ
وليس له رواية في الكتب الستة كشيخه عُقبة.
ونرجع إلى المقصود فنقول: متن الحديث الذي روي بهذا الإسناد: «مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوّله خيرٌ أم آخره». وهذا الحديث له طرق عن أنس،
وعمار ،و عمران وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو.
وهذه الطرق ذكرها الترمذي في "جامعه " ، والحافظ نور الدين الهيثمي في
الحديث الشريف وعلومه
١٤٩
"مجمع الزوائد"، والحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة"، أما طريق علي عليه السلام فلم يذكرها أحد من هؤلاء ولا من غيرهم ممن تكلم على هذا الحديث كابن عبدالبر والنووي، مع عزّو بعضهم الحديث لـ "مسند أبي يعلى" من طريق أنس فقط، وأول ما رأينا ذلك الطريق نعني: طريق علي عليه السلام في كتب . الحافظ السيوطي ، ثم لو كان نقله من "المسند" مباشرة لركنا إلى قوله وأرحنا أنفسنا من تعب البحث عنه لكنه صرّح بأنه نقله بواسطة غيره لأنه قال في كتابه "زاد المسير" ما لفظه: «قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" وقع في "مسند أبي يعلى " قال : ثنا ... إلخ ما تقدم وتبعناه على ذلك في تعاليقنا على كتابه "تأييد الحقيقة العلية".
ثم رجعنا إلى مظان الحديث من تهذيب التهذيب" فلم نجده فيها فاتهمنا ذاكرتنا وراجعنا تلك المظان ثانيًا وثالثًا فلم نجده، ثم رجونا أن نجده في
" معجم أبي يعلى" فراجعنا المعجم كله فما وجدناه ولا وجدنا حديثا آخر بذلك الإسناد فعجبنا.
ثم اشتد عجبنا لما وجدنا كلام الحافظ ابن حجر على الحديث يخالف ما نقله الحافظ السيوطي عنه وذلك أنه قال في "فتح الباري" ما نصه: «هذا - يعني حديث ( مثل أمتي... إلخ - حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة وأغرب النووي فعزاه في فتاويه إلى "مسند أبي يعلى" من حديث أنس بن مالك بإسناد ضعيف مع أنه عند الترمذي بإسناد أقوى منه في حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار» . اهـ
فكيف يقتصر على تحسين الحديث ويقول أن له طرقًا قد يرتقي بها إلى
۱۵۰
المقالات والمقدمات
الصحة مع وجود طريق علي في كتابه "تهذيب التهذيب" - على نقل الحافظ السيوطي - وهو بانفراده على شرط الصحيح، وعادة المحدثين في تخريج الحديث أن يقتصروا من طرقه على الأمثل والأقوى، ألا ترى أن الحافظ اعترض على النووي حيث اقتصر في تخريج الحديث المذكور على الطريق الضعيف في "مسند أبي يعلى" مع وجود طريق أقوى منه في "سنن الترمذي"؟!
ثم كيف يكون ذلك الطريق في "تهذيب التهذيب" ولم يعترض به الحافظ على الذين أنكروا سماع الحسن من علي عليه السلام؟ بل نقل كلامهم وسلّمه مع أنه لما نقل عنهم إنكار سماع الحسن من أبي هريرة تعقبهم بأنه ورد عن الحسن بإسناد صحيح تصريحه بالسماع من أبي هريرة، انظر ("تهذب التهذيب" ج ۲ ص ٢٦٦ إلى ص ٢٧٠).
رضي
الله
هذا مع اعترافنا بثقة الحافظ السيوطي وجلالته وإمامته، لكنه عنه يتساهل كما قلنا مستندين إلى ما شاهدناه من ذلك في كتبه وذكرنا أنموذجا
منه فيهما تقدم.
وإليك أنموذجا آخر، ذكر في تفسير "الدر المنثور" حديث: «كلُّ أمرٍ ذي
بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم أبتر». وقال: «سنده حسن». والواقع أن سنده واه بمرَّة وذكر في كتابه "الباهر" الحديث الذي فيه شهادة الجمل لصاحبه بالبراءة من سرقته وعزاه إلى الحاكم ونقل عنه أنه قال: رواية عن آخرهم والحاكم لم يقتصر على هذا بل استثنى منهم راويا وقال:
«لا أعرفه بجرح ولا عدالة» وبه أعل الحديث الذهبي في "تلخيصه".
الحديث الشريف وعلومه
ثم دعنا من هذا كله وهَبْ الحديث موجودًا في "تهذيب التهذيب" فليس فيه ما يثبت سماع الحسن من علي عليه السلام؛ لأن لفظ سمعت عليا ليس من مقول الحسن وإنما هو من تصرف الرواة بعده، وذلك أن أصل الحديث معنعن فظنَّ بعض الرواة أنَّ «عن مثل «سمعت» فأبدلها بها، ومثل هذا التصرف موجود في الصحيحين والسنن وغيرها وإليك مثلا من ذلك تطمئن إليه
نفسك
قال أبو حاتم حدَّثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا ربيعة بن كلثوم قال: سمعت الحسن يقول: «حدثنا أبو هريرة...» وذكر الحديث، ثم قال أبو حاتم: لم يعمل بعمل ربيعة شيئًا، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا». فقال له ابنه إن سالما الخياط روى عن الحسن قال: سمعت أبا هريرة قال هذا مما يبين ضعف سالم . اهـ فأنت ترى أبا حاتم يقول عن ربيعة: لم يعمل شيئًا» حيث تصرف بإبدال
الحسن
«عن» بـ«حدثنا» مع أن ربيعة ثقة من رجال مسلم، وقول محمد بن الصريفيني: «هذا نص صريح في سماع الحسن من علي ورجاله ثقات... إلخ» ذهول منه عما ذكرناه، وثقة الراوي إنها تدفع عنه الكذب أما نحو الخطأ في
الفهم والغلط في التصرف فلا يخلو منه أوثق ثقة ولا أحفظ حافظ.
١٥٢
المقالات والمقدمات
۲۲- حول سماع الحسن البصري من علي عليه السلام ( ٤ ) (١) كنتُ كتبت ثلاث مقالاتٍ متتابعات فندت فيها رأي من رجح سماع الحسن البصري من علي عليه السلام ونقضت ما أتى به المرجح من الدلائل نقضا يتمشى مع قواعد الصنعة الحديثية، وكان غرضي أن أواصل البحث في الموضوع إلى النهاية لكن عاق دون مواصلته عوائق فانقطعت عنه بحكم
الضرورة.
ثم سنحت لي فرصة فرأيت أن أغتنمها وأعود إلى إتمام البحث فأقول: قال الغزالي في بيان ما بدل من ألفاظ العلوم من كتاب العلم من "الإحياء" ما نصه: (وأخرج علي رضي الله عنه الله عنه القُصَّاص . القصاص من مسجد جامع البصرة، فلما سمع كلام الحسن البصري لم يخرجه إذ كان يتكلم في علم الآخرة
والتذكير بالموت والتنبيه على عيوب النفس... إلخ كلامه. وأصله لأبي طالب المكي في "قوت القلوب" وهو كما يرى القارئ صريح
في ثبوت اجتماع الحسن بعلي عليه السلام. وقد اغتر به السيد أبو بكر العيدروس فاستدل به لذلك في كتابه "الجزء اللطيف"، وتبعه تلميذه شيخ بن محمد الجفري في كتابه "كنز البراهين الكسبية" ولا يخفى أن صحة الاستدلال به متوقفة على صحته في نفسه وهو
غير صحيح.
أما أولاً : فلأن أبا طالب المكي والغزالي ذكراه معلقا بدون إسناد، والتعليق
(۱) مجلة الإسلام السنة الثالثة العدد (۳۹) ۲۸ رمضان ۱۳۵۳
الحديث الشريف وعلومه
١٥٣
غير مقبول عند المحدثين، وإنما قبلوه من البخاري في "صحيحه" بتفصيل
مذكور في كتب المصطلح، على أن بعضهم كابن حزم جعل البخاري كغيره في
عدم قبول
معلقاته، ورد ذلك
بسبب
علقه خبر المعازف الذي البخاري في
كتاب الأشربة عن شيخه هشام بن عمار والكلام على هذا مبسوط في "فتح
الباري" و"فتح المغيث". وأما ثانيًا: فلأنَّ إجماع الحفَّاظ منعقد على أنَّ الحسن لمير عليا عليه السلام بعد خروجه إلى البصرة والكوفة حينها أفضى أمر الخلافة إليه، لم يتنازع في هذا منهم اثنان، حتى أن الحافظ السيوطي نفسه معترف بهذا، فإنه جمع بين نفي الحفاظ لاجتماع الحسن بعلي عليه السلام وبين إثباته الذي تبع فيه الحافظ المقدسي بحمل نفيهم على ما بعد خروج علي عليه السلام من المدينة إلى الكوفة
والبصرة.
ومما هو جدير بالذكر في هذا الموطن حديثان وقع في سندهما تصريح الحسن بالسماع من علي عليه السلام:
الميداني
۱- قال الديلمي في مسند الفردوس : أنبأنا والدي: أنا أبو الحسن الحافظ قال: قرأت في أمالي أبي عبد الله الحسيني بن محمد بن هارون
الضبي: حدثنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد النيسابوري: ثنا أبو زكريا يحيى بن محمود بن عبدالله بن أسد.
(ح) وقال ابن مَرْدُويَه : ثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن النيسابوري. قالا، واللفظ لابن أسد: ثنا علي بن الحسن الأفطس: ثنا عيسى بن موسى: نا عمر بن صبح نا كثير بن زياد، عن الحسن قال : سمعت رجالا من الأنصار
١٥٤
المقالات والمقدمات
والمهاجرين منهم علي بن أبي طالب عليه السلام يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من طَلبَ العلم الله لم يُصِبْ منه بابا إلا ازداد في نفسه ذلا، وفي الناس تواضعًا، والله خوفًا، وفي الدين اجتهادًا، فذلك الذي ينتفع بالعلم فيل تعلمه .. . ومن طلب العلم للدنيا والمنزلة عندَ النَّاسِ والحظوة عند السلطان لم يُصِبْ منه بابا إلا ازداد في نفسه عظمةً، وعلى النَّاس استطالة، وبالله اغترارا، وفي الدين جفاء، فذلك لا ينتفع بالعلم، فليمسك وليكفَّ عن الحجة على نفسه والندامة والخزي يوم القيامة».
فهذا الحديث - لو صح - صريح في سماع الحسن من علي عليه السلام. لكنه موضوع وآفته عمر بن صبح فإنه وضاع. قال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على وجه التعجب. وقال إسحاق بن راهويه: أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم في الدنيا نظير
في البدعة والكذب: جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان، وعمر بن صبح. قلت: وهو الذي وضع حديث: «مهورُ الحور قبضات التمر وفلقُ الخبز».
ومن هذا الحديث أخذ العوام بالمغرب قولهم: فتات الخبز صداق الجنة. ۲- قال الحافظ أبو بكر بن مسدي في مسلسلاته": «صافحت أبا عبدالله محمد بن عبدالله النفراوي بها قال: صافحت أبا الحسن علي بن سيف الحضرمي بالإسكندرية.
(ح) وقال: صافحت أيضًا أبا القاسم عبد الرحمن بن أبي الفضل المالكي بالإسكندرية، قال: صافحت شبل بن أحمد بن شبل قدم علينا، قال كل واحد منهما صافحت أبا محمد عبد الله بن مقبل بن محمد العجيبي قال: صافحت
الحديث الشريف وعلومه
١٥٥
محمد بن الفرج بن الحجاج السكسكي قال صافحت أبا مروان عبد الملك بن
أبي ميسرة قال: صافحت أحمد بن محمد النقري بها.
(ح) وقال الكازروني في "مسلسلاته : صافحت الشيخ السعيد شمس الدين أبا الخير محمد بن علي بن محمد الأصفهاني الموازيني قال: صافحت مجد الدين علي بن محمد بن عبد الصمد الدوني قال: صافحت الشيخ الأجل رضي الدين أبا الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني قال: صافحت أبا إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الله بن محمد بمدينة عدن قال: صافحت والدي بعدن قال : صافحت علي بن أبي بكر بن حمير بن تبع بالمسجد السعيدي في عدن قال : صافحت سالم بن عبد الله بن محمد بن سالم الإمام قال: صافحت أحمد بن عبد الله الثغري. قال كل واحد من النقري والثغري وسياق الحديث للأول- صافحت أحمد الأسود قال: صافحت ممشاد الدينوري من رجال الرسالة القشيرية قال: صافحت علي بن رزين الخراساني قال صافحت عيسى القصار قال: صافحت الحسن البصري قال: صافحت علي بن أبي طالب عليه السلام قال: صافحت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صافحت كفّي هذه سرادقات عرش ربي عزَّ وجل».
هذا حديث غريب وفي كلا إسناديه مجاهيل ولذا لم يستدل به الحافظ السيوطي في "إتحاف الفرقة" . مع أنه أسنده في "الجامع الكبير" حيث قال: أخبرتني نشوان بنت الجمال عبد الله الكتاني إجازة قالت: أخبرني أحمد بن أبي بكر بن عبد الحميد بن قدامة المقدسي، عن عثمان بن محمد التوزري، عن
١٥٦
المقالات والمقدمات
الحافظ ابن مسدي به. ونقله البوتيجي في ثبت الحافظ ابن الجزري ثم استدل به أعني البوتيجي- على سماع الحسن وهو غلط منه رحمة الله عليه لأن سنده غير
صحيح.
هذا ولا يفوتنا أن نبدي ملاحظات على كلمة الأستاذ عبد الوهاب عبداللطيف المنشورة بالعدد الرابع والثلاثين من هذه المجلة، وتلك الملاحظات تنحصر فيما يأتي: ۱ - ذكر الأستاذ أن الحافظ المزي أثبت سماع الحسن من علي عليه السلام ولست أدري من أين أتى بهذا فإنه لم يَعدُ في كلمته كتاب "إتحاف الفرقة" وصاحبه لم يقل ذلك، وكيف يستجيز أن يقوله وعبارة المزي في "تهذيب الكمال" صريحة في نفي السماع صراحة قاطعة للاحتمال؟! وقد نقلتها في أول مقالة من المقالات الثلاثة التي كتبتها في هذا الموضوع. ٢ - استدل الأستاذ على ما ادعاه على المزي من إثبات السماع بقوله: حضر الحسن يوم الدار وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو استدلال غريب لأن حضور الدار لا يستلزم اللقي والسماع لا سيما ويوم الدار كان يوم فتنة وهرج لم يكن يوم أخذ وسماع.
وأنى يمكن للحسن يوم الدار أن يرى عليا عليه السلام وقد جعل الخوارج على بابه وباب طلحة والزبير حرسًا منعوا الناس من الدخول إليهم ومنعوهم من الخروج إلى نجدة عثمان رضي الله عنه حتى قتل؟! هكذا أسنده سيف بن عمرو في كتاب "الردة والفتوح".
الحديث الشريف وعلومه
101
- أتى الأستاذ في آخر كلمته بما يفهم منه أن الحافظ العراقي مثبت لسماع الحسن من علي عليه السلام، وهو غلط من الأستاذ يدرك بعرض كلامه على كتاب "إتحاف الفرقة".
- ذكر الأستاذ أن الحافظ ابن حجرٍ رجّح في "أطراف المختارة" سماع الحسن من علي عليه السلام، وهو غلط من الأستاذ أوقعه فيه أنه رأى في كتاب "إتحاف الفرقة " ما نصه: «وقد رجحه أيضًا الضياء المقدسي في "المختارة" فإنه قال: قال الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل لم يسمع منه. وتبعه على هذه العبارة الحافظ ابن حجر في "أطراف المختارة" ولكنه بعد رجح سماعه وصححه». اهـ
فنقل الأستاذ ما روى من غير تأمل فيه مع أن لفظ: «وتبعه» تحريف والصواب: «وتعقبه»، لكن الأستاذ معذور لأنه لم يقف على "إتحاف الفرقة"
ثم .
إلا بعدما طبعه حسام ومنير، وفي كلا الطبعتين تحريف. نعم لو تأمل قليلا في قوله : ولكنه بعد رجح» إلخ، لأدرك التحريف. غلط الأستاذ غلطا آخر وذلك أنه ظن أن «قال» الثانية من قول الحافظ السيوطي، فإنه قال : قال الحسن بن أبي الحسن البصري... إلخ. مكررة لا فائدة لها فأسقطها من كلامه وما درى أنها موجودة في أصل المؤلف وأن الإتيان بها مقصود له وذلك لأن المحدثين يستعملون كثيرًا «قال» بمعنى
«روی» فيقولون مثلا: قال سعيد بن المسيب عن عمر، أي: روى عنه. وعلى هذا لا تكرار في كلام الحافظ السيوطي بل «قال» الأولى فيه بمعناها الأصلي، و«قال» الثانية بمعنى روى» وهي وما بعدها مقول لـ«قال» الأولى.
المقالات والمقدمات
أما فيما يرجع إلى إثبات الحافظ ابن حجر لسماع الحسن من علي عليه السلام فالعهدة فيه على الحافظ السيوطي لا لأنه الذي اختص بنقل ذلك عنه،
مع
أن الموجود في كتبه وفتاويه والذي نقله عنه تلميذه وخريجه السخاوي هو نفي السماع لا غير.
الحافظ
ثم ماذا يضر إثباته في جانب ما أبدينا من الدلائل على النفي ومن الدحض
لشبه الإثبات؟!
الحديث الشريف وعلومه
٢٣ - أحاديث شاذة ومنكرة (1)
۱۵۹
إذا روى الراوي حديثًا خالف فيه من هو أوثق منه أو أكثر عددًا؛ فإن كان ثقة أو صدوقا كانت روايته شاذَةً، وإن كان ضعيفا كانت روايته منكرة، وكلاهما من قبيل المردود.
هذا هو المقرر في علوم الحديث، ولكن المحدثين يخالفون ذلك عند الاستعمال، حيث يطلقون المنكر على الموضوع وكذلك الشاذ، وسيمر بالقارئ
الكريم أمثلة من هذا الإطلاق في الأحاديث التي نوردها عنوانا على سائرها: ۱ - روى الحاكم من طريق أبي الضحى، عن ابن عباس أنه قال: الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتِ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: ١٢]، قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم ونوح كنوحٍ، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى
كعيسى.
ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" عن الحاكم بهذا الإسناد، ثم قال: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح لكنه شاةٌ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه
متابعا».
وقال ابن كثير في "تاريخه " : هو محمول على أن ابن عباس رضي الله عنه أخذه عن الإسرائيليات». ومال العلامة الشيخ عبد الحي اللكنوي إلى إثبات معنى هذا الأثر وأنه ليس بشاء، وألف في ذلك رسالة سماها : "زجر الناس عن إنكار أثر ابن عباس".
(۱) مجلة دعوة الحق.
17.
المقالات والمقدمات
لكن مثل هذا لا يقبل فيه إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم،
ولا حديث ثابت في هذا الباب.
وذكر ابن العربي الحاتمي حديثا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله خلق مائة الف آدم». وهذا الحديث لا أصل له.
٢- قال ابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر": حدثني إسحاق بن حاتم
أن
المدائني: حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دَهْرَسَ قال: بلغني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت فقال: «ما لكم لا تتكلَّمون؟» فقالوا: نتفكَّر في خلق الله. قال: «فكذلك فافعلوا، تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه، فإنَّ بهذا المغرب أرضًا بيضاءَ نورها بياضُها - أو قال: بياضُها نورها مسيرة الشمس أربعين يومًا ، بها خلق من خلق الله تعالى لم يعصُوا الله طَرْفةَ عينٍ قط». قالوا: فأين الشيطان عنهم؟ قال: «مايدرون خُلق الشيطان أم لم يُخلق». قالوا أمن ولد آدم؟ قال: «لا يدرون خُلق آدم أم لم يخلق». قال ابن كثير: «هذا حديث مرسل، وهو منكر جدا».
2
وعثمان بن أبي دهرس بوزن جعفر - ذكره ابن أبي حاتم فقال: «روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص، وعنه سفيان بن عيينة وابن المبارك ويحيى ابن سليم الطائفي، سمعت أبي يقول ذلك». (الجرح والتعديل ج٦ ص ١٤٩) قلت: روى عنه أيضًا يحيى بن سليمان. وعثمان هذا مجهول الحال، ولم يذكره البخاري في "التاريخ الكبير" ، ولا الذهبي في "المغني"، ولا "الميزن"،
ولا الحافظ في "اللسان"، مع أنه على شرطهما فيستدرك عليهما.
روى أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم، من طريق علي بن
الحديث الشريف وعلومه
١٦١
زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال فرعون ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَ يلَ [يونس: ۹۰] قال: قال لي :جبريلُ : لو رأيتني وقد أخذتُ من حال البحر -طينه الأسود - فدسَسْتُه في فيه مخافة أن تناله الرّحمةُ». حسنه الترمذي مع أن في سنده
علي بن زيد.
لكن له طريقا آخر عن ابن عباس صححه الترمذي أيضًا، وله طرق عن أبي هريرة وابن عمر. وقد ورد موقوفا على أبي هريرة وابن عباس. و متن الحديث منكر لوجهين:
أحدهما: أن جبريل يعلم وكل مؤمن يعلم أن دس الطين في فم فرعون لا يمنع عنه رحمة الله لو أراد أن يرحمه.
والآخر: أن جبريل نزل على أم موسى بقول الله تعالى لها : لو أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التابوتِ فَاقْذِ فِيهِ فِي الْيَمَ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ بِالسَاحِلِ يَأْخُذَهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُولَهُ ﴾ [طه: ٣٩] وهذا خبر بأن فرعون عدو الله ولرسوله، وخبر الله لا يدخله نسخ، وعدو الله لا نصيب له في الرحمة، فكيف يقول جبريل : دسست الطين في فمه مخافة أن تناله الرحمة ؟!» هذا من الباطل الذي لا يحصل من جبريل عليه السلام، فتبين أنه موقوف وأنه أخذ عن الإسرائليات.
وهذه الآية ترد قول من زعم أن فرعون قبل إيمانه، وتثبت أنه مات كافرًا
عدوا الله ولرسوله.
واستدل ابن العربي لقبول إيمانه بأنه آمن في حالة الاضطرار؛ حَتَّى إذا
١٦٢
المقالات والمقدمات
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ [يونس: ۹۰] والله تعالى يقول: ﴿ أَمَن يُجِيبُ الْمُضْطَرَ إِذَا دَعَاهُ ﴾ [النمل: ٦٢] فإيمان فرعون مقبول بمقتضى وعد الله الصادق ورحمته الواسعة.
لكن الإيمان غير الدعاء فلو أن فرعون دعا في حالة الغرق لأنجاه الله، لكنه آمن، والإيمان لا يقبل في تلك الحالة، قال الله تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْتَنَ
[النساء: ١٨].
وفي "سنن الترمذي عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ اللهَ يقبل توبة العبد مالم يغرغر». حسنه الترمذي.
ولم ينفرد ابن العربي الحاتمي بدعوى إيمان فرعون كما يظن كثير من الناس، بل سبقه إليها بعض الصوفية كما نقله الفقيه عبد الصمد الحنفي في تفسيره، وهو من أهل المائة الخامسة.
٤- قال أبو سعيد الكنجرودي في "أماليه " : أخبرنا الحافظ أبو الفضل نصر بن محمد بن أحمد العطار: أنا أحمد بن الحسين بن الأزهر بمصر: حدثنا يوسف بن يزيد القراطيسي نا الوليد بن موسى: نا منبه بن عثمان، عن عروة بن : رويم، عن الحسن، عن أنس، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ مؤمني الجنّ لهم ثواب وعليهم عقاب. فسألناه عن ثوابهم، قال: «على الأعراف وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم». قلنا وما الأعراف؟ قال: «حائط الجنَّة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والنمارُ».
قال الذهبي: هذا حديث منكر جدًّا.
الحديث الشريف وعلومه
١٦٣
قلت في سنده الوليد بن موسى الدمشقي، قال الدارقطني : منكر
الحديث. ووهاه ابن حبان والعقيلي.
زاد العقيلي: أحاديثه بواطيل لا أصول لها، وليس ممن يقيم الحديث. وقال الحاكم: روى عن عبد الرحمن بن ثابت عن ثوبان، أحاديثه
موضوعة.
ولا يقبل قول أبي حاتم فيه صدوق الحديث، لين، حديثه صحيح.
وأبو
حاتم لم يطلع من رواياته المنكرة على ما اطلع عليه من جرحه. ومن أحاديثه الدالة على تجريحه ما رواه عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحسن، عن أنس مرفوعا: «آجال البهائم كلها من القمل والبراغيث والجرادِ والخيل والبغال والدواب كلّها والطير وغير ذلك، آجالها في التسبيح،
فإذا انقضى تسبيحها قبضَ الله أرواحها وليس لملك الموت من ذلك شيء». ذكره ابن الجوزي في الموضوعات"، وأعله بالوليد بن موسى، وقال الحافظ في "اللسان" : هذا حديث منكر جدًا.
ه قال نعيم بن حماد حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن عمارة بن عامر، عن أم الطفيل: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «رأيتُ ربي في أحسن صورة شابا موفّرًا له وَفْرة - رجلاه في خُضر عليه نَعْلان من ذَهَبٍ».
قال ابن حبان في ترجمة عمارة بن عامر من "الثقات " : هذا حديث منكر . وقال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" عن هذا الحديث: هو متن
منكر.
١٦٤
المقالات والمقدمات
وقال الفقيه أبو بكر بن الحداد سمعت النسائي يقول: ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله عزَّ وجلَّ؟!
و مروان ضعفه أبو حاتم، وقال الحافظ في "الإصابة": متروك. ورواه الدارقطني في "الرؤية" بلفظ: «رأيتُ ربي في المنام» الحديث، وبهذا اللفظ رواه الخطيب في تاريخ "بغداد" ومن طريقه أورده ابن الجوزي في
"الموضوعات"، وأعله بنعيم بن حماد، ومروان بن عثمان، وعمارة بن عامر. وتعقبه الحافظ السيوطي بما نقله ابن عراق في "تنزيه الشريعة" وختمه بقوله : وما كان من هذه الروايات غير مقيد بالمنام فينبغي أن يحمل عليه لتتفق الروايات ويزول الإشكال.
قلت: رؤية الله في اليقظة لم تقع لأحد في الدنيا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد الله ليلة المعراج بقلبه ولم يره ببصره، والأحاديث التي يفيد ظاهرها رؤية الله في اليقظة في صورة شاب أمردَ كهذا الحديث؛ موضوعة
قطعا.
وأما رؤيته كذلك في المنام فمنعها الصابوني من الحنفية، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة، وبالغ ابن الصلاح في إنكارها.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم : لم يختلف في جواز رؤية الله تعالى في المنام حتى لو رؤي على صفة لا تليق كرؤيته في صفة رجل، للعلم بأن ذلك المرئي ليس ذاته الكريمة لاستحالة صفة الأجسام عليه.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤيته تعالى في المنام أوهام وخواطر في القلب يتعالى الله سبحانه عنها، وهي دلالة للرائي على أمور مما كان أو سيكون
الحديث الشريف وعلومه
كغيرها من الرؤيات . اهـ
١٦٥
وقال الغزالي في كتاب المضنون به على غير أهله": «الحق أنا نطلق القول بأن الله تعالى يرى في المنام كما نطلق القول بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى، لكنَّ المرئي مثال محسوس من نور وغيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالا للجمال الحقيقي المعنوي الذي لا صورة له ولا لون، ويكون ذلك المثال صادقا حقا وواسطة في التعريف.
فيقول الرائي: رأيت الله في المنام، لا بمعنى رأيت ذاته، كما يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لا بمعنى أني رأيت ذات روحه أو ذات شخصه بل بمعنى أنه رأى مثاله.
قال: فإن قيل : النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مثل والله تعالى لا مثل له. قلنا: هذا جهل بالفرق بين المثل ،والمثال فليس المثال عبارة عن المثل، إذ المثل: المساوي في جميع الصفات والمثال لا يحتاج فيه إلى المساواة، فإن العقل معنى لا يماثله غيره ممائلة حقيقية ولنا أن نضرب له الشمس مثالا لما بينهما من المناسبة في شيء واحد وهو أن المحسوسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولات بالعقل، فهذا القدر من المناسبة كافٍ في المثال.
ويمثل في النوم السلطان بالشمس والوزير بالقمر، والسلطان لا يماثل الشمس بصورته ولا معناه ولا الوزير يماثل القمر ، إلا أن السلطان له استعلاء على الكل ويعم أمره الجميع، والشمس تناسبه في هذا القدر، والقمر واسطة بين الشمس والأرض في إفاضة النور كما أن الوزير واسطة بين السلطان والرعية في إفاضة نور العدل، فهذا مثال وليس بمثل.
177
وهي
المقالات والمقدمات
وقال الله تعالى : الله اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوةِ فِيهَا
مصْبَاح [النور: ٣٥] الآية، ولا مماثلة بين نوره وبين الزجاجة والمشكاة. وعبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن اللبن في المنام بالإسلام، والحبل بالقرآن، وأي مماثلة بين اللبن ،والإسلام وبين الحبل والقرآن؟ إلا في مناسبة أن الحبل يتمسك به في النجاة، واللبن غذاء الحياة الظاهرة، والإسلام غذاء الحياة الباطنة، فهذه كلها مثال وليست بمثل. فذات الله تعالى وذات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يُريان في المنام وأن مثالاً يعتقده النائم ذات الله تعالى وذات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يجوز أن يرى، وكيف ينكر ذلك مع وجوده في المنامات؟ فإن من لم يره بنفسه فقد
تواتر إليه عن جماعة أنهم رأوا ذلك . اهـ كلام الغزالي، وهو تحقيق نفيس. وعلى هذا فحديث اختصام الملأ الأعلى الذي رواه أحمد والترمذي عن معاذ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي قمتُ من الليل فصليت ما قدر لي فنمتُ في صلاتي فاستثقَلتُ فإذا أنا بري في أحسن صورة فقال: يا محمد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب. قالها ثلاثا، فرأيته وضَعَ بين كتفي حتى وجدتُ برد أنامله بين صدري فتجلَّى لي كلُّ شيء وعرفتُ.. » الحديث. صححه الترمذي، ونقل عن شيحه البخاري أنه صححه
كفه
أيضا.
معناه: أن الله تعالى أراد أن يطلع نبيه على الملأ الأعلى وعلى ما شاء من غيبه بغير واسطة جبريل عليه السلام، فتعرف إليه بهذه الصورة التي كانت آلة أدت ما أوحى الله إليه بواسطتها فهي مثال وليست بمثل.
الحديث الشريف وعلومه
١٦٧
وعالم الرؤيا عالم المثال يرى فيه ما ليس بجسم في صورة الجسم فيرى العلم
في صورة اللبن، والدين في صورة القميص والعهد في صورة الحبل، وهكذا. ومن أوابد ابن تيمية ما نقله تلميذه ابن القيم في "زاد المعاد" حيث قال: وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه في الجنة يذكر في سبب الذؤابة شيئًا بديعا، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنها اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة لما رأى رب العزة تبارك وتعالى فقال: «يا محمد فيما
يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، فوضع يده بين كتفي.... الحديث. قال: فمن تلك الليلة أرخى الذؤابة بين كتفيه... ولم أر هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره.
قلت: شهد ابن القيم بأن هذه الفائدة تفرد بها شيخه.
وقال الحافظ العراقي: لم نجد لها أصلا.
قال ابن حجر في "شرح الشمائل : بل هذا من قبيح رأيهما وضلالهما إذ هو بني على ما ذهبا إليه من إثبات الجهة والجسمية الله تعالى. قال المناوي تعقيباً عليه: أما كونهما من المبتدعة فمسلم، وأما كون هذا
بخصوصه بناء على التجسيم فغير مستقيم. وبين ذلك بما يناقش فيه. والحقيقة في هذه الفائدة أنها من كيس ابن تيمية، ومما يردها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان يرخي الذؤابة لعمامته على عادة العرب في ذلك وهو بمكة، ورؤيا الله تعالى حصلت له في المدينة في أواخر حياته، وكان صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا بعث سرية عمَّم أميرها بيده الشريفة وأرخى له ذؤابة. ٦- روى ابن خزيمة في "صحيحه" والبيهقي في "الأسماء والصفات" من
١٦٨
المقالات والمقدمات
طريق جرير، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تُقبِّحُوا الوجه فإِنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمنِ».
هذا الحديث شاذ، وأول بعضهم لفظ (الصورة» بالصفة، قال: والمعنى أن الله خلق آدم بصفة الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وهي الصفات المسماة بصفات المعاني القائمة بذات الله تعالى وإن كانت صفة آدم حادثة وصفة الله قديمة فلا شبه بينهما إلا في الاسم.
وأعل ابن خزيمة هذا الحديث بثلاث علل:
إحداها: أن الثوري رواه عن عطاء مرسلًا، ولم يذكر ابن عمر.
ثانيتها: أن الأعمش عنعنه، وهو مدلس.
ثالثتها: أن حبيب بن أبي ثابت لم يصرح بالسماع من عطاء، وهو أيضًا
مدلس.
.
وقال البيهقي: «يحتمل أن يكون ذكر الرحمن» من تصرف بعض الرواة بحسب فهمه». وهذا هو الصحيح. وكذلك ما رواه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" من طريق أبي يونس عن أبي هريرة مرفوعا: من قاتل فليتجنَّب الوجة فإنَّ صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن». هو أيضًا حديث شاذ ولم يخل من تصرف الرواة كما يتبين
مما يأتي: ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا الحديث. فالضمير
الحديث الشريف وعلومه
١٦٩
في «صورته» و «طوله» يعود على آدم جزمًا لأنه محط الفائدة ويستفاد منه أمران: الأول: أن الله خلق آدم رجلًا كاملًا سويًا من أول ما نفخ فيه الروح، ولم
ينتقل في النشأة أحوالا ولا تردد في الأرحام أطوارًا كذريته. الثاني: أن آدم عليه السلام لم يكن من فصيلة الحيوان الأعجم ثم ترقى إلى
أن صار قردًا ثم تخطى حلقة مفقودة فصار إنسانًا.
فالحديث يرد نظرية التطور والارتقاء التي ظهر بها دارون.
على أن عالما ألمانيا قال أن القرد إنسان متقهقر وليس الإنسان قردا مرتقيا
عکس ما يقول دارون واتخذ أدلة دارون وبراهينه أدلة وبراهين على صحة
نظريته هو فجعل أدلة دارون حجَّةً عليه لا له.
تشدد ومن
الإمام أحمد هجرانه لأبي ثور على تأويله لهذا الحديث؛ إذ أن
مذهبه إبقاء الحديث على ظاهره في إثبات الصورة الله تعالى وتفويض معناها إليه، مع تنزيهه عن الصورة المعهودة.
لكن غاب عنه أمر ظاهر في الإعراب وهو عود الضمير إلى آدم؛ لأنه
أقرب مذكور ولأنه المقصود من سياق الحديث إذ المراد الإخبار بأن الله خالق آدم على صورته التي أوجده بها.
وفي "صحيح مسلم : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجة فإنَّ الله خلق آدم على صورته». الضمير في صورته» يعود على المقاتل أو المضروب.
يؤيده ما رواه البخاري في "الأدب المفرد" والإمام أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقولن قبَّح الله وجهك ووجه من
۱۷۰
المقالات والمقدمات
أشبه وجهك فإنَّ اللهَ خلق آدم على صورته».
والغرض من الحديثين تكريم وجه المضروب والمشتوم لشبهه بوجه آدم
أبي البشر عليه السلام.
وأما ما رواه الطبراني في "السنة" قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال رجل لأبي: إن رجلًا قال خلق الله آدم على صورته أي: صورة الرجل؟ فقال: كذب، هو قول الجهمية. اهـ
فهذا تذمت شديد! وكيف يجزم بعود الضمير على الله مع ظهور عوده على الرجل؟! بل لو صرّح بعوده على الله كما في بعض الروايات لم يجز الجزم به لاحتمال روايته بالمعنى حسب فهم الرواي.
ولهذا اعترض أبو حيان على ابن مالك في استشهاده بالأحاديث النبوية لبعض القواعد النحوية وقال : إنَّ الحديث دخلته الرواية بالمعنى حيث لا نكاد نجزم باللفظ النبوي إلا في القليل النادر
فمن الخطأ الواضح قول إسحاق بن راهويه: صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن. وقول أ أحمد: هو حديث صحيح. وقول ابن قتيبة: صورة لا
كالصور.
قال ابن حزم في "الفصل": وكذلك القول في الحديث الثابت: «خلق الله آدم على صورته فهذه إضافة ملك، يريد الصورة التي تخيرها الله سبحانه ليكون آدم مصورا عليها وكل فاضل في طبقته فإنه ينسب إلى الله عزّ وجلَّ، كما نقول: بيت الله عن الكعبة، والبيوت كلها بيوت الله، لكن لا يطلق عليها هذا الاسم كما يطلق على المسجد الحرام وكما نقول في جبريل وعيسى: «روح الله»، والأرواح
الحديث الشريف وعلومه
۱۷۱
كلها الله. وكالقول في ناقة صالح: «ناقة الله ، والنُّوق كلُّها الله عزّ وجل، فعلى
هذا قيل: على صورة الرحمن، والصور كلُّها الله تعالى». اهـ
وسبقه ابن خزيمة إلى تأويل إضافة الصورة الله ، على أنها إضافة خلق،
وعاب من حملها على الصفة ووصفه بعدم تحري العلم.
وأما الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" من طريق أبي يونس عن أبي هريرة مرفوعًا من قاتل فليجتنب الوجة فإنَّ صورة وجه الإنسان على صورة وجهِ الرَّحمن».
فهو حديث شاذ لم يأت في الصحيحين، ومنكر المعنى؛ لأنه يُشبه وجه الإنسان بوجه الرحمن وهو تشبية صريح لا يحتمل تأويلا فهو مردود لا محالة. روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فمرت سحابة فنظر إليها فقال: ماتسمُّون هذه؟» قالوا: السَّحاب. قال: «والمُزْنَ؟» قالوا: والمزن. قال: والعَنَان؟» قالوا: والعنان. قال: «هل تدرون بعد ما بينَ السماء والأرض؟ قالوا لا ندري قال: «إِنَّ بُعد ما بينهما إِمَّا واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنةً، ثُمَّ السماء فوقها كذلك». حتى عد سبع سماوات، «ثم من فوق السابعة بخرين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء ثُمَّ فوق ذلك ثمانية أو عال، بين أخْلافِهِم ورُكَبِهم مثلُ ما بين سماء إلى سماء، ثمَّ على ظهورهم العرش، ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثمَّ الله تبارك وتعالى فوق ذلك». قال الترمذي: حديث حسن غريب». وقال الحاكم: «صحيح
۱۷۲
المقالات والمقدمات
على شرط مسلم، وسلمه الذهبي.
وأجهد نفسه ابن القيم في تقويته في شرحه لـ"مختصر سنن أبي داود"
لإفادته فوقية الله على العرش وهو يعتقدها كشيخه.
وهذا الحديث يعرف بحديث الأوعال وهو ليس بصحيح ولا حسن وقد كنت كتبت وأنا بمصر جزءًا في بطلانه ونكارته وأخذه مني بعض كبار العلماء
بالأزهر وبقي عنده حتى مات ولم أتوصل به.
ويمكن تلخيص ذلك الجزء في النقاط الآتية:
1 - أنَّ هذا الحديث تفرد به سماك وهو وإن كان من رجال مسلم فقد ضعفه شعبة والثوري وابنُ المبارك، وقال أحمد: «مضطرب الحديث» وقال النسائي: كان ربَّما لقن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجَّةً لأنه كان يُلَقَّن فيتلقَّن. وهذا مما انفرد به. ٢ - أنَّ سماكًا اضطرب فيه فرواه مرة كما هنا ورواه مرة عن عبد الله بن عميرة عن العباس بإسقاط الأحنف وقال مرة عن عبد الله بن عميرة عن
زوج درة بنت أبي لهب، ورواه مرة مرفوعًا وأخرى موقوفا على العباس. ٣- أن عبد الله بن عَميرة بفتح العين قال الذهبي: فيه جهالة. وقال ابراهيم الحربي: لا أعرفه. وقال مسلم في "الوحدان": تفرد سماك بالرواية عنه،
وذكره ابن منده في "الصحابة" فأخطأ، وبين خطأه أبو نعيم.
٤- قال البخاري: «لا يعلم لعبد الله بن عميرة سماع من الأحنف وعلى هذا فالإسناد منقطع.
-٥
- أن الحديث يفيد أن حملة العرش اليوم ثمانية والقرآن يفيد أنهم ثمانية
الحديث الشريف وعلومه
۱۷۳
يوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَيذٍ مُمنيَةٌ } [الحاقة : ١٧ ] . روى ابن جرير في تفسيره" عن ابن زيد قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلّم: «يحمله اليوم أربعة، ويوم القيامة ثمانية».
وروى أيضا عن ابن اسحاق قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «هم اليوم أربعة - يعني: حملة العرش - وإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية».
٦- مخالفة الحديث للقرآن؛ يقول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَكَةِ رُسُلًا أُولِى أَجْنِحَةِ مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَعَ [فاطر: 1] فأفاد أن الملائكة ذوو أجنحة وكذلك جاء في السنة الصحيحة، وهذا الحديث أفاد أن حملة العرش من ذوات الأظلاف، وهذه نكارة ظاهرة.
ذم الله المشركين الذين وصفوا الملائكة بأنهم إناث، قال الله تعالى: وجعلوا الْمَلَيْكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَدُ الرَّحْمَنِ إِننَّا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتَكْتَبُ شَهَدَتُهُمْ وَيُسْتَلُونَ ﴾ [الزخرف: (۱۹]، وهذا الحديث جعل حملة العرش وهم الملائكة المقربون أو عالاً ذوي أظلاف وقرون، وهي نكارة ظاهرة.
أن الوعول جمع ،وعل، والوعل هو التيس الجبلي، والذكر من المعز، والتيس مذموم عند العرب، قال الشاعر العربي : وشر منيحةٍ تيس مُعار»، وقالوا: أحمق من ناطح الصخرة؛ أي: الوعل.
وفي "صحيح مسلم عن جابر بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كلما نفرْنا غازين في سبيل الله تخلف أحدُكم ينبُّ نَبيبَ التّيس».
وذلك أنه أتي برجل زنى فأمر برجمه وذكر الحديث.
١٧٤
المقالات والمقدمات
نب التيس: بتشديد الباء، صاح عند السفاد.
وفي "سنن ابن ماجه" بإسناد حسن عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ هو المحلل». ولذا قال ابن العربي في "عارضة الأحوزي": «إن خبر الأوعال متلقف
من الإسرائيليات» . اهـ
و ما قاله صحيح، والله تعالى أعلم.
ورواه أحمد وابن شيبة والنسائي والبيهقي، وأخرج البيهقي في "الأسماء والصفات" من طريق جعفر بن عون : أنبأنا الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكلمه في بعض الأمر فقال الرجل لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ما شاء الله وشئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أجعلتني لله عدلا بل شاء الله وحده».
ورواه البخاري في "الأدب المفرد وابن مردويه من طريق سفيان الثوري عن الأجلح الكندي به.
ورواه الطحاوي من طريق شيبان النحوي عن الأجلح.
ورواه ابن ماجه من طريق عيسى بن يونس: حدثنا عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا حلَفَ أحدكم فلا ما شاء الله وشئتَ ولكن ليقُلْ ما شاءَ اللهُ ثُمَّ شئتَ». هذا اللفظ هو
يقُلْ
المحفوظ .
وروى أبو يعلى عن عائشة - فيما يعلم عثمان بن عمر راوي الحديث - أنَّ
الحديث الشريف وعلومه
۱۷۵
يهوديا رأى في المنام نعم القوم أمة محمد لولا أنهم يقولون: ماشاء الله وشاء محمد. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد. قولوا: ما شاء الله وحده».
وروى ابن سعد والنسائي والطبراني من طريق مشعر، عن معبد بن خالد الجدلي عن عبد الله بن يسار، عن قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة قالت: جاء حبر من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون. قال: وكيف ؟ قال : يقول أحدكم: لا والكعبة، فقال النبي : إنه قد قالَ - يعني نفسه - فمنْ حَلَف فليخلِف برب الكعبة»، فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون الله أندادا، قال: وكيف ذاك؟» قال: يقول أحدكم ما شاء الله وشئت. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّه قد قالَ: فمَن قال منكم فليقل: ما شاء الله ثُمَّ شئتَ». هذا لفظ ابن سعد وأشار إلى أن قتيلة ليس لها غير هذا الحديث.
ورواه الطحاوي في مشكل "الآثار وابن منده من طريق المسعودي عن معبد بن يسار، عن قتيلةَ بنت صيفيّ الجهنيّة به - وقتيلة بصيغة التصغير صحابية- قال ابن عبدالبر المحافظ: من المهاجرات الأول». فهذا الحديث
بجميع طرقه ليس فيه إشارة إلى الآية الكريمة ولا جاء في شيء من طرقه أنها نزلت بسببه، والله أعلم.
١٧٦
المقالات والمقدمات
٢٤- أحاديث موضوعة(١)
راج بين كثير من أهل العلم في المشرق والمغرب أحاديث تُنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يذكرونها في مناسبات مختلفة ومنهم من يوردها في معرض الاستدلال والاحتجاج، مع أنها مكذوبة لا يجوز ذكرها على الإطلاق إلا لبيان حالها لئلا يغتر بها من لا يعرفها.
ومن تلك الأحاديث ما ليس له أصل :أي: ليس له إسناد في كتب الحديث، وأنا أورد جملة منها نموذجا لسائرها :
1 - في "الموطأ": وحدثني يحيى عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنّي لأنسى أو أُنسى بالبناء للمجهول- لأسُنَّ». وروي كما قال عياض بلفظ : «إني لا أَنْسَى ولكن أُنسى لأسُنَّ».
قال ابن عبد البر : «لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسندًا ولا مقطوعا من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في "الموطأ" التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة ومعناه صحيح في الأصول".اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" عن هذا الحديث: «لا أصل له فإنه من
بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد». قال الزرقاني في شرح الموطأ : معنى قوله : أنه لا أصل له أي: ما يحتج به لأن البلاغ من أقسام الضعيف وليس معناه أنه موضوع معاذ الله، إذ ليس البلاغ بموضوع عند أهل الفنّ لا سيما من مالك، كيف وقد قال سفيان: إذا
(۱) مجلة دعوة الحق.
الحديث الشريف وعلومه
۱۷۷
قال مالك بلغني فهو إسناد صحيح». اهـ
وبلاغ مالك تعليق، والتعليق لا يحكم عليه بشيء حتى ينظر هل له إسناد أو لا، فإن وجد له إسناد حكم عليه بمقتضى حال رجاله من ثقة أو ضعف وإن لم
يكن له إسناد كهذا البلاغ الذي نتكلم عليه اعتبر من قبيل ما لا أصل له. يضاف إلى ذلك مخالفته لما ثبت في صحيح البخاري" عن ابن مسعود الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإِذا نَسِيتُ فذكَّرُونِي».
رضي
نعم ترتّب على نسيانه صلَّى الله عليه وآله وسلّم أحكام سجود السهو في
الصلاة، وإلى هذا يشير ابن عبد البر بقوله : ومعناه صحيح في الأصول. ٢ - في "الموطأ" أيضًا عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كان يقول: «إذا نشأت بحريَّة ثم تشاءمت فتلك عين غُدَيقةٌ». قال ابن عبد البر: «هذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير "الموطأ" إلا ما ذكره الشافعي في "الأم" عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا أنشأت بحريَّة ثم استحالت شاميَّةً فهو أمطر لها» . اهـ
وروى الطبراني في "الأوسط" عن عائشة قالت: «إذا أنشأت بحرية ثم
تشاءمت فهي عين غُديقة». قال الطبراني: تفرد به الواقدي.
غديقة بالتصغير وهي التي يقال لها بالمغرب: الغديكة. - اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموتُ غدًا».
لا أصل له.
۱۷۸
المقالات والمقدمات
وروى ابن أبي الدنيا بإسنادٍ ضعيف مجهول عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا.
وروى البيهقي في "السنن" بإسناد ضعيف عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اعملْ عَمَلَ امري يظنُّ أَنْ
لن يموت أبدا واحدر حذَرَ امري يخشَى أَنْ يموتَ غدًا».
وهذا الحديث أخرجه البيهقي في الحضّ على الاقتصاد في العبادة والبعد عن قربان المعاصي خوف مفاجأة الموت.
ومعنى اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا أنك تعمل لدنياك في مهل وتؤدة من غير حرص ولا استعجال؛ لأن من يعيش أبدا لا يفوته شيء إن لم يدركه اليوم يدركه غدًا أو بعد غد بخلاف عمل الآخرة فإنه يستعجل به خوف الفوات بموت قريب.
ولشقيقنا الحافظ أبي الفيض رحمه الله جزء اسمه "إياك من الاغترار بحديث اعمل لدنياك " .
٤ - إذا وقفتم في الصلاة فلا تقبضوا أيديكم فإن ذلك تكفير اليهود». ذكره القاضي النعمان الشيعي الإمامي في كتاب "دعائم الإسلام"، وهذا حديث مكذوب لوجوه :
منها: ما رواه الطبراني بإسنادٍ صحيح عن ابن عباس قال: سمعت نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّا معشر الأنبياء أُمِرْنا بِتَعْجِيل فطْرِنا وتأخير
سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصَّلاة».
وروى في "الأوسط" و "الصغير" نحوه من حديث ابن عمر.
الحديث الشريف وعلومه
۱۷۹
ومنها ما رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد ضعيف عن يعلى بن مرة الثقفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ثلاث يحبها الله تعجيل
الفطر وتأخير السُّحور وضرب اليدين إحداهما على الأخرى في الصَّلاة». ومنها: تواتر وضع إحدى اليدين على الأخرى في الصلاة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فعله وقوله.
ومنها: أن الصلاة فرضت على اليهود وهي تكفير أي تعظيم الله تعالى والتكفير بالركوع والسجود فيها أعظم، فلم خص هذا الحديث التكفير بالقبض فقط؟ لأن الإمامية لا يقبضون في الصلاة فاخترع أحدهم هذا الحديث لتأييد مذهبه.
وهذا كما اخترع بعض المالكية حديثا عزاه لكتاب "البدور الملتمعة في أدلة الأئمة الأربعة" نقلا عن مسند الأوزاعي عن ابن مسعود قال : ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم القبض في صلاة الفريضة قبل أن يفارق الدنيا بستة
وثلاثين يوما.
وهذا كذب مضاعف فكتاب "البدور" "الملتمعة" لا وجود له في كتب الحافظ العراقي ولا في كتب غيره والأوزاعي لا مسند له، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يترك القبض في الصلاة قط.
فالإمامي اخترع حديثًا ينهى عن القبض في الصلاة فرضها ونفلها لأن
مذهبه كذلك.
والمالكي اخترع حديثا يفيد ترك القبض في الفريضة لأن مذهبه يفرق بين
الفريضة والنافلة.
۱۸۰
المقالات والمقدمات
ولو صح حديث المالكي لأفاد عدم وجوب القبض لا نسخه كما هو مقصود واضعه؛ لأنه مندوب والمندوب فضيلةٌ والفضائل لا تنسخ وإنما ينسخ الواجب والمحرم والمباح فقيام الليل وصوم عاشوراء كانا واجبين ثم نسخا إلى الندب، وزيارة القبور كانت محرمة ثم نسخت إلى الندب أيضًا، ونكاح المتعة كان مباحًا ثم حُرم.
ولا تجد مندوبا نسخه الشارع في آية أو حديث أبدا. ودعوى بعض العلماء
نسخ بعض المندوبات غفلة منهم عن هذه القاعدة.
وسبب غفلتهم أنهم رأوا الشارع أمر ببعض المندوبات أو فعلها ثم تركها فظنوا الترك نسخا لها وليس كذلك بل هو بيان لعدم وجوبها فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بصلاة الضحى وحضّ عليها وفعلها ثم تركها إشعارًا بأنها لا تجب، وأمر بركعتين قبل المغرب وصلاهما ثم تركها ورأى الصحابة يصلونها فلم ينههم عنها وما ذاك إلا لأن ترك المندوب لا يقتضي
نسخه
ه - اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحا». كنت أسمع هذا الحديث من بعض شيوخنا بفاس أيام قرائتي بها، ووجدت الطحاوي عقد بابا في "مشكل الآثار" للكلام على الريح ماذا يراد بها في القرآن مفردة أو مجموعة. وروى عن أبي عبيد قال: القراءة التي سمعتها في الريح والرياح أن ما كان منها من الرحمة فإنه جمع، وما كان من العذاب فإنه على واحده والأصل الذي اعتبرنا به هذه القراءة حديث النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا
هاجت الريح قال: «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحا».
الحديث الشريف وعلومه
۱۸۱
وتعقبه الطحاوي بقوله : فكان ما حكاه أبو عبيد من هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مما لا أصل له ، وقد كان الأولى به لجلالة قدره ولصدقه في روايته غير هذا الحديث ألا يضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يعرفه أهل الحديث عنه.
وذكر قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بهَا جَاءَ تُهَا رِيحُ عَاصِفُ [يونس: ۲۲] وقال : فكانت الريح الطيبة من رحمة الله والريح العاصف منه عزّ وجلَّ عذابًا، ففي ذلك ما قد دلّ على انتفاء ما رواه
أبو عبيد.
ثم أسند أحاديث تفيد بطلان ذلك الحديث : منها: حديث الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «نُصِرْتُ بالصَّبا وأُهْلَكَتْ عادٌ بالدَّبُور». ثم قال: فكان في هذا الحديث أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم نصر
بالصبا وهي ريح واحدة وأن عادًا أهلكت بالدبور وهي ريح واحدة. ومنها: حديث مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: «اللهم إنّي أسألك خيرها وخيرَ ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أُرسلَتْ به». وذكر أحاديث أخرى في هذا المعنى.
لكن قال الشافعي في "الأم": أخبرني من لا أتهم قال: حدثنا العلاء بن راشد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما هبَّت الريح إلا جثا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على ركبتيه وقال: «اللهم اجعلها رحمةً ولا تجعلها عذابًا اللهم
۱۸۲
المقالات والمقدمات
اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحا».
قال: قال ابن عباس: في كتاب الله عزّ وجلَّ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) [القمر: (۱۹) إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيم ﴾ [الذاريات: ٤١)، لا وَأَرْسَلْنَا الريح توقع ﴾ [الحجر: ۲۲] يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَتِ ﴾ [الروم: ٤٦]. ورواه البيهقي في " المعرفة" من طريق الشافعي قال الحافظ ابن حجر: هذا حديثٌ حسن، وشيخ الشافعي ما عرفته وكنت أظنه ابن أبي يحيى لكن لم يذكروه في الرواة عن العلاء بن راشد، والعلاء موثق كذا قال في "أمالي الأذكار".
وخالف ذلك في "تعجيل المنفعة " حيث قال: العلاء بن راشد عن عكرمة وعنه إبراهيم بن أبي يحيى لا تقوم بإسناده حُجَّةٌ قاله الحسيني كذا قال: وعكرمة مشهور وحال إبراهيم معروف» . اهـ ورمز لهذه الترجمة بحرف (فع) وهو رمز الإمام الشافعي وهذا يعيّن المبهم في إسناد "الأم" بأنه ابن أبي يحيى وحاله معروف بالضعف ولذلك استبعد تحسين الحافظ للحديث. لكنه استند إلى اعتضاده بما رواه مسدد في مسنده الكبير" ومن طريقه الطبراني في كتاب "الدعاء" عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا هاجت الريح استقبلها وجثا على ركبتيه وقال: «اللهم اجعلها
رحمة ولا تجعلها عذابًا ، اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحا، اللهم إني أسألك ما تُرسل به وأعوذ بك من شرها وشر ما تُرسل به». وإسناده ضعيف
لضعف جبر بن عبد الله حفيد عبيد الله بن عباس.
الحديث الشريف وعلومه
۱۸۳
وفي نسخة من "مسند مسدَّد : عن حسين بن قيس الرحبي، عن عكرمة، عن ابن عباس. وحسين ضعيف متروك.
وروى البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في "صحيحه"، عن سلمة بن الأكوع قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتدت الريح يقول: اللهمَّ لَقْحاً لا عَقِيها». لَقحًا بفتح اللام والقاف تفتح وتسكن حاملة للسحاب فيه الماء.
- جاءكم الطهور يعني رمضان، لا أصل له بهذا اللفظ.
وروى الديلمي في "مسند الفردوس"، ومن طريقه ابن عساكر في "التاريخ" عن عائشة مرفوعا : شهر رمضان شهر الله وشهر شعبان شهري
شعبان المطهر ورمضانُ المكفّر». وإسناده تالف والمتن موضوع. أما حديث: «رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي
فمصرح بوضعه في كتب بالموضوعات.
والثابت في هذا الباب ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الصَّلوات الخمس والجمعة إلى
الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر». الكل بلد رؤيته». ليس بحديث ولكنه متداول بين الشافعية بناء على
مذهبهم.
وقال الترمذي في سننه : باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم وهذه الجملة قالها استنباطاً من حديث ابن عبّاس الذي رواه في هذه الترجمة عن كريب بالتصغير - أنه قدم الشام واستهل رمضان فسأله هناك، ثم رجع
١٨٤
المقالات والمقدمات
المدينة في آخر رمضان فسأله ابن عباس : متى رأيتم الهلال؟ قال كريب: رأيناه ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قلت رآه الناس فصاموا وصام معاوية. فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه. فقلت: تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله
ألا
عليه وآله وسلّم.
قال المباركفوري في "تحفة الأحوزي": هذا بظاهره يدل على أن لكل أهل
بلد رؤيتهم.
قلت: ترجم النووي في شرح مسلم " بهذه الجملة أيضًا فظنها بعض أهل العلم حديثا وليس كذلك.
وأهل الحديث لا يستدلون ولا يقرون الاستدلال على ورود حديث أو
ثبوته بأن حافظاً جعله عنوانًا لباب من أبواب كتبه.
وقد ناقش الشوكاني في نيل الأوطار" استدلال الشافعية بحديث ابن عباس على أن لكل أهل بلد رؤيتهم ورجح مذهب المالكية أنه إذا رأى الهلال أهل بلد لزم أهل البلاد كلها.
- لا تكرهوا الفتن فإِنَّ فيها حَصَادُ المنافقين».
روى أبو الشيخ في "الفتن" ومن طريقه الديلمي في "مسند الفردوس" عن علي عليه السلام مرفوعًا: لا تكرهوا الفتن فإنَّها تُبيرُ المنافقين». إسناد ضعيف جدا.
وذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" بلفظ: «لا تستعيدوا بالله . من الفتن فإنَّ فيها حصاد المنافقين» وقال : قد سئل ابن وهب قديمًا عنه فقال : إنه باطل.
الحديث الشريف وعلومه
۱۸۵
قلت: قد صح في أحاديث كثيرة: التعوذ من الفتن من قول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وأمره. - إذا أراد الله عذاب أمة أعقم نساءهم خمس عشرة سنة قبل أن يصابوا
لئلا يصاب الولدان الذين لم يجر عليهم القلم».
قال الحافظ في "الفتح": «ليس له أصل وعموم حديث عائشة يرده». يعني ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «العجبُ أنَّ ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت حتَّى إذا كانوا بالبيداءِ خُسِفَ بهم فقلنا: يارسول الله إن الطريق قد تجمع الناس قال: «نعم فيهم المستبصر والمجبورُ وابنُ السَّبيل يهلكون مَهْلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتّى يبعثهم الله على نِيَّاتهم. وفي القرآن الكريم: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَةً ﴾ [الأنفال : ٢٥].
۱۰ - الدين المعاملة». ليس بحديث والواقع أن الدين يتألف من ثلاثة
أشياء عبادة ومعاملة وسلوك فيهما. فالصلاة عبادة والسلوك فيها ألا يلتفت المصلي يمنة ويسرة ولا يعبث
بیده
والتجارة معاملة والسلوك فيها أن يكون التاجر سمحا في شرائه سمحا
في قضاء ما عليه سمحًا في اقتضاء ماله. وعلى هذا القياس. ۱۱ - لا تُنزلُوهنَّ الغُرَفَ ولا تُعلّموهُنَّ الكتابة -يعني: النساء- وعلموهنَّ المغزَلَ وسورةَ النُّور». رواه البيهقي في الشعب عن الحاكم في المستدرك من طريق عبد الوهاب بن الضحاك عن شعيب بن إسحاق عن
١٨٦
المقالات والمقدمات
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به مرفوعًا. وهذا الحديث موضوع كما قال الذهبي.
عبد الوهاب بن الضحاك هو الحمصي، كذَّابٌ يسرق الحديث.
نعم روى سعيد بن منصور في "سننه" عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نسائكم سورة النُّور». أما (سورة المائدة) فإنها تشتمل على ثمانية عشر حكما لا توجد في سائر السور . وأما (سورة النور) فإنها تشتمل على آداب السلوك بجانب ما فيها من الأحكام. ۱۲ - من قال: لا إله إلا الله ومدَّ بها صوته هدمت له أربعة آلاف ذنبٍ
من الكبائر». رواه الديلمي، وهو حديث موضوع. ۱۳ - اختلافُ أمتي رحمة». ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" وقال ما نصه: نصر المقدسي في "الحجة" ، والبيهقي في "الرسالة الأشعرية" بغير سند، وأورده الديلمي والقاضي حسين وإمام الحرمين، ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا» . اهـ
قلت: سلك السيوطي طريقة الفقهاء الذين يكتفون في ثبوت الحديث بكونه مذكورًا في كتاب فلان وفلان من العلماء، وأهل الحديث لا يعترفون بهذه الطريقة ولا يعولون عليها، وإنما يعتمدون على البحث عن سند الحديث والكشف عن حال رجاله فإن لم يجدوا له إسناد كهذا الحديث حكموا بأنه لا
أصل له.
ويؤيد حكمهم هنا ما رواه أحمد في "المسند" بإسناد لا بأس به عن النعمان بن
الحديث الشريف وعلومه
۱۸۷
بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر النَّاسَ لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله
شكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب. الفرقة هي الاختلاف. وروى الطبراني في "الأوسط" بإسناد ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها».
وتأول بعض العلماء حديث اختلاف أمتي رحمة على فرض ثبوته باختلافهم في الفروع الفقهية، لكن هذا أمر مستحدث لا ينبغي حمل كلام الشارع عليه. ١٤ - «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
رواه نعيم بن حماد، عن عبد الرحيم بن زيد، عن أبيه، عن سعيد بن
المسيب، عن عمر. وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر.
وعبد الرحيم بن زيد هو العَمِّي بفتح العين وتشديد الميم - البصري كذاب . ورواه حمزة بن أبي حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر. وحمزة قال ابن
معين: لا يساوي فلسًا. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه موضوع.
ورواه الحارث بن غصين عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر. والحارث قال ابن عبد البر : مجهول. وقال الحافظ: ذكره الطوسي في رجال
الشيعة وقال: روى عن جعفر الصادق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وروى البيهقي في "المدخل" بإسناد ضعيف منقطع عن ابن عباس مرفوعا: «مهما أوتيتُم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدٍ في تركه فإن لم يكن
۱۸۸
المقالات والمقدمات
كتاب الله فسنةٌ مني ماضيةٌ فإن لم تكن سنَّةٌ منّي فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النُّجوم في السَّماء فأيُّها أخذتُم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة».
ورواه آدم بن أبي إياس في كتاب العلم" عن الحسن مرسلًا.
قال البزار: هذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو منكر عنه وقد روي عنه بإسناد صحيح «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ». وهو يعارض هذا الكلام والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه». اهـ
وقال المزني: «إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ ب . أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضًا ولا أنكر بعضهم
على بعض، ولا رجع أحد منهم إلى قول صاحبه». اهـ
وقال ابن عبد البر: الاقتداء بأصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم منفردين إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه ومن كان هذا حاله فالتقليد لازم له ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلا سائعًا جائزا ممكنا في الأصول، وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل بمعنى
ما يحتاج إليه من دينه وكذلك سائر العلماء مع العامة». وللحديث طرق أخرى واهية ذكرتها في كتاب "تخريج أحاديث المنهاج"
للبيضاوي في علم الأصول.
١٥ - «توصلوا بجاهي فإنَّ جاهي عند الله عظيم».
لا أصل له وقد عزاه بعض العلماء بمصر إلى حلية أبي نعيم" وهو .
خطأ،
الحديث الشريف وعلومه
بل لا وجود له في "الحلية" ولا في غيرها من كتب الحديث.
۱۸۹
ويغني عنه حديث توسل الضرير وهو حديث صحيح، ولفظه: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في
حاجتي
هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في». وهذا التوسل وما في معناه جائز لا
ينبغي أن يختلف فيه.
لكن العوام توسعوا فيه حتى صاروا يستغيثون بالأولياء والصالحين ويذبحون على قبورهم الهدايا، وذلك كله حرام لا تقره الشريعة؛ فالاستغاثة لا تكون إلا بالله، والهدايا لا تكون إلا للبيت الحرام ولا تذبح إلا عنده، وكان مولانا الإمام الوالد رحمه الله ينهى عن الأكل من الذبائح التي تذبح عند قبور الأولياء. ١٦ - من قلد عالما لقي الله سالما».
ليس بحديث وليس معناه بصحيح على الإطلاق، فإن من عرف الحكم
.
بدليله لا يجوز له العدل عنه إلى التقليد فإن ما تقلد مع علمه بمخالفته للدليل
كان آنها غير سالم.
۱۷ - «الجمعةُ منْ سَبَقَ».
ليس بحديث وإن ذكره كثير من الشافعية بناء على قاعدة مذهبهم. ذلك أن الجمعة لا يجوز تعددها عندهم كسائر المذاهب الأربعة لكن حدث تعددها ببغداد في أواخر المائة الثاني للهجرة، والناس في المشرق يصلون الجمعة في جميع المساجد وقفة واحدة عند آذان الظهر على خلاف ما عندنا بالمغرب وقرر الشافعية أنَّ الجمعة الصحيحة هي التي يسبق إمامها بتكبيرة
۱۹۰
المقالات والمقدمات
الإحرام وما عداها باطل ولم يعتبروا الجامع العتيق كما اعتبره المالكية فلهذا قالوا: «الجمعة لمن سبق، أي بتكبيرة الإحرام. ومع أن تعدد الجمعة بدعة دعت إليه الحاجة أو الضرورة أضيف إليها بالمغرب بدع أخرى:
منها: صلاتها بالمساجد مرة بعد مرة على التعاقب والتوالي.
ومنها: الآذان ثلاث مرات عند صعود الخطيب على المنبر وهذه البدعة
أنشأها ابن حبيب بسبب غلطة في فهم الحديث كما قال ابن العربي. ومنها : قراءة القرآن أو دلائل الخيرات في المساجد جهرًا وفيه تشويش. ومنها: رواية الحديث بين يدي الخطيب.
ومنها الشخص الذي يمشي أمام الخطيب ويناوله العصا بعد الأذان. ومنها: قعود الخطيب في المقصورة ويحرم نفسه من ثواب المكث في المسجد وهو ثواب كبير.
ومنها: أن بعض الأئمة يخطب الجمعة ويصليها مرتين في مسجدين وهذه
البدع لا توجد في البلاد الإسلامية غير المغرب.
۱۸ - من تعلم لغة قومٍ أمن مكرهم».
ليس بحديث، لكن ثبت أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أمر زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود لأنه لا يأمنهم على كتبه.
وتعلم اللغات الأجنبية واجب كفاية لأنه وسيلة إلى واجبات كفاية، وما
أدى إلى الواجب فهو واجب.
ومنها: تبليغ الدعوة الإسلامية إلى غير المسلمين.
ومنها: معرفة ما يكتبه المستشرقون من مطاعن في الإسلام والرد عليهم.
الحديث الشريف وعلومه
۱۹۱
ومنها معرفة ما استحدث عند الأجانب من علوم وصناعات نافعة في شئون الحياة المختلفة، لكن مع المحافظة على اللغة العربية والتمكن منها وجعلها لغة رسمية لكل بلد إسلامي لأنه لغة القرآن.
وكان عمر إذا . شخصا يرطن أخذ بعضده وقال له: ابتغ إلى العربية سمع سبيلا، وأحيانًا كان يعلوه بالدّرة.
ذلك أن الرطانة بين مسلمين في بلد إسلامي لا معنى له إلا الاستخفاف باللغة العربية ونقص قدرها وتلك خطة سوء يستحق صاحبها التأديب. ۱۹ - الفتنةُ نائمة لعنَ اللهُ من أَيْقَظَها».
رواه الرافعي في تاريخ قزوين عن أنس وهو حديث موضوع.
۲۰ - (مَنْ عرف نفسه عرف ربَّه».
كلام يحيى بن معاذ الرازي وليس بحديث وللحافظ السيوطي جزء اسمه: "القول الأشبه في حديث من عرف ربَّه " بيَّن فيه أنه ليس بحديث وذكر في معناه أقوالًا.
۲۱ - النَّاسُ هلكى إلا العالمون والعالمون هلكي إلا العاملون،
والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خَطَرِ عظيم». ذكره الكفراوي في شرح الآجرومية" وهو كلام سهل بن عبد الله التستري وليس بحديث، ونصب المستثنى بعد الكلام التام الموجب واجب في اللغة الفصحى ويجوز رفعه على الاتباع كما هنا ومنه قراءة ابن مسعود وأبي والأعمش: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُم ﴾ [البقرة: ٢٤٩] بالرفع وهي قراءة شاذة.
۲۲ - «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل».
۱۹۲
المقالات والمقدمات
حدیث موضوع وإن ذكره ابن العربي الحاتمي في "الفتوحات المكية".
۲۳ - «ذِكرُ الصَّالحين كفارة».
ذكره الديلمي في "الفردوس" وهو موضوع.
٢٤ - «مَنْ قرأَ القُرآنَ مَعْكُوسًا أُلْقِي فِي النَّارِ مَنْكُوسًا».
لا أصل له، لكن لا يجوز قراءة آيات القرآن على عكس ترتيبها في المصحف كما يفعل كثير من القراء فإن أحدهم إذا أراد أن تقضى حاجته فورًا يقرأ (سورة يس من آخرها بأن يقول: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: ۸۳]، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس: ٨٢]، ويستمر في تنكيسه حتى يختم بقوله تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ )
عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [يس: ٣ - ٤]، ﴿يسَ وَالْقُرْمَ انِ الْحَكِيمِ ﴾ [يس: ۱ - ۲ ] . يزعمون أن قراءة (يس) بهذا التنكيس تسرع بإهلاك العدو وبقضاء الحاجات وكذبوا فيما زعموا
ويظهر أن الشيطان أوحى لهم بهذه الفكرة الخبيثة ليحرفوا كلام الله ويفسدوا نظمه ومعناه، ومن المقرر بإجماع المسلمين أن ترتيب الآيات في كل سورة بأمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلّم.
فمن نكس (سورة يس) أو غيرها أتى كبيرة من الكبائر لأنه حرف ما أمر الله بترتيبه، وأفسد معنى السورة وتقرَّب إلى الله بعبادة باطلة، وأوهم من لا يعلم
أن السورة أنزلت منكسة.
و حديث: «يس لما قُرئت له». ليس له أصل وإن اشتهر بين الناس.
٢٥ - «المؤمنُ حُلو يحب الحلاوة». ليس بحديث.
الحديث الشريف وعلومه
هذا، ومن الكتب التي تكثر فيه الأحاديث الموضوعة:
۱۹۳
١- كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي لأن بضاعته في الحديث مزجاة كما قال عن نفسه.
ولقد خرج أحاديثه الحافظ العراقي غير أنه كثيرًا ما يطلق الضعيف على الموضوع باعتباره نوعًا منه فيشتبه الأمر على من لا يعرف ذلك، وعقد التاج السبكي في "طبقات الشافعية" فصلا أورد فيه الأحاديث التي لم يجد لها إسنادا وهي في "الإحياء".
٢- وكتاب "الكنز المدفون والفلك المشحون للشيخ يونس السيوطي
المالكي من تلامذة الذهبي ونسبته للحافظ السيوطي غلط. كما نسب إليه كتاب "الرحمة في الطب والحكمة" غلطا وليس هو له، بل هو تأليف الحكيم المقري مهدي الصبري.
٣- وكتاب نزهة المجالس" للصفوري وقد أنكر المحدث برهان الدين الناجي على مؤلفه إيراد تلك الأحاديث الموضوعة في كتابه وبعث بها إلى الحافظ السيوطي يسأله عنها فخرج واحد وأربعين منها وهي ما بين واه وموضوع. ثم
قال: وما عدا ذلك من الاحاديث المسؤول عنها فمقطوع ببطلانه وكتاب الروض الفائق في المواعظ والرقائق" للشيخ شعيب
الحريفيش.
ه - وكتاب "نور" "الأبصار" للشَّبلنجي نسبة إلى شبلنجة بكسر الشين وسكون الموحدة وفتح اللام وسكون النون قرية بمحافظة القليوبية بمصر. وفي هذا الكتاب مما يجب التنبيه عليه
١٩٤
المقالات والمقدمات
الحكاية المنقولة عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه لما حج وزار الروضة الشريفة وأنشد البيتين المشهورين في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... إلخ؛ خرجت اليد الشريفة من القبر فقبلها والناس ينظرون.
وحكى صاحب الكتاب رواية تقول أن هذه الحكاية وقعت للشيخ علي الرفاعي دفين القاهرة وهو مشهور بين العامة بأبي شُبّاك استنادًا إلى هذه الحكاية، وهي حكاية باطلة مكذوبة لا يجوز ذكرها إلا مع التنبيه عليها وهي مندرجة في الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
ورأيت رسالة منسوبة للسيوطي في تأييد وقوع هذه الحكاية الباطلة. ٦ - وكتاب "التحفة المرضية"، وقد خرج أحاديثه شقيقنا أبو الفيض رحمه الله.
- وكتاب "قصة الإسراء" المنسوبة لابن عباس وهي مكذوبة عليه. وكذلك التفسير المنسوب إليه لأنه من رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي وكلاهما كذاب. والكتب المؤلفة في قصة المولد النبوي جُلُّها يشتمل على روايات مكذوبة وفيها مع ذلك مجازفات يجل مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عنها، وقراءتها
في ليلة المولد لا تجوز لأن فيها مدح الجناب النبوي بالكذب وهو حرام. وكتاب "دقائق الأخبار في ذكر الجنة والنار" ليس فيه صحيح إلا
البسملة في أوله.
۹ - وكتاب ينابيع المودة في فضل أهل البيت " مملوء بالموضوعات.
١٠ - وكتاب "خزينة الأسرار" كذلك.
وبقيت كتب أخرى ننبه عليها في مناسبة تالية بحول الله تعالى.
الحديث الشريف وعلومه
٢٥- أحاديث موضوعة(۲)(۱)
۱۹۵
في العدد رقم (۷) من سنة المجلة الحالية قدمنا للقراء جزءا من الأحاديث التي لم تصح نسبتها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقد يكون بعضها صحيحًا عن الصحابة أو التابعين، أو بعض الأئمة من السلف وهي على كل حال تعد من قبيل الموضوع؛ لأنها لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم .
وها نحن نقدم للقراء الجزء الثاني من هذه الأحاديث برا بوعدنا مراعين فيه جانب الاختصار مع الإفادة (٢) .
1 - إذا ثبتت المحبَّةُ سقطت شروط الأدب»: قال الحافظ السخاوي ليس
بحديث.
۲ - اغتَسِلُوا يومَ الجُمُعة ولو كأسًا بدينار: روي عن أنس من كلامه وفي إسناده راو كذاب، ولكن غسل الجمعة مع هذا سنة مؤكدة لا ينبغي تركها بل قال جماعة الصحابة بوجوب غسل الجمعة الحديث: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم وأول الجمهور الوجوب في هذا الحديث بتأكيد السنية واستدلوا على تأويلهم بحديث آخر جاء فيه: «مَنْ توضّأ يومَ الجمعة فيها ونعمت ومن اغتسل فالغُسلُ أفضلُ». وناقشهم القائلون بالوجوب بما لا
يحتمله هذا المكان.
(1) الشرق العربي السنة الثالثة، العدد ۲۸، ۲۳ صفر ١٣٦٨هـ
(۲) من المجلة.
١٩٦
المقالات والمقدمات
٣- «آخرُ ما تكلَّم به إبراهيم حينَ أُلقي في النَّارِ حَسْبي الله ونعم الوكيل»: هو
من كلام ابن عباس وليس بحديث مرفوع إلى الني صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. - أنفق ما في الجيبِ، يأتيك ما في الغَيبِ»: ليس بحديث، لكن قال
تعالى: ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُةٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ ﴾ [سبا : ٣٩]. وروى الطبراني وغيره: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عاد بلالا في بيته فجاء سائل يسأل فرده بلال ولم يعطه شيئًا فنظر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى جانب البيت فإذا فيه صبرة من تمر فاستنكر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم على بلال أن يرد السائل وعنده هذا التمر فقال يا رسول الله: هذا تمر أعددته لفطري فإني صائم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «أنفق بلالا ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا».
ه - ارحموا من الناس ثلاثة: عزيز قومٍ ذَلَّ وغني قومِ افتقر وعالما بين
جُهَّال»: أورده ابن الجوزي في "الموضوعات".
٦ - «اتَّقُوا البَرْدَ فَإِنَّه قتل أخاكُم أبا الدرداء»: حديث باطل. - تزوجوا فقراء يعنكم الله»: قال ابن مشحم في "النوافح العطرة في
الأحاديث المشتهرة : يدور على ألسنة العوام ومعناه صحيح» . اهـ أي: لقوله تعالى: وَأَنكِحُوا الْأَيْمَى مِنكُمْ وَالصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَا بِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ [النور: ٣٢]. تفكر ساعةٍ خيرٌ مِن عِبادةِ سَنةٍ». لم يثبت مرفوعا ونسب إلى ابن
عباس، وأبي الدرداء والصحيح أنه من كلام السري السقطي أستاذ الجنيد.
الحديث الشريف وعلومه
۱۹۷
۹ - «حُبُّ الدُّنيا رأسُ كلَّ خَطِيئَةٍ من كلام مالك بن دينار الزاهد
المعروف ونسب إلى عيسى عليه السلام حسنات الأبرار سيئات المقربين ليس بحديث كما قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة".
١٠ - «حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذِّب الله ورسوله». هو من
كلام علي عليه السلام - «الحزمُ سُوءُ الظَّنِّ». وفي لفظ: «إِنَّ مِن الحَزْمِ سوءَ الظَّنِّ»: من كلام عمر رضي الله عنه وروى عن علي أيضًا «الحيُّ أفضل من الميتِ» كلام يدور على ألسنة العوام وهو باطل مبنى ومعنى.
۱۲ - حبُّ الوَطنِ مِنَ الإيمانِ»: ليس بحديث وللصوفية في شرح معناه
بحث طويل لا يتسع المقام لذكره.
۱۳ - خابَ قومٌ لا سفية لهم: قال الحافظ السخاوي هو من كلام ابن مكحول التابعي المشهور. ١٤ - «خير البرِّ عاجِلُهُ: رُوي عن ابن عباس من قوله: «خير الأمور أوساطها» رواه ابن جرير في تفسير من كلام مطرف بن عبدالله، ومن كلام يزيد بن مرة الجعفي... ١٥ - «الخيرة فيما اختاره الله»: وكذلك «الخيرة في الواقع» ليسا بحديثين.
١٦ - دارِهِمْ ما دمت في دارِهم»: ليس بحديث.
۱۷ - الرجوع إلى الحقِّ خيرٌ من التَّمادي في الباطل»: من كلام عمر رضي الله عنه .
۱۸ - سياسة النَّاس أشدُّ من سياسة الدَّوابّ»: من حكم الإمام الشافعي.
۱۹۸
المقالات والمقدمات
۱۹ - سور المؤمنِ شِفَاء»: ليس بحديث.
۲۰ «السفر يسفر عن أخلاقِ الرِّجَال : من كلام عمر رضي الله عنه . ۲۱ - الصبر على المعسر صدقةٌ»: ليس بحديث وفي القرآن الكريم: وإن
كان ذُو عُسْرَةٍ فَنَظَرَةُ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: ۲۸۰] عند ذِكرِ الصَّالحين تنزلُ الرَّحمةُ » ليس بحديث وقيل إنه من
كلام سفيان بن عيينة. ۲۲ - «القلبُ بيتُ الرَّبِّ»: كلام صوفي وليس بحديث. ۲۳ - كل طويل اللحية قليل العقل»: ليس بحديث.
. فتنه» وكذلك «اتَّقوا شرَّ ما قرُبَ من الأرض»: ليسا
٢٤ - كل قصير في
بحديثين.
٢٥ - كل ناشف طاهر»: ليس بحديث.
٢٦- لو كان الأرز رجلًا لكان رجلا حليما : حديث باطل.
۲۷- ربيع) أمتي العنب والبطيخ» رواه أبو عمرو النوقاني في كتاب
.
"فضل البطيخ" وهو حديث باطل،
أنه موجود في "الجامع الصغير" مع
للسيوطي.
۲۸ - «ما أفلح صاحب عيال قط»: من كلام سفيان بن عيينة يعني أن
العيال تشغل الشخص وتلهيه عن الاتصال بالله.
۲۹ - «ما رفع أحدٌ أحدًا فوق مقداره إلا واتضع عنده بأزيد» ليس بحديث. ۳۰ - من مزح استخف به »: من كلام عمر رضي الله عنه.
۳۱- من قال أنا عالم فهو جاهل من كلام عمر، وللسيوطي في إبطاله
الحديث الشريف وعلومه
۱۹۹
رسالة اسمها "أعزب المناهل في حديث من قال أنا عالم فهو جاهل" وحاصل ما علل به الحديث في هذه الرسالة : أن رفعه وهم من راويه ليث بن أبي سليم فقد كان مختلطا رفاعًا للموقوفات.
۳۲- «ما أفلح سمين قط»: نسبه القاري إلى الإمام الشافعي . ۳۳- «ما كثر آذان بلدة إلا قل بردها» ليس بحديث قال السخاوي
ويروى عن علي يعني من كلامه لكنه لم يصح.
٣٤ - من أحبك لشيء ملك عند انقضائه»: من كلام بعض الحكماء. ٣٥ من استُرضي فلم يرضَ فهو شيطان» من كلام الإمام الشافعي. ٣٦- من سلك مسالك التّهم اتُّهم»: من كلام عمر رضي الله عنه.
۳۷ - من كتم سره ملك أمره: من كلام عمر أيضًا.
۳۸- من لانت كلمته وجبت محبته من كلام علي كرم الله وجهه. ۳۹- من عرف نفسه عرف ربه من كلام يحيى بن معاذ الرازي، وللسيوطي في هذا الكلام رسالة خاصة اسمها "القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه".
٤٠ - «من بورك له في شيء فليلزمه» من كلام عائشة أم المؤمنين. ٤١ - من أتته هدية وعنده قوم جلوس فجلساؤه شركاء فيها» ذكره ابن
الجوزي في الموضوعات والصحيح أنه موقوف على ابن عباس.
٤٢ - ما تبعد مصر عن حبيبٍ من كلام ذي النون المصري الصوفي
الزاهد الشهير.
۲۰۰
المقالات والمقدمات
٢٦- حول الإسراء والمعراج (1)
لا أريد أن أكتب في صميم الموضوع فقد وفاه الكتاب والمحاضرون في مقالاتهم ومحاضراتهم ما يستحق من عناية ،وتمحيص، وبينوا وجه الإعجاز في هذه الآية الكبرى التي اختص الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإنما أريد أن أنبه على أغلاط وقع فيها معظم المتكلمين في هذا الموضوع إن لم نقل كلهم والذي يحضرني منها الآن ما يلي:
۱ - يذكرون أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان ليلة الإسراء نائما في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وربما يزيد بعضهم على هذا أنها كانت زوجه وهذا خطأ مزدوج فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في تلك الليلة نائما في المسجد الحرام كما ثبت في صحيح البخاري، وأم هانيء لم تكن قط من أمهات المؤمنين؛ نعم عرض عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة أن تتزوجه فاعتذرت بشدة غيرتها فقبل عذرها.
٢- يذكرون أن التحيات التي تقال في تشهد الصلاة شرعت في ليلة المعراج أثناء مراجعة بين الله ونبيه وهذا غير صحيح، فالتحيات إنما شرعت بعد الهجرة وكان الناس قبلها يسلمون على أهليهم وأقاربهم فيقولون السلام على فلان السلام على فلان، ثم يخرجون من الصلاة هكذا ثبت في الأحاديث
الصحيحة.
- يذكرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عرج به في معراج من
(1) الشرق العربي السنة الثامنة، العدد (٦) ۹ شعبان ۱۳۷۲.
الحديث الشريف وعلومه
ذهب وهذا لم يثبت في شيء من الأحاديث الصحيحة.
۲۰۱
- يقولون أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لما عرج إلى حيث شاء الله
استوحش فسمع صوت أبي بكر رضي الله عنه فاستأنس واطمأن. وهذا غير صحيح، بل هو باطل سندًا ومنكر من جهة المعنى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لا يستأنس بغير مولاه ولا يستوحش بالقرب من
حضرته.
ولهذه المناسبة أذكر أن العلماء قرروا أن ليلة المعراج أفضل الليالي في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لما حصل له فيها من أنواع القرب
والاختصاص كما أن ليلة المولد النبوي أفضل بالنسبة للأمة.
ه - يذكرون أن جبريل عليه السلام ترك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم حين وصلا إلى سدرة المنتهى، وهذا غير صحيح بل جبريل لم يتركه في تلك الليلة لحظة واحدة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
٦ - يذكرون أن جبريل كان ممسكًا بركاب البراق والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم راكب وهذا غير صحيح، بل ثبت أنهما كانا راكبين معا ذهابًا
وإيابا.
هذا ما عن لي أن أثبته من الأغلاط التي ألصقت بهذه الليلة العظيمة ونرجو أن يوفقنا الله إلى كتابة قصة الإسراء والمعراج خالية مما أدرج فيها من الأكاذيب والموضوعات، والله الموفق.
۲۰۲
۲۷- الأحاديث الموضوعة في رمضان (1)
المقالات والمقدمات
فكرت إدارة المجلة بمناسبة شهر رمضان المعظم أن تصدر عددا خاصا بأحكام الصيام وفضائله وما يتعلق بذلك من مناسبات وتتمات.
وهي فكرة جميلة مجدية تفيد القراء في كثير من النواحي المتعلقة بهذا الشهر المقبل العظيم، وقد عهدت إلى الإدارة أن أقوم بقسط من الواجب في عددها الممتاز فلم أر أحسن من أن أنبه على أحاديث موضوعة ليجتنبها القراء إن رأوها في كتاب، أو سمعوها من واعظ مثلا، ثم أعقبها بذكر أحاديث ضعيفة يجوز العمل بها في مثل هذا الباب باتفاق العلماء إلا من شذ منهم، فإن كان الحديث يقتضي إثبات شيء لا يكتفي فيه بالحديث الضعيف نبهت على ذلك،
ا
عن
ولم أر أن أتعرّض للأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع لأنها - فضلا . كونها مشهورةً ذائعة - سيتناول معظمها إخواني كتاب المجلة بالشرح والتبيين
ويستقون من معينها كل على حسب قابليته واستعداده، على أن الاعتناء بالأحاديث الموضوعة والضعيفة في حدّ ذاته مهم جليل، وقد ثبت عن إسحاق بن راهويه أنه كان يحفظ أربعة آلاف حديث موضوعة، وثبت عن البخاري أنه كان يحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، وذكر ابن حبان في كتاب "الضعفاء" أنه كتب عن أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب المروزي أكثر من ثلاثة آلاف حديث كلها مقلوبة إلى غير هذا مما يطول تتبعه، ولنشرع فيما قصدنا إليه، وبالله التوفيق. فمن الأحاديث الموضوعة ما روي عن أنس مرفوعا: «إذا كان أول ليلة
(۱) مجلة الإسلام السنة الخامسة، العدد (٣٤) ۲۸ شعبان ١٣٥٥.
الحديث الشريف وعلومه
۲۰۳
من شهر رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنَّة، فيقول: لبيك ربِّ وسعديك، فيقول: هيّئ جنتي وزيَّنها للصائمين من أمة أحمد، ولا تُغلقها عنهم حتى ينقضي شهرُهم، ثم ينادي: يا جبريل، فيقول: لبيك ربِّ وسعديك، فيقول : انزل إلى الأرض فغُلَّ مَرَدَة الشَّياطين عن أُمَّة أحمد لا يُفسدوا عليهم صيامهم، والله في كلّ ليلة من رمضان عند طلوع الشمس وعند وقت الإفطار عتقاء يعتقهم من النَّار عبيد وإمَاءُ، وله في كل سماء ملك ينادي عرفه تحت عرش ربّ العالمين، ورجله في تخوم الأرض السابعة، جناح له بالمشرق مُكَلَّل بالمرجان والدر والجوهر، وجناح له بالمغرب مكلل بالمرجان والدر والجوهر، ينادي هل من تائب يُتاب عليه، هل من داعٍ يُستجاب له، هل من مظلوم فيُنصَر ، هل من مستغفر يُغفر له، هل من سائل يُعطى سُؤله، والرَّبُّ تعالى ينادي الشهر كله عبيدي وإمائي أبشروا أوشك أن تُرفع عنكم المؤنات وتفضوا إلى رحمتي وكرامتي، فإذا كانت ليلة القدر ينزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلُّون على كل عبد قائم وقاعد يذكر الله تعالى، فإذا كان يومُ فِطرِهم باهى بهما. الملائكة فيقول: يا ملائكتي ما جزاء أجيرٍ وفَّى عمله؟ قالوا: جزاؤه أن يوفى، قال: عبيدي وإمائي قضوا فريضتي عليهم ثُمَّ خرجوا يعجون إليَّ بالدُّعاء، وعزّتي وجلالي، وكبريائي وعلوي وارتفاع مكاني، لأجيبهم اليوم: ارجعوا فقد غفرتُ لكم وبدَّلت سيئاتكم حسنات فيرجعون
مغفورا لهم". هذا حديث موضوع، رواه عن أنس ثلاثة كلهم هَلكَى: أصرم، وأبان، وعباد بن عبدالصمد، وهذا الأخير لم يكتف بهذا القدر من الكذب فزاد على
٢٠٤
المقالات والمقدمات
صاحبيه زيادة طويلة أعرضنا عنها اختصارًا.
النبي
ومن
الأحاديث الموضوعة ما روي عن أبي مسعود الغفاري أنه سمع ، صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول وقد أهل رمضان: «لو علم العباد ما رمضان لتمنّت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها، فقال رجل من خزاعة حدثنا به، قال: إنَّ الجنة تزيَّن لرمضان من رأس الحول إلى الحول، حتّى إذا كان أول يوم من رمضان هبَّت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة، فينظر الحور العين إلى ذلك فقلن : يا ربِّ اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجا تقر أعيننا بهم، و تقر أعينهم بنا، قال: فما من عبد يصوم إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درّة مجوفة مما نعت الله حُورٌ مَّقْصُورَاتُ فِي الْخِيَاءِ [الرحمن: ۷۲] على كل امرأة منهنَّ سبعون حلة ليس فيها على لون الأخرى، ويُعطى سبعون لونا من الطّيب، ليس منها ريحٌ على ريحِ ا ريح الآخر، لكل امرأة سرير من ياقوتة حمراء موشى بالدر ، على كل سرير سبعون فراشا
.
بطائنها من استبرق، وفوق السبعين فراشًا سبعون أريكة، لكل امرأة منهن سبعون ألفِ وصيفةً لحاجتها وسبعون ألف وصيف مع كل وصيفة صحفة من ذهب فيها لون طعام، يجد لآخر لقمة منها لذة لا يجد لأوَّله، ويعطي زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر عليه سواران من ذهب موشی بياقوت أحمر، هذا بكل ا صام من رمضان سوى ما عمل من
الحسنات».
يضع
يوم .
هذا حديث موضوع في سنده جرير بن أيوب البجلي، قال أبو نعيم: كان الحديث. وأخرجه ابن أبي الصقر الأنباري من حديث أبي شريك
الحديث الشريف وعلومه
الغفاري، وفي سنده الهياج بن بسطام وهو متروك.
٢٠٥
ومنها ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إلى خلقه الصيام، وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذِّبه أبدا، والله عزَّ وجلَّ في كل يوم ألف ألف عتيق من النَّار، فإذا كان ليلةُ النَّصف من شهر رمضانَ أعتق الله فيه مثل جميع ما أعتق، وإذا كان ليلة خمس وعشرين أعتق الله فيها مثل جميع ما أعتق، وإذا كانت ليلة تسع وعشرين أعتق فيها مثل جميع ما أعتق في الشهر كله، وإذا كانت ليله الفطر ارتجت الملائكة وتجلى الجبّار تعالى بنوره مع أ أنه لا يصفه الواصفون، فيقول للملائكة وهم في عيدهم من الغد يوحى إليهم: يا معشر الملائكة ما جزاء الأجير إذا وفى عمله؟ فتقول الملائكة: يوفى أجره. فيقول الله تعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم. هذا حديث موضوع في سنده عثمان بن عبد الله القرشي هو المتهم به وقد كان وضاعًا.
ومنها ما روي عن أنس مرفوعا: أنَّ الله تعالى أوحى إلى الحفظة ألَّا تكتبوا على صُوَّام عبيدي بعد العصْرِ سيِّئَةً. هذا حديث موضوع، وضعه
إبراهيم ابن عبد الله المخرمي الدقاق كما قاله الدارقطني.
ومنها: ما روي عن أنس مرفوعا: «لو أنَّ الله عزّ وجل أذن للسماوات والأرض أن تتكلَّم لبشَّرت الذي يصوم شهر رمضان بالجنة». وضعه أبو هدبة وسرقه منه أبو هرمز.
ومنها: ما روي عن أنس مرفوعا: «إنَّ الله تعالى في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق من النار كلُّهم قد استوجبوا النار». هذا الحديث بهذا اللفظ موضوع، وآفته أزور بن غالب وللحديث طرق واهية في بعض ألفاظها
٢٠٦
المقالات والمقدمات
ركاكة بينة.
والصحيح من ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله عزّ وجلَّ
عتقاء عند كل ليلة من رمضان».
ومنها ما روي عن أبي أمامة وواثلة وعبد الله بن بشر، سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنَّ الجنة لتزيَّن من الحول إلى الحول لرمضان، من صان نفسه ودينه في شهر رمضان زوجه الله من الحور العين، وأعطاه قصرًا من قصور الجنة، ومن عمل سيئة أو رمى مؤمنًا ببهتان أو شرب مسكرًا في شهر رمضان أحبط الله عمله سنةً». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اتَّقُوا شهر رمضان لأنَّه شهر الله، جعل الله لكم أحد عشر شهرًا
.
تشبعون فيها وتروون وشهر رمضان شهر الله فاحفظوا فيه أنفسكم». هذا
بهذا اللفظ موضوع في سنده محمد بن إسحاق الأسدي كذاب.
وقد صح عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «مَن صام رمضان وعرف حدوده و تحفّظ ما ينبغي له أن يتحفّظ كفر ما قبله».
وصح عن أبي هريرة مرفوعًا: مَن لم يَدَعْ قولَ النُّورِ والجهل والعمل به فليس الله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه». وعنه أيضًا مرفوعا: ليس الصيامُ من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث الحديث.
وصح عن ابن عمر مرفوعا: «ما من أحد يشربها -يعني: الخمر - فتقبل له صلاة أربعين ليلة ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حرمت بها عليه الجنة،
فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية».
الحديث الشريف وعلومه
۲۰۷
ومن الأحاديث الموضوعة: ما روي عن الحسين بن علي عليهما السلام عن
أبيه مرفوعا: «من اعتكف عشرا في رمضان عدلُنَ حَجَّتين وعُمرتين». هذا موضوع وآفته عنبسة بن عبد الرحمن القرشي كان يضع.
ومنها ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: من صام رمضان في إنصات وسكون وكف سمعه وجوارحه من الحرام والكذب اقترب الله عزَّ وجلّ منه يوم القيامة حتى تمس ركبته ركبة إبراهيم عليه السلام». هذا موضوع، في سنده السري بن سهل متهم بالوضع.
ومنها: ما روي عن أنس مرفوعا: من أفطر على تمرةٍ من حلال زيد في
حجم
صلاته أربعمائة صلاة». موضوع، في سنده موسى الطويل يضع. ومنها ما روي عن أنس مرفوعًا من تأمَّل خلقَ امرأةٍ حتى يتبيَّن . عظامها ورأى ثيابها وهو صائم فقد أفطرَ». في سنده الحسن بن علي العدوي وشيخه خراش بن عبد الله وهما كذابان ومنها ما روي عن جابر مرفوعا : من أفطر يوما في شهر رمضان في الحضر فليهد بدنةٌ، فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعا من تمر المساكين». في سنده مقاتل بن سليمان كذاب
فيه
ومنها: ما روي عن أنس مرفوعا: تدرون لم سمي رمضان لأنه ترمضُ الذُّنوب، و رب، وإن في رمضان ثلاث ليال من فاتته فاته خير كثير ليلة سبعة
عشر، وليلة تسعة عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وآخر ليلة فقال : يا رسول الله هي سوى ليلة القدر ؟ قال : نعم، ومن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له؟!» فيه زياد بن میمون کذاب .
۲۰۸
المقالات والمقدمات
ومنها ما روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يكون آخر ليلة من رمضان، وليس عبد مؤمن يصلي في ليلة إلا كتب الله له ألفا وخمس مائة حسنة بكل سجدة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء لها ستون ألف باب لكل باب منها قصر من ذهب، مُوشّح بياقوتة حمراء، فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه إلى مثل ذلك اليوم من شهر رمضان، واستغفر له كل يوم سبعون ألف ملك من صلاة الغداة إلى أن توارت بالحجاب، وكان له بكل سجدة يسجدها في شهر رمضان بليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها خمس مائة عام».
ومنها ما روي عن ابن عباس : أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الجنة لتبختر وتزيَّن من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة، فتصفق ورق أشجار الجنان وحلق المصاريع فيسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه . وذكر حديثًا طويلا أورده في "الترغيب والترهيب" بتمامه، وقال: «ليس في إسناده من أجمع على ضعفه».
وهو موضوع بلا شك، غير أني لست أدري الآفة فيه من أي رواته؟ ثم أغلب ألفاظه مأخوذ من حديث الهياج بن بسطام فلعل أحد رواته سرقه منه
وزاد فيه، والمتروكون يسرق بعضهم أحاديث بعض.
ومنها ما روي عن أنس مرفوعا: خمس يُفطرن الصائم وينقضن
الحديث الشريف وعلومه
۲۰۹
الوضوء الكذب والنميمة والغيبة والنظر بشهوة، واليمين الكاذبة».
موضوع، في سنده كذاب وثلاثة مجروحون
ومنها: ما روي عن أنس مرفوعاً أيضًا تدرون لم سمي شعبان؟ لأنه يتشعب فيه لرمضان خير كثير ، وإنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي: يذيبها من الحر. موضوع وضعه زیاد بن میمون.
وفي هذا القدر كفاية، وسنتكلم على الأحاديث الضعيفة في العدد الآتي إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.
۲۱۰
المقالات والمقدمات
۲۸- أحاديث موضوعة تختص بشهر رمضان والصيام
(1).
هذه بعض أحاديث وضعها الوضاعون في فضل شهر رمضان المعظم أردنا أن نتحف القراء ببيانها خدمة للعلم وقياما ببعض الواجب في نفي الكذب عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فنقول وبالله التوفيق.
منها حديث أبي هريرة مرفوعا: (من صام رمضان في إنصات وسكون وكف سمعه وجوارحه من الحرام والكذب، اقتراب الله عزَّ وجلَّ منه يوم
القيامة حتى تمس ركبته ركبة إبراهيم عليه السلام».
رواه الديلمي في "مسند الفردوس" وفي سنده السري بن سهل عن عبدالله بن رشيد، قال البيهقي: «لا يحتج به ولا بشيخه».اهـ، وقال الحافظ السيوطي في "ذيل اللآلي" : «السري بن سهل متهم .
ومنها حديث أنس مرفوعا: تدرون لم سمي شعبان لأنه يتشعب فيه لرمضان خير كثير، وإنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يذيبها من الحر». رواه أبو الشيخ في كتاب "الثواب"، وفي سنده زياد بن ميمون كان كذابًا اعترف على نفسه بالوضع وتاب ثم نقض التوبة وعاد إلى التحديث بالموضوعات.
أنس
وروى الصباح بن سهل وهو ضعيف عن زياد بن ميمون، عن مرفوعا: «ليس من امرأة تحمل حملا إلا كان لها كأجر القائم الصائم المخبت، فإذا وضعت كان لها بكل رضعة عتق رقبة والرجل إذا جامع زوجته واغتسل
باهى الله به الملائكة». هذا من كذب زياد.
(۱) مجلة الشرق العربي السنة الثالثة، العدد (٧) سنة ١٣٦٧ .
الحديث الشريف وعلومه
۲۱۱
ومنها حديث أنس مرفوعا : إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة فيقول : لبيك وسعديك فيقول هيئ جنتي وزينها للصائمين من أمة أحمد ولا تغلقها عنهم حتى ينتهي شهرهم.... وذكر حديثا طويلا.
رواه ابن حبان في كتاب "الضعفاء" من طريق أصرم بن حوشب قاضي
همدان وقال: «كان يضع الحديث على الثقات».
ورواه العقيلي في "الضعفاء" من طريق عباد بن عبد الصمد عن أنس، وعباد واه، ومن عجيب أمره أنه شيعي بصري مع أن أهل البصرة يغلب
عليهم الانحراف عن أهل البيت كأهل الشام والأندلس.
ورواه أيضًا الديلمي من طريق أبان عن أنس به، وأبان هو ابن أبي عياش متروك الحديث وإن كان في نفسه رجلًا صالحا.
ومنها: حديث أنس مرفوعا: إن الله تبارك وتعالى ليس بتارك أحد من المسلمين صبيحة أوّل يومٍ من شهر رمضان إلا غفر له». رواه الخطيب في "التاريخ" من طريق سلام الطويل عن زياد بن ميمون عن أنس، وسلام متروك، وزياد كذاب.
ومنها: حديث أبي مسعود الغفاري قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وأهل رمضان فقال: «لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي أن تكون السَّنةُ كلُّها رمضان». فقال رجل من خزاعة: يا نبي الله حدثنا فقال: «إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت فصفقت ورق أشجار الجنة» وذكر بقية الحديث.
۲۱۲
المقالات والمقدمات
وهو بتمامه في كتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري، رواه أبو الشيخ وأبو يعلى وابن خزيمة والبيهقي، وفي سندهم جميعًا جرير بن أيوب البجلي؛ واه. قال أبو نعيم كان يضع الحديث.
وأسند الذهبي في "الميزان" من طريق جرير هذا عن محمد بن أبي ليلى، عن محمد بن أبي إسحاق، عن مسروق، عن عائشة مرفوعا: «ما من عبد أصبح صائما إلا فتحت له أبواب السماء وسبحت أعضاؤُه واستغفر له أهل السماء الدنيا إلى أن تتوارى بالحجاب، فإن صلى ركعة أو ركعتين تطوعًا أضاءت له السموات نورا وقال أزواجه من الحور العين اللهم اقبضه إلينا فقد اشتقنا إلى رؤيته وإن هلل أو . تلقاها سبعون ألف ملك يكتبونها إلى أن تتوارى سبح بالحجاب». ثم قال الذهبي: «هذا موضوع علي ابن أبي ليلى» يريد بذلك أن ابن
أبي ليلى وإن كان ضعيفًا فإنه لا يحتمل مثل هذا الحديث البين النكارة.
ومنها: حديث أنس مرفوعا: «إن الله تعالى في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق من النار كلُّهم قد استوجبوا النار». رواه ابن حبان في "الضعفاء"
وقال: «باطل لا أصل له».
قلت: لأن في سنده الأزور بن غالب منكر الحديث. ومن بلاياه ما رواه عن سليمان التميمي عن ثابت عن أنس مرفوعا: الله في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق من النار.
وفي هذا القدر كفاية ولعلنا نعود إلى بقية الأحاديث الموضوعة نبينها
بحول الله .
الحديث الشريف وعلومه
٢٩- الأحاديث الضعيفة في رمضان (1)
۲۱۳
انتهينا في العدد الماضي مما أردنا ذكره من الأحاديث الموضوعة في فضل رمضان، ونريد أن نثبت في هذا العدد ما تيسر من الأحاديث الضعيفة على نمط ما سبق، وبالله التوفيق.
فمنها ما رواه البزار والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس: أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان». ضعفه البيهقي لأن في سنده زائدة بن أبي الرقاد، وهو ضعيف.
ومنها: ما رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل، وأفضل النبيين آدم، وأفضل الأيام يوم الجمعة، وأفضل الشهور شهر رمضان، وأفضل الليالي ليلة القَدْرِ ، وأفضلُ النِّساءِ مريم بنت عمران». هذا الحديث ضعيف جدا فيه نافع أبو هرمز.
وقد علم بالدلائل القطعية أن أفضل النبيين والمرسلين هو نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم وثبت في صحيح ا الأدلة أن مريم عليها السلام أفضل نساء عالمها فقط، فلا يشمل ذلك جميع النساء بما فيهن فاطمة عليها السلام، وخديجة وعائشة رضي ا الله عنهما، وفي أفضلية جبريل على غيره من الملائكة خلاف. والمقصود أن الحديث المذكور ليس مما يعمل به بما فيه له اتصال
بالمعتقدات.
(1) مجلة الإسلام السنة الخامسة العدد (٣٥) ٦ من رمضان ١٣٥٥ .
٢١٤
المقالات والمقدمات
ومنها ما رواه البزار والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «سيد الشهور شهر رمضانَ وأعظمُها حرمةً ذو الحجة». في سنده يزيد بن عبد الملك النوفلي؛ ضعيف. ومنها ما رواه أحمد والبزار والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أعطيت أمتي خمس خصالٍ في رمضان لم تعطهنَّ أمةٌ قبلهم، خَلُوف فَمِ الصائم أطيب عند الله . المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يُفطروا، ويزين الله عزَّ وجلَّ كلَّ يوم جنته ثم
من ريح
يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة ويصيروا إليك، وتصفّد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم
في آخر ليلة». قيل: يا رسول الله ، أهي ليلة القدر؟ قال: «لا، ولكن العامل إنَّما يوفّى أجره إذا قضى عمله». ورواه أيضا أبو الشيخ ابن حيان في كتاب "الثواب" غير أنه قال: وتستغفر لهم الملائكة بدل الحيتان. وفي سند الحديث هشام بن زياد أبو المقدام؛ ضعيف.
ومنها ما رواه الطبراني في "الكبير" عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوما وحضر رمضان: «أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه ويُباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن
الشقي من حرم فيه رحمة الله عزَّ و جلَّ». في إسناده مجهول.
ومنها: ما رواه ابن ماجه أواخر كتاب الحج من "سننه" عن ابن عباس
الحديث الشريف وعلومه
٢١٥
قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ وقامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ، كَتَبَ الله لَهُ مِائَةَ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهَا، وَكَتَبَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ عِنقَ رَقَبَةٍ، وَكُلَّ لَيْلَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكُلٌّ يَوْمٍ مُحْمْلانَ(۱) فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ حَسَنَةٌ، وَفِي كُلٌّ لَيْلَةٍ حَسَنَةٌ».
تفرد به ابن ماجه وإسناده ضعيف جدا؛ لأن فيه عبد الرحيم بن يزيد
العمي؛ متروك، وكذَّبه ابن معين، عن أبيه وهو ضعيف.
ومنها ما رواه ابن خزيمة، ومن طريقه البيهقي، عن سلمان الفارسي قال: خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في آخر يوم من شعبان فقال: «يا أيها الناس قد أظلكم شهرٌ عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر جعل الله صيامه فريضةً، وقيام ليله تطوعًا، من تقرّب فيه بخصلة كان كمن أدى فريضةً فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنَّة، وشهرُ المواساة، وشهرٌ يُزاد في رزق المؤمن فيه، من فطر فيه صائما كان مغفرةً لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن يُنتقص من أجره شيء». قالوا يا رسول الله: ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «يعطي الله هذا الثواب فطر صائما على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النَّار، من خفَّف عن مملوكه فيه غفرَ ا الله له وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، (۱) «حملان» بضم الحاء وسكون الميم أحد مصادر حمل، والمعنى: أنه يكتب له في كل يوم ثواب حمل فرس في سبيل الله، يعني في الجهاد.
٢١٦
المقالات والمقدمات
وخصلتين لا غناء بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربةً لا
يظمأ حتّى يدخل الجنَّة». في سنده علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف. ومنها ما رواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "الشعب" عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ذاكر الله في رمضان مغفور له، وسائلُ الله فيه لا يخيب». في سنده هلال بن عبد الرحمن؛
ضعيف.
ومنها ما رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقي في "الشعب"، والطبراني في "الأوسط"، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « : ماذا يستقبلكم وتستقبلونه ثلاث مرات». فقال عمر: يا رسول الله وحي نزل؟ قال: «لا»، قال : عدوٌّ حضر؟ قال: «لا»، قال: فماذا؟ قال: «إنَّ الله يغفرُ في أول ليلةٍ من شهرِ رمضانَ لكلِّ أهل هذه القبلة». وأشار بيده إليها. فجعل رجل بين يديه يهز رأسه ويقول: بخ بخ، فقال رسول الله صلى صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا فلانُ كأَنَّه ضاق به صدرك؟» قال: لا، ولكن ذكرت المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «المنافق كافر وليس لكافر في ذلك شيء». قال ابن خزيمة عقب تخريجه: إن صح الخبر فإني لا أعرف خلفا أبا الربيع بعدالة ولا جرح ولا عمرو بن حمزة القيسي الذي دونه».اهـ نقله الحافظ المنذري ، وقال عقبه قد ذكرهما ابن أبي حاتم ولم يذكر فيهما
جرحًا.
الحديث الشريف وعلومه
۲۱۷
وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد" إنه لن يجد لخلف أبي الربيع راويا
غير عمرو بن حمزة، كما ذكر ابن أبي حاتم.
قلت خلف أبو الربيع وإن لم يعرفه أبي حاتم وابن أبي خزيمة فقد عرفه غيرهما وهو خلف بن مهران العدوي أبو الربيع البصري إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وهو مسجد بني عدي بن يشكر كذا ذكره الحافظ المزي في "التهذيب".
وقال: روى عن عامر بن عبد الواحد الأحول، وعمرو بن عثمان بن يعلى بن أمية، وعبد الرحمن بن عبد الله الأصم. وعنه حرمي بن حفص بن عمارة، وأبو عبيدة الحداد. وقال: كان ثقة صدوقا خيرًا مرضيا. وذكره ابن حبان في
" الثقات".
لكن ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" أن البخاري جعل خلف بن مهران إمام مسجد بني عدي غير خلف أبي الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وأن الثاني يروي عن أنس، وروى عنه عمرو بن حمزة القيسي كما قال
أبو حاتم، ثم نقل عن البغوي رواية تفيد أنهما واحد لا اثنان. وأما عمرو بن حمزة القيسي فضعفه الدارقطني وغيره، وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه غير محفوظ»، وقال العقيلي: بصري لا يتابع على حديثه، ثم ساق له أحاديث منها الحديث الذي أوردناه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فظهر أنه معروف وأن جهل ابن خزيمة له في غير محله والله أعلم. ومنها: ما رواه الطبراني في "الأوسط" و "الصغير" عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أُمَّتِي لم يُجْزَوا ما
۲۱۸
المقالات والمقدمات
أقاموا رمضان». قيل: يا رسول الله وما خزيهم في إضاعة شهر رمضان؟ قال: انتهاك المحارم فيه، من زنا فيه أو شرب خمرًا لعنه اللهُ ومَن فِي السَّماوات إلى مثله من الحول، فإن مات قبل أن يدركه رمضانُ فليست له عند الله حسنةٌ يتقي بها النَّار، فاتقوا شهر رمضانَ فإنَّ الحسناتِ تُضاعفُ فيه ما لا تضاعفُ فيما
سواه وكذلك السيِّئَاتُ». في سنده عيسى بن سليمان أبو طيبة؛ ضعيف. ومنها: ما رواه ابن عدي ومن طريقه البيهقي في "السنن" عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تقولوا ،رمضان، فإنَّ رمضانَ اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا شهر رمضان». ضعفه البيهقي بأبي معشر ، ثم قال : وقد قيل عن أبي معشر عن محمد بن كعب من قوله وهو أشبه ووهم ابن الجوزي حيث ذكره في الموضوعات"؛ لأن الحديث لم ينته إلى حد الوضع بل هو ضعيف فقط.
نعم، لا يعمل به في إثبات رمضان اسماء الله تعالى، لأن أسماء الله تعالى
وصفاته توقيفية لا يثبت شيء منها إلا بحديث صحيح، كما تقرر في محله. ومن هنا يظهر لك خطأ من يزعم أن «آه» اسم من أسماء الله تعالى مستندا لحديث: «دعُوه بين فإِنَّ الأنينَ اسم من أسماء الله تعالى يستريح إليه العليل». وهذا الحديث رواه الرافعي في "تاريخ قزوين"، والديلمي في "مسند الفردوس" عن عائشة بإسناد فيه راو كذَّاب، فهو حديث واه نازل عن درجة الاحتجاج بالمرة. ولقد غلط العزيزي في شرح الجامع الصغير" حيث ادعى أنه لغيره، مع أن عمدته في التصحيح والتحسين غالبا - وهو المناوي- لم يحسنه أصلا لا في شرحه الكبير ولا الصغير، ولا حسنه الحافظ السيوطي الذي هو
حسن
الحديث الشريف وعلومه
۲۱۹
عمدتهم جميعًا، وكيف يستطيع أن يحسّنه وفي سنده كذاب كما ذكرنا ؟ وقد رأيت في العدد (۳۳) فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن خليفة، ذكر هذا الحديث ونقل من العزيزي في شرح الجامع الصغير" أنه عزاه للشيخين والترمذي، فتعجبت من هذا العزو جدًّا لعلمي بأن الحديث المذكور لا وجود له في شيء من الكتب الستة البتة، وجزمت بغلط العزيزي لكني لما راجعت شرحه على "الجامع الصغير " وجدته بريئًا من عهدة ذلك العزو إذا أجده فيه، وأدركت أن الشيخ عبد الرحمن خليفة حفظه الله انتقل ذهنه من حديث الأنين الواهي إلى حديث: «دعُوه فإنَّ لصاحب الحق مقالا»، الذي هو -بحق- في الصحيحين والترمذي كما قال العزيزي، وسبب ذلك الانتقال أن الحديثين ذكرا في "الجامع الصغير" بإزاء بعضهما جنبا إلى جنب.
والخلاصة: أنَّ حديث الأنين واه لا يحل الاحتجاج به، وأنَّ عزّوه للكتب الستة أو بعضها سبق قلم ناشئ عن انتقال ذهن ليس غير، وقد جاء ذكر الأنين في حديث آخر ولفظه المريضُ أنينه تسبيح، وصيامه تكبير، ونفسه صدقة، ونومه عبادة، وتقلبه من جنب إلى جنب جهاد في سبيل الله». ولكنه حديث ليس بثابت كما قال الحافظ، على أن جماعة من السلف كرهوا أنين المريض، طاوس، والفضيل بن عياض وذو النون المصري، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وبالجملة قلنا: دلائل على إبطال «آه» لسنا بصدد ذكرها الآن
منهم
ولعلنا فيما بعد نفردها بكتابة خاصة إن يسر الله ذلك، وبالله التوفيق. يسرا
۲۲۰
المقالات والمقدمات
٣٠- حول مسألة الخضر في علم الحديث (۱)
نسب الخضر واسمه
الخضر اسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح، فهو ابن عمّ جد إبراهيم عليه السلام، وكنيته أبو العباس، وسبب تلقينه بالخضر ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنما سُمِّي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء». والفروة: أرض بيضاء لا نبات فيها، وهو المراد بقوله تعالى عن موسى وفتاه يوشع بن نون فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ءَانَيْتَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَهُ مِن لَّدُنَا عِلْمًا ﴾ [الكهف: ٦٥] هكذا جاء مفسرا عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في الصحيحين وغيرهما من طرق.
فتى موسى والمبتدعة
ومبتدعة هذا العصر لا يقبلون هذا التفسير ويقولون: إن القرآن لم يُعين
فتى موسى ولا العبد الذي وجداه فنحن لا نعينها!!
وكأنهم يعترضون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أقدم على تعيين شيء لم يعينه الله، وإن تعجب فعجب من الشيخ محمد محمد المدني الذي عمد في كتابته عن قصة موسى والخضر عليهما السلام إلى تفنيد الحديث الوارد فيهما وهو في الكتب السِّنّة وغيرهما من طرق، ثم عقب برأيه المتكلف الفاسد ولم
(۱) المسلم: السنة الثالثة عدد (٦) محرم ۱۳۷۳.
الحديث الشريف وعلومه
۲۲۱
يبد من حجة في تفنيد الحديث إلا إطلاق لفظ الروايات عليه حيث قال: «جاء في الروايات.... وتقول الروايات.... ولعله يعتقد أن إطلاق لفظ «الروايات»
عذر كافٍ عند الله في ترك الأحاديث الصحيحة وإهدار جانبها ! (۱).
حياة الخضر:
ثم إن الخضر مُعمَّر محجوب عن الأبصار كما قال الثعلبي في "تفسيره" وقال ابن الصلاح: «هو حي عند جمهور العلماء، والعامة معهم في ذلك، وإنما شد بإنكاره بعض المحدثين» . اهـ وتبعه النووي وزاد: «أن حياته متفق عليها بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكايتهم في رؤيته والاجتماع به أكثر من أن تحصر » . اهـ قال الحافظ: «والذي جزم بأنه غير موجود الآن البخاري، وإبراهيم الحربي، وأبو جعفر بن المنادي، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو طاهر العبادي، وأبو بكر بن العربي، وطائفة، وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر وجابر وغيرهما أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال في آخر حياته: «لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنةٍ مما هو عليها اليوم أحد». قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه.
وأجاب من أثبت حياته أنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص
من الحديث كما خص منه إبليس بالاتفاق».اهـ
وبالضرورة لم يقصد الحديث فناء العالم وانقراض الدنيا كما فهم بعض ملاحدة العصر لجهله، وبنى على ذلك أن المحدثين يعتمدون على صحة السند
(1) ومتى رضي المدني وشلتوت عن رسول الله بغير عوض ؟!
۲۲۲
المقالات والمقدمات
فقط وإن كان الحديث يخالف الواقع المشاهد، وإنما أراد الحديث انقراض ذلك القرن وانقطاع الصحابة، حتى إذا ما ادعى أحدٌ أنه صحابي بعد المائة الأولى عرفنا أنه كذاب، وقد ادعى صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم معمرون کذابون كرتَن الهندي وأمثاله، فكان هذا الحديث دليلا على كذبهم.
رأي ابن حجر : قال الحافظ في "فتح" في الباري: وقد بين ابن عمر في هذا الحديث مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وأنَّ مراده أن عند انقضاء مائة سنة من مقالته تلك ينخرم ذلك القرن، فلا يبقى أحد ممن كان موجودًا حال تلك المقالة. وكذلك وقع الاستقراء، فكان آخر من ضبط أمره ممن كان موجودًا حينئذ أبو الطفيل عامر بن واثلة، وقد أجمع أهل الحديث أنه كان آخر الصحابة موتا،
وغاية ما قيل فيه أنه بقي إلى سنة عشر ومائة وهي رأس مائة سنة من . النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والله أعلم».
مقالة
قال النووي وغيره: احتجَّ البخاري ومن قال بقوله بهذا الحديث على موت الخضر، والجمهور على خلافه، وأجابوا عنه بأن الخضر كان حينئذ من ساكني البحر، فلم يدخل في الحديث، قالوا: ومعنى الحديث: لا يبقى ممن ترونه أو تعرفونه فهو عام أريد به الخصوص، وقيل احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا: خرج عيسى من ذلك وهو حي، لأنه في السماء لا في الأرض، وخرج إبليس لأنه على الماء أو في الهواء، وأبعد من قال إن اللام في الأرض عهدية، والمراد أرض المدينة والحق أنها للعموم، وتتناول جميع بني آدم، وأما من قال: «المراد أمة محمد، سواء أمة الإجابة وأمة الدعوة، وخرج عيسى والخضر
الحديث الشريف وعلومه
۲۲۳
لأنهما ليسا من أمته فهو قول ضعيف، لأن عيسى يحكم بشريعته فيكون من أمته،
والقول في الخضر إن كان حيًّا كالقول في عيسى والله أعلم . اهـ
وكلام الحافظ ابن حجرٍ نقلته بتمامه لما فيه من الفوائد، والبحوث المتعقلة :
بالخضر كثيرة نكتفي منها بما كتبناه.
رتبة الخضر: الخضر نبي، وهو قول أكثر أهل العلم، حكاه : عنهم البغوي وابن عطية، وحكاه القرطبي وأبو حيان في تفسيريهما عن الجمهور، وقال الثعلبي: «هو نبي على جميع الأقوال».
وذهب جماعة من الصوفية إلى أنه ولي، وهو قول أبي القاسم القشيري في "الرسالة"، وبه قال أبو علي بن أبي موسى من الحنابلة، وأبو بكر بن الأنباري
في كتابه "الزاهر"، بعد أن حكى عن العلماء قولين، هل هو نبي أو ولي؟. وحكى الماوردي قولاً ثالثا؛ أنه ملك من الملائكة يتصور في صورة الآدميين، وقال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية لا ندري هل هو ملك، أو
نبي، أو عبد صالح»؟
والصحيح أنه نبي الأمور:
أحدها: تصريح هذا الحديث الذي نتكلم عليه بنبوته.
ثانيها: أن الله حكى عنه قوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ﴾ [الكهف: ۸۲] أي:
بل فعلته بوحي كما هو الظاهر. ثالثها: أن موسى عليه السلام ذهب يطلبه ويتعلم منه، وغير النبي لا
يكون أعلم من النبي، كيف والنبي يوحى إليه؟
رابعها: أن الخضر عليه السلام خرق السفينة، وقتل الغلام، وهذان أمران
٢٢٤
المقالات والمقدمات
عظيمان لا يمكن أن يقدم عليهما بمجرد الإلهام الذي يلقي في قلوب الأولياء. خامسها ما رواه عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس قال: قال موسى لما لقي الخضر : السلام عليك يا خضر، فقال: وعليك السلام يا موسى، قال: وما يدريك أني موسى، قال: أدراني بك الذي أدراك بي.
وقال وهب بن منبه في "المبتدأ" : قال الله تعالى للخضر: «لقد أحببتك قبل
أن أخلقك، ولقد قدَّستك حين خلقتك، ولقد أحببتك بعدما خلقتك». وروي عن مكحول عن كعب الأحبار قال: أربعة من الأنبياء أحياء أمان لأهل الأرض؛ اثنان في الأرض الخضر وإلياس واثنان في السماء: إدريس
وعيسى".
وقال أبو حيان والجمهور على أنه نبي وكان علمه معرفة بواطن
أوحيت إليه، وعلم موسى الحكم بالظاهر». اهـ ثم كان رسولًا أو لا؟ جاء عن ابن عبّاس ووهب بن منبه، أنه كان نبيا غير مُرسَل وهو قول الجمهور كما تقدم في كلام أبي حيان آنفا، وجاء عن إسماعيل ابن أبي زياد ومحمد بن إسحاق وبعض أهل الكتاب، أنه أرسل إلى قومه فاستجابوا له، ونصر هذا القول أبو الحسن الرُّماني وابن الجوزي، والأول أصح والله أعلم. وصية الخضر: قال الطبراني في "المعجم الأوسط": حدَّثنا محمد بن حدثنا زكريا بن يحيى الوقار، قال: قرئ على عبد الله بن وهب، وأنا أسمع: قال الثوري، قال: مجالد قال : أبو الوداك، قال: أبو سعيد، قال: عمر ابن الخطاب، قال: رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «قال أخي موسى عليه السلام: يا
المعافى:
الحديث الشريف وعلومه
٢٢٥
رب أرني الذي كنتَ أريتَني في السَّفينة فأوحى الله إليه يا موسى إنَّك ستراه، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى أتاه الخضر، وهو فتى طيب الريح، حسن بياض النياب، مشمّرها فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا موسى بن عمران، إنَّ ربك يقرأُ عليك السلام. قال موسى: هو السَّلام وإليه السَّلام ومنه السَّلام، والحمد لله ربّ العالمين الذي لا أُحصي : نعمه ولا أقدر على أداء شكره إلا
بمعونته. ثم قال موسى: أريد أن تُوصيني بوصيَّة ينفعني الله بها بعدك. قال الخضر : يا طالب العلم إنَّ القائل أقل ملالةٌ من المستمع، فلا تُمل جلساءك إذا حادثتهم. واعلم أنَّ قلبك وعاء، فانظر ماذا تحشو به وعاءك. واعزف عن الدُّنيا وانبذها وراءَك، فإنَّها ليست لك بدار، ولا لك بها محل قرار، وإنما جعلت بلغةَ للعباد، والتزود منها للمعاد. ورِض نفسك على الصبر، تخلص من الإثم.
يا موسى تفرغ للعلم إن كنتَ تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له، ولا تكن مكثارًا بالمنطق مهزارًا، فإنَّ كثرة المنطق تُشين العلماء وتُبدى مساوي السُّخفاء ولكن عليك بالاقتصاد فإنَّ ذلك من التوفيق والسداد. وأعرض عن الجهال وباطلهم واحلُمْ عن السفهاء، فإنَّ ذلك فضل الحكماء وزين العلماء، وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلمًا وجانبه حزمًا، فإن ما بقي من جهله عليك وسبه إياك أكثر وأعظم، يا ابن عمران أولا ترى أنك أُوتيت العلم إلا قليلا؟، فإن الاندلاس والتعسف من الاقتحام والتكلُّف، يا ابن عمران لا تفتحن بابا لا تدري ما غلقه، ولا تغلقن بابًا لا تدري ما فتحه... إلخ». والحديث مفصل ويعتبر دستورًا في الوعظ والرقائق
٢٢٦
٣١- سبب النبي ونسبه لا ينقطعان
توجيه حديث: «يا فاطمة اعملي» (۱)
.
المقالات والمقدمات
الله عنه يقول حين تزوج ابنة
عن جابر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي علي رضي الله عنهما ألا تهنوني ؟ سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب إلَّا سَبَبي ونسبي». رواه الطبراني والدارقطني، وقال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير الحسن بن سهل وهو ثقة»، وصححه أيضًا التاج السبكي في أول "طبقات الشافعية الكبرى"، وللحديث مع هذا طرق عن عمر، وابن عباس، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وغيرهم.
قوله: ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب لقوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَدٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: ١٠١].
قوله: «إلا سببي ونسبي أي : فإنه موصول غير مفصول وهذا من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلّم كما ذكره الحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى" ولهذا حرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على زواج ابنة علي رضي الله عنهما - واسمها أم كلثوم - ليكون له من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سـ صهارة ينال به القرب منه يوم القيامة وفي هذا دليل على فضل أهل البيت وأن نسبهم موصول في الدنيا والآخرة وأن في الانتساب إليهم ومصاهرتهم شرفًا وفضلا.
سبب
وليس بين هذا الحديث وحديث: يا فاطمة اعملي .... إلخ تعارض أصلا
(۱) مجلة المسلم، السنة الخامسة، العدد (٢) سنة ١٣٧٤.
الحديث الشريف وعلومه
كما زعمه الجهلة أعداء أهل البيت النبوي الشريف.
۲۲۷
ولفظ هذا الحديث: «يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ أنقذي نفسك من النَّار فإنّي لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئًا». وذا طرف من حديث طويل
ثبت في الصحيحين وغيرهما.
وحاصل الجمع بينه وبين حديث الترجمة من وجوه ثلاثة:
الأول: أن هذا الحديث أخبر بالحقيقة فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يغني عن أحد من الله شيئًا ولا يملك لأهله ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا وهذا لا ينافي أن الله يملكه نفع أقاربه وجميع أمته بالشفاعة الخاصة والعامة وقد فعل فأعطاه عدة شفاعات كما ثبت في الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما فهو لا يملك إلا ما يملكه له مولاه عزَّ وجلّ وقد ملكه الله الشفاعة وغيرها من المكرمات ذكر هذا المعنى الحافظ المحبُّ الطبري في "ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى".
الثاني: أن هذا الحديث كان قبل أن يعلمه الله بأنه ينفع يوم القيامة رحمه وأقاربه بالانتساب إليه دون غيره ذكره السيد السمهودي في "جواهر العقدين" ويؤيده أن الحديث ورد عند نزول قول الله: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين [الشعراء: ٢١٤] وكان ذلك بمكة في أوائل بعث النبي صلى الله عليه
وآله وسلم.
الثالث: أن يكون المقصود من الحديث تحذيرهم من الشرك وأنه لا يملك
لهم من الله شيئًا إن أشركوا أو استمر من كان منهم مشركًا على إشراكه؛ لأن المشرك لا حظ له في الشفاعة. ويؤيد هذا أمور:
۲۲۸
المقالات والمقدمات
أحدها: أن أغلب أقاربه كانوا إذ ذاك مشركين كما يعلم من سبب ورود
الحديث
.
ثانيها: أنه وجه الخطاب إلى جميع أقاربه مؤمنيهم ومشركيهم فوجب أن
يكون على وتيرة واحدة من التحذير من الشرك كما هو واضح.
ثالثها: ما ثبت في الصحيح في قصة وفاة أبي طالب أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال له: «أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله». فأفاد هذا الحديث أنه يملك نفعه ويحاج عنه إذا هو مات على التوحيد. وقد روى أحمد، والحاكم والبيهقي، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر : «ما بال رجالٍ يقولون إنَّ رحم رسولِ الله لا تنفعُ
قومه يوم القيامة؟! بلى والله إنَّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة وإنِّي أيها الناس فرَطٌ لكم على الحوضِ».
فهذا الحديث ورد بالمدينة وقد أنكر فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على من زعم أنه لا ينفع رحمه ولا يملك الشفاعة لهم وقرر أنَّ رحمه موصولة في الدنيا والآخرة وأنه بجانب هذا ينفع أمته أيضًا حيث يكون فرطًا لهم الحوض وهذا يؤيد ما قررناه والحمد الله.
الحديث الشريف وعلومه
۲۲۹
۳۲- حديث: «حياتي خير لكم... ورد من نحو عشرين طريقا (1) معروف أن المتسلّفة يتميزون عن جمهور المسلمين بأشياء؛ منها ادعاؤهم أنهم يعلمون بالسنة في الوقت الذي يخاصمون فيه صاحب السنة، ويكاد أحدهم أن تتفجر جوانبه غيظًا وحقدًا كلما ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصيصة، فترى أحدهم وقد ركب رأسه وراح يدفع هذه الخصيصة الماجدة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كأنما يدفع عنه سُبَّة
و
أو مهانة، وإذا أردت أن ترى الذي يتخبطه الشيطان من المس فاقرأ على
أحدهم حديث: «حياتي خير لكم» فسوف ترى عجبا أي عجب !!
مع
أن دنيا المسلمين مفعمة بما يُسيل دم العين ودم القلب، ولكن واحدا من المتمسلفة لا يعنيه هذا بمقدار ما يعينه أن ينفي ما في حياة الرسول وموته من خصائص ذاتية ومن خير للمسلمين بل وغير المسلمين، فاسمع تحقيق صحة هذا الحديث بمناسبة المولد النبوي الشريف (٢) .
حديث: «حياتي خيرٌ لكم تحدِثُون ويُحدَثُ لكم ومماتي خير لكم تُعرضُ علي
أعمالكم فما رأيتُ من خير حمدت الله، وإن يك سوى ذلك استغفرتُ لكُم». يقول المضللون كذبا وزورا وإن اشتهر على ألسنة كبار الناس وصغارهم فقد خلت منه جميع كتب السنة.
ويقولون: ومع هذا فالذي رواه وقفه على بكر بن عبد الله المزني وهو تابعي مشهور، ومع ذلك لم يذكر فيه الصحابي أحدٌ . من رواة السنة لا في
(1) المسلم السنة الخامسة العدد (۸) محرم ١٣٧٥ .
(۲) هذه الديباجه من المجلة.
۲۳۰
المقالات والمقدمات
صحيح الكتب ولا في ضعيفها وهو منقطع لا يصلح للاحتجاج به. وأقول: الحديث المذكور حديث صحيح لا مطعن فيه ولا مغمز، ورد من
حديث ابن مسعود، وأنس بن مالك، ومن مرسل بكر بن عبد الله المزني. أما حديث بن مسعود رضي الله عنه فخرجه البزار في "مسنده" قال: حدثنا يوسف بن موسى: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب عن زاذان، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله ملائكة سياحين يبلغونَني عن أُمَّتِي السَّلامَ».
تحدثون
قال: وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: حياتي خير لكم ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تُعرض على أعمالكم فما رأيتُ من خير حمدت الله وما رأيتُ من شر استغفرتُ الله لكم».
قال البزار: لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد» . اهـ قال الحافظ العراقي في كتاب الجنائز من "طرح التثريب في شرح
التقريب " : «إسناده جيد».
وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، والمحدث القسطلاني في "شرح البخاري": «رجال إسناده رجال الصحيح.
وقال الحافظ السيوطي في كتاب "المعجزات والخصائص": «إسناده صحيح، وكذا قال علي القاري والشهاب الخفاجي في أول شرحيهما على
" الشفا".
وأما حديث أنس فرواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، وابن عدي في " الكامل" من طريق خراش عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلّم:
الحديث الشريف وعلومه
۲۳۱
حياتي خير لكم تُحدِثون ويُحدث لكم، فإذا أنا مِتُ كانت وفاتي خيرًا لكم؛ تعرض على أعمالكم فإن رأيتُ خيرًا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم » .
قال الحافظ العراقي في "المغني" : إسناده ضعيف لضعف خراش . اهـ قلت: لكن له طريق آخر ، قال الحافظ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم اليونارتي الأصبهاني في معجمه " : سمعت الشريف واضح بن أبي تمام الزينبي يقول: سمعت أبا علي بن تومه يقول: اجتمع قوم من الغرباء عند أبي حفص بن شاهين فسألوه أن يحدثهم أعلى حديث عنده فقال: لأحدثنكم حديثًا من عوالي ما عندي حدثنا عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا شيبان بن فروخ الإيلي: حدثنا نافع أبو هرمز السجستاني: سمعت أنس بن مالك يقول: ، النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «حياتي خير لكم....» الحديث. وخرجه بن النجار في تاريخ "بغداد" عن معمر بن محمد الأصبهاني، عن الحافظ أبي نصر اليونارتي به.
وهذا إسناد ضعيف أيضًا لاتفاقهم على ضعف أبي هرمز.
وعن أنس حديث آخر أخرجه أبو نعيم في "الحلية" قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر: حدثنا أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي: حدثنا محمد بن مصفى حدثنا بقية: حدثنا عباد بن كثير، عن عمران هو القصير، عن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أعمال أمتي تعرضُ عليَّ في كل يوم جمعة، واشتدَّ غضب الله على الزناة».
وأما مرسل بكر بن عبدالله المزني فأخرجه الحارث بن أبي أسامة في
۲۳۲
المقالات والمقدمات
" مسنده " قال: حدثنا الحسن بن قتيبة حدثنا جسر بن فرقد، عن بكر بن عبدالله المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: « حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما كان من حسنٍ حمدت الله، وما كان من سيّئ استغفرت الله لكم ». إسناده ضعيف؛ لضعف الحسن بن قتيبة.
لكن خرجه إسماعيل القاضي المالكي من طريق آخر فقال: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله المزني به
مرفوعًا، وهذا إسناد صحيح صححه الحافظ بن عبد الهادي مع تعنته. وقال أيضًا: حدثنا حجاج بن المنهال : حدثنا حماد بن سلمة، عن كثير أبي
الفضل، عن بكر بن عبد الله به مرفوعًا، وهذا إسناد صحيح أيضًا (۱). وفي الباب عن سعيد الشامي والد عبد العزيز قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تُعرضُ الأعمالُ يومَ الاثنين والخميس على الله وتعرض على الأنبياء وعلى الآباء والأمهات يومَ الجمعة فيفرحون بحسناتهم وتزداد
وجوههم بياضًا وإشراقًا، فاتَّقوا الله ولا تؤذُوا موتاكم». رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" من طريق عبد الغفور بن عبدالعزيز بن سعيد الشامي، عن أبيه، عن جده، وكانت له صحبة، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الغفور
وعن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّكم تعرضون عليَّ بأسمائكم وسيمائِكُم فأحسِنُوا الصَّلاة عليَّ». أخرجه عبدالرزاق.
(۱) وبهذا يذهب ضعف الباب كله مرفوعًا ومرسلًا ومعتضدا.
الحديث الشريف وعلومه
۲۳۳
وبالجملة فالحديث صحيح لا مطعن فيه وهو يدل على أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يعلم أعمالنا بعرضها عليه ويستغفر الله لنا على فعلنا من سيئ وقبيح وقد أخبر الله في القرآن أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شهيد على أمته وذلك يقتضي أن تُعرض أعمالهم عليه ليشهد على ما رأى وعلم. قال ابن المبارك: أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال ابن عمرو أنه سمع
سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا يعرض فيه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته غدوة وعشيا فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم
يقول الله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّتِي بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شهيدا ﴾ [النساء: ٤١] . اهـ
وقال القرطبي في "التذكرة: باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على أمته، ثم أورد أثر سعيد بن المسيب السابق، ثم قال: «قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس، وأنها تعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة»، قال: ولا تعارض فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. اهـ
وروى الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس قال: لما نزلت يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَكَ شَهِدَا ﴾ [الأحزاب: ٤٥] وقد كان أمر عليا ومعاذا أن يسيرا إلى اليمن فقال: انطلقا فبشًرا ولا تُنفّرا، ويسرا ولا تُعسّرا، فإنَّه قد أُنزل علي: يأيُّها النبي إنا أرسلناك شاهدًا على أمتك ومبشّرًا بالجنَّة، ونذيرا من النَّار، وداعيًا إلى
شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسِرَاجًا مُنيرًا بالقُرآنِ».
٢٣٤
فالقرآن كما ترى يؤيد حديث عرض الأعمال ويُعضده.
المقالات والمقدمات
فإن قيل: قد أخبر الله تعالى عن هذه الأمة أنها تشهد على غيرها، ولم يرد في
حديث ولا أثر أن أعمال الأمم تعرض عليها.
فالجواب من وجهين
الأول: أن عرض الأعمال مما خُصَّ به نبينا عليه الصلاة والسلام كما خُصَّ
في قبره بحياة أكمل من حياة الشهداء وبأن جسده لا يبلى.
الثاني: أنه ورد في الصحيحين أن هذه الأمة تشهد على إخبار نبيها وكلامه، وذلك أنها إذا شهدت بأن الأنبياء بلغوا أممهم، فيقال: وما علمكم؟ فتقول: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه.
هكذا صح في الحديث وهو واضح لا خفاء به.
فإن قيل: فما تقول فيما رواه الطبراني وغيره عن محمد بن فضالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أمر قارئًا يقرأ فلما بلغ قوله تعالى : الله فَكَيْفَ إِذَا جئْنَا مِن كُلِّ أُمَّتِم بِشَهِيدٍ ﴾ [النساء: ٤١] بكى حتى اضطرب لحياه وقال: «أي رب شهدت على ما أنا بين ظَهْرَانَيْه فكيفَ بمَنْ لم أَرَ».
فربما يفهم بعض الجهلة من هذا أنه ينفي عرض الأعمال. قلت: هذا الحديث مؤيد لعرض الأعمال لا ناف له بل هو أحد الأسباب
أمته عن
التي لأجلها أكرم الله نبيَّه بهذه الخصوصية حتى تكون شهادته على مشاهدة، وعيان كما أكرمه بعرض أمته مع الأمم الأخرى عليه وهو في المدينة كما ثبت في الصحيحين. أمَّا أنَّ الحديث خلت منه جميع كتب السُّنَّة فهذا كذب وجهل فإن الحديث
الحديث الشريف وعلومه
۲۳۵
موجود في كثير من كتب السنة كـ طبقات ابن سعد"، و"مسند البزار"، و"مسند الحارث" ، وتاريخ النجار"، وطرح التثريب" للحافظ العراقي و"بغية الباحث بزوائد مسند الحارث و مجمع الزوائد" كلاهما للحافظ الهيثمي، و"الجامع الصغير" و"الجامع الكبير" و"الخصائص الكبرى" الثلاثة للحافظ السيوطي، و"شرح البخاري للقسطلاني، و"كنز العمال للمتقي الهندي"، وغيرها.
أما أن راويه وقفه على بكر بن عبد الله المزني فهذا خطأ ناشئ عن جهل فإن مثل هذا لا يسمى موقوفاً، ولا يمكن أن تنطبق عليه حقيقة الموقوف بحال من الأحوال، وإنما تنطبق عليه حقيقة المرسل لا غير.
أما أنه لم يذكر فيه الصحابي أحدٌ من رواة السُّنة لا في صحيح الكتب ولا في ضعيفها فكذب مبني على جهل، فإنَّ الحديث وارد من طريق ابن مسعود
وأنس وورد معناه من طريق سعيد الشامي ومجاهد كما تقدم كل ذلك بل وصلت طرقه إلى عشرين طريقًا.
٢٣٦
المقالات والمقدمات
٣٣- حديث الحوض وحديث عرض الأعمال (۱)
في كتاب "البخاري": "بينما أنا أشقي النَّاسَ على حوضي يُؤتَى بأناس من أمتي يريدون أن يشربُوا فيُحَالَ بيني وبينهم ويؤخَذَ بهم إلى جهة النَّار، فأقول: أصحابي أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ارتدوا على أدبارهم بعدما فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح - يعني عيسى عليه السلام-:
وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾ [المائدة: ١١٧] إلى العَزِيزُ الْحَكِيمُ . يحتج بعض الناس بهذا الحديث على ضعف حديث عرض الأعمال وهو خطأ فإن هذا الحديث قد روى من اثنتي عشر طريقا، أما حديث عرض
الأعمال على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقد ورد من عشرين طريقا، فطرقه أكثر من حديث الحوض.
والمقرر في علم الأصول والمصطلح أن الدليلين المتعارضين لا يُرجح أحدهما على الآخر إلا إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، أما إذا أمكن الجمع بينهما فهو الواجب ولا يجوز العدول عنه إلى ترجيح أو غيره؛ لأن في ذلك إلغاء لدليل شرعي بغير حق وهو حرام، بخلاف الجمع فإن فيه إعمال الدليلين، وطاعتهما جميعا والحديثان هنا غير متعارضين في الحقيقة لإمكان الجمع بينهما وتيسّره.
وبعد: فإليك طريق الجمع بين الحديثين ودفع تعارضهما وقد آثرنا أن ننقله عن بعض أهل هذه الفرقة، فقد ذكر هذا البعض حديث عرض الأعمال من
(1) المسلم السنة السابعة العدد (٤) ذي القعدة ١٣٧٦ .
الحديث الشريف وعلومه
۲۳۷
طريق بكر بن عبد الله المزني فقط، وقال إنه مرسل ليس صحيحًا ولا ثابتا، قال: وقد ضعف بعض المتأخرين هذا الخبر بطريق آخر فقال: إنه معارض لما
هو أصح .
منه وأثبت باتفاق أهل العلم والحديث، وهو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وذكر حديث الحوض نحو ما تقدم، ثم قال: وعندي أن هذا التضعيف ضعيف بأربعة أمور:
الأول: أنه لا تعارض البتة، إذ حديث عرض الأعمال فيه أنه يعلم نفس الأعمال وأنها خير أو شر وأنها منسوبة إلى أمته ولا يلزم أن يعرف أصحاب العمل الصالح بالتعيين والفاسد كذلك، وحديث: «لا تدري ما أحدثوا بعدك فيه أنه يجهلهم أمِنَ الصَّالحين أو الصّالحين ولا ينافي أنه يعلم أن أمته جاءت بعمل صالح أو طالح .
الثاني: وقت الحادثين مختلف، أو يمكن أن يكون مختلفا وحينئذ لا يتحقق التعارض؛ إذ يجوز أن تُعرض عليه الأعمال في البرزخ قبل النشور ويوم القيامة يوم الفزع الأكبر يذهل عنها الا يومَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمَلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: ٢]. قال بعض المفسرين في آية (المائدة): يوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أَجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَمُ الْغُيُوبِ [المائدة: ۱۰۹]: أنهم ينسون ما كانوا يعملون من تفاقم الهول.
الثالث: أن يقال : حديث لا تدري ما أحدثوا بعدك» خاص، وحديث عرض الأعمال عام والخاص مع العام ليس تعارضا، وطريق الجمع بينهما
معلوم.
۲۳۸
المقالات والمقدمات
بعض
الرابع: يمكن أن يقال: خبر «العرض على الإجمال وخبر «لا تدري» على سبيل التفصيل فهو يعلم إجمالاً ولا يعلم تفصيلا، ونحن نعلم حال أهل الإسلام بالجملة ولا نعلمها بالتفصيل. وأضعف هذه الوجوه الوجه الثاني، وأقواها الأخير، حتى إِنَّ العلماء جعله متعيّنا للجمع بين الحديثين المذكورين، وأما الوجه الثالث فهو متجه أيضًا لأن حديث لا تدري ما أحدثوا بعدك» جاء فيه: «ليُذَادَنَّ رجالٌ» وفي رواية «ناس» وفي رواية «أقوام» وكل هذا جموع منكرة واقعة في سياق الإثبات، والقاعدة الأصولية تقرر أن الجمع المنكر الواقع في سياق الإثبات ليس بعام، بخلاف حديث عرض الأعمال، فقد جاء فيه: «تعرض على
أعمالكم". وهذا جمع مضاف والجمع المضاف من صيغ العموم الموضوعة له حقيقة كما تقرر في علم الأصول، وطريق الجمع بين العام والخاص إذا تنافيا أن يحمل العام على الخاص بأن يخصص به، وكيفية ذلك هنا أن يقال: إن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تُعرض عليه أعمال أمته إلا أولئك القوم الذين سبق القضاء بنفوذ الوعيد فيهم بذودهم عن الحوض، فلا تعرض عليه أعمالهم حتى لا يستغفر لهم، فلهذا لم يعلم بحالهم فدعاهم إلى الحوض فقيل له لا تدري ما أحدثوا بعدك.
وبما قررناه ظهر أن لا تعارض بين الحديثين وأن لكل منهما محملا غير محمل الآخر، وتبيَّن أيضًا قصر نظر المتنطعين وخطأ فهمهم وجهلهم المطبق وجرأتهم على الأحاديث النبوية يضرب بعضها ببعض، ويقدم بعضها على
الحديث الشريف وعلومه
۲۳۹
.
بعض بمحض الهوى والتَّشهي وتلك خطة سوء نسأل الله أن يعافينا منها بمنه؛
وبالله التوفيق.
(تنبيه) اختلف العلماء في الرجال الذين يُذَادون عن الحوض اختلافا كبيرًا وأنا أنقل كلام الحافظ ملخّصا، وفيه إشارة إلى صحة حديث عرض الأعمال وكونه أمرًا ثابتاً متقررًا.
قال في "الفتح" في شرح حديث ابن عبّاس الذي فيه: «وإنه سَيُجاءُ برجالٍ من أمتي فيُؤخذُ بهم ذاتَ الشِّمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول الله: إنَّك لا ، ما أحدَثُوا بعدك، فأقولُ كما قال العبدُ الصَّالِحُ : وَكُنتُ عَلَيْهِم إلى
تدري
قوله: الحكيم » قال: «فيقال: إنَّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم». ما ملخصه وقع في ترجمة مريم، قال الفربري، ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم، يعني:
وماتوا على الكفر.
وقال الخطابي: «لم يرتدَّ من الصحابة أحدٌ وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب»، وقال غيره : قيل: هو على ظاهره من الكفر، والمراد بأمتي أمة الدعوة، ورجح بقوله في حديث أبي هريرة: فأقول بعدًا لهم وسُحْقًا»، ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم، ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم، بكون أعمالهم تعرض عليه.
ويرد هذا قوله في حديث أنس وأبي هريرة: «حتى إذا عرفتهم». وقال ابن التين: يحتمل أن يكونوا منافقين أو مرتكبي الكبائر»، وقيل: هم من جفاة الأعراب دخلوا في الإسلام رغبة ورهبة»، وقال النووي: «قيل
٢٤٠
المقالات والمقدمات
هم المنافقون والمرتدون».
وليراجع بقية كلامه في شرح الحديث في باب الحشر من كتاب "الرقاق" والذي أرجحه وأعتمد عليه أن المراد بالحديث الرجال الذين قاتلوا عليا وأهل البيت وناصبوهم العداوة. ومن جمع طرق الحديث وألفاظه وتأملها
بإمعان ظهر له ذلك ظهور الشمس في كبد السماء والله أعلم.
(تنبيه آخر) بعد أن ذكرت الجمع بين الحديثين وما أرجحه في الذين يُذادون عن الحوض رأيت أن أورد إشكالا في معنى حديث الحوض لا يمكن للمتمسلفة جميعا أن ينفكُوا عنه؛ وذلك أن الحديث يفيد أن جماعة من الصحابة
يطردون عن الحوض مع أن الله تعالى عدل الصحابة وأثنى عليهم في كتابه، والجمهور متفقون على عدالتهم جميعًا حتى المجهولين منهم، فكيف يتأتى هذا مع طرد طائفة منهم عن الحوض ؟
فإن حمل الحديث على المرتدين كما رجّحه جماعة، فالخطابي يجزم بأن أحدًا من الصحابة لم يرتد بعده صلى الله عليه وآله وسلم وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نُصرة لهم في الإسلام.
وإن حمل على المنافقين فالنفاق كان على عهده صلَّى الله عليه وآله وسلّم والحديث يقول: «لا تدري ما أحدثوا بعدك».
وإن حمل على المبتدعة فالمبتدعة ليسوا أصحابه لأنهم أحدثوا بعده. وإن حمل على من حاربوا عليًّا عليه السلام فالأشاعرة والماتريدية لا يرضون هذا، ويرون أن أولئك المحاربين كانوا مجتهدين مخطئين.
وإن حمل على أمة الدعوة والعصاة من أمة الإجابة فالحديث ينافي ذلك
الحديث الشريف وعلومه
٢٤١
لأنَّه يصرح بأنهم أصحابه يعرفهم ويعرفونه وأنه يناديهم بأسمائهم. ثم كيف يتبرأ من أصحابه ويقول في حقهم: «سُحْقًا سُحْقًا» وهو صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يتبرأ من عصاة أمته ؟! بل يشفع لهم ويسعى في خلاصهم
بعد دخولهم النار.
فالحديث مشكل جدًّا حتى أن الإمام مالكًا ندم على روايته في "الموطأ"
وقال: «ليتني لم أروه ولم يكتب عنِّي نقله الأبي في "شرح مسلم". وما ندم مالك على روايته إلا لما فيه من الأخبار بتبديل الصحابة وتبرؤ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم منهم، وذلك يخالف القرآن والسنة المتواترة وما اتفق عليه جمهور العلماء.
فأحسن محامل حديث الحوض على مذهب الجمهور أن يكون من المتشابه الذي يترك معناه إلى الله، بخلاف حديث عرض الأعمال فإنه مع صحته مؤيد بالقرآن والسنة المستفيضة ومذاهب جمهور العلماء، فأين يذهب الناصبية
المتنطعون؟!
٢٤٢
المقالات والمقدمات
٣٤- ما ورد في ليلة النصف من شعبان (۱)
بمناسبة شهر شعبان المبارك رأينا أن نتكلم على ما ورد في فضل ليلة النصف منه، وقيامها، والدعاء فيها، وما إلى ذلك على سبيل الإيجاز. ولم نر أن نتعرض لما ورد في فضل صيام الشهر نفسه؛ لأن استحباب ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم معروف ومشهور.
ففي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استكمل صيام شهر إلا رمضان،
وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان». وفيهما أيضًا: قالت: لم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله وكان يقول: «خُذوا من العمل ما تُطِيقُون فإنَّ الله لا يَملُّ حتّى تملوا». وكان أحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلّم ما دووم عليه وإن قلت، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها. وعن أسامة بن زيد، وأمّ سلمة وأنس رضي الله عنهم كلها بأسانيد جيدة. فمما ورد في ليلة النصف من شعبان ما رواه الطبراني، وابن حبان في "صحيحه" عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطَّلع الله إلى جميع خلقه ليلةَ النّصف من شعبان فيغفِرُ الجميع خلقه إِلَّا الله
لمشرك أو مشاحِنٍ». ورواه ابن ماجه من حديث أبي موسى وإسناده ضعيف
لأن فيه ابن لهيعة وغيره.
(۱) مجلة الإسلام السنة الخامسة العدد (٣٢) ١٤ شعبان ١٣٥٥.
الحديث الشريف وعلومه
٢٤٣
ورواه البزار والبيهقي وابن زنجويه من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه أو عمه ، عن جده أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ينزلُ الله إلى السَّماء الدُّنيا ليلةَ النّصف من شعبان فيغفر لكل نفس إلَّا إنسانًا في قلبه شَحْناءُ، أو مشركا بالله». أشار له الحافظ
المنذري في الترغيب والترهيب" وقال: إسناده لا بأس به.
وروى البيهقي من طريق مكحول، عن كثير بن مرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «في ليلة النصف من شعبان يغفر الله عزَّ وجلَّ لأهل الأرضِ
إلا مشركًا أو مشاحنا». قال البيهقي: «هذا مرسل جيد.
ووصله هو والطبراني من طريق مكحول ، عن أبي ثعلبة الخشني: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «يطَّلع الله إلى عباده ليلةَ النّصف . من شعبان فيغفر للمؤمنين، ويُمهِلُ الكافرين، ويدعُ أهل الحقد بحقدِهِم حَتَّى يَدَعُوهُ» أي: يتركوه. قال البيهقي: وهو أيضًا بين مكحول وأبي ثعلبة مرسل
جيد» . اهـ
لأن مكحولا لم يسمع من أبي ثعلبة وروى أحمد بإسناد لينه الحافظ المنذري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: يطلع اللهُ عزَّ وجلَّ إلى خلقِهِ ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا لاثنين مشاحن وقاتل نفس
وروى البيهقي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إذا كان ليلةُ النّصْفِ من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فلا يَسأَلُ أَحدٌ إِلا أُعطي، إلا زانية
٢٤٤
المقالات والمقدمات
بفرجها أو مشرك».
وروى ابن ماجه عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا كَانَتْ لَيْلَةُ النَّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلاَ مُبْتَى فَأُعَافِيَهُ، أَلَا كَذَا، أَلَّا كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ». وهذا حديث ضعيف جدا في سنده ابن أبي سبرة - بفتح
المهملة وسكون الموحدة- منكر الحديث بل اتهم بالوضع.
وروى ابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه والبيهقي عن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال : « يا عائشة أكنتِ تخافين أن يحيفَ اللهُ عليكِ ورسوله؟ قالت ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: « إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزل ليلةَ النّصفِ مِنْ شعبان إلى السَّماءِ الدُّنيا فيغفرُ
لأكثرَ مِنْ عِدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبِ».
وروى البيهقي بإسناد ضعيف عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فوضع عنه ثوبيه ثم لم يستتم أن قام فلبسها، فأخذتني غيرة شديدة، فظننت أنه يأتي بعض صويحباتي، فخرجت أتبعه فأدركته بالبقيع - بقيع الغَرْقَدِ - يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والشُّهداء فقلت: بأبي وأمي أنت في حاجة ربك وأنا في حاجة الدُّنيا، فانصرفت فدخلت حجرتي ولي نفس عال ولحقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «ما هذا النَّفَسُ يا عائشة ؟ قلت بأبي وأمي أتيتني فوضعت عنك ثوبيك ثم لم تستتم
الحديث الشريف وعلومه
٢٤٥
أن قمت فلبستهما فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنك تأتي بعض صويحباتي حتى رأيتك بالبقيع تصنع ما تصنع. فقال: يا عائشة أكنتِ تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ أتاني جبريل عليه السَّلامُ فقال: هذه ليلةُ النّصف من شعبان والله فيها عتقاء من النَّار بعدد شُعورِ غَنَم كلْبٍ، لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مُسْبل، ولا إلى عاق لوالديه، ولا إلى مُدمن خمر. قالت: ثم وضع عنه ثوبيه فقال لي: «يا عائشة تأذنين لي في قيام
هذه الليلة».
قلت: نعم بأبي وأمي، فقام فسجد ليلًا طويلا حتى ظننت أنه قبض فقمت التمسته ووضعت يدي على باطن قدميه فتحرَّك ففرحت وسمعته يقول في سجوده: «أعوذُ بعفوك من عقابِكَ وأعُوذُ برضاك من سَخَطِكَ، وأعُوذُ بكَ منك، جلَّ وجهك لا أُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». فلما
أصبح ذكرتهن له. فقال: «يا عائشةُ تَعلَّميهن وعلميهن فإنَّ جبريل عليه السَّلامُ عَلَّمَنِيهُنَّ وأَمَرَنِي أَنْ أُردَّدَهنَّ فِي السُّجُودِ».
وروى البيهقي عن العلاء بن الحرث أن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد ،قبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك فرجعت فسمعته يقول في سجوده: «أعوذُ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
فلما رفع إلي رأسه من السجود و فرغ من صلاته قال:
٢٤٦
المقالات والمقدمات
يا عائشة - أو يا مُحَميراء (۱) - أظننت أنَّ النبيَّ قد خَاسَ بِكِ؟ قلت: لا والله يا رسول الله ولكنني ظننت أنك قبضَتَ لطول سجودك. فقال: «أتدرين أي ليلة هذه؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «هذه ليلةُ النَّصف من شعبان إنَّ الله عزّ و جلّ يطّلع على عبادِهِ في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهلَ الحِقْدِ كما هُم».
قال البيهقي: هذا مرسل جيد. يعني: أنَّ العلاء لم يسمع من عائشة (٢) قال:
ويحتمل أن يكون العلاء أخذه من مكحول، يعني: فيكون متصلاً.
وروى البيهقي عن عائشة قالت: كانت ليلة النصف من شعبان ليلتي وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عندي فلما كان في جوف الليل فقدته فأخذني
ما يأخذ النساء من الغيرة، فتلفّعت بمرطي، فطلبته في حجر نسائه فلم أجده. فانصرفت إلى حجرتي فإذا أنا به كالثوب الساقط و هو يقول في سجوده سجد لك خيالي و سوادي و آمنَ بكَ فُؤادي، فهذه يدي وما جنيتُ بها على نفسي يا عظيمُ يُرجَى لكلِّ عظيم يا عظيم اغفِر الذَّنب العظيم، سجد وجهي للذي خلَقَه وشَقَّ سمعه وبصره».
(۱) بهذا ونحوه يبطل قول من زعم أن كل حديث ذكر فيه لفظ الحميراء فهو باطل، ولا شك أن هذا الإطلاق باطل. نعم حديث «خذُوا شَطْرَ دِينِكُم عن هذه الحميراء» يعني: عائشة لا أصل له كما قال الحافظ وغيره، وإن احتج به الإسنوي في "شرح المنهاج" وغيره ممن ليس لهم خبرة بهذا الشأن. (۲) فهم بعض من كتب في هذا الموضوع بـ "مجلة هدى الإسلام" في السنة الماضية من عبارة البيهقي أنه يريد المرسل بمعناه المشهور فقابلته مصادفة، وأفهمته المراد، وأخيرًا
اعترف بعد الجاج وعناد، ونبه عليه في عددٍ آخر لكن لم يذكر من أرشده إليه.
الحديث الشريف وعلومه
٢٤٧
ثم رفع رأسه، ثم عاد ساجدًا فقال: «أعوذُ برضاك من سخطك و أعوذُ بعفوك من عقابِكَ وأعوذُ بِكَ منكَ أنتَ كما أثنيت على نفسك، أقول كما قال أخي داود أعَفِّر وجْهيَ في التُّراب لسيّدي وحق له أن يسجد» ثم رفع رأسه
فقال : « اللهم ارزقني قلباً تقياً من الشر نقيا لا جافيًا و لا شقيا».
ثم انصرف فدخل معي في الخميلة ولي نفس عال فقال: «ما هذا النَّفْسُ يا لحميراءُ؟» فأخبرته. فطفق يسمح بيده على ركبتي، و هو يقول: «ويحَ هاتين الركبتين ما لقينا في هذه الليلة، هذه ليلةُ النّصف من شعبان، ينزل الله فيها إلى السَّماء الدنيا فيغفر لعباده إلا المشرك أو المشاحن». هذا ما حضرنا من الأحاديث الواردة في فضل قيام ليلة النصف من شعبان، وأن الدعاء فيها مستجاب، وهي كما ترى ليس فيها تعيين صفة ذلك القيام من كونه صلاة أو غيرها، وعدد ركعاتها، وما يقرأ فيها، فيسن لطالب الخير إحياء هذه الليلة بأنواع الطاعات من صلاة وتلاوة قرآن ودراسة علم نافع، ودعاء له وللمسلمين بما فيه صلاح دنياهم وخير آخرتهم، وغير ذلك من أنواع القربات.
فأما ما روي عن علي عليه السلام قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة النصف من شعبان، قام فصلى أربع عشرة ركعة، ثم جلس بعد الفراغ، فقرأ بأم القرآن أربع عشرة مرة، و "قل هو الله أحد" أربع عشرة مرة، و"قل أعوذ برب الفلق" أربع عشر مرة، وقل أعوذ برب الناس" أربع عشرة مرة، وآية الكرسي مرة، و لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوكَ مِنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [التوبة: ۱۲۸] الآية. فلما فرغ من صلاته سألته عما رأيت من صنيعه، قال: «من صنع مثل الذي
٢٤٨
المقالات والمقدمات
رأيت، كان له كعشرين حجّة مبرورة، وصيام عشرين سنة مقبولة، فإنَّ أصبح في ذلك اليوم صائما كان له كصيام سنتين سنة ماضية، وسنة مستقبلة». فهذا حديث موضوع، نصَّ على وضعه مخرجه البيهقي وغيره.
وكذا ما روي عن علي عليه السلام مرفوعا: من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب ، و(قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة، قضى الله له كل حاجة يطلبها تلك الليلة. قيل: يا رسول الله وإن كان الله جعله شقيًّا أيجعله سعيدًا؟ قال: والذي بعثني بالحق يا علي إنه
مكتوب في اللوح فلان ابن فلان خلق شقيًّا، فيمحوه الله ويجعله سعيدًا». وذكر حديثًا طويلا في فضلها، وهو أيضا موضوع نص عليه ابن الجوزي
وغيره. وكذا ما ذكره الغزالي في "الإحياء" عن الحسن قال: حدثني ثلاثون من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «أن من صلى في هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة، وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة». هو أيضًا حديث باطل كما صرح به الحافظ العراقي.
وكذلك ما شاع بين الناس من الدعاء يوم النصف من شعبان بعد صلاة المغرب وقراءة يس ثلاث مرات زاعمين أن الأولى للبركة في العمر، والثانية للبركة في الرزق، والثالثة لحسن الخاتمة (۱).
(۱) مستندين في ذلك الحديث: «يس لما قرئت له وهذا الحديث لا أصل له، كما قال الحافظ السخاوي، وفي معناه حديث موضوع ذكرناه في مقالنا - نقد وإجابة -قال السخاوي: «وهو - أي: الحديث السابق بين جماعة الشيخ إسماعيل الجبرتي باليمن قطعي للتجربة».
الحديث الشريف وعلومه
٢٤٩
لا أصل البتة لشيء من ذلك في كتب السنة النبوية، كما جزم به خاتمة المحدثين النقاد السيد محمد مرتضى الزبيدي الحسيني، وقال: إنما هو من عمل المشايخ، نعم وردت جمل من ذلك الدعاء عن بعض الصحابة موقوفة، كما في "تفسير ابن جرير" وغيره عند قوله تعالى في آخر (سورة الرعد): يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَبِ ﴾ [الرعد: ٣٩].
والقول بأن ليلة النصف من شعبان هي الليلة المباركة التي قال الله فيها: إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَرَكَةِ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [الدخان: ٣]؛ قول روي عن عكرمة واحتج له بما جاء في بعض الأحاديث أن الآجال تنسخ في شعبان حتى أن الرجل يتزوج وقد رفع اسمه فيمن يموت، وأن الرجل يحج وقد رفع اسمه
فيمن يموت.
والصحيح الذي تضافرت به الروايات أن الليلة المباركة هي ليلة القدر بل جاء ذلك في القرآن صريحا قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1] وقال جل ثناؤه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ ﴾ [البقرة: ١٨٥] فاستفدنا من
الآيتين أن القرآن أنزل في ليلة القدر من شهر رمضان وهذا قول الجمهور. وأما الأحاديث التي استدل بها لقول عكرمة فهي أحاديث ضعيفة لا تعارض النصوص الصحيحة، وأمثلها حديث عائشة عند أبي يعلى فإن إسناده حسن أو قريب منه، ومع ذلك قال الحافظ المنذري: «إن متنه غريب». وهو كما قال، والله أعلم.
٢٥٠
المقالات والمقدمات
٣٥- شرح حدیث شریف (۱)
روينا بالسند المتصل إلى أبي بكر محمد بن الفرج الأزرق قال: في جزء من
حديثه: حدثنا ابن جريج عن عطاء، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قُولوا خيرًا؛ قُولوا سبحان الله وبحمده، فبالواحدة عشرة وبالعشرة مائةٌ، وبالمائة ألف ومن زاد زاده الله عزَّ وجلَّ، ومن استغفر غفر الله له، ومن حالت شفاعته دون حد من حدودِ الله فقد ضادَّ الله في ملكه، و من باهَتَ مؤمنًا أو مؤمنةً حُبس في ردْغَة الخَبَال حتَّى يخرجَ مما قال، ومن مات وعليه دين أخذ من حسناته ليس ثَمَّ دينار ولا درهم حافظوا على ركعتي الفجرِ فإِنَّ فيهما الرغائب».
الشرح والبيان
الخير»: اسم جامع لكل ما يستحسن شرعًا أو عادة.
فقوله: «قولوا خيرًا» أمر بتعويد اللسان على نطق الخير والبعد عن اللفظ النابي وقول الفحش، فلا يخاطب الإنسان صاحبه إلا بأحب الألفاظ وأحسنها كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يفعله فإنه كان ينادي أصحابه بأحب أسمائهم، ومن له كنية ناداه بها احتراما له واستجلابًا لحبه ومودته، وكان صلى الله عليه وآله وسلَّم يُغيّر الأسماء القبيحة بالأسماء الحسنة، وهذه الجملة من الحديث توافق قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: ۸۳] إلا أن الآية
خاصة في مخاطبة الناس بعضهم بعضًا والحديث عام في ذلك وغيره.
(۱) مجلة الشرق العربي السنة الثالثة، العدد (٤٠) ١٨ جمادى الأولى ١٣٦٨ .
الحديث الشريف وعلومه
٢٥١
وفي أواخر "الموطأ" عن يحيي بن سعيد: أن عيسى عليه السلام لقي خنزيرا في الطريق فقال له عيسى اذهب بسلام فقيل له: أتقول هذا الخنزير ؟ فقال : إني أكره أن أعود لساني النطق بالسُّوء
ويشبه هذا ما ذكره تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" في ترجمة والده تقي الدين السبكي أنه أي تاج الدين - كان قاعدًا في دهليز بيته مع جماعة من أهل العلم ينتظرون والده - تقي الدين وكان اليوم مطيرًا فمر به کلب مبتل بالمطر فقال له تاج الدين اذهب يا كلب، وذلك خوفا من أن ينجسه ببلله. فسمعه والده فقال له: أثمت فيما قلت. قال تاج الدين: قلت له: أليس هو كلبا ؟ قال: نعم، ولكنك أخرجت الكلمة مخرج الاحتقار والازدراء ولا يجوز احتقار مخلوق الله تعالى.
.
قال تاج الدين: فاستفدنا من هذا أن الإنسان إذا تكلم بلفظ قصد به
الاحتقار فإنه يكون آتما في ذلك بحسب قصده ولو كان ما قاله حقيقة. والمقصود أن نطق الخير واستعمال الألفاظ الحسنة اللائقة مطلوب شرعًا إلا في حق من لا يستحق ذلك من الناس مثل الفاسق المجاهر بفسقه ومن في
معناه.
وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «قولوا سبحان الله وبحمده» هذا اللفظ من جملة الخير المأمور به أولا فهو تخصيص بعد التعميم خصصه بالذكر لتأكد فضله وعظم ثوابه لأن هذا اللفظ يشتمل على معنيين هما خلاصة التوحيد إذ معنی «سبحان الله تنزيه الله عن كل نقص لا يليق به مما وصفه المشركون به كالشريك، والولد، والصاحبة والجسمية، ونحو ذلك فقول القائل: سبحان الله
٢٥٢
المقالات والمقدمات
معناه: أنزه الله عن كل ما لا يليق به.
ومعنى وبحمده»: إثبات كل كمال الله تعالى. والتوحيد ينحصر في هذين
الوصفين؛ تنزيه الله عن النقائص، ووصفه بالكمالات.
.
ولهذا ورد ترغيب كثير في هذا الذكر ففي الحديث الصحيح: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحانَ الله العظيم. وهذا الحديث هو آخر حديث في "صحيح
البخاري". وفي حديث آخر صحيح أيضًا: وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، أي ثواب هذين اللفظين يملأ الفراغ بين السماء والأرض. وقوله: «فبالواحدة عشرة، وبالعشرة مائةٌ، وبالمائة ألف». بيان لبعض ثواب هذه الكلمة وهو على أساس أن الحسنة بعشر أمثالها، كما قال تعالى: مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: ١٦٠] وقد يزيد الله في الثواب
بحسب قوة إخلاص القائل، وصفاء قلبه وشدة يقينه. وقوله: «ومن زادَ َزادَه الله عزّ وجلَّ ترغيب في الإكثار من ذكر هذه الكلمة. فإن الإنسان إذا علم أنَّ الحسنة تضاعف بعشر أمثالها وأنه كلما زاد منها زاده الله ثواباً مضاعفا عليها كان ذلك حافزا له على الإكثار من الطاعة خصوصًا إذا كانت سهلة لا تكلف كبير مشقة مثل هذه الكلمة «سبحان الله
وبحمده».
ومن استغفر غفر الله له الاستغفار في عرف الشرع كناية عن التوبة؛ لأن
الحديث الشريف وعلومه
٢٥٣
الاستغفار يقارنها دائما والمراد أن الإنسان إذا استغفر من ذنبه تائبا إلى الله منه عازما على عدم العودة إليه نادمًا على ما فرط من فعله غفر الله له لأنه قد تاب توبة نصوحًا وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ [الشورى: ٢٥] أما مجرد الاستغفار باللسان مع عدم عقد التوبة بالقلب فإنه لا يفيد بل ربما يأثم صاحبه لما ورد أن المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه. ومن حالت شفاعته دون حد من حدودِ الله فقد ضاد الله في ملكه : يعني : أن الإنسان إذا شفع في شخص استوجب عقوبة شرعية فلم : بسبب شفاعته كان مضادا لله في ملكه لأن الله أمر بتنفيذ العقوبة فيمن يستحقها فمن عمل على عدم تنفيذها بشفاعة أو غيرها فقد خالف أمر الله وتعرض لغضبه وعقابه.
تنفذ فيه العقوبة
وقد ورد عن صفوان بن أمية أنه كان نائما في المسجد فسرق شخص منه شملة كان متوسدَها فأمسك به وأخذه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فلما ثبتت عليه السرقة أمر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بقطع يده قال صفوان: ، فأخذتني الشفقة وقلت: هي ! له يا رسول الله أي قد سمحت له فيها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «كان هذا قبل أن تأتيني». يعني: أن الحد إذا وصل إلى الإمام الحاكم وجب تنفيذه ولا يسقطه مسامحة صاحب الحق ولا شفاعته ولا غير ذلك، وأيضًا فإن الشفاعة فيمن يستحق العقوبة تساعد على انتشار الإجرام واتساع الفوضى ولذلك أوجب الشارع إقامة الحد وعدم قبول أي عذر في إبطاله.
ومن باهتَ مؤمنًا أو مؤمنةً حُبس في ردغَةِ الخَبَالِ حَتَّى يخرجَ مما قالَ».
٢٥٤
المقالات والمقدمات
البهت: القول الباطل يعني: أنَّ من نسب إلى مؤمن أو مؤمنة قولا أو فعلا لم يصدر منه كان جزاؤه عند الله أن يحبس في ردغة الخبال يوم القيامة، وأصل الردعة الطين والوحل الكثير والخبال الهلاك والمراد بردغة الخبال هنا: عُصارة أهل النار كما جاء مفسرا في حديث آخر .
وهذه العقوبة جعلها الله لشخصين:
أحدهما: هذا وهو الذي يبهت المؤمن أو المؤمنة بما لم يقل أو لم يفعل. والثاني: شارب الخمر فإنه إذا مات لم يتب منها سقاه الله من ردغة الخبال ومن مات وعليه دين أخذ من حسناته ليس ثُمَّ دينار ولا درهم». يعني: أن الإنسان إذا مات وعليه دين لأحد الأشخاص لم يؤده له فإن صاحب الدين يأخذه يوم القيامة من حسناته لأنه ليس هناك دينار ولا درهم يقضي به دينه وإنما هي الحسنات والسيئات فمن كانت له حسنات أخذ منها بقدر ما عليه من الحقوق، ومن لم تكن له حسنات أو كانت ونفدت بسبب الحقوق التي عليه وبقيت حقوق أخرى أخذ من سيئات أصحاب الحقوق وصُمَّت إلى سيئاته ثم طرح في النار.
وهذا الحكم عام في كل من عليه حق سواء كان دينا أو عرضا أو غير ذلك، وقد ورد في الحديث أن الإنسان إذا كان عليه دين وهو ينوي أداءه ثم مات قبل أن يتمكن من الأداء فإن الله يؤديه عنه يوم القيامة، وإن كان عليه دين لا ينوي أداءه لصاحبه بعثه الله سارقا يوم القيامة. وكذلك ورد في الحديث
أيضا أن من تزوج امرأة على مهر لا ينوي أداءه لها بعثه الله زانيًا يوم القيامة. فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان يجتهد في أداء ما عليه من الحقوق
الحديث الشريف وعلومه
٢٥٥
وينوي أداءها لأصحابها ويعزم على ذلك وإذا لم يتمكن لموت أو غيره فإن الله
تعالى يعلم عذره ويؤديه عنه.
«حافظوا على ركعتي الفجرِ فإنَّ فيهما الرغائب». ركعتا الفجر هما سنة الصبح، والرغائب جمع رغيبة والرغيبة الشيء الواسع، والمراد به هنا الثواب الواسع الكثير. وهذا الحديث وما في معناه مستند المالكية في تسمية سنة الصبح رغيبة وليس عند المالكية سنة تقضى غير ركعتي الفجر فإنهما تقضيان إلى الزوال قال ابن عاشر في "المرشد المعين " :
فَجْرٌ رَغِيبة وتُقضَى للزَّوال والفَرْضُ يُقضَى أبدا وبالتوال هذا بعض ما يشتمل عليه هذا الحديث من الأحكام والأخلاق والآداب
وما من جملة من جمله إلا وهي مؤيدة بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية، والله
أعلم.
٢٥٦
٣٦- شرح حديث شريف
منزلة السنة في التشريع (1)
المقالات والمقدمات
عن المقدام بن معدي كرب قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أشياء يوم خيبر من الحمار الأهلي وغيره، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلّم: يوشِكُ أَنْ يقعُدَ الرَّجُلُ منكُم على أرِيكَتِهِ يُحدث بحديثي فيقولُ: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحلَلْناه وما وجَدْنا فيه حرامًا حرَّمناه، وإنما حرم رسول الله مثل ما حرم الله». رواه أبو داود، والبيهقي، وغيرهم بإسناد
صحيح.
هي
الشرح والبيان
ثبت في روايات أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم يوم كل ذي ناب من السباع - والمجثّمة - بضم الميم وفتح الثاء المثلثة المشددة: الحيوان الذي يمسك ويجعل غرضًا يرمى بالسهام ولحوم البغال، وكل ذي مخلب من الطير والخلسة - بضم الخاء وسكون اللام - هي الفريسة يستنقذها الرجل من الذئب أو السبع فتموت قبل تزكيتها، فهذه المحرمات هي المشار إليها بأشياء في هذا الحديث. ولا خلاف بين المسلمين في أن السنة المطهرة مثل القرآن، وأنها تستقل الأحكام وبيان الحلال والحرام، وأن طاعتها والانصياع إليها فرض
بتشريع
لازم بدون قيد ولا شرط.
وما يروى عن ثوبان وغيره أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «اعرضُوا
(1) الشرق العربي السنة الثالثة العدد (٤٢) ٢ جمادى الآخرة ١٣٦٨ .
الحديث الشريف وعلومه
٢٥٧
حديثي على القرآن فما وافقه فهو منّي وما خالفه فليس مني». باطل باتفاق حفاظ الحديث، نذكر منهم الإمام الشافعي، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن حزم، وزاد ابن مهدي الحافظ العلم أنه من وضع الزنادقة، وقد اغتر بهذا الحديث الباطل صاحب كتاب "حياة محمد" فجعله أساسا لبحثه في قبول الأحاديث، وردها في كتابه المذكور وهو لا يدري بطلان بحثه
والحديث الذي نشرحه اليوم من أعلام النبوة، إذ هو من جملة المغيبات التي أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بوقوعها بعده فوقعت كما أخبر، والمغيبات التي أخبر بها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كثيرة جدا بلغت حد التواتر على جميع الاصطلاحات، وهي منتشرة في كتب الصحاح والسنن
وغيرها.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الطبراني وغيره: «إنَّ الله رفع لي
الدنيا فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها كما أنظر إلى كفّي هذه». وروى أحمد وغيره بإسنادٍ صحيح عن أبي ذر قال: «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما». وورد من ذلك عن أبي الدرداء أيضًا. فالذين ينكرون علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمغيبات مخطئون في إنكارهم " لأن النصوص المتواترة ترد عليهم وتنبذ دعواهم، وإذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بشيء فلابد أن يكون صحيحا، ولابد أن يقع كما أخبر وارتكاب التمحلات الباردة لردّه بتأويل أو غيره خطة السوء نعوذ بالله منها. بعد هذه المقدمة الوجيزة نعود إلى الكلام عن شرح الحديث فنقول :
٢٥٨
المقالات والمقدمات
أخبر المقدام بن معدي كرب أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حرم يوم خيبر الحمار الأهلي وغيره، وقد ورد في حديث آخر أن الصحابة ذبحوا يوم خيبر حمرًا أهلية ووضعوها على النار يُنضجونها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإكفاء القدور بما فيها، وأخبرهم بتحريم أكلها هي وكلُّ ذي ناب من السباع كالذئب ،والأسد، وكل ذي مخلب من الطير كالنَّسر والصقر والبازي ولحوم البغال، وغير ذلك.
وورد في حديث خالد بن الوليد أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حرم في
هذا اليوم - يعني يوم خيبر - لحوم الخيل أيضًا.
وقد اختلف العلماء في الأشياء المحرمة في هذا الحديث:
فالشافعية قالوا بتحريمها كلها ما عدا الخيل لأن الرواية بتحريمها ضعيفة، وقالوا: بإباحة أكلها واحتجوا بالحديث الصحيح عن أسماء قالت: «أطعمنا رسول الله فرسا»، وبحديث جابر الصحيح: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا».
والمالكية: وافقوا على تحريم الخيل والبغال والحمير والمجثمة والخلسة، وقالوا بكراهية كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، إلا ابن
عبد البر منهم فإنه وافق الشافعية في تحريم السباع والطيور ذوات المخالب. وأجابوا عن حديث إباحة أكل الخيل بأنه واقعة عين لا تدل على العموم، إذ يجوز أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أباح لهم أكل الخيل لظروف خاصة كأن كانوا في سفر ولم يجدوا غير الخيل يأكلونها.
واحتجوا على كراهية السباع والطيور بأن الله تعالى قال: ﴿ قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا
الحديث الشريف وعلومه
٢٥٩
أُوحِيَ إِلَى مُحرّ ما عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ﴾ [الأنعام: ١٤٥] وحملوا التحريم في الحديث
المذكور على الكراهية. والذي أراه في هذا الباب أن مذهب الشافعية أقوى إذ الدليل يؤيدهم وما أجاب به المالكية لا يسلم من بحث ومناقشة، ثم إنه لما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هذه الأشياء وهي غير محرمة في القرآن أراد أن يبين أن تحريمه من قبل تحريم القرآن كما قال في آخر الحديث: «وإنَّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله».
ومثل التحريم غيره، فما فرضه رسول الله مثل ما فرضه الله، وما أباحه رسول الله مثل ما أباحه الله، لأن الرسول مبلغ عن الله لا ينطق عن الهوى، وسنته وحي غير متلو، ولهذا قال في حديث آخر صحيح: «ألا وإنّي أوتيتُ القرآن ومثله معه». قال العلماء مثل القرآن الذي أوتيه هو الأحاديث المعبر عنها بالسنة.
ثم أخبرنا صلَّى الله عليه وآله وسلم على سبيل التحذير والتنبيه بقوم يأتون بعده يقتصرون على القرآن ويتركون حديثه وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يوشك أن يقعد الرجل على أريكته يحدث - بفتح الدال المشددة، أي يحدثه الثقة بحديثي - فيقول بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه. يعني: أن هذا الشخص المتكبّر يأتيه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأبى قبوله ويتمسك بالقرآن وحده، ولا شك أن التمسك بالقرآن دون الرجوع إلى السُّنَّة في بيان عمومه وخصوصه ومطلقه ومقيده وغير ذلك،
٢٦٠
المقالات والمقدمات
مما وكل تفسيره إلى السنة ابتداع وضلال.
وقد ظهرت نشأة اليوم تسير على هذه الخطة المعوجة، وتحارب السنة بطرق شتّى يخال الناظر إليها أنها طرق علمية سليمة، ولكن فيها السم الزعاف، فتارة يلجئون إلى رد الحديث بأنه من الإسرائيليات، وتارة بأنه آحاد والمطلوب التواتر وتارة بأن الكثير من العلماء على خلافه وتارة بأنه يحتمل وجوه من الاحتمالات العشرة التي ابتدعها المتأخرون وتوسعوا فيها توشعا غير مرضي، إلى غير ذلك من الحيل والألاعيب والله يعلم ما يسرون ويعلم ما يقصدون من ذلك
والعجيب في أمرهم أن الواحد منهم إذا عرض له حديث وافق عقله ورآه متمشيا مع منطقه احتج به ولا يهمه أن يكون ضعيفا أو موضعا، حتى إذا ما جاء حديث يخالف هواه لجأ إلى حيله السابقة واستعرضها ليأخذ منها ما يراه صالحا لدفع ما خالف هواه.
والأمثلة على ما قلناه كثيرة لا بأس أن نشير إلى شيء منها :
فهذا كاتب كتب في قصص الأنبياء كتابًا ضخما لا يأتيه حديث يتعلق بقصة نبي من الأنبياء إلا ورده بلسان طلق وعبارة ذلقة، وهو يعلم أن الحديث في الصحيحين أو أحدهما، وهو يتذرّع في رد الأحاديث بالورع والاحتياط كأنه أورع من البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم من أئمة الدين، وفي الوقت
نفسه لا يتورع أن يستشهد على رأي رآه بما جاء في التوراة أو الإنجيل. انظر إليه حينما عرض لبيان صهر موسى عليه السلام هل هو شعيب عليه السلام أو غيره؟ فإنه بعد أن ذكر قول الأكثر بأنه شعيب عقب بقوله: «لم
الحديث الشريف وعلومه
٢٦١
تطاوعني نفسي أن أقول هو شعيب وتمثل لي شيخ المعرة يقول -يعني: أبا
العلاء المعري-:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى إني أخافُ عليكمو أن تلتقوا قال الكاتب الورع وخفت أن يلبيني - أي: يأخذ بتلابيبي- شعيب إلى الله يوم القيامة، ويقول: يا رب سل هذا لم جعلني صاحب موسى؟ ولم أكن صاحبه ولا وجدت في زمنه؟».!
وهذا ورع كبير لا مطمع للإمام أحمد في مثله.
ثم انظر إليه حينما عرض للدَّجَّال وحكى قول الشيخ محمد عبده فيه أنه رمز للدجل والخرافات وليس شخصًا حقيقيًّا عقب عليه يقول: «كنت أميل
إلى هذا وأراه قويا ولكني الآن أميل إلى أن الدجال شخص حقيقي». وإلى هنا ليس في الأمر ما يستغرب وإنما الغريب أن يقول في تعليل ميله
هذا: «ذلك أني نظرت فوجدت اليهود ينتظرون الدجال».
وذكر أنه لما أرسل الله عيسى عليه السلام ظنه اليهود ملكهم المنتظر ولما وجوده غيره هموا بقتله والفتك به، ثم انظر ذكر فقرات من الإنجيل أن عيسى أنذر بظهور مسحه و دجالين بعده.
فأنت ترى من هذا الكلام أنه خالف الشيخ محمد عبده ورأى الدجال شخصا حقيقيا لا وهميا، ولم يستند في رأيه إلى الأحاديث المتواترة المخبرة
بالدجال وإنما استند إلى انتظار اليهود للدَّجَّال وإنذار عيسى بمسحه.
وهذا شخص آخر كان يدرس المقارنة بين المذاهب في كليات الأزهر عرض لموضوع قتل المرتد، وذكر استدلال الفقهاء على وجوب قتله بقوله صلى الله عليه
٢٦٢
المقالات والمقدمات
منه
وآله وسلَّم: «مَن بدل دينه فاقتلوه ثم أراد أن يرد الحديث ويتخلّص . بأسلوب ملتوِ فذكر أنَّ القرآن لم يُشر إلى قتل المرتد في قوله تعالى:
ومَن يَرْتَدِ دَمِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرُ ﴾ الآية [البقرة: ٢١٧].
ثم عقب بقوله: «إنَّ كثيرًا من العلماء لا يقبل خبر الآحاد في الحدود». وهذا تدليس بالغ النهاية، فإن التعبير بكثير يوهم أن عشرة من العلماء على
الأقل يقولون ما نسبه إليهم، ولكنك إذ بحثت كتب الأصول والفقه وراجعت كتب الخلاف لم تجد غير شخصين اثنين قالا إن خبر الواحد لا يعمل به في الحدود، وهما الكرخي من الحنفية، وأبو عبد الله البصيري من المعتزلة لا
ثالث لهم إطلاقًا، ولكنه التجأ لرد الحديث بجعل الشخصين أشخاصا. وهذا ثالث يتولى منصب التفتيش في الأزهر تراه يذكر أحاديث لا زمام لها لأنها أحاديث حسنة في الأخلاق عظيمة في المعنى، كحديث ابن مسعود: «اعبد الله ولا تشرك به، ودُرْ معَ القُرآن أينما دارَ، واقبل الحق ممن جاءَ به من صغير أو كبير ... » إلخ. أذاع هذا الحديث في المذياع ونشره في أحاديث الصباح، وهو حديث لم يصح عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من وجه، وإنما رواه الطبراني ومن طريقة ابن عساكر عن ابن مسعود موقوفا عليه.
ثم في الإسناد إلى ابن مسعودٍ ،ضعيف، لكنه مع هذا شرحه ونوه به كثيرا على حين أنا نراه يحاول التخلص من أحاديث صحيحة.
وهذه مجلة جديدة أصدرتها جماعة التقريب بين المذاهب رأينا أول عدد منها فإذا هي خُلو من السُّنَّة، لم يشر فيها القائمون على شئونها إلى شيء من !
الحديث الشريف وعلومه
٢٦٣
السُّنَّة لا بتصريح ولا بتلميح، بل رأينا كاتب التفسير فيها قدم بمقدمة استقعد فيها قواعد يؤخذ منها طرح السُّنَّة، وترك الرجوع إليها في تفسير القرآن وهذا شيء له خطره، ومن يدري فلعل إهمال السُّنَّة في هذه المجلة تمهيد للتقريب المنشود، ولنا علي هذه المجلة تعقيبات سنظهرها في الوقت المناسب إن شاء الله وهناك أمثلة أخرى فيها ما هو أدهى مما ذكرناه وستظهر في كتابنا "إرغام المبتدع الجهول باتباع سنة الرسول" وقد جهزناه للطبع.
وفي هذا القدر كفاية، وبالله التوفيق.
٢٦٤
المقالات والمقدمات
۳۷- شرح حدیث شریف (۱) الأعمال عند الله عزَّ وجلَّ سبع
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الأعمال : عند الله عزَّ وجلَّ سبع: عملان موجبان، وعملان بأمثالها، وعمل بعشر أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله تعالى. فأما الموجبان فمن مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة، ومن مات وقد أشرك وجبت له النَّارُ، ومن عمل سيئة جُزي مثلها، ومن هم بحسنة ولم يعملها جزي مثلها، ومن عمل حسنةً جُزي بعشر أمثالها، ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم سبعمائة، والدينار سبعمائة، والصيام لا يعلم ثواب عامله إلا الله تعالى». رواه الطبراني وغيره.
الشرح والبيان
أعمال الطاعات كثيرة متنوعة نوعها الشارع لتنشيط المسلم على العبادة والإقبال عليها، ولتعدد الواردات التي تتجلَّى على الشخص بتلبسه بطاعة من الطاعات، كما قال ابن عطاء الله: «نوع لك أنواع العبادات لتعدد أنواع الواردات، وما الواردات إلا تجليات وإلهامات يلقيها الله في قلوب عباده الطائعين المتقين كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ﴾ [البقرة: ۲۸۲] وفي حديث ورد من مرسل مكحول: من أخلص الله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه». ولكن الطاعات على تعدُّدها وكثرة أنواعها لم تخرج من حيث جزاؤها ،
(۱) المشرق العربي السنة الرابعة، العدد (۹) ۵ رمضان ١٣٦٨ .
الحديث الشريف وعلومه
٢٦٥
والثواب عليها عن أقسام سبعة كما حدَّدها الحديث الذي نشرحه وهي على
الترتيب الآتي:
الأول: عمل موجب لدخول الجنة وهو جزاء من مات على الإيمان، بمعنى أن المرء إذا مات مؤمناً بالله ورسوله كان ماله إلى الجنة، ثم هو بعد ذلك ينقسم إلى ثلاثة أحوال:
مؤمن لم يعص الله قط فهذا يدخل الجنة بدون سابقة عذاب.
مؤمن عصى الله ثم تاب توبة صحيحة محت ذنوبه، فهذا أيضًا يدخل الجنة من غير سابقة عذاب.
مؤمن عصى الله ومات غير تائب أو تاب توبة غير صحيحة فهذا يأخذ
قسطه من العذاب بقدر عصيانه ثم يدخل الجنة بشفاعة أو بمجرد رحمة الله. فمآل المؤمن إلى الجنة لا محالة، خلافًا للمعتزلة في قولهم إن الفاسق يخلد في النار، وقولهم مخالف لما ثبت في الأحاديث المتواترة من إخراج الموحدين من النار ودخولهم الجنة، ثم أقصى ما يمكنه العاصي المسلم في النار أسبوع من أسابيع الآخرة أي: سبعة آلاف سنة.
الثاني: عمل موجب لدخول النار والخلود فيها : وهو الإشراك بالله فمن مات مشركا فقد وجبت له النار وحرمت عليه الجنة قال تعالى:
إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَنهُ النَّارُ ﴾ [المائدة: ۷۲]. ومثل المشرك الكافر، وهو من يؤمن بالله ويكفر برسول من رسله، أو ينكر أمرًا معلومًا من أمور الدين كوجوب الصلاة، وحرمة الزنا والخمر إلخ. قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
٢٦٦
المقالات والمقدمات
الْخَسِرِينَ ﴾ [آل عمران: ٨٥].
وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم مات ولم يؤمن بالذي جئتُ به، إلا كان من أهل النار». رواه مسلم في "صحيحه". الثالث: عمل بمثله، وهو عمل السيئة وذلك أن الله تعالى رحمة منه بعباده جعل جزاء المعصية بمثلها ولم يضاعفها إلا في حالات معينة، فالمعصية في المسجد تضاعف على المعصية في غيره لحرمة المسجد، والمعصية في رمضان تضاعف عليها في غير رمضان الحرمة هذا الشهر العظيم المبارك، ومن ثم جعل المالكية الفطر في نهار رمضان موجبًا للكفارة الكبرى سواء كان بالجماع أو غيره، مع أن الحديث ورد في الفطر بالجماع فقط، لكن المالكية رأوا أن انتهاك حرمة الشهر تحصل بمطلق مفطّر كما تحصل بالجماع، وقالوا: لو رفض نية الصيام نهارًا فعليه الكفارة، ولو لم يفطر بالفعل لأن رفض النية إفطار، وكل هذا -كما ترى تعظيم لحرمة رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
ولأجل مضاعفة السيئة لحرمة المكان فضل كثير من الأئمة الابتعاد عن الإقامة بمكة أو المدينة مع اشتياقهم إلى ذلك مخافة أن يقصروا في القيام بحقوق هذه المجاورة الكريمة فيكثر عقابهم ويشتد عذابهم.
الرابع: عمل بمثله أيضًا: وهو الهم بعمل الحسنة، ثم تركها لعذر من الأعذار، كمن هم أن يتصدق فمنعه عذر من الصدقة، فإن الله يكتب له ثواب ما هم به، أما لو ترك الحسنة لغير عذر مع قدرته عليها فهذا لا ثواب له لأنه
الحديث الشريف وعلومه
مضرب عن عمل الحسنة والمضرب غير مثاب.
٢٦٧
الخامس: عمل بعشر أمثاله، وهو عمل الحسنة، أي: حسنة كانت صدقة أو صلاة، أو تلاوة قرآن، أو غير ذلك قال تعالى: ﴿ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: ١٦٠] وشرط هذا الجزاء أن يكون العبد مخلصا فيها لا يقصد بها جاها أو غير ذلك، للحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي غيري فيه فهو لشريكه وليس لي منه شيء».
السادس: عمل بسبعمائة: وهو الإنفاق في سبيل الله، وسبيل الله هو الجهاد عند الجمهور، وأضاف إليه أحمد بن حنبل الحج، فمن أنفق ماله في الجهاد أو في الحج مخلصا لا مباهيًا ولا مكاثرًا، ضعف الله نفقته فيكون الدرهم بسبعمائة
والدينار بسبعمائة.
قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُل سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَعِفُ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [البقرة: ٢٦١] ومعلوم أن الإنفاق في الحج على قول أحمد بن حنبل إنما ينطبق عليه هذا الوصف إذا كان
الحج للفريضة أو لنافلة ولم يترك الحاج فيها ما هو أوجب عليه منها. أما ما يفعله كثير من الناس اليوم من الذهاب إلى الحج عدة مرات وتركهم أهلهم أو أولادهم أو أقاربهم في حاجة إلى معونتهم المادية، فمثل هذا الحج لا يعد الإنفاق فيه إنفاقا في سبيل الله على جميع المذاهب لأن غرض صاحبه التظاهر بكثرة الحج ووضع يده على الشباك النبوي الشريف.
السابع عمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله تعالى وهو الصوم ذلك لأن الصوم صبر عن الشهوات والملذات، وكبح للنفس عما اعتادته طول السنة من
٢٦٨
المقالات والمقدمات
الإباحة في المأكل والمشارب، والصبر ثوابه غير محدود كما قال تعالى: إِنَّمَا بُونَ الصَّبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ الزمر : ١٠]، فلهذا كان الصوم ثوابه غير محدود ولا معلوم، وإنما يعلمه الله تعالى إذ هو الذي يقدره بحسب ما يعلمه من إخلاص الصائم وقوة يقينه واحتساب ثوابه.
هذا مجمل الكلام على الأنواع السبعة التي بينها الحديث وشرحناها بما زادها وضوحًا وتقريباً للأفهام، ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن هذه الأنواع متداخلة يصح اجتماعها كلُّها أو بعضها في شخص واحد، ومتى اجتمعت في شخص
فإنه يعطى على كل منها ثوابه الخاص فضلا من الله وكرما منه. والله ذو الفضل
العظيم.
الحديث الشريف وعلومه
۳۸- توجيهات إلهية (1) أحب العباد إلى الله
٢٦٩
قال داود فيها يخاطب به ربه : يا ربِّ أيُّ عبادك أحب إليك أحبه بحبك ؟ قال: يا داود، أحبُّ عبادي إلي تقي القلب نقي الكفين لا يأتي إلى أحد سوءا ولا يمشي بالنميمة تزول الجبال ولا يزول، أحبني وأحبَّ من يحبني وحببني إلى عبادي قال داود يا ربِّ إنَّك لتعلم أنّي أحبك وأحبُّ من يحبك فكيف أحبك إلى عبادك ؟ قال : ذكَّرهم بآلائي وبلائي، يا داود ما من عبد يمشي مع مظلوم في مظلمته إلا ثبت قدميه يوم تزول الأقدام».
الشرح والبيان
هذا أثر إلهي ينبئ عن أوصاف العبد المحبوب عند الله الذي أحب الله فأحبه الله وأكرمه ،وآواه ومن قواعد الإيمان أن يجب الإنسان من يحبه الله من
أنبيائه وأوليائه وصلحاء خلقه.
لا يتم إيمان العبد إلا بذلك فلهذا سأل داود عليه السلام ربه في بعض مناجاته عن العبد الذي يحبه الله ليحبه داود بسبب محبة الله له فأخبره الله تعالى بجملة صفات إذا اجتمعت في عبد كان كامل الإيمان معدودًا من أولياء الله
تعالى.
فقال: «أحبُّ عبادي إليَّ تقي القلب وتقوى القلب: عبارة عن سلامته ونقائه من المعاصي التي تفسده وتجعله بعيدا عن قبول ما يصلحه، وأساس تقوى القلب سلامته من الشرك بجميع أنواعه، وذلك بأن يكون القلب
(۱) الشرق العربي السنة السابعة العدد (٣٦) ٦ جمادى الأولى ١٣٧٢.
۲۷۰
المقالات والمقدمات
خالصا للإيمان ليس فيه للشرك والشك والوساوس الشيطانية مكان. وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبِ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ۸۸ - ۸۹] وفي حديث رواه أحمد: «قد أفلح من أخلص قلبه للإيمانِ» الحديث. ثم يأتي بعد ذلك سلامته من المعاصي التي هي دون الشرك وذلك مثل: الكبر والحقد وحبّ الظهور والفخر وما إلى ذلك، مما يكون له على القلب أشد تأثير، وقد ورد في حديث: «إنَّ بُدَلاءَ أمتي لم يدخلوا الجنَّة بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن دخلوها بسلامة الصُّدور وسخاوة الأنفُس والرحمة بجميع
وهي
المسلمين». نقي الكفين»: هذه صفة ثانية من صفات العبد المحبوب عند الله و نقاء الكفين والمراد بذلك: أن يكون مكسبه حلالا لا تمتد يده إلى محرم، فلا يسرق ولا يغصب ولا يغش في المعاملة ولا يقبل الربا، وهذه صفة مهمة جدا بل تعتبر أهم شرط بعد الشرك، وقد قال عمر : «كل لحم نبَتَ من سُحْتٍ فالنَّار
أولى به . وقد يبالغ بعض الأولياء في البعد عن الحرام وصدق المعاملة به مع الله أنه
عندما تناول محرم لا يعرفه يجد من نفسه وازاعًا يمنعه عن تناوله. كان سهل بن عبد الله التستري يقول: «إذا أردت تناول محرم يضرب عرق في يدي فأعلم أن ذلك الشيء محرم فلا أتناوله»، وكذلك قال أبو العباس
المرسي. بل ذكر الحافظ السيوطي في كتاب "حسن المحاضرة" أن الشيخ القباري المدفون بالإسكندرية باع بغلته لشخص لا يعرفه فمكثت البغلة يومين لا تأكل
الحديث الشريف وعلومه
۲۷۱
فسألها
شيئًا فردها المشتري إلى الشيخ وقال إن هذه البغلة مريضة لأنها لم تأكل يومين، ، الشيخ ما صنعتك؟ فأخبره أنه رقاص، فقال الشيخ: رد علي بغلتي وخذ نقودك فإن بغلتي لا تأكل الحرام!!
لا يأتي إلى أحدٍ سوءًا : هذه صفة ثابتة من صفات العبد المحبوب عند الله ومعناها: أنه لا يؤذي أحدا لا بيده ولا بلسانه، بل ولا يسعى في إيذائه، وفي الحديث الصحيح: «المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمنُ مِنْ أَمِنْهُ النَّاسُ على دمائهم وأموالهم». فالله سبحانه وتعالى لا يحب أحدا يؤذي الناس أو يحتقرهم إلا في حدود ما أوجبه الله تعالى من الحدود والعقوبات الشرعية. وقد بلغ الصالحون في حفظ أيدهم وألسنتهم من إيذاء المخلوقات مبلغ لا مطمع فيه لأحد بعدهم.
ذكر تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى" أنه كان قاعدا في مدخل بيته ومعه بعض العلماء ينتظرون خروج والده تقي الدين السبكي
أن
وكان الجو ممطرا فمر بهم كلب مبتل بالمطر وخاف تاج الدين السبكي أ يلمسه الكلب فينجسه فقال له امش يا كلب فسمعه والده تقي الدين فلما خرج إليهم قال لولده أتمت فيما قلت للكلب قال له ولده: أليس هو كلبًا؟
قال: نعم ولكنك قلتها له على سبيل الاحتقار، واحتقار المخلوقات إثم. ولا يمشي بالنَّمِيمَةِ»: هذه صفة رابعة، وهي وإن كانت داخلة في الصفة التي : قبلها فقد أفردت بالذكر هنا للتنبيه على خطورتها فالنميمة من أقبح المعاصي لأنها تفرّق بين الأحبة، وتُوقع العداوة بين الناس، وتوغر الصدور، وتُورث الإحن والضّغائن، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبيَّ صلَّى الله
۲۷۲
المقالات والمقدمات
عليه وآله وسلَّم مرَّ على قبرين يعذِّب صاحباهما فقال: «إنَّها ليعذبان وما يُعذِّبان في كبير - أي: عند الناس - بلى إنَّه لكبير - أي: عند الله - أما أحدهما
فكان لا يستَنْزِهُ من البول، وأما الآخرُ فَكانَ يمشي بالنَّمِيمَةِ». تزول الجبال ولا يزول»: هذه صفة خامسة ومعناها قوة الإيمان وثبات
العزم بحيث يكون الشخص المؤمن أقوى من الجبال الرواسي، لا تزلزله حوادث الدهر ومصائب الزمان.
«أحبني وأحبَّ من يحبني وحببني إلى عبادي»: هذه ثلاث صفات مجتمعة من صفات العبد المحبوب عند الله، وهي متلازمة شرعًا، وذلك لأن شرط من يحب الله أن يحب من يحبه الله، وأن يسعى في تحبيب الله إلى عباده لأن أصل الإيمان حب الله وفي حديث آخر: «الهم إني أسألك حبك وحب عمل يقريني
إلى حبك».
قال داود: يا ربِّ إِنَّك لتعلم أني أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى عبادك ؟» لما علم داود أن من صفات العبد الملازمة لمحبة الله أن يحبب الله إلى عباده، سأل داود عن السبيل الموصل إلى ذلك، فقال الله له: «ذكرهم بآلائي وبلائي يعني: إذا أرت أن تحبيني إلى عبادي فذكرهم بنعمي عليهم وبلائي وانتقامي ممن عصاني وهذا يوافق قوله تعالى: نَى عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } [الحجر: ٤٩ - ٥٠]. فالإنسان إذا علم نعم الله عليه وإكرامه له، وعلم بإزاء ذلك أن الله قادر
على إزالة تلك النعم وإبدالها نقما ومصائب إذا شاء، حفّزه ذلك إلى حب ا وطاعته والتقرب إليه ليضمن دوام نعمه ويبتعد عن مواطن نقمه.
الله
الحديث الشريف وعلومه
۲۷۳
یا داود ما من عبد يمشي مع مظلوم في مظلمته إلا ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام»: هذه وصيةٌ إلهية وجهها الله إلى عباده في شخص داود الذي جعله الله نبيا وخليفة في الأرض.
أخبر الله في هذه الوصية أن من ساعد مظلومًا ومشى معه في إزالة مظلمته
ثبت الله قدميه عند الصراط يوم تزول الأقدام ولا تثبت.
والحكمة في هذا ظاهرة وهي أنه لما كان المظلوم يحتاج إلى من يثبت له حقه
ويدفع عنه ما حاق به من ،ظلم جعل الله جزاء ذلك تثبيت الأقدام عند الصراط جزاءًا وفاقا. والله أعلم.
٢٧٤
المقالات والمقدمات
٣٩- السنن والتوجيهات النبوية (1)
قوة الإيمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرض على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابَكَ شيءٌ فلا تقُلْ لو أَنِّي فَعَلتُ كان كذا ولكن قل: قدَّر الله ما شاء ،فَعلَ، فإنَّ لو تفتحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». رواه مسلم في "الصحيح".
الشرح والبيان
ليس من نعمة أنعم الله بها على الإنسان أفضل من نعمة الإيمان لأنه يجلب سعادة الدنيا والنعيم الدائم المقيم في الآخرة.
والإيمان أيضا يدعو معتنقيه إلى العزة والكرامة وإباء الضيم، وفي القرآن الكريم وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: A] فليس من شأن المؤمن أن يكون ضعيفًا ذليلا ،مهانًا، لأن الإيمان والذلة لا يجتمعان، كما جاء في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه : «نهي المؤمنُ عن إذلال نفسه» وذلك من أول مقتضيات الإيمان الذي هو الثقة بالله والاعتماد عليه ألا يخضع المؤمن لغير الله، ولا يخشى سواه، ولا يرهب أحدا من الخلق كائناً من كان. وهذا الحديث الذي نشرحه يبين هذه الناحية في المؤمن فيقول: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»: يعني: أن المؤمن القوي في
(۱) الشرق العربي السنة السابعة، العدد (۳۷) ۲۰ جمادى الأولى ۱۳۷۲.
الحديث الشريف وعلومه
۲۷۵
إيمانه القوي في عقيدته أفضل وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف لأنه بقوة إيمانه وقوة عقيدته يستسهل الصعاب، ويستعذب العذاب ويستقبل الشدائد والمكاره بصدر رحب وعزيمة ثابتة لا يشتكي ولا يضعف ولا يني ولا يحزن؛ لأنه واثق بأن الله معه وأن النصر آخر الأمر له، وأن الفرج مع الكرب وأن مع
العسر يسرا.
وكذلك المؤمن القوي في بدنه السليم في جسمه أفضل وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف السقيم؛ لأنه بقوة بنيته وسلامة جسمه يقدر على تحمل أعباء الجهاد والثبات في ميادين الحرب والجلاء وأقوى في الدفاع عن جودة الإسلام ودفع العاديات عن بلاد المسلمين بخلاف المؤمن الضعيف في ذلك كله فإنه لضعفه أقرب إلى الإنهزام أمام الحوادث لا يقدر على الثبات في صعاب الأمور ولا يتحمل مشاق الجهاد والجلاد. وفي كل خير كل بالتنوين أي في كل من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف خير وفضل وإن كان القوي أفضل من الضعيف؛ لأنهما اشتركا في أصل الإيمان وهو خير، بل هو أصل كل خير، وإن تفاوتا بحسب استعدادهما ومقدرتهما لأن الإيمان درجات بعضها أفضل من بعض.
احرص على ما ينفعُكَ»: هذا بيان لبعض مظاهر القوة في المؤمن القوي، وإرشاد له إلى سلوك الطريق الأقوى والأقوم والمعنى احرص أيها المؤمن القوي على تحصيل ما ينفعك في دينك من شئون العبادات والمعاملات التي تتعيش منها وتكتسب عن طريقها فلا تكسل في العبادات وتأدية ما فرض الله عليك منها ولا تكسل في أمور دنياك التي جعل الله فيها معاشك ولا تقعد عن
٢٧٦
المقالات والمقدمات
تحصيل رزقك وتتمسّك بالتوكل المذموم فتكون عالة على غيرك بل اجتهد
واعمل واسع في تحصيل رزقك.
واستعن بالله في أمورك كلها ولا تعجز) أي: لا تكسل ولا تقعد عن العمل متوقعا حدوث ما يعرقل طريقك متعللا بالقضاء والقدر كما هو شأن الكسالى من الناس، بل امض في حياتك كالسهم النافذ.
وإن أصابك شيء أي حدث لك في طريقك ما يعرقل عملك من
مرض أو غيره مما لا مدخل لك فيه.
فلا تقل لو أني فعلتُ كان كذا أي استسلم لقضاء الله واعلم أن الله لم يرد إتمام ذلك الأمر لأنه لو أراد إتمامه ليسره لك، وسهل عليك الوصول إليه،
ولا تقل: لو فعلت كذا كان كذا فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر شيئًا. ولكن قل قدَّر الله ما شاءَ فعَل أي: أني فعلت ما أمكنني، وسلكت
الطريق المشروع، ولكن قدر الله عاقني عن الوصول إلى النتيجة، وما شاء الله فعل ففي هذه الحالة تجمع بين الحالتين حالة التوكل الصحيح، وحالة الاستسلام لقضاء الله بعد العجز عن بلوغ المراد «فإن «لو» تفتح عمل الشيطان» يعني: أن قول الإنسان لو فعلت كذا لكان كذا يفتح بابا للشيطان يدخل منه إلى قلبه يوسوس له ويحسره ويحزنه مع أن ذلك لا يغير من قضاء الله شيئًا، والله أعلم.
الحديث الشريف وعلومه
٤٠- السنن والتوجيهات النبوية (1)
۲۷۷
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «النَّادمُ ينتظِرُ منَ الله الرحمةَ، والمعجَبُ ينتظر المقْتَ، واعلموا عباد الله أنَّ كلَّ عامل سيقدم على عمله، ولا يخرج من الدنيا حتَّى يرى حُسن عمله وسوء عمله، وإنّما الأعمال خواتيمها، والليلُ والنَّهارُ مطيَّتان، فأحسِنُوا السَّير عليهما إلى الآخرة واحذرُوا التّسويف، فإنَّ الموتَ يأتي بغتةً، ولا يغتَرنَّ أحدكم بحلم الله عزَّ وجلَّ فإِنَّ الجنَّةَ والنَّار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة : ۷ - ۸]
الشرح والبيان
النادم: هو التائب، وإنما أطلق على التائب نادم لأن الندم أهم شرط في التوبة، ولا شك أن من ندم على ما فرط منه من الذنوب، وأقلع عنها وعزم على ألا يعود إليها فإنه متعرض لرحمة الله منتظر لعفوه وغفرانه بشرط أن تكون توبته صحيحة لا تردد فيها ولا رجوع. أما من تاب وهو ينوي الرجوع إلى الذنب أو يتردد في توبته فهذا لا يسمى تائبا بل هو متلاعب مستهزئ كما ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «التائب من الذنب كمنْ لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه».
(۱) الشرق العربي السنة السابعة العدد (٤٠) ١٢ جمادى الآخرة ١٣٧٢.
۲۷۸
المقالات والمقدمات
وقد أخبر الله في غير آية من القرآن الكريم بأنه يحب التوابين والتوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة إذ لا يخلو مكلف من الوقوع في الذنوب مهما توقى وتحرز لأن العصمة للأنبياء فقط، والمعجب بفتح الجيم-: هو الذي يعجبه
عمله
. ويرضى عن نفسه فإذا وقع منه ذنب لم يهتم له ولم يبال به فلا يحدث له توبة لاعتقاده أن عنده من الأعمال الصالحة ما يجبر الذنوب التي وقعت منه، وهذا لا شك متعرض لغضب الله وانتقامه لأن الله يكره المعجبين بأعمالهم ويحب المعترفين بذنوبهم التائبين منها.
وفي حكم ابن عطاء الله السكندري: من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل».
وأيضًا فإن المعجب بعمله يظهر بمظهر المستغني عن رحمة الله إذ لو كان مفتقرًا إليها لسلك طريقها وتعرض لها بالتوبة العاجلة، فلما لم يفعل غضب الله
عليه ومقته.
واعلموا عباد الله أنَّ كلَّ عامل سيقدم على عمله» يعني: أن كل عامل سيقدم على عمله في الآخرة خيرًا كان أو شرا قال تعالى: وَكُلَّ إِنسَنِ أَلْزَمْتَهُ :
طبِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَتُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيِّمَةِ كِتَبايَلْقَتْهُ مَنشُورًا ﴾ [الإسراء: ١٣].
أن
ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله يعني: الشخص قبل مماته يرى مآل عمله فإن كان عمله طاعة وخيرا ختم له بخير ومات مستورًا، وإن كان عمله غير ذلك كانت خاتمته سيئة، ومات بحالة سوء. ولهذا قال عقب ذلك: وإنّما الأعمال بخواتيمها»، أي: أن العبرة بخاتمة حياة الشخص.
الحديث الشريف وعلومه
۲۷۹
وهذا يوافق في المعنى قوله صلَّى الله عليه وآله وسلم في حديث صحيح: والذي نفس محمد بيده إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الالجنة فيدخلها».
والليل والنهار مطيَّتان فأحسنوا السَّير عليهما إلى الآخرة: عمر الإنسان عبارة عن ليل يسلمه إلى نهار ، ونهار يسلمه إلى ليل حتى ينتهي أجله، فلهذا شبه الحديث الليل والنهار بمطيتين يركبها الإنسان طول حياته حتى يسلماه إلى نهايته المحتومة، ومن كانت له مطية فالمطلوب منه أن يحسن السير عليها، وأن يصحبها بحسن المعاملة فلا يجهدها ولا يشق عليها، وكذلك الليل والنهار اللذان هما مطية الإنسان ينبغي له بل يجب عليه أن يحسن السير عليهما، وألا يفعل فيهما سوءًا يشهدان عليه به يوم القيامة فإن الزمان والمكان يشهدان للشخص أو عليه بما فعل فيهما من خير أو شر. وقد جاء في بعض الآثار أن اليوم يخاطب الإنسان بقوله: «أنا فجر جديد وعلى عملك شهيد فإذا انصرفت عنك لم أرجع لك إلى يوم القيامة». واحذروا التسويف فإنَّ الموتَ يأتي بغتةً» : . بالأعمال الصالحة وبالتوبة النصوح فيقول سوف أفعل كذا أو سوف أتوب كما يفعل كثير من الجهلة حيث يسوفون بتوبتهم إلى أن يحجوا أو يتزوجوا وذلك من تغرير الشيطان . لأن الأعمار غير مضمونة والآجال مغيبة في علم الله مهم والموت يبغت الإنسان أصح وأقوى ما كان لأن الموت لا يفرق بين صغير
يعني
أن الإنسان لا يسوف
۲۸۰
المقالات والمقدمات
وكبير، فكم من ولد سبق أباه إلى الموت، وكم من مريض عاش بعد سليم. ولا يغترنَّ أحدكم بحلم الله عزَّ وجلَّ»: يعني: أن الله حليم على عباده رحيم بهم فلا يعجل لهم بالعقوبة بل يمهلهم لعلهم يتوبون ويرجعون قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [النحل: ٦١].
فالحديث ينهانا أن نغتر بحلم الله إذا رأيناه أنعم علينا مع معصيتنا له ومخالفتنا لأمره فإن حلمه علينا لابد على رضاه بل هو إمهال واستدراج كما قال قيس ابن
أبي حازم التابعي المشهور : إذا رأيت الله منعها عليك وأنت تعصيه فاحذره». فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله»: الشراك بكسر الشين:
هو سير النعل الذي تربط به وهذه الجملة من الحديث تصور لقرب الجنة والنار من الإنسان بحيث تكون في متناول يده وما ذاك إلا بعمله الصالح أو السيئ فإن عمل صالحا كانت الجنة قريبة منه، وإن عمل سيئًا كانت النار قريبة منه فشقاوة المرء وسعادته بيده لأن الله قد نصب له الدليل وأوضح له السبيل قال تعالى: وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: ١٠].
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّمَ: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خيرا يَرَهُ ) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: ۷ - ۸] .
ختم الرسول هذا الحديث بهذه الآية الجامعة التي تدل على تمام العدل وغاية الرحمة، ومضمون الحديث يعتبر شرحًا لها وتفصيلا لبعض معانيها، والله أعلم.
الحديث الشريف وعلومه
٤١- السنن والتوجيهات النبوية (1)
۲۸۱
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن فارقَ الدُّنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، فارقها والله عنهُ راضِ».
الشرح والبيان
اشتمل هذا الحديث على أربع قواعد
الأولى: الإخلاص، وهو قصد وجه الله بالعبادة دون غيره بمعنى أن
يصدر الإنسان في جميع أعماله عن باعث ديني لا يقصد به ذكرًا ولا تحمدة، وإنما يقصد رضا الله وما عنده من الثواب.
وقد حض الله على الإخلاص في غير آية من القرآن الكريم قال تعالى:
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة : ٥].
والإخلاص هو أفضل المقامات وأعلاها، وهو روح العبادة وسرها كما قال ابن عطاء الله: «الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص
فيها».
فالعمل بلا إخلاص كالجسد بلا روح لا يقبله الله ولا ينظر إلى صاحبه
عنه
والله إذا علم من عبده صدق الإخلاص في عمله أغاثه عند الشدة وفرَّج : كل كربة وكان له وليا ونصيرا. وحسبك دليلا على ذلك ما جاء في الصحيحين عن النفر الثلاثة الذين ذهبوا
(1) الشرق العربي السنة الثامنة، العدد (٦) ۹ شعبان ۱۳۷۲.
۲۸۲
المقالات والمقدمات
في طلب ماشية لهم فآواهم المبيت إلى كهف في جبل، فانحدرت عليه صخرة سدت عليهم الكهف فقال بعضهم لبعض إنه لا ينجيكم إلا الصدق، فدعا كل واحد منهم بأخلص عمل عمله في حياته فاستجاب الله لهم وانزاحت عنهم
الصخرة وخرجوا يمشون وقصتهم مشهورة في الصحيحين وغيرهما. ومن فضيلة الإخلاص أن الله يتولى صاحبه ويتجلى عليه بالمعارف والأسرار كما جاء في حيث عن مكحول الشامي التابعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من أخلص الله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة
من قلبه على لسانه .
ثم الإخلاص نوعان:
إخلاص العامة: وهو الذي سبق بيانه.
وإخلاص الخاصة وهو ألا يرى شخص لنفسه وجودًا، ولا لعمله أثرًا بل يرى الله متفضّلا عليه في كل ما يصدر منه.
والمخلصون مع شفوف منزلتهم وأناقة رتبتهم يخافون أن يخالط عبادتهم شيء يشوب إخلاصهم ويشوه أعمالهم ولهذا يقول سهل بن عبدالله التستري أحد أئمة الصوفية : الناس هلكى إلا العالمون والعالمون هلكي إلا العاملون
والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم.
فالخطر الذي يهدد المخلصين هو خوفهم من أن يدخل عملهم شيء من الشرك الخفي وهم لا يشعرون، ولهذا ورد في الأدعية النبوية المأثورة: «اللهم إني أعوذ بك أنْ أشركَ بكَ وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم».
القاعدة الثانية: عبادة الله لا شريك له والمراد بعبادة الله توحيده ومعرفته
الحديث الشريف وعلومه
۲۸۳
بالصفات التي وصف بها نفسه في القرآن والسنة الصحيحة قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الحنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: ٥٦] أي: إلا ليوحدون ويعرفون. فهذه الآية الكريمة تصرح بأن الله خلق عباده لحكمة بالغة ومصلحة عظيمة وهي أن يشهدوا له بالوحدانية ويعرفوه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وما بعث الله الرسل وأنزل الكتب إلا لهذا المقصد السامي، فالتوحيد هو دين الله الذي فرضه على عباده منذ آدم إلى يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح: الأنبياء أولاد علات أمهاتهم شتَّى ودينهم واحدٌ». وأولاد العلات هم الأولاد الذين تكون أمهاتهم متعددة وأبوهم واحد، والمقصود أن توحيد الله وإفراده بالعبادة هو دينه الذي ارتضاه الجميع عباده، وإنما اختلفت الشرائع فيما عداه من الأحكام التي هي فروع ولأجل أن التوحيد هو الأصل والأعمال بعده فروع عنه أخبر الله أن من خالف الأصل واعتقد شريكا مع الله فإن الله لا يغفر له وهو مخلد في النار أبدا أما من تمسك بالأصل وفرط في بعض الفروع أو كلها فإن الله لابد يغفر له ولو عذب قبل ذلك في النار بما شاء الله أن يعذبه به قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [النساء: ٤٨] وقال عليه الصلاة والسلام: «من قال
لا إله إلا الله نفعته يوما من دهره أصابه قبل ذلك ما أصابه». القاعدة الثالثة: إقام الصلاة، أي: المحافظة عليها والمواظبة على أدائها في
أوقتها المحددة شرعًا مع إتمام أركانها والخشوع فيها.
والصلاة أهم ركن بعد التوحيد لا شيء من أركان الإسلام يعادلها، وقد شدد الشارع فيها تشديدا بالغا ولم يقبل في تركها عذرًا من الأعذار حتى أ
أنه
٢٨٤
المقالات والمقدمات
فرض على المسلمين وهو في صفوف القتال أن يصلوا بل جعل الصلاة من
أسباب النصر والفتح.
والصلاة مع أهميتها كما قدمنا فإنَّ بعض الصلوات أهم من بعض فقد ورد الحض بصفة خاصة على صلاتي الصبح والعصر، قال عليه الصلاة والسلام:
من حافظ على البَرْدَين دخل الجنة» يعني: الصبح والعصر.
وقال عليه الصلاة والسلام من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله» وهذا الحديث أحد الأدلة على أن العصر هي الصلاة الوسطى التي قال الله
فيها : حَفِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَنِتِينَ ﴾ [البقرة: ٢٣٨] وقد قيل في كل صلاة من الصلوات أنها الوسطى ولكن الصحيح أنها العصر ويليه في الصحة الصبح.
الصلاة .
القاعدة الرابعة إيتاء الزكاة وهي أهم ركن في الإسلام بعد الصلاة وهي قنطرة الإسلام كما جاء في بعض الأحاديث وأغلب الآيات القرآنية تقرن مع الزكاة وذلك مما يدل على أهميتها وعظم قدرها، ولا غرو فهي طهرة للمال وإعانة للفقير والمحتاج، ولو كان الأغنياء اليوم يخرجون زكاة لكان مجتمعنا سليما من هذه الدعاوى الهادمة التي ظهرت بسبب انقطاع التعاون بين المسلمين وبخل الأغنياء وحقد الفقراء.
أموالهم !
هذه قواعد أربعة هي دين الإسلام وروحه وخلاصته فلا شك أن من عمل
بها وداوم عليها حتى فارق الدنيا ولم يقصر في شيء منها كان جزاؤه رضا الله
وثوابه والله أعلم.
الحديث الشريف وعلومه
٤٢- السنن والتوجيهات النبوية (1)
٢٨٥
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله ناجى موسى بمائة ألف وأربعين ألفِ كلمةٍ في ثلاثةِ أَيَّام فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عزَّ وجلَّ، وكان مما ناجاه الله به أن قال: يا موسى لم يتصنّع المتصنعون لي بمِثلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنيا، ولم يتقرَّب المتقربون إليَّ بمثل الورع عما حرَّمتُ عليهم، ولم يتعبد المتعبدون لي بمثل البكاء من خَشْيتِي.
قال موسى: يا ربَّ البريَّة كلّها ويا مالك يوم الدين ويا ذا الجلال والإكرام ماذا أعددَتَ لهُم وماذا جزَيْتَهُم؟ قال: يا موسى أمَّا الزُّهادُ في الدُّنيا فإنّي أبحثهم جنَّتي يتبوؤون منها حيثُ شاءوا، وأما الورعُون عما حرَّمتُ عليهم فإنَّه إذا كان يوم القيامةِ لم يبق عبد إِلَّا فتشته وحاسبته وناقشته إلا الورعين فإنّي أستخييهم وأُجِلُّهم وأكرمهم فأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما البكاؤون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يُشارَكُون فيه»
الشرح والبيان
موسى عليه السلام كليم الله بنص القرآن الكريم قال تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء: ١٦٤] وقد تعددت مناجاة الله لموسى في مواقف أخبر القرآن عن بعضها كما جاء في الأحاديث بيان بعضها الآخر.
وهذا الحديث الذي نشرحه اليوم يبين موقفا من تلك المناجاة التي
(1) الشرق العربي السنة الثامنة العدد (۸) ۲۳ شعبان ۱۳۷۲.
٢٨٦
المقالات والمقدمات
تكررت بين الله وبين عبده موسى وتكليم الله لموسى لا يمكن لبشر أن يعرفه على كنهه وحقيقته لأن ذلك خارج عن طوق البشر وإنما يجب علينا الإيمان بأن الله كلم موسى كما شاء على الوجه الذي أراد بغير بحث عن الكيفية
والصفة.
وهذا الحديث الذي يقول: إن الله ناجى موسى بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام لا يريد تحديد الكلام بنوع خاص وصيغة خاصة، وإنما أراد تقريب ذلك إلى أفهامنا وعقولنا بما تعارفناه من أن الكلام لا يكون إلا بحروف وكلمات وإلا فكلام الله منزه عن أن يكون مثل كلام البشر بحروف وأصوات تعتمد على مقاطع ومخارج.
أما قوله: «فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل" فهو تصوير للفرق الواضح بين كلام الخالق وكلام المخلوق فموسى عليه السلام حين سمع كلام الله على الوجه الذي أراده الله تعالى، ثم سمع كلام الخلق وقع كلام المخلوقات في سمعه أشبه بأصوات
العجماوات هذا تصوير تقريبي وإلا فالفرق أبعد من ذلك. ثم بين الحديث
بعض ما اشتملت عليه المناجاة مما يفيد الحض على التمسك بما جاء فيها من تلك الوصايا الإلهية العظيمة وهي قوله تعالى: «يا
موسى لم يتصنع المتصنعون لي بمثل الزهد في الدنيا».
معنى التصنع التجمل وتحسين الهيئة والمعنى أن العباد حين يتجملون ويتحلون بالصفات الفاضلة للقاء الله لا يجدون أفضل من التجمل والتحلي بصفة
الزهد في الدنيا لأن الزهد في الدنيا هو أحب الصفات إلى الله تعالى لأمرين:
الحديث الشريف وعلومه
۲۸۷
الأول: أن الدنيا يبغضها الله ولا يحبها وإنما جعلها دار ابتلاء وامتحان يمتحن فيها عباده بالتكاليف ويبتليهم بالمصائب ليظهر الطائع من العاصي والصابر من الجزع، وقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة: «لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافرًا منها جَرْعةً ماء».
الثاني: أن الاشتغال بالدنيا يلهي عن طاعة الله وفي ذلك هلاك العبد وخسرانه لأن الله إنما خلقنا لعبادته، وخلق الدنيا لنتقوى بما فيها من المنافع المباحة على ما خلقنا لأجله فالركون إليها جهل بحكمة الله وعدم وثوق بما وعد عباده الصالحين به في الآخرة.
ثم ليس معنى الزهد أن يترك الإنسان أسباب السعي على المعيشة ويقعد على الناس، ولكن معنى الزهد أن تكون الدنيا في يد الإنسان لا في قلبه فيباشر الأسباب التي أهله الله لها ويكتسب قوته من الطرق المشروعة ويعول نفسه ومن تجب عليه نفقته وفي الوقت نفسه لا يبخل بالمال عن إنفاقه في وجوه
الخير. وقوله تعالى: «ولم يتقرب المتقربون إلي بمثلِ الوَرَعِ عما حرَّمتُ عليهم» هذه وصية ثانية من الوصايا الثلاث وهي الورع عن المحرمات ومعنى الورع: أن يكون الإنسان رقيباً على نفسه يحاسبها على كل ما تفعل فإذا رأى في شيء شبه تحريم ابتعد عنه حذرًا من الوقوع في الحرام، والورع ملاك الدين كما جاء في حديث آخر، وملاك الدين بكسر الميم أي أن من حاز الورع فقد ملك الدين. وقوله تعالى: ولم يتعبَّد المتعبدون لي بمثل البُكاءِ مِن خَشْيتي». آخر
الوصايا الثلاث.
۲۸۸
المقالات والمقدمات
والبكاء من خشية الله من أفضل القربات وأعظم المقامات لأنه يدل على امتلاء القلب بخشية الله واستشعاره لعظمته وجبروته، وبالضرورة إذا استشعر القلب عظمة الله اعترف الإنسان بضعفه وعجزه والتجأ إلى الله في أن يجبر كسره ويغفر زلته فيستجيب الله له كما جاء في بعض الآثار: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي».
هذه ثلاث وصايا تشتمل على ثلاثة مقامات وهي: الزهد والورع والبكاء من خشية الله، جعل الله لكل مقام منها جزاء من جنسه فجعل جزاء الزهد في الدنيا إباحة الجنة للزهاد كما قال: «أما الزهاد في الدنيا فإني أبحتهم جنتي يتبوأون منها حيث شاءوا. وذلك لأن الزهاد منعوا أنفسهم في الدنيا عن كثير من اللذائذ المباحة واقتصروا على القوت الضروري فعوضهم الله التمتع المطلق بما في الجنة من نعيم مقيم.
وأما الورعون فإن الله يدخلهم الجنة بغير حساب كما قال: «وأما الورعون عما حرمت عليهم فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا فتشته وناقشته إلا الورعين فإني أستحييهم وأجلهم وأكرمهم فأدخلهم الجنة بغير حساب». وذلك لأن الورعين قد حاسبوا أنفسهم في الدنيا وناقشوها على أعمالها فأعفاهم الله من حساب الآخرة، واستحياء الله كفاية عن تكريمهم وإجلالهم .
منهم
يأتي بعد ذلك البكاء من خشية الله وهو أعلى المقامات لذلك جعل الله جزاءه موافقا له حيث قال: وأما البكاءون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه».
الحديث الشريف وعلومه
۲۸۹
هذا جزاؤهم في الجنة أما في الموقف فإن الله يجازيهم بأن يظلهم في ظل
عرشه يوم لا ظل إلا ظله وذلك لما سبق أن بيناه من أن البكاء دليل على
استشعار القلب عظمة الله واعتراف العبد بضعفه وعجزه.
وفقنا الله إلى الانتفاع بهذه الوصايا الإلهية العظيمة حتى نتصف بما فيها من الأخلاق الفاضلة والمقامات العالية.
۲۹۰
المقالات والمقدمات
السنن والتوجيهات النبوية (1)
فضائل شهر رمضان
عن عبادة ابن الصامت قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوما وحضر رمضان: «أتاكُم ،رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء ينظرُ الله إلى تنافسكم فيه ويُباهي بكم ملائكته فأرُوا الله من أنفسكم خيرًا فإنَّ الشقي من حُرِم فيه رحمة الله عزَّ وجل».
شهر رمضان شهر عظيم مبارك أنزل الله فيه القرآن إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وجعل الله صيامه ركنًا من أركان الإسلام وادخره لهذه الأمة المحمدية إكراما لنبيها صلَّى الله عليه وآله وسلّم فلم يفرض صوم هذا الشهر على أمة من
الأمم من قبلنا وإنما كان يفرض عليهم صوم أيام معدودات من بعض الشهور كما ثبت أن صوم عاشوراء كان مفروضًا على اليهود وفرض على المسلمين
أيضًا في أول الهجرة، ولما فرض رمضان نسخ عاشوراء وأصبح صومه سنة. وشهر رمضان إلى جانب هذا موسم من مواسم العبادة والبر والعطف، كان السلف ينتظرون دخوله فيستقبلونه بأنواع من العبادات ويجتهدون فيه ما قدر لهم الاجتهاد، يقتدون في ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان يخص رمضان ما لا يخص غيره من الشهور، وكان يحض على الاجتهاد فيه بأنواع الطاعات.
وهذا الحديث الذي نشرحه اليوم من جملة الأحاديث التي وردت في فضل
(1) الشرق العربي الثامنة، العدد (۹) ۱ رمضان ۱۳۷۲
الحديث الشريف وعلومه
۲۹۱
رمضان والتعرض فيه لنفحات الله تبارك وتعالى.
يقول النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أتاكم رمضان» أخذ العلماء من هذا الحديث وغيره جواز أن يقول الشخص رمضان من غير إضافة كلمة شهر إليه، وذهب بعضهم إلى أنه يكره أن يفرد رمضان عن كلمة شهر بل يقال: «شهر رمضان واستدلوا بحديث ضعيف جاء فيه: «لاتقولوا رمضان ولكن قولوا شهر رمضان فإنَّ رمضانَ اسم من أسماء الله تعالى»، والصحيح الأول ولم يثبت في أسماء الله تعالى اسم رمضان.
شهر بركة يغاشكم الله فيه أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّ رمضان شهر بركة ومعنى البركة الخير والبر، ثم بين بركة رمضان بأن الله يغشى عباده فيه، وليس معنى غشيان الله لعباده أنه يأتيهم وينتقل إليهم بحركة فإن الله منزه عن ذلك ولكن معناه هو ما بينه بقوله: «فينزل الرحمة ويحط
الخطايا ويستجيب فيه الدعاء».
فمعنى غشيان الله أنه يتجلى على عباده الصائمين في رمضان بعموم رحمته ويحط خطاياهم، أي يكفر عنهم سيئاتهم ويستجيب دعاءهم إذا دعوه لكن هذا مشروط بأن يجتنب الصائم كبائر المحرمات لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر صحيح: الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
ومشروط أيضًا بحفظ الصائم لسانه عن الفحش واللغو وحفظ سمعه
وبصره عما يحرم سماعه والنظر إليه.
كما أن استجابة الدعاء مشروطة بأكل الحلال، أما من يأكل الحرام فلا حظ
۲۹۲
المقالات والمقدمات
له في استجابة الدعاء والأحاديث في هذا المعنى كثيرة لا حاجة إلى الإطالة بها. ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته»: في هذه الجملة حضّ بليغ على الإكثار من العبادة في شهر رمضان لأن الصائم إذا علم أن الله ينظر إلى عمله في هذا الشهر بصفة خاصة، ويباهي به ملائكته حفزه ذلك إلى الإكثار من العبادة ليحظى برضاء الله ويفوز بثوابه. ولهذا كان السلف كما قلنا يجتهدون في هذا الشهر مالا يجتهدون في غيره فكانت عائشة تنقطع في هذا الشهر للصلاة وتلاوة القرآن، وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان ترك دروسه وأقبل على تلاوة القرآن، وكان الإمام الشافعي يقرأ في شهر رمضان ستين ختمه، إلى غير ذلك مما ورد عن السلف من أنواع العبادات والاحتفال بهذا الشهر العظيم. فأروا الله من أنفسكم خيرًا) يعني: اجتهدوا في العبادات حتى يرضى الله
عنكم ويرى أنكم قد قمتم بحق هذا الشهر خير قيام.
وأن الشقي من حُرم فيه رحمة الله عزَّ وجلَّ»، يعني: أن من مر عليه شهر رمضان وهو متكاسل في العبادات غير قائم بحق هذا الشهر فإنه شقي لحرمانه
من رحمة الله التي ينزلها على عباده الصائمين القائمين.
نسأل الله أن يوفقنا لاغتنام بركة هذا الشهر ويجعلنا من الصائمين المقبولين المشمولين برحمته وعنايته.
الحديث الشريف وعلومه
۲۹۳
- شرح حديث شريف (١)
قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنَّةِ وخُلقت أبواب جنّهم وسُلْسِلَتْ الشَّياطين». رواه الشيخان من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه.
الألفاظ اللغوية
فتحت، وغُلّقت: بضم أولهما وكسر ثانيهما مع تشديده، ويجوز تخفيفه، لكن
الرواية جاءت بالأول. ومعنى الكلمتين واضح.
وسلسلت بضم أوله وكسر ثالثه معناه: ربطت بالسلاسل .
الشرح
شهر رمضان شهر عظيم القدر خصه الله تعالى بأنواع من الفضائل والمزايا ليست لغيره من بقية أشهر السنة، وتلك المزايا كثيرة ذكر منها في هذا الحديث
ثلاث:
الأولى: تفتيح أبواب الجنة، واختلف هل هذا التفتيح حقيقي أو هو كناية عن شيء آخر ؟ فقال ابن المنير المالكي أنه حقيقي، ولا ضرورة تدعو إلى صرف
اللفظ
. عن ظاهره.
قلت: ويؤيده حديث ابن عباس الطويل في فضل رمضان، وفيه أن الله تعالى يقول: «يا رضوان، افتح أبواب الجنان. ويا مالك، أغلق أبواب الجحيمِ عن الصائمين من أمَّة أحمد».
(۱) مجلة هدي الإسلام السنة اللأولى، العدد (۷) ۱۷ رمضان ١٣٥٣.
٢٩٤
المقالات والمقدمات
وهذا الحديث رواه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب "ثواب الأعمال" والبيهقي في كتاب فضائل" الأوقات"، وهو وإن كان ضعيفا يستأنس به في مثل هذه المواضع على أن ضعفه قريب محتمل.
وقيل أن تفتيح أبواب الجنة كناية عن تفتيح أبواب الرحمة، وأيد برواية مسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة».
وأجيب بأن أصل الرواية: «فتحت أبواب الجنة» ولكن الرواة تصرفوا فأبدلوها تارة بأبواب الرحمة وتارة بأبواب السماء كما في رواية مسلم أيضًا. وقيل إن تفتيح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده في هذا الشهر من
الطاعات التي هي سبب لتفتيح أبواب الجنة حقيقة. ولا شك أن رمضان خص بأنواع من الطاعات مثل التراويح وغيرها. الثانية: تغليق أبواب جنهم، وفيه من الخلاف ما في الذي قبله، فقيل إن التغليق حقيقي ويؤيده حديث ابن عباس المتقدم، ويؤيده أيضًا رواية النسائي من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ : غلقت أبواب النار» كناية عن صرف همم الصائمين عن المعاصي التي يؤول أصحابها إلى النار، ونحوه قول التوربشتي: «تغليق أبواب جنهم كناية عن تنزه أنفس الصُّوَّام عن رجس
الفواحش والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات». قلت: ولرمضان في ذلك تأثير كبير فكثير من المنهمكين في المعاصي تراهم إذا حل هذا الشهر أقلعوا عن معاصيهم وكفوا عنها، وقد شاهدنا أناسًا لا يصلون من العام كله إلا في شهر رمضان.
الثالثة: تسلسل الشياطين أي ربطهم بالسلاسل واختلف في هذا الربط
الحديث الشريف وعلومه
۲۹۵
هل هو حقيقي وهل الذي يربط جميع الشياطين أو بعضهم، وعلى الثاني هل هم المردة العتاة أو مسترقو السمع ؟ والصحيح من هذا كله أن الربط حقيقي، وأن المربوط بعض منهم وهم المردة.
وإلى ما ذكرناه ذهب ابن خزيمة واستدل بما رواه هو في "صحيحه" من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا كانت أول ليلة من
شهر رمضان صُفّدت الشَّياطين مَرَدة الجِنِّ...» الحديث وإسناده صحيح. ورواه النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة ولفظه: «تغَلُّ فيه مردة
الشياطين».
وقوله: «صفدت بضم الصاد وكسر الفاء المشددة معناه: شُدَّت بالأصفاد وهي السلاسل والأغلال. واستشكل بعض العلماء الأحاديث المتقدمة بأن مقتضى ما صرحت به من حبس الشياطين في رمضان أن لا تقع فيه الشرور والمعاصي والشاهد خلاف ذلك فإنا نرى المعاصي تقع في هذا الشهر، وأجاب صاحب المفهم وغيره بوجوه:
1 - أن الذي يحبس بعض الشياطين وهم المردة أي: الطغاة الجبابرة دون غيرهم، فيجوز أن تقع المعاصي بوسوسة غيرهم ممن لم يحبس من الشياطين. ٢- أن المراد من حبس الشياطين تقليل المعاصي وهذا أمر مشاهد فإن وقوع المعاصي في رمضان أقل من غيره.
أن عدم وقوع المعاصي في رمضان متحقق لكن بالنسبة للصائمين الذين حافظوا على شروط الصوم ورعوا آدابه فهم الذين لا تقع منهم المعاصي.
-
٤ - أنه لا يلزم من حبس الشياطين عدم وقوع المعاصي لأن أسباب
٢٩٦
المقالات والمقدمات
المعاصي كثيرة، مثل النفوس الخبيثة فإنها بطبعها ميالة إلى المعاصي داعية إليها،
ومثل شياطين الإنس وهؤلاء لا يحبسون في رمضان.
وسلك بعضهم .
مسلكًا آخر أبطل به الاستشكال من أصله فقال: ليس
المراد من حبس الشياطين إلا قطع عذر المكلف لأن كثيرًا من الناس إذا فاتته طاعة، أو حصلت منه معصية نسب ذلك إلى الشيطان واعتل بوسوسته فكان حبس الشياطين لدفع ذلك، فكأن الله يقول للمكلف: قد حبست عنك الشياطين الذين تعتذر بهم فيما يقع منك من تقصير، ولم يبق لك ما تعتذر به فاجتهد واغتنم هذا الشهر العظيم.
وبما يتعلق بالحديث من الفوائد ما استنبطه العلماء من قوله: «اذا دخل رمضان قالوا فإنه يدل على أنه يجوز أن يقال: رمضان من غير أن يضاف إليه لفظ شهر، وهذا مذهب البخاري والنسائي، وصححه النووي.
وقال جماعة من المالكية والشافعية : يكره أن يقال رمضان بدون أن يضاف إليه لفظ شهر، واستدلوا بما رواه ابن عدي والبيهقي من طريق محمد بن أبي معشر، وعن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا شهر رمضان».
وأجاب أصحاب القول الأول بضعف هذا الحديث بأن أبا معشر ضعيف
في رواية الحديث، وبالخصوص في روايته عن المقبري.
قال ابن أبي شيبة: سألت علي بن المديني عن أبي معشر فقال: ذاك شيخ ضعيف كان يحدث عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب بأحاديث صالحة وكان يحدث عن المقبري ونافع بأحاديث منكرة.
الحديث الشريف وعلومه
۲۹۷
وكذا ضعفه النسائي والدارقطني وغيرهما، وقال البخاري: منكر
الحديث.
ثم لو كان هذا الحديث أفاد كراهة أن يقال رمضان فقط لجاز لنا أن نعمل به وإن كان ضعيفًا لأن الكراهة تنزيهية والضعيف يعمل به فيها كما قال النووي، ولكن الحديث أثبت زيادة على الكراهة أن رمضان اسم الله تعالى ومعلوم عند أهل السنة أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية لا يثبت شيء منها له تعالى إلا بقرآن أو حديث صحيح متفق على صحته، وهذا الحديث ليس بصحيح فلذلك لم يعمل به، والله أعلم.
۲۹۸
المقالات والمقدمات
٤٥- شرح حديث شريف (١)
قال - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ: منهوم في علمٍ لا يشبع، ومنهوم في مال لا يشبَعُ». رواه الحاكم عن أنس رضي الله عنه.
الألفاظ اللغوية:
«النَّهم»: إفراط الشهوة في الشيء وكثرة الازدياد منه، يقال: نَهم بكسر الهاء في الماضي وفتحها في المضارع إذا اشتدت شهوته إلى أكل أو غيره، والوصف
منه يأتي على ثلاث صيغ: نهم - ونهيم - ومَنْهُوم
الشرح
فقوله: «منهومان لا يشبعان معناه شخصان مفرطان في شهوتهما لا يشبعان مما يشتهيانه، بل كلما حصلا منه شيئًا اشتدت شهوتهما إلى ما بعده وهكذا، ومما لا شك فيه أن أنواع الشهوة كثيرة تختلف باختلافها أوصاف المنوهمين مدحا وذما فلذلك كان قوله: «منهوم في علم... إلخ، موقعه مما قبله
.
موقع المفصل من مجمله في الإيضاح للمعنى والتقييد لعموم اللفظ. وقد جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في هذا التفصيل بين ممدوح ومذموم، فالنَّهم في العلم محمود وممدوح بدليل الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل العلم، وسنشرح بعضها على صفحات هذه المجلة الغراء إن شاء الله
تعالى.
وقد روى عمرو بن الحرث، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي
(۱) مجلة هدي الإسلام السنة الأولى العدد (٥) ٢٥ شعبان ١٢٥٣.
الحديث الشريف وعلومه
۲۹۹
سعيد الخدري مرفوعا: «لن يشبع المؤمنُ من خير». وفي لفظ: «من علم يسمعه
حتى يكون منتهاه الجنَّة».
والنهم في الدنيا مذموم بدليل الأحاديث الدالة على مدح التقلل منها وفي "سنن الترمذي" مرفوعا: «يقولُ ابنُ آدمَ: مالي مالي، وهل لك من مالِكَ إِلَّا ما
تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو ليست فابليت؟».
وفي "السنن" أيضًا مرفوعا: الو كان لابن آدم واديا ) من ذهب لأحب أن يكون له ثانيًا ولا يملأُ فاه إلا التُّرابُ ويتوب الله على من تابَ».
وكلا الحديثين قال عنهما الترمذي: حسن صحيح.
هذا ما يتعلق بشرح الحديث على سبيل الاختصار والإيجاز على أن الحديث واضح المعنى وإنما ذكرته لأتكلم على إسناده من حيث الصناعة الحديثية؛ لأني رأيت في بعض الجرائد اليومية السائرة مقالًا لبعض الناس طعن فيه على هذا الحديث، وذكر أنه موضوع أو ضعيف أو نحو هذا، والواقع أن الحديث
صحيح لا غبار عليه ولا مطعن فيه وإليك أيها القارئ بيان ذلك: قال الحاكم في "المستدرك ": حدثنا علي بن حمشاد العدل: ثنا يحيى بن منصور الهروي: ثنا أحمد بن نصر المقري النيسابوري: وأخبرني أبو الحسن محمد بن عبدالله الجوهري: ثنا محمد بن إسحاق الإمام -يعني ابن خزيمة: أحمد بن نصر : ثنا شريح بن النعمان: ثنا أبو عوانة، عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْهُومان لا يَشْبَعان: مَنْهُومٌ فِي
ثني
(1) كذا في "سنن الترمذي" وهو مخالف لقواعد اللغة ولعله من تصحيف بعض الرواة بدليل أنه جاء بلفظ آخر مستقيم.
۳۰
المقالات والمقدمات
عِلْمٍ لَا يَشْبَعُ، وَمَنْهُومٌ فِي دُنيا لا يَشْبَعُ».
ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولم
أجد له عِلَّة». وسلّم كلامه الحافظ الذهبي في "التلخيص".
وهذا السند كافٍ في صحة الحديث ولكنا مع ذلك نذكر أسانيد أخرى حتى يظهر خطأ. من ضعفه أو تكلم فيه ظهور الشمس في كبد السماء ليس دونها سحاب، ولكي لا يجرؤ أحد على تصحيح الأحاديث أو تضعيفها بدون معرفة قواعد علم الحديث ولا تثبت في النقل عن أصحابه.
قال الحاكم أيضًا: ثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك: ثنا أبو جعفر محمد بن عبيد الله بن أبي داود المنادي : ثنا روح بن عبادة: ثنا كَهُمَس بن الحسن، عن عبد الله بن شقيق قال: جاء أبو هريرة إلى كعب يسأل عنه وكعب في القوم، فقال كعب: ما تريد منه ؟ فقال : أما أني لا أعرف أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يكون أحفظ الحديثه مني. فقال كعب: أما إنك لن تجد أحدا يطلب شيئًا لا يشبع منه يوما من الدهر إلا طالب علم وطالب دنيا، فقال : أنت كعب فإني لمثل هذا جئت.
ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وقول الصحابي إني لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أحفظ من غيري يخرج في
مسانيده». وسلّمه الذهبي غير أنه قال: «في السند انقطاع».
وأخرج الطبراني في "الكبير"، والقضاعي في "المسند" من طريق أبي بكر الداهري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب عن عبدالله بن مسعود، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «منهومان لا يشبعان: طالب
الحديث الشريف وعلومه
۳۰۱
علم، وطاب دنيا». أبو بكر الداهري ضعيف.
وقال ابن أبي شيبة : ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس
قال: «منهومان لا تنقضي نهمتهما طالب علم وطالب دنيا». هكذا رواه ابن أبي شيبة موقوفا.
ورواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، والبزار في "المسند" من طريق
ليث - هو ابن أبي سليم - عن مجاهد، عن ابن عباس به مرفوعًا. وليث بن أبي سليم حسن الحديث في الأصول على الانفراد فكيف مع المتابعات في الشواهد.
وروى الطبراني في "الأوسط"، بإسناد ضعيف عن. عائشة مرفوعا: «أربع لا يشبعنَ من أربع: عين من نظر، وأرض من مطر، وأنثى من ذكر، وعالم من
علم.
أفلا
يستحيي من يقدم على تضعيف حديث مثل هذا له من الطرق ما لا
ينزل بها عن رتبة الحسن فضلا عن كون أحد طرقه بانفراده على شرط الصحيحين بإقرار الذهبي وكفى به ناقدا.
۳۰۲
٤٦- تفسير الحديث الشريف (۱)
المقالات والمقدمات
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أربع من أعطيهنَّ فقد أُعطى خير الدُّنيا والآخرة: قلبا شاكرًا، ولسانا ذاكرًا، وبدنا على البلاء صابرًا، وزوجةً لا تبغيه حُوبًا في نفسها وماله». الحوب بفتح الحاء وتضم، هو الإثم. هذا الحديث من جوامع الكلم وكل حديثه صلى الله عليه وآله وسلّم كلم جوامع، فانظر أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، وابحث عن موجبات المتعة الروحية التي تفوق كل متعة وكل لذة، ومحص تلك الأسباب والموجبات تمحيصا دقيقا تجدها لا تخرج عما حده هذا الحديث الشريف في هذه الخصال الأربع، ولهذا قال: من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والأخرة». إذ ما من خير إلا وهو يرجع إليهن أو يتفرع عنهن. أولاهن: قلب شاكر والشكر مقام قلّ من يصل إليه بدليل قوله تعالى:
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ ﴾ [سبا : ١٣].
وليس الشكر أن تقول بلسانك: الحمد لله والشكر الله، فكل الناس يقولون هذا، ولكن الشكر : أن يعترف قلبك بنعم الله ويشعر بعظمها وخروجها عن
دائرة الحصر وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: ١٨].
فينتج عن هذا إيقان بعظمة الله وسعة قدرته فإذا حصل هذا في القلب وتكيف به نشأ عنه حب الله والرغبة في طاعته لقاء ما أنعم به، بل يستحيي
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الرابعة العدد (٧٩) ٢٦ شوال ١٣٦٧ .
الحديث الشريف وعلومه
۳۰۳
الإنسان حينئذ أن تصدر منه معصية لأنه يرى نفسه مغمورًا في إحسان الله إليه، وليس من العدل ولا من العقل أن يقابل الإحسان بالاساءة، فيجتهد في
الطاعة ويبتعد عن المعصية إرضاء للخالق المنعم المتفضل سبحانه وتعالى. ومن نعم الله علينا أنه يرضى منا بالعمل اليسير من الطاعة ويثيبنا عليه بالكثير من الثواب، مع أننا لو عبدناه الليل والنهار ما بلغنا حق نعمة من نعمه الكثيرة، وكان داود عليه السلام يقول: إلهي لو أنَّ لكل شعرة منِّي لسانين يسبحانك الليل والنهار ما قضيت نعمة من نعمكَ».
ثانية تلك الخصال: «السان ذاكر»، والذكر يدل على حب المذكور واشتغال
القلب به وفي حديث ضعيف: «مَن أحبَّ شيئًا أكثرَ مِنْ ذِكرِهِ».
ثم الذكر أنواع كثيرة:
منها -وهو أفضلها - تلاوة القرآن إذ هو كلام الله القديم، وهو الذكر الحكيم فيه الهدى والنور، هو القول الفصل، والجد ليس بالهزل من تركه من
جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. ومنها الاستغفار وهو استغفر الله ، ومنها : قول لا إله إلا الله أو سبحان الله أو الحمد الله إلى غير ذلك.
وينبغي للإنسان ألا يخلي نفسه من ذكر يقوله كل يوم فقد وردت أحاديث
كثيرة صحيحة في فضل الذكر والإكثار منه بقدر الطاقة.
قال معاذ بن جبل آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «أن تموت ولسانك رطب مِنْ ذِكرِ الله».
٣٠٤
المقالات والمقدمات
ثالثة تلك الخصال: بدن صابر على البلاء». لأن الله تعالى طبع هذه الحياة الدنيا على الكدورات والأغيار، وجعلها دار امتحان واختبار، فمن أرادها صفوا بلا كدر فقد طلب محالا
ومكلف الأيام ضدَّ طِباعِهَا مُتطلب في الماءِ جَذُوةٍ نارِ وأقول قول الله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران:
١٤٠] تجده ينطق بما فطر الله عليه الدنيا من تقلبات (۱)
(۱) المقالة ناقصة.
الحديث الشريف وعلومه
٤- تفسير الحديث الشريف (۱)
٣٠٥
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا أديت زكاة مالك فقد أديت ما عليك، ومن جمع مالا حرامًا ثم تصدَّق به لم يكن له فيه أجر، وكانَ إصْرَهُ عليهِ».
الزكاة ركن من أركان الدين وقاعدة من قواعد الإسلام قرنها الله بالصلاة في غير آية من كتابه الكريم إشادة بفضلها وإشارة إلى عظيم قدرها وجليل خطرها وتوعد على تركها بالعذاب الشديد يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَرْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْرُونَ } [التوبة : ٣٥]. والزكاة فرضها الشارع طهرة للمال وتحصينا له، وجعلها سببًا لنمائه وطعمة للفقير والمحتاج والمسكين وابن السبيل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ } [التوبة : ٦٠]. والزكاة نظام اجتماعي عظيم يدعو إلى التالف والتعاضد والتوادد والتراحم، فالنصيب الذي يخرجه الغني من ماله يخرج الضغن من قلوب الفقراء، وتجتمع على محبته وإجلاله وترتفع الأيدي بالدعاء إلى الله أن يبارك في
عمره وماله.
وبالعكس إذا كان الغني بخيلا لا يخرج الزكاة فإن القلوب تجتمع على
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية، السنة الثانيه، العدد (۳۹) ۷ صفر ١٣٦٦ .
٣٠٦
المقالات والمقدمات
بغضه والدعاء عليه جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من
أساء إليها .
فلو أخذت الحكومات الإسلامية بنظام الزكاة الذي يفرضه دينها لصلح حال المجتمع الإسلامي، وقل فيه الفقر والإعواز واختفت منه تلك الدعاوى الهدامة التي نسمعها بين حين وآخر، ويوشك أن يعظم ضررها ويستفحل
خطرها.
ووزارة الشئون الإجتماعية التي تحارب الفقر لم لا تعني بأخذ الزكاة من التجار والمزارعين وتقوم بإبلاغها لكل فقير ومحتاج؟ فإن هذا أكبر دواء لعلاج الفقر وتخفيف وطأته.
فلتقم وزارة الشئون بهذا الموضوع ولتفهم الأغنياء أنها يخرجونه من زكاة أموالهم ليس موكولا إلى اختيارهم، بل أمر فرضه الله وأمضاه، وأوجب على الحاكم جبايته منهم وتوصيله إلى مستحقيه، فالغني الذي يخرج زكاة ماله قد قضى ما أوجبه الله عليه ولهذا يقول الحديث: «إذا أديت زكاةَ مالِك فقَد قَضَيتَ ما عليك» ولم تبق مطالبًا بشيء واجب إلا ما يمليه عليك دينك ومروءتك من صدقات تطوع ومساعدات خيرية تقتضيها الظروف والمناسبات مما يدخل في
عموم قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: ٢].
لكن يجب أن تكون هذه الصدقات والمساعدات من مال طيب وكسب حلال، أما إذا كانت من مال حرام فإنها لا تقبل لأن الله الطيب لا يقبل إلا طيبا ولهذا يقول الحديث: ومن جمع مالا حرامًا ثُمَّ تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره بكسر الهمزة أي: وزره - عليه».
الحديث الشريف وعلومه
والمال الحرام أنواع كثيرة:
منها: الأرباح التي تؤخذ من صندوق التوفير.
ومنها مكسب ورق اليانصيب
ومنها: كسب المغنين والمغنيات.
ومنها كسب الدجالين والمشعوذين كأصحاب الطوالع وضاربي الرمل
والودع وغير ذلك.
أما كسب الزنا والرقص وبيع الخمر والخنزير فحرمته لا تحتاج إلى بيان. وقد يكون الكسب في أصله حلالا لكنه يحرم لعارض من العوارض
فالبيع حلال ، لكن يحرم وقت نداء الجمعة ويكون بيعًا فاسدا. وكسب أصحاب المطاعم حلال لكنه يحرم في نهار رمضان، وكذلك أصحاب القهاوي مكسبهم في نهار رمضان حرام وخبيث لأنهم ساعدوا المفطر على عصيانه وكذلك يحرم عليهم ما يكسبونه عن طريق لعب الطاولة والكوتشينه كما هو حاصل في أغلب القهاوي
والمقصود أن طريق الكسب الشرعي واضح لمن أراد سلوكه وساعده التوفيق، وفقنا الله لما يرضيه
۳۰۸
٤- تفسير الحديث الشريف (۱)
المقالات والمقدمات
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن كلِّ مُسْكِرٍ ومُفَتّرٍ». لا خلاف بين أحدٍ من المسلمين في أنَّ شرب المسكر حرام، بل كبيرة من الكبائر كالزنا والربا وغيرهما، والأحاديث الواردة في التوعد على شربه كثيرة جدا يكفي منها قوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ عند الله عهدًا لمن يشربُ المسكر أن يشقيه من طيئَةِ الخَبَال». قالوا: وما طينة الخبال؟ قال: «عرَقُ أهلِ النَّارِ أُوعُصارةِ أَهل النَّارِ».
ثم إن قليل المسكر وكثيره في الحرمة والحكم سواء. للحديث الصحيح: ما أسكر قليله فكثيره حرام». وهذا شيء لا نزاع فيه ولا خلاف ولكن كثيرًا من الناس اليوم ممن ضعف دينهم وقل يقينهم يترخصون بشرب البيرة أو البوظة بدعوى أنها هاضمة أو مبردة، أو نحو ذلك من الأعذار الواهية التي لا تجديهم عند الله نفعا، كما أن جماعة من جهلة المتعلمين ينسبون إلى أبي حنيفة إباحة النبيذ غير عالمين أن المراد به نبيذ خال عن الإسكار كما هو مبين في كتب
الحنفية، أما النبيذ المسكر فحرمته مقطوع بها من غير نزاع.
بعد هذا نعود إلى شرح الحديث فقول أم سلمة رضي الله عنها: «نهى رسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن كل مسكر ومفتر». يفيد تحريم هذين النوعين لأن النهي المطلق في عرف الشرع يقتضي التحريم، والمسكر معروف. أما المفتر بكسر التاء المشددة فهو هذه المخدرات كالحيشية وما أشبهها
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية، السنة السادسة، العدد (٤٤) ٢٢ ربيع الثاني ١٣٦٦ .
الحديث الشريف وعلومه
۳۰۹
فهذا الحديث يفيد تحريمها، وقد استدل به الحافظ العراقي لذلك في مجلس مناظرة عقده رجل من العجم وطلب فيه الدليل على حرمة الحشيشة، وأعجب الحاضرون باستدلال العراقي. وقد حكى النووي الإجماع على حرمة الحشيشة وذكر ابن تيمية في فتاواه "الكبرى" أن مستحلها يكفر، وهذا منه بناءا على أنها مسكرة، ومستحل المسكر يكفر بلا نزاع.
لكن الصحيح أنَّ الحشيشة مخدّرة كما اختاره القرافي في "الفروق" وأبو الحسن في شرح "المدونة" وغيرهما، والفرق بين المسكر والمخدر أن المسكر ما غيب العقل دون الحواس مع نشوة وفرح، والمخدر ما غيب العقل دون الحواس لا مع نشوة وفرح، وذكر القسطلاني في "المواهب اللدنية" أن بعضهم
جمع في الحشيشة عشرين ومائة مضرة دينية وبدنية ولبعضهم في ذمها: قُل لمن يأكلُ الحَشِيشَةَ جَهْلًا يا خَسِيسًا قد عِشْتَ شَرَّ مَعيشه دية العقل بدرة فلماذا يا سَفِيها قد بعتها بحَشِيشه ومثل الحشيشة غيرها من المخدرات كالأفيون والسيكران والمعاجين ونحوها فكل ذلك حرام داخل في حدود المفتر في هذا الحديث وضرره على العقول والأبدان متحقق مشاهد.
وقد أحسنت الحكومة بمحاربة هذه الأشياء لكن ما بالها تبيح الخمر مع أنها الأصل الأصيل والداء الوبيل، فالواجب أولا وقبل كل شيء محاربة الخمر لعظم إثمها وشدة ضررها وقبح أثرها، ثم يلحقها كل ضار بالعقل مفسد للدين مدعاة لتضيع المال وإنهاك الجسم، فإذا قدر النجاح في محاربة هذه الأدواء تم أمر المجتمع
وصلح حاله واستقام سيرة إلى هدفه المنشود وغرضه المقصود.
۳۱۰
٤٩- تفسير الحديث الشريف (۱)
المقالات والمقدمات
عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله بعثني رحمةً وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكِبارات - يعني البرابط - والمعازف والأوثان التي كانت تُعبد في الجاهلية، وأقسم ربِّي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جنهم معذَّبًا أو مغفورا له، ولا يسقيها صبيًا صغيرًا إلا سقيته مكانها من حميمِ جَنَّهم مُعذبًا أو مغفورًا له، ولا
يدعُها أحد من عبيدي من مخافَتي إلا سقيتُه إيَّاها من حظيرة القُدُسِ». بعث الله نبيه سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة عامة كما قال
تعالى مخاطبًا له: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] وجعل رسالته شاملة وهدايته كاملة وأيده بمعجزات بأهرات أعظمها معجزة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه، والباقي على وجه الدهر لا تزيغ به الأهواء ولا تتشعب معه الأراء ولا يشبع منه العلماء ولا تمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه. فيه قوانين الأحكام ونظم السياسة وقواعد الإجماع وحقائق العلوم والمعارف ولطائف الأسرار والحكم ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ ) [الأنعام: ۳۸]، وكان مما أمر الله به رسوله محاربة الشرك ومخالفة المشركين، والقضاء على ما كان شائعا في الجاهلية من لهو باطل وعقائد لا تستند إلى دليل صحيح وخرافات لا يقبلها نظر ولا يؤيدها ،منطق، كالوأد والكهانة والتطير
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الثالثة العدد (٤٥) ٨ جمادى الأولى ١٣٦٦هـ.
الحديث الشريف وعلومه
۳۱۱
والاستمطار بالأنواء والتمائم وغير ذلك مما هو معروف في كتب التفسير
والحديث والتاريخ. ومنه ما جاء في هذا الحديث الذي نتكلم عليه وهو من رواية أبي أمامة - بضم الهمزة واسمه صُدَيٌّ بضم ا الصاد وفتح الدال ابن عجلان بفتح العين وسكون الجيم - الباهلي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله بعثني رحمة وهدي للعالمين».
ومن رحمته عليه الصلاة والسلام أن الله رفع عن أمته العذاب العاجل الذي حل بالأمم الماضية فلم يحصل في هذه الأمة خسف ولا قذف قال تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: ٣٣].
أما هدايته عليه الصلاة والسلام فظاهرة شاملة وأمرني أن أمحق بفتح الهاء المهملة «المزامير» جمع مزمار بكسر الميم والكبارات» بكسر الكاف وفتح الباء الموحدة جمع : كَبَر بفتحتين.
وقوله: «يعني: البرابط» تفسير من الرواة والبرابط: بفتح الباءين بينهما راء ساكنة. والمعازف) بفتح الميم جمع عزف بفتح العين وسكون الزاي وهو جمع سماعي غير مقيس ويقال في المفرد: معزف بكسر الميم، وعلى هذا يكون المعازف جمعًا مقيسًا وكل هذه آلات ملاه وطرب
أما المزمار فهو معروف وأما الكَبَر فهو : طبل له وجه واحد وهو: المزهر أيضًا على قول، وأما البربط فهو : الكَبَر على التفسير المذكور في هذا الحديث
وقيل: العود والمعازف والألات ذوات الأوتار.
وقد اختلف العلماء في جميع آلات الملاهي فمشهور مذهب مالك
۳۱۲
المقالات والمقدمات
والشافعي وأبي حنيفة وأحمد تحريم ذوات الأوتار في الأعراس وغيرها لما فيها من شدة الاضطراب المؤدي إلى الاستكثار منها وذلك يورث نفاقا في القلب
لبعده عن سماع القرآن وغيره مما يورث خشية الله وطاعته. وذهب جمع إلى الإباحة مطلقا وهو قول ابن حزم ا الظاهري وحكاه الماوردي عن بعض الشافعية ومال إليه أبو منصور البغدادي وكان إبراهيم بن سعد الزهري أحد مشايخ الشافعي لا يحدث حديثا إلا بعد نقر العود، ولأبي المواهب التونسي تأليف في إباحة سماع الآلات ذكر فيه أن جمعا من الصحابة سمعوا نقر العود منهم ابن عمر وعبدالله بن جعفر وابن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وغيرهم. كما أن للشيخ عبد الغني النابلسي في هذا الموضوع رسالة مطبوعة هي "إيضاح الدلالات في سماع الآلات، وممن ألف في الإباحة أيضا الإمام العارف شهاب الدين الحديدي.
أما ابن حجر الهيتمي الفقيه فقد ذهب إلى التحريم وشدد فيه وبالغ في الرد على من قال بالإباحة وذلك في كتاب " الزواجر" وفي كتاب آخر خاص سماه
"كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع " رد به على أبي المواهب التونسي. كل هذا في آلات الأوتار وأما غير ذوات الأوتار كالكبر والغبربال والدف فتجوز في الأعراس بلا كراهة وكذلك في الأعياد والأفراح على تفصيل كبير مذكور في محله من الكتب المشار إليها وغيرها. وأما سماع الغناء بدون آلة طرب فهو جائز إن خلا مما يثير الشهوة ونحوها
مما هو محرَّمٌ شرعًا وهذا مقام يحتاج إلى بسط لا يتحمله هذا الموضوع.
الحديث الشريف وعلومه
۳۱۳
ثم قال: « والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية»: هذا مما أمر الله رسوله بمحقه والقضاء عليه وقد فعل فكسر الأصنام التي كانت فوق الكعبة وهدم اللات والعزى، وحذر أمته من الشرك وما يقرب إليه من عادات وتقاليد حتى ترك الناس على منهاج واضح وطريق قويم.
وأقسم ربي بعزته لا يشربُ عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبًا أو مغفورًا له هذا وعيد شديد لمن يشرب الخمر فقد أخذ الله على نفسه عهدًا أكده بالقسم أن يسقي شارب الخمر مكانها من حميم جهنم عياذا بالله ولو كان مغفورًا له لأن الخمر أم الخبائث ومفتاح الشرور وأصل البلايا فجدير بها هذا العذاب الشديد.
ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته إياها من حظيرة القدس». أي: الجنة، ففيها أنهار من خمر لذة للشاربين، لا فيها غول ولا هم عنها
ينزفون، رزقنا الله دخولها من غير سابقة عذاب بمنه وكرمه.
٣١٤
المقالات والمقدمات
٥٠- تفسير الحديث الشريف (۱) مجامع خصال الخير
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاث من كُنَّ فيه استحق ولاية الله تعالى: حِلمٌ أصيل يدفعُ سَفَه السَّفيه عن
نفسه، وورع صادق يحجزه عن معاصي الله، وخُلُقُ حسن يداري بِهِ النَّاسَ». اشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاث خصال هي مجامع خصال الخير وأصول الفضائل وأسس مكارم الأخلاق أولى تلك الخصال الفاضلة : حلم أصيل غير مكلف ولا دخيل يدفع به صاحبه سفه السفيه عن نفسه إغضاء عنه وتكرمًا حتى ينقلب العدو صديقا حميما. كما روى أن عليا زين العابدين عليه السلام عرض له بعض السفهاء
.
بالشتم والايذاء فمر به زین العابدين مر الكرام ولم يجبه بشيء فتبعه ذلك السفيه يقول له: إياك عنيت فأجابه زين العابدين وعنك أغضيت وعفوت.
فقال الرجل: أشهد أنك من بيت النبوة وتاب على يديه.
وفي مثل هذا يقول الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا لَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنه وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: ٣٤].
والحلم - هداك الله خلق عظيم يدل على قوة عزيمة صاحبه، وضبط نفسه عند موجبات الغضب والاستفزاز لا عن ضعف واستكانة بل عن كرم
نفس وطيب عنصر بعدا عن الدنايا وسفاسف الأمور. وقد كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم أوفر الناس حظا من هذا الخلق
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية الرابعة العدد (۷۸) ۱۳ شوال ١٣٦٧.
الحديث الشريف وعلومه
۳۱۵
العظيم فكان أحلم الناس على حين أنه كان أشجعهم بل كان من علامات نبوته عند أهل الكتاب أن يسبق حلمه غضبه، ولا يزيده جهل الجاهل عليه إلا حلما وتغاضيا وكثير منهم أسلموا بسبب ما شاهدوا من حلمه الذي لم يعهد له نظير. ثانية تلك الخصال الفاضلة ورع صادق يحجز صاحبه عن معاصي الله.
والورع يا هذا - ملاك الدين وباب التقوى وعصام اليقين.
وهو نوعان: ورع كاذب يمنع من المعصية أمام الناس حيث يخشى الذم والعار، فإذا ما خلا صاحبه بنفسه خلع رداء الورع والتقوى وبارز مولاه بالمعاصي كأنه لا يعتقد أن الله يعلم سره ونجواه ومثل هذا الورع وبال على صاحبه لأنه نفاق ورياء .
الثاني: ورع صادق مبعثه خشية الله ومراقبته وهذا هو الورع المطلوب وهو
الذي يحجز صاحبه عن معاصي الله في جميع أحواله.
ومعنى الورع: الابتعاد عما فيه شبهة مخالفة الوقوع في الحرام كما جاء في الحديث: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتَّى يدع مالا بأسَ بِهِ حذرًا مَّا بِهِ البأس». بترك الشبهات تتفاضل الناس ويتميز المتقي من غيره، أما الحرام الواضح كالخمر والزنا فالناس في معرفته سواء. ثالثة تلك الخصال الفاضلة : خلق حسن يداري به الناس بأن يقابل كل شخص بما يليق بمقامه وينزله المنزلة التي هيأها الله له في المجتمع فالمدارة هي أن تعطي لكل شخص ما يناسبه و تخاطبه بما يليق به وتشعره باحترامك له ولا تجرح شعوره بكلمة نابية أو بحركة يفهم منها الزراية به والامتهان له، فمن يكون بالصفة المذكورة تتوافر القلوب على حبه، وتجتمع الناس على إجلاله
.٣١٦
المقالات والمقدمات
وتعظيمه، ولهذا ذهب صاحب الخلق الحسن بخير الدنيا والآخرة. أما المداهنة - عفاك الله منها - فهي خلق ذميم ووصف قبيح تنبني على النفاق والمخادعة وهي تنحصر في تعظيم الشخص بما لا يستحقه ووصفه بما ليس فيه كأن تعظم الغني لماله وثروته لا لدينه، وتصفه بالكرم وهو بخيل وتصوّب قوله وأنت تعلم أنه خطأ، وتمدحه بالتقوى والصلاح في حين أنه فاسق مستهتر ومن المداهنة أيضًا تلمس الرخص البعيدة والأقوال الشاذة لتبرير موقف صديق في خطأ وقع منه، أو منكر ارتكبه، لأن الواجب على الشخص أن لا
يجاهل أحدًا على حساب الدين ولو كان أباه أو أقرب الناس إليه. أما بعد، فهذه الخصال الثلاثة حلم أصيل، وورع صادق، وخلق حسن، ما اجتمعت في شخص وتحقق بها إلا استحق بفضل الله ولاية الله تعالى وعنايته ونصرته. وليس كل من ادعى الولاية وليا ولا كل من تمتم بألفاظ غير مفهومة وأتى بحركات بهلوانية معلومة.
ولكن الولي من تولّى الله بالطاعة فتولاه الله بالعناية.
الولي من راقب مولاه في سره ونجواه.
الولي من عامل الخلق بما يرضي الحق.
الولي من تدثر بدِثار الخشية وتردى برداء التواضع وتجمل بثياب التقوى.
ألا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ
) ا
امَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس: ٦٢ - ٦٤] .
الحديث الشريف وعلومه
٥١- تفسير الحديث الشريف
في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (۱)
من حج ولم يزرني فقد جفاني».
۳۱۷
من أكرمه الله بحج بيته الحرام وشرفه بالوقوف في تلك المشاهد العظام، فحق عليه أن يشد الرحلة إلى المدينة المنورة ليجتلي طلعة أنوارها، ويتشرف بمشاهدة آثارها، وينعم بالقرب من الحضرة النبوية الشريفة، ويفوز بقضاء مطالبه ونيل مآربه.
وفي المدينة مآثر عظيمة، ومشاهد فخمة تأخذ الألباب وتنسي من يشاهدها جميع الأهل والأصحاب، ففيها مسكن سيد الخلق وأفضل مخلوق ظهر على وجه الأرض، وفيها المسجد النبوي الكريم الذي تعدل الصلاة فيه ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والذي يشتمل على روضة من رياض الجنة وهي ما بين القبر والمنبر كما ثبت في الحديث. في المدينة بقيع الغرقد وهو مدفن آل البيت الكرام والصحابة العظام وغيرهم من الأئمة الأعلام كفاطمة الزهراء وابنها الحسن بن علي وعائشة ومالك بن أنس وغيرهم ممن يطول عددهم.
وفيها مسجد قباء الذي أنزل الله فيه قوله تعالى: لَمَسْجِدُ أُيْسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَنْطَهَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: ١٠٨]. وفيها جبل أحد الذي قال فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أحد يحبنا
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الأولى العدد (۱۱) ٢٥ ذي القعدة ١٣٦٤.
۳۱۸
المقالات والمقدمات
ونحبه وهو على ترعة من ترع الجنة». وعلى هذا الجبل كانت وقعة أحد المشهورة في كتب السيرة النبوية واستشهد فيه جماعة من الصحابة كأسد الله حمزة عم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم وسيد الشهداء، وكعبد الله بن حرام الأنصاري والد جابر بن عبدالله وكاليمان والد حذيفة، وغيرهم من شهداء أحد.
وفيها غير ذلك من المواقف التي يطول ذكرها ولو لم يكن في المدينة إلا زيارة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم والمثول بين يديه والسلام عليه وعلى ضجيعيه أبي بكر وعمر والتوسل به إلى الله والاستشفاع به لديه لكفى بذلك فضلا وشرفًا، وقد نص العلماء من المذاهب الأربعة في مناسكهم التي ألفوها على سُنية زيارة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وتأكد طلبها، وبينوا الآداب
التي ينبغي أن يسلكها الزائر في ذلك المكان الطاهر المقدس.
وذكروا ما رواه عياض وغيره عن محمد بن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى آدب قومًا فقال: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: ٢].
ومدح قومًا فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَيْكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحجرات: ٣].
وذم قومًا فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحجرات: ٤].
الحديث الشريف وعلومه
۳۱۹
وإن حرمته ميتا كحرمته حيًا فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبدالله استقبل القبلة وأدعوا أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله استشفع به فيشفعك الله قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ ﴾ [النساء: ٦٤] الآية.
فاحرص أيها الحاج على زيارة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأطلها بمهجتك ومالك واعلم أنك إذا نلتها فقد سعدت وسعد جدك، ولا تتركها كما تركها بعض المحرومين فتجفو نبيَّك وتحرم خيرًا كثيرًا وفي ذلك خسران مبين، وأكثر من الدعاء هناك فإنه مستجاب واسأل ربك أن يرزقك المغفرة وحسن الختام.
۳۲۰
المقالات والمقدمات
٥٢- تفسير الحديث الشريف (۱)
فضل الحج
إن عبدًا صَحَحْتُ له جِسْمَهُ ووسَعْتُ عليه في المَعِيشَةِ تَمْضِي عليه خمسة أعوام لا يَفِدُ إِليَّ مَحْرُومٌ». يقرر هذا الحديث الشريف أنَّ مَن تركَ الحَجَّ خمس سنوات متوالية وهو صحيح موسر فإنه يكون محروما من فضل الله محروما من نوال خيره محروما من هدايته وتوفيقه، ذلك لأنَّ الحَجّ أحد أركان الإسلام وقاعدة من قواعد الدين، وأمارة على قوة الإيمان وثبات اليقين.
قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَى عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: ٩٧] جعل الله في هذه الآية ترك الحج كفرا للإشارة إلى أن الدين لا يتم إلا بالحج، وأن من لم يحج فدينه ناقص وهو إلى الكفر أقرب وبه أنسب.
وفي الحديث: «مَن مَلَكَ زادًا أو راحِلَةٌ لأن يحج ولم يحجَّ فَلَيَمُتْ إن شاء الله يهوديًا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِبُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ . رواه الترمذي وغيره. والحج إلى جانب هذا يكفر الذنوب ويمحو الخطايا، ويكثر الرزق، ويطهر من جميع الشوائب، ويجعل القلب خالصا لله لا يتجه إلى غيره، والحجاج ضيوف الله ووفود على بيته لبوا دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الأولى العدد (٩) ٢٤ شوال ١٣٦٤.
الحديث الشريف وعلومه
۳۲۱
قال الله تعالى لإبراهيم: ﴿ وَأَذَن فِي النَّاسِ بِالْحَجَ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) لِيَشْهَدُوا مَنَفِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: ۲۷ - ۲۸] .
فالسعيد من وفق لتلبية هذه الدعوة الكريمة ليشاهد بيت الله وما يتجلى عليه وعلى زائره من رحماته وبركاته في جميع اللحظات، ويحظى بمشاهدة مآثر الأنبياء، ويتشرف بكثم مواطئ أقدامهم، ويتنقل بين أماكن تستجاب فيها الدعوات، وتستدر رزق الله وبركاته ومغفرته في عرفات، وينال من ضيافة الله ما يصبو إليه قلبه ويتمناه. قال داود عليه السلام: «إلهي ما لعبادك عليك إذا هم زاروك في بيتك ؟ قال : لكل زائر حق على المزور، يا داود إن لهم علي - حقا أن
أعافيهم في الدنيا وأغفر لهم إذا لقيتهم. رواه الطبراني في "الأوسط". فمن فاته الحج وفاتته فوائده ومزاياه وفضائله كان لا شك محروما كل الحرمان، لأنه لم يلب دعوة إبراهيم الخليل، ولم ينل شرف ضيافة الله وزيارة بيته، وفاته مع هذا كله تلك المتعة الروحية واللذة القلبية التي يجدها الحاج في تنقله بين تلك الأماكن الطاهرة المقدسة فلا يملك إلا أن يسيل دموع الفرح والسرور مقرونة بالهيبة والإجلال
فينبغي لكل صحيح موسر أن يحج في خمس سنين مرة على الأقل ليخرج من دائرة الحرمان، ويكون من أهل الرضا والرضوان وقد ورد: « أنَّ آدم أتى البيتَ ألفَ أَتية لم يركب قط فيهن من الهند على رجليه».
وفي الحديث عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ هذا البيت دعامة من دعائم الإسلام فمن حج البيت أو اعتمر فهو ضامن على الله، فإنْ مات أدخله الجنة، وإن ردَّه إلى أهله رده بأجرٍ أو غنيمة».
۳۲۲
٥٣- تفسير الحديث الشريف (۱)
الدال على الخير كفاعله
المقالات والمقدمات
من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا يُنقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا
ينقص ذلك من آثارهم شيئًا». أخبر هذا الحديث الشريف أن المتسبب في الهدي بدعوة الناس إليه، له مثل أجر من تبعه واهتدى به؛ لأنه بذل جهده واستعمل وسع طاقته في هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وحضّهم على العمل به.
وكذلك من تسبب في الشر والضلال بدعوة الناس إليه كان عليه إثم من تبعه وعمل بدعوته، لأنه بذل جهده وعمل كل قوته في حمل الناس على الشر وأخذهم به، فلكل من الداعي إلى الهدى والضلالة نصيبه من الجزاء وقسطه من الثواب والعقاب لا يأخذه أحد غيره ولا يحمله عنه سواه، فليحرص الإنسان على أن يكون داعية إلى الخير وإلى التمسك بالآداب والفضائل، وأن يكون متمسكا بها متحليا بزينتها لتنجح دعوته وتؤثر في قلوب الناس حجته، إذ لا يكفي أن تدعو إلى الفضائل وأنت متجرد منها وأنت تحض على الخير وأنت بعيد عنه. فإن هذا من أخلاق المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون ويظهرون خلاف ما يبطنون يخادعون الله وهو خادعهم ألا ساء ما يصنعون. فالشرط الداعي إلى طريق الخير والرشاد أن يوافق قوله عمله، ويطابق سره علانيته وأن يكون الإخلاص رائده والحق هدفه وغايته، ومن حاد عن ذلك
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الأولى العدد (١٠)١١ ذي القعدة ١٣٦٤.
الحديث الشريف وعلومه
۳۲۳
كان ضرره أكثر من نفعه وإثمه أكبر من ثوابه.
ومن هنا كان خطأ الزعماء والقادة حين يخطئون يعود على الجميع، وتكون مسئوليتهم عن هفواتهم جسيمة وحسابهم عليها عسيرا؛ لأنهم قبلة أنظار الناس ومحل قدوتهم ومعقد أمالهم، فما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال يجب أن تكون نتيجة تفكير سليم، وخلاصة بحث طويل مشفوعة بإخلاص وتقدير للمسؤلية، فإن لم يستطيعوا ذلك ولم يقدروا عليه، فليتخلوا عن الزعامة والقدوة وليتروكها لغيرهم ممن هم أقدر عليها وأجدر بها، وليس من المصلحة أن يكثروا اللغط والضجيج ويضعوا العراقيل والأشواك في الطريق، فإن ذلك مع ما فيه من الوقوف في طريق الخير وقطع السبيل وحض الناس عليهما، فينطبق على فاعل ذلك شِقُ الحديث الثاني: «ومن دعا إلى ضلالة كان
عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا». فهذا الحديث بين مسؤلية القادة والزعماء من العلماء وغيرهم، وحدد ما لهم وما عليهم بعبارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض فعليهم أن يختاروا أي الطريقين شاءوا ليمشوا فيه ويسيروا عليه وليجعلوا نصب أعينهم قول الله تعالى : لا فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شرا يره [الزلزلة: ۷ - ۸] وقوله تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: ۱۷۰]. ومن أخطر الدعاة إلى الشر والضلال ناس يدعون إلى البدعة باسم ا ويستغلون عقول السُّنَّج والبسطاء فيشوشون على الناس ويلبسون عليهم أمر دينهم بما يلقون إليهم من شبه زيَّنها الشيطان وحبك ديباجتها، فأوجدوا فرقة
السنة
٣٢٤
المقالات والمقدمات
بعد ائتلاف وخصومة بعد وفاق وكانوا أبطال الفتنة وجنودها. وما كان أحوج المسلمين اليوم إلى من يجمع شتات الشمل ويرأب الصدع ويرتق الفتق حتى يعود للمسلمين غابر مجدهم، ويكونوا كما قال الله تعالى مخاطبا لسلفهم الصالح كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: ۱۱۰].
وفق الله المسلمين جميعا إلى ما فيه عزتهم وسعادتهم.
الحديث الشريف وعلومه
٥٤- تفسير الحديث الشريف (1)
٣٢٥
لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّةٌ وإِذا استُنفِرتمُ فَانفِرُوا». أمر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في أول نبوته أن يدعو إلى الله بالرفق واللين، وأن يخاطب الناس بطريق العقل والبرهان، وألا يلجأ إلى السيف والسنان.
ادع إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَندِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: ١٢٥]. نفذ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما أمر به وصار يدعو الناس إلى ربهم بالحسنى، ويغشى المشركين في مجالسهم ومنتدياتهم، ويعرض نفسه على وفود العرب في مواسم حجهم وأعيادهم مخاطبًا لرؤسائهم وذوي الزعامة فيهم: «هلموا إلى الله، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نُشرك به شيئًا ولا يتّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، أنا رسول الله حقا، أنا نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
فآمن من سبقت له العناية من الضعفاء والموالي، ولكن صناديد قريش وعظماء العرب من غيرهم حسبوا رفقه ضعفًا وحلمه عجزا، وظنوا أن القضاء عليه مما تناله أيدهم ويدخل تحت قدرتهم، فأمعنوا في أذيته وعقدوا العزم على الوقوف في طريق دعوته، وسلكوا لإطفاء نور الله والصد عن سبيل الله هذا ورسوله الله صلى الله عليه وآله وسلّم صابر محتسب يقابل إساءتهم بالإحسان
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الأولى العدد (١٣) ٢٥ ذي الحجة ١٣٦٤ .
٣٢٦
كلفني
المقالات والمقدمات
ويجازي إذايتهم بالمسامحة والغفران، حتى لقد جاءه ملك الجبال وقال له: «إن الله أن أكون تحت أمرك فلو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت. فيقول عليه الصلاة والسلام: لا تفعل فإني أرجو أن يخرج من أصلابهم من
يوحد الله» .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أشد حلمك وما أوسع صدرك، حلم تنقطع دونه الأطماع وحسن خلق ما سمع بمثله منذ خلق الله الأرض ومن عليها في سائر البلاد والأصقاع، وكفاك فخرًا قول الله في مدحك: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: ٤].
قضى رسول الله ثلاثة عشر عاما وهو في كفاح ونضال، وحجاج وجدال، والمشركون يزدادون عتوا في الأرض وفسادًا، وكبرًا وعنادا، وكان من آخر ما فعلوه أن انتمروا في دار ندوتهم على قتله والفتك به، ليستريحوا وزعمهم من دعوته، فخيب الله سعيهم وردهم خاسئين، حيث أعلم نبيه بمكرهم وأمره
بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها ونزل على الأنصار معزّزا مكرما.
وكانت الهجرة نقطة التحول في تاريخ الدعوة المحمدية وحدًّا فاصلا بـ
بين
عهدين متباينين عهد مضى بما يحمل من ضعف وقلة، وعهد مستقبل يبشر بالقوة والكثرة والعزة والغلبة، حيث أمر الله نبيه بالجهاد ونصره على أعدائه وأمكنه في رقابهم وأموالهم وديارهم ودانت له العرب قاطبة وخشيته الملوك، وصانعته الأكاسرة والقياصرة ووَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عزيز [ الحج : ٤٠] . واستمرت الهجرة فرضًا على المسلمين حتى فتح الله مكة لنبيه وصارت
الحديث الشريف وعلومه
۳۲۷
دار إسلام، فقال عليه الصلاة والسلام عام الفتح: «لا هجرة» أي من مكة بعد الفتح فتح مكة ولكن بقي جهاد ونيَّة» أي: عزم على الجهاد واستعداد له «وإذا استنفرتم» أي طلب منكم أن تنفروا للجهاد «فانفروا» ولا تتأخروا لأن الجهاد فرض لا ينقطع إلى يوم القيامة.
قال تعالى: أنفِرُوا خِفَافًا وَيْقَالًا وَجَهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: ٤١].
كان أبو أيوب الأنصاري يقول: قال تعالى: أنفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا : فلا
أحد من الناس إلا خفيف أو ثقيل».
يعني: أنه الأمر بالجهاد يعم جميع الأمة والله أعلم.
-00
۳۲۸
٥٥- تفسير الحديث الشريف (۱)
المقالات والمقدمات
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «القيتُ إبراهيمَ لية أُسرِيَ بي فقال: يا محمد، اقرأ أَمَتَكَ مِنِّي السَّلامَ وأخبرهم أن الجنَّة طيّبة التربة عذبة الماء، وأَنَّهَا قِيعَانُ وَأَنَّ غَرَسَهَا سُبحانَ اللَّهِ
والحمد الله ولا إله إلَّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم".
يحتفل المسلمون في شهر رجب بحادثة الإسراء والمعراج بناء على ما اشتهر عند عامة الناس أن المعراج حصل في رجب في السابع والعشرين منه، ولكن الذي حققه العلماء أن المعراج كان في ربيع الأول شهر المولد النبوي، وقيل كان في شهر رمضان، ومثل هذا الخلاف لا يضر ولا يؤثر في جوهر الموضوع فالذي يجب على المسلم اعتقاده أن الله أسرى بنبيه إلى بيت المقدس كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا
الَّذِي بَنَرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَيْنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: ١].
ثم عرج به إلى السماوات حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وهناك رأى جبريل على صورته الأصلية للمرة الثانية كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَوَاهُ تَزَلَةٌ أُخْرَى العِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَعَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السَدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طفی صلى الله عليه وسلم [ النجم : ۱۳ - ۱۷].
وسدرة المنتهى شجر نبق إليها ينتهي ما يصعد من جهة الأرض لا يتجاوزها الملائكة ولا غيرهم غشيها ليلة المعراج فراش من ذهب فما يستطيع
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الثانية العدد ٢٧ (٣٠ رجب ١٣٦٥).
الحديث الشريف وعلومه
۳۲۹
أحد أن ينعتها من شدة حسنها.
وكان المعراج بجسد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وروحه أراه الله فيه آيات عظيمة من عجائب ملكوته فرأى الجنة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب، ومثلت له أمثلة فرآها ورأى في السماء الأولى آدم عليه السلام وعن
يمينه نَسَم بنيه من أهل الجنة وعن يساره نسم بنيه من أهل النار، ورأى في السماء الثانية ابني الخالة يحيي وعيسى عليهما السلام، وفي السماء الثالثة يوسف عليه السلام، وفي السماء الرابعة إدريس عليه السلام، وفي السماء الخامسة هارون عليه السلام، وفي السماء السادسة موسى عليه السلام، وفي السماء السابعة إبراهيم عليه السلام وهو مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي هو كعبة الملائكة يقصده كل يوم سبعون ألف ملك للطواف والصلاة ثم لا يعودون إليه أبدا، وكل ملك ونبي رحب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وضحك إليه إلا مالكًا خازن النار فإنه رحّب به ولم يضحك إليه، فقال له جبريل عليه السلام: «إنَّه لم يضحك منذ خلقت النار ولو ضَحك إلى أحدٍ لضحك إليك». وفي هذه الليلة فرضت الصلاة خمسين في اليوم فقال موسى لنبينا عليهما الصلاة والسلام: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك». فلم يزل يراجع ربه حتى بقيت خمسًا في العدد وخمسين في الثواب. أما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإنه حمل نبينا عليه الصلاة والسلام أمانة تبليغ السلام إلى أمته بقوله: «أقرأ أمتك منّي السَّلام». وهذا شرف عظيم لهذه الأمة المحمدية أن يسلّم عليها خليل الله، ويجب على من سمع هذا الحديث أن يرد السلام على إبراهيم عليه السلام؛ لأن ردَّ السلام حق واجب، ثم قال أبو
۳۳۰
المقالات والمقدمات
الأنبياء لابنه سيد الخلق: «وأخبرهم» أي أخبر أمتك أنَّ الجنة طيبة التربة» ما يغرس فيها ينبت أطيب وأحسن ما يكون عذبة الماء» لا يتغير طعمه ولا يتبدل ريحه ولونه، وإنها) أي: الجنة قيعان) بكسر القاف جمع قيعة بكسر القاف أيضًا: هي المكان المستوي من الأرض ليس به نبات ولذلك قال: «وأن غرسها بكسر الغين ما يغرس فيها بمنزلة التقاوي التي تبذر في الأرض سبحان الله»: أي: أنزه الله تنزيها عن شوائب النقائص وسمات المحدثات والحمد لله»: أي كل كمال وثناء وتمجيد ثابت الله بالاصالة والاستحقاق ولا إله إلا الله»: أي: لا معبود يستغني عن كل ما سواه ويفتقر إليه كل ما عداه إلا الله يَايُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ : [فاطر: ١٥]. و الله أكبر في عظمته أكبر في جبروته فلا كبير غيره ولا عظیم سواه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أي لا حول عن المعصية ولا قوة على الطاعة إلا بتوفيق الله العلى علي خلقه العظيم في شأنه وهو مالك أمور الخلق لا يقدورن على مقاومته ولا يستطيعون مخالفة إرادته. ولكون هذه الكلمات الخمس اشتملت على توحيد الله وتنزيهه وتمجيده وتفريده بالقوة والعظمة والكبرياء والغنى التام والعلو المطلق كانت غراس الجنة، فينبغي الإكثار من ذكرها والمواظبة على قراءتها تقربا إلى الله وطمعا في
ثوابه والله الموفق والهادي.
الحديث الشريف وعلومه
٥٦- تفسير الحديث الشريف (۱)
۳۳۱
عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله تعالى حرَّم عليكم عقوق الأمَّهاتِ، ووأدِ البَنَاتِ، ومَنعًا وهاتِ، وكَرِهَ لَكُم قِيلَ وقال وكثرة السؤال وإضاعة المالِ». اشتمل هذا الحديث على ستة أشياء كل منها منهي عنه لما فيه من الضرر والمفسدة وافتتح بجملة : إن الله تعالى حرم ايذانا بعظم هذه المنهيات وقبح أثرها وشدة خطرها.
فأول هذه المنهيات وهو أهمها عقوق الأمهات أي: إيذاؤهن ومضايقتهن بكلام أو عمل لا يوافقهن، ولو كان مباحًا فيجب على الشخص أن يبتعد عما يؤذي والدته ويراعي حق أمومتها وينظر إلى ما تكبدت من المشاق في حمله ووضعه ورضاعه وَوَصَّيْنَا الْإِنسَنَ بِوَلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمَّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عامين ﴾ [القران : ١٤].
ولهذا خص الحديث الأمهات بالذكر نظرًا لضعفهن وما تحملن من المشاق الكثيرة، وإن كان عقوق الآباء محرمًا أيضًا بل عقوق الوالدين أو أحدهما كبيرة من الكبائر، والعاق لا يغفر له في الليالي الفاضلة كليلة النصف من شعبان ونحوها، ويعجل الله له العقوبة كما جاء في الحديث.
ويكفي دليلا على عظم أمر الوالدين وتأكد حقهما أن الله قرن برهما بطاعته وجعل شكرهما من شكره: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَنًا ﴾
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الثانية العدد ٣٢ (٢١ شوال ١٣٦٥هـ).
۳۳۲
المقالات والمقدمات
[الإسراء: ۲۳]، ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَى الْمَصِيرُ ﴾ [القمان: ١٤]. فشكر الوالدين وطاعتهما وبرهما فرض لازم بنص القرآن إلا إن أمرا بما يحرم شرعًا فلا تجوز طاعتهما حينئذ لا وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: ١٥].
وثاني المنهيات وأد البنات أي دفنهن وهن أحياء، وكان العرب يفعلون ذلك تخلصا من عار البنات في زعمهم فحرمه الله تحريبًا قاطعا ونعاه في القرآن وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمُ ) يَتَوَرَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُهُ فِي التُرابِ} [النحل: ٥٨ - ٥٩] وَإِذَا الْمَوْ دَةُ سُلَتْ بِأَي ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير : ۸ - ۹] .
فالإسلام هو الدين الذي قرر حق المرأة في الحياة وجعل لها حقوقا وفرض عليها واجبات وأشعرها بمسئوليتها في المجتمع، ولم يمنعها من أن تعاطى حقوقها في حدود الحجاب الذي جعله الله صونًا لها وعنونا على عفتها
وطهارتها، لا كما يريد الهدامون المارقون من كتاب اليوم ومن على شاكلتهم. وثالث المنهيات منعا وهات وهاتان الكلمتان كناية عن البخل والسؤال ، فمنعا كناية عن البخل وهات كناية عن السؤال، ولا شك أن البخل قبيح مذموم بنص القرآن والسنة، والبخيل عديم الإيمان لأنه لا يثق بوعد الله
تعالى في قوله: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ: ٣٩]. والسؤال أقبح وأشد لأنه إذلال للنفس، وإراقة لماء الوجه، وإضاعة
للكرامة، والأحاديث في تقبيحه لا تكاد تحصى.
الحديث الشريف وعلومه
۳۳۳
ورابع المنهيات: قيل وقال: هذان فعلان يُكنى بهما عما يتحدث به الناس من فضول الكلام؛ لأنه إضاعة للوقت فيما لا يجدي نفعا، والمسلم يجب أن يكون وقته معمورًا بما يعود عليه بالفائدة الدينية والدنيوية، ويدخل في المنهي عنه هنا تلك الأقاصيص التي شُغف بها أغلب العامة مثل سيرة عنترة وما
إليها. وخامس هذه المنهيات كثرة السؤال عن أحوال الناس، وتتبع عوراتهم، لأنه تدخل فيما لا يعني وتجسس محرم بنص القرآن، ويشمل الحديث أيضًا كثرة السؤال في المسائل العلمية على سبيل التعجيز والمغالطة، فإن هذا متوعد عليه في غير ما حديث، بل كان السلف يكرهون الخوض في المسائل التي لم تقع بعد ويقولون للسائل: دعها حتى تقع فنبحث عن حكمها. وهذا من تمام احتياطهم وورعهم، ولم يكونوا كهؤلاء الثرثارين الذين يملأون بل يضيعون أوقاتهم في البحث عن فلسفة القضاء والقدر، ووحدة الوجود ونحو هذا مما لا يفيدهم في دينهم ولا دنياهم.
وسادس المنهيات، وهو آخرها في هذا الحديث: إضاعة المال، إما بصرفه في غير وجهه المشروع المباح، وإما بعدم حفظه وصيانته من التلف، وإما بالتوسع في المباحات إلى الحد الذي يعد في العادة إسرافًا وتبذيرا، فهذه الصور كلها تعد إضاعة للمال، وتقع تحت طائلة النهي في الحديث.
أما الإنفاق في الطاعة ووجوه البر فهو عبادة يثاب عليها فاعلها ولو كثر
الإنفاق وفي مثل هذا قال صلى الله عليه وآله وسلم لبلال: «أنفق يا بلال ولا تخشَ من ذِي العرش إقلاقًا».
٣٣٤
٥٧- تفسير الحديث الشريف (۱)
المقالات والمقدمات
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تَعِسَ عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إِنْ أُعطِيَ رَضِي وإِنْ لم يُعطَ سَخِطَ نَعِسَ وانتكَسَ وإذا شِيكَ فلا انتقش طُوبى لعبد آخذ بعِنانِ فَرَسِهِ في سبيل الله، أشعثَ رأسُهُ، مُغْبَرَةٍ قدماه، إن كانَ في الحراسة كانَ في الحراسة، وإنْ
كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ، إن استأْذَنَ لم يُؤذَنْ لَهُ، وَإِن شَفَعَ لم يُشَفَعْ». هذا الحديث عظيم القدر جليل الخطر يشتمل على فوائد هامة ما أحوجنا
إلى تدبرها في هذا الوقت الذي طغت فيه المادة وساد سلطانها وأخلد الناس إلى عيشة الراحة وضعفت في نفوسهم الغيرة والحماسة الإيمانية، فأصبحوا لا يلقون بالا إلى ما يرمى به دينهم، بل بلغ الأمر بالبعض أن صاروا يكيلون ألقاب المدح والثناء لمن يلطم المسلمين أشد اللطمات، ويبالغ في إهانتهم وتقبيح دينهم. فهذا برنارد شو عدو الله ورسوله له كلمات عن نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لا تصدر إلا من أخبث الناس كفرًا وأقبحهم كذبًا وأوسخهم . وفهما، ومع هذا نجد في المسلمين من يخصص المقالات في مدح شخصه وأدبه ويقول إن العالم يتمنى المزيد من إنتاج هذا الأديب الفذ والكاتب العبقري ! أي عالم تعني أيه الكاتب الفاضل ؟ عالم المسلمين أم عالم المسيحيين أم عالم اللادينيين الملحدين؟ وبهذه المناسبة أعتب على مجلة الرابطة الإسلامية" وكل مجلة إسلامية أن
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية الثنة الثانية، العدد (٣٣) ٥ ذي القعدة ١٣٦٥.
عقلا
الحديث الشريف وعلومه
٣٣٥
تفسح صدرها لمثل هذه المقالات التي تؤذي المسلمين في أعز شيء لديهم وهو دينهم ونبيهم، بل نبيُّ العالم أجمع عليه الصلاة والسلام وعلى" برنادو شو" اللعنة الدائمة إلى يوم القيامة هذه نفثة مصدور وأنة من كبد محرور دعت إليها المناسبة ولنا إلى هذا الموضوع عودة بحول الله . يقول النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «تعس»: بفتح التاء وكسر العين شقي وهلك، وأصل التعس انكباب الشخص على وجهه، ثم استعمل في الشقاء والهلاك، وإضافة العبد إلى الدينار والدرهم والخميصة تفيد التحقير والإهانة، وتفيد أيضًا أن هذا العبد انهمك في أوحال المادة وشغف بجمعها بحيث لم يبق له وصف يعرف به إلا أنه عبدها والعياذ بالله.
والخميصة»: ضرب من الثياب النفيسة، وجملة: «تعس... إلخ» يحتمل أن تكون دعائية أو خبرية والأول أولى بل لعله متعين، والمعنى أن عابد الدنيا والمنهمك في اقتنائها من كل طريق مدعو عليه بالشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة، ودعاء النبي مستجاب.
وقوله: «إن أعطى» - بضم الهمزة وكسر الطاء- «رضي» «وإن لم يُعط» - بضم الياء وفتح الطاء - سخط» بيان الحكمة الدعاء عليه ولمعنى أن عابد الدنيا يعبد الله على حرف إن أعطاه الله رضي وفرح وظن أن هذا من رضى الله عليه، وإن منع عنه المال أو قبض عنه بعض ما يشتهيه جزع وسخط، ونسي أن ما حصل له بقضاء الله وقدره وأكثر من الشكوى وتضجر من الظروف، وربما أظلمت الدنيا في عينيه حتى يهم بالانتحار، وكل هذا ناشئ عن الجهل بالله وقلة الإيمان به وعدم الثقة بوعده، وهذا شأن المنافقين كما قال الله في وصفهم:
٣٣٦
المقالات والمقدمات
فَإِنْ أَعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ [التوبة: ٥٨]. وجدير بمن هذا حاله أن يدعى عليه بالهلاك، ولهذا أعاد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم الدعاء عليه بقوله: «تعس وانتكس» والانتكاس: سقوط الشخص على رأسه.
وإذا شيك» - أي: دخلت الشوكة في رجله «فلا انتقشَ» أي: فلا يجد من يخرجها منه بالمنقاش يقال: نقشت الشوك أخرجته، وهذا تأكيد في الدعاء على عابد الدنيا لأنه أحب ما أبغضه الله وركن إلى شهواته وهواه.
أما السعي على المعاش برفق فليس بداخل في الحديث بل هو مأمور به في
غير ما آية وحديث والله أعلم.
لشرح الحديث بقية (1)
(۱) بقية الشرح في المقالة التالية.
الحديث الشريف وعلومه
٥٨- تفسير الحديث الشريف (۱)
۳۳۷
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: تَعِسَ عبد الدينار وعبد الدرهم وعبدُ الخَمِيصَة إِنْ أُعطِي رضِي وإن لم يُعطَ سَخِطَ تَعِس وانتكس وإذا شِيكَ فلا انتَقَش طُوبَى لعبدِ آخِذِ بعِنانِ فرسِهِ في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إنْ كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كانَ
في الشاقة كان في الشاقة، إن إستأذن لم يُؤذَن لَهُ وإِن شَفَعَ لم يُشفّع». تكلمنا في العدد الماضي عن شطر الحديث الأول واليوم نتكلم عن شطره
الثاني وهو يحض على أمرين الجهاد، وحب التواضع وإنكار الذات. أما الجهاد: فهو فرض من فرائض الدين حض الله عليه في كتابه المبين به يسبر غور الأخلاق وهو الحد الفاصل بين الإيمان والنفاق.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَاهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةُ يقبلون في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَةِ والإنجيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : ١١١]. والجهاد عدا هذا واجب تقتضيه الحياة ما دام في الدنيا صراع بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الإسلام والكفر. الجهاد واجب من ضروريات الحياة ما دام في الدنيا جشع الاستعمار
وأطماع الاستعمار.
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الثانية، العدد (٣٤) ٢٢ ذي القعدة ١٣٦٥ .
۳۳۸
المقالات والمقدمات
الجهاد واجب لمحاربة هؤلاء المستعمرين الذين يحاولون اغتصاب دول واسترقاق أمم واقتطاع أراض من أصحابها الشرعيين بحجة الرحمة الإنسانية أو القواعد الاستراتيجية أو نحو ذلك مما يختلقونه من الحيل الشيطانية فهل رأيت أعجب من عقول هؤلاء المستعمرين؟! وهل رأيت أخبث من دسائسهم الاستعمارية؟!
فالجهاد ضد هذه العقول وضد هذه الأساليب أمر واجب تقتضيه العزة القومية وتوجبة الكرامة الإنسانية حتى يتحرر الإنسان من إذلال أخيه الإنسان، فالدين حين فرض الجهاد لم يأت إلا بما هو من مقتضيات العزة وموجبات الكرامة.
وهكذا أوامر الدين تأخذ بيد ملتزمها إلى حيث الحياة السعيدة العزيزة التي لا يشوب عزتها ذلّ ولا يكدر سعادتها شقاء، وأما حب التواضع وإنكار الذات فهو أمر لازم لنجاح الأعمال وأدعى لقبولها وكل عمل دخله حب الظهور والرياسة فسد ولم يتم وفي هذا يقول ابن عطاء الله الصوفي: «ادفن نفسك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه».
فقوله عليه الصلاة والسلام: «طوبى هي كلمة مدح وترغيب مثل نعم : وحبذا لعبد آخذ بعنان فراسه يجاهد في سبيل الله والمراد كل ما يركب في الجهاد فيشمل المركبات الحديثة «أشعث رأسه أي: رأسه مغبر «مغبرة قدماه» من أثر الأرض وهاتان الصفتان مجرورتان على أنهما نعت لعبد والمعنى أنه غير متفرغ لإصلاح شأنه في جهاد وجلاد وقتال ونضال «إن كان في الحراسة كان في الحراسة أي حراسة الجيش وإن كان في الساقة كان في الساقة» أي:
الحديث الشريف وعلومه
۳۳۹
مؤخرة الجيش واتحاد الشرط والجزاء لبيان أنه خامل الذكر لا يقصد السمو فهو إن كان الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة فكذلك من غير أن يلفت نظر أحد إلى نفسه أو عمله بدليل قوله : إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع .. ... وهذا الحديث كما ترى سبق إلى تقرير فضل الجندي المجهول والإشادة
بذكره.
٣٤٠
ثلاثة:
:
٥٩- تفسير الحديث الشريف (۱)
أنواع الظلم
المقالات والمقدمات
لا
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الظُّلمُ فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه. فأَمَّا الظُّلم الذي يغفره الله فالشرك قال الله: إن الشِرْكَ لَظُمُ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: ١٣] وأَمَّا الظلم الذي يغفره الله فظلم العبادِ أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضُهم بعضًا حتى يُدير لبعضهم من بعض». أصل الظلم تجاوز الحد ووضع الشيء في غير موضعه الذي يستحقه، وهو أنواع متفاوتة، فالشرك أعظم الظلم ثم تليه المعاصي على اختلاف أنواعها من قتل وزنا وغيرهما
والظلم من حيث دخوله في حيز الغفران وعدمه لا يتعدى ثلاثة هي المذكورة في هذا الحديث، فظلم لا يغفره الله أبدًا وهو الشرك قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: ٤٨] وإنما كان الشرك ظلما عظيما لا يغفره إلا الله لأن المشرك حين عبد غير الله قد وضع الشيء في غير موضعه لأن العبادة يجب تكون خاصة الله دون غيره، لأنه موجد الخلق من العدم ومربيهم بالنعم فكيف يصح أن يعبد غيره ؟
وفي الحديث القدسي: «إنّي والجن والإنس في نبأ عظيمٍ أخلقُ ويُعبَدُ غيري وأرزقُ ويُشكر سواي ».
(۱) الرابطة الإسلامية السنة الثالة العدد (٣٥) ٦ ذي القعدة ١٣٦٥.
الحديث الشريف وعلومه
٣٤١
وكذلك من نَسَبِ المشركين الولد إلى الله فقد تجاوز الحد ونسب إلى الله ما
لا يليق به وكذب عليه، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الأنعام: ٢١]. ويلتحق بهذا الظلم في عدم الغفران لصاحبة ظلم الكفر بتكذيب أحد من الرسل كموسى أو عيسى أو محمد عليهم السلام، فمن كذب أحدًا من الرسل فقد كذب جميعهم بل كذب خالقهم الذي أرسلهم، وأوجب تصديقهم وتعظيمهم، ولا ينفعه مع ذلك زعمه بلسانه أنه يؤمن بالله إذ لو كان إيمانه صادقا لأمن برسل الله جميعا، وليس دين من الأديان أوجب الإيمان بجميع
الرسل والملائكة غير دين الإسلام ولهذا جعله الله دينه حيث قال: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: ۱۹] ولم يقبل من الناس سواه حيث قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ [آل عمران: ٨٥] فمن أسلم نجا ومن لم يسلم هلك. وظلم يغفره الله إن شاء وهو ظلم العباد أنفسهم بالمعاصي التي ارتكبوها فيما بينهم وبين خالقهم مما لا تعلق له بمخلوق، فلله أن يغفر من هذه المعاصي ما شاء لمن شاء، لكن لابد من نفوذ الوعيد في طائفة من عصاة المسلمين تصديقا لكلام الله ورسوله ثم يخرجون من النار برحمة الله وبشفاعة الشافعين ولا يخلد في النار إلا من مات على غير الإسلام، ومن المعلوم أن العاصي إذا تاب توبة نصوحا غفر الله ذنوبه، كما أن الكافر إذا أسلم يغفر له جميع ما فعل في الكفر حتى يبقى نظيفا كأنه ولد لساعته.
وظلم لا يتركه الله، أي: لا يهمله، وهو ظلم العباد بعضهم بعضا حتى يُدير - بضم الياء الأولى - أي: يأخذ لبعضهم من بعض، والمعنى أن الله يجمع
٣٤٢
المقالات والمقدمات
يوم القيامة الظالم مع المظلوم فيأخذ للمظلوم حقه من الظالم وافيا غير
منقوص
وليس هناك دنانير ودراهم، ولكن حسنات وسيئات يأخذ المظلوم من حسنات الظالم فإن لم يكن له حسنات أو كانت ونفذت قبل استيفاء الحق أخذ من سيئات المظلوم وطرحت على الظالم فيطرح في النار، هكذا جاء في حديث آخر صحيح، فحقوق الناس أمرها شديد جاء فيها وعيد وتهديد، والموفق من ابتعد عنها وتحامى الوقوع فيها، نسأل الله الهداية والتوفيق.
الحديث الشريف وعلومه
٦٠- تفسير الحديث الشريف (۱)
٣٤٣
عن أبي ذر رضي الله عنه : أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليمًا ولسانه صادقًا ونفسَه مطمئنةً وخليقته مستقيمةً وجعل أذنه مستمعةً وعينه ناظرةً فأما الأذنُ فتعي والعينُ مقرَّة بما يوعي القلبُ وقد أفلح من جعل قلبه واعيًا».
هذا حديث عظيم يحضُّ على الإخلاص في الإيمان، ويرغب في جملة من الأخلاق الفاضلة الكريمة، والإخلاص خلق عظيم وسر من أسرار الله يضعه الله في قلب من يشاء من عباده، به قبول الأعمال ونجاحها، بل هو سرها وروحها، قال ابن عطاء الله في الحكم: الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود الإخلاص فيها» . اهـ
فكل عمل صحبه الإخلاص فهو ناجح، وكل عمل فارقه الإخلاص فهو
فاشل.
ولهذا حض الله على الإخلاص في غيرما آية من القرآن العظيم، وجعله ركنا من أركان العبادات كلها فلا تقبل صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا
غيرها إلا بإخلاص. فهذا الحديث موافق لكثير من الآيات والأحاديث في تقرير فضل الإخلاص وبيان مزاياه وفضائله، فقوله عليه الصلاة والسلام: «قد أفلح» أي فاز وربح من أخلص قلبه للإيمان أي جعل قلبه خالصا بالإيمان بالله وتصديق رسله وكتبه؛ لأن الإيمان أساس العمل فإذا صح الأساس وسلم
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الثانية العدد (٣٦) ٢٢ ذي الحجة ١٣٦٥ .
٣٤٤
المقالات والمقدمات
استقام البناء، وجعل قلبه سليمًا من الشرك وشوائبه كالرياء وحب الظهور والرياسة والكبر والحقد والحسد وغيرها؛ لأن هذه المعاصي تورث فسادا في القلب وخللا في العمل، وتُوجب غضب الله على عبده، ولسانا صادقًا» لا ينطق إلا بالصدق لأن الصدق صفة من صفات الله وخلق من أخلاق رسله
الكرام.
فالله يحب الصدق والصادقين ولا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، والصدق عنوان الإيمان، وعلامة على طهارة النفس وصلاح القلب، كما أن الكذب مجانب للإيمان وعنوان على خبث
الباطن وفساد السريرة، وما يكذب المرء إلا من مهانة نفسه عليه. ونفسه مطمئنة راضية بما يجريه الله عليها مرضي عنها من قبل الله لأنها رضيت عن الله فرضي الله عنها، وهذا أعلى مقام وصف الله به أهل الجنة حيث قال تعالى: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [المائدة: ١١٩] ولهذا كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري يقول له: إن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر». وخليقته مستقيمة» يعني : وجعل طبيعته مستقيمة بأن راضها على تعاليم الشرع وحملها على اعتناق الأخلاق الفاضلة فاستقامت على ذلك، وفي الحديث: «إِنَّما العلمُ بالتَّعلمِ والحِلمُ بالتَّحلُم».
وجعل أذنه مستمعة» لما ينفعه في دينه ودنياه فيدخل في ذلك سماع سائر
العلوم النافعة المثمرة، ويخرج عنه سماع اللهو والباطل.
وعينه ناظرة نظر اعتبار وتدبر وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُصِرُونَ ﴾ [الذاريات: ۲۱]
الحديث الشريف وعلومه
٣٤٥
والآيات في هذا كثيرة فأما الأذن فتعي ما يلقى إليها، والعين مقرة بما يوعي القلب لأن القلب عن طريقها عرف فهي آلة توصل إليه المعلومات المبصرة وقد أفلح فاز وربح من جعل قلبه واعيًا حافظا لما يلقى إليه من عظات وعبر فينتفع بها في فعل ما يرضي الله واجتناب ما يغضبه فيعيش بذلك هادئا مطمئنا ويلقى ربه راضيا فيفوز بالسعادتين ويحظى بالحسنيين. وبالله الهداية
والتوفيق.
٣٤٦
٦١- تفسير الحديث الشريف (۱)
المقالات والمقدمات
عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله يحبُّ
الصمتَ عند ثلاث: عند تلاوة القرآنِ، وعند الزَّحفِ، وعند الجنازَةِ». حفظ السان بالصمت أمر مطلوب مرغوب، رغب فيه الحكماء ومدحه الشعراء قال الأحنف بن قيس الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من
زيع المنطق وسلامة من فضول القول وهيبة لصاحبه».
وقال الإمام مالك: كل شيء ينتفع بفضله إلا الكلام فإن فضله يضر». وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: منصت واع، أو متكلم عالم». وقال الشاعر: ما زل ذو صمتٍ وما مِنْ مُكثِرِ إلا يزل ومــا يــابُ صَمُوتُ إن كان منطق ناطق من فضَّةٍ فالصمت در زانَه اليَاقُوتُ وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في مدح الصمت وذم كثرة الكلام، يكفي منها قوله عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت».
والصمت وإن كان مطلوبًا في عموم الحالات فهو في بعضها أكد طلبًا وأقوى استحبابا، منها هذه المواطن الثلاثة التي أخبر الحديث أن الله يحب الصمت عندها، ومعنى حب الله للصمت: رضاه عنه وإثابة فاعله، فالصامت
في هذه المواطن يثيبه الله ويرضى عنه.
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الثانية العدد (٣٧) ٦ محرم ١٣٦٦.
الحديث الشريف وعلومه
٣٤٧
أحدها: عند تلاوة القرآن قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] فالواجب عند التلاوة الإنصات والاستماع وتدبر معاني القرآن والتفكير فيما حواه من عظات وعبر، واستحضار عظمة المتكلم وجلاله، فبذلك يحصل الانتفاع بالقرآن وتحصل الرحمة للتالي والسامع.
كان الصحابة إذا قرئ القرآن يكونون كأنها على رؤسهم الطير خشوعا الله وخضوعا لهيبته متدبرين معاني كلامه متفكرين فيما يتلى عليهم من أحكام وحكم وأمثال ومواعظ ومنهم من كانت تغلب عليه الخشية فتهتز مشاعره وتدمع عينه ويزداد يقينه وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَاءَامَنَا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّهِدِينَ ﴾ [المائدة: ۸۳]. إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ عَايَتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَنَا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال : ٢].
ثم خلف من بعدهم خلف اتخذوا قراءة القرآن تغنيا وسماعه تسلّيا يكثرون عند تلاوته آهات الاستحسان حتى لا تكاد تفرق بين مجلس القرآن
ومجلس الغناء والألحان لتشابههما ضجيجًا وتلحينا وتقاربهما غناء وتفنينا. الموطن الثاني من المواطن التي يحب الله الصمت فيها عند الزحف أي: عند التقاء الصفين في الجهاد؛ لأن هذا أشرف موطن يقدم الإنسان فيه نفسه وماله لله، فينبغي ألا يفسد هذه العبادة الشريفة بضجيج وصياح، فما بينه وبين الجنة إلا أن يأتيه سهم صائب، نعم قد يقتضي الحال الكلام في هذا الموطن لحفز همم الجيش وتقوية الروح المعنوية فيه ونحو ذلك، فيتعين الكلام حينئذ
٣٤٨
المقالات والمقدمات
ويكون السكوت جريمة وخيانة.
الموطن الثالث: مما يحب الله الصمت فيه عند الجنازة أي: عند تشيع الميت وغسله وتجهيزه لأن الميت يتأذى مما يقع عنده من صراخ وعويل وندب ونياحة كما هو حاصل اليوم، ولأن المطلوب من المشيعين أن يتفكروا في حال الميت، وما قد صار إليه من خير أو شر، ويعلموا أنهم بعد قليل صائرون إلى ما صار إليه فيكبحوا من جماح شهواتهم ويكفوا عن كثير من مخالفاتهم ومن لم يتعظ بالموت وأهواله فلا يرجى صالح لحاله، والله ولي التوفيق.
الحديث الشريف وعلومه
سئلت
٦٢- شرح حديث شريف (۱)
العرق دساس
٣٤٩
عن حديث: «إيَّاكُم وخَضْراءَ الدَّمَن فَإِنَّ العِرْقَ دَسَّاسُ». هل هو
حديث ضعيف أو موضوع؟ وطلب مني السائل أن أجيبه على صفحات "هدي الإسلام" الغراء.
فأقول: الحديث المذكور مجموع من حديثين كما سنبينه، فأما صدره فخرجه ف الرَّامَهُر مُزي في "الأمثال"، والدارقطني في "الإفراد"، وابن عدي في "الكامل"، والعسكري في "الأمثال"، والقضاعي في مسند الشهاب"، والخطيب في "إيضاح الملتبس"، والديلمي في مسند الفردوس"، كلهم من طريق محمد بن عمر الواقدي: ثنا يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إياكم وخضراء الدمن». قيل يا رسول وما خضراء الدمن؟، قال:
«المرأة الحسناء في المنبتِ السُّوء». وإسناده ضعيف، لكن سيأتي ما يشهد له. وأما حديث العِرق دساس» فخرَّجه القضاعي في "مسند الشهاب"، وابن الأعرابي في "المعجم"، والديلمي في "مسند الفردوس"، كلهم من طريق محمد بن عبدالرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم - وهو يوصي رجلًا- يقول: «أقل من الديون تعش حرا، وأقل من الذُّنوبِ يهن عليك الموتُ، وانظر فِي أَي نِصاب تضعُ ولدكَ فَإِنَّ
العرق دساس».
(۱) مجلة هدي الإسلام السنة الأولى العدد (٢٧) ١٠ صفر ١٣٥٤.
٣٥٠
المقالات والمقدمات
ورواه أبو موسى المديني في كتاب تضيع العمر والأيام" من حديث عمر رضي الله عنه بلفظ : وانظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق جساس». وخرج الديلمي بإسناد ضعيف عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: «النَّاسُ معادنُ والعِرق دساس».
وخرج ابن عدي في "الكامل" بأسانيد ضعيفة، عن أنس عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: «تزوجوا في الحجز (۱) الصالح؛ فإِنَّ العِرْقَ دَسَّاسٌ». وهذه الطرق إذا ضُمَّت أفادت الحديث قوَّةً يصير بها حسنًا لاسيما وله شاهد صحيح، وهو ما خرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «هل لك . : هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: «فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورقَ؟ قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال : عسى أن يكون نزعة عرق، قال: «وهذا عسى أن يكون نزعة عرق». وخرج عبدالغني بن سعيد المصري في "المبهمات" من طريق مطر بن العلاء عن عمته قطبة بنت هرم بن قطبة - أن مدلوكًا حدثهم: أن ضمضم بن قتادة ولد مولودًا أسود من امرأة من بني عجل فأوجس لذلك؛ فشكا إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: «فما ألوانها» قال : فيها الأحمر والأسود وغير ذلك. قال: «فأنى ذلك؟» قال: عرق نزع قال: «وهذا عرق نزع قال فقدم عجائز من بني عجل
فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(۱) «الحجز» بالضَّمِّ والكسر : الأصل. "النهاية" لابن الأثير (١/ ٣٤٤).
الحديث الشريف وعلومه
٦٣- شرح الحديث الشريف (۱)
٣٥١
عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «بئسَ العبد عبد تجبَّر واعتدى ونَسِيَ الجبَّار الأعلى، بئس العبد عبد تخيل واختال ونسى الكبير المتعال بئس العبد عبد بغَى وعتا ونسي المبدأ والمنتهى بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالشُّبُهَاتِ، بئسَ العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله، بئس العبد عبد تزيله الرغبة عن الحقِّ». رواه الخطيب في "الكفاية".
تضمن هذا الحديث الشريف النهي عن جملة من الأخلاق الذميمة، وحذر منها في أسلوب بلاغي عظيم، وبين ما يستهدف له الشخص من الذم واللوم إذا هو اتصف بخلق قبيح ينا في ما يجب أن يتصف به المؤمن من خلق كريم وطبع قويم وهدي مستقيم يقول عليه الصلاة والسلام: بئس العبد عبد تجبر واعتدى بئس كلمة معناها الذم والتقبيح أي: قبح العبد الذي تجبر على الناس وأجبرهم على اتباع هواه واعتدى في تجبره فآذى من خالف هواه ووقف في طريقه ونسي هذا العبد المتجبر المعتدي «الجبار «الأعلى الذي له الملك والملكوت وبيده العزة والجبروت. بئس العبد عبد تخيل» في نفسه أن له فضلا على غيره واختال» تكبر الناس لتخيله أن له مزية عليهم ونسى الكبير المتعال» المنفرد بالكبرياء دون خلقه كما جاء في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدًا منهما قصمتُه ثمَّ قذفتُه في جنَّهم».
(۱) نشر الفضائل، السنة ۱۱ العدد (۳۸) ۹ ربيع الثاني ١٣٦٣.
٣٥٢
المقالات والمقدمات
بئس العبد عبد بغى ظلم الناس وأخذ حقوقهم وعتا» بالغ في ظلمة واستمر في طغيانه ونسي المبدأ حيث كان نطفة من ماء مهين، ثم طفلا ضعيفًا لا حول له ولا قوة والمنتهى حيث يحشره الله فيحاسبه على ما ظلم من
الحقوق.
"
بئس العبد يختل» يطلب الدنيا بالدين فيجعل مركزه الديني شَرَكًا لاقتناص الأموال بخدع وألاعيب كدعوى المساعدة في مشروعات تفيد المجتمع الإنساني أو الإسلامي أو ما شئت من الألفاظ الضخمة الجوفاء التي تنتقي للتأثير على الفريسة.
بئس العبد عبد يختل الدنيا بالشبهات وهي الأمور المترددة بين التحليل والتحريم لتعارض الأدلة فيها أو لاختلاف أنظار الأئمة والواجب ترك ما اشتبه فيه حذرا من الوقوع في المحرم كما جاء في الحديث الصحيح: «فمن اتقى الشبهات فقد اشتبراً لدينه وعرضه، ومن وقع في الشُّبهات وقع في الحرام ».
وفي الطرق الشرعية متسع لطلب الرزق الحلال
بئس العبد عبد طمع يقوده» إلى ما فيه حتفه وهلاكه من حيث لا يشعر، فإن الطمع - حماك الله منه - يُميت الضمير ويقتل الوجدان ويجعل من الطامع شبحا أشبه بالحيونات المعجمة.
بئس العبد عبد هوًى يضله عن الصراط السوي ويُصِمُّه عن صوت
الحق وتلبية ندائه كما قال البوصيري رحمه الله تعالى:
فاصْرِفْ هواها وحاذِرٌ أن تولّيه إِنَّ الهوى ما تولَّى يُصْمِ أَو يَصِمِ
بئس العبد عبد تزيله الرغبة في منفعة له عن الحق فلا يقوله بل يتكلم
الحديث الشريف وعلومه
٣٥٣
بما يعلم أنه باطل، ويؤيد الباطل بكل قواه ليصل إلى غرضه ولا يهمه بعد ذلك
إن ضاع دينه متى وصل إلى مراده كما يشاهد كل يوم ما يجري في الحفلات والمجتمعات وغيرها مما يغضب الله ويهدر كرامة المسلمين.
فالمؤمن من يجتنب كل خلة ذميمة ويتسم بكل فضيلة متبعا للحق في سائر أحواله حققنا الله بذلك وأصلح من أحوال المجتمع الإسلامي ما فسد، ولم من
شعثه ما تفرق بمنة وفضله.
٣٥٤
المقالات والمقدمات
٦٤- الحديث الشريف (١) فضل الحج
عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله عزّ وجلَّ : إِنَّ عبدا صححتُ له جسمه، ووسعت عليه في المعيشه،
تمضى عليه خمسة أعوام لا يفد إلى لمحروم». رواه ابن حبان في "صحيحه". هذا من الأحاديث القدسية التي يرويها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم عن الله تبارك وتعالى، وقد ذكرنا الفرق بينها وبين القرآن الكريم في تعليقاتنا على "الأربعين الغمارية" وهذا الحديث وارد في الحج وتفسيره يتوقف على ذكر مزايا الحج وتعداد فوائده وهي كثيرة:
أحدها: أنه الركن الخامس من الأركان التي بني عليه الإسلام. ثانيها: أنه يكفر الذنوب للحديث الصحيح من حج فلم يرفث ولم يفسق رجَعَ من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
ثالثها: أن يقوم مقام الجهاد للضعيف قال الحسين بن علي: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال : إني جبان وإني ضعيف فقال: «هلم إلى
جهاد لا شوكة فيه، الحج...» رواه الطبراني بإسناد جيد. وقالت عائشة: قلت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال:
عليهنَّ جهادٌ لا قتال فيه الحج والعمرة». صححه بن خزيمة. رابعها: أنه يوجب الجنة للحديث الصحيح: «العمرة للعمرة كفارة لما
بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
(۱) نشر الفضائل السنة ۱۱ العدد (٥-٦ ) ٢٨ جماد الثاني ١٢٦٢ .
الحديث الشريف وعلومه
٣٥٥
المبرور: هو الذي لا تقع فيه معصية.
خامسها : أنه ينفي الفقر لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: «وتابعوا بين الحج والعمرة فإنَّهما ينفيانِ الفقر والذُّنوبَ كما ينفي الكِيرُ حَبَثَ الحديدِ والذَّهَبِ
والفضة، وليس للحجَّةِ المبرورة ثواب إلا الجنَّة». صححه الترمذي وغيره. سادسها: أنه يوجب قبول الدعاء لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: الحجاج والعمار وقَدُ الله إن دعوه أجابهم وإِنْ استغْفَرُوه غَفَرَ هُم». رواه
النسائي. سابعها: إن الحاج يُكرم بالعافية في الدنيا والمغفرة في الآخرة.
رُوي عن أبي ذرّ أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ داود عليه الصَّلاةُ السَّلامُ قال: إلهي ما لعبادِكَ عليك إذا زارُوكَ في بيتِكَ؟ قال: لكلِّ زائر حق على المزور، يا داودُ إنَّ لهم على حقًا أن أعافيهم في الدُّنيا وأغفر لهم إذا
لقيتهم». رواه الطبراني في "الأوسط".
ثامنها: أن نفقة الحج مضاعفة لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف». رواه أحمد بإسناد حسن. تاسعها: أن من مات في طريق الحج لم يحاسب.
يروى عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من خرج في هذا الوجه لحج أو عمرة فمات فيه لم يُعرض ولم يُحاسب وقيل له:
ادخُل الجنة». رواه الدارقطني وغيره.
عاشرها: أن الحاج مغمور بالرحمة في طوافه وصلاته لقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ينزِلُ اللهُ كلَّ يومٍ على حُجَّاج بيته الحرامِ عشرين ومائة رحمة ستين
٣٥٦
المقالات والمقدمات
للطَّائفين وأربعين للمصلين وعِشرينَ للنَّاظِرينَ». رواه البيهقي بإسناد حسن. وبقيت فوائد أخرى يطول تتبعها، وحيث إن الحج يشتمل على هذه الفوائد وغيرها كان من تركه مع القدرة عليه محروما كل الحرمان، لأنه حرم نفسه من فوائد الحج الدينية والدنيوية والاجتماعية، وكان معرضًا للمحق في الدنيا والعذاب في الآخرة.
يروى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما من عبد ولا أمةٍ يضنُّ بنفقة ينفقها فيما يُرضى الله إلا أنفَقَ أضعافَها فيما يُسخط الله، وما من عبد يدعُ الحج لحاجة من حوائج الدنيا إلا رأى محقه قبل أن تُقضَى تلك الحاجة يعني: حجة الإسلام - وما من عبد يدعُ المشي في حاجة أخيه المسلمِ قُضِيتُ أو لم تُقضَ إلا
ابتلى بمعونة مَن يأثَمُ عليه ولا يُوجَرُ فيه». رواه الأصبهاني في "الترغيب". وروى الترمذي من طريق الحارث الأعور عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من ملك زادا وراحلةٌ تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِبُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَيٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ ﴾ [آل عمران: ٩٧]». وصح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى أهل الأمصار فينظروا كل من كان له جدة بكسر الجيم: غنّي- ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين». رواه سعيد بن منصور في "سننه". وقال أيضا: ليمت يهوديًا أو نصرانيا يقولها ثلاث مرات رجل مات ولم
الحديث الشريف وعلومه
٣٥٧
يحج ووجد لذلك سعة وخُلّيت سبيله». رواه البيهقي.
وروي عن سعيد بن جبير قال: مات جار لي موسر لم يحج فلم أصل
عليه».
وروى عبد الرزاق من طريق سالم بن أبي حفصة عن ابن عباس قال: «لو
ترك الناس زيارة هذا البيت عامًا واحدًا ما مطروا».
وروي عنه أيضًا قال: «ما من أحد لم يحج ولم يؤد زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت فقيل له: إنما يسأل الرجعة الكفار قال: وإن ذلك في كتاب الله عزّ وجل قال تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْتَكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْلَا أَخَرتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَدَّفَ :أي: أؤدي الزكاة وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ أي: أحج [المنافقون: ١٠].
ثم إن الحديث الذي شرحناه أخذ به الحسن ابن حي فكان يقول: ينبغي للرجل الموسر الصحيح ألا يترك الحج خمس سنين وأخذ به المالكية أيضًا حيث قالوا: يستحب الحج في كل سنة لمن حج الفرض ويتأكد في كل خمس سنين، وينبغي أن ينوي به القيام بالفرض الكفائي ليحصل له ثوابه لأن إقامته في كل سنة فرض كفاية. انتهى من الأربعين الصديقية وشرحها.
٣٥٨
المقالات والمقدمات
٦٥- الحديث الشريف (1)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه .
أحاديث الشفاعة متواترة واردة عن أربعين صحابيا بألفاظ متعددة وطرق كثيرة، وهي مخرَّجة في الصحاح والسنن والجوامع والمعاجم وغيرها من كتب الحديث، وليس في دائرة العقل ما يردها، فلذلك كان إنكار المعتزلة لها سفها منهم خارجا عن دائرة المعقول مردودًا بتواتر المنقول ولعمر الله إن رأيا كهذا يجب أن ينبذ شر نبذ ثم الشفاعة قسمان: خاصة وعامة.
فالخاصة ما تتعلق بأناس في البرزخ كالشفاعة في تخفيف عذاب القبر كما ورد في الصحيحين في صاحبي القبرين، ومثل الشفاعة في تخفيف عذاب بعض الكفار كما ورد في صحيح مسلم " أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد أبا طالب في غمرات من النار فأخرجه إلى ضحضاح منها و هذا خاص بأبي طالب دون غيره من الكفار لمحبته للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ودفاعه عنه وحياطته له كما هو معروف في كتب السيرة.
والشفاعة العامة أنواع أعظمها الشفاعة في تعجيل الحساب وإراحه الناس من طول الوقوف وهي بنبينا صلى الله عليه وآله وسلّم يظهر الله بها فضله
وكرامته على جميع خلقه في ذلك الموقف العظيم.
الثاني: الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب غير السبعين ألفا الذين
(۱) مجلة نشر الفضائل السنة الثالثة العدد (٤٩) ٢ رمضان ١٣٥٤ .
الحديث الشريف وعلومه
ورد بهم الحديث في الصحيح.
٣٥٩
الثالث الشفاعة في قوم من الموحدين استحقوا النار بذنوبهم
يدخلوها.
الرابع: الشفاعة في إخراج من أُدخل النار من عصاة الموحدين.
ألا
الخامس: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها. إذا عرف هذا فالحديث محمول على القسم الرابع مما ذكرنا فيكون معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» أنه يشفع في إخراج من دخل النار من مذنبي أمته، ويكون الحديث على هذا عاما في كل صاحب كبيرة لما تقرر من أنه لا يخلد مسلم في النار.
ويجوز أن يحمل على النوع الثالث فيكون معناه أنه صلى الله عليه وآله وسلم يشفع في أصحاب الكبائر أن لا يدخلوا النار، لكن يجب على هذا تخصيصه ببعض أصحاب الكبائر حتى لا يعارض الدلائل القاضية بنفوذ الوعيد في طائفة من عصاة هذه الأمة وأنه لابد من دخولهم للنار وبذلك يتفق هذا الحديث مع تلك الدلائل البالغة مبلغ التواتر.
وقد فهم بعض الناس من الحديث أنه يدعو أصحاب المعاصي إلى الاتكال على الشفاعة، وسارع بسبب ذلك إلى تضعيفه وتوهينه من غير أن يعرف من خرجه، ولا حال رواته.
قال:
وليس هذا التسرع منه بجيد؛ فإن ما فهمه من الحديث بعيد لا يراد وليس معناه إلا ما قدمنا ذكره، والحديث صحيح خرجه الترمذي في "سننه" حدثنا العباس العنبري: ثنا عبدالرزاق عن معمر ، عن ثابت، عن أنس قال:
٣٦٠
المقالات والمقدمات
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». ثم قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ورواه البيهقي من طريق عبدالرزاق عن معمر عن ثابت، عن أنس وقال: «إسناده صحيح»، ورواه الحاكم من هذا الطريق وقال: «صحيح على شرط الشيخين». وأقره الذهبي. ثم رواه أيضًا من طريق الخليل بن عمر بن إبراهيم: ثنا عمر الألج، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس.
ورواه أيضًا من طريق سليمان بن حرب ثنا بسطام بن حريث، عن أشعث الحداني، عن أنس.
ومن هذا الطريق خرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة في "صحيحه". ورواه ابن خزيمة من طريق مالك بن دينار عن أنس، ورواه أيضًا من
طريق يزيد الرقاشي وزياد النميري كلاهما عن أنس.
ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، والترمذي في "سننه" من طريقه عن محمد بن ثابت البناني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». قال محمد بن
علي فقال لي :جابر يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة ؟ ومن هذا الطريق خرجه الحاكم. ورواه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحهما" والحاكم في "المستدرك" والبيهقي من طريق زهير بن محمد، عن
جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. وهذا إسناد صحيح.
ومن هذا الطريق خرجه ابن ماجة في "سننه " ورواه البيهقي في "البعث"
الحديث الشريف وعلومه
٣٦١
من طريق الشعبي، عن كعب بن عجرة قال: قلت: يا رسول الله الشفاعة
الشفاعة، فقال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلّم: شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي». رواه
البيهقي من هذا الطريق وقال: «هو مرسل حسن
وقال ابن ماجه في "سننه" : حدثنا إسماعيل بن أسد: ثنا زياد بن خيثمة، عن نعيم بن أبي حضر ، عن ربعي بن حراش، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «خُيّرتُ بين الشَّفاعة وبين أن يدخل نصفُ أمتي الجنَّةَ فاخترتُ الشَّفاعةَ لأنها أعم وأكفى أترونها للمتقين؟ لا، ولكنَّها للمذنبين الخاطئين المتلوّثينَ». تفرد بإخراجه ابن ماجه دون باقي الستة
وقال الحافظ البوصيري في "الزوائد": إسناده صحیح ورجاله ثقات. ولهذه المناسبة أذكر ما نقل عن بعض الشافعية أنه كره لإنسان أن يطلب الشفاعة، وعلل ذلك بأن طلبها طلب للذنوب وهذا غلط واضح فقد طلب
الصحابة الشفاعة.
ففي
"مسند أحمد عن معاذ وأبي موسى قالا: كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلَّم إذا نزل منزلاً كان الذي يليه المهاجرين قالا: فنزلنا منزلا فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ونحن... وذكر الحديث إلى أن قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلّم: «أتاني آت في منامي فخيَّرني في بين أن يدخُل
نصفُ أمتي الجنة أو الشفاعة، فاخترت لهم الشَّفاعة».
فقلنا: نسألك بحق الإسلام وبحق الصحبة لما أدخلتنا في شفاعتك؟ فدعا
٣٦٢
المقالات والمقدمات
لهما، فاجتمع عليه الناس وقالوا مثل قولنا وكبر الناس فقال: «إني جاعل شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا».
وفي رواية فقالا - أي: معاذ وأبي موسى : ادع الله يارسول أن يجعلنا في
شفاعتك. فقال: «أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئًا في شفاعتي».
ورجال الإسناد رجال الصحيح غير عاصم ابن أبي النجود وهو ثقة، وإنما أنه ضعف من قبل سوء حفظه، ويكفي فيه من أئمة المقرئين أصحاب القراءات. فهذا معاذ وأبو موسى ومن ذكر معهما من الصحابه سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أن يدعوا الله أن يدخلهم في شفاعته وأقرهم على ذلك ودعا لهم به، أفتراه غفل عن ذلك التعليل الذي أبداه بعض الشافعية ؟! كلا. إذا فلا كراهة في طلب الشفاعة بل يستحب أن يطلبها الإنسان اقتداء
بالصحابة رضي الله عنهم فهم خير قدوة وفيهم أحسن أسوة.
الحديث الشريف وعلومه
٣٦٣
٦٦- حديث فاطمة بنت أسد
وحجية الحديث الضعيف (۱)
روى الطبراني في معجميه "الكبير" و"الأوسط" قال: حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة : حدثنا روح بن صلاح أخبرنا سفيان، عن عاصم، عن أنس بن مالك رضي ا الله عنه قال : لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما دخل عليها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فجلس عند رأسها فقال: «رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعينَ وتشعينَني، وتَعرَيْنَ وتكسينَني، وتمنعينَ
نفسَك طيبًا وتُطعَمِينَني تُريدين بذلك وجه الله والدَّارَ الآخرة». ثم أمر أن تغسل ثلاثا ثلاثا فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بيده ثم خلع قميصه فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسامة بن زيد وأبا أيُّوبَ الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلامًا أسود يحفرون. فحفروا قبرها فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فاضجع فيه وقال: «الله الذي يُحيي ويميت وهو حي لا يموتُ اغفر لأمي فاطمة بنت أسَدٍ ولقنها حجّتها ووسع عليها مُدخَلَها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنَّك أرحمُ الرَّاحِمينَ». وكبر عليها أربعا وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر رضي الله عنهما. قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد": «رجاله رجال
(۱) المسلم: السنة السابعة العدد (٥) ذي الحجة ١٣٧٦ .
٣٦٤
المقالات والمقدمات
الصحيح غير روح بن صلاح، وقد وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف». قلت: روح ابن صلاح هو ابن سیاه بن عمر، والحارثي يكنى أبا الحارث ذكره ابن يونس في تاريخ الغرباء" وقال: «هو من الموصل قدم مصر وحدث بها، رويت عنه مناكير . وذكره ابن عدي في "الكامل"، وروى من طريقه حديثين وقال: «له أحاديث كثيرة في بعضها نكرة».
وقال الدراقطني: ضعيف في الحديث»، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم: «ثقة مأمون».
توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، فالحديث صحيح على رأي ابن حِبَّان والحاكم لأنه على شرطهما، وأما على رأي الدارقطني وابن عدي فهو ضعيف، لكن ضعفه قريب محتمل وليس بضعف شديد لأنها لم يُضعفا روحًا بما يقتضي ترك روايته بل عبارتهما في تضعيفه تعتبر من العبارات الخفيفة في الجرح، يؤيد ذلك قول الحافظ الهيثمي الذي نقلناه آنفًا. والحاصل أن الحديث على القول بضعفه أحسن وأقوى من كثير من الأحديث الضعيفة التي احتج بها الأئمة في الأحكام كما يعلم بالموازنة بينه وبين تلك الأحاديث وهي مذكورة في "المنتقى" للمجد ابن تيمية، و"تخريج أحاديث الهداية" للحافظ الزيلعي، والتلخيص الحبير" للحافظ، "وبلوغ
المرام " له. وقولهم الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام ليس على إطلاقه كما يفهمه غالب الناس أو كلهم؛ لأنك إذا نظرت في أحاديث الأحكام التي تأخذ
الحديث الشريف وعلومه
٣٦٥
بها الأئمة مجتمعين ومنفردين وجدت فيها من الضعيف ما لعله يبلغ نصفها أو يزيد، وربما وجدت فيها المنكر والساقط القريب من الموضوع، كما أشار إلى
ذلك شقيقنا العلامة الحافظ السيد أحمد في كتاب "المثنوني والبتار" فليراجع. بل مما أصله مالك وأبو حنيفة الاحتجاج بالمرسل، ومن أصول الإمام أحمد وتلميذه أبي دواد الاحتجاج بالحديث الضعيف وتقديمه على الرأي والقياس، وقدَّمه أبو حنيفة أيضًا كما نقله ابن حزم عنه، وفي مكتبتنا نسخة خطية من كتاب "المعيار"، وذكر في كل باب منه الأحاديث الضعيفة التي أخذ بها الأئمة الأربعة على الاجتماع والانفراد.
إذا تقرر هذا فلا يهولنك تهويش هذه الطائفة المتهوسة بأنَّ الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة لما علمت من عمل الأئمة به، والعجب أنَّ هذه الطائفة نفسها تعمل به إذا وافق مرادها وتقدمه على الحديث الصحيح كما يعلم من الوقوف
على ما يستدلون به لبدعهم ونزعاتهم، وهذ تلاعب يوجب المقت.
٣٦٦
٦٧- نبذة عن كتاب تيسير الوصول (۱)
المقالات والمقدمات
اطلعت في صحف الصباح (يوم ۳۱ شهر ٧ سنة ١٩٣٧) على ما قدمه علماء الأزهر إلى جلالة الملك هدية تنبئ عما يكنه الأزهر نحو جلالته من إخلاص وولاء، وقد سرني وسرَّ كل مسلم أن تلك الهدية اشتملت على أنفس ما يقدم
وأعظم ما يقتنى ألا وهو كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم . ولا ريب أن لهذه الهدية مغزاها الديني، فإن الكتاب والسنة هما أصل الدين ومنبع العرفان واليقين، ومغرس الأخلاق الفاضلة، كما أن لها مغزاها السياسي لاشتمال الكتاب على أصول الحكم ونظم العمران وقوانين الاجتماع. وأن في اختيار العلماء الجمع بين كتاب الله وحدیث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى أنهما صنوان لا يفترقان، وأنهما حبل الله المتين من استمسك بهما نجا، ومن تخلى عن أحدهما هلك وإليهما المرجع عند التخاصم
کا قال تعالى: فَإِن تَتَنَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ﴾ [النساء: ٥٩].
فلا يجوز لأحد يزعم التمسك بكتاب الله أن يترك حديث رسوله وراءه ظهريًا كما شاع بين المتفرنجة وأشباههم في هذا العصر، يرون أن لا ضرورة داعية إلى السنة، وأن في القرآن كفاية عنها، وكأنها كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليهم من وراء حجب الغيب حيث قال كما جاء في "سنن أبي داود": «ألا إنِّي أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته
(۱) مجلة هدي الإسلام السنة الرابعة العدد (۷) ۳۰ رمضان ١٣٥٦.
الحديث الشريف وعلومه
٣٦٧
يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتُم فيه من حلالٍ فأحلوه وما وجدتُم فيه من حرام فحرموه». وقال كما في "سنن أبي داود" أيضًا: «لا ألفين أحدكم متكنا على أريكته يأتيه الأمرُ من أمري مما أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتَّبَعْناهُ».
غير أني في هذه الكلمة أريد أن ألفت نظر مشيخة الأزهر الجليلة إلى أن كتاب الحديث الذي أهدي إلى جلالة الملك ليس خاصا بصحاح الأحاديث ا كما أشيع . عنه في الصحف بل فيه أحاديث صحيحة وضعيفة؛ لأنه مأخوذ من كتاب "جامع الأصول في أحاديث "الرسول" لابن الأثير الجزري وهو غير صاحب كتاب "الكامل في "التاريخ" و"جامع الأصول" هذا جمع بين دفتيه الأحاديث التي وقعت في الكتب الستة التي تعتبر أصولا لغيرها من كتب السنة وهي: صحيح البخاري وصحيح مسلم" و "موطأ مالك" و "جامع الترمذي" و "سنن أبي داود" و "سنن النسائي".
جميع
وهذه الكتاب ما عدا صحيحي البخاري ومسلم فيها أحاديث صحيحة وأحاديث ضعيفة، وابن الأثير لم يُغيّر شيئًا منها سوى جمعها، أنه رتبها ترتيبا سهلا قريبا، غير أنه أشار إلى اختلاف روايات الأحاديث المتعددة وأعقب كل باب بشرح ما وقع فيه من الألفاظ اللغوية فطال بذلك كتاب "جامع الأصول" وأصبح النفع به قليلا فاختصره الشيخ عبد الرحمن ابن الديبع الشيباني اليمني بأن اقتصر من الرويات المذكورة فيه على أكملها وحذف سائرها كذلك حذف منه ما يتعلق بشرح الألفاظ اللغوية وسمى اختصاره تيسير الوصول إلى جامع الأصول في أحاديث الرسول".
٣٦٨
المقالات والمقدمات
هذا هو اسم اسمه "تيسير الوصول في صحاح أحاديث الرسول" فإن هذا الاسم لا يتفق والواقع على أن كلا من "تيسير الوصول" وأصله "جامع الأصول" لم يكتفيا بما في الكتب الستة من الأحاديث، ولكنهما أضافا إليها أحاديث كثيرة من كتاب رزين بن معاوية العبدري، وأغلب هذه الأحاديث ليس لها إسناد يعتد به عند المحدثين، ومنها ما هو موضوع فصار" "تيسير" "الوصول بسبب مشتملا على أحاديث موضوعة أيضًا. هذه لمحة عن أصل الكتاب وموضوعه لم أقصد بذكرها الغض من قيمتة ولا من قيمة أصحاب الفضيلة العلماء الذين أهدوه، ولكني قصدت تقرير الحقيقة حتى لا يتسرب إلى نفوس الناس اعتقاد أن كل ما في تيسير الوصول من الأحاديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن في هذا الاعتقاد من الخطر مالا يخفى على أهل العلم. على أن هناك كتبا . هي أولى من "تيسير الوصول" لاختصاصها بصحيح الأحاديث نخص بالذكر منها: "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، وكتاب الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق الأشبيلي الأندلسي وهو محفوظ بدار الكتب المصرية بقسم الحديث تحت رقم ۱۸۲ أو ۱۸۱ ، على ما أتذكر، وحبذا لو كان حضرات العلماء ضموا إلى هديتهم السابقة كتاباً صغيرًا للشيخ الشرنبلالي الحنفي، واسمه أربعون حديثًا في فضل السلطنة والحكام والمقسطين". وإننا لهذه المناسبة نرفع تهانينا إلى جلالة الملك ونرجو من الله أن يوفقه لما فيه خير مصر وسعادتها.
ا الكتاب الحقيقي لا كما أشيع عنه في بعض الصحف من أن
(٤)
مقالات في الفقه الإسلامي
الفقه الإسلامي
٦٨ - التشريع الإسلامي في تلقين الميت وحكمه (1)
۳۷۱
التلقين صرح باستحبابه جماعة من أهل العلم فيهم المالكية والشافعية
والحنابلة.
فمن أهل المذهب الأول : عبد الحق الإشبيلي، وأبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، وتلميذه أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي صاحب "التفسير"، وأبو بكر الطلاع، وابن الحاج صاحب "المدخل"، والمنيوي، وأبو حامد بن البقال، والثعالبي، والحطاب
ومن أهل المذهب الثاني: القاضي حسين، والمتولي، ونصر المقدسي،
والرافعي. ومن أهل المذهب الثالث: القاضي أبو يعلى، وأبو الخطاب. واستدل أغلب هؤلاء لما قالوه بحديث أبي أمامة رضي الله عنه، وهذا الحديث رويناه في كتاب "التذكرة " قال : أنبأنا الشيخ المسن الحجة الرواية أبو محمد عبدالوهاب بن ظافر بن علي بن فتوح بن أبي الحسين المقدسي عرف بابن رواج بمسجده بثغر الإسكندرية، والشيخ الفقيه الإمام أبو الحسن علي بن هبة الله الشافعي بمنية ابن خصيب على ظهر النيل بها، قالا: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني قال: أخبرنا الرئيس عبد الله بن القاسم بن الفضل بن أحمد بن أحمد بن محمد النقفي الأصبهاني قال : ثنا أبو علي الحسن عبدالرحمن بن محمد بن عيدان التاج بنيسابور قال: ثنا
(۱) مجلة هدي الإسلام السنة الرابعة العدد (٩) ٢١ شوال ١٣٥٦.
۳۷۲
المقالات والمقدمات
أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال : ثنا أبو الدرداء هاشم بن يعلى الأنصاري قال: ثنا عتبة بن السكن الفزاري الحمصي، عن أبي زكريا، عن حماد بن زيد، عن سعيد الأزدي قال: دخلت على أبي أمامة وهو في النزع فقال لي: يا سعيد إذا أنا مِتُّ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أن نصنع بموتانا فقال: «إذا ماتَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فَدَفَتْتُمُوهُ فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عِندِ رَأْسِهِ فلْيَقُلْ : يا فُلانَ بنَ فُلانةٍ فإنه يَسْتَمِعُ، فَلْيَقُلْ : يا فلانَ بنَ فُلانة فإنه يَسْتَوِي قاعِدًا، فَلْيَقُلْ : يا فُلانَ بنَ فُلانة فإنه سيقول : أَرْشِدْنِ رَحِمَكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ : اذْكُرْ ما خَرَجْتَ عليه مِن الدُّنيا؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأَنَّ محمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وأنَّ السَّاعَةَ آتية لا رَيْبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ. فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا عند ذلك يَأْخُذُ كُلُّ واحِدٍ مِنْها بَيَدِ صاحبه ويقول: ما نَصْنَعُ عند رَجُلٍ لُقْنَ
حُجَّتَهُ فيكون الله حَجِيجَهُما دُونَهُ». قال القرطبي: «وهو حديث غريبٌ مِن حديث حماد ما كتبناه إلا من حديث سعيد الأزدي».اهـ
وكذا رواه الطبراني في "الكبير" وفي كتاب "الدعاء" وابن منده في كتاب " الروح" والديلمي في "مسند الفدوس" وابن عساكر في "التاريخ" من طريق سعید بن عبدالله هو الأزدي قال: شهدت أبا أمامة وهو في النزع فقال: إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «إذا مَاتَ أَحَدٌ مِن إِخْوَانِكُمْ، فَسَوَّيْتُمِ التُّرَابَ على قَبْرِهِ، فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ ليقل: يا فلان بنَ فُلانَة، فإِنَّهُ يَسْمَعُهُ ولا يُحِيبُ، ثُمَّ يَقولُ: يَا فُلانَ بنَ فُلانَةٌ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قاعِدًا، ثُمَّ يقولُ : يا فُلانَ بنَ فُلَانَة، فإنَّهُ يقولُ: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ اللَّهُ، ولكن لا تَشْعُرُونَ . فَلْيَقُلْ : اذْكُرُ ما خَرَجْتَ عليه مِن الدُّنيا شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ
الفقه الإسلامي
۳۷۳
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وأنَّكَ رَضِيت بالله رَبَّا، وبالإسلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نبيًّا، وبالقُرْآنِ إمامًا، فإنَّ مُنكَرًا ونَكِيرًا يأخُذُ واحِدٌ منهما بيدِ صاحِبِهِ ويقول: انطَلِقْ بنا ما تَقْعُدُ عند مَن قد لُقَنَ حُجَّتَهُ، فيكون اللهُ حَجِيجَهُ دُونَهُما». فقال رَجُلٌ: يا رسول الله، فإن لم يَعْرِفُ أُمَّهُ؟ قال: «فيَنْسُبُهُ إِلى حَوَّاءَ، يَا فُلانَ بنَ حَوَّاءَ». قال
النووي والعِراقي بعد أن عزياه للطبراني: «في سنده ضعف» . اهـ
ولعل سبب ضعفه عندهما ما ذكره الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" أنَّ في سنده من لا يُعرَف، لكن رأيت الحافظ ابن حجر قال: في "التلخيص" وقد عزاء للطبراني أيضًا: «إنَّ إسناده صالح» قال: «وقد قواه الضياء في
أحكامه» . اهـ
هذا
هو الصواب؛ لأنه له طرُقٌ وشواهد فأخرجه ابن عساكر من طريق آخر عن أبي أمامة قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: « إذا ماتَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فَدَفَتْتُمُوه فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ على رَأْسِهِ ... ». وذكر الحديث إلى أن قال: اذْكُرُ ما خَرَجْتَ عليه مِن الدُّنيا شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وأنَّ السَّاعَةَ آتِيةٌ لا رَيْبَ فيها، وأنَّ اللهَ بَاعِثُ مَن فِي القُبُورِ».
وروى ابن منده من طريق آخر عنه قال: إذا مِتُ فليقم إنسان عند رأسي فليقل يا صُدَيُّ بن عَجْلان - اسم أبي أمامة الباهلي - اذكر ما كنت عليه في
الدنيا شهادة أن لا إله إِلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله.
وروى سعيد بن منصور في "سننه" : عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحكيم بن عمير، قالوا: إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه كان يستحب أن يقال للميت عند قبره: «قل : لا إله إلا الله ثلاث مرات يا
٣٧٤
المقالات والمقدمات
فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونببي محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم ثُمَّ
ينصرف .
وروى أبو المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يفعلون ذلك، وذكر عبدالحق الإشبيلي في كتاب "العاقبة" عن شيبة بن أبي شيبة قال: أوصتني أمي عند موتها فقالت: يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري وقل: «يا أُمَّ شيبة قولي لا إله إلا الله ثُمَّ انصرف، فلما كان من الليل رأيتها في المنام فقالت لي يا بني لقد كدت أهلك لولا أن تداركتني لا إله إلا الله، لقد حفظت وصيَّتي يا بني".
هذا ما رأينا كتابته في موضوع التلقين وقد اخترت نشره في مجلة هدي الإسلام الزاهرة لما لها من الشهرة ،الذائعة و العناية التامة بالمواضيع العلمية الهامة، فجزى الله أسرتها خير ما يجزي به مسلمًا عن خدمة دينه، ووفقنا وإياهم
لما يحبه ويرضاه، وسنوالي إن شاء الكتابة في مناح شتَّى من هذا التراث خدمةً للإسلام والمسلمين.
الفقه الإسلامي
۳۷۵
٦٩- زكاة الفطر (1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم صَدقَةَ الفِطْرِ طُهرةٌ للصَّائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين فمن أداها قبلَ الصَّلاةِ فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أ أداها . بعد الصلاة فهي . صدقة من
الصَّدَقَاتِ». قال الحافظ أبو بكر بن المنذر: «أجمع عوام أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض، وممن حفظنا ذلك عنه من أهل العلم محمد بن سيرين، وأبو العالية والضحاك، وعطاء، ومالك، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد بن
حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأصحاب الرأي يعني: الحنفية» . اهـ فزكاة الفطر لا خلاف في فرضيتها بين العلماء كما رأيت، وهي مأخوذة من الحديث، كما أن زكاة المال منصوص عليها في القرآن، والحكمة في مشروعية الزكاة على وجه العموم مواساة الفقير والمحتاج والمسكين، وإشعارهم بالعطف الأخوي، وإذهابُ حرّ صدورهم على الأغنياء وذوي اليسار، وإعلامهم بأنهم أعضاء في المجتمع ينظر إليهم بعين العطف والاحترام إلى غير ذلك من الحكم السامية.
ولو أن الناس يخرجون الزكاة وهي من أركان الإسلام لصلح حال المجتمع، وقلت جرائم السرقة وما إليها، وشعر الفقراء بسعادة وطمأنينة لعطف إخوانهم الأغنياء عليهم، ولوجد مجتمع مثالي يسوده الود والإخاء وترفرف عليه أجنحة السعادة والهناء، بل لو أخرج الناس الزكاة كما أمرهم الله
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية، السنة الثانية، العدد (۳۱) ۳ شوال ١٣٦٥ .
٣٧٦
المقالات والمقدمات
لم تجد هذه المذاهب الهدامة سبلًا إلى الظهور فمن كان يصدق أن يظهر في بلاد إسلامية كمصر مذاهب هدامة كالشيوعية ونحوها ؟ من كان يصدق هذا لولا خروج الناس على تعاليم الإسلام.
وشح الأغنياء وذهاب الرحمة من قلوبهم وتهاون الحكومات في الضرب على أيدي هؤلاء الأغنياء البخلاء، مع أن الشرع يوجب على الحكومة أن تأخذ من الغني زكاة ماله قهرًا عنه؛ لأنه حق الله في ماله لا سلطان له عليه، فلم تأخذ الحكومات الضرائب والعوائد وتسكت عن الزكاة؟ إن هذا تهاون مخز
وخروج صارخ على أوامر الإسلام نسأل الله أن يلهمنا رشدنا. وزكاة الفطر تشتمل على الحكم التي أشرنا إليها وعلى غيرها مما بينه الحديث الذي نشرحه يقول راويه ابن عباس: «فرض رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلّم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث». واللغو كل كلام لا فائدة فيه، والرَّفَتْ الكلام القبيح، والصائم لا يخلو أثناء صومه أن يتكلم بكلام لغو أو كلام قبيح يؤاخذ به، فجعل الله زكاة الفطر تجبر ذلك، ولذلك ورد في حديث آخر: «صوم رمضان معلق بينَ السَّماءِ والأرضِ لا يُرفَعُ إِلَّا بزكاة الفطرِ».
لأنها تجبر ما فيه من خلل ونقص وهي واجبة على الرجل وعلى من تلزمه نفقته من زوجة وأولاد وخادمه المسلم. وقوله: «وطعمة للمساكين أي مأكلة لهم أو كسبا لهم ينتفعون به بناء على القولين في إخراج البرِّ أو قيمته نقدًا، وإخراج القيمة اليوم أنفع وأيسر فمن أداها قبلَ الصَّلاةِ أي صلاة عيد الفطر فهي زكاة مقبولة لأن هذا
۳۷۷
الفقه الإسلامي
وقت إخراجها شرعًا ويصح إخراجها قبل ليلة العيد بيوم أو يومين وهي تجب بغروب شمس ليلة العيد . ومن أداها بعد الصلاة» أي صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات وأمر القبول فيه موقوف على مشيئة الله تعالى بخلاف التي أخرجت قبل الصلاة فقد أخبر الحديث أنها مقبولة، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد كما يحرم تأخير الصلاة عن وقتها، ولا تسقط بالتأخير بل تبقى دينا في ذمة الشخص يقضيه مع إثم التأخير، بل ذهب بعض العلماء إلى أن تأخيرها عن صلاة العيد حرام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
۳۷۸
- أحكام فقهية في الأضحية (1)
المقالات والمقدمات
حتى
المناسبة قرب حلول عيد الأضحى المبارك وهو العيد الأكبر للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، رأينا أن نتحف قراء المجلة بجملة من الأحكام المتعلقة بالأضحية على المذاهب الأربعة؛ لينتفعوا بها في هذه المناسبة المباركة، وراعينا في كلمتنا هذه وضوح القصد وبسط العبارة، وسهولة المأخذ يكون الانتفاع بها عاما إن شاء الله فنقول : لا خلاف بين العلماء في أن الأضحية العيد الأكبر مشروعة، وأنها أحب عمل إلى الله لما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما عملَ ابنُ آدمَ يومَ النَّحْرِ عملًا أحبَّ إلى الله من هراقة دم وإنَّها لتأتي يومَ القيامةِ بقرونها وأظلافها وأشعارِها، وإنَّ الدَّمَ ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبُوا بها نفسا». رواه الترمذي
يوم
وحسنه.
ولأن الأضحية سنة إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى في كتابه الكريم: وَفَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: ۱۰۷] وعن زيد بن أرقم قال: قالوا: يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال: «سنة أبيكُم إبراهيم» قالوا ما لنا فيها؟ قال: بكل شعرة حسنةٌ قالوا فالصُّوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» رواه الإمام أحمد.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن الذبيح الذي فداه الله إسماعيل عليه السلام كما قامت عليه الدلائل المتعددة، وأما ما يروى عن ابن عباس من أن الذبيح
(1) الشرق العربي السنة الثامنة، العدد (۱۸) ۱۲ ذي الحجة ١٣٩٦.
الفقه الإسلامي
۳۷۹
إسحاق ورجحه الطبري فغلط على ابن عبّاس، بل هو من الإسرائيليات، ويكره لمن وجد سعة لأن يضحي ثم لم يفعل؛ لما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ وَجَدَ سَعةٌ فلم يُضَحٌ فلا يقربنَّ مُصَلَّانا». وروي من كلام أبي هريرة وهو أصح.
أما من لم يجد سعة لأن يضحي فلا حرج عليه في ذلك؛ لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عيد الأضحى فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال: «بسْمِ الله والله أكبر اللهم هذا عني، وعمن لم يضح من أُمتي». وورد نحوه من حديث أبي رافع. ثُمَّ هل الضحية واجبة أم سنة؟ فقال ربيعة والأوزاعي، وأبو حنيفة وبعض المالكية أنها واجبة على الموسر ، وذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو يوسف والجمهور: إلى أنها سنة. وروى ابن العربي المعافري في الأحكام بإسناده: أنَّ أبا بكر وعمر كانا لا يُضحيان مخافة اعتقاد وجوبها.
لكن ذهب الجمهور إلى أنه يتأكَّد في حقٌّ الموسر، والموسر: هو القادر الذي يملك ثمن الأضحية زيادة عن مطلوباته الضرورية، وكذلك مطلوبات أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه. فمن كان كذلك تأكد في حقه أن يضحي، ويوسع على أهله ويتصدَّق من أضحيته فيوسع على الفقراء والمساكين، ويشعرهم ببهجة هذا اليوم وسروره
وينبغي لمن أراد الضحية ألا يحلق شعره، ولا يقلم أظفاره من وقت أن يهل هلال ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته يوم العيد لما رواه مسلم وأبو داود
۳۸۰
المقالات والمقدمات
والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أم سلمة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا رأيتُم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفَارِه وفي رواية مسلم والنسائي: «من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره وأظفاره حتّى يضحي» وقد ذهب أحمد بن حنبل وداود الظاهري وبعض الشافعية إلى أنه يحرم على الشخص الذي يريد الضحية أن يحلق شعره أو يقلّم ظفره حتى يضحي. وقال الجمهور: أنه يكره
ذلك ولا يحرم. ولا يجزئ في الضحية إلَّا من مخصوصة عينها الشارع في الضأن والماعز إذا تمت سنة ودخلت الثانية، وفي البقر والجاموس لا تصح إلا إذا بلغت سنتين و دخلت في الثالثة وفي الإبل خمس سنين ودخلت في السادسة هذا عند
الحنفية.
وأما المالكية فخالفوا في البقر والجاموس حيث قالوا لا تجزئ إلا إذا بلغت
ثلاث سنين
والشافعية في المعز فاشترطوا فيها سنتين كاملتين ووافقوا الحنفية في سن
البقر والجاموس.
أما الحنابلة فخالفوا في الضأن حيث قالوا يضحى بها إذا بلغت ستة أشهر ووافقوا الشافعية في الباقي.
ولا تصح الأضحية بالشاة العمياء ولا العوراء، ولا المهزولة، ولا العرجاء، ولا مقطوعة الأذن أو الذنب أو مقطوعة الإلية إذا ذهب أكثر من ثلثها، ولا بالتي تأكل النجاسة حتى تحبس وتطعم طعاما طاهرا، وتصح بالتي
الفقه الإسلامي
لا قرون لها أو ذهب بعض قرنها ما لم يصل الكسر إلى المخ.
۳۸۱
وقت الذبح وقت ذبح الأضحية عند الحنفية يدخل بطلوع فجر يوم العيد، وينتهي قبيل غروب الشمس من اليوم الثالث للعيد، غير أنه يشترط لمن يضحي في المصر ألا يذبح قبل صلاة العيد فإذا ذبح قبل هذا لا تصح أضحيته، وسكان القرية لا يشترط فيهم ذلك. أما عند المالكية: فوقت الأضحية لغير الإمام يبتدئ بعد أن يذبح الإمام وللإمام بعد الفراغ من خطبته، ويستمر الوقت إلى غروب الشمس من اليوم الثالث للعيد ولا يكون الذبح إلا نهارًا فلو ذبح ليلا لا تصح الأضحية. والشافعية قالوا: يدخل وقت ذبح الأضحية بعد مضي قدر ركعتين
وخطبتين بعد طلوع الشمس من يوم العيد ويستمر أيام العيد الثلاثة .
ويصح
الذبح عندهم ليلا أو نهارا بعد دخول وقتها إلا أنه يكره في الليل. وقال الحنابلة: يدخل وقت ذبح الأضحية بعد صلاة العيد مباشرة، ولو قبل الخطبة، والأفضل أن يكون بعدها، ومن هنا يعلم أنَّ ما يفعله بعض الناس اليوم من الذبح ليلة العيد باطل على جميع المذاهب، ولا تعتبر ذبائحهم
أضحيات، وإنما تكون ذبائح مطلقة للأكل فقط لا نصيب فيها للأضحية
الشرعية ولا يثاب صاحبها لأنه خالف السُّنة على جميع المذاهب.
الاشتراك في الأضحية:
أن
ويصح الاشتراك في الأضحية إذا كانت من الإبل أو البقر ويصح أ يكون المشتركون في البقرة مثلا سبعة، لكل واحد سبع لا يقل عن ذلك فإن
۳۸۲
المقالات والمقدمات
زادوا عن سبعة لا يصح الاشتراك هذا عند الثلاثة، وأما المالكية فقالوا لا الاشتراك في الثمن سواء كان المشتركون سبعة أو أقل أو أكثر ويصح
يصح
اشتراكهم في الأجر أي: (الثواب).
التسمية عند الذبح
وتسمية الله شرط في حل أكل كل ذبيحةٍ سواء كانت أضحية أم غيرها،
فمن تركها عمدًا لا تؤكل ذبيحته ومن تركها سهوا تؤكل. وقال الشافعية
ليست التسمية شرطاً في حل الذبيحة، فلو تركها عمدا صحت مع الكراهة. ولا يصح بيع شيء من الأضاحي لا من لحومها ولا جلودها ولا قرونها، ومن باع شيئًا منها فهو آثم لورود النهي عن ذلك. ولا يفوتني في هذا المقام أن أنبه القراء الكرام إلى أنه ينبغي لهم أن يحرصوا على حضور صلاة العيد تعرُّضًا لبركتها واستمطارا لرحمة الله في ذلك اليوم المبارك، وأن يتزاوروا ويتصافحوا وألا يباهي القادرون منهم عدم القادرين وأن يمنعوا زوجاتهم عن التفاخر بأضاحيهم وإظهارها للجيران الفقراء الذين لم يتمكنوا من شراء الأضاحي على سبيل التفاخر والتباهي والنكاية؛ فإنَّ ذلك محرم في الدين خصوصا في مثل هذا اليوم الذي حصنا الشارع فيه على الاستكثار من فعل الخير والتصافح والتعاطف وتناسي الأحقاد والضغائن وفقنا الله جميعا إلى ما فيه الخير والرشاد، وكل عام أنتم بخير.
الفقه الإسلامي
۳۸۳
۷۱- كلمة في الأضحية(۱)
اتفق العلماء على أنَّ الأضحية مطلوبة، ثُمَّ اختلفوا هل هي واجبة أو سُنَّةٌ، فذهب مجاهد ومكحول والحنفية إلى أنها واجبةٌ، وورد عن الشعبي أنه قال: لم يكونوا يرخصون في ترك الأضحية إلا لحاج أو مسافر، ورُوي القول بوجوبها أيضًا عن أبي هريرة، ولم يصح عنه.
وذهب سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وطاوس وأبو جعفر الباقر ومالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أنها ليست بواجبة بل سُنَّةٌ فقط.
وصح عن حذيفة بن أسيد الغفاري الصحابي أنه قال: لقد رأيت أبا بكر وعمر وما يُضحيان كراهية أن يُقتدى بهما.
وأخرج سعيد بن منصور عن بلال قال: ما كنت أبالي لو ضحيت بديك، ولأن آخذ ثمن الأضحية فأتصدق به على مسكين مُقْتَرِ فهو أحبُّ إلي من أن
أُضَحي. وورد عن ابن عباس : أنه أعطى لمولاه در همين وقال اشتر بهما لحما ومن لقيك فقل هذه أضحية بن عباس، وورد عن ابن عمر أنه قال: الأضحية سُنَّة. ولم يصح عن أحدٍ من الصحابة أنه قال بوجوب الأضحية وما ورد عنهم في ذلك فأسانيده ضعيفة. ثُمَّ إِنَّ سُنِّيَّة الأضحية إنها تكون في حق الموسم القادر الذي يملك ثمن الأضحية زائدا على ما يكفيه ويكفي أهل بيته، فأمَّا من لا يَقْدِر على ثمنها إِلَّا
(1) الشرق العربي السنة الثالثة، العدد (١٨) ٥ ذي الحجة ١٣٦٧ .
٣٨٤
المقالات والمقدمات
باستدانة أو تضيق على نَفْسِهِ فهذا لا تُسَنُ في حقه. ومن أراد أن يُضَحي فأهل هلال ذي الحجة فينبغي له ألا يأخذ من شعره لا بحَلْقٍ ولا بقصَّ، ولا يُقلّم أظافره حتَّى يذبح أضحيته؛ لما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن كان لَهُ ذِبْحُ - بكسر الذال المعجمة - يَذْبَحُهُ، فإذا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الحِجَّةِ فَلَا يَأْخُذُ مِن شَعْرِهِ، ولا مِن أَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحْيَ». وفي رواية للنسائي: «مَن رَأَى هِلَالَ ذِي الحِجَّةِ، فَأَرَادَ أَنْ يُضَجِّيَ، فلا
يَأْخُذُ مِن شَعْرِهِ، ولا مِن أَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحْيَ».
ثُمَّ اتفق العلماء على أنه لا تجوز الأضحية بعيوب أربعة وهي: العَرْجَاءُ البين عرجها، والعَوْرَاء والمريضة، والهزيلة التي لا شَحْم فيها، لحديث البراء بن عازب قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أربع لا تُجْزِئُ في الأَضَاحِي: العَوْرَاءُ البَيَّنُ عَوَرُهَا ، والمَرِيضَةُ البَيَّنُ مَرَضُهَا، وَالعَرْجَاءُ البَيَّنُ طَلْعُهَا أي: عرجها والكَسِيرَةُ التي لا تَنْقَى. الكسيرة: هي الشاة التي لا
شحم فيها.
وروى أبو داود عن علي رضي عنه قال : أمرنا رسول صلى الله عليه وآله وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نُضَحِّي بِعَوراء، ولا مُقَابَلَةٍ، ولا مُدَابَرَةٍ، ولا خرقاء ولا شرقاء. المقابلة مقطوعة طَرَف الأذن، والمدابرة مقطوعة مؤخَّر الأُذُن، والخرقاء:
محروقة الأُذُن، والشَرْقاء: مَشْقُوقَة الأُذُن.
وهناك عيوب أخرى اختلف العلماء فيها لا محل لذكرها هنا؛ لأن فيها
الفقه الإسلامي
٣٨٥
تفصيلات يطول شرحها.
والأضحية تجوز بالإبل والبقر والغنم عند الأئمة الأربعة، وإن اختلفوا في أيها أفضل فمالك يرى الضَّأْن أفضل من الإبل والبقر في الأضحية، وأبو حنيفة والشافعي يريان الإبل أفضل، ثُمَّ البقر، ثُمَّ الضأن، ثُمَّ الماعز، وصحَّ عن بلال جواز الأضحية بديك.
وينبغي استسمان الأضحية لما رواه سفيان الثوري عن علي رضي الله عنه قال: «إذا اشتريت أضحية فاسْتَسْمِن، فإن أكلت أكلت طيباً وإن أطعمت
أطعمت طيّبًا، واشتر ثنيا فصاعدًا والثني ما دخل في السنة الثالثة». ويدخل وقت الأضحية بعد طلوع شمس يوم العيد ومضى وقت يسعه صلاة العيد، فمن ضحى قبل ذلك فلا أضحية له، وإنما هو لحم قدمه لأهله، فالذين يذبحون ليلة العيد كما هو شائع لا تعتبر ذبائحهم أضحية شرعية، لما رواه مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أَوَّلَ ما نَبْدَأُ به في يومنا هذا أَنْ نُصَلِّي، ثُمَّ نَرْجِعَ، فَتَنْحَرَ». وفي الصحيح أيضًا عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى ثُمَّ خطب فأمر من كان ذَبَحَ قبل الصَّلاةِ أَن يُعِيدَ ذبحًا.
وعن جندب قال : مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يوم النَّحْرِ على قوم قد نَحَروا وذَبَحُوا فقال: «مَن نَحَرَ وذَبَحَ قبل صَلاتِنَا فَليُعِدُ، وَمَن لم يَذْبَحْ
أو يَنْحَرْ فَلْيَذْبَحْ وَلَيَنْحَرْ بِاسْمِ اللَّهِ». ويستحبُّ للمُضحي أن يذبح أضحيته بنفسه لما جاء في "صحيح مسلم"
عن أنس قال: «ضَحَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ
٣٨٦
المقالات والمقدمات
أَقْرَنَيْنِ فَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ، واضِعًا قَدَمَهُ على صِفَاحِهِمَا، وَسَمَّى وَكَبَّرَ». وروى عبد الرزاق عن عائشة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا أراد أن يُضحي اشترى كَبْشَيْن عظيمين، سمينين، أَقْرَنين أَمْلَحَيْن، مَوْجُوتَيْنِ، فيذبح أحدهما عن أُمَّته من شهد الله بالتوحيد وله بالبلاغ، ويذبح
الآخر عن محمد وآل محمد. ومن هذا الحديث يُستفاد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام بسُنَّة الأضحية عن أُمته، فمن لم يستطع الأضحية منهم فقد ضحى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وكفى بهذا شرفًا. وينبغي للمُضحي أن يتصدق من أضحيته لما رواه مالك . عائشة أن عن الصحابة قالوا: يا رسول الله إنَّ الناس يتَّخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون فيها الوَدَكَ - أي: الشحم - بعد إذابته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وما ذاك؟» قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال عليه السّلام: «كُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا».
وكان أبو سعيد الخدري يقول لأولاده: إذا ذبحتم أضاحيكم فأطعموا وكلوا وتصدقوا. وهكذا جاء عن ابن مسعود وعطاء وقال: سعيد بن المسيب،
وعروة بن الزبير: ليس لصاحب الأضحية إلا ربعها.
يقصدان بذلك أنه بثلاثة أرباعها وليس هذا بواجب ولكنه مطلوب مؤكد. ونحب أن ننبه أنه لا يجوز إعطاء الجزار أجرة ذبحه من لحم الأضحية، ولا
بيع جلودها أو أي شيءٍ منها، وننتهز هذه الفرصة لنهنئ المسلمين بحلول هذا العيد المبارك راجين أن يكون بشير نصر للمسلمين.
الفقه الإسلامي
۳۸۷
۷۲ - العيد والأضحية(۱)
لا خلاف بين العلماء في أنَّ الأضحية يوم العيد مشروعةٌ، وأنها أحب عمل
إلى الله.
ولا يُجزيء في الضحية إِلَّا سِن مخصوصةٌ بينها الشارع: في الضأن والماعز إذا تمت سنة ودخلت في الثانية، وفي البقر والجاموس لا تصح إلَّا إذا بلغت سنتين
ودخلت في الثالثة، وفي الإبل خمس سنين ودخلت في السادسة هذا عند الحنفية. وأما المالكية فخالفوا في البقر والجاموس حيث قالوا: لا تُجزئ إلَّا إذا بلغت ثلاث سنين، والشافعية خالفوا في المعز فاشترطوا فيها سنتين كاملتين ووافقوا الحنفية في سن البقر والجاموس، أمَّا الحنابلة فخالفوا في الضأن حيث قالوا تصح به إذا بلغت ستة أشهر ووافقوا الشافعية في الباقي.
ولا تصح أضحية بالشاة العمياء، ولا العواراء، ولا المهزولة، ولا العرجاء، ولا مقطوعة الأذن أو الذَّنَب، أو مقطوعة الإلية، إذا ذهب أكثر من ثلثها، ولا بالتي تأكل النجاسة حتى تحبس وتطعم طعاما طاهرا، وتصح بالتي لا قرون لها أو ذهب بعض قرنها ما لم يصل الكسر إلى المخ .
وقت الذبح
وقت ذبح الأضحية عند الحنفية يدخل بطلوع فجر يوم العيد، وينتهي قبيل غروب الشمس من اليوم الثالث للعيد، غير أنه يشترط لمن يُضحي في المصر ألا يذبح قبل صلاة العيد، فإذا ذبح قبل هذا لا تصح أضحيته، وسُكّان
(۱) الشرق العربي السنة الثامنة، العدد (۲۲)، ۱۰ ذي الحجة ١٣٧٢هـ. ، |
۳۸۸
المقالات والمقدمات
القرية لا يشترط فيهم ذلك.
أما عند المالكية فوقت الأضحية لغير الإمام يبتدي بعد أن يذبح الإمام وللإمام بعد الفراغ من خطبته، ويستمر الوقت إلى غروب الشمس من اليوم
الثالث للعيد، ولا يكون الذبح إلا نهارا فلو ذبح ليلا لا تصح الأضحية. والشافعية قالوا: يدخل وقت ذبح الأضحية بعد مضي قدر ركعتين وخطبتين بعد طلوع الشمس من يوم العيد، ويستمر أيام العيد الثلاثة، ويصح
الذبح عندهم ليلا أو نهارا بعد دخول وقتها إلا أنه يكره في الليل. وقال الحنابلة : يدخل وقت ذبح الأضحية بعد صلاة العيد مباشرة، ولو قبل الخطبة، والأفضل أن يكون بعدها، ومن هنا يعلم أن ما يفعله بعض الناس من الذبح ليلة العيد باطل على جميع المذاهب، ولا تعتبر ذبائحهم أضحيات، وإنما تكون ذبائح مطلقة للأكل فقط لا نصيب فيها للأضحية الشرعية، ولا يُثاب صاحبها لأنه خالف السُّنَّة على جميع المذاهب.
الفقه الإسلامي
۳۸۹
۷۳- اعرف دينك: «الحج»(۱)
الحج ركن من أركان الإسلام وقاعدة من قواعد الدين لا خلاف في ذلك بين المسلمين، ولا خلاف أيضًا أنَّ الحجّ إنما يجب على القادر المستطيع وإن اختلف في تحديد معنى القدرة وكيفية الاستطاعة.
وهل يجب على المستطيع فورًا؟ بحيث لو أُخر عن أوَّل سني الاستطاعة يكون آثما، أو يجب على التراخي بحيث يجوز له التأخير إلَّا أن يخاف الفوت لمرض أو كبر سنّ مثلا؟ قولان مشهوران في مذهب مالك قال بالأول: العراقيون، وبالثاني: المغاربة، وحكاهما خليل في "المختصر" من غير ترجيح لتساويهما، ثُمَّ لا خلاف بين العلماء أنَّ الحج يُكفّر صغائر الذنوب، أما الكبائر فهل يُكفّرها أو لا؟ في ذلك خلاف نشير إليه بإيجاز.
فنقول: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «مَن حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقُ رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وقال القرطبي في "المفهم": «هذا الحديث يتضمن الصغائر
والكبائر» . اهـ
واختار ابن بزيزة هذا أيضًا، وقال: يدل على ذلك حديث مباهاة الملائكة عليهم السلام بالحاج ؛ لأنَّ الملائكة مُطهَّرون مُطلقًا، ولا يُباهي المطهر مطلقًا إِلَّا بمُطَهَّرٍ مُطلقًا، فالقاتل يُعفى . عنه بحجة وكذلك غير القتل من الكبائر». قال: هذا مقتضى خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم المخبر عن الله تعالى، والله سبحانه أن يُعوِّض المظلوم أضعافا وله ألَّا يُعوّضه إذ لا حجر عليه في أحكامه،
(1) الشرق العربي السنة الخامسة، العدد (۱۳)۲۰ شوال ١٣٦٩.
۳۹۰
المقالات والمقدمات
ويعضد هذا قوله تعالى: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ، امنا ﴾ [آل عمران: ٩٧] هذا ظاهر اللفظ، ولا يخاطب الله سبحانه الخلق إلا بظاهر من الأمر فلا يُعطَّل ظاهر بباطن. وقد روى ابن المبارك حديثًا عن أنس : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وقف بعرفة وقد كادت الشمس تغرب فقال: «يا بلالُ أَنْصِتْ إِليَّ النَّاسَ». فقال بلال: أنصِتُوا الرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. فأنصت الناسُ فقال: «مَعْشَرَ النَّاسِ : أتاني جبريل آنفًا فأَقْرأني مِن رَبِّي السَّلامَ وقال: إِنَّ الله قد غَفَرَ لأَهْلِ عَرفاتٍ وضَمِنَ عنهم التَّبِعاتِ».
فقال عمر: يا رسول الله أهذا لنا خاصةً؟ فقال: «هو لَكُمْ وَلَن أَتَى بَعْدَكُمْ
إلى يَوْمِ القِيامَةِ». فقال عمر : كَثُرَ خَيْرُ الله وطاب . اهـ كلام ابن بَزِيزَة. ومال إلى هذا أيضًا الأبي والحافظ ابن حجر، ويؤيده ما رواه مسلم، وابن
خزيمة في "صحيحيهما" عن ابن شماسة قال : حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلا وقال: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقلت: يا رسول الله ابسط يمينك لأبايعك فبسط يده فقبضت يدي فقال: مالك يا عمرو ؟ قلت أردت أن أشترط يا رسول الله. قال: «تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإسلامَ يَهْدِمُ ما
كان قبله، وأنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كان قبلها، وأنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ ما كان قبله؟». فهذا عموم يشمل كل ذنبٍ، وأيضًا فإنَّ الإسلام يهدم جميع الذنوب قبله
فليكن الحج المذكور معه كذلك.
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجَّ والعُمْرَةِ، فَإِنَّهما يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَما يَنْفِي الكِيرُ
الفقه الإسلامي
۳۹۱
خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ». قال الترمذي: «حسن صحيح»، وصححه ابن
خزيمة وابن حبان أيضًا.
وللطبراني في "الأوسط" عن عبد الله بن جراد الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «حُجُوا ، فإنَّ الحَجِّ يَغْسِلُ الذُّنُوبَ كَما يَغْسِلُ المَاءُ الدَّرَنَ». إسناده ضعيف.
وقال ابن ماجه في "سننه": حدثنا أيوب بن محمد الهاشمي: ثنا عبدالقاهر بن السري السلمي: ثنا عبد الله بن كنانة بن عباس ابن مرداس السلمي، أنَّ أباه أخبره، عن أبيه : أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دعا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عرفة بالمغفِرَةِ، فَأُجِيبَ: «إِنِّي قد غَفَرْتُ لهم ما خَلَا الظَّالِمِ، فَإِنِّي أَخُذُ للمَظْلُومِ مِنْهُ »
قال: « أَيْ رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِن الْجَنَّةِ، وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ. فلم يُجبْ عَشِيَّتَهُ ، فلما أصبح بالمزدَلِفَةِ أعاد الدُّعَاءَ، فأُجِيبَ إلى ما سأل، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أو قال: تَبَسَّمَ- فقال له أبو بكر وعمرُ بأبي أنتَ وأُمِّي إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فيها، فما الذي أَضْحَكَكَ؟ أَضْحَكَ الله سِنَّكَ، قال: «إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، مَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وجل قد اسْتَجَابَ دُعَائي، وغَفَرَ لأَمَّتي، أخَذَ التُّرَابَ فجعل يَحْثُوهُ على رَأْسِهِ، ويَدْعُو بالوَيْلِ والنُّبُورِ، فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِن جَزَعِهِ». وروه أبو داود في "سننه" في أواخر كتاب الأدب: «قول: أضحك الله سنك: قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم وسمعته من أبي الوليد وأنا لحديث عيسى أحفظ، قالا: أخبرنا عبد القاهر بن السري -يعني: السلمي -: ثنا ابن كنانة ابن عباس بن مرداس، عن أبيه، عن جده قال: ضحك رسول الله صلى الله
۳۹۲
المقالات والمقدمات
عليه وآله وسلَّم فقال أبو بكر وعمر أضحك الله سنك... وساق الحديث . اهـ كلام أبي داود.
وأورده ابن الجوزي في "الموضاعات" معتمدًا على قول ابن حبان في
كنانة: منكر الحديث جدا، ولا أدري التخليط منه أو من ابنه» . اهـ ورد عليه الحافظ ابن حجر في "القول المسدد" بأنَّ الحديث ليس بموضوع،
وذكر بعض شواهده، وبيَّن أنه على شرط الحسن عند الترمذي. ثُمَّ أَلف كتابًا خاصًا في هذا الموضوع سماه "قُوَّة الحِجَاج في عموم المَغْفِرَةِ للحجاج " قال فيه: «حُكم ابن الجوزي على هذا الحديث بأنه موضوع مردودٌ، فَإِنَّ الذي ذكره لا ينتهض دليلا على كونه موضوعًا، وقد اختلف قول ابن حبان في كنانة فذكره في "الثقات"، وذكره في "الضعفاء"، وذكر ابن منده أنه قيل إنَّ له رؤية، وولده عبد الله اختلف فيه كلام ابن حِبَّان أيضًا، وكل ذلك لا يقتضي الحكم على الحديث بالوضع، بل غايته أن يكون ضعيفًا ويعتضد بكثرة طرقه، وهو بمفرده يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولاسيما بالنظر في مجموع طرقه.
وقد أخرج أبو داود في "سننه" طرفًا منه وسكت عليه فهو صالح عنده. وأخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في "الأحاديث المختاره مما ليس في الصحيحين" وقال البيهقي بعد أن أخرجه في "شعب الإيمان" هذا الحديث له شواهد كثيرة قد ذكرناها في كتاب "البعث" فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [النساء: ٤٨] وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. وقد جاء هذا الحديث من حديث أنس، وابن عمر، وعبادة بن الصامت،
الفقه الإسلامي
۳۹۳
وأبي هريرة، وزيد جد عبدالرحمن بن عبدالله بن زيد، وكثرة الطرق إن اختلفت
المخارج تزيد المتن قوة وبعض ما في هذا الحديث له شواهد في أحاديث صحاح . اهـ و من شواهده ما رواه مالك ومن طريقة البيهقي عن طلحة بن عبيد الله بن گریز مرسلًا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما رُبِّيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هو فيه أَصْغَرُ، ولا أَدْحَرُ ، ولا أَحْفَرُ ، ولا أَغْيَظُ مِنهُ يومَ عَرَفَةَ، وما ذلك إِلَّا ما يَرَى مِن تَنَزُلِ الرَّحْمَةِ وتَجاوُزِ الله عن الذُّنُوبِ إِلَّا مَا رَأَى يومَ بَدْرٍ فَإِنه رَأَى جبريلَ يَزَعُ الملائكة».
والخلاصة: أنَّ الحج المبرور يُكفّر الكبائر كما رجحه ابن بزيزة، والقرطبي، والأبي، وابن حجر العسقلاني، خلافًا لابن العربي في قوله: «لا يكفرها»، بل أنه يُكفّر التبعات والمظالم، واستدل على ذلك بما يعلم من
زاد ابن حجر
مراجعة كتابه "قوة الحجاج". لكن ما معنى تكفير الحج للذنوب؟ بين ذلك عز الدين بن عبدالسلام في
جواب له حيث قال: فالحج يسقط ذنوب المخالفة ولا يسقط حقوق الله تعالى كالصَّلاة والزَّكاة وأشباههما ، فما أجهل من جعل طاعة الله وإجابته ذنوبا تغفر وإنما المغفور المخالفة لأعين الحقوق، فمن ترك الصلاة أو الزكاة أو غيرها من الحقوق فالحج يُكَفِّر عنه إثم التأخير لأنه هو الذنب، وأما إسقاطه لما استقر في الذمة من صلاةٍ أو زكاةٍ أو نذرٍ فهذا خلاف إجماع المسلمين». اهـ
والبحث في هذا كثير الأطراف واسع الذيول، فلنكتف بهذه العجالة وبالله
التوفيق.
٣٩٤
المقالات والمقدمات
٧٤- حكم الإثفار (1)
ذكرنا في العدد الماضي أقوال من جوَّزُه ومن حرمه، ونريد الآن أن نذكر أدلة الفريقين، ونستخلص منها ما يصلح للتمسك به والعمل بمقتضاه فنقول: استدل المجوزون المدعاهم بأمرين:
الأول: قوله تعالى: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ [البقرة: ۲۲۳] قالوا: فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ الآية نزلت في هذه المسألة بخصوصها، وعارضهم المانعون بما خرجه أبو داود في "سننه" قال: ثنا عبدالعزيز بن يحيى أبو الأصبغ ثني محمد - يعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إنَّ ابن عمر والله يغفر له - إنَّما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن سمع هذا الحي من اليهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شَرحًا منكرًا ويتلذذون منهنَّ مُقْبِلاتٍ ومُدْبِراتٍ ومُستلقيات، فلما قدم المهاجرون، تزوج رجلٌ منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنّما كُنَّا نُؤتى على حرفٍ فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني حتى سرى أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فأنزل الله عزّ وجلَّ:
(۱) مجلة الإسلام السنة الخامسة عدد (٢٦) ٢ رجب ١٣٥٥.
الفقه الإسلامي
۳۹۵
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات،
يعني بذلك: موضع الولد.
قال المانعون : فهذا ابن عباس يُصرِّح بتوهيم ابن عمر فيما تأوّل عليه الآية ويذكر لسبب نزولها غير ما ذكره ابن عمر وكلامه أولى بالقبول، إذ أنه ذكر القصة بتمامها، وفصَّل ما كانت عليها لأنصار تبعًا لليهود، وما كانت عليه قريش من خلاف ذلك ما جرى بين المهاجر والأنصارية تفصيلا، دل على أنَّ ابن عباس أحاط من علم القضيَّة بما لم يحط به ابن عمر، فوجب المصير إلى
كلامه.
وأجاب المجوّزون بأن توهيم ابن عمر ليس بلائق إذ أنه لم ينفرد بذلك، بل تابعه أبو سعيد الخدري رضي الله عنهما، فذكر مثل ما ذكره ابن عمر، ولو فرضنا أن توهيم ابن عبّاس يشملهما معًا لمكان علمه بالقضية أكثر منهما، فلا مانع يمنعنا من أن نستدل بالآية من حيث عموم لفظها، إذ العبرة به لا بخصوص السبب، والقول: بأنَّ العام إذا خرج على سبب قصر عليه، قول لبعض الأصوليين وأكثرهم على خلافه.
الثاني: القياس وهو واضح من مناظرة الشّافعي لمحمد بن الحسن، هذا ما استدل به المجوزون.
وأما المانعون فاستدلوا لما ذهبوا إليه بعدة أحاديث:
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: لا ينظر الله إلى رجل جامع امْرَأته في دبرها» رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي من طريق الحرث بن مخلد عن أبي هريرة ، ورواته ثقات سوى الحرث بن مخلد
٣٩٦
المقالات والمقدمات
ففيه خلاف، قال البزار : ليس بمشهور، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ولأحمد وأبي داود بإسناد صحيح عن الحرث بن مخلد عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ملعون من أتى امرأته في دبرها » صححه ابن حِبَّان. (۲) عنه أيضًا أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «من أتى حائضا في فرجها أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه، فقد كفر بما أُنزِلَ على محمد» رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق حكيم الأثرم عن أبي تميمة، عن أبي هريرة، وكذا رواه أبو داود من هذا الطريق غير أنه قال: «فقد بريء مما أُنزل على محمد». وحكيم الأثرم سُئل عنه علي بن المديني فقال: أعيانا هذا، وقال
البزار: لا يحتج به، وقال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة. (۳) عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من أتى النساء في أعجَازِ هنَّ فقد كفر خرَّجه الطبراني في "الأوسط" بإسناد رواته ثقات كما قال الحافظ المنذري، وروى النسائي من طريق بكر بن خنيس عن
ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة مرفوعا : من أتى شيئًا من الرجال أو النساء في الأدبار فقد كفر». وبكر وليث ضعيفان
(٤) عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ملعون من أتى النساء في أدبارهن) رواه عبدالله بن عمر بن أبان عن مسلم بن خالد
الزنجي عن العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة، ومسلم ضعيف. (0) عن علي عليه السَّلام أَنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تأتوا النساء في أعجازهن» أو قال: «في أدبارهن» رواه أحمد بإسناد رجاله ثقات كما
الفقه الإسلامي
۳۹۷
قال الحافظ الهيثمي.
(٦) عن عبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها: «هي اللوطية الصغرى». رواه أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ورواه النسائي وأعله، قال الحافظ :
والمحفوظ عن عبد الله بن عمر من قوله كذا أخرجه عبدالرزاق وغيره. قلت: لكن عزا الحافظ المنذري حديثه مرفوعا لأحمد والبزار، وقال: رجالهما رجال الصحيح.
يستحي
(۷) عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: استحيوا فإنَّ الله لا يستحي من الحق، ولا تأتوا النساء في أدبارهن». رواه أبو يعلى بإسناد جيد كما قال الحافظ المنذري، وأخرجه النسائي والبزار من طريق رفعة بن صالح عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الهاد عن عمر. وزمعة ضعيف. (۸) عن خزيمة بن ثابت أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها. رواه أحمد ورواه ابن ماجه بلفظ : «إنَّ الله لا : من الحق ثلاث مرات لا تأتوا النساء في أدبارهان». ورواه الإمام الشافعي بزيادة في أوله وهي: أنَّ رجلا سأل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، عن إتيان النساء في أدبارهنَّ أو إتيان الرجل امرأته في دبرها؟ فقال: «حلالا» فلما ولى دعاه، أو أمر به فدعي، فقال: كيف قلت؟ في أي الخربتين أو في أي الخرزتين أو في أي الخصفتين، أمن دبرها في قبلها فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إنَّ الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» وفي إسناده عمرو بن أحيحة مجهول الحال، وقال البزار : كل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فغير
۳۹۸
المقالات والمقدمات
صحيح، وكذا قال البخاري وأبو علي النيسابوري، لكن قال الحافظ المنذري: إِنَّ النَّسائي رواه بأسانيد أحدها جيد، وقال الحافظ في "الفتح": إنَّ حديث
خزيمة بن ثابت إسناده صالح ، ونقل عن ابن حِبَّان أنه صححه.
(۹) عن علي بن طلق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «لا تأتوا النساء في أستاههن فإنَّ الله لا يستحي من الحق». رواه أحمد
والترمذي وقال: حديث حسن، وصححه ابن حِبَّان.
(١٠) عن جابر أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن محاش النساء. رواه الطبراني في "الأوسط" بإسنادٍ رجاله ثقات، كما قال الحافظ المنذري، وروى الدار قطني بإسناد ضعيف عن جابر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: استحيوا فإنَّ الله لا يستحي من الحق، لا يحل مأتاك النساء في
حشوشهن». وروى ابن عدي نحوه من طريق آخر ضعيف أيضًا. (۱۱) عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لعن الله الذين يأتون النساء في محاشهن». رواه الطبراني في "الكبير" وفي سنده عبد الصمد بن الفضل، قال الحافظ المنذري : لا بأس به لم أر فيه جرحًا، وقال الذهبي: له حديث يُستنكر وهو صالح الحال إن شاء الله. وروى أحمد عن عقبة نحوه، وفي إسناده ابن لهيعة.
(۱۲) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا ينظر الله عزّ وجلَّ إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها». رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حِبَّان.
(۱۳) عنه أيضًا أنَّ عمر رضي الله عنه أتى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم،
۳۹۹
الفقه الإسلامي فقال: يا رسول الله هلكت، قال: «وما أهلكك؟» قال: حوّلت رحلي البارحة،
فلم يرد عليه بشيء، قال: فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية:
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِمْ ﴾ «أقبل وأدبر واتقوا الدبر والحيضة». رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، وسياق الحديث يفيد أنَّ عمر رضي الله عنه، أتى امرأته من دبرها في قبلها، لا أنه أتاها في دبرها، إذ لو كان المراد ذلك لكانت الآية نصّا في إباحته، ويكون قوله في تفسيرها: «أقبل وأدبر واتقوا الدبر»، مناقضا لمعناها تمام المناقضة؛ لأنَّه أخرج من عموم الآية صورة السبب التي لأجلها نزلت فتعيَّن أن يكون المراد ما قلناه من أنه أتاها من دبرها في قبلها، نعم يتجه أن يقال : لم عدَّ ذلك هلاكًا مع أنه ليس كذلك؟ والجواب: أنه اعتمد على ما كانت اليهود تزعمه في ذلك، وهم أهل كتاب حتى نزلت الآية مكذِّبةٌ لهم فيما زعموا والله أعلم.
:
(١٤) عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: وَنِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِنْتُمْ يعني: صمامًا واحدًا. رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن.
(١٥) عنها أيضًا قال : لما قدم المهاجرون المدينة على الأنصار تزوجوا من نسائهم، وكان المهاجرون يحبون وكانت الأنصار لا تجبي، فأراد رجــل مـن المهاجرين امرأته على ذلك، فأبت عليه حتى تسأل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأتته فاستحيت أن تسأله، فسألته أم سلمة فنزلــــت : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْنَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ، وقال: «لا إلا في صمام واحد». رواه
أحمد.
المقالات والمقدمات
فهذه الأحاديث مخصصة لعموم قوله تعالى: وَنِسَاؤُكُمْ حَرْتُ لَكُمْ فَأْتُوا حرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وبمقتضى هذا يكون الاستمتاع بجميع بدن المرأة حلالا إلا الدبر فإنَّه حرام، بل كبيرة لظاهر قوله: «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها»، وقوله: «من أتى النّساء في أدبارهن فقد كفر». وقوله: «ملعون من أتى النساء في أدبارهن»، فإنَّ هذا الوعيد الشديد لا يطلقه الشارع بحسب الاستقراء - إلا في الكبائر كقوله : من ترك الصَّلاة فقد كفر، من أتى كاهنا أو عرَّافًا فصدقه بما يقول فقد كفر»، «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، وقوله: ملعون من عمل عمل قوم لوط (ثلاث مرات)، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من أتى شيئًا من البهائم، ملعون من عقّ والديه، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غير حدود الأرض، لعن الله آكل الربا ومولكه ... الحديث ونحو
ذلك.
وهكذا لو تتبعت الأحاديث وجدت أنَّ كلَّ ذنب لعن الشارع مرتكبه أو أكفره أو توعده بعدم نظر الله إليه، عده العلماء من الكبائر، بلا خلاف منهم إلَّا من لم يصله الحديث، فقد يخالف وله العذر ، هذا في ذنب مقرون بوعيد واحد من تلك الثلاثة، فكيف بذنب، ما كان مبعدا وليس لأحد أن يقول لو كان الإثفار كبيرة لجعل الشارع له حدٌ كالزنى وشرب الخمر؛ لأنَّه ليس من شرط الكبيرة أن يقترن بها حد، ألا ترى إلى كثير من الكبائر - هي أعظم من الزنى -
لم يجعل الشارع لها حد؛ لأنها أعظم من أن يجبرها الحد.
كذلك ليس لأحدٍ أن يستبعد عدَّ الإنفار كبيرة، ويقول: غاية ما فيه أنَّه إتيان للزوجة في غير المحل المشروع، فلا يُعدُّ أن يكون صغيرة؛ لأنَّا نقول:
الفقه الإسلامي
٤٠١
حكم إتيان الأجنبية في دبرها أنه كبيرة بلا خلاف فكذلك حكمه بعد صيرورتها زوجة، وعقد النكاح إنّما أباح من بدنها ما سوى الدبر، أما هو فلا يزال على حكمه الأصلي بدليل الأحاديث التي أوردناها وغيرها، ولم يقف عليها أولئك المجوزون الذين نقلنا كلامهم في العدد الماضي حيث أخذوا بعموم الآية غير ناظرين إلى ما عداه، على أنَّ مالكًا منهم رجع إلى التحريم كما قدَّمنا، وما ذاك إلا لوقوفه عليها، وكذا الشَّافعي وقف على حديث خزيمة بن ثابت فرجع إليه، أخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال: قال الشافعي: قال الله: وَنِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ احتملت الآية معنيين: أحدهما: أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها؛ لأنَّ أَنَّى شِنْتُمْ يأتي بمعنى:
این ششتم ثانيها: أنَّ الحرث إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه. فاختلف أصحابنا في ذلك وأحسب كلا من الفريقين تأوَّلوا ما وصفت من
احتمال الآية، قال: فطلبنا الدَّلالة من السُّنَّة فوجدنا حديثين مختلفين، أحدهما
.
ثابت وهو حديث خزيمة في التحريم فأخذنا به» اهـ.
فبأن من هذا أنَّ القول بالتحريم هو الصحيح الذي تؤيده الدلائل من السُّنَّة النبوية، وأنَّ القول بالإباحة ضعيفٌ لا يجوز الاعتماد عليه، فمن أخذ به فقد ظلم
نفسه وبالله التوفيق.
٤٠٢
11
المقالات والمقدمات
(1)
٧٤- أحكام التسمي بأسماء النبي عليه وآله الصلاة والسلام في "صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإني أنا أبو القاسم أقسم بينكُم». قوله: «تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي». قال النووي: اختلف العلماء في المسألة على مذاهب كثيرة وجمعها القاضي وغيره: أحدها: مذهب الشافعي وأهل الظاهر أنه لا يحل التكني بأبي القاسم
لأحد أصلا سواء كان اسمه محمدا أو أحمد، أم لم يكن لظاهر هذا الحديث. والثاني: أنَّ هذا النهي منسوخ فإنَّ هذا الحكم كان في أول الأمر لهذا المعنى المذكور في الحديث، وهو أنَّ رجلاً نادي بالبقيع يا أبا القاسم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم- فقال يا رسول الله إني لم أعنك إنها دعوت فلانا فقال: «تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ثم نسخ قالوا: فيباح اليوم التكني بأبي القاسم لكل أحدٍ سواء من اسمه محمد وأحمد وغيره وهذا مذهب مالك، قال القاضي وبه قال جمهور السلف وفقهاء الأمصار، وجمهور العلماء قالوا: وقد اشتهر أن جماعة تكنوا بأبي القاسم في العصر الأول وفيما بعد ذلك إلى اليوم مع كثرة فاعل ذلك وعدم الإنكار .
والثالث مذهب ابن جرير
والأدب لا للتحريم.
أنه ليس بمنسوخ وإنما كان النهي للتنزيه
والرابع: أنَّ النهي عن التكنّي بأبي القاسم مختص بمن اسمه محمد أو أحمد، ولا بأس بالكنية وحدها لمن لا يسمى بواحد من الاسمين، وهذا قول جماعة
(1) المسلم، السنة السابعة، العدد الأول، شعبان ١٣٧٦.
الفقه الإسلامي
٤٠٣
من السلف وجاء فيه حديث مرفوع عن جابر. والخامس: أنه ينهى عن التكنّي بأبي القاسم مطلقا، وينهى عن التسمية بالقاسم لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم ، وقد غيّر مروان بن الحكم اسم ابنه عبدالملك حين بلغه هذا الحديث فسماه عبد الملك، وكان اسمه القاسم، وفعله بعض الأنصار أيضًا.
السادس: أنَّ التسمية بمحمد ممنوعةٌ مطلقا سواء كان له كنية أم لا، وجاء ا فيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلَّم- «تُسمون أولادكم محمدًا ثُمَّ تلعنونهم». وكتب عمر إلى الكوفة لا تسموا أحدا باسم نبي، وأمر جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم، حتى ذكر له جماعة أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وآله وسلم- أذن لهم في ذلك وسماهم به فتركهم، قال القاضي: والأشبه أنَّ فعل عمر هذا إعظام لاسم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لئلا ينتهك الاسم كما سبق في الحديث تسمونهم محمدًا ثم تلعنونهم . وقيل سبب نهي عمر أنه سمع رجلًا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب فعل الله بك يا محمد، فدعاه عمر فقال: أرى رسول الله -صلَّى الله عليه وآله وسلّم - يُسبُّ بك، والله لا تدعى محمدا ما بقيت وسماه عبد الرحمن. وحديث «تسمُّون أولادكم محمدًا ثُمَّ تلعنونهم». رواه البزار وأبو يعلى وابن عدي والحاكم من حديث أنس وهذا الحديث معدود في فضائل التسمية باسمه -صلى الله عليه وآله وسلّم مع دلالته على احترم الاسم الشريف
وتوقيره.
وقال ابن سعد في الطبقات أخبرنا مطرف بن عبد الله اليساري: حدثنا
٤٠٤
المقالات والمقدمات
محمد بن عثمان العمري، عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد ومحمدانِ وثلاثة». وهذا مرسل، وأخرج بن أبي عاصم من طريق ابن أبي فديك عن جهم بن عثمان عن ابن جشيب عن أبيه عن النبي -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- قال: «من تسمّى باسمي يرجو بركتي غدت عليه البركة وراحت إلى يوم القيامة». وجهم جهله أبو حاتم وضعفه الأزدي. وروى ابن القاسم في سماعه وابن وهب في جامعه عن مالك قال: سمعت أهل مكة يقولون: «ما من بيتٍ فيه اسم محمد إلا نَما ورزقوا ورزق جيرانهم. وللحافظ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الله ابن
بكير البغدادي جزء مطبوع في فضل التسمية بمحمد وأحمد، وفي عزمي
أن
أعيد طبعه مع . التعليق عليه بما يتمّم فوائده ويكمل مقاصده مع بيان علل الأحاديث ونقد أسانيدها يسر الله ذلك وأعان عليه.
قوله: «أقسم بينكم يعني: يقسم بين أمته ما يرزقهم الله من معارف
وعلوم وأموال وغيرها ويؤيد هذا العموم ويؤكده أمران:
الأول: قوله: «إنما بعثت قاسما » وهو إنما بعثت لقسم ما أوتي من الهدى والنور والعلم والعرفان، فأمَّا قسم الفيء والمغانم فهم أمر ثانوي إنما حصل
بعد فرض الجهاد، والأمر بقتال المسلمين بعد الهجرة.
الثاني: أنه صلى الله عليه وآله وسلّم - نهى غيره أن يتكنى بأبي القاسم، وعلل النهي بأنه يقسم ولو كان المراد قسم الفيء والمغانم لم يكن لهذا النهي والتعليل معنى؛ لأن كل إمام وخليفة يقسم المغانم بين المجاهدين كما كان يفعل عمر وغيره من الخلفاء وذلك هو المقرَّر في الشرع فلولا أنه صلَّى الله عليه
الفقه الإسلامي
٤٠٥
وآله وسلم اختص في القسم بشيء لم يشركه فيه غيره، لم يكن للنهي معنى كما ذكرنا، ولهذا خص جماعة من الصحابة بأنواع من العلوم فاختص زيد بن ثابت بالفرائض، ومعاذا بعلم الحلال والحرام، وأبيا وابن مسعود بعلم القرآن، وحذيفة بعلم أحوال المنافقين وكشف أسرارهم، وأبا هريرة بجرابين من العلم بن أحدهما ولم يبثَّ الآخر مخافة القتل كما في صحيح البخاري، وعليا بعلم القضاء وبعلوم أخرى وسماه باب مدينة العلم، وهكذا كل صحابي له من رسول الله -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم باب من العلم أو أبواب على قدر استعداده، ثم هو صلَّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته حي في قبره تعرض عليه أعمال أمته فيستغفر لهم ويشفع والموفّقون من أفراد الأمة يشاهدونه ويسمعون كلامه ويرون نوره ساريًا في الوجود ويرون كل خير واصلا إليهم عن طريقه لا يرتابون في ذلك لأنهم رأوه عيانا. حققنا الله بما حققهم به حتى نزداد معرفةً بقدر هذا النبي الكريم والرسول العظيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
مقالات في التصوف الإسلامي
(0)
التصوف الإسلامي
التصوف الإسلامي في السنة النبوية
٤٠٩
والأحاديث المؤيدة لهذا المذهب )
(۱)
موضوع التصوف الإسلامي موضوع كثر فيه الجدل والنقاش ووقف
الناس إزاءه ثلاث فرق: أ- فرقة زعمت أنَّ التصوّف دخيل على الإسلام وأنه في الجملة من المبتدعات المنكرة وهؤلاء فرقة (الهوالك) المعروفين بالحافقية في مصر، والبشارمة في المغرب ومَن على شاكلتهم من عبدة الدولار الأمريكي والالتواء الفكري.
ب - فرقة اعتقدت التصوف ولكنها تغالت فيه حتى خرجت عن الحد المشروع، وبأعمالها وغلوّها أضرت التصوف من حيث أرادت نفعه، وهي لا تشعر، وهؤلاء المبتدعة والدُّخَلاء والمتجرون بدين الله. ج - فرقة معتدلة اعتقدت التصوف على دليل، وقبلت ما أتى به ودعا إليه
عن برهان، وطهرته من المدسوس والدخيل وهذه هي فرقة الحق. والتصوف بعد هذا له أصل أصيل في السُّنَّة النبوية يعسر استيفاء الأحاديث الواردة في شأنه والدالة على عظم موقعه من الدين، ولكني أشير إلى
بعض الأحاديث التي تُعتبر أصولا لمذهب التصوف على العموم:
أولا: حديث سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، وفيه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: الإِحْسَانُ أَن تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَراهُ فإن لم تكن تَراهُ فَإِنَّه يراك».
(1) المسلم، السنة الخامسة، العدد (٦) محرم ١٣٧٥.
٤١٠
. المقالات والمقدمات
قال شيخ الإسلام الهروي الحنبلي: «في هذا الحديث إشارة جامعة المذهب هذه الطائفة الصوفية». قال شارحه ابن القيم الحنبلي: «لأن أصل هذه الطريقة الخاصة كمال المعرفة ودوام المراقبة للحق سبحانه وتعالى في الحركات والسكنات بل في الأنفاس واللحظات.
ثانيا: حديث قصة الخضر وموسى عليهما السلام فقد ثبت في "البخاري" و"مسلم" أنَّ موسى عليه السَّلام لما قال للخَضِر: «هل أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلَّمني مما عُلَّمْتَ رُشْدًا» قال له الخضر: «لا تَسْتَطيعُ أَن تَتَّبِعَنِي؛ لأن على عِلْمٍ مِن عِلْمِ الله
علَّمَنيه لا ينبغي لك أن تَعْلَمَهُ».
قال البلقيني في شرح "البخاري": هذه إشارة إلى علم الحقيقة وما فيها من أسرار لا ينبغي لأهل الظاهر أن يعلموها؛ لأنها تصعب على كثير منهم». ولهذه المناسبة أشير إلى أن الخضر عليه السلام كان نبيا كما ذهب إليه جمهور العلماء قالوا: وكان مخصوصا بعلم الحقائق كما كان موسى مخصوصا بعلم
التشريع. ثالثا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِن العِلْمِ كَهَيْئَةِ المَكَنونِ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا أَهْلُ العِلْمِ بِاللَّهِ، فَإِذا نَطَقُوا بِهِ لم يُنكِرْهُ إِلَّا أَهْلُ الغَرَّةِ باللَّه».
قال العلماء في معنى هذا الحديث أنه يشير إلى علم الحقائق وأنه لا يعلمها إلا العلماء بالله وهم الذين باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وأنهم إذا نطقوا في
مجالسهم أو دونوها في كتبهم أنكرها عليهم المغرورون بالله.
وهذا حال الصوفية مع المنكرين عليهم، فالصوفية بنص هذا الحديث
التصوف الإسلامي .
٤١١
علماء بالله، والمنكرون عليهم مخدوعون مغرورون.
رابعا: روى الجنيد رضي الله عنه، عن السري السَّقَطي، عن معروف الكرخي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «طَلَبُ الحَقِّ غُرْبَةٌ». قال القطب القسطلاني: «الحقُّ هو الله سبحانه وتعالى، وطلبه هو طلب الوصول إليه والتعرف بآثاره والتعرُّض لمحابه ومراضيه، فالحديث يفيد أنَّ من طلب الوصول إلى الله لابد أن يغترب أي: يبتعد عن شهوات نفسه وحظوظها». وهذا هو ما يدعو إليه الصوفية، لأن مبنى طريقتهم على مخالفة النفس وكبح جماح شهواتها عملا بقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ أَهْوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: ٤٠ - ٤١].
.
فالصوفية يقولون: إذا كان شرط دخول الجنة مخالفة النفس فالوصول إلى الله أولى بذلك وأحق؛ لأن معرفة الله عند من ذاق لذتها أحسن من نعيم الجنة. خامسا: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: العِلْمُ عِلْمان: عِلْمٌ في اللسان فذاك حُجَّةُ الله على خَلْقِهِ، وعِلْمُ فِي القَلْبِ فذاك العِلْمُ النَّافِعُ». هذا الحديث يشير إلى ما يلقيه الله في قلوب خواص عباده من علوم ومعارف وأسرار، ويخبر مع ذلك بأن هذا هو العلم النافع، وهذا من
الأحاديث التي تشير إلى ما يفيضه الله على أوليائه من العلوم والأسرار. سادسا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
٤١٢
المقالات والمقدمات
وآله وسلَّم: «كان فيمن كان قبلكم مُحدَّثون فإن يكن في أُمتي فعمر منهم». التحديث هو الإلهام، وهذا الحديث أصل فيما يحصل للأولياء من مكاشفات وإلهامات كأنها رأي العين.
سابعا : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم جرابين مِن العِلْم فأما أحدهما فقد بثته فيكم، وأما الآخرُ فلو بشَتُه لقُطِع مِنِّي هذا البلعوم». قال شراح البخاري يقصد بهذا أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علوما من الحقائق والأسرار لو حدث بها لضاقت عنها عقول الناس وحكموا بكفره؛ لأنها تعلو على مداركهم.
ثامنا : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أُنزل القرآن على سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر وبطن».
قال ابن النقيب في "تفسيره : ظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق». تاسعا: عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: «إنَّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا له ظهر وبطن، وإنَّ عليَّ بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن.
عاشرا: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كنا نتحدث أنَّ النبيَّ صلَّى الله
عليه وآله وسلّم عهد إلى علي سبعين عهدا لم يعهدها إلى غيره». فهذان الحديثان هما أصل الصوفية في علم الباطن والحقائق والرجوع فيها إلى علي، فقد أطبق الصوفية على أن أستاذهم في هذه العلوم هو علي عليه
التصوف الإسلامي
٤١٣
السلام صرح بذلك الجنيد رضي الله عنه وابن العربي الحاتمي في "الفتوحات"
والشعراني وغيرهم.
حديث
يؤيدهم في ذلك حديث: «أنا مدينةُ العِلْمِ وعلى بابها»، وهو صحيح على شرط البخاري ومسلم وإن اجتهد ابن تيمية وغيره من النواصب في تكذيب هذا الحديث.
وبعضهم حين رآه صحيحًا عمد إلى التأويل فزعم أن لفظة «علي» في قوله: وعلي بابها من العلو والارتفاع، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه وتكلّف
سمج لا دليل عليه.
فتستخلص من هذا أنَّ التصوف
أولا: أحد أركان الدين الثلاثة لأنه مقام الإحسان الذي جعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أحد أركان الدين حيث قال: «إنَّ هذا جبريل جاءكم
يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».
فذكر الإسلام ثُمَّ الإيمان ثُمَّ الإحسان .
ثانيا : أنَّ علم الباطن وعلم الحقائق الذي يتحدث عنه الصوفية ثابتان في القرآن والسُّنَّة.
ثالثا: أن المكاشفات والإلهامات التي يتفضّل الله بها على أوليائه ثابتة
بالسُّنَّة أيضًا.
رابعا: أن عليا عليه السلام هو أستاذ الصوفية ومرجعهم بشهادة ابن أ مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ، وقد ورد عن علي عليه السلام كلام جميل في حقائق التصوف وأسرار العلوم، نُفرد له بحثًا إن شاء الله.
٤١٤
المقالات والمقدمات
٧٦- كيف تشكر النعمة؟ (۱)
سمعت كثيرًا من الناس بطنجة إذا أكل أحدهم وشبع يقول: اللهم أد عنا شكر النعمة.
وهذا دعاء قبيح فيه إساءة أدب مع الله تعالي؛ فلا يجوز أن يُدعَى به. وبيان ذلك: أنَّ الله تعالى أمرنا بالشكر على نِعَمِهِ علينا قال سبحانه:
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: ١٥٢] وقال: أعْمَلُوا
الَ دَاوُرد شكرًا ﴾ [سبأ: ١٣].
وفي "جمع الجوامع": «وشُكْرُ المنعِم واجب بالشرع».
فالشكر
عند حدوث نِعْمَتِهِ عبادةٌ أمرنا الله بها كما أمرنا بالصَّلاة والصيام
وغيرهما من العبادات.
11
وقد بيّن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كيف تؤدى عبادة الشكر بفعله وقوله. أما فعله: ففي سنن أبي داود والترمذي" عن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله أَطْعَمَنا وسَقَانا وجَعَلَنا مُسْلِمين». وللحديث ألفاظ في الصحيحين"،
الذي
وطرق متعددة.
11
وأما قوله : ففي معجم الطبراني وصحيح ابن حبان" عن ابن عباس أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذهب إلى أبي أيوب ومعه أبو بكر وعمر فقدم لهم تمرا وشواءٌ فلما أكلوا وشبعوا، قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم:
(۱) مجلة دعوة الحق، السنة السابعة عشرة، العدد (٤) شوال ١٣٩٥ .
التصوف الإسلامي .
٤١٥
خبز ولحم وتمرٌ وبُسْرٌ ورُطَبٌ - ودَمَعَتْ عَيْناهُ - والذي نَفْسِي بيدِهِ، إِنَّ هذا لهو النَّعِيمُ الذي تُسألون عنه، قال الله جلَّ وعَلَا: ﴿ ثُمَّ لَتُسْلُنَّ يَوْمَذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر : ۸] فهذا النَّعِيمُ الذي تُسألون عنه يومَ القِيامَةِ». فكبر ذلك على أصحابه فقال: «إذا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هذا، فضَرَبْتُمْ بأيدِيكُمْ، فقولوا بسمِ ام الله، وإذا شَبِعْتُمْ
فقولوا: الحمد لله الذي هو أشْبَعَنَا وأنْعَمَ علينا وأفضل، فإِنَّ هذا كَفَافُ بها». وروى الحاكم والبيهقي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أَنْعَمَ الله على عبد نِعْمَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا مِن عند الله إِلَّا كَتَبَ الله له شُكْرَها قبل أن يَحْمَدَهُ عليها، وما أذْنَبَ عبدٌ ذَنْبًا فَنَدِمَ عليه إِلَّا كَتَبَ اللهُ له مَغْفِرَةً قبل أن يَسْتَغْفِرَهُ، وما اشْتَرَى عبد ثَوْبًا بدينار، أو نِصْفِ دينارٍ، فَلَبِسَهُ فحَمِدَ الله عليه إِلَّا لم يَبْلُغْ ركبتيهِ حَتَّى يَعْفَرَ اللهُ له».
وفي صحيح مسلم عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِنَّ اللهَ ليَرْضَى عن العَبْدِ أن يأكل الأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عليها ويَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فيَحْمَدَهُ عليها (()).
(۱) وروى أبو داود والنسائي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بيدي وقال: يا معاذ، والله إني لأحُبك فلا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ أَن تقول: اللهم أعني على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتِكَ». صححه ابن حِبَّان والحاكم.
وهذا الحديث نرويه بقول كلِّ أستاذ لتلميذه إني أحبك فقل ... إلخ، وهو من المسلسلات الصحيحية كحديث الرَّحْمةِ المُسلسل بالأولية، وأغلب المسلسلات ضعيفة، بل منها ما هو موضوع كحديث قراءة البسملة مع الفاتحة في نفس واحد،
فإنه مع تَسَلَّسُلِهِ يقول كل راو: «والله حدثني فلان»، موضوع.
.٤١٦
المقالات والمقدمات
نعم الله علينا كثيرة لا نستطيع إحصاءها، ولا نطيق أداء شكرها، ولكن الله كلفنا من ذلك بقدر طاقتنا. ا
قال سليمان التيميُّ: «إِنَّ اللهَ أنعم على العباد على قَدْرِهِ، وكلَّفهم الشكر على
قدرهم». رواه البيهقي في "الشعب".
يرضى
فإذا حدثت للمسلم نعمة فشُكرها أن يقول: «الحمد الله» فإنَّ الله : بهذا ويُثيبه عليه، فإن لاحظ مع هذا تقصيره في الشكر فله في علاج هذا التقصير إحدى طريقتين : 1 - أن يقول: اللهمَّ اغْفِر لي تقصيري في شكرك، أو: اللهم اعفُ عن تقصيري، أو: اللهم لا تؤاخذني بما قصرت، أو نحو هذا من الدعاء المشروع. ٢ - أن يقول : اللهم ألهمني أداء شكرك، أو اللهم وفقني لأداء شكرك، أو
اللهم أعني عليه، أو نحو هذا مما يفيد طلب المعونة والتوفيق.
وفي القرآن الكريم: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَى
[الأحقاف: ١٥]، معنى «أوزعني»: ألهمني.
هذا دعاء قرآني يرشدنا أن نطلب الإلهام لشكر الله على نعمه. ولا يجوز أن يقول: اللهم أد عنِّي شكر النعم لقبحه من وجوه
1 - أنه يتضمَّن ردَّ الأمر على الأمر به، وهو ممنوع عادةً وشرعا. أما العادة فلأنك لو قلت لولدك أو لمن لك عليه واجب الطاعة: افعل الشيء الفلاني، وقال لك: افعله أنت عنِّي، عدَّ مخالفا للأمر حيث رده عليك واستحق اللوم والتأديب، ولا يعفيني أن يبدي تأويلا لقوله بأنه أراد كذا وكذا
لأن كلامي صريح في رد الأمر، والصريح لا يقبل التأويل.
التصوف الإسلامي
٤١٧
وأما الشرع: فإنَّ مِن المعلوم بالضرورة وجوب تنفيذ أمر الشارع، وهذا لا
يحتاج إلى دليل. ٢ - أنه يتضمن أنَّ اللهَ كلَّفك من شكره ما لا تطيق حتى طلبت منه أن يؤديه عنك، وهذا يخالف القرآن حيث قال الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسعها ﴾ [البقرة : ٢٨٦] والدعاء المخالف للقرآن يحرم الدعاء به كما نص عليه العلماء، فلا يجوز أن يدعي بالمغفرة لكافر بعد موته، ولا أن يدعي بطلب رؤية الله في الدنيا ونحو ذلك مما يخالف القرآن والسُّنَّة. ٣- أن الشكر عبادة أمرنا بها، والعبادة لا يفعلها الله عن عبده، بل لا يجوز عقلا أن يفعلها؛ لأنه معبود وليس بعابد، وإنما يطلب منه التوفيق للعبادة والإعانة عليها.
- أنَّ الشارع بين أنَّ حق الله على عباده أن يعبدوه، وحق العباد عليه إذا عبدوه أن يثيبهم، وهذا حقٌّ تفضّلي، وذلك الدعاء يستلزم أ عابدا، وهذا المعنى باطل عقلا وشرعا فالدعاء به حرام.
أن .
يصير
المعبود
ه - أنَّ الداعي يطلب بدعائه حصول خير أو دفع ضر، وذلك الدعاء ليس فيه شيء من ذلك، إذ لو فرض وقوع المحال وشكر الله ذاته نيابة عن عبده فالعبد لا يناله من ذلك الشكر ثواب له، ولا دفع ضر عنه لأنه فعل فعله الله لا علاقة للعبد به فيكون ذلك الدعاء عبنا فهو حرام (۱). ٦ - أنَّ حمد الله ذاته وثناءه عليها واجب عقلا، اقتضاه كماله المطلق وعظمة
(۱) لأن العبث في الدعاء يتضمن العبث بالمدعو وقال الله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: ٥٦]، والعابث في الدعاء ليس بخائف ولا طامع.
٤١٨
المقالات والمقدمات
ربوبيته مع إنعامه على مخلوقاته بجليل النعم ودقيقها ظاهرها وخفيها، وقد نص العلماء على أن الدعاء يجوز بالممكن سواء كان واجبًا بالشرع أو جائزا، ا ولا يجوز الدعاء بالواجب العقلي ولا بالمحال العقلي، وذلك الدعاء يطلب واجبًا عقليا فهو غير جائز شرعا.
- أنَّ علماء الكلام وغيرهم قالوا: إذا كان للفظ معنيان؛ أحدهما يليق بجانب الله والآخر لا يليق؛ فلا يجوز إطلاقه على الله منعا لإلصاق معنى لا
يليق به مثلا العلم الضروري له معنيان: أحدهما ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال وهذا صحيح بالنسبة إلى علم الله، والآخر ما يضطر الشخص إليه كعلمه بحياته ووجوده. قالوا: فلا يجوز وصف علم الله بأنه ضروري؛ لأنه يوهم هذا المعنى الذي لا يليق به.
وكذلك قول القائل: اللهمَّ أَدْ عنِّي شُكْرَ النّعم. لا يجوز إطلاقه في جانب الله حتى لو فرض أنَّ له معنى صحيحًا بضرب من التأويل والتجوز؛ لأنه يوهم معنى قبيحا لا يليق بالله تعالى.
شبهات تعرض في هذا المقام والجواب عنها :
۱ - ثبت في الحديث أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: «سُبْحَانَكَ لا أُحْصِي ثَناء عليك أنتَ كما أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ».
فيجوز على هذا أن يقال: اللهم أد عنِّي شُكر النعم، باعتبار أنَّ الإنسان لا
يُطيق شكر النعم ولا يُحصيها.
وهذه شبهة ضعيفة جدا الوجوه:
أولها: أن الحديث أخبر بحقيقتين لا شك فيهما ولا مراء، وهما أنَّ الإنسان
التصوف الإسلامي .
٤١٩
لا يُحصي الثناء على الله ولا يستطيعه؛ لأنه يقتضي الإحاطه بكمال الله وهي في حقنا محال عقلا، وأنَّ الله هو الذي يُحيط بكماله ويثني على نفسه كما يليق به. ثانيها: أن الثناء المطلق وهو الذكر - عبادة مطلوبة أيضًا قال الله تعالى: نَايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٤١
- ٤٢] وقال في معرض المدح وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ
﴾
[الأحزاب: ٣٥]. وبينت السُّنَّة أنواعاً من الذكر وما فيها من الثواب مثل: «لا إله إلا الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله حسبنا الله ونعم الوكيل، الله أكبر، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوبُ
إليه».
وهذه أنواع من الذكر وغيرها كلها ثناء على الله تعالى، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أكثر الناس ذكرًا لله كما ثبت في "صحيح مسلم" عن عائشة قالت: «كان يذكر الله على كل أحيانه ومع ذلك اعترف أنه لا يُحصي ثناء على الله، لكن لم يقل: اللهم أثن على نفسك؛ لأن هذا الدعاء لا يجوز لما سبق بيانه بل قال: «أنتَ كما أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ» وهذا خبر صحيح عقلا وشرعا.
ثالثها: حيث إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم نفذ الأمر بذكر الله، واعترف بالعجز عن إحصاء الثناء عليه، ولم يقل: اللهم أثن على نفسك، أو اللهم اذكر نفسك عنا، فيسعنا في هذا المقام ما وسعه عليه الصلاة والسلام وذلك بأن نشكر الله كما علمنا وإذا شعرنا بالتقصير والعجز دعونا الله بالمغفرة
٤٢٠
المقالات والمقدمات
أو التوفيق، ولا نقول: اللهمَّ أَدْ عنَّا شُكر النعم.
رابعها: أنه سبق في حديث عائشة أنَّ العبد إذا علم أنَّ النعمة من الله بمعنى أنه اعتقد ذلك وتيقنه تصديقا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نَعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: ٥٣] كتب الله له شكرها قبل أن يحمدها عليها، وهذا فضل من الله كبير يُغنينا عن ذلك الدعاء القبيح الخطير.
٢ - من أسماء الله الحسني اسم الشكور» وهذا الاسم يومئ إلى جواز أن يقال: اللهم أد عنا شكر النعمة.
وهذه الشبهة أضعف من سابقتها؛ لأن الشكر معناه ثناء الشاكر على إحسان وصل إليه من المشكور، والله تعالى لا يصل إليه إحسان محسن؛ لأنه الغني الحميد المنعم المتفضّل، وإذن فمعنى اسمه الشكور إما أن يظهر أعمال عباده الصالحين وينوه عنها ويمدحهم عليها، وهذا مجاز حقيقته إظهار الشاكر للنعمة وثناؤه عليها.
وإما أنه يثيب الثواب الكثير على الطاعة القليلة، وهذا أيضًا مجاز حقيقته قولهم: شكرت الشجرة إذا كثرت أغصانها، وليس في هذا إشعار بجواز ذلك الدعاء القبيح. - أنَّ الله تعالى أمرنا بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ياتها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٦]، ونحن نقول: اللهم صل على سيدنا محمد ، فنطلب منه أن يصلي على نبيه فكذلك يجوز أن يقال: اللهم أَدْ عنَّا شُكر النعم. وهذه شبهة واهية والقياس الذي يبنى عليها ظاهر الفساد؛ لأن الصلاة
التصوف الإسلامي
٤٢١
معناها العطف كما حققه ابن هشام في "المغني". ثُمَّ العطف يختلف باختلاف فاعله حسب ما يليق به، فصلاة الله على
المؤمنين: عطفه عليهم برحمته ومغفرته وهدايته وصلاته على نبيه: عطفه عليه بإعلاء شأنه ورفعة قدره، وصلاة الملائكة علينا عطفهم بالدعاء لنا كما قال تعالى: الَّذِينَ يَحمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَأَغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: ٧].
وصلاتنا نحن معشر المسلمين على نبينا : عطفنا بالدعاء له برفعة قدره وإعلاء شأنه فقولنا : «اللهم صل على سيدنا محمد» هو امتثال لقول الله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٦] أمرنا بالدعاء له فدعونا، ولم نرد
الأمر على الأمر به كما في قول القائل: اللهمَّ أَدْ عنَّا شُكر النعم. فظهر فساد القياس المذكور، وبطلت الشبهة من أصلها، وبالله التوفيق.
٤٢٢
المقالات والمقدمات
۱-۷۷
۷۷ - المعصية (۱) -
الإثم : اسم جنس يشمل المعاصي كلها، شمول الكلي لجزئياته. والمعصية مخالفة أمر الشارع أو نهيه وتسمى ذنبًا وخطيئة وسيئة، وهي تتنوع إلى نوعين: صغيرة، وكبيرة.
.
عليها
ذلك أن مجرد مخالفة الأمر أو النهي معصيةٌ صغيرةٌ، فإذا رُتِّب عليها حَدٌ، أو سميت موبقة أو فاحشة أو كبيرة أو فسقا، أو تُوعد عليها بلعن أو غضب أو عذاب أو تحريم دخول الجنَّة، أو سُمِّي مرتكبها فاسقا أو ضالًا أو خاسرا، أو نحو ذلك مما يدل على عظم الإثم كانت معصية كبيرة. وهذا في المعاصي المنصوصة، أما إذا كانت المعصية غير منصوص فينظر في المفسدة التي تشتمل عليها إن كانت مساوية لمفسدة إحدى الكبائر المنصوصة كانت كبيرة مثلها، وإن كانت دونها فهي صغيرة. وقد اعتنى العلماء ببيان الكبائر وألفوا في ذلك مؤلفات، منها جزء في الكبائر للحافظ الديلمي صاحب "الفردوس"، وللحافظ العلائي، وكتاب "الكبائر" للحافظ الذهبي، وللحافظ ابن القيم، وهو أوسع وأفيد، وللجلال
البلقيني.
وكتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" للعلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي جرَّد فيه قسم الترهيب من كتاب "الترهيب والترغيب" للحافظ المنذري، وضم إليه بحوثاً فقهية فجاء كتابا حافلا، إلا أنه أورد فيه كبائر استند فيها إلى أحاديث ضعيفة، أو أقوال أئمة مذهبه الشافعي، والكبيرة لا تثبت إلا
(۱) مجلة دعوة الحق، السنة السادسة عشرة العدد (۸) ربيع الثاني ١٣٩٤ .
٤٢٣
التصوف الإسلامي بحديث ثابت، أو تكون فيها مفسدة توازي مفسدة كبيرة منصوصة كما سبق. وللصغائر والكبائر مُكفِّرات تمحو إثمها، منها ما يشملها جميعا وهو التوبة، فإنها تُكفّر الصغائر كما تكفر الكبائر، ونصوص الشريعة في ذلك كثيرة جدا بحيث صار من المعلوم بالضرورة أنَّ التوبة بشروطها تمحو كل ذنب حتى
الكفر : قال الله تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ۳۸].
وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَاءَ اخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) يُضَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ القِيمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَمَا مَن وَعَمِلَ عَمَلًا صَلِحَا فَأَوَلَتَبَكَ يُبَدِّلُ و يبدل اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٧٠]. ومنها مكفرات تختص بالصغائر وهي ثلاثة:
١ - اجتناب الكبائر : قال تعالى: إن تَجتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [النساء: ٣١].
وفي "صحيح مسلم : عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الصَّلَواتُ الخَمْسُ والجُمُعَةُ إلى الجُمُعَةِ، ورمضان إلى رمضانَ، مُكَفِّرات ما بينهنَّ إِذا اجْتُنبَتِ الكَبائِرُ».
٢ - إتباعها بحسنةٍ: روى ابن جرير عن أبي مالك الأشعري رضي الله ع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «جُعِلَتِ الصَّلواتُ كَفَّارات لما
بينهنَّ فإن الله قال: إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤].
٤٢٤
المقالات والمقدمات
وفي "الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلوةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤] فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: «الجميع أُمتي كلهم».
وفي
"المسند" عن معاذ رضي الله عنه . أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: «يا معاذ أَتَّبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». وروى الترمذي عن أبي ذر ومعاذ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ
!
الله
النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». ٣ - مصيبة من مصائب الدنيا: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي ! عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عنه بها حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا».
وفيهما أيضًا عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما يُصِيبُ الْمُؤْمِنُ مِن نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلَا هَمَّ
ولا حَزَنِ ولا أَذًى ولا غَمِّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِها مِن خطاياه». وفي صحيح ابن حِبَّان" عن عبدالله بن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه: أَنَّ رجلًا لقي امرأة كانت بغيا في الجاهلية فجعل يلاعبها حتى بسط إليها يده فقالت: مه فإنَّ الله قد أذهب الشّرك وجاء بالإسلام فتركها وولى فجعل يلتفت خلفه وينظر إليها حتى أصاب وجهه حائطا. ثُم أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم والدم يسيل على وجهه فأخبره
التصوف الإسلامي .
٤٢٥
بالأمر فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: «أنت عبد أرادَ الله بك خيرًا». ثُمَّ قال: إنَّ الله جل وعلا إذا أراد بعبد خيرًا عَجَلَ عُقوبة ذَنْبِهِ، وإذا أراد بعبد شرا أمسك ذنبه حتى يوافى يومَ القِيامَةِ كأَنَّه عائِرُ».
وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي تميمة الهجيمي قال: بينا أنا في حائط من حيطان المدينة إذا بصرت بامرأة فلم يكن لي هم غيرها، حتى حاذتني ثُمَّ أتبعتها بصري حتى حاذت الحائط فالتفت فأصاب وجهي .. الحائط فأدماني. فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فأخبرته فقال: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إذا أراد بعبد خيرًا عَجَلَ عُقوبة ذَنْبِهِ، وربنا تبارك وتعالى أكرمُ مِن أَن يُعاقِبَ
على ذنب مرتين». قال الحافظ ابن حجر: «إسناده حسن».
قلت: كيف يكون حسنًا وفيه هشام بن لاحق أبو عثمان المدائني أو المدني؟ ضعفه شبابة بن سوار والبخاري والساجي والعقيلي، وترك أحمد حديثه بعد أن روى عنه، لكن قواه النسائي، وقال ابن عدي: «أحاديثه حِسان وأرجو أنه لا بأس به وذكره ابن حِبَّان في "الثقات " كما ذكره في "الضعفاء" أيضًا. وأبو تميمه تابعي معروف يروي عن أبي هريرة وأبي موسى وأصل الحديث
عن أبي تميمة الهجيمي أنَّ رجلا كان في حائط من حيطان المدينة ... إلخ. ولكن هشام بن لاحق لضعفه واضطراب حديثه نسب القصة لأبي تميمة مع أنه ليس بصاحبها ولا حضرها، فالحديث مرسل ضعيف الإسناد، لكنه يتقوى بما قبله من الأحاديث.
هذا وتنقلب الصغيرة كبيرةً بانضمام معصية إليها كما سيأتي بحول الله. وذكر كثير من العلماء أنَّ الإصرار على الصغيرة يُصيَّرها كبيرةً واحتجوا
٤٢٦
المقالات والمقدمات
بحديث: الاصغيرة مع الإضرار، ولا كبيرة مع الاستغفار». وهذا الحديث رواه أبو الشيخ ومن طريقه الديلمي من رواية مسلم بن سلیمان سعدويه، عن أبي شيبة الخرساني، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس به مرفوعا، ومن هذا الطريق رواه العسكري في "الأمثال"، وأبو شيبة ضعيف. ورواه البغوي ومن طريقه الديلمي من رواية عبيد ابن هشام عن سفيان بن
عيينة عن الزهري عن أنس به مرفوعًا، وفيه راو مجهول.
ورواه أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتاب "المبتدأ" عن سفيان الثوري،
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به. وأبو حذيفة كذَّابٌ.
ورواه الطبراني في "مسند الشاميين" من رواية مكحول، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة. وفي سنده بشر بن عبيد الدارسي متروك. ورواه الثعلبي وابن شاهين من طريق بشر بن إبراهيم، عن خليفة بن سليمان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أيضًا. بشر بن إبراهيم متروك، وشيخه
مجهول.
والصحيح أنه من كلام ابن عباس، رواه البيهقي في "الشعب" من طريق سعيد بن أبي صدقة، عن قيس بن سعد، عن ابن عباس قال: «لا صغيرة مع الإضرار، ولا كبيرة مع الاسْتِغْفارِ».
والمقصود أنَّ الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تقوم به ولهذا اختار الشوكاني في "إرشاد الفحول" أنَّ الإصرار على الصغيرة صغيرة، كما أنَّ الإصرار على الكبيرة كبيرة، وهو الصواب.
أمَّا ما يُكفّر الكبائر فأمور أربعة:
التصوف الإسلامي .
٤٢٧
۱ - الحَدُّ المُرتَّبُ على بعضها: لما رواه الشيخان عن عبادة بـ عن عبادة بن الصامت
رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال - وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على ألا تُشْركوا بالله شيئًا، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنوا، ولا تَقْتُلُوا أولادكم، ولا تأتوا ببُهتان تَفْتَرُونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ، فمن وفى منكم فأجرُه على الله، ومَن أصاب من ذلك شيئًا فَعُوقِبَ في الدنيا فهو كفَّارة له، ومَن أصابَ مِن ذلك شيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه».
وفي "معجم الطبراني "الأوسط" بإسنادٍ حسن عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أبايعكُمْ على أن لا تُشْرِكُوا بالله شيئًا، ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحق، ولا تَزْنُوا، ولا تَسْرِقُوا ، ولا تَشْرَبُوا، فمَن فَعَلَ شَيئًا مِن ذلك، فأَقِيمَ حَدُّه فهو كَفَّارَةٌ، ومَن سَنَتَرَ الله عليه، فحِسَابُهُ على الله عزَّ وجلَّ، ومَن لم
عليه
يَفعَل شيئًا من ذلك ضَمِنْتُ له الجنَّة».
وروى الترمذي عن علي عليه السَّلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «من أَصَابَ حَدًّا فَعُجِّلَ عُقُوبَتَهُ في الدُّنيا فالله أَعْدَلُ مِن أَن يُثني على عبدِهِ العُقُوبَةَ فِي الآخِرَةِ، ومَن أَصَابَ حَدًّا فَسَتَرَهُ الله عليه وعَفَا عنه فاللهُ أَكْرَمُ مِن أَن
يَعُودَ في شيءٍ قد عَفَا عنه». حسنه الترمذي وصححه الحاكم. وفي "المسند" عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن أصابَ ذنبًا فأُقِيمَ عليه حَدُّ ذلك الذنب فهوَ كَفَّارتُهُ». قال
الحافظ الهيثمي: «فيه راو لميسم وهو ابن خزيمة، وبقية رجاله ثقات».
٤٢٨
المقالات والمقدمات
قلت: ابن خزيمة هو عُمارة بضم العين وهو ثقة، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن.
وروى الطبراني في "الكبير" عن خزيمة بن معمر الأنصاري قال: رجمت امرأة في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال الناس: حَبِطَ عملها. فبلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «هو كفَّارة ذنبها وتُحشر على ما
سوى ذلك».
قال الحافظ الهيثمي: «فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف». قلت: الحماني بكسر الحاء وتشديد الميم، حافظ مشهور وثقه ابن معين وابن نمير والرمادي، وكان أحمد سيء الرأي فيه وهو أول من أ ألف المسند
بالكوفة.
ورواه ابن السكن وابن شاهين من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن
.
أبيه، عن خزيمة بن معمر به قال ابن السكن تفرد به المنكدر وهو ضعيف. قلت: لم يقف على روايته الحماني، وهي : ، وهي تُبيَّن أنَّ المنكدر لم يتفرد به قال الحافظ وقد خالفه أسامة بن زيد فرواه عن ابن المنكدر عن ابن خزيمة بن
ثابت عن أبيه وهذا أشبه وفيه اختلاف آخر.
قلت: رواية أسامة أخرجها الدارمي في "سننه" وأسامة ضعيفٌ أيضًا والحديث مضطرب الإسناد كما قال ابن عبدالبر.
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ما عُوقِبَ رجلٌ على ذنبٍ إِلَّا جعله اللهُ كفارة لما أصاب من ذلك الذَّنْبِ». في إسناده ياسين بن معاذ الزيات ضعيفٌ
التصوف الإسلامي .
٤٢٩
متروك، لكنه مؤيَّد بالأحاديث السابقة.
ولا يعارضها ما رواه أحمد، عن عبد الرزاق، عن مَعْمَرٍ، والبزار والحاكم من طريق معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أدري الحدود كفارات أم لا؟». إسناده على شرط الشيخين.
لأن الأصل عدم العلم، ثُمَّ يأتي العلم ناقلا عن الأصل، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدري هل الحدود كفَّارات، كما أفاد الحديث، ثُمَّ أدراه الله بأنها كفارات. كما أفادته الأحاديث المذكورة.
٢ - الاستشهاد في سبيل الله: روى مسلم في "صحيحه" عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يُغْفَرُ للشَّهِيدِ كُلُّ ذَنبٍ إِلَّا الدَّيْنَ».
وروى أيضًا عن أبي قتادة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قام فيهم فذكر أنَّ الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال. فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله، أتكفّر عنِّي خطاياي؟ فقال: «نَعَمْ، إِن قُتلتَ في سبيل الله وأنتَ مُحتسبٌ مُقبل غير مُدْبِرٍ ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفّر عنّي خطاياي؟ فقال: «نَعَمْ، إن قتلت وأنت صابرٌ مُحتسِبٌ مُقْبل غير مدير إلَّا الدين، فإنَّ جبريل قال لي ذلك».
وفي "صحيح ابن حِبَّان" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله
عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ السَّيْفَ محاءُ للخطايا».
٤٣٠
المقالات والمقدمات
وفي "المسند" بإسناد جيد عن عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «القَتْلَى ثلاثة: رجل مؤمن جاهد بنَفْسِه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدوّ قاتلهم حتى يُقتل، فذلك الشهيد المُمْتَحَن، في جنَّة الله تحت عَرْشِهِ لا يَفْضُلُه النبيُّون إلا بفضل درجة النبوة، ورجلٌ قَرَفَ على نفسه الذنوب والخطايا، جاهد بنَفْسِهِ في سبيل الله حتّى إذا لقي العدوّ قاتل حتى يُقتل فتلك مَصْمَصَةٌ محت ذنوبه وخطاياه، إنَّ السيف محاء للخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء؟ فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنَّم سبعة أبواب، ورجلٌ منافق جاهد بنَفْسِهِ وماله حتى إذا لقي العدو قاتل حتّى
يُقتل فذلك في النار إنَّ السَّيف لا يمحو النّفاق». صححه ابن حِبَّان. وروى العقيلي في "الضعفاء" من طريق أصرم بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أنس مرفوعا: «لا يمرُّ السيف بذنب إلا تحاه». وأصرم ضعيفٌ. القتل: بمعنى أن مرتكب الكبيرة إذا قتل ظلما كان القتل كفَّارة له
روى البزار بإسناد رجاله ثقات. عائشة
عن رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قَتْلُ الصَّبر لا يمر بذنبٍ إِلَّا تَحاهُ». قتل الصبر : أن يُقتل الشخص مُقيَّدًا، والحديث يفيد شرطيته في التكفير. وروى سعيد بن منصور: عن عمرو بن شعيب، عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلَّم قال: «مَن قُتل صَبْرًا كان كفَّارةً لخطاياه». وهذا معضل. وروى البزار من طريق داود بن عمر و الضبي قال: حدثنا صالح بن موسى: ثنا عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قتل الرجلِ صَبْرًا كَفَّارَةٌ لما قبله مِن الذُّنوبِ».
التصوف الإسلامي .
٤٣١
صالح بن موسى متروك، ورواه أبو الأحوص ومحمد بن الفضل بن
عطية، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به.
قال الدارقطني: «هذا أشبه».
قلت: يريد
أن هذه الرواية أشبه بالصواب من رواية صالح بن موسى
فالحديث من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص لا من رواية أبي هريرة. و محمد بن الفضل كذَّابٌ، لكن العبرة برواية أبي الأحوص سلام بن سليم وهو ثقة من رجال الصحيحين"، وكذلك شيخه عبد العزيز بن رفيع بصيغة التصغير، فهذا الطريق على شرط الحسن بل قال الذهبي: «أعلى مراتب الحسن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأمثال ذلك مما قيل : أنه صحيح وهو أدنى مراتب الصحيح». اهـ
وروى الطبراني بإسناد صحيح عن الحسن -هو البصري- قال: كان زياد يتتبع شيعة علي عليه السَّلامُ فيقتلهم فبلغ ذلك الحسن بن علي عليهما السلام فقال: «اللهم تفرد بموته، فإنَّ القتل كفَّارة».
دعاء الحسن بن علي أن يموت زياد بن أبيه حتف أنفه؛ لأنه لو مات مقتولا كان القتل كفارة لذنوبه.
وروى الطبراني أيضًا عن ابن مسعودٍ في الذي يصيب الحدود ثُمَّ يُقتل عمدا، قال: «إذا جاء القتل محا كل شيء».
قلت: شرط القتل المكفّر للذنوب أن يكون عن عمد؛ لأن القاتل المتعمد يحمل عن المقتول ذنوبه يوم القيامة، فإن كان القتل خطأ لم يكفر الذنوب؛ لأنه لا إثم فيه على القاتل.
٤٣٢
المقالات والمقدمات
- أعمال ثبت فيها أنها تُكفّر الكبائر : كالحج المبرور، وقيام ليلة القدر، وصلاة التسابيح، ونحو ذلك مما أفرد لجمعه مؤلفات للحافظين المنذري، وابن حجر، وللقابوني، والحطاب شارح المختصر، وسيدي محمد بن جعفر الكتاني، وشقيقنا أبي الفيض رحمهم الله.
وللحافظ ابن حجر جزء اسمه: "قوة الحجاج لعموم مغفرة الحجاج" طبعته مع تعليقاتي عليه.
وتلك المؤلفات مطبوعةٌ إلَّا مؤلف المنذري والحطاب وشقيقنا، وكتاب القابوني طبعته مع تعليقاتي عليه أيضًا واسمه "بشارة المحبوب بتكفير
الذنوب".
لم يتعرض العلماء لبيان الصغائر كما فعلوا في الكبائر فأردت أن أذكر أمثلة منها تكون نموذجا لسائرها وعنوانًا عليه.
فمن الصغائر : النَّظر إلى المرأةِ الأجنبية أو لمسها أو تقبيلها وتقدم حديث ابن مسعودٍ في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤] وحديث عبد الله بن مُغَفَّل وأبي تميمة. ومنها: لعب النرد: روى مالك وأحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن لَعِبَ بنَرْدٍ أو نَرْدَشِير فقد عَصَى اللَّهَ ورسولَهُ»، صححه الحاكم .
وفي "صحيح مسلم" عن بريدة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن لَعِبَ بالنَّرْدَشِير فكأَنَّها صَبَغَ يَدَهُ فِي حَم خِنزيرٍ ودَمِهِ». لا يصح في النرد غير هذين الحديثين وبمقتضاهما يكون معصية صغيرة،
التصوف الإسلامي
٤٣٣
وبذلك صرح الجويني والد إمام الحرمين والرافعي، لكن الراجح عند الشافعية أنه كبيرة وليس لهم عليه دليل نعم إن انضم إليه قمار أو إخراج صلاة عن وقتها مثلا، كان كبيرة بلا خلاف.
وقرأت في نسخة أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر، ويحيى بن صالح الوحاظي من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «اللَّاعِبُ بالنَّرْدِ قمارًا كآكل لحم خنزير، واللَّاعِبُ به بغير قمار كالمدهن
بشَحْمِهِ».
ومن المعلوم أن الأدهان بشحم خنزير أو نحوه من النجاسات صغيرة، ولعب الورق المسمَّى بالكارطة حكمه حكم النَّرد إن كان بقمارٍ أو أدى إلى ضياع واجب فهو كبيرة وإلا فهو صغيرة.
أمَّا الشطرنج فقال بتحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وكثير من العلماء، وكرهه الشافعي كراهة تنزيه، وكان سعيد بن جبير والشعبي وهشام بن عروة يلعبون به.
واستدل الذين حرَّموه بأحاديث واهية موضوعة لا تقوم بها حُجَّةٌ، وبالقياس على النرد وهو قياس غير صحيح؛ لأن النرد مبني على الحظ والشطرنج مبني على الفكر فافترقا، بل قيل: إنَّ الشَّطرنج ينفع في تدبير الجيش
والحرب، ولذلك أجازه الشافعي ولعب به بعض التابعين كما تقدم. والدليل على تحريمه فيها أرى أنه لهو، وقد روى أحمد والأربعة عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كل شيءٍ يلهو به ابنُ آدمَ فهو ثلاثا، رميه عن قَوْسِهِ، وتأديبه فَرَسَهُ، ومُلاعبته أهلَهُ، فإنهنَّ مِن
باطل
٤٣٤
المقالات والمقدمات
الحق». إسناده حسن.
وروى النسائي والطبراني بإسناد صحيح عن عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاري يرتميان فمل أحدهما فجلس فقال له الأخر: كسلت؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كلُّ شيءٍ ليس من ذكر الله عزَّ وجلَّ فهو لهو، إلا أربع خصال: مشي الرجل
بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة». حصر الحديثان أنواع اللعب الجائزة في الأشياء المذكورة لأنها حق، والشطرنج غيرها فهو باطل، وكلُّ باطل حرام، فالشطرنج حرام، لكنه صغيرة إلَّا إذا أنضم إليه قمار أو ضياع واجب فيكون كبيرة، وأخطأ من اعتبره كبيرة
مطلقا.
ومنها: تركُ ردَّ السَّلام: قال الله تعالى: وَإِذَا حُتِيتُم بِنَحِيَّةٍ فَحَقُوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: ٨٦] أوجبت الآية ردَّ التحية وجوبًا مخيرًا بين أمرين فإذا قال لك أخوك المسلم السلام عليكم، فيجب عليك أن تقول له: وعليكم السلام ورحمة الله، وهذا أفضل أو تقول : وعليكم السلام، فإن لم ترد عليه فأنت عاصي آثم شرعًا، وسواء أكان المسلم صالحا أم فاسقا ؟ سنيا أم مبتدعا؟ وقال النووي في "الأذكار " : أمَّا المبتدع ومن اقترف ذنبًا عظيما ولم يتب منه فينبغي و ، أَلَّا يُسلَّم عليهم ولا يُردَّ عليهم السّلام كذا قاله البخاري وغيره من العلماء، واحتج البخاري بحديث قصة كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف . عن غزوة تبوك هو ورفيقان له. قال : ونهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم عن كلامنا قال: وكنت آتي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأسلم
التصوف الإسلامي .
عليه فأقول: هل حرَّك شفتيه برد السَّلام؟ أم لا؟
٤٣٥
وقال البخاري: قال عبد الله بن عمرو : لا تُسلَّموا على شَرَبَةِ الخَمْرِ . اهـ وقال البخاري في "صحيحه " : باب من لم يُسلَّم على مَن اقترف ذنبًا ومن لم
يرد سلامه حتى تتبيَّن توبته، وفي متى تتبيَّن توبة العاصي ؟
وقال عبد الله بن عمرو : لا تُسلّموا على شَرَبَةِ الخمر . اهـ
قال الحافظ في "الفتح": «أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه...» وحكى الخلاف بين الجمهور وغيرهم، ثُمَّ قال: «وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضًا...» . اهـ
ومنه يُعلم أنَّ البخاري لم يجزم بالحكمين خلافا للنووي رحمه الله، وإنما أشار إلى الخلاف وذكر دليل أحد طرفيه، وورد عن ابن عمر بإسناد ضعيف قال: «لا تسلموا على من شرب الخمر، ولا تعودهم إذا مرضوا، ولا تصلُّوا عليهم إذا ماتوا. ونقل ابن رشد عن مالك قال: «لا يُسلَّم على أهل الأهواء». قلت: هذه أقوال ضعيفةٌ يُبطلها أمور:
أحدها: عموم الآية فإنها تشمل الطائع والعاصي والسني والمبتدع، ولو
أراد الله إخراج أحد منها لبين ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيا } [مريم: ٦٤]. ثانيها: عموم الأحاديث الحاصة على إفشاء السلام وأنه حق من حقوق المسلم على أخيه ومن موجبات الجنَّة ومن دواعي المحبة والألفة بين المسلمين. أحاديث متواترة رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: أبو
وهي
هريرة، وعبد الله بن عمرو، والزبير بن العوام، والبراء بن عازب، وعبد الله بن
سلام، وأبو شريح، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وجابر، وابن مسعود، وأنس،
- ٤٣٦
المقالات والمقدمات
وعمران بن حصين، وسهل بن حنيف، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن مُغَفَّل، وأبو مالك الأشعري، ومالك بن التيهان، والمقدام بن شريح عن أبيه عن جده، وشيبة الحجبي عن عمه، ومعاذ بن أنس.
ومن طرق هذه الأحاديث ما ثبت في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الإسلام خير؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعامَ، وتقرأُ السَّلامَ على مَن عَرَفْتَ وَمَن لم تَعْرِفْ». وهذه العبارة من أقوى صيغ العموم.
ثالثها: الأحاديث الدالة على تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام والمتوعدة عليه بدخول النار وبالخروج من الإسلام، وبأنَّ عمل المتهاجرين لا يُقبل حتى
يَصْطَلِحا.
وهي أحاديث متواترة أيضًا رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: أنس بن مالك، وأبو أيوب، وأبو هريرة، وعائشة، وهشام بن عامر، وابن عباس، وفَضَالَة بن عُبيد، وحَدْرَدُ بن أبي حَدْرَدٍ، وابن مسعود، وجابر، ومعاذ ابن جبل، وأبو موسى، وأبو الصديق، وابن عمر، وأبو ثعلبة، وسعد بن أبي وقاص، وعوف بن مالك، وابن عمر، وأسامة بن زيد.
هذا إلى أن العمل بتلك الأقوال الضعيفة الساقطة يؤدي إلى مفاسد عظيمة
شاهدناها كما شاهدها غيرنا وكان لها أثرها السيّئ على المجتمع الإسلامي. ١ - فمنها : العقوق، فقد رأينا أشخاصًا هجروا آباءهم أو أمهاتهم وقبضوا أيديهم عن مساعدتهم بدعوى الابتداع والعقوق كبيرة، والعاق لا يدخل الجنَّة كما في الحديث الصحيح.
التصوف الإسلامي .
٤٣٧
٢- ومنها: قطيعة ،الرَّحِم فلطالما قطع أناس رَحِمَ أخوتهم وأقاربهم
بدعوى الابتداع أيضًا، وقاطع الرحم ملعون، والجنَّة عليه حرام. ٣- ومنها: تفريق كلمة المسلمين وتشتيت جمعهم، فقد صاروا بسبب هذا الهجر المشؤوم شِيَعًا وأحزابًا كل حزب يدعي في الآخر أنه مبتدع، فتهاجروا وتقاطعوا وخالفوا وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونبذوا روح
الإسلام. ٤ - ومنها : أنَّ المغرضين اتخذوا الهجر سلاحًا شهروه في وجه مخالفيهم في الرأي، ترى الشخصين متصاحبين يتواصلان حتى إذا خالف أحدهما صاحبه في رأي رآه أو قول قاله حَكَمَ بتبديعه وطلب أصحابه بهجره، وقد تتبعت أقوال الأئمة الذين أجازوا هجر المبتدع - ولم يوجبوه - لأجد لهم دليلا على ما رأوه فلم أجد غير حديثين اثنين لا ثالث لهما: 1 - روى أبو داود عن سمية، عن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتل بعير لصفية بنت حُيَيٍّ وعند زينب فضل ظهر، فقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلَّم: لزينب: «أغطيها بعيرًا» فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فهجرها ذا الحجة والمحرم
وبعض صفر.
وهذا حديث ضعيف الجهالة سمية، فلا يقوى على مقاومة الآية والحديثين المتواترين.
يصح
٢- حديث قصة كعب بن مالك وهو في الصحيحين"، لكنه لا . الاستدلال به؛ لأنه واقعة حال وقضية عين لا يجوز تعميمها كما تقرر في علم
٤٣٨
المقالات والمقدمات
الأصول. وبيان ذلك من وجوه
الأول: أنَّ كعب بن مالك وصاحِبيه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم والتخلف عنه ليس كالتخلف عن غيره من الأئمة والخلفاء؛ لأن الله تعالى
يقول : مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ﴾ [التوبة: ۱۲۰] وهذا نفي معناه النهي، وهو أبلغ من النهي الصريح كما تقرّر في علم المعاني ويقول سبحانه: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٦] فلهذا شدَّد عليهم ما لم يُشدد على
غيرهم.
الثاني:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر بهجرههم بعد أن تابوا
منتظرا قبول توبتهم من الله تعالى، فلما أوحى الله إليه ليلا بقبولها أسرع بإخبارهم عقب صلاة الصبح مباشرةً ، وهذا خلاف ما يدعيه أصحاب تلك الآراء من هجر المبتدع حتى يتوب.
الثالث: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لكعب حين أعلن توبته وصدقه: «أما هذا فقد صَدَقَ، قُمْ حَتَّى يقضي الله فيك». وكذلك قال لصاحبيه وهذا دليل على الخصوصية حيث علّق انتهاء هجرهم بقضاء الله فيهم، وهو
قبول توبتهم الذي جاء في قوله: وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِفُوا ﴾ [التوبة: ١١٨] وقبول التوبة لا يُدرَك إلَّا بالوحي وهو خاص بزمنه صلَّى الله عليه وآله وسلّم. الرابع: أنهم لم يكونوا فُسَّاقا ولا مُبتدعين، بل كانوا من خيار الصحابة وفضلائهم، وكان الهجر تأديبا خاصا. بهم على خطأ ارتكبوه غير قاصدين
التصوف الإسلامي .
٤٣٩
المخالفة ولا متعمدين المعصية.
الخامس: أنَّ هجرهم كان مؤقتاً غير دائم بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قُمْ حتى يقضي الله فيك». لأنه كان ينتظر نزول الوحي بقبول توبتهم. السادس: أنه بعد مرور أربعين يوما بعث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم إلى كل واحدٍ منهم: اعْتَزل امرأتك ولا تَقْرَبُها». وأتته زوجة هلال فقالت: يا رسول الله إنَّ هلال بن أمية شيخ ضعيفٌ ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا، ولكن لا يَقْرَبُكِ». وهذا نص قاطع في الخصوصية؛ لأنه لا يجوز لإمام أو خليفة أن يأمر أحدًا باعتزال زوجته تأديبا له بل هذا من خصوصيات النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
.
السابع: أن حاطب ابن أبي بلتعة بعث إلى المشركين بخطاب يخبرهم فيه بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على غزوهم، وهذا تجسس، وهو أشدُّ مِن التخلف كما قال ابن القيم، ومرتكبه أولى بالهجر من ! المتخلف، ذلك لم ومع يهجره النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فدل ذلك على أنَّ الهجر في قصة كعب وصاحبيه خاص بهم لا يصح تعديته إلى غيرهم، فتكون قضية عين كما بينا، والمستدلون بها على جواز هجر المبتدع أو العاصي هجرا دائما مخطئون غاية
الخطأ.
وقد استدل بعض الناس لمشروعية الهجر الدائم بآيتين لم يحسن فهمهما : الأولى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ايْنِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غيره ﴾ [الأنعام: ٦٨] ولا علاقة لها بالهجر ولا تدل عليه لوجهين: ١- أنها نزلت في المشركين: قال السُّدِّي وابن وغيرهما كان
جریج
٤٤٠
المقالات والمقدمات
المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، والقرآن، فسبوه واستهزؤوا به فأمرهم الله ألا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وجاء نحو ذلك عن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وأبي مالك ومقاتل، وكان نزول الآية بمكة، ثُمَّ حصل من اليهود والمنافقين بالمدينة استهزاء بالقرآن فأنزل الله تعالى في (سورة النساء) مشيرًا إلى هذه الآية: ﴿وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ وَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَـ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ [النساء: ١٤٠] فالآيتان واردتان كما ترى- في الكفار، والعصاة وأهل الأهواء لا يكفرون بآيات الله ولا يستهزئون بها، فإقحامهم في الآيتين تحريف لكلام الله.
٢ - أنَّ الآيتين لم تأمرا بهجر الكفَّار وإنما أمرتا بترك مجالستهم ساعة
الخوض فقط، فإذا تركوه إلى حديث آخر جازت مجالستهم.
الثانية: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: ٢٢] وهذه الآية كسابقتها لا تمت إلى الهجر بصلة إطلاقا، لوجهين: ١- أنها واردة في الكفَّار المعاندين الله ورسوله؛ لأن المحادة بتشديد الدال - معناها المعاندة وتحقيق مدلولها اللغوي: أنهم في حد وجانب، والله ورسوله في حد وجانب، وهذا المعنى لا ينطبق على العصاة وأهل الأهواء لأنهم ليسوا محادين الله ورسوله. ٢ - أنَّ ترك الموادة ليس معناه الهجر ولا تستلزمه، ولكن معناها: عدم الميل القلبي إلى الكفَّار، ألا ترى أننا مأمورون ببغض أهل الكتاب ومع ذلك أجاز
التصوف الإسلامي .
لنا الشارع أن نتعامل معهم ونأكل طعامهم ونتزوج بنسائهم.
٤٤١
وكان الصحابة في المدينة يتعاملون مع اليهود ومات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، هذا مع أنَّ الله يقول فيهم: لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: ۸۲]. ولا شك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم والصحابة كانوا يبغضون
اليهود أشد البغض ولم يمنع بعضهم الشديد من معاملتهم.
وأوجب الله بر الوالدين المشركين فقال تعالى: وَصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا معروفا [لقمان: ١٥]، وجاءت أم أسماء بنت أبي بكر وهي مشركة تطلب معروف ابنتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صلي أُمَّكِ». والمقصود أنَّ الهجر الدائم ممنوع شرعًا وهو بدعةٌ شِرْكِيَّةٌ كما بينته في غير
هذا الموضوع. ومن الصغائر ترك إجابة الدعوة روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا دُعِيَ أحدكم إلى وَليمَةٍ
فليأتها».
وفي "صحيح مسلم " عنه أيضًا قال : قال رسول صلى الله عليه وآله وسلّم: إذا دعا أحدكم أخاه فليُجِبْ، عُرْسًا كان أو نحوه».
وفيه أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا دُعِيَ أحدُكم إلى طعامٍ فليُجِبْ، فإن شاء طَعِمَ وإن شاء تَرَكَ». وفي "الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حَقُّ المسلم على المُسلِمِ خَمْسٌ : رَدُ السَّلامِ، وعِيادَةُ
٤٤٢
المقالات والمقدمات
المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدَّعْوَةِ، وتَشْمِيتُ العاطسِ». فإجابة الدعوة واجبة وتركها حرام إلا أن يكون في مكان الدعوة منكر
كخمر أو حشيشة أو اختلاط نساء ورجال فتحرم الإجابة حينئذ. ومنها: خروج الرجل من المسجد بعد الآذان بدون عذر: روى مسلم في "صحيحه" عن أبي الشعثاء قال: كنَّا قُعوداً في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله
وسلم». زاد أحمد في روايته بإسناد صحيح أيضًا: ثُمَّ قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا كنتم في المسجد فنُودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يُصَلِّي». فالخروج من المسجد بعد الأذان حرام إلا لعُذْرِ شرعي، كمن خرج ليتوضأ أو ليعود مريضًا مرضًا شديدًا أو نحو ذلك، لكن لو خرج من المسجد زاعما أنَّ الصلاة خلف الإمام لا تجوز لفسقه أو بدعته مثلًا فيكون كبيرة؛ لأنه انضم إليه تجريح واغتياب.
التصوف الإسلامي
٤٤٣
- أصول كرامات الأولياء في السنة النبوية
حول الكشف والإلهام والفيض الإلهي
(1)
ثبت في "صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لقد كان فيها قبلكم مِن الأُمَمِ تُحدَّثونَ، فإن يكن في أُمَّتِي أَحدٌ فإنه
عمر».
وفي رواية: «قد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل يُكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أُمتي أحد فعمر».
منهم
أحد
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: «قد كان يكون في الأُمم قبلكم تُحدَّثون فإن يكن في أُمَّتي م فعمر منهم». قال ابن وهب: تفسير «محدَّثون»: ملهمون. وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء كما قال الإمام النووي رضي الله عنه، والمحدث - بفتح الدال المشددة - اختلف في تأويله فقال الأكثرون: هو الملهم كما قال ابن وهب قالوا وهو الرجل الصادق الظن يُلقَى فِي رَوْعِهِ شيءٌ من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به.
وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلَّم تكلمه
الملائكة بغير نبوة كما سبق في إحدى روايتي البخاري.
وجاء في حديث أبي سعيد الخدري قيل: يا رسول الله وكيف يُحدَّث؟ قال: «تتكَلَّمُ الملائكة على لسانه». رواه الجوهري في "فوائده".
قال الحافظ : ويحتمل ردُّه إلى المعنى الأول أي تُكلّمه في نفسه وإن لم يكن
(۱) مجلة المسلم، السنة الخامسة العدد (١) شعبان ١٣٧٤.
٤٤٤
المقالات والمقدمات
مكلَّما في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام. وقوله: «فإن يكن في أُمتي أحد ...... قال الحافظ: «قيل: لم يورد هذا القول مورد الترديد فإنَّ أُمَّته أفضل الأمم، وإذا ثبت أنَّ ذلك وُجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى، وإنما أورده مورد التأكيد كما يقول الرجل: إن يكن لي صديق فإنه فلان، يريد اختصاصه بكمال الصَّداقة لا نفي الأصدقاء، ونحوه
قول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقي، وكلاهما عالم بالعمل». وأخرج الطبراني في "الكبير" وأبو نعيم في "الطب النبوي" والترمذي الحكيم في "النوادر" عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتَّقُوا فِراسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّه يَنْظُرُ بنور الله عزّ وجلَّ».
جرير
ورواه الترمذي في "جامعه" عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا، ورواه ابن وأبو نعيم من حديث ابن عمر، وهو حديث حسن كما قال الحافظ الهيثمي والحافظ السيوطي، ولم يُصب ابن الجوزي في الحكم عليه بالوضع، وهذا الحديث أصل في الكشف الذي يقع لكثير من الأولياء؛ تجد الواحد منهم
يكاشف الشخص بما حصل له في غيبته كأنه كان حاضر معه. وفي "البخاري" : من عادى لي وَلِيًّا فقد آذنته بالحَرْبِ...» الحديث، وهو أصل فيما يُكرم به الأولياء من إجابة الدعاء وفيما ينزل بمن آذاهم من البلاء. وأخرج الطبسي في "الترغيب" والديلمي في "مسند الفردوس" وأبو عبد الرحمن السلمي في "الأربعين" التي له في التصوف بإسناد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِن العَلْمِ كَهَيْئَةِ المَكْنُونِ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا العُلَماء بالله تعالى، فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا
التصوف الإسلامي .
٤٤٥
أَهْلُ الغِرَّةِ بالله عزَّ وجلَّ».
وأخرج المروزي في زوائد" "الزهد لعبد الله بن المبارك قال: حدثنا أبو معاوية: أنبأنا حجّاج، عن مكحول ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
مَن أَخْلَصَ الله أربعين يوما ظهرت ينابيعُ الحِكْمَةِ مِن قَلْبِهِ على لسانِهِ». هذا إسناد صحيح لكنه مرسل، وقد ورد موصولًا من حديث أبي أيوب في "حلية أبي نعيم" بإسناد ضعيف، وحديث ابن عباس القدسي: «إنها أتقبل الصَّلاةَ ممن تَواضَعَ لعَظَمَتي... الحديث، وفيه: «أجعل له في الجَهَالَةِ عِلْمًا». فهذه الأحاديث أصل فيما يُفاضُ على الأولياء من العلوم والمعارف والأسرار، مما قد يُنكره بعض الأغرار، الذين يجهلون أو يتجاهلون فضل الله
على عباده المخلصين، فيتهمون الأولياء بالزندقة والخروج على الدين. ورأيت الذهبي قال في ترجمة ذي النون المصري ما نصه: «كان ممن امتحن وأوذي لكونه أتاهم بعلم لم يعهدوه، كان أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال وفي مقامات الأولياء، فقال الجَهَلَةُ هو زنديق قال السُّلَمي لما مات: أظلَّتِ الطيور جنازته» اهـ
وروى الحاكم والخطيب بسند صحيح، عن إسماعيل بن إسحاق السراج قال: قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أن الحارث هذا يعني المحاسبي- يكثر الكون عندك فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه، ففعلت وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا وصلُّوا العَتَمَةَ ثُمَّ قعدوا بين يدي الحارث
و هم سكوت إلى قريب نصف الليل، ثُمَّ أخذ الحارث في الكلام و وكأنَّ .
على
رؤوسهم الطير فمنهم من يبكي ومنهم مَن يَخِرُّ ومنهم من يزعق وهو في
.٤٤٦
المقالات والمقدمات
كلامه، فصعدت الغرفة فوجدت أحمد قد بكى حتى غشي عليه، فلما تفرقوا قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هذا ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا،
وعلى هذا فلا أرى لك صحبتهم . اهـ
قال
الحافظ ابن حجر
في "تهذيب التهذيب": «إنما نهاه عن صحبتهم
لعلمه بقصوره عن مقامهم؛ فإنه مقام ضيّق لا يسلكه كل أحد، ويُخافُ على من يسلكه ألَّا يوفّيه حقه» . اهـ
وروى الحافظ الخطيب في "تاريخ "بغداد" قال: أخبرنا أبو عبدالرحمن إسماعيل بن أحمد الحيري: أنبأنا محمد بن الحسين السلمي قال: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يحكي عن ابن الأعرابي قال: قال أبو حمزة: كان الإمام أحمد بن
حنبل يسألني في مجلسه عن مسائل ويقول: ما تقول فيها يا صوفي ؟
التصوف الإسلامي .
۷۹- جواز التوسل بأولياء الله (۱)
٤٤٧
روى الطبراني بإسنادٍ حسن في معجمه الكبير" و"الأوسط" قال: حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة : حدثنا روح بن صلاح أخبرنا سفيان، عن عاصم، عن أنس رضي الله عنه قال : لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فجلس عند رأسها فقال: «رَحِمَكِ الله يا أُمِّي، كنتِ أُمِّي بعد أُمِّي، تَجُوعِينَ وتُشْبِعِينِي، وَتَعْرَيْنَ وَتَكْسُونَنِي، وَتَمَنَّعِينَ
نَفْسَكِ طَيِّبَ الطَّعَامِ وَتُطْعِمِيني، تُريدين بذلك وَجْهَ الله وَالدَّارَ الآخِرَةَ». ثم أمر أن تغسل ثلاثا ثلاثا فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بيده ثم خلع قميصه فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه، ثمَّ دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلامًا أسود يحفرون.
فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بيده وأخرج ترابه بیده فلما فرغ دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فاضطجع فيه وقال: «الله الذي يُحيي ويُمِيتُ وهو حَيٌّ لا يَمُوتُ، اغفر لأُمِّي فاطمة بنت أسد، ولقنها حُجَّتها، ووسع عليها مُدْخَلَها، بحَقِّ نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنَّكَ أرحَمُ الرَّاحِمينَ». وكبر عليها أربعا وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر رضي الله عنهما. إسناده حسن.
وفاطمة بنت أسد صحابية فاضلة قال الشعبي: «أسلمت وهاجرت المدينة وماتت بها»، وقال الزبير بن بكار : هي أول هاشمية ولدت خليفة ثم بعدها
(۱) مجلة المسلم السنة الثامنة العدد (۲) رمضان ۱۳۷۷.
٤٤٨
المقالات والمقدمات
فاطمة الزهراء عليها السلام».
تنبیهان
الأول: فاطمة بنت أسد هي إحدى الفواطم الواردة في الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم من طريق أبي فاختة، عن جعدة بن هبيرة، عن علي عليه السلام قال: أهدي إلي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حلة استبرق فقال: أجعلها خمرا بين الفَواطِم فشققتها أربعة أخمرة: خمارًا لفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وخمارًا لفاطمة بنت أسد، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة». قال الحافظ ابن حجر : ولم يذكر الرابعة ولعلها امرأة عقيل أخي علي رضى الله
عنها. قلت واسمها فاطمة بنت شيبة بنت ربيعة بن عبد شمس العبشمية وقيل: فاطمة بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس العبشمية أخت هند أم
معاوية.
الثاني: فاطمة بنت أسد هذه غير فاطمة بنت أبي أسد المخزومية التي قطعها النبي بسبب سرقة حلي واستشفع أهلها وقومها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغير واحد حتى استشفعوا بأسامة بن زيد حبه وابن حبه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أتشفع في حد من حدود الله؟!» ولم يعفها من
إقامة الحد عليها وقيل : اسمها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد وبايعت. وأما التوسل بغير الأنبياء فورد فيه الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في كتاب "التوحيد" والطبراني في "الدعاء" وأبو نعيم وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن
التصوف الإسلامي .
٤٤٩
خَرَجَ من بيته إلى الصَّلاةِ فقال: اللهم إنّي أسألُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عليكَ، وأسألُكَ بحَقِّ مَمْشَايَ هذا، فإنّي لم أخرُجْ أَشَرًا ولا بَطَرًا ولا رِيَاءً ولا سُمْعَةً، وخَرَجْتُ اتَّقاءَ سُخْطِكَ وابتغاءَ مَرْضَاتِكَ، فأسألُكَ أَن تُعِيدَنِي مِن النَّارِ وأن تَغْفِرَ لِي ذُنُوبي، إنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنتَ أقبلَ اللَّهُ عليهِ بِوَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ له سبعون ألفَ مَلَكِ». ضعفه النووي في "الأذكار" وليس كذلك، بل هو حديث حسن كما صرح
به الحافظ أبو الحسن بن المفضل المقدسي المالكي والحافظ العراقي والحافظ ابن
"عمل
حجر العسقلاني، وله مع هذا شاهد من حديث بلال عند ابن السنّي في ' اليوم والليلة"، ومن حديث أبي أمامة عند الطبراني في "الدعاء"، وهذا الحديث يفيد التوسل بحقِّ أرباب الخير على سبيل العموم كما قال ابن علان
الصديقي في شرح "الأذكار ".
أسيد
وروى الطبراني بإسناد . صحيح عن أمية بن عبدالله بن خالد بن مرسلا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يستفتح بصعاليك المسلمين، وفي رواية: يستنصر بصعاليك المسلمين. وتقدم خبر استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما.
روى أبو يعلى من طريقين عن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لَيَأْتينَّ على النَّاسِ زمانٌ يَخْرُجُ الجيشُ مِن جُيُوشِهِمْ فيقال: هل فيكم أحدٌ صَحِبَ محمَّدًا فَتَسْتَنْصِرُونَ بِهِ فَتُنْصَرُوا؟ ثُمَّ يُقالُ: هل فيكم من صَحِبَ محمَّدًا؟ فيُقالُ : لا ، فمَن صَحِبَ أَصْحَابَهُ؟ فيُقالُ: لا. فيُقالُ: مَن رأى مَن صَحِبَ أصحابَهُ؟ فلو سَمِعُوا به من وراء البحرِ لأَتَوْهُ». قال
٤٥٠
المقالات والمقدمات
الحافظ الهيثمي : رجال الطريقين رجال الصحيح». و في "أوسط معاجم الطبراني" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «الن تَخلُوَ الأرضُ مِن أربعين رَجُلًا مِثلَ إبراهيم خليلِ الرَّحمنِ،
فيهم يُسْقَوْنَ وبهم يُنْصَرُونَ ، ما ماتَ منهم أحدٌ إِلَّا أَبدل الله مكانَهُ آخَرَ». قال سعيد وسمعت قتادة يقول: لسنا نشك أنَّ الحسن - يعني البصري- منهم. قال الحافظ الهيثمي : «إسناده حسن».
ففي الحديث إرشاد إلى الاستشفاع بالأبدال وهم لا شك من الأولياء وفي الحديث الذي قبله الإفراز على الاستنصار بالصحابة والتابعين وفي هذا كفاية.
(٦)
مقالات في فضائل النبي الله
فضائل النبي او
- أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا (۱)
٤٥٣
عن ميسرة الفجر :قلت يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسيدة.
: :
رواه الإمام أحمد والبخاري في "التاريخ" والحاكم وصححه، وقال الحافظ العسقلاني والطبراني سنده قوي، ورواه أبو الحسن بن بشران، ومن طريقه ابن الجوزي في كتاب "الوفاء" بلفظ : قلت يا رسول الله متى كنتَ نبيًّا؟ قال: «لما خَلَقَ اللهُ الأرضَ واسْتَوى إلى السماءِ فَسَوَّاهُنَّ سبع سمواتٍ وخَلَقَ العَرْشَ، كتب على سَاقِ العَرْشِ محمد رسولُ الله خاتم الأنبياء. وخَلَقَ اللهُ الجنَّةَ التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب، والأوراق، والقباب، والخيام، وآدم بين الرُّوح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي، فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلمَّا غَرَّهُم الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه». اهـ وإسناد هذه الرواية قوي؛ لأنه عين إسناد الرواية الأولى التي صححها الحاكم، وقواها الحافظ وللحديث أمثال وشواهد صحاح أحصيناها في " الأحاديث المنتقاة". وحاصل المعنى: أنَّ اللهَ أفاضَ على روح نبيه أو حقيقته المحمدية وصف النبوة قبل نفخ الروح في آدم وإفاضة النبوة في هذه الحالة تستلزم تقدم الخلق، ولهذا جاء من طرق عن قتادة من رواية حاتم وغيره «كنتُ أوَّل النبيين في الخَلْقِ وآخرهم في البَعْثِ». قال المناوي " في شرح الجامع الصغير": «جعله الله حقيقة تقصر عقولنا عن
(۱) مجلة الخلاصة (المسلم) السنة الثالثة العدد (۸) ربيع الأول ۱۳۷۲.
٤٥٤
المقالات والمقدمات
معرفتها، وأفاض عليها وصف النبوة من ذلك الوقت، ثُمَّ لما انتهى الزمان
بالاسم الباطن إلى الظاهر ظهر بكليته جسما وروحا . اهـ
وفي حديث الإسراء عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وآله وسلم-:
وجَعَلَني فاتحا وخاتما اهـ، وأجاد في هذا المعنى الإمام الحافظ تقي السبكي في رسالة "التعظيم والمنة".
الدين
وقول المحبين خلق الله نور محمد قبل الأشياء؛ لأن روحه الشريف كان موجودا وموصوفًا بالنبوة قبل نفخ الروح في آدم والروح جسم نوراني لطيف كما حققه ابن القيم وغيره، وإذا كان المراد حقيقته -صلى الله عليه وآله وسلّم- فهي أمر نوراني كذلك.
وقد ذكر بعضهم أنَّ المراد بهذا الحديث وما في معناه ثبوت نبوته -صلَّى الله
عليه وآله وسلم - في علم الله وتقديره وهذا باطل من وجوه: الأول: أن نبوته -صلَّى الله عليه وآله وسلّم - ثابتة في العلم والتقدير الإلهي منذ الأزل فتخصيصها في الحديث بوقت كون آدم بين الروح والجسد لغو يجب تنزيه الحديث عنه. الثاني: أن نبوة الأنبياء جمعيّاً عليهم السلام ثابتة في العلم والتقدير فلم يبقى للنبي -صلى الله عليه وآله وسلَّم- خصوصية على غيره والحديث إنما ذكر لبيان الفضل والخصوصية فلابد أن يكون فيه معنى زائد لا يشاركه فيه نبي آخر وإلا كان الحديث عباً وهو باطل. الثالث: أن الصحابة لما سألوه متى كنت نبيا كانوا يعلمون أن نبوته ثابتة في علم الله وتقديره فهم بالضرورة إنما أرادوا بسؤالهم قدرا زائدا عن المعلوم لهم.
فضائل النبي
٤٥٥
الرابع: أن . عمر سأله - صلَّى الله عليه وآله وسلم- «متى جعلت نبيا»؟ وهذا اللفظ صريح في التصيير - أي متى صيرك الله نبيا - وهذا لا يتأتى إلا في موجود يصح اتصافه بالصفة التي صير إليها، كما تقول جعلت الذهب خاتما أي صيرتها كذلك، وقد كانت موجودة من قبل، غير أنها لم توصف بالخاتمية إلا بعد الجعل والتصير. الخامس: أن وجود الأشياء في علم الله وتقديره لا يتصور فيها أسبقية وإنما الأسبقية في الخلق بمعنى الإيجاد لا بمعنى العلم.
فتبين بهذا بطلان ما ذكره البعض من أنَّ المراد هو التنبي في العلم والقدرة، وتعين ما ذكرناه من أن الله أفاض على روح نبيه وحقيقته المحمدية وصف النبوة وآدم بين الروح والجسد تميزا له على سائر المخلوقات، واصطفاء له من بين أنواع الموجودات، فهو خلاصة النوع الإنساني وسيد الثقلين وأبو الأنبياء صلَّى الله عليه وآله وسلّم .
٤٥٦
المقالات والمقدمات
۸۱- من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم (۱) عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أُعْطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أَحَدُ قَبْلي، نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّها رَجُلٌ مِن أُمَّتِي أدركَتْهُ الصَّلاةُ فَليُصَلُّ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولم تُحلَّ لَأَحَدٍ قَبْلي، وأُعْطِيتُ الشَّفاعَةَ، وكان النبيُّ يُبْعَثُ إِلى قومِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إِلى النَّاسِ عَامَّةٌ».
خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلّم التي اختص بها الأنبياء عليهم السلام كثيرة، ذكر أبو سعد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى" أنها بلغت ستين في العدد، وقد أفردت بالتأليف وهذ الحديث الذي نتكلم عنه الآن أفصح عن خمس من تلك الخصائص.
إحداها: نصره بالرعب، يلقى في قلوب أعدائه من مسيرة شهر، وإنما جعل الغاية شهرًا لأنه لم يكن بين بلده وبين أعدائه أكثر من ذلك، وهذه الخصوصية حاصلة له ولو كان وحده من غير جيش.
ثانيها: جعل الأرض مسجدًا وطهورًا، ومعنى كون الأرض مسجدا أنها مكان السجود لا يختص بالسجود موضع دون موضع، ولهذا قال: «فأيها رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل». إلا إذا كان المكان متنجسا فلا يصلي فيه، أما الأمم السابقة فلم تبح الصلاة لهم إلا في أمكنة مخصوصة كالبيع والصوامع هكذا قال الخطابي.
(۱) مجلة الرابطة الإسلامية، السنة الثانية، العدد (١٩) ٢٦ ربيع الأول ١٣٦٥.
فضائل النبي
٤٥٧
ويؤيده ما جاء في حديث آخر ولفظه: كان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم». ومعنى كون الأرض طهورًا: أن الإنسان إذا لم يجد الماء أو وجده ومنع من استعمله مانع من مرض ونحوه تيمم وصلى، وهل يصح التيمم بكل ما في الأرض كحجر وتراب ورخام ام تدخله صنعة ونحو ذلك أو إنما يصح التيمم بالتراب فقط ؟ رأيان للعلماء: ذهب المالكية إلى الأول، وذهب الشافعية إلى الثاني، والتيمم على كلا الرأيين من خصوصيات هذه الأمة لم يشرع لغيرها من الأمم.
ثالثتها: إحلال الغنائم وهي ما يغنم في الجهاد من الكفار قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَلَا طَيِّبًا } [الأنفال: ٦٩] أما السابقة فكانوا على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد أصلا فلم تكن لهم غنائم، ومنهم من أذن له في الجهاد لكن لم يحل لهم أكل الغنيمة ولا التصرف فيها بل كانوا يجمعون ما غنموه فتأتي نار تلتهمه.
رابعتها الشفاعة والمراد بها الشفاعة العظمى في إراحه الناس من هول
الموقف ولا خلاف في وقوعها، كذا جزم به النووي وغيره، وقال البيهقي: لا يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها أنه يشفع لأهل الصغائر والكبائر وإنما يشفع لأهل الصغائر دون الكبائر ، وقيل الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل، وورد في حديث آخر : وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا». وفي رواية أخرى فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله».
وثبت في حديث صحيح: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». والمقصود أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم أعطي شفاعات لكن المراد
٤٥٨
المقالات والمقدمات
عند الإطلاق هي الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود الذي وعده الله إياه
بقوله تعالى : عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } [الإسراء: ٧٩]. خامستها : إرساله إلى الناس عامة بخلاف من قبله من الأنبياء فإنهم كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة كما نطق القرآن العظيم، وهذا أمر واضح لا خفاء فيه غير أن بعض العلماء استشكل ذلك بأن نوحًا عليه السلام كانت بعثته بعد الطوفان عامة لأهل الأرض بدليل ما جاء في الحديث أن أهل الموقف حين يذهبون إلى نوح في طلب الشفاعة يقولون له: «أنت أول رسول إلى أهل
الأرض».
والجواب أن بعثة نوح كانت خاصة كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قوْمِهِ ﴾ [نوح: ١] وأما بعد الطوفان فإن الله أهلك الكفار جميعا ولم يبق إلا المؤمنين الذين كان نوح مرسلًا إليهم فاتفق عموم بعثته بسبب هذا الحادث وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس.
بخلاف نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم فإن بعثته كانت عامة من أصلها لا بسبب حادث من الحوادث فثبتت خصوصيته بذلك صلى الله عليه وآله وسلّم
وعلى إخوانه النبين والمرسلين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
فضائل النبي و
۸۲ توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم (۱)
٤٥٩
عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول متى كنت نبيا؟» قال: «لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهنَّ سبع سموات وخلق العرش وكتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه». فضائل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا تحصى، ومزياه لا تستقصى جعله الله نبيا وآدم بين الروح والجسد، وحكم ببقاء شريعته إلى آخر الأمد، وأخذ العهد على النبين أن يؤمنوا به ،وينصروه، وعلى المؤمنين أن يعزّروه ويوقروه، وأقسم في القرآن ،بحياته، واختصه بمزيد القرب من بين سائر مخلوقاته، وبالجملة:
فإِنَّ فَضْلَ رَسُول الله ليس لَهُ حَدٌ فَيُعْرِبَ عنــه نــاطِقٌ بِفَمِ وهذا الحديث يخبر عن جانب من جوانب الفضل الممنوحة لرسول الله
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذلك هو ما يتعلق بمبدأ أمره وأول نبوته. فذكر هذا الحديث أن الله كتب اسمه على ساق العرش بوصفه الخاص به وكذلك كتب اسمه على أبواب الجنة وقبابها وخيامها وأوراق أشجارها إظهارًا لتفوق قدره وعلو منزلته، وكان ذلك قبل أن ينفخ الله الروح في آدم كما في هذا
(1) مجلة الرابطة الإسلامية السنة الثانية العدد (١٨) ١٦ ربيع الأول ١٣٦٥.
٤٦٠
المقالات والمقدمات
الحديث، وكما جاء في أحاديث أخرى منها حديث أبي هريرة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: «بين خلق آدم ونفخ
الروح فيه».
وعن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
وعن الصنابحي قال عمر رضي الله عنه: متى جعلت نبيا؟ قال: «وآدم
منجدل في الطين». أي طريح ملقي على الأرض قبل نفخ الروح فيه، ولعل القارئ يسأل كيف يكون نبيًّا في ذلك الوقت مع أنَّ النبوة وصف لابد أن يكون الموصوف به موجودا ، ولا يتصف به إلا بعد بلوغ أربعين سنة كما هو معروف؟
والجواب على ذلك أن للعلماء في هذه الأحاديث تأويلات: أحدها: حمل ذلك على الجعل العلمي والكون الكتابي أي كنت في علم الله وكنت مكتوبًا في الذكر وعلى ساق العرش كذلك قبل نفخ الروح في آدم هذا رأي الغزالي، ويؤيده حديث العرباض ابن سارية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبين وان آدم لمنجدل في طينته». رواه أحمد والحاكم.
لكن تقي الدين السبكي ناقش الغزالي في رأيه هذا بما يعلم من مراجعته في
كتاب "التعظيم والمنه" فاختار التأويلين الآتيين.
ثانيها: أن تكون تلك الأحاديث تشير إلى روحه الشريفة لأنه جاء في حديث عمرو بن عبسة أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وعلى
فضائل النبي
٤٦١
هذا فلا مانع أن يكون الله تعالى أفاض على روحه الشريفة وصف النبوة، وأعلم آدم والملائكة بذلك ليعلموا قدره.
ثالثها: أن تكون الإشارة إلى الحقيقة المحمدية التي جعلها الله قبل حقائق سائر الممكنات، وأهلها لهذا الوصف الكريم، وخلعه عليها بطريقة تقصر عقولنا عن إدراكها وعلى هذا التأويل اتفقت كلمة الصوفية ويؤيده حديث أبي هريرة مرفوعا: «كنت أول النبين في الخلق وآخرهم في البعث». رواه أبو نعيم
وله طرق.
وقد عرض زكي مبارك لهذا الرأي في كتاب "التصوف الإسلامي" ووصف الصوفية بالغلو في الحقيقة المحمدية، وأنهم حذوا حذوا المسيحيين فيما ادعوه عن الحقيقة العيسوية، وزعم أن الأحاديث السابقة باطلة ما عدا الحديث المشروح فإنه لم يسمع به أصلا.
وهذا الرجل أخرق أهوج هجام على ما لا علم له به دباب سباب وإني
لأعجب كيف أخذ الدكتوراه بكتابه المذكور.
٤٦٢
المقالات والمقدمات
۸۳- حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل الإيمان (۱) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يُؤْمِنُ عبد حتّى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالدِهِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ». رواه البخاري ومسلم. قوله: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ...» إلخ، قال القاضي عياض وابن بطال وغيرهما: «المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ومحبة رحمة وشفقة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس فجمعَ صلَّى الله عليه وآله وسلم أصناف المحبة في
محبته . اهـ
وقال الخطابي: الميرد بالحديث حبُّ الطبع، بل أراد به حب الاختيار لأنَّ حبَّ الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه فمعنى الحديث: لا تصدق في حبي حتّى تُفني في طاعتي نفسك وتُؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك». وقال ابن بطال : معنى الحديث: أنَّ من استكمل الإيمان علم أنَّ حقّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم آكد عليه من حقٌّ أبيه وابنه والناس أجمعين لأنَّ به صلَّى الله عليه وآله وسلّم استنقذنا من النار وهدينا من الضلال».
وقال القاضي عياض في شرح مسلم : "ومن محبته صلى الله عليه وآله وسلم نُصرة سنته والذب عن شريعته وتمني حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه». قال: «وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته
(۱) المسلم، السنة الخامسة، العدد (۱۱) جمادى الآخرة ١٣٧٥.
فضائل النبي
٤٦٣
على كل والد وولد، ومحسن ومتفضل ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس
بمؤمن» . اهـ
وفي "صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: لأنتَ يا رسول الله أحبُّ إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لَنْ يُؤْمِنَ أحدكم حتَّى أكون أحب إليه من نفْسِهِ». فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي». فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الآنَ يا عُمَرُ». رواه البخاري في كتاب الأيمان والنذور.
وروى ابن إسحاق في "السيرة" والبيهقي في "الدلائل" أن امرأةً من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: خيرا هو بحمد الله كما تحبين. فقالت أرونيه حتى أنظر إليه. فلما رأته قالت كل مصيبة بعدك جلل. أي صغيرة. وقال علي رضي الله : كانَ رسول الله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ». قال سهل بن عبد الله التُستَريُّ: «من امير ولاية الرسول عليه في جميع الأحوال وير نفسه في ملكه صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يذوق حلاوة سُنَّته لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يؤْمِنُ أحدكم حتَّى أكونَ أَحبَّ إليه من نفسه الحديث». اهـ وقال القرطبي: «كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا
٠٤٦٤
المقالات والمقدمات
صحيحا لا يخلو عن وجدانِ شيء من تلك المحبَّة الراجحة إلا أنهم متفاوتون فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى ومنهم من أخذ بالحظ الأدنى كمن كان مستغرقا في الشهواتِ محجوبا في الغفلات، في أكثر الأوقات لكن الكثير منهم إذا ذكر النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية آثاره على جميع ما ذكر لما وقر في قلوبهم من محبته، غير أنَّ ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات». انتهى
والكلام في محبته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بحر واسع نقتصر من جواهره
على ما التقطناه. وما توفيقنا إلا بالله.
فضائل النبي او
٨٤- حنين الجذع معجزة أكبر من إحياء الموتى (1)
٤٦٥
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كانَ جِذْعُ يقوم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فلما وُض