بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول رب العالمين، خاتم المرسلين وشفيع المذنبين
المجلد الثاني من 20 مجلد وورد
موسوعة كل كتب ولي الله تعالى شيخ الإسلام والحديث الحافظ المحدث العلامة المتقن البرفسور الدكتور بالأزهر الشريف عبد الله بن محمـد الصديق الغماري الإدريسي الحسني
| ١٣٢٨ - ١٤١٣هـ|
رحمه الله تعالى
English Translation by Muhammad Umar Ramadhan, UK
Bahasa Indonesia by Syeh Abdul Qodir Darwish, Danny and Taufik
بشرى عظيمة
تحوي تغليق الحافظ عبد الله للحديث القدسي الثابت والحديث النبوي الثابت وفهرست بالأحاديث كاملة مع معجم مفهرس لكل كلمة نصا وبرنامج يحمل من موقعه المذكور بعاليه
رجاء المصنف أن يكون مجدد هذا القرن. وقد تم بفضل الله تعالى انظر موقعه www.AbdullahGhumari.com
وقال الدكتور أحمد علاء دعبس مدرس الفقه الحنفي بالأزهر الشريف: «إنه في عام ۱۹۷۹م رأيت أنني بمسجد سيدنا الحسين رضي الله عنه ورسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يجلس على يسار القبلة على أريكة وهو يلقي درسا، وبعد أن فرغ منه سألته الشفاعة فأخبرني بأنه إذا أردت رجلا من أهل الشفاعة فانظر خلفك فنظرت فإذا بالشيخ عبد الله آت من الباب المقابل للقبلة في جماعة من أحبابه.
وختام الختام فانا نضرع إلي الله تعالي في البدء والتمام أن يصلي علي سيد الأنام محمد بن عبد الله وعلي آله الطيبين وصحابته الكرام , ونسألك يا الله أن تعلي راية الإسلام وأن تحفظنا في ديننا ودنيانا , وتنفع بما كتبناه ونكتبه , تعريفا بكتابك وسنة نبيك وحملة شريعتك , علي الدوام وأن تحشرنا يوم العرض عليك في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك , سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا , انك أنت العليم الحكيم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين |ملحوظة| ثمة أخطاء إملائية نشكر من يصححها ويرسلها إلى zikrsong@yahoo.com
ملحوظة شيخ الإسلام ذكرت هنا: شيخ الإسلام مصطفي صبري - شيخ الإسلام بحاشية البجيرمي - شيخ الإسلام باليمن الحسين العمري - شيخ الإسلام زكريا الأنصاري - - شيخ الإسلام سيدي سالم بوحاجب كبير أهل الشورى للمذهب المالكي - شيخ الإسلام للمذهب الحنفي، عن الشيخ إبراهيم الرياحي كبير أهل الشورى للمذهب المالكي - الطاهر بن عاشور الشريف شيخ الإسلام المالكي - شيخ الإسلام الشوكاني - شيخ الإسلام المصري إبراهيم السقا – والحافظ عبد الله الغماري هو خاتمتهم ومجدد هذا القرن بفضل الله تعالى : غلق ثابت الحديث القدسي والحديث النبوي الذي بدأ بالحافظ شيخ الإسلام السيوطي وشرح أكثر من 5000 حديث وكذلك تلميذه شيخ الإسلام الحافظ التليدي الحسني شرح أكثر من 5000 حديث وخرجها في 8 أجزاء وأتيح العمل وترجم في موقع الحافظ الغماري بحول الله وقوته وبركة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
قائمة محتويات موسوعة العلامة الحافظ الناقد المحدثِ
| ١٣٢٨ - ١٤١٣هـ| رحمه الله تعالى
ويحتوي
المجلد الثاني في الإيمان على:
۱ - فَتْحُ الْمُعِينَ بِنَقْدِ كِتابِ الْأَرْبَعِينَ. (النقد المتين لكتاب الفتح المبين.)
٣ - التَّحْقِيقُ البَاهِر في مَعْنَى الإيمان بالله واليومِ الآخِر.
4 - استمدادُ العَوْن لإثباتِ كُفْرِ فِرْعَونَ.
5 - قُرَّةُ العَيْنِ في أدلة إرسال النبي لا القلين.
٦ - إرشاد الجاهِلِ الغَوِيِّ إلى وجوبِ اعتقادِ أَنَّ آدمَ نبي.
7 - إعلام النبيه بسبب براءة إبراهيم من أبيه.
8 - إثمد العينين ببَيانِ نُبُوةِ الخضر واسم ذي القرنين.
٩ - تَنْوِيرُ البَصِيرة ببيانِ علامات الكبيرة.
١٠ - الحُجَجُ البَيِّنات في إثباتِ الكَرَامَات.
فهرس الموضوعات (العناوين)
۱ - فَتْحُ الْمُعِينَ بِنَقْدِ كِتابِ الْأَرْبَعِينَ أوالنقد المتين لكتاب الفتح المبين
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله المنفرد بالإرادة والتدبير المنزه عن الشَّبيه والنَّدِيد والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، له الأسماء الحُسْنَى والصفات العُلا وهو العلي الأعلى، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله المطهرين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.
أما بعد: فهذا جزء بيَّنتُ فيه أشياء مُنتقدَةً في كتاب "الأربعين في دلائل التوحيد" لأبي إسماعيل الهروي، وقد طبع في السنة الماضية (١٤٠٤هـ) بتعليق
علي بن محمد بن ناصر الفقيهي.
وأبو إسماعيل الهروي وإن كان حافظا؛ فإنه ضعيف في العربية وقواعد
الاستدلال، كما يتبيَّن من نقدنا له بحول الله .
أولا: الفروع الفقهية المتعلقة بالعبادات والمعاملات مبنية على الظن، واليقين فيها قليل، ولذلك حصل فيها الخلاف بين الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، وكان فيهم المخطئ والمصيب، ولم يُضلل أحد منهم مخالفه إذا أخطأ،
بل يعتقدون أنهم جميعًا على هدى وسُنَّة، وأنَّ المخطئ مأجور على اجتهاده. أما التوحيد فالأمر فيه يختلف؛ لأنَّ اليقين في مسائله مطلوب حتما، خصوصا ما يتعلق بصفات الله تعالى، فلا يجوز أن تُثبت له صفةً إلَّا بشروط: أحدها: أن يثبت التصريح بها في آية أو حديث مقطوع به.
ثانيها: ألا يدخلها احتمال المجاز أو التأويل.
غلاة
ثالثها: ألا يكون من تصرف الراوي إذا جاءت في حديث. ثانيا : ليس كل تأويل في بعض صفات الله تعالى باطلا مردودًا كما يزعم غا المثبتة، بل إذا كان التأويل قريبا يحتمله اللفظ ولا يردُّه المعنى، وجب قبوله. ثالثا: إذا احتمل اللفظ معنيين، أحدهما يفيد تنزيه الله تعالى قدم على الذي لا يُفيده؛ لأنَّ التنزيه واجب بإجماع المسلمين.
وهذا حين الشروع في المقصود بعون الله.
نقد باب
إيجاب قبول صفة الله تعالى
وروى بإسناده عن عبيدة عن عبد الله قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، إنَّ الله يضع السماوات على إصْبَعِ والأَرْضِينَ على إِصْبَعِ والجبال عبلى إِصْبَعِ والنَّرى على إِصْبَعِ، ثُمَّ يقول: أنا الملك، قال: فَضَحِك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى بَدَتْ نَواحِدُهُ، ثُمَّ قرأ: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الزمر: ٦٧]، زاد فضيل: «فضحك تعجبا وتصديقا له».
قلت: استدل على أنَّ الإِصْبَعَ صفة الله تعالى بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أقر اليهوديَّ على ما قال وبأنَّ في بعض طرق الحديث زيادة: «تعجبًا
وتصديقا له».
وهذا لا يكفي أبدا في إثبات صفة الله تعالى واعتقادها كما يُعتقد غيرها
الثابت بطريق اليقين، وإليك البيان
أولا: تقرير النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حُجَّةٌ إِذا كان تقريرًا لمسلمٍ، أَمَّا
غير المسلم فلا، هذا هو المقرَّر في علم الأصول. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" في مبحث التقرير: «ولابد أن يكون المقرر منقادًا للشرع، فلا يكون تقرير الكافر على قول أو فعل دالا على الجواز، قال الجويني: ويلحق بالكافر المنافق، وخالفه المازري فقال: إنا نجري على المنافق أحكام الإسلام في الظاهر، وأجيب عنه بأن النبي صلى الله عليه وآله
وسلَّم كان كثيرًا ما يسكت عن المنافقين لعلمه أنَّ الموعظة لا تنفعهم».اهـ
فتح المعين
فسقط كلام ابن خزيمة؛ لأنه مخالف لما تقرر في الأصول.
ثانيا: إِنَّ ضَحِك النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليس نصا في تصديق اليهودي كما فهم الراوي، بل يحتمل الإنكار، وتلاوة الآية أولى بالدلالة على الإنكار؛ لأن الآية لا ذكر فيها للأصابع، وإذا احتمل الدليل وجهين سقط به الاستدلال. ثالثًا: إنَّ الأصابع لم تأتِ في خبر مقطوع به كما قال الخطابي ووافقه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
رابعا: أنها لم تخل من تأويل صحيح موافق للغة العرب. قال الخطابي: ولعلَّ ذِكْر الأصابع من تخليط اليهودي، فإنَّ اليهود مُشَبِّهَةٌ، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين، وأما ضحكه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مِن قول الخبر فيحتمل الرضا والإنكار، وأمَّا قول الراوي: تصديقا له» فظن منه وحسبان، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظاً، فهو محمول على تأويل قوله تعالى: وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِئَتُ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: ٦٧] أي: قدرته على طيها، وسهولة الأمر في جمعها بمنزلة من جمع شيئًا في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه، بل يقله ببعض أصابعه، وقد جرى في أمثالهم: فلان يقل كذا بإصبعه ويعمله بخنصره» . اهـ
وستأتي بقية لهذا البحث في «باب إثبات الأصابع لله عزّ وجلَّ» إن شاء الله .
نقد باب
الرد على من رأى كتمان أحاديث صفات الله تعالى
وروى من طريق الترمذي في "سننه" : حماد عن سلمة، بن عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في قوله عزّ وجل: فَلَمَا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّا ﴾ [الأعراف: ١٤٣] أشار أنس بطرف إصبعه على أول بنان من الخنصر ، وكذلك أشار ثابت البناني، فقال له حميد الطويل: ما تريد بهذا يا أبا محمد؟ فرفع ثابت يده فضرب صدره ضربة شديدة، وقال: من أنت يا حميد ؟! وما أنت يا حميد؟! يُحدِّثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول أنت: ما تريد بهذا؟». اهـ
وأقول : حماد بن سلمة وإن كان ثقة فله أوهام - كما قال الذهبي - ولم يخرج له البخاري، ومن أوهامه ما رواه عن عكرمة، عن ابن عباس: رأيتُ ربي جَعْدًا أَمْردَ عليه حُلَّةٌ خَضْراء».
وروى عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس : أَنَّ محمَّدًا رأى ربَّه في صورة
شابٌ أَمْرَد دونه سر من لؤلؤ قَدَمَيْهِ أَو رِجْلَيْهِ فِي خُضْرَةٍ. قال الذهبي في "الميزان": فهذا من أنكر ما أتى به حماد بن سلمة، وهذه الرؤية رؤية منام إن صحت» . اهـ قلت: أولا: حديث المنام رواه الترمذي بلفظ: «رأيت ربي في صورة حَسَنةٍ». وهذا اللفظ لا نكارة فيه والصورة معناها الصفة وفي "المسند":
«رأيت ربي». فزيادة: «في صورة شاب أمرد»، تجسيم صريح لا يعتقده مسلم، وإنما يليق بعقيدة اليهود لعنهم الله.
ثانيا: لو فرضنا صحة نسبة الأصابع الله تعالى فهي كما قال ابن بطال في "شرح البخاري": «لا يُحمل ذكر الإصبع على الجارحة، بل يُحمل على أنه صفة من صفات الذات لا تُكَيَّف ولا تُحدَّد، وهذا يُنسب للأشعري». اهـ ولا يجوز أن تُثبت فيها خِنْصَرًا وإبهامًا وبَنانًا، فإن هذا تكييف وتشبيه صريح لا يليق بالله سبحانه، وهذا الحديث لا يكفي في إثبات ذلك. روى البيهقي في "الأسماء والصفات" عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله لما قَضَى خَلْقَه اسْتَلْقَى ثُمَّ وَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيه على الأُخرى، ثُمَّ قال: لا ينبغي لأحدٍ مِن خَلْقِي أن يفعل هذا». وقال: «هذا حديث منكر لم أكتبه إلا من هذا الوجه، فليح بن سليمان مع كونه من شرط البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح».
ثم روى عن عروة بن الزبير: «أنَّ أباه سمع رجلًا يُحدث حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فاستمع له، حتى إذا قضى الرجل حديثه، قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم؟ قال الرجل: نعم، قال: هذا وأشباهه مما يمنعنا أن نُحدّث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، لَعَمري قد سمعت هذا من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأ هذا الحديث فحدثنا عن رجل من أهل الكتاب حدَّثه إيَّاه، فجئت أنت يومئذٍ بعد أن قضى صَدْرَ الحديث وذكر الرجل من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم». قال البيهقي: ولهذا الوجه من الاحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا
الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله».
ثُمَّ تكلَّم على بيان بطلان حديث الاستلقاء (٣٥٧) من "الأسماء والصفات".
قلت: وحديث الاستلقاء موضوع بلا شك، وقد ثبت النهي عن وضع الرّجُل على الرّجل بدون زيادة الاستلقاء.
ففي "المسند" عن أبي النضر : أنَّ أبا سعيد كان يشتكي، فدخل عليه أخوه وقد جعل إحدى رجليه على الأخرى، فضرب بيده على رجله الوَجعَة فأوجعه، فقال أوجعتني أو لم تعلم أنَّ رِجلي وَجِعَةٌ؟! قال: بلى، قال: فما حملك على ذلك ؟ قال : أو لم تعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قد نهى عن هذه ؟!
قال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح إلَّا أنَّ أبا النضر لم يسمع من أبي سعيد». قال البيهقي: وأمَّا النهي عن وَضْعِ الرَّجُلِ إحدى رجليه على الأُخرى، فقد رواه أبو الزبير عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم دون هذه القِصَّة، وحمله أهل العلم على ما يُخشى من انكشاف العورة إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى مستلقيا والإزار ضيق، وهو جائز عند الجميع إذا لم يخش ذلك». اهـ وحديث جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط". ثالثا: أنَّ الحديث يُخالف القرآن قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَا ﴾ [الأعراف: ١٤٣] ولا إشعار في الآية بخِنْصَرٍ ولا بَنان، فكيف نثبت الله صفة لم يدل عليها القرآن ولا الإجماع؟! ويمكن تأويل الحديث بأن الخنصر وما معه ليس صفة الله، وإنما ذكر لبيان أنَّ التجلي كان بمنزلة الخِنْصَرِ والبنان من أحد النَّاس، تنبيها على عظمة الله سبحانه.
يؤيد هذا أن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار قالا: «ما تجلى من عظمة الله للجَبَلِ إِلَّا مثل سَمِّ الْخِيَاطِ».
وقال الضَّحَّاك: «أظهر الله من نور الحُجُب مثل مِنْخَرِ ثَورٍ. وقال السُّدِّي: «ما تجلّى إِلَّا قدر الخِنْصَرِ». فتبيَّن خطأ المؤلّف في فهمه المأخوذ من الترجمة، والله أعلم.
نقد باب
أنَّ الله تبارك وتقدس وتعالى شيء
وروى فيه حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنها سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر : «مَا مِن شَيْءٍ أَغْيَرَ مِن الله عزَّ وجلَّ». قلت: هو في "صحيح البخاري" في باب الغيرة»، وهو مروي بالمعنى، فقد رواه البخاري من حديث ابن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما بلفظ: «ما مِن أحدٍ أَغْيَرَ مِن الله». وبينا فيما سبق أن شرط إثبات الصفة: ألا تكون مروية بالمعنى، إذ تكون حينئذ من تصرف الرواة وإذا كان أبو حَيَّان وجماعةٌ منعوا الاستدلال بالحديث في المسائل النحوية، قالوا: لأنَّ الحديث دخل فيه الرواية بالمعنى. فكيف يستجيز المؤلّف أن يُثبت صفة الله تعالى بحديث تصرف فيه الرُّواة؟! هذا تساهل غير محمود.
نقد باب
بيان أنَّ الله عزَّ وجلَّ شخص
وروى فيه حديث المغيرة، في غيرة سعد بن عبادة، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أنا أَغْيرُ مِن سعد، والله أَغْيَرُ مِنِّي... ولا شخصَ أَغَيرُ مِن الله عزّ وجلَّ» الحديث.
وهو في "صحيح البخاري" معلقا: عن عبيد الله بن عمرو، عن عبدالملك: الا شخص أَغْيَرُ مِن الله». وأسنده من طريق عبدالملك عن ورّاد كاتب المغيرة بلفظ: «والله أغير مِنّي... ولا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ مِن الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحبُّ إليه المِدْحَةُ مِن الله، ومن أجل ذلك وَعَدَ الله الجنَّة».
فتبين أن الرواة تصرفوا في لفظ الحديث، فلا يكون حُجَّةٌ في وصف الله بشخص، وقد قال ابن بطال في "شرح البخاري": «أجمعت الأمة على أنَّ الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأنَّ التوقيف لم يرد به». اهـ والشخص: سَوَاد الإنسان والحيوان، يُرى من بعد، فلا يُطلق في اللغة إلا على جسم ولا أدري سِرَّ حِرْص المؤلّف على نسبة الشيء والشخص والإصبع والخنصر والبنان صفة الله تعالى، مع أنها ليس فيها كمال ولا ثناء، والله الأسماء الحسنى والصفات العُلا، وهذه الأشياء - ولا أقول الصفات - هي بالمخلوقات أولى. أهذا هو التوحيد الذي يستدل له المؤلف ويجتهد في إثباته الله؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا، وعلى فرض ثبوت لفظ شخص، فلا يدل على أنه وصف الله تعالى.
قال ابن بطال : اختلفت ألفاظ هذا الحديث، ولم يختلف في حديث ابن مسعود أنه بلفظ: «لا أحد، فظهر أن لفظ «شخص» جاء موضع «أحد»، فكأنه من تصرف الراوي، على أنه من باب المستثنى من غير جنسه، كقوله تعالى: وَمَا هُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ [النجم: ٢٨] وليس الظن من نوع العلم» . اهـ
قال الحافظ: «وهذا هو المعتمد، قال ابن فورك وإنما منعنا من إطلاق لفظ الشخص أمور:
أحدها: أنَّ اللفظ لم يثبت من طريق السمع.
ثانيها: الإجماع على المنع منه.
ثالثها: أن معناه: الجسم المؤلف المركَّب».اهـ
(تنبيه): وقع في سند المؤلف: «ثنا كاملة» وكتب عليه المحقق علامتي استفهام هكذا ؟؟» علامة على أنه كذلك بالأصل، وهو تصحيف لم ينتبه له المحقق. والصواب: ثنا أبو كامل»، وهو يروي عن أبي عوانة، كما في "تهذيب
التهذيب"، والله أعلم.
نقد باب
إثباتِ النَّفْسِ الله عزَّ وجلَّ
وروى فيه حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سبُحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، ومِدَادَ كَلِماتِهِ، ورِضَا نَفْسِهِ». وهو في صحيح مسلم، وجاء لفظ النفس في القرآن في عدة آيات.
قال البيهقي: ومعنى قول من قال: الله سبحانه وتعالى أنه نفس: أنه موجود ثابت غير منتفٍ ولا معدوم، وكل موجود نفس، وكل معدوم ليس بنفس، والنفس في كلام العرب على وجوه:
فمنها: نفس مَنْفُوسَةٌ مُجسَّمة مُروّحة.
ومنها: مُجسّمة غير مُروّحة، تعالى الله عن هذين علوا كبيرًا.
ومنها: نفس بمعنى إثبات الذات، كما تقول في الكلام هذا نفس الأمر، تريد إثبات الأمر ، لا أنَّ له نفسًا منفوسة أو جسما مروحًا، فعلى هذا المعنى يقال في الله سبحانه أنه نفس، لا أن له نفسًا منفوسةً أو جِسْمًا مُرَوَّحًا. وقد قيل في قوله عزّ وجلَّ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ [المائدة: ١١٦]. أي تعلم ما أُكِنه وأسره ولا علم لي بما تستره عنّي وتغيبه، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فإن ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي». أي حيث لا يعلم به أحد ولا يطلع عليه».اهـ
فتبيَّن أنَّ إطلاق النفس على الله تعالى بمعنى الذات، وليس هو صفة زائدة كما يُفهمه كلام المؤلّف. قال ابن بطال : في هذه الآيات والأحاديث إثبات النفس الله، وللنفس معان، والمراد بنفس الله ذاته وليس بأمر مزيد عليه، فوجب أن يكون هو. اهـ وأعود فأقول : لا أدري سِرَّ حِرْص المؤلّف على نسبة الألفاظ الموهمة
صفةٌ الله عز وجل.
نقد باب
الدليل على أنه تعالى في السماء
وروى فيه حديث ابن عباس، قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جارية أعجمية سوداء فقال: عليَّ رقبة، فهل تُجزئ هذه عنِّي؟ فقال: «أين الله؟» فأشارت بيدها إلى السماء، فقال: من أنا؟» فقالت: رسول الله. قال: «أعتقها فإنَّها مؤمنةٌ». ثم قال المؤلف: حديث معاوية بن الحكم أصح
إسنادًا من هذا.
قلت: إسناد هذا الحديث فيه سعيد بن المرزبان ضعيف مدلس، بل متروك.
وحديث معاوية بن الحكم، في "صحيح مسلم"، لكنه شاد مردود لوجوه: أولا: مخالفته لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان إذا أتاه شخص يريد الإسلام سأله عن الشهادتين فإذا قبلهما حكم بإسلامه. وفي "الموطأ" عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود: أنَّ رجلا من ال الأنصار جاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم بجارية سوداء، فقال: يا رسول الله على رقبة مؤمنة، فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم، قال: «أتشهدين أنَّ محمدًا رسول الله؟ قالت نعم قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟» قالت: نعم، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَعْتِقُها». وهذا هو المعلوم من
حال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ضرورة.
ثانيًا: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بين أركان الإيمان، في حديث سؤال جبريل، حيث قال: «الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليومِ
النبي
الآخِرِ وتُؤمن بالقَدَرِ خَيْره وشَرِّه. ولم يذكر فيها عقيدة أنَّ الله في السماء. ثالثا: إنَّ العقيدة المذكورة لا تُثبت توحيدًا ولا تنفي شركا، فكيف يصف صلى الله عليه وآله وسلَّم صاحبها بأنه مؤمن؟! كان المشركون يعتقدون أنَّ الله في السماء ويشركون معه آلهة في الأرض، ولما جاء حصين بن عتبة، أو ابن عبيد والد عمران إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فسأله: «كم تعبدُ مِن إله ؟ قال : ستة في الأرض وواحدا في السماء.
وقال فرعون الهامان: فأجعل لي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [القصص: ٣٨] لاعتقاده أنَّ الله في السماء، ومع ذلك قال لقومه : فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ
الأعلى ﴾ [النازعات: ٢٤]. رابعا: أنَّ كون الله في السماء ليس على حقيقته عند جماعة من العلماء، بل هو
مؤوّل عندهم على معنى العلو المعنوي.
قال الباجي على قول الجارية: «في السماء»: «لعلها تريد وصفه بالعلو، وبذلك يوصف من كان شأنه العلو، يقال: مكان فلان في السماء، يعني عُلَو حاله ورفعته وشأنه». وذكر الشبكي في "طبقات الشافعية" الأبيات المنسوبة لعبد الله بن رواحة: شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرِينَـــا وأَنَّ العَرْشَ فَوْقَ المَاءِ طَافِ وفَوقَ العَرْشِ رَبُّ العَالَمينـــا
وقال عقبها: ما أحسن قول الإمام الرافعي في كتاب "الآمالي" وقد ذكر هذه الأبيات: هذه الفوقية فوقية العظمة والاستغناء، في مقابلة صفة الموصوفين بصفة العجز والفناء» . اهـ وأركان الإيمان لا يدخلها التأويل
نقد باب
وضع الله عز وجل قدمه على الكرسي
وروى فيه عن ابن عباس قال: إنَّ الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر
أحد قدره. قال : ويروى عن أبي موسى، وأبي هريرة، وعكرمة وأبي مالك. قلت: أثر أبي موسى رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"، وروى نحوه عن السُّدِّي أيضًا، والموقوفات والمقطوعات لا يُحتج بها في الأحكام الفقهية، فكيف يستدل المؤلّف بها في التوحيد ؟ هذا عجيب!.
وذكر السيوطي في "الدر المنثور" أثر أبي موسى بلفظ: «الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأَطِيطِ الرَّحْل». وكذلك ذكره ابن جرير، قال السيوطي: «هذا على سبيل الاستعارة تعالى الله عن التشبيه ويوضّحه ما أخرجه ابن الضحاك جرير عن في الآية، قال: كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي تجعل الملوك عليه أقدامهم» . اهـ
وروى الخطيب في "التاريخ" عن عبد الله بن خليفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الكرسي الذي يجلس عليه الربُّ عزَّ وجلَّ، وما يفضل منه إلَّا قَدْر أربع أصابع، وإن له أطِيطًا كأطِيطِ الرَّحْل الجديد». هذا مرسل، وهو منكر جدا، بل موضوع.
نقد باب
إثبات الحد الله عزَّ وجلَّ
وروى حديث أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال في دعائه: أنتَ الظاهر فليس فوقك شيء، وأنتَ الباطن فليس دونك شيء». وهو في
صحیح مسلم . ولفظ : «الحد» لم يأت في الكتاب ولا في السُّنَّة، وإثباته إنما يكون بدلالة الالتزام كما في هذا الحديث على بعض معاني الظاهر، فإن له معان كثيرة مذكورة في كتب التفسير واللغة.
ونبهنا فيما مرَّ على أنه لا يجوز إثبات صفة الله تعالى إلَّا إذا جاءت صريحة في القرآن أو السُّنَّة. وذكر الشبكي في ترجمة ابن حِبَّان من طبقات الشافعية" عن المؤلّف أنه قال: سألت يحيى بن عمار عن ابن حِبَّان، قلت: رأيته؟ قال: وكيف لم أره ؟! ونحن أخرجناه من سَجِسْتان، كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين، قدم علينا فأنكر الحمد لله، فأخرجناه من سجستان». قال الشبكي: انظر ما أجهل هذا الجارح ، وليت شعري من المجروح، مثبت الحد الله أو نافيه ؟! وقد رأيت للحافظ صلاح الدين خليل بن كَيْكَلَدِي العلائي رحمه الله، على هذا كلاما جيدًا أحببت نقله بعبارته، قال رحمه الله، نقلت: «يا الله العجب! من أحقُّ بالاخراج والتبديع وقلة
ومن
الدين؟!» . اهـ
وذكر الذهبي هذه القصة في تذكرة الحفاظ" وعلق عليها بقوله: «كلاهما
مخطئ، إذ لم يأتِ نص بإثبات الحد ولا بنفيه ، ومِن حُسنِ إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه . اهـ
قلت: بل النا في مصيب؛ لأنه متمسك بالأصل، والإجماع على أنَّ الله تعالى
لا يوصف إلا بنص قطعي.
وروى البيهقي في "الأسماء والصفات" عن أفلح بن محمد قال: «قلت لعبد الله بن المبارك : يا أبا عبدالرحمن إني أكره الصفة - عَنَى صفة الرب تبارك وتعالى - فقال له عبد الله أنا أشد الناس كراهية لذلك، لكن إذا نطق الكتاب
بشيء جسرنا عليه، وإذا جاءت الأحاديث المستفيضة الظاهرة تكلمنا به». قال البيهقي: «وإنما أراد - والله أعلم - الأوصاف الخبريَّة، ثُمَّ تكلُّمهم بها على نحو ما ورد به الخبر لا يُجاوِزونه» . اهـ
لكن خالف ابن المبارك كلامه هذا وأثبت الحد الله، وهو خطأ بلا شك.
نقد باب
في إثبات الجهات الله عزَّ وجلَّ
وروى فيه حديث عبدالله بن عمرو قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ على مَنابِرَ مِن نُورٍ عن يَمِينِ الرَّحمنِ، وَكِلْتا يديه يَمِينُ».
والحديث في "صحيح مسلم".
وفيه ما يدل على نفي الجهة عن الله تعالى، فقوله: «وكلتا يديه يمين»، قال القاضي عياض: «هو تنبيه على أنه لم يرد باليمين ولا باليد الجارحة؛ لأنه لو أريد به ذلك لكان المقابل لليمين الشمال، وتستحيل نسبة الجارحة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك إنما يكون في الأجسام المتحيزة المقدرة ذوات الجهة،
وكل ذلك على الله سبحانه محال» . اهـ
فظهر أنَّ الحديث ينفي الجهة، وأنَّ فهم المؤلف خطأ، ثُمَّ ما غرضه بإثبات
الجهة الله مع أنها من خواص الأجسام المتحيزة؟!
نقد باب
إثبات الصورة له عزَّ وجلَّ
وروى حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: خَلَقَ الله آدم عليه السَّلام على صُورَتِهِ، طوله ستُون ذِرَاعًا».
وهذا حديث مختصر من حديث في الصحيحين"، والاستدلال به لإثبات
الصورة الله عزّ وجلَّ غلو في الإثبات مذموم؛ فإن الضمير في صورته يعود على آدم لأنه أقرب مذكور، ويؤيد ذلك قوله: «طوله ستون ذِراعًا»، وقوله في آخر الحديث عن أهل الجنة: «على خَلْقٍ رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا
في السماء». فالحديث كما ترى يُبيّن أنَّ الضمير في صورته يعود على آدم. قال الحافظ في "الفتح": «والمعنى أنَّ الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشأة أحوالا ، ولا تردَّد في الأرحام أطوارا كذريته، بل خلقه الله رجلا كاملا سويًا من أول ما نفخ فيه الروح، ثم عقب ذلك بقوله: وطوله ستون ذراعًا». فعاد الضمير أيضًا على آدم، وقيل معنى قوله: «على صورته أي لم يشاركه في خلقه أحد، إبطالاً لقول أهل الطبائع، وخُصَّ بالذكر تنبيها بالأعلى على الأدنى». اهـ كلام الحافظ.
قلت: وعود الضمير في صورته على آدم يشير لإبطال زعم داروين: أن
الإنسان أصله قرد، فأفاد الحديث أنَّ آدم خُلِق من أول مرة إنسانًا لا أصل له غير ذلك، وهذه معجزة عظيمة تؤخذ من الحديث، أما جعل الضمير في
صورته يعود على الله فهو خطأ من تصرف بعض الرواة.
وقد استنكره كثير من العلماء وأخذ بظاهره ابن قتيبة فقال: الله صورة لا كسائر الصُّور». وهذا خطأ أيضًا؛ لأن الصورة تتوقف على مُصَوِّر، كما قال الله
تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: ٦] وقال سبحانه: ياتها الإِنسَنُ مَا غَرَكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّنَكَ فَعَدَلَكَ لا فِي أَي صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَبَكَ ﴾[الانفطار: ٦ - ١٨ فوصف الله بالصورة لا يجوز؛ لأنها محدثةٌ والله تعالى لا يوصف بالمحدث، تعالى الله عن ذلك، وتأويل الصورة بالصفة لا يجدي في هذا المقام.
قال البيهقي في "الأسماء والصفات": وذهب بعض أهل النظر إلى أنَّ الصور كلها الله تعالى على معنى الملك والفعل، ثُمَّ ورد التخصيص في بعضها بالإضافة تشريفا وتكريما، كما يقال ناقة الله، وبيت الله، ومسجد الله» . اهـ
وهو كلام حسن.
نقد باب
إثبات العينين له تعالى وتقدس
وروى فيه حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا مِن نبيٍّ إِلَّا وقد أَنْذَرَ أُمَّته الأَعْوَرَ الكَذَّابِ أَلَا إِنه أَعُورُ، وَإِنَّ رَبَّكُم
عزّ وجلَّ ليس بأغور، مكتوب بين عينيه ك ف ر».
والحديث ليس فيه إثبات العينين الله، فمن أين أتى بها الهروي؟! إن كان فهم من قوله: «إنَّ ربَّكم ليس بأغورَ أنه يستلزم أن يكون له عينان، فهذا غلط واضح؛ فإنَّ الصفات الله تعالى لا تثبت إلا بلفظ صريح في حديث صحيح.
وقد جاء في القرآن إثبات العين الله مفردة كقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عيني [طه: ٣٩] ومجموعة كقوله سبحانه: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: ٤٨] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [هود: ۳۷] تَجْرِى بِأَعْيُنا ﴾ [القمر: ١٤] وهذا يدل على أن
نسبة العين إلى الله معناه صفة البصر، أو الحفظ والكلاءة. وقال ابن حزم: «لا يجوز لأحد أن يصف الله عزّ وجلَّ بأن له عينين؛ لأن النص لم يأتِ بذلك». اهـ
دليل.
وهكذا شأن الهروي في كتاب "الأربعين " ، يثبت صفات الله لم يقم عليها
نقد باب
إثبات اليدين الله عزَّ وجلَّ
وروى عن ابن عبّاس: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ آدم عليه السَّلام كان يُسَبِّح بتَسْبِيحِ الملائكة، ويُصلِّي بصلاتهم حين هَبَطَ إلى الأرض؛ لطُّولِه وقربه إلى السَّماء، فوضع الله يده عليه فطأطأت إلى الأرض
سبعين ذراعًا».
هذا حديث منكر جدا بل موضوع؛ لأنه مُحال، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يتكلم بالمحال، وماذا عسى أن يكون طول آدم حتى يسمع تسبيح الملائكة في السماء؟! وإنَّ بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وماذا تنقص سبعون ذراعا من طوله؟! فالهروي دلَّ باستدلاله بهذا الحديث على أنه ليس بحافظ، وأنه ضعيفٌ في فهم معنى الكلام، فإنَّ من له أدنى إدراك، يعلم بطلان هذا الحديث.
نقد باب
خلق الله الفردوس بيده
وروى حديث أنس بن مالك: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله عزّ وجلَّ خَلَقَ الفِرْدَوسَ بِيَدِهِ، وحَظَرها على كلِّ مُشْرِكِ ومُدْمِن خَمْرٍ سِكِّيرِ». هذا غلو في الإثبات بدون تعقل، فهذا الحديث ومثله، كحديث: «إنَّ الله خَلَقَ جنَّة عدن بيده وحديث: خَلَقَ الله آدم بيده»، وقوله تعالى: يَا بَلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَكَ ﴾ [ص: ٧٥] هذه كلها، لا تثبت اليد صفة الله، بل هي تدل على العناية والتخصيص، فإن الله كنَّى عن عنايته بالفردوس بأنه
خلقها بيده، وكذلك جنة عدن، وبيَّن عنايته بآدم وتخصيصه بالعلم والخلافة في الأرض بأنه خلقه بيديه، ردا على إبليس الذي امتنع من السجود لآدم عليه السّلام، وليس كل ما يذكر في الآيات والأحاديث على سبيل العناية والتخصيص يكون صفة الله تعالى مثل اليدين، ودليلنا على ما نقول : قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَهُ أَن تَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [النحل : ٤٠].
وفي الحديث القدسي: «عَطَائِي كَلامٌ، وَعَذَابِي كَلامٌ».
فآدم عليه السَّلام وجنَّة الفردوس، وجنَّة عدن، والعرش، والكرسي كلها مخلوقة بقول الله: «كن».
وقد بالغ عثمان الدارمي في الإثبات حتى زعم أنَّ الله خلق آدم بيده مسيسا، وهذا تشبية صريح، ثُمَّ إنَّ اليد جاءت في القرآن مُفردةٌ ومُثناة ومجموعة، نحو: يَدُ اللَّهِ فَوقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [الفتح: ١٠] بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ [المائدة: ٦٤ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَكَما فَهُمْ لَهَا ﴾ [يس: ٧١]. فلو أخذنا بهذه الآيات، أثبتنا له يدا ويدين وأيديا، وهذا باطل. فلم يبقَ إِلَّا أَن يكون التعبير باليد مُؤوّلًا بما يقتضيه أسلوب الكلام، فتارة يؤوّل بالقُدْرَةِ، وتارة بالنعمة، وتارة بالعناية ،وهكذا، ولا بد من التأويل، وإن زعم غلاة المثبتة أنه تجهم، وبالله التوفيق.
نقد باب
إثبات الخط الله عزَّ وجلَّ
وروى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «احتج موسى وآدم عليهما السَّلام فقال موسى أنت أبونا، خَيَّبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: يا موسى اصطفاك الله عزَّ وجلَّ بكلامه وخط لك التوراة
بيده، تلومني على أمرٍ قد قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟!». والحديث في "الصحيحين"، وجاء بألفاظ، منها: «أنت موسى الذي أعطاك اللهُ عِلْمَ كلّ شيءٍ، واصطفاك على الناس برسالته»، ومنها: «وأعطاك الألواح فيها بيان كلّ شيءٍ»، ومنها: «اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة». فالحديث كما ترى مروي بالمعنى، فما السِّرُّ في اختيار المؤلّف لفظ: «خطّ لك التوراة؟!». أيريد أن يثبت الله الخط؟! وهذا لا يتم له؛ لأنه لا يقدر أن يجزم بأنَّ هذا لفظ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والإجماع على أنه لا يجوز وصف الله بالخط، فلا يقال فيه خطاط ولا كاتب، مع أنه قال: ﴿ وَكَتَبْنَالَهُ فِي الألواح ﴾ [الأعراف: ١٤٥] ثُمَّ المقرَّر عند العلماء أنَّ المسائل العلمية المتعلقة بالذات أو الصفات لا يُعمل فيها بأخبار الآحاد، نبه عليه الأبي في "شرح
مسلم".
نقد باب
أخذ الله صدقة المؤمن بيده
وروى حديث ابن مسعود: إنَّ الصَّدقة تقع في يد الله عزَّ وجل قبل أن تقع
في يد السائل قرأ عبد الله (...).
وكتب المعلق : هنا كلمة غير واضحة، وروي عن عائشة مرفوعا مثله. قلت: حديث ابن مسعود موقوف عليه، فلا حُجَّة فيه، وحديث عائشة لفظه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنَّ الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيّب، ولا يقبل الله إلَّا الطَّيب، فيتلقاها الرحمن تبارك وتعالى
بیده، فيُربِّيها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه أو وَصِيفَهُ - عبده - أو فَصِيلَهُ». واليد هنا كناية عن القبول بدليل: «لا يقبل الله إلا الطيب»، وأورده
الهيثمي في مجمع الزوائد" تحت باب: «لا يقبل الله إِلَّا الطَّيب».
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: «مَن تَصدَّق بِعَدْل تمرةٍ مِن كَسْبٍ طيب ولا يقبل الله إلا الطيب - فإنَّ الله يقبلها بيمينه، ثُمَّ يربيها لصاحبها كما
يُرَبِّ أحدكم فَلُوَّه حتّى تكون مثل الجبل».
وفي "صحيح مسلم": «إِنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَل إِلَّا طَيِّبًا».
فكيف يُثبت الله صفة اليد مع قيام الدليل على أنَّ المراد بها القبول؟ ألم أقل
إنه ضعيف في العربية؟!
نقد باب
إثبات الأصابع الله عزَّ وجلَّ
وروى عن
عائشة
رضي
الله عنها قالت: دعوة كان رسول الله يكثر أن
يدعو بها: «يا مُقَلّب القُلُوبِ ثَبِّت قلبي على دينك». قالت عائشة: يا رسول الله دعوة أراك تكثر أن تدعو بها؟ قال: «ما من آدميٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بين إِصْبَعِين مِن أصابع الرَّحمن عزَّ وجلَّ، فإذا شاء أن يُقيمَهُ أقامه، وإذا شاء أن يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ». تقدَّم أنَّ «أصابع» لم تأتِ في خبر مقطوع به، فلا تُنسب صفة الله تعالى، ثم هي مؤولة.
قال ابن حزم: بين إصبعين بمعنى بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عزّ وجل ونعمه، إ ونعمه، إما كفاية تسره، وإما بلاء يأجره عليه، والإصبع في اللغة النعمة،
وقلب كل أحد بين توفيق الله وجلاله، وكلاهما حُكمه عزَّ وجلَّ» . اهـ
مُقَدِّمات
ونقل البيهقي عن أبي حاتم أحمد بن محمد الخطيب أنه قال في تأويل الحديث: «قيل معناه تحت قُدْرَته ومُلْكِه، وفائدة تخصيصها بالذكر أنَّ الله تعالى جعل القلوب محلا للخواطر والإرادات والعزوم والنيات، وهي الأفعال، ثم جعل الجوارح تبعًا لها في الحركات والسكنات. ودل بذلك على أنَّ أفعالنا مقدورة الله تعالى مخلوقة، لا يقع شئ دون إرادته، ومثل لأصحابه قدرته القديمة بأوضح ما يعقلون من أنفسهم؛ لأن المرء لا يكون أقدر على شيء منه على ما بين إصبعيه، ويحتمل أنها نعمتا النفع والدفع، أو بين أثريه في الفضل والعدل، يؤيده قوله: «إذا شاء أقامه وإذا شاء أزاغه». ويوضّحه قوله: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي..»، وإنما ثنّى لفظ الإصبعين، والقدرة واحدة؛ لأنه
جرى على المعهود من لفظ المثل.
قال البيهقي: وزاد عليه غيره في تأكيد التأويل الأول بقولهم: ما فلان إِلَّا في يدي، وما فلان إلا في كفّي، وما فلان إِلَّا في خنصري، يريد بذلك إثبات قدرته عليه، لا أن خنصره يحوي فلانا وكيف يحويه وهي بعض من جسمه؟! وقد يكون فلان أشد بطشًا وأعظم منه جسما» . اهـ
وقال ابن بطال: «لا يحمل ذكر الأصابع على الجارحة، بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات لا تُكيَّف ولا تُحدّد، وهذا ينسب إلى الأشعري،
ووافقه ابن التين .
وقال الخطابي: «لم يقع ذكر الأصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أنَّ اليد ليست بجارحة حتى يُتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يُكَيَّف ولا يُشَبَّه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإنَّ اليهود مُشَبِّهة، وفيما يَدَّعُونَه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين، وأمَّا ضحكه صلَّى الله عليه وآله وسلم من قول اليهودي، فيحتمل الرّضا والإنكار، وأما قول الراوي: تصديقا له» فظن منه ،وحسبان، وقد جاء الحديث من عِدة طرق ليس فيها هذه الزيادة، وعلى تقدير صحتها، فقد يُستدل بحُمرة الوجه على الخجل، وبصفرته على الوَجَل، فيكون الأمر بخلاف ذلك، فقد تكون الحمرة لأمر
حدث في البَدَن، كثوران الدم، والصُّفْرة لثوران خلط من مرار وغيره. وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظا فهو محمول على تأويل قوله تعالى:
وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَتُ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: ٦٧] أي قدرته على طيها، وسهولة
الأمر عليه في جَمعِها بمنزلة من جمع شيئًا في كفه واستقل بحمله من غير أن
يجمع كفه عليه بل يقله ببعض أصابعه». اهـ
والخطابي لم ينكر ورود الأصابع في حديث، وإنما أنكر أنَّ الحديث مقطوع به، وكلامه صحيح كما قال الحافظ، والمقصود أنَّ ذكر الأصابع صفة الله تعالى، ليس متفقا . متفقا عليه مع احتماله للتأويل، والهروي متساهل في إثبات الصفات بمجرد ورودها في الحديث من غير أن ينظر هل هي من تصرف الراوي أو نحو ذلك من الاحتمالات.
نقد باب
إثبات الضحك الله عزَّ وجلَّ
وروى عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ضَحِكَ الله مِن رَجُلين قَتَلَ أحدهما صاحبَه ثُمَّ دَخَلَا الجنَّة».
والحديث في "الصحيحين"، ولفظه في "صحيح البخاري": "يَضْحَكُ الله إلى رَجُلين يقتل أحدهما الآخر، يَدخُلان الجنَّةَ يُقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل، ثُمَّ يتوب الله على القاتل فيُسْتَشْهَد». ورواه النسائي بلفظ: «إِنَّ اللَّهَ يَعْجَبُ مِن رَجُلين». فالحديث مروي بالمعنى.
قال الخطابي: «الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى، وإنما هذا مَثَل ضرب لهذا الصنيع الذي يَحِل محل الإعجاب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه: الإخبار عن رضى الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حالهما، قال: وقد تأوّل البخاري الضَّحك في موضوع آخر على معنى الرحمة، وهو
قريب، وتأويله على معنى الرّضا أقرب، فإنّ الضحك يدل على الرّضا
والقبول، والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحُسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله: يضحك الله» أي يُجْزِل العطاء وقد يكون معنى ذلك أن يعجب ملائكته ويُضحكهم من صنيعهما، وهذا يتخرّج على المجاز، ومثله في الكلام يَكثُر » . اهـ وقال ابن الجوزي: «أكثر السَّلفِ يمتنعون من تأويل مثل هذا، ويُمرونه كما جاء، وينبغي أن يُراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا يُشبه صفات الله
صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه، مع اعتقاد التنزيه». اهـ قال الحافظ: ويدل على أنَّ المراد بالضحك الإقبال بالرضا، تعديته بـ«إلى»،
تقول: ضحك فلان إلى فلان، إذا توجّه إليه طَلّق الوجه مُظْهِرًا الرضا عنه» . اهـ وذكر البيهقي في "الأسماء والصفات" بعض الأشعار التي جاء الضحك فيها بمعنى الرّضا، منها قول زهير : تَرَاهُ إذا ما جِئْتَه مُتَهَللًا كَأَنَّكَ تُعطيه الذي أنتَ سَائله وقول كثير :
غَمْرُ الرِّداء إذا تبسَّمَ ضَاحِكًا غَلِقَتُ لضَحْكَتِهِ رِقــاب المـــال وقول الكميت :
فَأَعْطَى ثُمَّ أَعْطَى ثُمَّ عُدْنَا فَأَعْطَى ثُمَّ عُدُتُ لَهُ فَعَــادَا مرارًا مـــا أعـــود إليه إِلَّا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا وَثَنَى الوِسَادَا وقال شاعر آخر: «ضَحِكَ الْمَزِّنُ بِها ثُمَّ بَكَى».
نقد باب
إثبات القدم لله عزَّ وجلَّ
والدليل على أنَّ القدم هو الرجل
وروى حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يُلْقَى في النَّارِ وتقول هل من مزيد، حتَّى يُدلي ربُّ العالمين فيها قَدَمَه، فتقول: قَط قَط». وروى الحديث المتقدم من طريق أبي هريرة وقال فيه: «حتَّى يضعَ اللهُ عزَّ وجلَّ رِجْلَه فيها فتقول: قَط قَط».
هذا من شذوذ هذا الرَّجُل، يتمسك في إثبات صفات الله تعالى بخبر آحاد
محتمل للتأويل !! . ونقول في الرد عليه أولا: هذا الحديث أتى بزيادة عما في القرآن، فإنَّ الله تعالى قال: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَزِيدٍ ﴾ [ق: ٣٠]، وهذا الحديث - وإن كان صحيحًا- ليس في قوة القرآن، فلا يجوز أن يقطع بما فيه من الزيادة، وتُجعل صفة الله تعالى.
ثانيا: ذكر ابن الجوزي أنَّ الرواية التي جاءت بلفظ : «الرّجُلِ» تحريفٌ مِن بعض الرواة، لظنه أنَّ المراد بالقَدَم الجارحة، فرواها بالمعنى فأخطأ».اهـ وحيث أنَّ الرواية بالمعنى محتملة في الحديث، فلا يجوز أن نضيفها إلى الله تعالى.
ثالثًا: أن الحديث مؤوّل بوجوه كثيرة، مبسوطة في "فتح الباري" وغيره. رابعا: قال أبو الوفاء بن عقيل: تعالى الله عن أنه لا يُعمل أمره في النَّار، حتى يستعين عليها بشيء من ذاته أو صفاته، وهو القائل للنَّار: كُونِي بَرْدًا وَسَلَمًا ﴾ [الأنبياء: ٦٩]، فمن يأمر نارًا أجَجَها غيره أن تنقلب عن طبعها -وهو الإحراق -
فتنقلب، كيف يحتاج في نار يؤججها هو إلى استعانة؟!».اهـ
فكيف
مع هذا الإشكال يجزم الهروي بإثبات القَدَم والرّجل صفة الله تعالى؟! وصفات الله عزَّ وجلَّ لا تثبت إلا بدليل قطعي كالقرآن أو السُّنَّة
الصحيحة المقطوع بها، ولا يكون لاحتمال التأويل فيها مجال. (الخلاصة): أنَّ الحديث صحيح بأنَّ النَّار تقول: «هل من مزيد؟» حتى يضع ا الرب فيها قدمه، لكن لا يجوز أن نجزم بأن القَدَم صفة الله تعالى؛ لأنها محتملة للتأويل، ولا ينسب صفة الله إلا ما كان مقطوعًا به، فمن يُثبت القَدَم
الله ، ثم يزعم تنزيه الله عن الجوارح متناقض؛ لأنه أثبت جارحة ثم نفاها. وذكر في ترجمة المؤلف: «أنَّ مسعود بن سُبكتكين قدم هراة سنة ثلاثين وأربعمائة فاستحضر شيخ الإسلام - الهروي- وقال له: أتقول إن الله عزَّ وجلَّ يضع قدمه في النَّار؟ فقال: أطال الله بقاء السلطان المعظم، إنَّ الله عزَّ وجل لا يتضرر بالنَّار، والنَّار لا تضره، والرسول لا يكذب عليه، وعلماء هذه الأمة لا
يتَزيَّدون فيما يروون عنه ويُسْندون إليه». فاستحسن جوابه ورده مكرَّما. وهذا استدلال ظريف حيث أن الله لا يتضرر بالنَّار والنَّار لا تضره،
فلنثبت له قدمين ورجلين أرأيت كيف تكون الحجة الناهضة !!
بل هي
الحُجَّة الدَّاحِضة، فنحن نمنع نسبة القدم إلى الله لأنها لم تثبت
بدليل قاطع، ولأنها تفيد الجارحة، وهي في حق الله محال.
نقد باب
إثبات الهرولة لله عزَّ وجلَّ
وروى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال الله عزّ وجلَّ: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا دعاني، إن تقرب مِنِّي شِبْرًا تقرَّبْتُ منه
ذراعًا وإنْ تقرَّب مِنّي ذراعًا تقرَّبْتُ إليه باعًا وإِنْ جاءني يمشي أتيتُهُ هَرْوَلَة». قلت: حيث أثبت القدمين الله تعالى، فمن المعقول جدا أن يثبت له الهرولة،
أي: الجري بهما !! وهذا هو توحيد الحافظ الهروي ومن على شاكلته. وإن أردت التوحيد الحقِّ، فاعلم أنَّ الهرولة في حق الله محال، لا تليق
بعظمته وجلاله.
قال الكرماني: «لما قامت البراهين على استحالة هذه الأشياء - يعني الباع والذراع والهرولة في حق الله تعالى وجب أن يكون المعنى: مَن تقرب إليَّ بطاعة قليلة جازيته بثواب كثير ، وكلما زاد في الطاعة أزيد في الثواب، وإن كانت كيفية إتيانه بالطاعة بطريق التأنّي، يكون كيفية إتياني بالثواب بطريق الإسراع. والحاصل أنَّ الثواب راجع على العمل بطريق الكيف والكم، ولفظ
القُرب والهرولة مجاز، على سبيل المشاركة أو الاستعارة أو إرادة لوازمها . اهـ ويؤيده رواية ابن حبان في "صحيحه"، والبرقاني في "مستخرجه" عن أبي هريرة... فذكر الحديث كما هنا وزاد بعد قوله: هرولة»، وإن هَرْوَل سعيتُ إليه، والله أسرع بالمغفرة». ويؤيده أيضًا أنَّ الطاعات التي يتقرب العبد بها إلى الله تعالى لا باع فيها ولا شبر ولا ذراع، فهي مجاز بالنسبة الله وللعبد، ولكن المؤلّف ضعيف في الفهم والاستنباط.
نقد باب
إثبات نزوله إلى السماء الدنيا
ذلك، وقد
وروى عن رفاعة بن عَرَابة الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا مَضَى شَطْرُ الليل - أو قال: ثلثاه - ينزل الله عزَّ وجلَّ إلى سماء الدُّنيا فيقول: «لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يَسأُلني فأُعطيه؟ مَن ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ مَن ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟» حتى ينفجر الصبح». قال الحافظ : «استدل به من أثبت الجهة، وقال: هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور؛ لأن القول بذلك يُفضي إلى التحيز، تعالى الله عن اختلف في معنى النزول على أقوال : فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم، ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك . وهم الخوارج والمعتزلة وهو مكابرة، ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال، منزّها الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ومنهم من أوَّلَه على وجه يليق مستعمل في كلام العرب، ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، ومنهم مَن فَصل بين ما يكون تأويله قريباً مستعملا في كلام العرب، وبين ما يكون بعيدًا مهجورا، فأوَّل في بعض وفوَّض في بعض، وهو منقول عن مالك وجزم به مِن المتأخرين ابن دقيق العيد. قال البيهقي وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيُصار إليه» . اهـ كلام الحافظ.
جملة،
وقال ابن العربي: حُكي عن المبتدعة ردُّ هذه الأحاديث، وعن السلف إمرارها، وعن قوم تأويلها وبه أقول، فأما قوله: «ينزل» فهو راجع إلى أفعاله
لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن مَلَكِه الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثُمَّ فعل، فيُسمَّى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة».اهـ والحاصل : أنه تأوَّله بوجهين إما بأنَّ المعنى ينزل أمره أو الملك بأمره، وإما
بأنه استعارة لمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه. قال الحافظ: «وقد حكى ابن فورك: أنَّ بعض المشايخ ضَبَطَه بضم أَوَّله على حذف المفعول، أي يُنزِل مَلَكًا.
ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر، عن أبي هريرة، وأبي سعيد بلفظ : إن الله يُمهل حتى يمضي شطر الليل ثُمَّ يأمر مناديًا يقول: هل من داع
فيستجاب له؟».
وفي حديث عثمان بن أبي العاص: «ينادي مناد هل من داعٍ يُستجاب
له؟» الحديث.
قال القرطبي: وبهذا يرتفع الإشكال، ولا يُعكر عليه قوله في رواية رفاعة الجهني: ينزل الله إلى السماء الدُّنيا فيقول: لا يسأل عن عبادي غيري». لأنه ليس في ذلك ما يدفع التأويل المذكور. قال البيضاوي: ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه مُنَزَّه عن الجسمية والتحيز، امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نزول رحمته، أي يتنقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب
والانتقام، إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة» . اهـ ولي في الحديث رأي لم يتعرض له أحد، وهو الصواب إن شاء الله، وبيان ذلك:
أنَّ الله تعالى قال: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: ١٨٦] وقال سبحانه: ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ تُحِيبُ ﴾ [هود: ٦١] فالله قريب مِن خَلْقه، ليس بينه وبينهم مسافة يقطعها نزول.
والمسافة التي بين السماوات، وبينها وبين الأرض، هي بالنسبة للخَلْق، أمَّا بالنسبة الله تعالى فالعالم كله بين يديه لا يفصله عنهم مسافة لقربه منهم بغير
حلول ولا اتحاد، تعالى الله أن يحل في شيءٍ مِن خَلْقه أو يتحد به. فنزوله كناية عن تنزله في تجلّيه على عباده المؤمنين القائمين في ذلك الوقت
من الليل، وهو وقت التجلّي، ويقال الله: متجلّي، ولا يقال له: نازل. والتجلي صفة خاصة به سبحانه لا يوصف بها مَلَكٌ ولا نبي، ومعنى التنزل في التجلّي أنه يتجلَّى على المؤمنين بقدر ما تستطيعه روحانيتهم، لطفا به ورحمةً لهم، والله تعالى أعلم.
نقد باب
إثبات رؤيتهم إياه عزَّ وجلَّ في الجنة
بهم
وقع في سند المؤلّف في هذا الباب أنا أبو يعلى: ثنا حوثرة بن... وبعده
بياض، فكتب عليه المعلّق: «لعله حوثرة بن محمد بن قديد المنقري». وهذا خطأ، والصواب أنه حوثرة بن الأشرس بن عون بن المجشر العدوي. أبو عامر، روى عنه أبو حاتم وأبو زرعة وأبو يعلى، وهو يروي عن حماد بن سلمة وغيره، له ترجمة في كتاب "الجرح والتعديل"، و "ثقات ابن حِبَّان".
خاتمة فيها مسائل المسألة الأولى
قال القاضي أبو بكر بن العربي في "القواصم والعواصم": «والأحاديث
الصحيحة في هذا الباب - يعني في باب الصفات - على ثلاث مراتب : الأولى: ما ورد من الألفاظ وهو كمال تحضّر ليس للنقائص والآفات فيه حظ، فهذا يجب اعتقاده.
إلا
الثانية: ما ورد وهو نقص مَحَضُ، فهذا ليس الله فيه نصيب فلا يضاف إليه وهو محجوب عنه في المعنى ضرورة، كقوله: «عبدي مَرِضْتُ فلم تَعُدْنِي...»
وما أشبهه.
الثالثة: ما يكون كمالا ولكنه يوهم تشبيها.
فأما الذي ورد كمالا محضا كالوحدانية والعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والإحاطة والتقدير والتدبير وعدم المثل والنظير، فلا كلام فيه
ولا توقف.
وأما الذي ورد بالآفات المحضة والنقائص، كقوله: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ [البقرة: ٢٤٥]، وقوله: «جُعْتُ فلم تُطعِمْني وعَطِشْتُ فقد علم المحفوظون والملفوظون والعالم والجاهل، أن ذلك كناية عمن تتعلق به هذه النقائص، ولكنه أضافها إلى نفسه الكريمة المقدسة تكرمة لوليه، وتشريفا واستلطافًا للقلوب وتليينا. وإذا جاءت الألفاظ المحتملة التي تكون للكمال بوجه وللنقصان بوجه، وجب على كل مؤمن حَصِيفٍ أن يجعلها كناية عن المعاني التي تجوز عليه،
وينفي ما لا يجوز عليه، فقوله في اليد والساعد والكفّ والإصبع، عبارات بديعة، تدل على معان شريفة، فإنَّ الساعد عند العرب عليها كانت تُعوّل في القوة والبطش والشِّدَّة، فأضيف الساعد الله؛ لأن الأمر كله الله. كذلك قوله: إنَّ الصَّدقة تقع في يد الرحمن»، عبر بها عن كفّ المسكين تكرمة له. وما يُقَلَّب بالأصابع يكون أيسر وأهون، ويكون أسرع . وانظر بقية كلامه في الكتاب المذكور، وهو كلام نفيس للغاية.
المسألة الثانية
قال الحافظ ابن الجوزي في كتاب دفع شبه التشبيه": «رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أنَّ الله خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات، وفما وهَوَاتٍ وأضراسًا وأضواء لوجهه ويدين وإصبعين وكفا وخنصرًا وإبهاما وصدرًا وفخذا وساقين ورجلين.
وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس، وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصَّارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلغاء ما توجبه الظواهر من صفات الحَدَث أو من صفات الحدوث. ولم يقنعوا أن يقولوا: صفة فعل، حتى قالوا: صفة ذات.
ثم لما أثبتوا أنها صفات، قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة، مثل «يد» على :
نعمة وقدرة ، ولا مجئ وإتيان على معنى: «بر ولطف»، ولا «ساق» على: شدَّة». بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشيء إنما يُحمل على حقيقته إن أمكن، فإن صرفه صارف حمل على المجاز.
ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السُّنَّة، وكلامهم صريح في التشبيه. وقد تبعهم خَلْقٌ من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع وقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول وهو تحت السياط : كيف أقول ما لم يُقل؟! فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس فيه، ثم قلتم في الأحاديث: تُحمل على ظاهرها، فظاهر القدم الجارحة، ومن قال: استوى بذاته المقدَّسة، فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيّات، وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقدم - بكسر القاف، فلو أنكم قلتم : نقرأ الأحاديث ونسكت ما أنكر أحد عليكم، وإنما حملكم إياها على الظاهر قبيح، فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل السلفي ما ليس فيه . اهـ
وأفاض ابن الجوزي في ذمّ المجسمة من الحنابلة مثل القاضي أبي يعلى وابن الزاغوني، واستنكر الحنابلة التجسيم الذي أُلصق بمذهبهم واعتبروه شيئًا له، و قاوموا المشبهة والمجسمة الذين انتسبوا لمذهبهم ولم يعتقدوا التنزيه كما اعتقده إمامهم رحمه الله.
المسألة الثالثة
مؤلف "كتاب الأربعين" مُجسّمٌ ومُشَبِّه، وَصَفَه بذلك التاج السُّبكي في "طبقات الشافعية"، قال في ترجمة أبي عثمان الصابوني: «الملقب بشيخ الإسلام، لقبه أهل السُّنَّة في بلاد خراسان، فلا يعنون عند إطلاقهم هذه اللفظة غيره، وأما المُجَسِّمَة بمدينة هراة، فلما ثارت نفوسهم من هذا اللقب عمدوا إلى أبي إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري صاحب كتاب "ذم الكلام" فلقبوه بشيخ الإسلام، وكان الأنصاري المشار إليه رجلًا كثير العبادة محدثًا إلا أنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه وينال من أهل السنة، وقد بالغ في كتابه "ذم الكلام" حتى ذكر أن ذبائح الأشعرية لا تحل، وللأنصاري أيضًا كتاب "الأربعين"، سمتها أهل البدعة: "الأربعين في السُّنَّة" يقول فيها: باب إثبات القدم الله، باب إثبات كذا وكذا، وبالجملة كان لا يستحق هذا اللقب، وإنما
لقب به تعصُّبا وتشبيها له بأبي عثمان وليس هو هناك. وكان أهل هراة في عصره فئتين: فئة تعتقده وتبالغ فيه لما عنده من التقشف والتعبد، وفئة تُكَفِّرُه لما يظهره من التشبيه. ومن مُصنّفاته التي فَوَّقَت نحوه سهام أهل الاسلام كتاب "ذم الكلام"، وكتاب "الفاروق في الصفات"، وكتاب "الأربعين"، وهذه الكتب الثلاثة أبان فيها عن اعتقاد التشبيه وأفصح، وله قصيدة في الاعتقاد تنبئ عن العظائم في هذا المعنى، وله أيضًا كتاب "منازل السائرين" في التصوف، كان الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية مع ميله إليه، يضع من هذا الكتاب - أعني منازل السائرين قال شيخنا الذهبي: وكان
يرمي
إسماعيل بالعظائم بسبب هذا الكتاب ويقول : إنه مشتمل على الاتحاد».
أبا
قال السبكي والأشاعرة يرمونه بالتشبيه، ويقولون: إنه كان يلعن شيخ السنة أبا الحسن الأشعري، وأنا لا أعتقد فيه أنه يعتقد الاتحاد، وإنما أعتقد أنه يعتقد التشبيه وأنه ينال من الأشاعرة، وأن ذلك لجهله بعلم الكلام وبعقيدة الأشعرية، فقد رأيت أقوامًا أتوا من ذلك، وكان شديد التعصب للفرق
الحنبلية بحيث كان ينشد على المنبر على ما حكى عنه تلميذه محمد بن طاهر: أنا حَنْبَليُّ ما حَيتُ وإِنْ أَنتُ فوصيتي للنَّاس أن يتحنبلـــوا وترك الرواية عن شيخه القاضي أبي بكر الحيري لكونه أشعريا، وكل هذا تعصب زائد، برأنا الله من الأهواء» . اهـ كلامه.
المسألة الرابعة
للكلام العربي معانٍ أوائل، ومعانٍ ثوان
فالأوائل هي: الحقائق المجردة بدون زيادة عليها.
والثواني هي: المعاني الزائدة على الحقائق مثل المجاز المرسل، والاستعارة بأنواعها، والكناية، والتشبيه والتعريض، والتأكيد، والفصل، والوصل، وغير
ذلك مما تكفّل ببيانه علم البلاغة.
واللغة العربية لها من هذه المعاني الثواني الحظ الأوفر والنصيب الأكبر، ولهذا كانت أفصح اللغات وأوسعها دائرة، وكان العرب أمراء الكلام وملوك البيان، استعملوا هذه المعاني في خطبهم وأشعارهم، وتناقلتها عنهم الرواة جيلا بعد جيل.
ثم جاء القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف على أسلوب اللغة
العربية في نواحيها المختلفة، ففيهما من لطائف المجازات وبديع التشبيهات ما يعجز عنه البشر، وهذه المعاني الثواني نوع من أنواع إعجاز القرآن الكريم كما نص على ذلك علماء البلاغة والتفسير. فالذين يحاولون أن يجردوا القرآن والسُّنَّة من هذه المعاني الزاخرة باللطائف والطرائف ليتوصلوا إلى غرضهم من إثبات صفات الله تشبه صفات الخلق أو تُوهم التشبيه بها، إنما يحاولون عبثًا محالا، كمن يحاول إخفاء نور الشمس ساعة إشراقها وظهورها، ومن خذلان الله لهم أنهم وقعوا في التشبيه الصريح والتجسيم القبيح وهم لا يشعرون بقبح ما صنعوا، بل يقولون في
وقاحة وجرأة: نحن أهل السُّنَّة، ويرمون مخالفيهم بأنهم جهميون.
ومن
نفذ قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
[الشورى: ١١] ونزَّه الله تعالى عن التجسيم وشبه المخلوقين فهو الموفّق المقبول،
ومن سلك نهجًا غير هذا ، فهو خاطئ مخذول، وبالله التوفيق.
تم تحريرًا عشيَّة يوم السبت الموافق ثامن ربيع الأول سنة (١٤٠٥ هـ) والحمد لله أولا وآخرا.
النقد المتين
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين والعاقبة للمتقين ولا عُدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته
والتابعين. وبعد:
فقد كان الدكتور علي بنُ محمدِ بنِ ناصر الفقيهي قام بطبع كتاب "الأربعين" لكنَّه كان غير موفّق في اختيار هذا الكتاب، لأنَّ مؤلَّفَه استدل في أصول الدين بأحاديث أحادية منها حديث ضعيف وآخر موضوع، وسائرها - وإن كان صحيحا - لم يسلم بعضُه من تصرُّفِ الرُّواةِ وباقيه ليس صريحا في معناه، والدليل إذا لم يكن نصّا فيهما أفاد كانَ للتأويل فيه مجال، ولا لوم حينئذ على من أوله، وأدلة أصول الدين يجب أن تكون قطعيةً، فرقا بينها وبين أدلة فروع الدين الظَّنِّية.
وقد نقدتُ مواضع من كتاب " الأربعين" وبيَّنتُ ما فيها من خطأ وخطل، غير أنَّ ذلك النقد لم يرق في نظرِ ناشره ومحققه، فكَتَبَ ردًّا سماه: "الفتح المبين" وبَعَثَه إلى بواسطة بعض الطلبة المغاربة بالجامعة الإسلامية، قرأته فوجدتُه في مجموعه أشبة بالمصادرة الممنوعة في علم الجدل، ووجدتُ مؤلّفه في بعض
المواضع عنده طفولة علمية، فلم أُعِره اهتماما ولم أباله بالة.
لكن بعض تلامذتي وأصدقائي الحوا عليَّ كثيرًا أن أرد عليه لئلا يغتر قارتُه به فيظنَّ أَنَّ فِيه عِلْمًا.
فكتبتُ هذا التقييد الذي سميته: "النقد المتين لكتابِ الفَتحِ المبين"، نبهتُ
فيه على أهم سقطاته وأقبح غلطاته.
وأسال الله أن يعلّمنا ما جهلنا ويجنبنا حمية الجاهلية، ودعوى السلفية الكاذبة فهو الموفق المعين، وبه نستعين.
النقد المتين
الصفات التي هي أصل الإيمان
صفات الله تعالى التي تدل على كمالاته كثيرة، وكمالاته تعالى لا حد لها ولا
نهاية، لكنَّ الصِّفاتِ التي هي أساس الإيمان وعنوانه سبعة:
١ - الحياةُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: ٢٥٥]. ٢،٣- السمع والبصر : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
[الشورى: ١١].
- القدرة : إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: ٢٠].
ه - العلمُ: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ۲۸۲]. - الإرادة: إِنَّمَا أَمْرُهُ: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [يس: ۸۲] .
- الكلامُ : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: ١٦٤]. من نفى هذه الصِّفاتِ أو نفى واحدة منها عن الله تعالى فليس بمؤمن. الصفاتُ التي تقبلُ التأويل
الصفات ما يحتمل التَّأويل لأنَّه ليسَ نصا صريحا في مدلوله، فوقع ومن التجاذب بين العلماء فيه؛ منهم من حمله على ظاهره مع اعتقادِ التنزيه، ومنهم من صرفه عن حقيقته خشيةَ التَّشْبِيهِ، غير أنَّه حَصَلَ بين الفريقين تنافر وتباعد حتى تنابزوا بالألقاب، وحَمَلَ ابنُ القيِّمِ على الأشعرية حملة منكرة، حتى سماهم:
أفراح اليهود وأتباع «فرعون»، وهذه سفاهة لا تليق، والله حَسِيبه عليها. ونحن لا نؤيدُ التَّأويل ولا ننكره، بل نمشي على التفصيل الذي ذكره
الإمام تقي الدين بن دقيق العيد ونقلناه في "فتح المعين". والذين أنكروا التَّأويل مطلقا يلزمهم التشبيه الذي صرح به بعضُهم ملتزمًا
له، وقد ينكر كونه تشبيها على سبيل الوقاحة، وهذه بعض الأمثلة لذلك: ١ - يقول عثمان بن سعيد الدارمي عن بشر المريسي: «إنه لا يعرف مكان
واحده»، فجعل العرش مكانا الله تعالى.
٢ - ويقول أنَّ الله خلق آدم بيده مسيسا.
- يقول ابن تيمية إنَّ الله لو شاء لاستوى على ظهر بعوضة فاستقلت .
بقدرته، فكيف على عرش عظيم وله في "الرّسالة العرشية" وفي "العقيدة الحموية" كلام صريح في التشبيه والتجسيم، وهو ضال وناصبي.
- عباراتٌ كثيرةٌ في كلام ابنِ القيمِ تنضَحُ بالتشبيه الصريح بل تفوه بالتجسيمِ القَبيح، وفي قصيدة «النونية) من ذلك ما يقضي بضلاله إن لم نقل
بكفره.
والهروي صاحبُ "الأربعين"، يصرّحُ بأنَّ الله أصابع ورجلين، وأنَّه شخص، وأنَّه خطّ التَّوراة بيده، وأنَّه يهرول، وأن له حدا إلى غير ذلك من السخافات التي لا تليق بجلاله وكماله ابن فورك يحكي الإجماع على منع
إطلاق شخص على الله .
(۱) هذه مقالةٌ كفرية نعوذ بالله منها، فإنَّ تجويز استواء الله على ظهر بعوضةٍ كفرٌ لا شَكٍّ فيه، لأنها تفيد أن الله بلغ في الصغر والقلة بحيثُ تقله بعوضة.
النقد المتين
ليس التمسلف مذهبا
هؤلاء المشبهة والمجسمة ينسبون أنفسهم لمذهبِ السَّلفِ حيثُ يزعمون أنهم سلفية، وهذا خطأ كبير أرادوا به التّموية على البسطاء بدعوى السلفية. والواقع أنَّ السَّلفَ ليس له مذهب معروف له أصول وقواعد كما هو الحال في المذاهب الإسلامية مثل المالكية والحنفية والشافعية، ولكنَّ الصَّحابة والتابعين وتابعيهم كانوا يفهمون القرآن والحديث حسب المذكورات اللفظية التي يعرفون بالسليقة، ولم يذكروا لعملهم هذا قاعدةً ولا أصولا ساروا
عليها، وكانوا يختلفون فيها فهموه من النُّصوص الشرعية كما كانوا يتفقون. وكان منهم من يؤوّل من النصوص ما يرى وجوب تأويله، كما أوّل مالك نزول الله بنزول رحمتِه، وأول أحمد مجيءَ الله بمجيء أمره، ومن تتبع أقاويل الصَّحابة والتابعين وجد فيها تأويلاتٍ فيما يتعلَّق ببعض صفات الله وأحكامه مما يدل على أنه لم يكن لهم مذهب معيّن يمشون عليه، وإذن فدعوى من يدَّعي أنَّه سلفي على مذهبِ السَّلفِ كذب بحث، والسَّلفُ بريئون منه، لأنَّه لا مذهبَ لهم في العقيدة ولا في الفقه. والألفاظ الموهمة تشبيها اتفق السَّلف والخلف على وجوبِ تأويلها. والواقع أنَّ هؤلاء المشبهة لقطاء ينتسبون لمذهب لا وجود له. وتنزيه الله عن مشابهة الحوادثِ واجب شرعا بنصوص الكتاب والسنة وبإجماع الأمة سلفها وخلفها عليه.
الفرق بين التنزيه والتشبيه
هؤلاء المشبّهةُ ينعُونَ علينا تأويل بعض الصِّفاتِ التي أوجبَ التَّنزيه تأويلها، ويعتبرون تشبيههم تنزيها ، لأنّهم مغرقونَ في الضَّلال والإضلال. ونذكر بعض أمثلة لذلك:
قوله تعالى : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: ٥]: يؤمنُ أهل السنة أنَّ الله استوى على عرشه كما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل، ولم يزيدوا على ذلك، لكنَّ المشبهة لم يكتفوا بهذا التَّنزيه بل ضموا إليه ثلاثة أشياء جعلته تشبيها محضا :
أولها: أنهم جعلوا العرش مكانًا الله تعالى، قال عثمان الدرامي يعيب على بشر المريسي: «إنَّه لا يعرفُ مكان واحده»، وهذا تشبيه قبيح لأنَّ المكان هو للأجسام، والله تعالى ليس بجسم لأنه خالق الأجسام والأمكنة فلا يكونُ
العرش مكانا له.
ثانيها: أنَّهم جعلوا العرش حدًّا له، وهذا تشبيه، بل كفر قبيح؛ لأنَّ الله تعالى ليس له حد، وكل من له حدّ حادث، قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
تُحيط [فصلت: ٥٤]، ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبِ وَاللَّهُ مِن وَرَآبِهِم تُحِيطُ ب [البروج: ١٩ - ٢٠].
ومن أسمائه: «المحيط»، ولو كانَ له حد لما كان محيطا، ومن أسمائه:
«الكبير» ولو كان له حد لم يكن كبيرًا.
وعقيدة أهلِ السُّنة أنَّ الله لا حد له لأنه لو كان له حد؛ كان حادثا، لأنَّ
النقد المتين
كل محدود حادث (انظر: "العقيدة الطحاوية").
۱ - قال المشبهةُ: أثبتنا الحدَّ الله لننفي عنه الحلول والاتحاد، وهذه حُجَّةٌ تشبه ما يقال: غسل دم بدم، لأنَّ حلول الله أو اتحاده ببعض خلقه محال عقلا، لا يتصور إمكانه، وأدلة بطلانه يدركُها كلُّ أحد، والقائل بالحلول أو الاتحاد
هو مثل القائل بأنَّ الله له حد، تعالى الله عن شبه المحدثاتِ.
ثالثها: قال ابنُ عبد الهادي في "الصارم المنكي": اختلف قدماء أصحابنا -
يعني المشبهة - إذا نزل الله إلى السَّماء هل يخلو منه العرش؟
وهذا تشبيه قبيح، فنزول الله ليسَ بانتقال ولكنه صفةٌ لا يدرَكُ كُنْهُهَا والعرش ليس محلا له بحيثُ يخلو منه إذا نزل عنه، فهذا كلُّهُ خلافُ التَنزِيهِ الواجب الله تعالى، ومن المشبهة من يزعم أنَّ الله تعالى قدر العرش لا يزيد عليهِ ولا ينقص، وهذا كفر بواح قاتل الله من يقولُه.
۲- قال الله تعالى لإبليس عليه اللعنة: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ [ ص: ٧٥] . قال عثمان الدرامي في رده على بشر المريسي: «خلق الله آدم بيده مسيسا»، وهذا تشبيه قبيح، وأهلُ السُّنةِ لا يُثبتون جارحة الله تعالى، لأنَّه من سمات المحدثاتِ، ولهم في الآية تفسير يتمشى مع التنزيه الواجب فيقولون: ذِكرُ اليدين في الآية قصد به العناية، والدليل على
ذلك أمران: أحدهما: قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ من [يس: ۸۲]، وجاء هذا المعنى في عدة آيات، وهو عموم قاطع يقضي بأنَّ كلَّ أمرٍ
محدث يقع بكلمةِ كُنْ» لا فرق بينَ آدمَ وغيره.
والآخرُ : قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: ٥٩]، فهذه الآية تصريح بأنَّ آدم خلقه بكلمة كن، من غير يدين، كما هو الشأن في جميع المخلوقات.
أما قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ﴾ [المائدة: ٦٤]، فلا يمكن دليلا لإثبات يدَينِ الله تعالى، لأنه ذكر في مقابله قول اليهود: يدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: ٦٤]، فهو من باب المشاكلة وهي نوع لطيف من أنواع اللغة العربية، ومن أمثلتها قول الشاعر العربي:
قالوا اقترح شيئًا نُجِدٌ لكَ طبخه قلتُ: اطْبُخُوالي جُبَّةٌ وقَميصَا ولا يمنعُ أن تضاف اليدان صفةً لله تعالى لا بمعنى الحاجة؛ نقل الفخرُ الرازي عن أبي الحسن الأشعري أنَّ اليد صفةٌ قائمة بذاتِ الله تعالى، وهي صفة سوى القدرةِ، من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء والذي يدلُّ عليهِ
أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيده على سبيل الكرامة لآدم واصطفائه له. لكن يردُّ على هذا أنَّ آيةَ (آل عمران) دلَّتْ على أَنَّ آدمَ خُلقَ بكلمةِ كُنْ»، وأَنَّ ذِكرَ اليدين في آية (ص) أُريد بهما مجرَّدُ التكريم والعناية، يضاف إلى ذلك أنَّ قدرة الله عامة ولا يجوز أن يكون معها يدانِ.
والمقرر عند العلماء أنَّ الصفةَ لا تتعدَّدُ فليس الله قدرتانِ ولا عِلْمانِ وهكذا، وما ذكر على سبيل المشاكلة أو على سبيل العناية والتكريم، ولا يجوز أن ينسب صفة الله تعالى مثل الصِّفاتِ الثابتة ابتداءً، كالسمع والبصر ونحوهما، ولذلك
النقد المتين
أمثلة في بعض طرق حديثِ محاجَّةِ آدمَ وموسى عليهما السلام، قول آدم يخاطب موسى: «وخط لك التوراة»، ذكر هذا اللفظ على سبيل التكريم لتوراة موسى فلا يجوز أن نثبت يدا لله خط التوراة بها، ولو جاز ذلك لزم عليه أن تكون التوراة أفضل من القرآنِ وهذا باطل.
التحقيق الباهر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد الله الكريم الوهّاب، الحليم التوَّاب، مُنزّل الكتاب، تَذْكِرةً وهدي لأولي الألباب، وأشهد أن لا اله إلَّا الله وحده لا شريك له، شهادة ندَّخِرُها ليوم الحساب، وأشهد أنَّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الثقلين بشيرا لمن أطاعه بحسن الثواب، ونذيرا لمن عصاه بسوء العذاب، صلي الله عليه وآله وسلَّم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، ورضي الله عن صحابته الأكرمين. وبعد: فإن مبتدعا أزهريًّا أَوْعَزَ إليه المبشّرون الأمريكيون أن يدعو إلى
توحيد الأديان، فلبي طلبهم وأجاب رغبتهم، وكتب في مجلة صوت أمريكا مقالا زعم فيه أنَّ الإيمان المنجي يوم القيامة هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنَّ الإيمان بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليس بواجب، واستخلص من ذلك: أنَّ اليهود والنصارى ناجون يوم القيامة؛ لأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر كالمسلمين، واستدلَّ لهذا الباطل المزعوم بقوله تعالى في (سورة البقرة): إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: ٦٢]. فجهل معنى الإيمان في عرف الشرع، وحرف الآية عما أراده الله منها، وعَمِيَ عن آيةٍ أخرى تُفسِّرها، وخرج من دينه آخر الأمر !!
وأنا إذ أريد - بحول الله - أن أبيَّن جهله وأكشف عَوَاره أقدم معني الآية بإيجاز وما قيل فيها، ثم أتبعه بالقول الفصل المؤيَّد بالبرهان القاطع، الذي لا
يترك في النفس شبهة، ولا يدع في القلب ريبا، وبالله التوفيق.
أقوال المفسرين
في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ﴾ الآية
في "تفسير الجلالين": «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا بالأنبياء من قَبل وَالَّذِينَ هَادُوا هم اليهود وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ طائفة من اليهود أو النصارى مَنْ ءَامَنَ منهم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ في زمن نبينا وَعَمِلَ صَلِحًا
بشريعته فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ أي ثواب أعمالهم أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » . اهـ
بدین
وفي "تفسير البيضاوي " : إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا بألسنتهم يريد به المتدينين محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المخلصين منهم والمنافقين، وقيل:
المنافقين؛ لانخراطهم في سلك الكفرة وَالَّذِينَ هَادُوا تهوَّدوا، يقال: تهود إذا دخل في اليهودية وَالنَّصَرَى ) جمع نصران، كندامى وندمان، والياء في نصراني للمبالغة، كما في أحمري وَالصَّبِئِينَ قوم بين النصارى والمجوس، وقيل: أصل دينهم دين نوح عليه السَّلام، وقيل: هم عبدة الملائكة، وقيل: عبَدَةُ الكواكب مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا مَن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ . مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملا بمقتضي شرعه، وقيل: من آمن من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصًا، ودخل في الإسلام دخولا صادقًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ الذي وَعَدَ لهم على إيمانهم وعملهم وَلَا
خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن
التحقيق الباهر
المقصرون على تضييع العُمر وتفويت الثواب» . اهـ
وفي "تفسير ابن جُزَيٌّ " : إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية؛ قال
ابن عباس: نسختها وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: ٨٥] وقيل: معناها أنَّ هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانا صحيحًا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين الثبات إلى الموت وفي حق غيرهم: الدخول في
الإسلام؛ فلا نسخ. وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلا نسخ» . اهـ
وفي "تفسير الحافظ ابن كثير " : قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: ثنا عمر ابن أبي عمر العدني: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال: قال سلمان الله عنه سألت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عن أهل دين كنت معهم،
رضي
فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَرَى وَالصَّبِعِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية.
فكان إيمان اليهود، أنه من تمسك بالتوراة وأخذ بسُنَّة موسي عليه السَّلام،
موسي
حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنّة مو فلم يدعها ولم يتَّبع عيسى كان هالكًا، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل
منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن لم يتبع محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم منهم، ويدع ما كان من سنَّة عيسى والإنجيل كان هالكا قال ابن أبي حاتم وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا. قلت: هذا لا ينافى ما روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إِنَّ
الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ قال: فأنزل الله بعد ذلك: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ ﴾ [آل عمران: ٨٥]
فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا، إلا ما كان موافقا لشريعة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد أن بعثه به،
فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل نجاة، فلما بعث الله محمدا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خاتما للنبيين، ورسولا إلى بني آدم
على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقًا، وسُمِّيت أُمَّة محمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشِدَّة إيقافهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء
الماضية والغيوب الآتية» . اهـ ثم ذكر الخلاف في تعيين الصابئين.
وفي
تفسير البحر لأبي حَيَّان: قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية نزلت في أصحاب سلمان، وذلك أنه صَحِب عبادًا من النصارى فقال له أحدهم إنَّ زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأي عبادة عظيمة، فلما جاء النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ذكر له خبرهم عنهم، فنزلت هذه الآية. حكي هذه القصة مطولة ابن إسحاق،
منهم .
وسأله
والطبري، والبيهقي.
وروي عن ابن عباس : أنها نزلت في أول الإسلام وقدر الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم ومَن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته،
التحقيق الباهر
TV
وهو مؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثُمَّ نُسخ ما قدر من ذلك بقوله: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم.
وقال غير ابن عباس : ليست بمنسوخة، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ، وروى الواحدي بإسناد متصل إلى مجاهد قال: لما قص سلمان على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قصة أصحابه، وقال له «هُمْ في النَّارِ». قال سلمان: فأظلمت على الأرض، فنزلت: وَإِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا إلى قوله : يَحْزَنُونَ ) قال : فكأنما كشف عنّي جبل. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب، وما حل بهم من العقوبة أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم، دالا على أنه يجزي كلًا بفعله. (والذين آمنوا): منافقوا هذه الأمة، أي آمنوا ظاهرًا، ولهذا قرنهم بمن ذكر بعدهم، ثم بيَّن حكم من آمن ظاهرا وباطنا قاله سفيان الثوري. أو : المؤمنين بالرسول. ومَنْ ءَامَنَ معناه من داوم على إيمانه، وفي سائر الفرق: من دخل فيه، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ومن لحقه كأبي ذرّ ، وسلمان وبحيرا، ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث، فمنهم من أدرك وتابع، ومنهم من لم يدركه.. والذين هادوا كذلك ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام والنصارى كذلك، والصابئين كذلك. قاله السُّدِّي أو أصحاب سلمان، وقد سبق حديثهم أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول، قاله
ابن عباس. أو : المؤمنون بموسي وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى، فآمنوا به وعملوا بشريعته إلى أن جاء محمد قاله السُّدِّي عن أشياخه. أو: مؤمنوا الأمم الخالية، أو المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله من سائر الأمم. فهذه ثمانية أقوال في معني الذين آمنوا».
ثم ذكر وجوه الإعراب في الآية، ثم قال: وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل وَعَمِلَ صَلِحًا هو عالم في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض، أو: التصديق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلّم. أقوال، الثاني يروي عن ابن عباس».اهـ
وفي كتاب "الناسخ والمنسوخ " لأبي القاسم هبة الله بن سلامة المتوفى سنة (٤١٠ هـ) في الكلام على (سورة البقرة): «الآية الثانية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا والناس فيها قائلان: فقالت طائفة؛ منهم مجاهد والضَّحَّاك بن مزاحم هي مُحكَمَةٌ، ويقرأونها بالمحذوف المقدر، ويكون التقدير على قولهما: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ) ومن آمن من وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَرَىٰ وَالصَّبِعِينَ . وقال الأكثرون هي منسوخة، وناسخها عندهم: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا ﴾ الآية» . اهـ من هذه النقول المتعدّدة عن أئمة التفسير من الصحابة والتابعين وغيرهم تعلم أن الآية الكريمة بعيدة كل البعد عما ألصقه بها ذلك المبتدع المأجور، على تحريف الآيات القرآنية؛ لتحقيق أغراض تبشيرية، وتعلم أيضًا أن أحدًا من العلماء لم يسبقه إلى ذلك القول الذي شدَّ به عن جماعة المسلمين، واتبع غير
التحقيق الباهر
سبيل المؤمنين، وهذا كافٍ في ردّ نِحلته وكشف دخلته، لكنا - مع ذلك – نفي بما وعدنا به فنذكر الدليل القاطع الفاضح لجهله، حتى يتبيَّن الحق وتتضح
معالمه، ويزهق الباطل وتنطمس مراسمه، والله الموفق والهادي.
حقيقة الإيمان لا تقبل التجزئة
من المقرر المعلوم أن الإيمان حقيقة شرعية متركبة من أجزاء بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في جواب سؤال جبريل عليه السلام حيث قال: الإيمان أن تُؤمِنَ بالله، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخِرِ، وبالقَدَرِ خَيْرِه وشَره». وهذه الأجزاء متلازمة شرعًا، بحيث إذا انتفي جزء منها لزم انتفاء
بقية الأجزاء، ولزم بالتالي انتفاء حقيقة الإيمان.
فالمكذب برسول واحدٍ، تنتفي عنه حقيقة الإيمان من أساسها، ويجب الحكم عليه شرعًا بأنه لا يؤمن بالله، ولا بالملائكة، ولا بالكتب، ولا بالرسل، ولا باليوم الآخر، ولا بالقَدَرِ. وإن زعم أنه يؤمن بذلك فزعمه مردود عليه
شرعًا؛ لأن حقيقة الإيمان لا تقبل التجزئة.
والدليل على هذا من القرآن عدة آيات:
۱- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا
بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ( أُوْلَبِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا }
[النساء: ١٥٠ - ١٥١].
نزلت الآية في اليهود والنصارى، حكم الله بكفرهم لأنهم آمنوا بأنبيائهم
وكفروا بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
ومعني التفريق بين الله ورسله الإيمان بالله والكفر برسله، والتفريق بين رسله الإيمان ببعضهم دون بعض.
فاليهود والنصارى فرَّقوا بين الله ورسله حيث آمنوا به وكفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وكذلك فرَّقوا بين رسله أيضًا، فكانوا كافرين كفرًا حقيقيا كاملا بنص هذه الآية الكريمة، ولم ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء عليهم السلام.
۲ - قوله تعالى : كَذَّبَت قَوْمُ نُوحِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: ١٠٥].
نسب الله إلى قوم نوح تكذيب المرسلين؛ لأنهم بتكذيبهم رسولهم كانوا مكذبين للرسل جميعًا، إذ لا يتفق تصديق رسول مع تكذيب آخر.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: كَذَبَتْ عَادُ الْمُرْسَلِينَ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ }
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ كَذَبَ أَصْحَبُ لَتَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: ۱۲۳،
١٤١، ١٦٠، ١٧٦ ] فهذه الآيات تبين تلازم أجزاء الإيمان ثبوتا وانتفاء، فتكذيب رسول يستلزم تكذيب جميع المرسلين والعكس بالعكس، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد تقرير .
قوله تعالى : قَيلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُونَ ﴾ [التوبة : ٢٩].
أخبر الله في الآية الكريمة عن أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ لأنهم حين كفروا بالنبي صلى الله عليه
التحقيق الباهر
وآله وسلم فقدوا جزءًا من الإيمان، فانتفت عنهم حقيقة الإيمان من أصلها، ولم يبق لهم فيها نصيب، كما أخبر أنهم لا يدينون دين الحق – أي الإسلام - وهذا يفيد أن دينهم باطل، لا يُقبل منهم عند الله تعالى كما صرح بذلك في قوله عز شأنه وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ } [آل عمران: ٨٥].
يضاف إلى ما سبق من نفي الإيمان عنهم، جعله سببًا لقتالهم، حتى يعطوا الجزية صاغرين، فهذه الآية صريحة قاطعة لا تحتمل تأويلا، وهي تُفسر آية البقرة وتوضح المراد منها، وذلك بأن يكون الاقتصار فيها على الإيمان بالله واليوم الآخر، ليس للاكتفاء به كما فهم ذلك المبتدع، ولكن لأنه يستلزم - شرعا - الإيمان بالملائكة والكتب والرسل.
ثم نقول لذاك الجاهل المتعامي عن تلك الآيات القاطعة الدامغة: إذا كان الإيمان بالله واليوم الآخر - حسب فهمك -السقيم - منجيًا يوم القيامة !! فلماذا أوجب الله قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؟!
أليسوا بمؤمنين في زعمك ؟! وكيف يستجيز عاقل قتال المؤمن لأخيه المؤمن؟! وأخذ الجزية منه وهو صاغر ذليل؟!
ولم برأ الله خليله إبراهيم من دين اليهودية والنصرانية والإشراك؟ حيث قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: ٦٧] ولا معني لهذه التبرئة إلا تنزيه إبراهيم عليه السلام عن التدين بهذه الأديان الباطلة، ولو كان دين منها منجيا يوم القيامة لما برأه الله
منه، كما لم يبرئه من الإسلام، بل أثبت له أنه مسلم، وأنَّ أولى الناس به نبينا وأمته: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: ٦٨].
وكيف تفهم قول الله تعالى يخاطب الصحابة يوم عرفة في حجة الوداع: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣]؟! وهل دين الإسلام الذي رضيه الله للمسلمين، يتفق مع دين اليهودية والنصرانية؟! وماذا تفعل بقول الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام ﴾ [آل عمران: ۱۹]؟! أي لا غيره على ما تفيده صيغة الحصر المقررة في علم المعاني.
وبالجملة فظاهر أن الإيمان بالله واليوم الآخر يستدعي بقية أجزاء الإيمان
استدعاء لزوميا شرعيا كما سبق تفصيله.
وقد أُشير إلى هذا التلازم في "تفسير الجلالين" وهو تفسير معروف متداول، وإليك نصه: القَيْلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وإِلَّا لَآمَنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ل كالخمر وَلَا
يدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ الثابت الناسخ لغيره من الأديان، وهو دين الإسلام من بيان للذين الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ ) أي: اليهود والنصارى حَتَّى يُعْطُوا الجزية الخراج المضروب عليهم كل عام عن يد حال، أي: منقادين، أو
بأيديهم لا يوكلون بها وَهُمْ صَغَرُونَ أذلاء منقادون لحكم الإسلام» . اهـ
التحقيق الباهر
قال الشيخ سليمان الجمل في حاشيته": «قوله: وإلا لآمنوا بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جواب عما يقال: إنَّ أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكيف نفت الآية عنهم الإيمان بهما ؟
ومحصل الجواب : أن إيمانهم بهما باطل لا يفيد، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم، فصح نفيه في الآية.
وفي كلام الشارح إشارة قياس استثنائي، فقوله: (وإلا لآمنوا بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم) إشارة إلى الشرطية، وصريحها هكذا: لو آمنوا بهما لآمنوا بالنبي، والاستثنائية محذوفة، تقديرها لكنهم لم يؤمنوا بالنبي فلم يؤمنوا بهما. فكأنه قال:
واللازم باطل فكذا الملزوم». اهـ ونحوه في "حاشية الصاوي" أيضًا.
وأشار أبو حيان في "البحر المحيط" إلى بيان التلازم من جهة أخري، فقال في تفسير آية (البقرة) مما تقدَّم نقله عنه -: «وقد اندرج في الإيمان باليوم
الآخر الإيمان بالرسل، إذ البعث لا يُعرف إلَّا من جهة الرسل» . اهـ
وهذا تلازم عقلي؛ لأنه لا يجوز في قضايا العقول الإيمان باليوم الآخر دون الإيمان بالرسل الذين أخبروا به، ومن طريقهم عُرف، فالإيمان باليوم الآخر
يستلزم عقلا الإيمان بالرسل، وهذا واضح جدًّا.
وقال أبو حَيَّان أيضًا في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ به ﴾ [الأنعام: ۹۲] الظاهر أنَّ الضمير في يه عائد على الكتاب، أي: الذين يصدقون بأن لهم حشرًا ونشرًا وجزاء يؤمنون بهذا الكتاب، لما انطوى عليه من
ذِكرِ الوعد والوعيد، والتبشير والتهديد واكتفى بذكر الإيمان بالبعث، وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة، والكتب، والرسل واليوم الآخر، والقدر؛ لأن الإيمان به، يستلزم الإيمان بباقيها، ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث، أن من آمن بالبعث، آمن بهذا الكتاب
وأصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن . اهـ قد يقول قائل: حيث ثبت بالأدلة السابقة - وهي قاطعة جازمة - أن أجزاء حقيقة الإيمان متلازمة في طرفي الثبوت والانتفاء، فما الحكمة في الاقتصار على الإيمان باليوم الآخر في آية (البقرة)؟ ولِمَ لم يقتصر على الإيمان بالرسل والتلازم هو التلازم ؟!
فنقول في جوابه: حكمة ذلك أنَّ اليوم الآخر يُذكِّر العبد بعرضه على الله،
ووقوفه بين يديه، فيستشعر القلب جلال الله وعظمته وتمتلئ النفس مهابة وخشية، وذلك أقوي في تثبيت الإيمان وأدعى إلى الامتثال مع خضوع وإذعان، ولهذا المعني ذكر الله الإيمان باليوم الآخر في بعض الأوامر؛ لتزعج نفوس المكلفين فيندفعوا إلى فعل ما أمروا به ؛ مسوقين بسياط الخوف،
محوطين بسياج أمل وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ- جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: ٤٦] فقال تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: ٥٩]، وقال عزّ شأنه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَبَحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذَكُرَ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النور: ۲]، وقال جل ذكره: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ
التحقيق الباهر
Vo
الَّذِينَ إِذَا اكْنَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( أَلَا يَظُنُّ أُولَيكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: ١ - ٦] وفي آية (البقرة) إشارة إلى ما قرَّرناه حيث قال الله تعالى: مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يحزنون ﴾ [البقرة: ٦٢] فقوله: ﴿وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِم يشير إلى أن إيمانهم باليوم الآخر استدعي خوفهم من الله في الدنيا فجُوزوا بنفيه عنهم يوم القيامة، إذ
إِنَّا
الجزاء من جنس العمل، وهذا كما قال الأبرار - فيما فعلوا من الخير - تَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَتطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: ۱۰] قال الله تعالى: ﴿ فَوَقَهُمُ اللَّهُ شَرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَلَقَهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: ١١] أي أمنهم مما خافوا.
وفي الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى قال: «وعِزَّتي لا أجمعُ على عَبْدِي خَوْفِينِ ولا أَمْنَينِ، مَن خَافَني في الدُّنيا أَمَنتُه يومَ القِيامَةِ، وَمَن أَمِنَنِي فِي الدُّنيا أَخَفْتُه في الآخرةِ». صححه ابن حبان.
هذا، وينبغي أن تعلم أنَّ مَن قال برأي هذا المبتدع الذي أوضحنا بطلانه فهو كافر والعياذ بالله لأنه خالف ما ثبت بالقرآن الكريم، وعلم من الدين بالضرورة، وأجمع عليه المسلمون قاطبةً.
قال الإمام أبو محمد ابن حزم في كتاب "مراتب الإجماع" تحت ترجمة: باب: من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع» - أي لكونه معلومًا من الدين بالضَّرورة ما نصه: واتفقوا أنَّ دين الإسلام هو الدين الذي لا دين الله في الأرض سواه، وأنه ناسخ الجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين
بعده أبدًا، وأنَّ مَن خالفه ممن بلغه كافرٌ مخلَّدٌ في النار أبدًا».اهـ ووافقه ابن
تيمية وغيره.
وعلى هذا، فما يعتقده بعض العوام الجهلة بالدين: أنَّ اليهودي أو النصراني إذا عمل في الدُّنيا خيرًا يدخل الجنَّة يوم القيامة كفر محض بإجماع المسلمين، وكذا الترحم على موتي اليهود والنصارى هو من هذا القبيل أيضًا؛ لأنَّ الله أخبر أن من مات على غير الإسلام فهو خاسر لا يدخل الجنة ولا تناله الرحمة أبدا؛ لأنه تمسك بدين منسوخ غير مقبول، وما يفعله أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار من خير كصدقةٍ مثلا يثابون عليه في الدُّنيا بالصحة، أو سَعَة الرّزق، أو بسطة في الجاه ونحو ذلك، ولا يثاب يوم القيامة إطلاقا؛ لقوله تعالى:
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَا مَّنثُورًا ﴾ [الفرقان: ٢٣].
نعم
، قد يُخفِّفُ عن الكافر بعض العذاب - وهو في النَّار - بعض أعماله الصالحة ؛ كما ثبت في "الصحيحين" أنَّ أبا طالب يجعله الله يوم القيامة في ضحضاح من النَّار، بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه كان يحوطه وينصره ويدافع عنه، لكن لم يؤمن به.
وورد أيضًا أنَّ أبا لهب يمصُّ مِن أصبعه كل يوم اثنين شيئًا قليلا لإعتاقه ثويبة حين بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.
أما الخروج من النار فلا مطمع فيه لكافر أبدًا.
نسأل الله أن يُميتنا على دين الإسلام، ويمحو عنا الأوزار والآثام، وأن يقبل هذا التأليف، ويجعله سببًا للفوز بجنات النعيم تحت لواء نبيه العظيم،
عليه أفضل الصلاة والتسليم آمين، والحمد لله رب العالمين.
استمداد العون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
القول
فقد نُسب إلى الشيخ الأكبر محي ا الدين ابن العربي -رضي | الله عنه - القيامة، واغتر بهذه النسبة بعض يوم
بصحة إيمان فرعون ونجاته من | النار
المتأخرين وانتصب للدفاع عن هذا القول الساقط متحمّلا أوهى الحجج وأضعف الأدلة.
لكن هذا القول لم يصح عن ابن العربي قال العارف الشعراني في "اليواقيت والجواهر: ومن دعوى المنكر أنَّ الشيخ يقول بقبول إيمان
فرعون، وذلك كذب وافتراء على الشيخ، فقد صرّح الشيخ في «الباب الثاني والستين» من "الفتوحات" بأن فرعون من أهل النار الذين لا يخرجون منها أبد الآبدين. قال شيخ الإسلام الخالدي رحمه الله : والشيخ محي الدين بتقدير صدور ذلك عنه لم ينفرد به، بل ذهب جمع كثير من السلف إلى قبول إيمانه، لما حكى الله عنه أنه قال: ﴿ ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ، بَنُوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: ٩٠] وكان ذلك آخر عهده بالدنيا. وقال أبو بكر الباقلاني: قبول إيمانه هو الأقوى من حيث الاستدلال ولم يرد لنا دليل صريح أ أنه مات على كفره. ودليل جمهور السَّلَف والخلف على كفره : أنه آمن عند اليأس وإيمان
أهل اليأس لا يقبل والله أعلم. هذا ما في "اليواقيت والجواهر ". ونحن لا نعلم أحدًا من السلف قال بقبول إيمان فرعون، بل لا نعلم أحدا قال هذا القول قبل الشيخ الأكبر فيما نُسب إليه، وإن كان غير صحيح عنه كما تبين آنفًا.
وإن كان القاضي عبدالصمد الحنفي نقل في "تفسيره" ذلك القول عن بعض الصوفية من غير تعيين.
وعلى فرض أن أحدًا ذهب إلى ذلك فهو مردود عليه، والآية التي أخذ منها
إيمانه -كما قيل - هي الدليل على كفره إلى حين الوفاة وبيان ذلك من وجوه الأول: أنه نطق بما نطق به عند المعاينة واليأس كما قال تعالى: ﴿ حَتَّى إذا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ ﴾ [يونس: ٩٠] الآية .
والإيمان في هذه الحالة لا ينفع لقوله تعالى: ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَنْهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بأَسَنَا سُنَتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَفِرُونَ ﴾ [غافر: ٨٥]
ولم يستثن الله من هذه السُّنَّةَ إِلَّا قوم يونس فقط، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةً ، مَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَنْهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: ۹۸] .
الثاني: أنه قال : مَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بنُوا إِسْرَاءِيلَ ﴾ [يونس: ٩٠] الآية. وفي هذا التعبير مجهلة وتعنت كما قال ابن جُزَي؛ حيث لم يصرح بلفظ الجلالة، ولو آمن حقًا لقال : آمنت أنه لا إله إلا الله. الثالث: أنه لم يُقر برسالة موسى عليه السَّلام والإيمان بالله من غير إقرار
برسالة رسوله لا ينفع صاحبه، ولا يُقبل منه كما هو معروف.
ولهذا قال الله له : الكَنَ حيث عاينت الغرق والعذاب وأيست من الحياة تقول: آمنت؟! وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي عصيت قبل هذا الوقت وكنت مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: ۹۱] في الأرض، الضالين المضلين، فَالْيَوْمَ
استمداد العون
تنجيك أي: نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع، يبدنك أي: بجسدك من غير روح لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ من بني إسرائيل حيث شك بعضهم في هلاكك اية ﴾ [يونس: ۹۲] دليلًا على عبوديتك وأنك لست بإله لأن الإله الحق لا يموت. وفي توجيه الخطاب إلى فرعون بهذا الأسلوب المنطوي على التبكيت والتحسير دليل رابع على عدم قبول إيمانه؛ إذ لو قبل الله إيمانه لما بكته ولا حشره؛ لأن الله تعالى عوّد عباده من كرمه أنه إذا قبل إيمان أحد منهم أو توبته
طوى بساط العتاب والملامة، وأتحفه بالقرب والكرامة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال : ٣٨].
هذا ومن الأدلة القاطعة في موته على الكفر قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ) أَنِ اعْدِ فِيهِ فِي التَّابُوتِ فَأَقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ) ))
TA
الْيَمُ بِالسَاحِلِ يَأْخُذُهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُولَهُ ﴾ [طه: ٣٧ - ٣٩] وهو فرعون.
ففي هذه الآية إخبار بأن فرعون عدو الله ولرسوله موسى عليه السلام،
وهذا هو الكفر بعينه، وخبر الله لا يدخله النسخ فهو تسجيل لكفر فرعون وموته عليه، إذ لو آمن في وقت ما لانتفت عنه عداوة الله ورسوله، فيكون
الإخبار بعداوته لله ورسوله غير صادق وهو محال، فثبت قطعا أنه لم يؤمن. دليل آخر: وهو قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ وَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوا وَحَرَنا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَطِعِينَ ﴾ [القصص: ۸] في هذه
الآية دليلان
أحدهما: الإخبار بأن آل فرعون التقطوا موسى ليصير لهم عدوا وحَزَنًا، وهذا مثل قوله تعالى: يَأْخُذَهُ عَدُو لِي وَعَدُولَهُ ﴾ [طه: ٣٩] وما كانت عداوتهم له إلا من جهة تكذيبهم له وكفرهم بما جاء به من عند الله .
ثانيهما: الإخبار بأن فرعون خاطئ، والخاطئ الآثم، وإثمه عداوته لله ولرسوله.
دليل آخر : قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَتَأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرِي فَأَوْقِدْلِي يَهَمَنُ عَلَى العِلِينِ فَاجْعَل فِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَذِبِينَ ) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَالَا يُرْجَعُونَ (٣) فَأَخَذْنَهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْنَهُمْ فِي الْبَةٌ فَأَنْظُرْ أ كيف كان عَقِبَةُ الظَّلِمِينَ وَجَعَلْنَهُمْ أَبِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيمَةِ لَا يُنصَرُونَ ) وَأَتْبَعْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعَنَةٌ وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ هُم مِن الْمَقْبُوحِينَ ﴾ [القصص: ٣٨ - ٤٢] في هذه الآيات عدة دلائل على كفر فرعون ولعنه، وأنه في الآخرة مقبوح غير منصور.
دليل آخر قال تعالى: وَقَرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَمَن وَلَقَدْ جَاءَهُم مُوسَى بِالْبَيِّنَتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَبِينَ (٢) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وهم عاد، وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وهم ثمود، وَمِنْهُم مَّن خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وهو قارون، وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وهم فرعون وهامان وجنودهما، وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: ٣٩ - ٤٠] بكفرهم بالله وبتكذيبهم رسله.
استمداد العون
ولو آمن فرعون حقا ما ساقه الله في هذه الآية مساقا واحدًا مع عاد وثمود
وقارون و هامان، فالآية كما ترى قاطعة في كفر فرعون لعنه الله. ومثلها في ذلك ما رواه أحمد بإسناد جيد، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وصححه ابن حِبَّان، عن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: «مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانا ونجاةً يومَ القيامَةِ، ومَن لم يُحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا
نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامانَ وأُيِّ بن خَلَفٍ». قال بعض العلماء: إنما حُشر المتهاون بالصَّلاة مع هؤلاء لأنه إن اشتغل عن الصلاة بماله أشبه قارون فيُحشر معه، أو بملكه: أشبه فرعون فيُحشر معه، أو بوزارته أشبه هامان فيُحشر معه، أو بتجارته: أشبه أبي بن خلف تاجر كفَّار مكة فيُحشر معه. والخلاصة : أنَّ فرعون كافرٌ مخلَّدٌ في النَّار مع الكُفَّار، وأنَّ القول بإيمانه لم يصح عن ابن العربي ولا غيره؛ لأنه مصادمة صريحة لنصوص القرآن والسُّنَّة ومخالفة لإجماع المسلمين. (تنبيه): نُقل عن ابن العربي أيضًا أنه استدل لصحة إيمان فرعون بأنه آمن في حال الاضطرار، والله أكرم من أن يردَّ عبدا في هذه الحالة وهو يقول: أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾ [النمل: ٦٢]. وأظنُّ أنَّ هذا الاستدلال لا يصح عنه؛ لأنه لا يليق بمنزلته في العلم والمعرفة؛ ذلك أنَّ فرعون آمن عند معاينة العذاب والإيمان في تلك الساعة لا يُقبل كما سبق، بخلاف الدُّعاء؛ فإن الله تعالى يستجيب لمن دعاه في الاضطرار
ΛΕ
ولو أنَّ فرعون دعا الله لاستجاب له وأنجاه من الغرق، فظهر الفرق بين الإيمان والدعاء.
(تنبیه آخر ) : أخرج الترمذي والنسائي، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ جبريل كان يدس في قم فرعونَ الطَّينَ مخافة أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله». صححه الترمذي. وفي رواية عند أحمد وإسحاق، والبزار، عن ابن عباس: لما أغرق الله فرعون قَالَ امَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ، بنوا إسْراويل ﴾ [يونس: ٩٠] قال جبريل: «يا محمد ، فلو رأيتني وأنا آخذ الطين مِن حال البحر فأدسُّهُ في فِيه مخافة أن تُدْركَهُ الرَّحمةُ». وله طرق. وهو حديث صحيح السند منكر المتن؛ لأن جبريل نزل على أم موسى بقول الله لها: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذَهُ عَدُوُّلِي وَعَدُولَهُ ﴾ [طه: ٣٩] وهو يعلم أن خبر الله لا يتخلف فكيف يقول: «كنت أدس الطين في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة ؟! هل شك في خبر الله ؟! هذا غير معقول. وأورد الإمام الرازي على الحديث إشكالا نقله عنه الخازن في "تفسيره"
بطوله وأجاب عنه، لكن ما ذكرته من النكارة هو المعتمد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكتبه: عبدالله بن محمد الصِّدِّيق الغماري الحسني
خادم الحديث الشريف
يوم الثلاثاء ٢٥ صفر سنة ١٣٧٨هـ
قرة العين
مقدمة
AV
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبينا المصطفى، وعلى آله وصحبه
و من به اقتفى.
وبعد: فقد زعم دكتور أزهري في كلمة أذاعها بالراديو أنَّ بعثة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إلى الجن ليس لها دليل قطعي يفيد اليقين.
فعجبت لجرأة هذا الدكتور في جهله وصفاقتة في إذاعة هذا الباطل من قوله، وليت شعري ماذا تعلم في الأزهر ؟! وكيف حصل على شهادة الدكتوراه وهو يجهل ما نطقت به آيات القرآن الكريم، وصدعت به نصوص السنة النبوية، وأجمع عليه علماء المسلمين قاطبةً على اختلاف نحلهم ومذاهبهم، بحيث صارت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإنس والجن من
المعلوم بالضرورة، كالعلم بأنَّه عليه السلام خاتم النبيين؟
ولكن ما الحيلة في مبتدعة الأزهر الذين يفاجئون المسلمين الفينة بعد الفينة بألوان من الجهالات والضلالات باسم الاجتهاد والتجديد ونبذ الجمود والتقليد؟! وإذا كان علماء المسلمين يقصدون بالاجتهاد: اتباع النبي عليه السلام فيما صح . عنه، وبالتقليد الأخذ بآراء الأئمة العارية عن الدليل، فإنَّ هؤلاء المبتدعة جدَّدوا في معنى الاجتهاد والتقليد فقصدوا بالأول ترك السُّنة النبوية جانبا، وجعلوا أتباعها جمودًا وتقليدًا، ثم اختلفت كلمتهم في تعليل ما أسموه اجتهادا وتقليدًا فمنهم من تستّر بدعوى أنَّ الأحاديث فيها ضعيف كثير، والصحيح منها على قلته - تدخله وجوه من الاحتمالات فلا يفيد المطلوب على وجه تطمئن إليه النفوس، وإذا صدمه حديث متفق على صحته لم يكترث
ΑΛ
أن يرده زاعما أنَّه من الإسرائيليات.
ومنهم من كشف قناع الحياء عن وجهه فصرح بأنَّ النبي عليه الصلاة ، والسلام يخطئ في فهم القرآن وفي فهم الأحكام وأن الله تعالى قد يؤخر تنبيهه مدة تصل في أقصاها إلى أربع سنين !!!
فهذا المبتدع لا يشكُ مسلم في أنَّه من صنائع المبشرين، كذلك العبي الذي أصدر كتابا أراد به هدم السُّنَّة المحمدية من أساسها فهدم نفسه بما أبدى من لحن في الإعراب وخطأ في التراكيب وركاكة في المعنى وبلادة في فهم ما ينقله من كلام العلماء.
وهدم دينه بما أبان من مساس بمقام النبي الكريم، ومن طعن صريح في كثير من الصحابة برميهم بالكذب في الرواية وتظاهرهم بالإسلام، مع استبطانهم اليهودية أو النصرانية... إلى غير ذلك مما يتسم بطابع الجرأة على القول في دين الله بالهوى والغرض وكان في محاولته الأثيمة كالباحث على حتفه
بظلفه، وكالجادع مارن أنفه بكفّه.
أما السُّنة المحمدية فكما هي .
ثابتة الأركان شامخة البنيان أصلها ثابت
وفرعها في السماء لم يصبها شيء من دنس ذلك الهراء. هذه نماذج من اجتهادات أولئك المبتدعة وهي كلُّها تهدف إلى الطعن في
سوء
الدين أو التشكيك في بعض الضروريات من عقائده وأحكامه خطة نهجوا عليها مأجورين من أعداء الإسلام تارةً، ومدفوعين بحب التجديد ومسايرة التطور الفكري تارةً أخرى. فدعوى ظنية إرسال النبي عليه السلام إلى الجن لم يجد ما يقتضي إذاعتها
قرة العين
على عامة المسلمين، إذ لم يتوقف عليها تثبيت عقيدة أو تصحيح عمل أو إصلاح أمر معيشة، بل لا محمل لها إلَّا إلقاء الشك في عقيدة توارثوها خلفًا عن سلف متلقاة من الإجماع القطعي المستند إلى صرائح الكتاب والسنة. وقد تكون مع هذا تمهيدًا لدعوى ظنّية إرساله عليه السلام إلى البشر عامة ثم يتدرج منها إلى ترديد دعوى بعض المستشرقين أنه عليه السلام أرسل إلى العرب خاصة؛ لأنه إذا انتفى القطع بعموم رسالته إلى الثقلين وجب التمسك بالمتيقن المقطوع به وهو رسالته إلى قومه دون غيرهم.
فكان من الواجب كشفُ بطلان تلك الدعوى الخاطئة وبيان مجانبتها لدين الله، والقضاء عليها قبل استفحال خطرها، وهو ما قمنا به في هذه الرسالة التي سميناها "قرة العين في في أدلة إرسال النبي عليه الصلاة والسلام إلى
التقلين".
والله المسؤول أن يقبلها منا، ويجعلها سببًا في دخول جنته والفوز برضوانه
ورحمته، إنه الجواد الكريم البر الرحـ
حيم
فصل
الدلائل على بعثته عليه السلام إلى الجن
الدلائل على بعثته عليه السلام إلى الجنّ كثيرة، نذكر منها ما تيسر في الحال، من غير قصد إلى استيفائها، إذ أنَّ ذلك يؤدي إلى الإطالة والإملال، مع قصور الهمم والرغبات، وجنوح أغلب الناس إلى المختصرات لسرعة التهامها ويسر فهمها، وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى.
1- فمن الدلائل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: ١] فقوله: لِلْعَالَمِين عام يشمل الإنس والجن بلا خلاف وعلى هذا درج المفسرون قاطبة.
بل جاء في قراءة ابن الزبير تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
تفيد
للعالمين للجن والإنس نذيرا وهذه القراءة - وإن كانت شاذة (1) - تفسير ابن الزبير الصحابي «للعالمين» بحسب مدلوله العربي مع تلقيه عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
٢- ومنها قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَدَةٌ قُلِ اللَّهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَى
هَذَا الْقُرْمَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: ١٩] أي ومن بلغه القرآن.
فكل من بلغه القرآن من عجم وعرب وإنس وجن، منذ البعثة النبوية إلى قيام الساعة فقد أنذره النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، لا خلاف في هذا أيضًا
(۱) لا تثبت قرآنيَّتها لفقدان التواتر المشترط في القرآن، لكنها تكون كخبر الآحاد فيعمل بها فيما تفيده من حكم شرعي أو تفسير آية كما هنا .
قرة العين
بين جمهور المفسرين، فهذه الآية عامة تشمل الثقلين كسابقتها.
٣- ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ قَالُوا يَنقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ يَقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَعَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُحِرَكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( وَمَن لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أُولَك فِي ضَلَلٍ مُّبِين ﴾ [الأحقاف: ٢٩ - ٣٢].
أخبر الله تعالى أنه صرف نفرًا من الجنّ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لاستماع القرآن منه، وأنهم بعد سماعه رجعوا إلى قومهم يأمرونهم بإجابة داعي الله وينذرونهم بالعذاب إن لم يُجيبوه، وهذا صريح في إرساله إليهم كما لا
يخفى
ومنها ما اشتملت عليه سورة (الرحمن) من وعد ووعيد وتبشير
وإنذار للجن والإنس على السواء.
اقرأ قوله تعالى: يَمَعْشَرَ الْمِينَ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَنِ ﴾ [الرحمن: ٣٣] إلى آخر السورة تجد هذه
الآيات صريحةً في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى الثقلين. وانظر كيف سخَّر الله الجنَّ لسليمان عليه السَّلام باعتباره ملكًا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقُدُور راسيات، فلم تتعد علاقته بهم علاقة مَلِكِ برعيَّته ولذلك لم يحكِ الله عنه أنه دعاهم إلى الإيمان أو
أنذرهم على الكفر والعصيان؛ لأنَّه كان رسولا إلى قومه خاصَّةً، أما النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فإنَّ الله تعالى حين تحدَّث : علاقته بالجن أفاد أنها عن علاقة رسول بأمته وصلة نبي بتابعيه، وهي أفضل من علاقة الملك في الدنيا وأبقى ثوابا في الأخرى.
ه - ومنها: قوله تعالى: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قرءانا عجبا يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَنَا مَنَابِهِ، وَلَن تُشْرِكَ بِرَتِنَا أَحَدًا إلى قوله: ﴿ وَأَنَا لَمَا
سَمِعْنَا الهدى القرآن عَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَحْسًا وَلَا رَهَقًا الآيات [الجن: ۱-۱۳) فهي صريحةٌ في أنَّ الجنَّ لما سمعوا القرآن آمنوا به، وهذا يفيد القطع بإرساله عليه السلام إليهم.
٦- ومنها: تحدي الجن والإنس بالقرآن في قول الله تعالى: قُل لَّينِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بعضُهُمْ لِبَعْضِ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: ٨٨].
ومن المقرر المعلوم أنَّ كلَّ نبي يتحدى قومه بمعجزة يأتيهم بها ولا يتحدى غيرهم لأنه لم يرسل إليهم، وقد أخبر الله تعالى عما أتى به صالح وشعيب وموسى وعيسى من معجزات تحدوا بها قومهم خاصة، وبتلك المعجزات تمت الحجة عليهم وحقَّ إهلاك من كفر منهم.
ويبدو تحدي الإنس بسورة من القرآن في قوله تعال: ﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ ﴾ [البقرة: ۲۳] وفي قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَنَهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
قرة العين
مِثْلِهِ مُفْتَرَيَتِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ [هود : ١٣]. فلما وقع التحدي في هذه الآية للجنِّ أيضًا دلَّ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أرسل إليهم وأنه تحداهم كما يتحدى النبيُّ أمته، ولو لم يكن مرسلًا إليهم لما كان في تحديهم فائدة.
وقد اعترفوا بإعجاز القرآن حين سمعوه، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْهَانَّا عَجَبًا [الجن: ١]، أي قرآنا بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه خارجا عن حد أشكاله ونظائره ودلائل الإعجاز قائمة فيه.
- ومنها ما رواه الشيخان عن جابر بن عبدالله: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «أعطيتُ خمسا لم يُعطَهُنَّ أحد قبلي: نُصرتُ بالرُّع مسيرة شهرٍ وجُعلت لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا فأيهما رجلٍ مِن أُمَّتِي أدركَتْهُ الصلاة فليصل، وأُحلَّتْ لي الغنائم، و
وكان النبي يبعث إلى قومِهِ خاصَّةً وبُعثتُ إِلى النَّاسِ عَامَّةٌ .
قال أبو الوفا بن عقيل: «الجن داخلون في مسمَّى الناس لغةً». وقال الجوهري : النَّاس» قد يكون من الإنس والجن. وقال الراغب الناس جماعة حيوان ذوي فكر وروية والجن لهم فكر وروية، والناس من ناس ينوس، إذا تحرك». قلت: ثبت الحديث بلفظ صريح عام، ففي "صحيح مسلم" عن أبي الأنبياء
هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «فُضّلتُ على ا بست: أعطيتُ جوامعَ الكَلِم ونُصرتُ بالرُّعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرضُ طهورًا ومسجدًا، وأرسلتُ إلى الخلق كافة وختم بي النبيُّون». فلفظ
الخلق يشمل الجنَّ بلا خلاف.
وأصرح منه ما رواه البخاري في "التاريخ"، والبزار والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أعطيتُ خمسا لم يُعطَها أحد قبلي من الأنبياء؛ جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، ولم يكن أحد من الأنبياء يصلّي حتى يبلغ محرابه، ونُصِرتُ بالرعب مسيرة شهر يكون بين يدي إلى المشركين فيقذِفُ الله الرعب في قلوبهم، وكان النبي يُبعث إلى خاصة قومه، وبُعثتُ أنا إلى الجن والإنس، وكانت الأنبياء يَعزِلون الخُمُسَ فتجيئُ النَّارِ فتأكله، وأُمرتُ أنا أنْ أقسمه بين فقراء أمتي، ولم يبق نبي إلا أُعطي سُؤله،
وأخرتُ أنا دعوتي شفاعةً لأمتي».
وروى ابن أبي حاتم وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم خرج فقال: «إنَّ جبريل أتاني فقال : اخْرُجْ فحدّث بنعمة الله التي أنعم بها عليك. فبشرني بعشر لم يؤتها نبي قبلي، أ ، أنَّ الله بعثني إلى النَّاس جميعًا، وأمرني أن أنذر الجن، ولقاني كلامه وأنا أمي، قد أوتي داودُ الزَّبور، وموسى الألواح، وعيسى الإنجيل، وغفر لي ما تقدَّم من ذنبي وما تأخر، وأعطاني الكوثر، وأمدني بالملائكة، وآتاني النَّصر، وجعل بين يديَّ الرُّعبَ، وجعل حوضي أعظم الحياض، ورفع لي ذكري في التأذين، ويبعثني يوم القيامة مقاما محمودا والناسُ مُهْطعين مُقنعي رؤوسهم، ويبعثني في أوَّل زُمرةٍ تخرجُ من النَّاس، وأدخل الجنةَ بشفاعتي سبعين ألفًا مِن أُمَّتِي لا يحاسبون، ويرفعني في أعلى غُرفةٍ
من جنَّاتِ النعيم ليس فوقي إلا الملائكة الذين يحملون العرش وآناني السلطان
قرة العين
وطيب الغنيمة لي ولأمتي، ولم تكن لأحدٍ قبلنا».
(تنبيه): لا تعارض بين هذه الأحاديث التي في بعضها أعطيت خمسا» وفي بعضها: «فضّلت على الأنبياء بسِت»، وفي بعضها: «فبشرني بعشر»، وبيان
ذلك من وجهين: الأول: أنَّ العدد لا مفهوم له كما هو رأي بعض الأصوليين. فقوله:
«أعطيتُ خمسا» لا يفيد نفي ما فوقها كالستة والعشرة.
الثاني: أن يكون الله أطلع نبيَّه على بعض ما خصه به فأخبر به، ثم أطلعه على بعض آخر فأخبر به وهكذا، وهذا بناءً على الأخذ بمفهوم العدد كما يقول به جمهور الأصوليين، وهو أيضًا يناسب ما علم من ترقّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلَّ يوم في مقامات الكمال وتدرُّجه كل ساعة في سني الأحوال، وجملة الخصال التي اختص بها نبينا عن الأنبياء عليهم السلام، ستون خصلة كما ذكر أبو سعد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى".
- ومنها: أي الدلائل - ما رواه البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إداوةً لوَضُوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، قال: مَن هذا؟ قال: أنا أبو هريرة قال: «ابْغني أحجارًا استنفضُ بها ولا تأتِني بعظم ولا رَوْثة. فأتيته
عليها طعامًا».
قال العلماء: «تعدد وفود الجنّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بمكة والمدينة، فبعض الوفود جاءوا لاستماع القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين، كما
في القرآن الكريم، وبعضهم جاءوا بعد ذلك لتعلم الأحكام». اهـ قلت: حديث أبي هريرة هذا من القبيل الثاني؛ لأن جن نَصيبين جاءوا قبل ذلك، وسمعوا القرآن، كما في حديث ابن مسعود الآتي، وحضروا هذه المرة لتلقي الأحكام، ومجيئهم في كلتا الحالتين دليل قاطع في أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم مرسل إليهم كالإنس.
٩- ومنها: ما رواه ابن جرير والبزار وابن أبي الدنيا في "الشكر" من طريق اسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة (الرحمن) أو قرئت عنده، فقال: «مالي أسمع الجنَّ خيرًا منكم جوابًا لربها؟ ما أتيتُ على قول الله عزَّ وجلَّ: فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تكَذِّبَانِ [الرحمن: ۱۳] إلا قالت الجن: ولا بشيءٍ مِن نعمة ربنا نُكَذِّب». إسناده صحيح. ١٠ - ومنها ما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا في "الشكر" والبيهقي ع جابر قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم على أصحابه فقرأ عليهم (سورة الرحمن) حتى ختمها فسكتوا فقال مالي أراكم سكوتا؟ لقد قرأتها على الجن (۱) ليلةَ الجنّ، فكانوا أحسن رَدًّا منكم، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله:
عن
(۱) قال التقي الشبكي: هذا يدل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم قرأها على الجن كما قرأها على الإنس ليبلغها إليهم ليتساوى الصنفان المخاطبان فيها، وهو مما يدل على بعثته إليهم . اهـ
قرة العين
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِبَانِ قالوا: ولا بشيءٍ مِن نِعمك ربَّنا نكذب، فلك
الحمد». ورواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، وسلَّمه الذهبي. (تنبيه) في هذا الحديث والذي قبله شرفٌ كبير للجن حيث روى النبي
صلى الله عليه وآله وسلّم كلامهم للصحابة مباهيا به مستحسنًا له، ويؤخذ منه استحباب قوله لنا، والله أعلم.
١١ - ومنها: حديث ابن مسعود، وله طرق كثيرة:
الطريق الأول: أخرج أحمد ومسلم والترمذي من طريق علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن أحد منكم؟ قال: ما صحبه مِنا أحد، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم! قال: «أتاني داعي الجن، فذهبتُ معه فقرأتُ عليهم القرآن». قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. الحديث.
قلت: لم يحضر ابن مسعود هذه المرة، ورواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحضر بعدها مرات كما سيأتي.
١٢ - الطريق الثاني: أخرج أبو نعيم والبيهقي في "دلائل النبوة" من طريق . أبي عثمان الخزاعي: أنه سمع عبد الله بن مسعودٍ يقول: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لأصحابه وهو بمكة: «مَن أحبَّ منكم أنْ يحضر الليلةَ أمر الجن فليفعل». فلم يحضر أحدٌ منهم غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى
مكة، خط برجله خطا، ثُمَّ أمرني أن أجلس فيه، ثُمَّ أنطلق حتى قام فافتتح
القرآن، فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته ثُمَّ
رهط
انطلقوا فطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم ( وفرغ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم مع الفجر وانطلق فبرز ثم أتاني، فقال: «ما فعل الرَّهط ؟ فقلت: هم أولئك يا رسول الله. فأخذ عظما ورونا فأعطاهم زادا، ثم نهى أن يَسْتَطِيبَ أحد بعظم أو روث. ورواه ابن جرير والحاكم وصححه.
١٣ - الطريق الثالث: أخرج أبو نعيم في "دلائل النبوة" من طريق أبي المعلى عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط خطا فقال: «لا تُحدثَنَّ شيئًا حتى آتيك، ثم قال: لا يَرُوعَنَّكَ وَلا يَهُولَنَّكَ شيءٌ تراه». فتقدَّم شيئًا ثم جلس فإذا رجال سود
كأنهم رجال الزُّطِّ، وكانوا كما قال الله : كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: ١٩] ثم إنهم تفرقوا عنه، فسمعتهم يقولون: يا رسول الله، إنَّ شقتنا بعيدة، ونحن منطلقون فزودنا. قال: «لكم الرَّجيعُ، وما أتيتم عليه من عظم فلكم عليه لحم، وما أتيتم عليه من الروث فهو لكم تمرّ». فلما ولوا قلت: من هؤلا؟! قال: «جِنُّ نُصيين».
١٤ - الطريق الرابع: أخرج أبو نعيم والبيهقي في "الدلائل"، من طريق علي ابن رباح، عن ابن مسعود قال: استتبعني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «إنَّ نفرًا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتونني الليلة، فأقرأ عليهم القرآن».
قرة العين
فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخطَّ لي خطا وأجلسني فقال: «لا تخرج من هذا». فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مع السَّحَر، في يده عظم حائل وروثة وحُممة فقال: «إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء». فلما أصبحت قلت: لأعْلَمَنَّ حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا.
١٥ - الطريق الخامس: أخرج البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق أبي الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن حتى أتى الحَجُون، فخطَّ على خطّا ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: إني أنا أرحلهم عنك، فقال: «إني لن يجيرني من الله
أحدٌ». ورواه ابن مردويه في "تفسيره". وإسناد الحديث صحيح. ١٦ - الطريق السادس: أخرج أبو نعيم من طريق أبي ظبيان عن ابن مسعود قال: انطلق النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وانطلق بي معه حتى أتى البراز، ثم خطّ لي خطا ثم قال: «لا تبرح حتى أرجع إليك». فما جاء حتى السَّحَر، فقال: «أرسلت إلى الجن». قلت فما هذه الأصوات التي أسمعها؟ قال: «هذه أصواتهم حين ودعوني وسلَّموا علي». ۱۷ - الطريق السابع : أخرج أحمد من طريق عمرو البكالي عن ابن مسعود قال: استتبعني النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا، فخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم خِطَّة فقال: «كن بين ظهرَيْ هذه لا تخرج منها فإنَّك إن خرجت منها هلكت». فكنت فيها، فمضى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأبعد شيئًا، ثم ذكر هنينا - بفتح الهاء وكسر النون،
يعني
لحمهم.
أشخاصا - كأنهم الزُطّ عليهم ثياب ولا أرى سوآتهم، طوال قليل
قال: فأتوا فجعلوا يركبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -أي
يزدحمون عليه - وجعل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليهم. قال: وجعلوا يأتون فيختلون حولي ويعرضون، قال: فأرعبت منهم رعبًا شديدا، فلما انشقّ عمود الصبح جعلوا يذهبون. ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء ثقيلا وجعًا أو يكاد يكون وجعا مما ركبوه.
ثم إنَّ هنينًا أتوا عليهم ثياب بيض طوال، وقد أغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فأرعبت أشدَّ مما أرعبت في المرة الأولى، فقال بعضهم لبعض: هلم فلنضرب له مثلا، فقال بعضهم: مثله كمثل سيد بنى بنيانا حصينا، ثم أرسل إلى النَّاس بطعام ، أو كما قال فمن لم يأت طعامه، أو قال : لم يتبعه، عُذب عذابًا شديدًا. قال الآخرون: أما السيد فهو ربُّ العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام والطعام الجنة، وهو الداعي. فمن اتبعه كان في الجنة، ومن لم يتبعه عذب. ثم إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما رأيتَ يا ابنَ أم عبد ؟». قال عبدالله : رأيت كذا وكذا. قال نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ما خَفِي على شيء مما قالوا، هم نفر من الملائكة». قال الحافظ الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير عمرو البكالي، وذكره
العجلي في ثقات ،التابعين، وابن حِبَّان وغيره في الصحابة».اهـ
قلت: ذكره في الصحابة أيضًا البخاري وأبو حاتم وخليفة وابن البرقي
قرة العين
وأبو أحمد الحاكم وابن عساكر، وورد بإسناد صحيح عن أبي تميمة الهجيمي التابعي أنه سأل بالشام عن عمرو البكالي فقالوا: هذا أفقه من بقي على وجه الأرض من الصحابة.
وصرح عمرو نفسه بسماعه من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في حديث رواه البزار في "مسنده".
والمقصود أن حديث ابن مسعودٍ صحيح الإسناد جدا وفيه أنَّ الملائكة أتوا بعد ذهاب وفد الجنّ وضربوا مثلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه الداعي إلى الله زيادة في التأكيد وإبلاغًا في البيان بأنه عليه السلام رسول إلى
الجنّ كالإنس. وهذا سر مجيئهم عقب وفد الجنّ مباشرة.
١٨ - الطريق الثامن: أخرج الطبراني وأبو نعيم من طريق أبي عبدالله الجدلي عن ابن مسعود قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن فانطلقت معه حتى بلغنا أعلى مكة فخطَّ لي خطا فقال: «لا تبرح» ثم انصاع في الجبال، فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال حتى حالوا بيني وبينه، فاخترطتُ السيف وقلت لأستنقذَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ثم ذكرت قوله: «لا تبرح حتى آتيك فلم أزل كذلك . الفجر، فجاء وأنا قائم، فقال: «ما زلت على حالك؟ قلت: لو لبثت شهرًا ما برحتُ حتى تأتيني، ثم أخبرته بما أردت أن أصنع، فقال: «لو خرجت ما التقيتُ أنا ولا أنت إلى يوم القيامة ثم شبَّك أصابعه في أصابعي، وقال: «إني وعدتُ أن يؤمن بي الجن والإنسُ فأما الإنسُ فقد آمنت بي وأمَّا الجن فقد
حتى
أضاء
رأيت».
١٩ - الطريق التاسع: أخرج ابن جرير وأبونعيم، عن عمرو بن غيلان الثقفي، عن ابن مسعود قال: إنَّ أهل الصُّفّة أخذ كل رجل منهم رجلا يعشيه، وتُرِكْتُ، فأخذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجرة أم سلمة، فلم يجد عشاء، ثم انطلق بي حتى أتينا بقيع الغرقد، فخط بعصاه خطة ثم قال: اجلس ولا تبرح حتى آتيك».
ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل حتى إذا كان من حيث أراه، ثارت مثل العجاجة السوداء ففَرَقت، فقلت: ألحق برسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنِّي أظن هذه هوازن مكروا برسول الله ليقتلوه فأسعى إلى البيوت فأستغيث بالناس، فذكرت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه. فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرعهم بعصاه ويقول: «اجلسوا فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح، ثم ثاروا وذهبوا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أولئك وفد الجن سألوني المتاع والزَّاد، فمنعتهم بكل عظم حائل أو رَوْثَةٍ أو بَعْرٍ، فلا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حَبَّها الذي كان فيها يومَ أكلت».
قلت: بقيت أحاديث من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود وأبي زيد وابن عباس وأبي رافع وغيرهم، عن ابن مسعود
في وفود الجن، تركناها اكتفاء بما ذكرناه. قال علماء الحديث والسيرة: إسلام الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كوفادة الإنس فوجا بعد فوج وقبيلة بعد قبيلة بمكة وبعد الهجرة.
قرة العين
قلت: ممن حضر وفد الجنّ غير مَن تقدَّم، الزبير بن العوام(۱)، وبلال بن
الحارث المزني (٢) وغيرهما.
وروى أبو نعيم عن ابن عمر قال: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جاءته وفود الجنّ من الجزيرة فأقاموا عند النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما بدا لهم، ثم أرادوا الرجوع إلى بلادهم، فسألوه أن يزودهم، فقال: «ما عندي ما أزودكم، ولكن اذهبوا فكلّ عظم مررتم به فهو لكم لحما غريضًا - طريا- وكل
روت مررتم به فهو لكم تمر . فلذلك نهى أن يستنجى بالروث والرمة. وفي "صحيح البخاري عن معن بن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقا من آذن النبي صلى الله عليه وآله
(۱) رواه الطبراني وأبو نعيم من طريق نمير بن يزيد ،القيني، عن أبيه، عن قحافة بن ربيعة قال: حدثني الزبير بن العوام قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة، فلما انصرف قال: «أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟»، فأسكت القوم ثلاثا، فمرَّ بي فأخذ بيدي، فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة وأفضينا إلى أرض بَرَاز. فإذا برجال طوال كأنهم الرماح، مستنفرين بثيابهم من بين أرجلهم، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق، فلما دنونا منهم، خط لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإبهام رجله في الأرض خطا فقال لي: «اقعد في وسطه» فلما جلست، ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة... وذكر نحو حديث ابن مسعود في قراءة القرآن على الجن إلى الفجر، وأنهم جن نصيبين، وأنهم سألوا الزاد فجعل لهم كل عظم وروثة. (۲) رواه أبو الشيخ في "العظمة"، وعنه أبو نعيم في "الدلائل"، عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، عن بلال بن الحرث المزني.
وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك -يعني عبدالله - أنه
آذنت بهم شجرة.
والحاصل: أنَّ مجيء الجنّ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وإسلامهم معلوم علما ضروريًا، لوروده في القرآن وفي هذه الأحاديث وغيرها، وهي بالغة حد التواتر.
٢٣ - ومن الدلائل: ما رواه مالك ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ نفرا من الجنّ أسلموا بالمدينة فإذا رأيتم أحدًا منهم يعني على صورة حية من حيات البيوت - فحذروه ثلاث مراتٍ ثُمَّ إن بدا لكم بعد أن تقتلوه فاقتلوه
بعد الثلاث». وفي رواية: «فليؤذنه ثلاثًا فإن بدا له بعد فليقتله، فإنَّه شيطان». وفي رواية لمسلم: «فإنَّه كافر».
٢٤- ومنها: ما رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" عن جابر بن عبدالله قال: إنَّ أول خبر قدم علينا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّ امرأة كان لها تابع من الجنّ، قال: فأتاها في صورة طير فوقع على جذع لهم، قال: فقالت: ألا تنزل لتخبرنا ونخبرك؟ قال: إنه قد خرج بمكة رجل حرم علينا
الزنا ومنع منا القرار. قال الحافظ الهيثمي : «رجاله وتقوا».
قلت: فإسناده حسن.
وروى أبو نعيم من طريق أرطأة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول: كانت امرأة بالمدينة يغشاها جان، فكان يتكلم ويسمعون كلامه، ويسمعون
صوته قال: فغاب فلبث ما لبث فلم يأتها، ولم يختلف إليها، فلما كان بعد إذ هو
قرة العين
يطلع من كُوَّة، فنظرت إليه فقالت يا ابن لوذان! ما كانت لك عادة تطلع من الكوة، فما بالك؟! فقال: إنه خرج نبي بمكة، وإني سمعت ما جاء به، فإذا هو يُحرم الزنا، فعليك السلام.
وقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر ، عن الزهري: أخبرني علي بن الحسين قال : إنَّ أول خبر قدم المدينة أنَّ امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة كان لها تابع من الجن، فجاءها يوما فوقع على جدارها، فقالت: ما لك لا تدخل؟ فقال: إنه بعث نبي حرَّم الزّنا، فحدثت به تلك المرأة عن تابعها من الجن، فكان أول خبر حدث بالمدينة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
٢٥- ومنها ما رواه الطبراني من طريق محمد بن خليفة الأسدي، عن محمد بن أبي حمى، عن أبيه قال: قال عمر يوما لابن عباس: حدثني بحديث تعجبني به. فقال: حدثني خُرَيم بن فاتك الأسدي قال: خرجت في بغاء إبل لي، فأصبتها بالأبرق حدثان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي كما كانوا يقولون في الجاهلية - فإذا هاتف يهتف بي
ويقول:
ويحك عذ بالله ذي الجلال منـزل الحـــــرام والحــلال
فقلت:
يا أيها الداعي فما تحيل أرشــــد عنــــدك أم تضليل؟
فقال:
هذا رسول الله ذي الخيرات جاء بياسين و حاميمات محرمات و مُحللات يأمرنا بالصوم والصَّلاةِ
فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا مالك بن مالك الجني بعثني رسول الله
صلَّى الله عليه وآله وسلم على جنّ أهل نجد.
فكان هذا سبب إسلام خُريم بن فاتك.
ورواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه "، ومن طريقه أبو القاسم بن بشران، من جهة محمد بن خليفة الأسدي، عن رجل من أذرعات سماه، فذكره. ٢٦- ومنها: ما رواه البخاري في "صحيحه" والنسائي، عن عبدالله بن مسعود - في هذه الآية-: أُولَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ * [الإسراء: ٥٧] قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجنّ، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم. وفي رواية ابن جرير: فأسلم الجن والإنس الذين كانوا يعبدونهم يشعرون بإسلامهم. وروى سفيان الثوري في تفسيره"، ومن طريقه ابن جرير بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحدا ﴾ [الجن: ۱۸] قال : قالت الجن للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم: كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناءُون؟ وكيف نشهد الصلاة معك ونحن ناءُون؟ فأنزل الله
تعالى وَأَنَّ الْمَسَجِدَلِلَّهِ الآية .
وروى ابن جرير
У
إِلَيْكَ نَفَرا مِنَ الْجِن ﴾ [الأحقاف: ۲۹] الآية، قال: كانوا سبعة نفر من أهل نَصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا إلى قومهم.
قرة العين
وروى البيهقي عن أبي المليح الهذلي، أنه كتب إلى أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود يسأله: أين قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجن؟ فكتب إليه: أنه قرأ عليهم بشعب يقال له: الحَجُون.
وبم
۲۷ - ومنها: ما رواه الطبراني عن ابن عباس قال: إِنَّ الله فضَّل محمدًا صلى الله عليه وآله وسلَّم على أهل السماء والأرض. فقال رجل: يا أبا عباس، فضله على أهل السماء والأرض؟ قال: إنَّ الله عزّ وجلَّ يقول لأهل السماء: وَمَن يَقُل مِنْهُمْ إِنّتِ إِلَهُ مِن دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمُ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٢٩]، وقال الله عزَّ وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلّم: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ ﴾ [الفتح: ١ - ٢] فقيل له: يا أبا عباس، فما فضله على الأنبياء؟ قال: إنَّ الله عزّ وجل قال:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [إبراهيم: ٤] وقال لمحمد صلى الله
عليه وآله وسلَّم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا كَافَةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: ۲۸] فأرسله الله إلى الإنس والجن.
قال الحافظ الهيثمي : رجال إسناده رجال الصحيح، غير الحكم بن أبان،
وهو ثقة» . اهـ
۲۸ - ومنها ما رواه الفاكهي في تاريخ" "مكة" من طريق ابن عباس، عن عامر بن ربيعة قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بمكة في
بدء الإسلام، إذ هتف هاتف على بعض جبال مكة يحرّض على المسلمين. فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هذا شيطان ولم يُعلن شيطان
بتحريض على نبي إلا قتله الله». فلما كان بعد ذلك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قد قتله الله بيد رجل من عفاريت الجن يدعى سَمْحَجًا - بوزن
جعفر - وقد سميته عبد الله. فلما أمسينا سمعنا هاتفًا بذلك المكان يقول : نحن قَتَلْنَا مِسْعَرًا لماطف ا طَغَى واستكبرا وصَغَر الحق وسَنَّ المُنكَرا بَشَيْمِهِ نبين بشَيْمِهِ نِبيَّنَا المُطَهَـرا
وروى أيضًا من طريق حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه قال: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بمكة هتف رجل من الجن يقال له مشعر، بالتحريض عليه قال: فتذامرت قريش واشتدَّ خَطبهم فلما كان في الليلة القابلة ، قام مقامه آخر يقال له سمحج. فقال مثل ما سبق.
ورواه أبو نعيم من طريق آخر عن ابن عباس قال: هتف هاتف من الجن على جبل أبي قبيس بمكة يقول أبيانًا في التحريض على النبي والمسلمين، قال ابن عباس: فأصبح هذا الحديث قد شاع بمكة، فأصبح المشركون يتناشدونه بينهم، وهموا بالمؤمنين، فقال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان، يقال له مشعر، والله يُخزيه». قال: فمكثوا ثلاثة أيام، فإذا هاتف على الجبل يقول:
نحن قتلنـا مشــــعرا لما طَغَى واستكبرا وسفه الحق وسَنَّ المُنكَرا قنعته سيفا جروفًا مُبتِرا بشتمه نبينا المطهرا
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «ذلك عفريت من الجن، يقال له سَمْحَج سميته عبدالله آمن بي فأخبرني أنه في طلبه منذ أيام. فقال علي بن
قرة العين
أبي طالب: جزاه الله خيرا يا رسول الله (۱).
٢٩- ومنها: الإجماع القطعي المتوارث بين المسلمين خلفًا .
عن
سلف
وجيلا بعد جيل. ونحن ننقل كلام بعض الأئمة مما يدل على هذا المعنى، دلالة صريحة لا تحتمل تأويلا
قال الإمام الحافظ أبو محمد ابن حزم في باب من الإجماع في الاعتقادات، يكفر من خالف بإجماع، وهو آخر باب في كتاب "مراتب الإجماع": «اتفقوا أن الله عزّ وجلّ وحده لا شريك له خالق كل شيء غيره وأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، المبعوث بمكة المهاجر إلى المدينة، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى جميع الجن والإنس إلى يوم القيامة» . اهـ وقال الحافظ ابن عبدالبر : ولا يختلفون أنَّ محمدا رسول الله إلى الإنس والجن بشيرا ونذيرا، وهذا مما فُضّل به على الأنبياء أنه أرسل إلى الخلق كافة، الجن والإنس وغيره لم يرسل إلا بلسان قومه صلَّى الله عليه وآله وسلم وعلى سائر الأنبياء».اهـ
وقال إمام الحرمين في "الإرشاد في الردّ على العيسوية" طائفة من اليهود: «وقد علمنا ضرورة أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ادعى كونه مبعوثا إلى الثقلين» . اهـ
(۱) في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول " لابن تيمية، (ص١٤٧): «وقد ذكروا أنَّ الجنَّ الذين آمنوا به كانت تقصد من سبه من الجنّ الكفار فتقتله - قبل الهجرة وقبل الإذن لها وللإنس في القتال - فيُقرها على ذلك ويشكر ذلك لها، ثم نقل عن مغازي الأموي هذا الحديث.
وحكى ابن عطية الإجماع على أنّ الجنَّ مُتعبدون بهذه الشريعة على الخصوص وأنَّ نبيَّنا محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مبعوث إلى الثقلين». اهـ وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية: أرسل الله محمدا إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلل الله ورسوله، ويحرموا ما حرَّم الله ورسوله، وأن يُوجبوا ما أوجب الله ورسوله ويحبوا ما أحبَّ الله ورسوله ويكرهوا ما كره الله ورسوله، وأنَّ كلَّ من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم من الإنس والجن، فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى، كما يستحق أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسل، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة
المسلمين، وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم . اهـ
وقال
الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة زوبعة الجنّي: «أنكر ابن الأثير على أبي موسى إخراجه ترجمة هذا الجنّي، ولا معنى لإنكاره لأنهم مكلفون، وقد أرسل إليهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فآمن منهم به من آمن، فمن عرف اسمه ولقيَّه للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فهو صحابي لا محالة، وأما قوله كان الأولى أن يذكر جبرائيل، ففيه نظر، لأن الخلاف في أن
النبي هل أرسل إلى الملائكة ؟ مشهور، بخلاف الجن» . اهـ وقال الحافظ السخاوي في "فتح المغيث": "وكذا يدخل فيهم -أي الصحابة - من رآه وآمن به من الجنّ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليهم قطعا، وهم مكلَّفون، فيهم العصاة والطائعون، ولذا قال ابن حزم في الأقضية من "المحلى": قد أعلمنا الله أنَّ نفرا من الجنّ آمنوا وسمعوا القرآن من النبي
قرة العين
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهم صحابةٌ فُضَلاء» . اهـ
وكذا قال الحافظ العراقي في نكته على "مقدمة ابن الصلاح".
وقال العلامة المحدث القاضي بدر الدين الشبلي في "آكام المرجان": «لم
يخالف أحد من طوائف المسلمين في أنَّ الله تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجن والإنس».اهـ
وقال أيضا: «وقد أخبر الله تعالى في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرَ مِنَ الْجِنِ إلى قوله : أَوْلَيكَ فِي ضَلَلٍ مُّبِين ﴾ [الأحقاف: ۲۹-۳۲] ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَى أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَر من الجن ﴾ [الجن: ١] السورة بكمالها، فأمره بقول ذلك ليعلم الناس بأحوال الجنّ، وأنه مبعوث إلى الإنس والجن، ولما في ذلك من هدي الإنس والجن إلى ما يجب عليهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله واليوم الآخر،
وما يجب من طاعة الله ورسوله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم» . اهـ (۱) وقال العلامة السفاريني في "الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية": وخصـــــه بــــذلك المقــــام وبعيــــــه لســــــائر الأنــــــام وفي شرحها: (و) الثالثة أنه سبحانه وتعال خص نبيه صلى الله عليه وآله
(۱) وقال العلامة المحدّث الدَّميري في "حياة الحيوان": «أجمع المعلمون قاطبةً على أنَّ نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلَّم مبعوث إلى الجن كما هو مبعوث إلى الإنس ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك. وقال الحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى": الإجماع على أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم مبعوث إلى جميع الإنس والجن».اهـ
وسلم بـ «بعثه» نبياً ورسولاً «السائر» أي جميع «الأنام» الخلق من الإنس والجن
بالإجماع».اهـ (۱)
ونصوص العلماء في هذا كثيرة، يعسُر تتبعها، ويستعصي على الباحث حصرها، والمسألة لا تحتاج إلى جلب نصوص ولا إلى تقرير أدلة، فإنَّ كون نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم مبعوثًا إلى الثقلين الجن والإنس معلوم من الدين بالضرورة، فمن أنكر ذلك أو شَكٍّ فيه فهو كافر بلا خلاف، وبالله التوفيق.
(۱) هذه تسعة وعشرون دليلا، يُضم إليها حديث الزبير، وحديث بلال بن الحارث المزني وحديث ابن عباس وحديث ابن عمر فيكون العدد ثلاثة وثلاثين دليلًا. وهذه الأحاديث الأربعة، ذكرتها ولم أضع بجانبها رقما، إلا حديث بلال، فإني خرجته ولم أذكر لفظه اختصارًا، وهو مذكور بنصه في "الخصائص الكبرى" للحافظ السيوطي، وفي "حياة الحيوان" للدميري.
قرة العين
فصل
ذكر أسماء الصحابة الجنيين
رأيت أن أذكر أسماء الصحابة الجنّيين تتميّاً للفائدة وقد نقلت هذه الأسماء من كتاب "الإصابة في تمييز أسماء الصحابة" للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله ورضي عنه، وقد استدركت عليه أسماء سأبينها في محلها إن شاء الله تعالى.
1 - أبيضُ الجنّي: ذكره أبو علي بن الأشعث -أحد المتروكين المتهمين- في كتاب "السنن" له، فروى بإسناده من طريق أهل البيت: أن رسول الله صلَّى الله
عليه وآله وسلم قال لعائشة: «أخزى الله شيطانك...» الحديث. وفيه: «ولكنَّ الله أعانني عليه حتى أسلم، واسمه أبيض، وهو في الجنة وهامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس في الجنة».
قلت: من خصوصيات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إسلام قرينه من
الجن، ثبت ذلك في "صحيح مسلم " وغيره، وإنما الغريب هنا تسميته. ٢ - أحقب ذكر ابن دريد أنه أحد الجنّ الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه
وآله وسلم وسمعوا منه القرآن من جنَّ نَصِيبين.
٣- الأدرس الجني.
- الأرقم الجني : ذكر اسماعيل بن أبي زياد في "تفسيره"، عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرَا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ ﴾ [الأحقاف: ۲۹] الآية، قال: «هم تسعة سليط، وشاصر، وخاضر، وحسان، ومنساة، ولحقم، والأرقم، والأدرس، وح
ه - حسان الجني: تقدم.
حاصر الجني : تقدم أيضًا.
خاضر الجني : تقدم أيضًا.
زلعب الجني : يأتي ذكره في شاصر إن شاء الله تعالى.
۹ - زوبعة الجني أحد الجن الذين استمعوا القرآن.
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد بن منيع في مسنديها، والحاكم في "المستدرك " من طريق عاصم، عن زر، عن عبدالله - هو ابن مسعود قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا!!!. وكانوا سبعة أحدهم .زوبعة قال الحافظ ابن حجر: «إسناده جيد».
۱۰ - شرق بوزن عمر من الجن الذين أسلموا
روى البيهقي في "الدلائل" من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن أبي ـمر الأنصاري قال: بينما عمر بن عبدالعزيز يسير بفلاة من الأرض قاصدا
معمر
مكه إذا هو بحيَّة ميتة، فقال: علي بمحفار ، فحفر له، ثم لفه في خرقة فدفنه. فإذا هاتف يهتف رحمة الله عليك يا سُرق، فأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «تموتُ يا سُرَق بفلاة من الأرض فيدفنك خير أمتي». فقال له عمر بن عبد العزيز: من أنت؟ قال: أنا رجل من الجن، وهذا
شرق، ولم يكن بقي ممن بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم غيري وغيره. ورواه ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن الحسين: ثنا يوسف بن الحكم الرقي، حدثني فياض بن محمد الرقي أن عمر بن عبدالعزيز بينا هو يسير على بغلة ومعه ناس من أصحابه، إذا هو بجان ميت على قارعة الطريق... وذكر الحديث
قرة العين
نحو ما تقدم، غير أنه لم يسمه.
وأسند الحافظ السهيلي عن أبي بكر بن طاهر الإشبيلي القيسي عن أبي علي
الغساني الحافظ. فذكر الحديث نحوه وسماه سُرَق أيضًا.
۱۱ - سليط: - بفتح السين - الجني، تقدم.
۱۲ - سَمْحج الجني : تقدم، وسماه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : عبدالله. ۱۳ - سمحج آخر ، ويقال : سمهج، روى حديثه الدارقطني في "الأفراد". وقال أبو موسى: أخرجناه تبعا له، لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان مبعوثًا إلى الإنس والجن. قال الحافظ ابن حجر: ما أدري أهو الذي قبله أو غيره؟
قلت: يظهر لي أنه هو .
قال الطبراني في "المعجم الكبير " : حدثنا عبدالله بن الحسين قال: دخلت طرسوس، فقيل لي: ههنا امرأة قد رأت الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فذهبت إليها فإذا امرأة مستلقية على قفاها وحولها جماعة فقلت لها: ما اسمك؟ قالت: منوسة. فقلت لها: هل رأيت أحدًا من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: نعم. حدثني - واسمه عبدالله - قال :قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق :
سمحج
السموات والأرض؟ قال: «كان على حوتٍ من نورٍ يتلجلج في النُّور». قلت: هذا حديثٌ مُنكَرٌ ،موضوع، وعبدالله بن الحسين شيخ الطبراني، يسرق الحديث ويقلب الأخبار، لا يجوز الاحتجاج به. قاله ابن حِبَّان. ١٤ - شاصر الجني: تقدَّم في الأرقم.
١٥ - شاصر آخر: أخرج الزبير بن بكار في "الموفقيات": حدثنا الرياشي: سمعت سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت يحدث قال: حدثني أبي، عن عبدالحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة قال: «بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى حضرموت في حاجة له، وهو بمكة فلما كنت ببعض الطريق عرَّست في الليل، فسمعت هاتفًا يقول: أبا عمرو تأوَّبني الشهود وراحَ النَّوم وامتنع الهجُودُ وذكر أبياتا فناداه هاتف آخر :وقال يا زَلْعب! ذهب بك العجب إن
أعجب العجب بين مكة ويثرب
قال: وماذا يا شاصر ؟ قال : نبي أرسل بخير الكلام، إلى جميع الأنام، يخرج
من بين البلد الحرام إلى نخيل وآطام. فقال آخر: ما هذا النبيُّ المرسل ؟ والكتاب المنزل؟ قال: قال رجل من لؤي ابن غالب. وذكر القصة إلى أن قال: فسمعت صيحة كأنها صيحة حبلى، فطلع الفجر فرأيت ثعبانًا وعظاءة ميتين، فقدمت فإذا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قد هاجر إلى المدينة». العظاءة: هي السحلية.
١٦ - شصار الجنّي: قال ابن دريد في "الأخبار المنثورة": أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن أبيه قال: كان خُنافِر بن التوأم كاهنًا، فلما وفدت وفود اليمن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد، وخرج بماله وأهله فلحق بالشَّحَر ، وكان له رَبِّي في الجاهلية ففقده في الإسلام، قال: فبينا أنا ذات ليلة بذلك الوادي إذ هَوَى عَلَيَّ هَوي العُقاب قال: خُنافر؟، فقلت شصار . قال اسمع أقل. قلت: قل أسمع. قال: عة
قرة العين
تغنم، لكل ذي أمد ،نهاية، وكلّ ذي ابتداء إلى غاية. فقلت: أجل. قال: كل دولة إلى أجل، ثم يُتاح لها حِوَل، وقد انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها المكل، إني أتيت بالشام نفرا من آل العُدام حكامًا على الحكام، يزبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشَّعر المؤلّف، ولا السَّجع المكلف، فأصغيت فرجرت فعاودت فقلت: بم تهينمون؟ وإلامَ تعتزون؟ فقالوا: خُطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار لأصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار تنج من أوار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ قالوا: فرقان بين الكفر والإيمان أتى به رسول من مُضَر ، ثم من أهل المدر انبعث فظهر فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجا قد دبر، ففيه مواعظ لمن اعتبر.
قلت: ومن هذا المبعوث بالآي الكُبَر ؟ قال : أحمد خير البشر، فإن آمنتَ أُعطِيتَ البشر وإن خالفت أُصلِيتَ سَفَر، فآمنتُ وأقبَلْتُ إليك أبادر، فجانب
كل نجس كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق.
فاحتملت بأهلي فرددت الإبل إلى أهلها ثم أقبلت إلى معاذ بن جبل،
بصنعاء فبايعته على الإسلام وفي ذلك أقول: المترَ أَنَّ اللهَ عَادَ بفَضْلِهِ وأنقــد مــن لـفـح الجحيم خُنافِرا دعاني شصار للتي لو رفضتها الأصليت جمرا من لظى الهول جامرا قلت: إسناده ضعيف جدا، والله أعلم.
۱۷ - عبد النور الجنّي : قال الحافظ ابن حجر: «اختلقه بعض الكذابين». ۱۸ - عُثَيم الجني: قال ا الحافظ ابن ابن حجر: : له ذكر في الفتوح، قال: بينما رجل باليمامة في الليلة الثالثة من نهاوند مرَّ به راكب، فقال: من أين؟ قال من
نهاوند وقد فتح الله على النعمان واستشهد. فأتى عمر فأخبره، فقال: صدق وصدقت هذا عثيم بريد الجنّ رأى بريد الإنس، ثم بعد أيام ورد الخبر بذلك وسمي فتح نهاوند: فتح الفتوح.
۱۹ - عُرفُطة بضم العين والفاء بن شمراح الجني من بني نجاح:
ذكره أبو بكر الخرائطي في "الهواتف".
وروي من طريق أبي البختري وهب بن وهب القاضي - أحد المشهورين بالضعف الشديد قال : حدثني محمد بن اسحق، عن يحيى بن عبدالله بن الحارث، عن أبيه، عن جده، عن سلمان الفارسي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في مسجده في يوم مطير، فسمعنا صوت السلام عليكم يا رسول الله. فرد عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أنت؟» قال : أنا عُرفُطة أتيتك مسلما. وانتسب له، كما تقدَّم في الترجمة. فقال: «مرحبا بك، اظهر لنا في صورتك». قال سلمان فظهر لنا شيخ أرت أشعر، وإذا بوجهه شعر غليظ متكاثف، وإذا عيناه مشقوقتان طولا وله فم، في صدره أنياب بادية
طوال، وإذا في أصابعه أظفار مخاليب كأنياب السباع. فاقشعرت منه جلودنا. فقال الشيخ : يا نبي الله أرسل معي من يدعو جماعة من قومي إلى الإسلام، وأنا أرده إليك سالما.
فذكر قصة طويلة في بعثه معه علي بن أبي طالب، فأركبه على بعير وأردفه سلمان، وأنهم نزلوا في وادٍ لا زرع فيه ولا شجر وأنَّ عليا أكثر من ذكر الله، ثم صلى سلمان بالشيخ الصبح، ثم قام خطيبًا فتذمروا عليه فدعا بدعاء طويل،
فنزلت صواعق أحرقت كثيرًا، ثم أذعن من بقي وأقروا بالإسلام.
قرة العين
ورجع بعلي وسلمان، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: لعلي لما قصَّ
قصتهم:
«أما إنَّهم لا يزالون لك هائيين إلى يوم القيامة».
۲۰- عمرو بن الجومانة بالجيم أو الحاء - الجني، لم يذكره الحافظ ابن حجر، قال ابن أبي الدنيا في "الهواتف": حدثنا محمد بن عباد: حدثني محمد بن زياد: حدثني أبو مصبح الأسدي: حدثني يحيى بن صالح، عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي الجهم، عن حذيفة بن غانم العدوي قال: خرج حاطب بن أبي بلتعة من حائط يقال له قُران بضم القاف يريد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بالمسحاء التفت عليه عجاجتان، ثم انجلتا عن حيَّة لين الجلد - فنزل ففحص له بسِيَّة قوسه ثم واراه، فلما كان من
الجوارن - يعني الليل إذا هاتف يهتف به
يا أيُّها الراكب المزجي مطيته أربع عليك سلام الواحد الصمد واريتَ عمرًا وقد ألقى كلاكله دون العشيرة كالضّر غامة الأسد وأشجع خادرٌ في الركب منزله وفي الحياء من العذراء في الخرد فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأخبره، فقال: «ذاك عمرو من الحومانة وافد نصيبين الشامية لقيه محمد بن جوشن النصراني فقتله أما إني رأيتها - يعني نصيبين - فرفعها إلى جبريل عليه السلام، فسألت الله تعالى أن يعذب ماءها ويطيب ثمرها ويكثر مطرها » (۱).
(۱) في "طبقات الشافعية الكبرى"، في ترجمة القاضي أبي الحسن الخلعي ما نصه: «عن أبي الفضل الجوهري الواعظ كنت أتردد إلى الخلعي فقمت في ليلة مقمرة ظننت أن الفجر قد طلع فلما جئت باب مسجده وجدت فرسًا حسنة على بابه فصعدت
٢١ - عمرو بن أثال الجني : لم يذكره الحافظ ابن حجرٍ. أخرج ابن عساكر في "تاريخه" من طريق قيس بن الربيع الأسدي قال: قال خُريم بن فاتك لعمر بن الخطاب: ألا أخبرك ببدء إسلامي؟ بينا أنا في طلب نعم لي، إذ جنَّ الليل فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهاء قومه. وإذا هاتف يهتف بي :
عدیا فتى بالله ذي الجلال والمجد والنعماء والإفضال وافتر آيات من الأنفال ووحــــــــد الله ولا تبــــــــال
فرعت من ذلك روعًا شديدا فلما رجعت إلى نفسي قلت: يا أيها الهاتف ما تقول أرشـــــد عنــــدك أم تضليل بين لنا هديت ما السبيل
فوجدت بين يديه شابا لم أر أحسن منه يقرأ القرآن فجلست أسمع إلى أن قرأ جزءًا، ثم قال للشيخ: آجرك الله. فقال له: نفعك الله . ثم نزل فنزلت خلفه من علو المسجد. فلما استوى على الفرس، طارت به !! فغشي علي من الرعب والقاضي يصيح بي: اصعد يا أبا الفضل، فصعدت فقال: هذا من مؤمني الجن الذين آمنوا بنصيبين، وإنه يأتي في الأسبوع مرة، يقرأ جزءا من القرآن ويمضي».
قلت: ذكر التاج السبكي في "الطبقات" أيضًا: أن الخلعي كان يحكم بين الجن، وأنهم أبطأوا عليه قدر جمعة ثم أتوه وقالوا كان في بيتك شيء من هذا الأترج، ا ونحن لا ندخل مكانا يكون فيه. وقال ابن الأنماطي: قبر الخلعي بالقرافة، يعرف بقبر قاضي الجن والإنس، ويعرف بإجابة الدعاء عنده».اهـ ونحو هذا في مبحث الجن في "حياة الحيوان" للدميري.
قرة العين
فقال:
هذا رسول الله ذو الخيرات بيثرب يدعو إلى النَّجاة
جاء بياسين وحاميات وسور بعد مفصلات يأمرنا بالصوم والصلاة
ويزع الناس عن الهنـــات ينهي عن المنكر لا الطاعات فقلت للهاتف: من أنت رحمك الله؟! قال: أنا عمرو بن أثال، وأنا عامله على جن نجد المسلمين، وكفيت إبلك حتى تقدم على أهلك. فخرجت حتى أتيت المدينة فتلقاني ،رجل، فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقرئك السلام ويقول: «لقد بلغني إسلامك». قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ذرّ فدخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله جزى الله صاحبي خيرًا. فقال: «أما علمت ، قد أدى إبلَكَ إلى أهلِكَ؟». قلت: هكذا رواه ابن عساكر من هذا الطريق، ورواه من طريق آخر، فسمى الهاتف مالك بن مالك الجني. وكذلك رواه الطبراني كما تقدم في الدليل الحادي والعشرين.
أنه
۲۲- عمرو بن جابر الجني أخرج عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند"، والبارودي والطبراني والحكم وابن مردويه في "التفسير" عن صفوان بن المعطل -وهو صحابي - قال: خرجنا حجاجًا، فلما كنا بالعرج إذا نحن بحية تضطرب، فلم تلبث أن ماتت، فأخرج رجل منا خرقة من عيبة له فكفنها وحفر لها ودفنها، فإنا لبالمسجد الحرام، إذ وقف علينا شخص فقال: أيكم صاحب عمرو بن جابر؟
قلنا: ما نعرفه. قال: إنه الجان الذي دفنتم فجزاك الله خيرا، أما إنه كان آخر
التسعة الذين أتوا رسول الله يستمعون القرآن موتا. إسناده ضعيف.
۲۳ - عمرو بن طلق الجني ويقال ابن طارق.
أخرج الطبراني في "الكبير" من طريق عثمان بن صالح: حدثني عمرو الجني قال: كنت عند النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقرأ (سورة النجم)
فسجد، وسجدت معه.
وأخرج ابن عدي من وجه آخر عن عثمان بن صالح قال: رأيت عمرو بن طلق الجني فقلت له: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؟ فقال: نعم وبايعته وأسلمت، وصليت خلفه الصبح فقرأ (سورة الحج) فسجد فيها سجدتين. ٢٤ - عمرو آخر: أخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" من طريق سفيان، عن أبي إسحق، عن ثابت بن قطبة الثقفي قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إنا كنا في سفر فمررنا بحيَّة مقتولة في دمها فواريناها. فلما نزلنا أتانا نسوة أو أناس فقالوا: أيكم صاحب عمرو؟ قلنا: ومن عمرو؟ قالوا: الحية التي دفنتم أما إنه من النفر الذين استمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، قلنا: ما شأنه؟ قال: كان حيان من الجن مسلمين ومشركين اقتتلوا فقتل.
٢٥- عمرو، جني آخر: أخرج البارودي في "الصحابة" من طريق جبير ابن الحكم: حدثني عمي الربيع ابن زياد حدثني أبو الأشهب العطاردي قال: كنت قاعدا عند أبي رجاء العطاردي إذا أتاه قوم فقالوا: إنا كنا عند الحسن البصري فسألناه هل بقي من هل بقي من النفر الجن الذين كانوا استمعوا القرآن أحد؟
قرة العين
فقال : اذهبوا إلى أبي رجاء العطاردي فإنه أقدم مني فعسى أن يكون عنده علم، فأتيناك. فقال: إني خرجت حاجا أنا ونفر من أصحابي وكنت أنزل ناحية فبينا أنا قائل إذا بجان أبيضَ شديد البياض يضطرب فقدمت إليه ماء في قدح فشرب وهو يضطرب حتى مات فقمت إلى رداء لي جديد أبيض فشققت منه خرقة ثم غسلته ثم كفنته فيها ثم دفنته فأعمقته ثم ارتحلنا. فسرنا إلى أن كان من الغد عند القائلة نزلنا فبينا أنا في ناحية من أصحابي إذا أصوات كثيرة ففزعت منها فنوديت لا تفزع لا تفزع فإنما نحن من الجن أتيناك لنشكرك فيما فعلت بصاحبنا بالأمس وهو آخر من بقي من النفر الذين كانوا يستمعون القرآن من الجن واسمه عمرو، ورواه أبو نعيم بنحوه.
٢٦ - عمرو، جني آخر لم يذكره الحافظ ابن حجر.
قال أبو نعيم في "دلائل النبوة": حدثنا أبو محمد بن حيان هو أبو الشيخ الحافظ - قال : ثنا أبو الطيب أحمد بن روح ثنا يعقوب الدورقي: ثنا الوليد بن بكر التيمي: ثنا حصين بن عمر هو الأحمسي، ضعيف جدا- قال: أخبرني عبيد المكتب، عن إبراهيم - هو النخعي - قال: خرج نفر من أصحاب عبدالله - يعني ابن مسعود - يريدون الحج، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، إذا هم بحية تتثنى على الطريق أبيض ينفخ منه ريح المسك. فقلت لأصحابي – القائل بعض أصحاب عبدالله، لا إبراهيم - امضوا فلست بنازح حتى أنظر ما يصير من أمر هذه الحية، قال: فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها: ونحيتها عن الطريق فدفنتها فأدركتُ أصحابي في المشي. قال: فوالله إنَّا لَقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب، فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمرا؟
قلنا: ومن عمرو ؟ قالت أيكم دفن الحية؟ قلت: أنا. قالت: أما والله لقد دفنت صوَّامًا قوَّاما، يأمر بما أنزل الله، ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة. قال الرجل فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجنا. ثم مررت بعمر بن الخطاب بالمدينة فأنبأته بأمر الحية، فقال: صدقت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنه». قلت: هذا حديث واه والله أعلم.
۲ - الحقم أحد جنِّ نَصِيبين، تقدم ذكره في الأرقم. :
۲۸ - ماشي: ذكر ابن دريد أنه أحد جنِّ نَصِيبين الذين سمعوا القرآن من
النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ببطن نخلة.
۲۹ - مالك بن مالك الجني: تقدم ذكره في الدليل الحادي والعشرين. ٣٠- مامر الجني ذكره ابن دريد في جملة الجن الذين وفدوا على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
۳۱ - معتكد بن مهلهل بن دثار الجني : كان ممن أسلم من الجن. أخرج الخرائطي في كتاب "الهواتف" من طريق محمد بن بكير، عن سعيد بن جبير، قال: كان رجل من بني تميم، يقال له رافع بن عمير، وكان أهدى الناس للطريق، فكانت العرب تسميه دعموص الرمل
ذكر بدء إسلامه: قال: إني لأسير برمل عالج ذات ليلة، إذ غلبني النوم فنزلت وقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي. وإذا بشيخ من الجن تبدى لي، فقال: يا هذا إذا نزلت واديًا من الأودية فخفت هوله فقل: أعوذ بالله ربِّ محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحدٍ من الجنّ، فقد بطل أمرها. فقلت له: ومن
قرة العين
محمد؟ قال: هذا نبي عربي، لا شرقي ولا غربي، بعث يوم الإثنين. قلت: فأين مسکنه؟ قال: يثرب ذات النخل. قلت له: ما اسمك؟ قال: معتكد بن مهلهل بن دثار، أحد الجنّ الذين أسلموا قال رافع: فركبت راحلتي حتى قدمت المدينة، فرآني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم فحدثني بحديثي مع
الجن قبل أن أذكر له منه شيئًا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت.
قال سعيد بن جبير : فكذا نرى أنه الذي نزل فيه: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ
يعوذُونَ بِرِحَالِ مِنَ الحِنَ ﴾ [الجن: ٦] الآية.
قال الحافظ ابن حجر: «في إسناد هذا الخبر ضعف».
٣٢- منساة الجني : ذكر ابن دريد أنه أحد الجنّ الذين استمعوا القرآن من أهل نَصيبين، وآمنوا بالنبي ببطن نخلة.
۳۳- هامَةُ بن أهيم بن لاقيس بن إبليس: ذكره جعفر المستغفري في " الصحابة" وقال: «لا يثبت إسناد خبره».
أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد، والعقيلي في "الضعفاء"، وابن مَرْدُويَه في "التفسير"، من طريق أبي سلمة محمد بن عبدالله الأنصاري - أحد الضعفاء - عن مالك بن دينار، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم خارجًا من جبال مكة إذ أقبل شيخ متكئ على عكازة، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مشية جني ونفحة جنّ». فقال: «أجنّي أنت؟» قال: نعم. قال: «من أي الجنّ أنت؟ قال: أنا هامة بن أهيم بن لاقيس بن إبليس. قال: «كم أتى عليك؟». قال: أكلت عمر الدنيا، وجرت توبتي على يد
وكنت معه فيمن آمن وكنت مع إبراهيم ثم مع موسى، وكنت مع عيسى، فقال لي: إن أتيت محمدًا فأقرئه مني السلام. يا رسول الله قد بلغت وآمنت بك. قال: فعلمه . عشر سور من القرآن، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولم ينعه إلينا.
وله طرق عن عمر عند البيهقي في "الشعب" و"الدلائل" وأبي نعيم في " الدلائل"، وعن ابن عباس عند الفاكهي في كتاب "تاريخ مكة". وأورده ابن الجوزي في الموضوعات" من حديث عمر، ومن هذا الطريق الذي أوردناه وقال: «موضوع». ونقل عن العقيلي، قال: «ليس للحديث أصل». قال السيوطي في "التعقبات": «بمجموع طرقه يعلم أنَّ الحديث ضعيف لا موضوع». وقال في "القط المرجان": «له عدة طرق يبلغ بها درجة الحسن». قلت: هذا تساهل شديد، والحديث بجميع طرقه لا يخرج عن دائرة
الضعف الشديد إن سلم ارتقاؤه عن درجة الوضع.
ومن طرقه ما رواه أبو علي بن الأشعث أحد المتروكين في كتاب "السنن" له عن عائشة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ هامةَ بن
أهيم بن لاقيس في الجنة». راويه متروك، والله أعلم.
عمر
٣٤ - وردان الجني : تقدم ذكره في الدليل الرابع عشر.
أن
٣٥ - أبو الهيثم الجنّي: قال الشبلي في "آكام المرجان": «جاء في خبر أرسل جيشًا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم
وشاع الخبر، فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين
من الجن، وسيأتي بريد الإنس، فجاء بعد ذلك بعدة أيام».
قرة العين
٣٦- ابن لوزن الجني لم يذكره الحافظ ابن حجر، تقدم ذكره في الدليل
العشرين.
۳۷- خرقاء: امرأة من الجن، قال عباس بن عبد الله الترقفي في "جزئه " : حدثنا محمد بن فضيل وليس بابن غزوان : حدثنا العباس بن أبي راشد، عن أبيه قال: نزل بنا عمر بن عبدالعزيز فلما رحل قال لي مولاي اركب معه فشیعه فركبت فمررنا بواد فإذا نحن بحية ميتة مطروحة على الطريق فنزل عمر فنحاها فواراها ثم ركب فبينا نحن نسير إذا هاتف يهتف وهو يقول: يا خرقاء يا خرقاء فالتفتنا يمينا وشمالا فلم نر أحدًا فقال له عمر: أنشدك الله أيها الهاتف
إن كنت ممن يظهر إلا ظهرت لنا، وإن كنت ممن لم يظهر أخبرنا عن الخرقاء؟ قال: هي الحية التي لقيتم بمكان كذا وكذا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول لها يومًا: يا خرقاء تموتين بفلاة من الأرض، يدفنُكِ خير مؤمن من أهل الأرض». قال له عمر أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول هذا؟ فتعجب عمر، وانصرفنا.
ورواه البيهقي في "الدلائل" من هذا الطريق، وزاد: قال له عمر: من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا من التسعة الذين بايعوا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في هذا الوادي. فقال له عمر الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم. فدمعت عينا عمر، وانصرفنا.
ورواه الخطيب في "المتفق" من طريق محمد بن جعفر الظفري: حدثنا نصر ابن داود: حدثنا محمد بن فضيل: قرأ شريح بن يونس بمكة: حدثنا عباد بن راشد من أهل ذي المروة عن أبيه... فذكر نحوه، وفيه: فقال لي: يا راشد لا
تخبرن بهذا أحدًا حتى أموت.
ورواه أبو نعيم في "الحلية"، وزاد أنه وجد حيةً ميتةً فلفها في خرقة ودفنها. ۳۸ - فارعة الجنّية، ذكرها حمزة بن يوسف السهمي في "تاريخ جرجان"، قال: حدثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي ال الحافظ ثنا أبو عمرو عبد المؤمن بن أحمد العطار بجرجان: حدثني أبو رجاء منقر بن الحكم بن إبراهيم بن سعد بن مالك المنقري: ثنا لهيعة بن عبد الله بن لهيعة المصري، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كانت امرأة من الجنّ تأتي النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في نساء من قومها، فأبطأت عليه، ثم أتته ، فقال لها: «ما أبطأ بك؟» قالت: مات ميت بأرض الهند، فذهبت في تعزيتهم، وإني أخبرك بعجب رأيت في طريقي، قال: «وما رأيت؟» قالت: رأيت إبليس قائمًا يصلي على صخرة، فقلت له: أنت إبليس؟ قال: نعم، قلت: ما حملك على أن أضللت بني آدم وفعلت وفعلت؟ قال: دعي عنك هذا قلت تصلي وأنت أنت؟! قال: نعم يا فارعة بنت العبد الصالح، إني أرجو من ربي إذا أبر قسمه في أن يغفر لي.
قال: فما رأيت رسول الله ضحك كذلك اليوم. أورده ابن الجوزي في الموضوعات"، وقال: «حديث محال، وابن لهيعة يدلّس على كذابين وضعفاء». وقال الذهبي في "الميزان": «منقر لا يروي من
ذا؟ ولعله وضع هذا، والله أعلم.
هذا ما عرفناه من أسماء الصحابة الجنيين، أوردناه حسبما ورد في كتب الحديث مع بيان ما في إسناده من علةٍ أو نكارة تقتضي ضعفه أو وضعه
والصحيح منها نبهنا على صحته، وهو قليل.
قرة العين
ويلاحظ أنه ليس في هؤلاء الجنّ من الصحابة من اسمه (شمهورش) كما ينطقه المصريون، أو ( شمهروش) كما ينطقه المغاربة، لأنَّ هذا الجنّي لم يذكره من
ألف في الصحابة من المتقدمين كالمستغفري وأبي موسى والحافظ ابن حجر. وإنما عرفت الرواية عن هذا الجني في القرن العاشر الهجري وما بعده وهو فيما أعتقد لا وجود له، وإن روى عنه كثير من العلماء والصلحاء بحسن نية
وسلامة صدر، من غير تمحيص علمي لأنَّ قصدهم التبرك كما نبه عليه السيد مرتضى في "ألفية السند".
ولشقيقنا الحافظ أبي الفيض كتاب "مسند" الجن" أسند فيه رواية القرآن، وبعض الأحاديث من طريق شمهروش وميمون الجني، وعبدالمؤمن الجني، وعبدالوهاب الجزري الجني، وأبي محمد المبارك، الشهير بالزبرقان الجني، وعمرو بن طلق الجني وبعض الجن على الإيهام، وفيه غير هذا فوائد وطرائف.
أحاديث مسندة عن صحابة من الجن
وقد رأيت أن أسند بعض الأحاديث من طريق الصحابة الجنّ تأسيا بأهل
الحديث، فأقول:
الحديث الأول : «المؤمن أخو المؤمن
أنبأنا عبدالقادر شلبي الطرابلسي مكاتبة من مكة المكرمة قال: أنبأنا أبو النصر الخطيب: أنبأنا عمر الفزي: أنبأنا مصطفى بن محمد الرحمتي: أنبأنا صالح الجبنيني : أنبأنا محمد بن سليمان الروداني أنبأنا أحمد بن سلامة القليوبي: أنبأنا الشمس الرملي أنبأنا زكريا الأنصاري: أنبأنا محمد بن مقبل: أنبأنا الصلاح بن أبي عمر: أنبأنا الفخر بن البخاري: أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد الصيدلاني: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد أنبأنا أحمد بن عبدالله الحافظ - هو أبو نعيم - حدثنا الحسن بن إسحق بن إبراهيم بن زيد: حدثنا أحمد بن عمرو بن جابر الرملي: حدثنا أحمد بن محمد بن طريف: ثنا محمد بن كثير، عن الأعمش: حدثني وهب بن جابر، عن أبي بن كعب قال: خرج قوم يريدون مكة فأضلوا الطريق فلما عاينوا الموت أو كادوا أن يموتوا، لبسوا أكفانهم واضطجعوا للموت، فخرج عليهم جني يتخلل الشجر وقال: أنا بقية النفر الذين استمعوا على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم . سمعته يقول: «المؤمنُ أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخذله». هذا الماء وهذا الطريق، ثم دلهم على الماء.
وأرشدهم إلى الطريق. وهكذا رويناه في "دلائل النبوة" لأبي نعيم.
قرة العين
الحديث الثاني: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب للمسلمين ما يحب لنفسه
أنبأنا أبو النصر، ومحمد بن محمود خفاجي قالا: أنبأنا أبو المحاسن القاوقجي: أنبأنا عابد السندي: أنبأنا أحمد بن سليمان الهجام: أنبأنا أحمد بن محمد بن شريف الأهدل : أنبأنا أحمد النخلي أنبأنا عيسى بن محمد الجعفري: أنبأنا علي بن محمد الأجهوري: أنبأنا النور علي بن أبي بكر القرافي : أنبأنا قريش العثماني البصير: أنبأنا الشمس محمد بن محمد بن الجزري: أنبأنا عبدالعزيز بن جماعة: أنبأنا سليمان بن حمزة: أنبأنا أبو موسى عبدالله بن الحافظ المقدسي: أنبأنا عبدالرزاق بن عبدالله الدمشقي: أنبأنا أحمد بن عبدالملك الفرغاني، أنبأنا علي بن الطيوري: أنبأنا أبو طالب محمد بن علي العشاري، أنبأنا محمد بن عبدالله بن أخي ميمي: أنبأنا سليمان بن صفوان حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد - هو ابن أبي الدنيا - : حدثني أبي حدثنا عبد العزيز القرشي: أخبرنا إسرائيل، عن السدي، عن مولى عبدالرحمن بن بشر قال: خرج قوم حُجَّاجا في إمرة عثمان، فأصابهم عطش فانتهوا إلى ماء ملح ، فقال بعضهم: لو تقدمتم فإنا نخاف أن يهلكنا هذا الماء فإن أمامكم الماء. فساروا حتى أمسوا فلم يصيبوا ماء، فقال بعضهم لبعض: لو رجعتم إلى الماء الملح، فأدلجوا حتى انتهوا إلى شجرة سمر، فخرج عليهم رجل أسود شديد سواد الجسم فقال: يا معشر الركب، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحبَّ للمسلمين ما يحب لنفسه ويكره للمسلمين ما يكره لنفسه». فسيروا حتى تنتهوا إلى أكَمَة فخذوا عن يسارها فإن الماء ثُمَّ. فقال بعضهم:
والله إنا لنرى أنه شيطان. وقال بعضهم: ما كان الشيطان ليتكلم بمثل ما تكلم به - يعني أنه مؤمنٌ مِن الجن - فساروا حتى انتهوا إلى المكان الذي وصف لهم فوجدوا الماء ثم. هكذا رويناه من طريق ابن أبي الدنيا.
الحديث الثالث: إن أول خبر قدم المدينة... الحديث
أنبأنا محمد دويدار الكفراوي: أنبأنا البرهان إبراهيم الباجوري: أنبأنا محمد بن محمد الأمير: أنبأنا عبد الله بن سالم البصري: أنبأنا البرهان إبراهيم بن حسن الكوراني: أنبأنا صفي الدين أحمد بن محمد المدني: أنبأنا الشمس محمد بن أحمد الرملي: أنبأنا الزين زكريا الأنصاري: أنبأنا الشهاب أحمد بن علي بن حجرٍ العسقلاني الحافظ : أنبأنا أبو إسحاق التنوخي : أنبأنا أحمد بن أبي طالب: أنبأنا عبدالله بن عمر هو ابن اللتي أنبأنا أبو الوقت: أنبأنا الداودي: أنبأنا السرخسي: أنبأنا إبراهيم بن خزيم الشاشي: أنبأنا عبد بن حميد الكسي بكسر الكاف- حدثنا عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري: أخبرني علي بن الحسين قال: إنَّ أول خبر قدم المدينة أنَّ أمرأة من أهل يثرب تُدعى فطيمة كان لها تابع من الجن فجاءها يوما فوقع على جدارها فقالت: مالك لا تدخل؟ فقال: إنه بعث نبي حرَّم الزّنا. فحدَّثت به تلك المرأة عن تابعها من الجن،
فكان أول خبر حدث به بالمدينة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. هكذا رويناه من طريق عبدالرزاق، وإسناده صحيح إلَّا أنَّه مرسل، وقد وصله أحمد والطبراني من رواية جابر بإسناد حسن كما تقدم في الدليل الرابع والعشرين. وأنبأنا أبو عبدالله محمد إمام السقا، وبدر الدين الحسني الدمشقي،
قرة العين
ويوسف بن إسماعيل النبهاني قالوا: أنبأنا البرهان إبراهيم السقا: أنبأنا ثعيلب: أنبأنا الشهاب أحمد الجوهري : أنبأنا أحمد بن محمد النخلي المكي: أنبأنا محمد بن
الدين
علاء الدين البابلي: أنبأنا سالم بن محمد السنهوري أنبأنا المسيد نجم ا محمد بن أحمد الغيطي: أنبأنا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، أنبأنا شيخ الحفاظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: أنبأنا الصلاح بن أبي عمر: أنبأنا الفخر بن البخاري: أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد، أخبرنا أحمد بن عبدالله الحافظ : حدثنا عبدالله بن محمد بن جعفر الحافظ : حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن: ثنا أبو رضوان: ثنا أشعث بن شعبة، عن أرطأة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول: كانت امرأة بالمدينة يغشاها جان، فكان يتكلم ويسمعون صوته. قال: فغاب، فلبت ما لبث فلم يأتها ولم يختلف إليها، فلما كان بعد إذ هو يطلع عليها من كُوَّة فنظرت إليه، فقالت يا ابن لوذان ما كانت لك عادة تطلع من الكوة،
فما بالك؟ فقال: إنه خرج نبي بمكة، وإني سمعت ما جاء به، فإذا هو يحرم الزنا، فعليك السلام. قلت: تقدم ذكر ابن لوذان في صحابة الجنّ، وهو مما استدركته على الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
خاتمة تشتمل على مسائل
المسألة الأولى: في حصول الثواب للجن
تقدم نقل الإجماع على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرسل إلى الجن، وأنهم مكلفون بالإيمان به، وأنهم يُعاقبون على الكفر والمعصية، وأما ثوابهم على الإيمان والطاعة ففيه خلاف.
قيل: لا يثابون: روى الطبري وابن أبي حاتم عن أبي الزناد قال: إذا دخل أهل الجنة الجنَّةَ وأهل النَّارِ النَّارَ، قال الله المؤمني الجن وسائر الأمم من غير
الإنس: «كونوا ترابًا» فحينئذ يقول الكافر: «يا ليتني كنتُ ترابًا». وروى ابن أبي الدنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجن أن يجاروا من
النار، ثم يقال لهم كونوا ترابًا. وروي هذا القول عن أبي حنيفة أيضًا. وروي عن ابن عباس أيضًا قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنَّة. وعلل عدم
دخولهم لللجنة، بأنهم من ذرية إبليس ولا تدخل ذرية إبليس الجنة. وهذا قياس والمسألة لا يقبل فيها إلا النص، مع أنَّ إبليس نفسه، لو آمن
دخل الجنة.
وقال مالك والأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وأحمد: يُثابون كما أنهم يعاقبون. وهذا مذهب الجمهور، وهو الصحيح عن ابن عباس، وذهب إليه البخاري فقال في "صحيحه": باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم».
ثم اختلفوا: هل يدخلون مدخل الإنس؟
فقال عمر بن عبدالعزيز: يكونون في ربض الجنة ورحابها ولا يدخلونها». ونقل عن مالك أيضًا والشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن.
قرة العين
وقيل: يكونون على الأعراف واستدلَّ لهذا القول بما رواه البيهقي في "البعث" وابن عساكر في "التاريخ" من طريق عروة بن رويم، عن الحسن، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ مؤمني الجنّ لهم ثواب وعليهم عقاب». فسألناه عن ثوابهم، فقال: «على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. قلنا: وما الأعراف؟ قال: «حائط الجنة، تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجارُ والثَّمار».
أسنده الذهبي في "تذكرة الحفاظ" في ترجمة الحافظ أبي الفضل نصر بن
محمد الطوسي الصوفي، وقال: «هذا حديث منكر جدا» . اهـ قلت: لا أستبعد أن يكون موضوعا، لجهالة إسناده ونكارة معناه، وإفادته أنَّ مؤمني الجن ليسوا من الأمة المحمدية.
وذهبت طائفةٌ إلى التوقف عن القول بالدخول وعدمه، وقالت طائفة: يدخلون الجنة ونراهم فيها وهم لا يروننا، عكس ما كنا في الدنيا. وهذا قول الحارث المحاسبي.
وقال مجاهد: يدخلون الجنة لكن لا يأكلون ولا يشربون، يُلهمون من التسبيح
والتقديس ما يجده أهل الجنة من لذة الطعام والشراب. رواه ابن أبي الدنيا وهذه الأقوال كلها باطلة لا يصح الالتفات إليها، والحق الذي لا تحيد عنه: ما ذهب إليه الجماهير من العلم أنَّ الجنَّ الصالحين يثابون بدخول الجنة كالإنس، ويتنعمون فيها بأنواع النعيم ويرون الله تعالى وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام والقرآن الكريم يقرّر في غير آية منه أنَّ المؤمن الصالح يدخل الجنة،
ويتنعم فيها، و(سورة الرحمن) وجّه الخطاب فيها إلى الإنس والجن، ووُعِدوا فيها بالجنة ونعيمها، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: ٤٠] وأيُّ ظلم أشدُّ من أن يحرم الجنيُّ ثواب طاعته ويقال له: كن ترابًا؟! كيف والله تعالى يقول: ﴿ وَلِكُلِّ دَرَحَتُ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ [الأحقاف: ١٩] أي: لكل من الجن والإنس درجات مما عملوا والدرجات لا تكون إلا في الجنة، والآخرة ليس فيها إلا داران للمكلَّفين: الجنة للطائعين، والنار لغيرهم.
وأهل الأعراف، يصيرون إلى الجنة أيضًا. والجن مكلفون، فما الذي يمنع طائعهم من دخول الجنة؟! والله تعالى
يقول : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: ٢٦].
الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله كما ثبت في الصحيح.
فبأي دليل يخرج الجن من هذا النص ؟! ولو أنَّ الجنَّ قالوا يوم القيامة: ربنا آمنا بك وبرسولك واتبعنا دينك. فهل يجوز في العقل أن يكون جوابهم: كونوا ترابًا كالبهائم ؟!!
كيف والله تعالى يقول: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَنِ إِلَّا الْإِحْسَنُ ﴾ [الرحمن: ٦٠]. ويقول : ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةٌ يُضَعِفُهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: ٤٠]. ثم إنَّ الآخرة تنكشف فيها الحقائق وتظهر الخفيات، حتى إن المعاني كالموت والحسنات والسيئات، نراها في صور مجسّمة، ونرى الله تعالى والملائكة عليهم السلام.
وذكر العلماء أن سرَّ القدَر وحكمته يظهر للمؤمنين بعد دخول الجنة،
قرة العين
فكيف يقال : إنَّ الجن إذا دخلوا الجنة لا يروننا فيها؟!
وزعمت طائفة أنَّ تكليف الجنّ بالفروع يخالف تكليفنا بها، واستدلت بما رواه البخاري عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ قال له: «أبغني أحجارًا أستنفضُ بها ولا تأتني بعظم ولا رَوْيَّةٍ». قلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: «هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد نَصِيبين ونعمَ الجنُّ فسألوني الزَّادِ فدعوتُ الله لهم ألا يمرُّوا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليه طعاما».
فدل على جواز تناولهم للروثة، وذلك حرام على الإنس.
وهذا زعم باطل، لوجوه
الأول: أنَّ الدعوى عامة، والدليل خاص.
الثانية: أنه ثبت في بعض طرق الحديث: أنَّ الروث طعام لدوابهم، وليس
طعاما لهم. الثالثة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أخبر أنهم يجدون على العظم والروثة طعامًا، فالروثة قد استحالت إلى طعام، والاستحالة مطهرة. المسألة الثانية: هل تصح الصلاة خلف الجني؟
سئل أبو البقاء العُكبري الحنبلي: هل تصح الصلاة خلف الجني؟ فقال: نعم، لأنهم مُكلَّفون والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرسل إليهم. وذكر ابن الصير في الحنبلي في "نوادره" انعقاد الجماعة بالجن.
ونقل الدميري في حياة الحيوان" عن القمولي، من أئمة الشافعية: أنَّ الجمعة
يصح انعقادها بأربعين مكلّفاً سواء كانوا من الجن أو من الإنس أو منهما.
المسألة الثالثة: حول دخول الجن للجنة والتنعم فيها
لما كنت بمصر سنة ١٣٥٣ جاءني خطاب من طنجة يشتمل على عدة أسئلة، يتعلق كثير منها بالجن، أجبت عنها بما يلي:
وأما أنَّ مؤمني الجنّ، هل يدخلون الجنة؟ ويتنعمون فيها من أكل وشرب، ويترقون في الدرجات ويكون لهم الثواب والعقاب، ويرون الله تعالى كما يراه بنو آدم ويتزوجون بالحور العين؟
فهذه مسائل اختلف فيها العلماء، فأما دخولهم الجنة ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم يدخلونها، وهو قول الجمهور.
الثاني: أنهم لا يدخلون الجنة، بل يكونون في ربَضِها، يراهم الإنس من حيث لا يرونهم، وهذا مروي عن مالك، والشافعي، وأحمد، ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة. الثالث: أنّهم على الأعراف، وهو قول بعض العلماء، واحتج له بما رواه الكنجرودي في "أماليه"، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنَّ مؤمني الجنّ لهم ثواب وعليهم عقاب. فسألناه عن ثوابهم فقال: «على الأعراف وليسوا في الجنَّة مع أمة محمد». فسألناه عن الأعراف، قال: «حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار».
قال الذهبي: «حديث منكر جدًّا».
الرابع: الوقف، وهو أضعف الأقوال وأسخَفُها، لأنَّ الوقف إنَّما يحسن عند تعارض الأدلة وتساويها في القوة، وليس الأمر هنا كذلك، بل القول
الأول هو الصحيح وأدلته هي القوية دون غيرها:
قرة العين
منها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرسل إلى الثقلين وهما الجن والإنس، وقد جاء عنه في الأحاديث المتواترة أنَّ من أطاعه دخل الجنة ولم يفرق بين إنسي وجني.
ومنها: العمومات الواردة في القرآن كقوله تعالى: وَأُزلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بعيد [ق: (٣١) وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: ١٣٣ ] في آيات كثيرة لا يجوز الإقدام على تخصيصها إلا بدليل، ودون وجوده خرط القتاد.
ومنها: قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ذَوَاتَا أَفنان ﴾ [الرحمن: ٤٦ - ٤٨] فهذه الآيات صريحة في دخول الجن للجنة؛ لأنَّ الخطاب في (سورة الرحمن) موجه إلى الإنس والجن بنص القرآن وإجماع الأمة. وجاء عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال لأصحابه لما تلا عليهم هذه السورة: «الجنُّ كانوا أحسنَ جوابًا منكم ، ما تلوتُ عليهم من آية إلا
قالوا: لا بشيء من آلائِك رب نكذب». رواه الترمذي.
ومنها ما رواه أبو الشيخ ابن حيَّان بإسنادٍ فيه انقطاع عن ابن عباس قال: الخلق أربعة: فخلق في الجنة كلُّهم وهم الملائكة وخلق في النار كلهم، وهم
الشياطين، وخلق في الجنة والنار، وهم الإنس والجن، لهم الثواب وعليهم العقاب. وأما تنعمهم بالأكل والشرب، ففيه قولان:
أحدهما: ما رواه أبن أبي الدنيا عن مجاهد: أنّه قال في الجن: يدخلون الجنة ولكن لا يأكلون ولا يشربون يُلهمون من التسبيح والتقديس ما يجده أهل
الجنة من لذة الطعام والشراب. والقول الثاني: أنهم يأكلون ويشربون، وهذا هو الصحيح، وبه جاءت الأدلة. وأما ترقيهم في الدرجات فهو مبني على دخولهم للجنة، وتقدم أنهم
يدخلونها وعليه فيترقون في الدرجات بحسب أعمالهم. وأما ثوابهم وعقابهم، فالثاني مجمع عليه لمجيء الآيات والأحاديث به والأول فيه قولان:
أحدهما: أنه لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابًا كبقية البهائم، وهذا قول أبي الزناد وليث بن أبي سليم وأبي حنيفة، وهو قول ضعيف. والقول الثاني: أنهم يثابون، وهذا قول ابن عباس، وضمرة بن حبيب، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن
الحسن، وابن وهب وابن القاسم، وجماهير العلماء، وهو الصحيح. غير أنهم اختلفوا في ثوابهم بماذا يكون؟ هل بدخول الجنة؟ أو بالبقاء على
الأعراف؟ إلى آخر الأقوال المتقدمة.
وأما رؤيتهم الله تعالى ففيها قولان أيضًا:
الأول: أنهم لا يرونه، لأنَّ الرؤية خاصة بمؤمني البشر، وهذا قول ضعيف والخصوصية لا تثبت بالادعاء.
والقول الثاني: أنهم يرون الله تعالى كما يراه بنو آدم، وهذا ما نقله ابن العماد عن شيخه سراج الدين بن الملقن وأيده بحثًا من عنده جلال الدين البلقيني، وهو الصحيح الذي لا يجوز أن يعتمد غيره؛ لأنَّ آيات الرؤية وأحاديثها عامة في كل مؤمن، فكيف يجوز إخراج الجن من عمومها بالادعاء العاري عن الدليل؟!
قرة العين
وأما تزوجهم بالحور العين، فهو من جملة النعيم الذي يتنعمون به في الجنة وفي القرآن في وصف الحور العين لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسُ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌ ﴾ [الرحمن :
٧٤] ففي هذه الآية دليل على تأتي طمث الحور العين من الجن. وأما رؤيتنا لهم في الجنة دون أن يرونا فهذا قاله الحارث المحاسبي، ولم نقف على حديث يؤيده ويعضده.
أما قولك: إذا وجدنا إنسيَّةً تزوّجت بجنّي ويطؤها وتنال منه ما تنال من الإنسي من اللذة، فهل يجب عليها الغسل أم لا؟
فجوابه أن بعض فقهاء الحنابلة - ولعله أبو الوفاء ابن عقيل فيما أظن قال: «لا يجب عليها الغسل»، وعلل ذلك بعلة فيها نظر.
والصواب الذي لا يجوز أن يُفتى بغيره: وجوب الغسل؛ لأن الشارع أوجب الغسل بإيلاج الحشفة أو إنزال المني، فإذا وُجدا معا أو وجد أحدهما وجب الغسل، سواء كان من إنسيَّين أو جنيين أو إنسي وجنية أو العكس، ومن ادعى تفرقة بين هذه الصورة فقد أتى بما لا يستطيع أن يقيم عليه دليلا، أو يلج الجمل في سم الخياط. وأما أنَّ إبليس، هل هو من الجن أو من الملائكة؟ ففي ذلك قولان أيضًا:
أحدهما : أنه من الملائكة، من صنف يقال لهم: الجن.
والثاني: أنه من الجن الذي هو خلاف الإنس، وهو أبوهم كما أن آدم أبو الإنس وهذا القول هو الصحيح، وأدلته في كتب التفسير، كـ"تفسير ابن كثير" وغيره. وأما قولك: هل الجن كلهم يتطوَّرون؟ أو فيهم من لا يتطوَّر؟.
فجوابه: أنهم كلهم يتطورون؛ لأن الأدلة التي أثبتت لهم التطور لم تفرق بينهم فيه.
وأما قولك: هل أرسل الله سليمان إلى الجن؟ أو كان يحكم فيهم فقط ؟ فجوابه: أنه كان مَلِكًا عليهم غير مرسل إليهم؛ لأنه لم يرسل إلى الجن قبل نبينا رسول، ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أعطيتُ خمسا لم يعطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي». فذكرها إلى
أن قال: وكان النبيُّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى النَّاس عامة. فقوله: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة». صريح في أنَّ الأنبياء لم يبعثوا إلى الجن لأنهم لم يكونوا قوما لهم، وإنما قومُهم الإنس كما هو واضح. انتهى. وهو جواب طويل، نقلت منه ما يتعلق بالجن، وقد اطلع عليه مولانا الشيخ الإمام الوالد رحمه الله ورضي عنه ونفعني برضاه فاستحسنه، وبلغ من استحسانه إياه أن قرأه على جماعة الإخوان الذين يزورونه في البيت كل مساء، وأظهر لهم سروره به وأثنى على فهمي ومعرفتي، وهذا من فضل الله علي، وله
الحمد والمنة.
فرغ من تأليفه ليلة الأحد السابع عشر من شهر محرم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وألف هجرية على يد مؤلفه عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري
الحسني الإدريسي خادم الحديث الشريف، عفا الله عنه وغفر له آمين.
قرة العين
سؤال في جواز التناكح بين الإنس والجن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد رفع إلى سؤال عن امرأة متزوّجة، وزوجها حاضر معها، لكن
يغشاها جني مرة بعد أخرى، تراه هي ولا يراه غيرها.
فهل تحرم على زوجها بإتيان الجني أو لا؟ وهل يجب على زوجها أن
يستبرئها بألا يأتيها حتى تحيض حيضتين أو لا؟.
وأقول: هذه حادثة غريبة جدا لم نسمع بمثلها، والخلاف معروف بين العلماء في جواز التناكح بين الإنس والجن، منهم من أجازه ومنهم من منعه لاختلاف الجنسين وعدم التآلف بينهما، ولما ذكر ابن العربي الحاتمي أنه تزوج جنية، كذَّبه عز الدين بن عبدالسلام سلطان العلماء.
وكتب بعض أهل اليمن إلى الإمام مالك يقولون له: «إن جنيا خطب بنتهم فهل يزوجونه؟».
فأجابهم مالك بقوله : لا مانع من ذلك لكن أخشى أن توجد بنت
حاملا وتُسأل عن حملها فتقول: تزوّجني جني، وبذلك يكثر الفساد». والذي أراه في هذه الحادثة أنَّ الجني إذا أتى المرأة في صورة إنسان وجامعها، فلا يقربها زوجها حتى يستبرئها، وإذا أتاها في غير الصورة الإنسانية فلا تحرم على زوجها ولا يلزمها غُسل ولا استبراء.
إرشاد الجاهل الغوي
بسم
الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته
والتابعين.
نبي
وبعد: فهذا جزء سمَّيتُهُ: "إرشاد الجاهِلِ الغَوِيِّ إلى وجُوبِ اعْتِقادِ أَنَّ آدَمَ حملني على كتابته ما بلغني عن بعض الجهلة أنه أنكر نبوة هذا النبي المكلم والرسول المعلم، بدعوى أنه لم يجد في القرآن الكريم تصريحا بنبوته. وهذا جهل لا يُعذر فيه؛ لأنه أنكر ما أجمع عليه المسلمون من نبوة آدم عليه الصَّلاة والسلام، وهو معلوم ضرورةً من دين الإسلام، فخرج بإنكاره
من جماعة المسلمين، وانضم إلى زمرة الكافرين عياذا بالله تعالى. والذي يظهر أنه أنكر نبوة آدم عِنادًا والحادًا؛ لأنه لما قيل له: إن الله كلَّم
آدم، أجاب: إنَّ الله كلَّم إبليس أيضًا!!
وقيل له: إن الله تعالى يقول : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا ﴾ [آل عمران: ۳۳]،
أجاب: وقال الله لمريم: وَأَصْطَفَنكِ ﴾ [آل عمران: ٤٢].
يريد
و هذا الكلام منه يدل على أنه ليس مُخلصًا في بحثه، ولكنه مُلحد يـ : إحداث فتنة بين المسلمين، وكيف يكون مخلصًا من يعارض كلام الله لآدم
بالوحي والتشريع، بكلامه لإبليس باللعن والإبعاد؟! و المحكمة التي قبلت عُذره أخطأت خطاً كبيرًا فاحشا؛ لأن جهله في هذه
المسألة لا يكون عذرًا مقبولا، كما تقرر في كتب الفقه الإسلامي. فهذا الجاهل العنيد مرتد بلا شك، وزوجته بانت منه بمجرد رِدَّته، ولا يجوز رجوعها إليه حتى يُعلن توبته، ويصرّح بأنه يعتقد كما يعتقد المسلمون أنَّ آدم عليه الصلاة والسَّلام نبي ورسول، فإن فعل هذا يُحكم بإسلامه، وإلا فهو مرتد لا حظ له في دين الإسلام، هذا حكم المسلمين في هذا الجاهل المغرور. و بعد، فهذه بعض الأدلة على نبوة آدم عليه الصَّلاة والسَّلام، نذكرها تنويرا للأذهان، وإرغاما لأهل الجهل والعناد وبيانا لكيفية الاستدلال والاستنباط من آيات القرآن الكريم وحديث النبي الأمين عليه أفضل الصَّلاة وأتم التسليم.
إرشاد الجاهل الغوي
الأدلة من القرآن الكريم
1 - أوحى الله إلى آدم وكلمه كفاحًا أمرًا وناهيا، وهذه هي النبوة في أجلى معانيها. - أَنَّ الله علَّمه؛ قال تعالى: وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: ٣١]. و الذي استنبطناه من أسلوب القرآن العظيم: أنَّ الله إذا علَّم شخصا معيَّنا فذاك علامة نبوته، وإليك البيان
قال في داود: ﴿وَءَاتَهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ
[البقرة: ٢٥١].
وفي يعقوب: لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ ﴾ [يوسف: ٦٨].
وفي يوسف: وَلِتُعَلَمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: ٢١].
و في لوط : وَلُوطًا ءَانَيْنَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: ٧٤].
وفي سليمان وأبيه: ﴿فَفَهَمْنَهَا سُلَيْمَنَ وَكُلًّا أَنَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنباء: ٧٩]. وقال للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ﴾ [النساء: ١١٣].
فتعليم الله لآدم علامة نبوته.
وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَعَالَ عِمْرَانَ عَلَى
العلمينَ [آل عمران: ۳۳] وهذا اصطفاء رسالة، بدليل قوله تعالى: الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَيْكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج : ٧٥].
وقال الله تعالى في إبراهيم: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ [البقرة: ١٣٠].
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ
[ ص: ٤٧].
أما قول الملائكة لمريم : وَأَصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَلَمِينَ ﴾ [آل عمران: ٤٢] ففيه دليل على أنه اصطفاء اختيار، وهو قولهم : عَلَى نِسَاءِ الْعَلَمِينَ ، ولو كان اصطفاء نبوة لقال: «على العالمين؛ لأنَّ النبيَّ لا يكون مصطفى على بعض العالمين، ولأنَّ الله قال: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة: ٧٥]، فأثبت لها مقام الصديقية ونفى عنها
النبوة.
وسبب ذلك أنَّ الاصطفاء نوعان: اصطفاء نبوة، واصطفاء اختيار، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، فإذا أطلق لفظا مشتركًا في آيةٍ بين المراد به في آيةٍ
أخرى. - إنَّ الله تعالى قال: جَاعِلِ الْمَلَكَةِ رُسُلًا ﴾ [فاطر: ١]، ومن المعلوم شرعا وعُرفًا . ا عند عامة المسلمين أنَّ الرسول لا يفضل عليه إِلَّا مِن هو مثله، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعض ﴾ [البقرة: ٢٥٣] وقال:
وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [الإسراء: ٥٥]. فلولا أنَّ آدم نبي ورسول ما أسجد الله له ملائكته، ولا فضله عليهم بالعلم و بمثل هذا استدللنا على نبوة الخضر عليه السلام، مع قول الله فيه:
وَعَلَّمْنَهُ مِن لَدُنَا عِلْمًا ﴾ [الكهف: ٦٥]، وغفل من زعم أنه ولي، وهي غفلة
إرشاد الجاهل الغوي
كبيرة تؤدي إلى فتح باب الزندقة على مصراعيه.
ه - قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مِّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بعضَهُمْ دَرَجَتِ ﴾ [البقرة: ٢٥٣].
الإشارة في تلك إلى الرسل المذكورين في (سورة البقرة) وهم: آدم، وموسى، وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وداود، ثم أجمل عددهم في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: ٢٥٢] فهذه الآية تدل على أنَّ آدم رسول. ٦- قول الله تعالى: مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ﴾ [البقرة: ٢٥٣] يدل على رسالته
أيضًا، وهو أحد الرسل الثلاثة الذين كلّمهم الله تعالى.
و الثاني موسى، و الثالث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، كلمه الله ليلة المعراج. - قصة ابني آدم قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُتِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُنَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( لَنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِنَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطِ يَدِى إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: ۲۷ - ۲۸] الآيات.
في هذه الآيات عدة أحكام شرعية، وهي:
تقديم القُربان.
قبوله من أحد الأخوين.
إنما يتقبل الله من المتقين.
إثم القاتل.
خوف من الله رب العالمين.
الظالمون أصحاب النار.
و هذه الأحكام لا تُعرف إلَّا مِن جهة رسول، والرسول في ذلك الوقت
آدم عليه الصلاة والسَّلام، ولا يوجد غيره.
الأدلة من السنة المشرفة
۱ - روى الترمذي وابن جرير وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أنا سيد ولد آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخْرَ، وبيدي لِوَاءُ الحمد ولا فَخْرَ، وما مِن نبي يومئذٍ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا
أَوَّل مَن تَنْشَقُ عنه الأَرضُ ولا فَخْرَ». قال الترمذي: «حديث حسن». ٢ - روى أحمد والنسائي، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟» قلت: لا، قال: «قم فصل». فقمت فصليتُ ثُمَّ جلستُ، فقال: «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجنّ». قلت: يا رسول الله أو للإنس شياطين؟! قال: «نعم». قلت يا رسول الله الصَّلاة؟ قال: «خَيْرٌ مَوْضُوعٌ مَن شَاءَ أَقَلَّ وَمَن شَاءَ أَكْثَرَ». قلتُ: يا رسول الله فالصوم؟ قال: «فرضٌ مُجْزِى وعند الله مَزيد». قلت: يا رسول الله فالصَّدقة؟ قال: أضعافٌ مُضاعفةٌ». قلت: يا رسول الله فأيها أفضل؟ قال: «جهدٌ مِن مُقِلّ، وسِرِّ إلى فقير». قلتُ: يا رسول الله أي الأنبياء كان أوّل؟ قال: «آدم». قلت: يا رسول الله ونبيًّا كان؟ قال: «نعم، نبي مكلَّم الحديث. صححه ابن حِبَّان، والحاكم، وسلمه الذهبي. وهذا مما رواه المسعودي قبل اختلاطه.
إرشاد الجاهل الغوي
روى ابن حِبَّان في "صحيحه"، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمَّا غَفيرًا»، قلت: يا رسول الله مَن كان أولهم؟ قال: «آدم». قلت: يا رسول الله نبي مرسل؟ قال: «نعم». صححه ابن كثير، وابن حجر.
٤- روى الطبراني، وأبو الشيخ في كتاب "العظمة"، وابن مَرْدُويَه، عن أبي ذر قال :قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان؟ قال: «نعم، " كان نبيا
رسولًا كلَّمه الله قبلا قال له: وَيَتَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ .
و الحديث يفيد أنه كان رسولا لزوجه، كما أفادت قصة ابني آدم أنه كان رسولا لأولاده.
و جاءت ثلاثة أحاديث بهذا المعنى أيضًا: حديث عن أبي ذر رواه أحمد والبخاري في "التاريخ " ، وحديثان عن أبي أمامة، فهذه سبعة أحاديث تدل على أنَّ آدم نبي ورسول مكلَّم.
الإجماع
قال ابن حزم في كتاب "مراتب الإجماع " تحت ترجمة: «باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع ما نصه: «واتفقوا أَنَّ كلَّ نبيٌّ ذُكر في القرآن حق، كآدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وشعيب، ويونس، وإبراهيم، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وهارون، وداود، وسليمان،
وإلياس، واليسع، ولوط، وزكريَّا، ويحيى، وعيسى، وأيوب، وذي الكفل».اهـ
و هو يفيد الإجماع على كُفّر من ينكر نبوة آدم أو غيره من الأنبياء
المذكورين في القرآن، ونقل هذا الإجماع أيضًا القاضي عياض وغيره. و في «باب الردة) من كتب الفقه الإسلامي التنصيص على هذا الحكم. إزاحة شبهتين
القيامة يوم
١- حديث مسلم في طلب الناس الشفاعة من الأنبياء للتعجيل بحسابهم ، وقولهم لنوح: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض». لا ينفي رسالة آدم؛ لأنه كان رسولاً في الجنَّة لزوجه، ولما أهبط إلى الأرض كان رسولا لها ولأولاده، بخلاف نوحٍ، فهو أول رسول إلى أهل الأرض؛ لأن رسالته تجاوزت أهل بيته وأقاربه إلى الأباعد والأجانب، فكان مرسلًا إلى أمة من الناس، سماهم الله قومه، كما سمى قوم هود وصالح، ولم يتفطن عبدالوهاب النجار لهذا مع وضوحه، فتوقف في رسالة آدم بعد أ أن بنبوته، ولم يكن عالماً.
جزم
٢ - يقال: إذا كان آدم نبيًّا فكيف يصفه الله تعالى بقوله: وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ
فَغَوى ﴾ [طه: ۱۲۱]؟
والجواب عن هذه الشبهة: أنَّ الله تعالى تولّى إزاحة هذه الشبهة بقوله في
أول الربع: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: ١١٥] فأفاد أن مخالفة آدم كانت نسيانًا منه من غير تعمد، والأنبياء معصومون من أن تقع منهم معصية تعمدا قاصدين لها، وهذا لم يحصل من آدم عليه السلام،
وسمَّى الله ما وقع منه معصية على سبيل المجاز لأن صورته صورة معصية.
إرشاد الجاهل الغوي
و نظير ذلك أنَّ السَّلام في الصَّلاة قبل تمامها عمدا معصية، وقد سلَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين نسيانا، فترتب على نسيانه حكم سجود السهو. يضاف إلى ذلك أنَّ الله تعالى رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، كما في الحديث الصحيح، وكانت شرائع من قبلنا من الأنبياء تؤاخذ بهما حتى نزل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا ﴾ [البقرة: ٢٨٦] فلما قالها المسلمون قال الله: «قد فعلت». فرفعها عنا كما ثبت في "صحيح مسلم". هذا ما أردنا تحريره في المسألة قيامًا بواجب النصيحة الله ولدينه، ونسأل الله التوفيق والعصمة، والحمد لله رب العالمين.
تتمة
من خيبة هذا المرتد وخذلانه أنه يستدل بكلام مبتدعة مثله معروفين
بالانحراف عن السُّنَّة وبآراء متطرفة منبوذة:
عبدالوهاب النجار ليس من علماء الأزهر، ولكنه من خريجي مدرسة القضاء، وقد أساء في "قصص الأنبياء" إساءة بالغة حيث ذكر الأحاديث الصحيحة واتبعها بالاستهزاء والتهكُم وهو يعرف أنها في "الصحيحين". وأقبح من هذا وأوقح أنه ذكر الأحاديث الصحيحة التي تثبت وجود الدجال، وعقب عليها بأنها لا تفيد اطمئنان النفس بأنه سيوجد شخص اسمه الدجال، وأنه يفعل كذا وكذا، ثم انتكس فاعترف قائلا أنه وجد اليهود ينتظرون الدجال، فكان انتظار اليهود عند هذا المبتدع أقوى في اطمئنان النفس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم!
ومحمود شلتوت غريمه في الابتداع فقد طرده فضيلة الشيخ محمد الأخمائي الظواهري من الأزهر لابتداعه وشذوذه، حتى أُعيد إلى الأزهر في
عهد المراغي. و من نواحي ابتداعه أنه كتب في "مجلة الرسالة" مقالا في شخصيات الرسول، سرقها من القرافي، وحين عرض لشخصية القاضى فيه صلى الله عليه وآله وسلم أجاز أن تُخالفه في قضائه إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأعرض عن .
قوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: ٦٥].
إرشاد الجاهل الغوي
10V
و ممن ردَّ عليه فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر رحمه الله، كتب ردا عليه في رسالة خاصة.
و كتب عِدَّة مقالات في مجلة "الرسالة" يؤيد القاديانية في إنكار نزول عيسى عليه السلام، ولنا معه مواقف مشهودة منشورة في "مجلة الإسلام" وغيرها، كشفنا فيها جهله وقصوره ومعي فضيلة الشيخ محمد زاهد
الكوثري، وفضيلة الشيخ محمد إسماعيل عبدرب النبي، رحمهما الله. و هو إمعة يفتي حسب هوى الحكام؛ كتب مقالا في "مجلة الإسلام" أفتى فيه بحرمة فوائد النقود التي توضع في البريد باعتبارها ربا محرَّمًا، ولما حصل الانقلاب في مصر، وسمع جمال عبد الناصر يؤيد فوائد النقود باعتبارها من مصادر الثروة الوطنية، كتب مقالا في إباحتها. و كتب أحد الأزهريين مقالا بعنوان: "الشيخ شلتوت يردُّ على الشيخ
شلتوت"، ونشر المقالين بدون تعليق !!
فهذا المبتدع لا يوثق بعلمه ولا بنقله، وكيف وقد كذب على أحمد في قوله:
من ادعى وجود الإجماع، فكلمة «وجود» مكذوبة لم يقلها أحمد. و لم يتكلم في الإجماع إلَّا النَّظام المعتزلي، فهو أول من طعن في وجوده وصحته، وتبعه شُذَاذ مِن الناس مثل محمد بن إسماعيل الصنعاني، والشوكاني، والشيخ أحمد شاكر، والمبتدع شلتوت.
و جاء المبتدع المشبه الألباني في مؤخّرة القطار يردد الصَّدَى، ويعيد النغمة،
لكنه تناقض حيث ادَّعى الإجماع فيما يوافق بدعته، وهكذا شأن المبطلين. أما محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني والشوكاني فهما معتزليان، لأنهما
كانا من الزيدية المعتزلة، فلما انضما إلى أهل السنة بقي عندهما من الاعتزال
أشياء، منها إنكار الإجماع، وإيجاب شكر المنعم بالعقل، وكلامه في "إرشاد
الفحول " ترديد لكلام النظام، وله شواةٌ في "نيل الأوطار" وغيره من كتبه. ثُمَّ الإجماع على نبوة آدم عليه السلام هو إجماع الأمة كلها، حكاه ابن حزم، وهو متشدد في حصول الإجماع، ولا تجد مسلمًا أنكرها أو شك فيها، وهذه كتب التفسير، وكتب العقائد، وكتب الحديث، وكتب الفقه الإسلامي، كلها تنص على نبوة آدم عليه السَّلام، فيجب على هذا المرتد أن يعلن توبته من رِدَّته. مجزوء الرمل: يا غويا كُنْ تَقِيا وتَجنَّبٌ كُلَّ سـ
سخفِ
والحـــــون مــــــا في كتابك فكــــــــــابُ الله يَكْفِ
ادًا دَواءُ العِلْمِ يَـم يَشْفِي واتركــــــــنْ قَولَ هُراء تنتهـب فيه الحت و اطلبِ العَفْوَ مُلح تلتقِ عَفْرًا بِلُطْفِ
إعلام النبيه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.
وبعد: فهذا جزء سميتُه : "إعلام النبيه بسبب براءة إبراهيم من أبيه" وهذا موضوع لم يطرقه أحدٌ قبلي فيها أعلم وما فكرت أن أكتب فيه لولا ضرورة دعت إليه الآن، والله المستعان وعليه التكلان.
الكلام المؤلف من شرط وجواب يترتب الجواب فيه على الشرط ترتبَ المعلول على العلة.
وقد يكون الترتب عقليّاً، نحو: إذا طلعت الشمس فالنهار موجود. ترتب
وجودِ النَّهار على طلوع الشمس عقلي لا يتخلَّف.
ويكون عاديا قد يتخلف، نحو: إذا مسست النار أحرقتك.
ويكون شرعيَّا، وهو المراد في هذا الجزء، نحو: إذا كان النَّبيذُ مُسكِرًا فهو حرام. أفاد هذا الترتب عليَّة الإسكار لتحريم النبيذ شرعًا.
العلة يجب أن تكون مساوية للمعلول الذي هو الحكم، بمعنى أنه يوجد معها وينتفي بانتفائها سواء قلنا أنها الباعث أم المعرف أو غير ذلك مما هو مقرر في كتب الأصول، وذلك كالإسكار علة لتحريم الخمر فإذا انتفى كالخمر
تصير خلا انتفى التحريم.
ولا يجوز أن تكون العلة أخصَّ من المعلول لأنه يلزم عليه أن يـ المعلول بدون علة وهو باطل.
يوجد
مثال ذلك: لو عللنا وجوب متابعة المأموم لإمامه بكونه مؤديا، فهي عِلَّة خاصة بالآداء، مع أنَّ المأموم يجب عليه متابعة إمامه في حالة الأداء والقضاء وفي الحضر والسفر والفرض والنقل.
والعلة الصحيحة المساوية للمعلول هنا هي المأخوذة من قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما جعل الإمامُ ليُؤتَمَ بهِ» وهي كونه مأمومًا أي ربط صلاته بصلاة إمامه وهذه العلة تساوي المعلول في جميع صوره. ولهذا ذهب عامة العلماء ومنهم الحنفية القائلون بوجوب قصر الصلاة في السفر إلى أنَّ المسافر إذا صلى خلف مقيم وجب عليه أن يتم الصلاة تبعا
لإمامه؛ لأنَّ المأموميَّة وصفٌ لازم له بخلاف السفر فإنه طارئ ويزول. ولم يتفطن ابن حزم لهذا المعنى فأوجب على المسافر خلف المقيم أن يصلي
ركعتين فشذ بهذا القول عن إجماع العلماء.
ويؤيد ما أجمع عليه العلماء ما ثبت في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «أما يخشَى الذي يرفع رأسه قبل الإمام في الصَّلاة أن يحوِّلَ الله رأسه رأسَ حمار أو يجعل الله صورته
صورة حمار ؟!». وهذا وعيد شديد على من يخالف الإمام. والمسافر الذي يسلّم من ركعتين قبل إمامه أو يظل منتظرا له في تشهده أحق
بهذا الوعيد وأولى، فيجب عليه إتمام الصلاة ليخرج من طائلة هذا العقاب.
كذلك لا يجوز أن تكون العِلَّة أعم من المعلول كما لو عللنا نجاسة الكلب بأنه سبع فهذه عِلَّة أعم من الحكم لأن الهرَّة سبع والذئب سبع والأسدسبع مع أنها ليست بنجسة، والعلَّة الصحيحة لنجاسة الكلب ما قاله الشافعية وهي أنَّ الكلب أوجب الشارع الغسل من ولوغه سبع مرات كما في الحديث الصحيح، والفم أطهر عضو في الحيوان، وحيث وجب تطهير أثر فم الكلب دل على نجاسته.
لا يصح تعليل براءة إبراهيم من أبيه بأنه ضال؛ لأن الضَّلال في اللغة هو : الميل عن الصراط المستقيم سواء أكان الميل عمدًا أم خطاً قليلا أم كثيرًا وهذا
معنى عام يطلق على الكفر وغيره.
فيطلق على المعصية مثلاً نحو: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴾
[الأحزاب: ٣٦].
ويطلق على النسيان نحو: أَن تَضِلَّ إِحْدَ لَهُمَا فَتُذَكَرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
[البقرة: ٢٨٢].
ويطلق على الحيرة نحو: ﴿ وَوَجَدَكَ صَالًا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7]، أي:
وجدك حيران لا تدري كيف ترشد قومك فهداك بالوحي.
ويطلق على التقليد نحو: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: ٧]
المغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى ؛ لأنهم قلدوا اليهود. ويطلق على الحبّ نحو: إِنَّكَ لَفِي ضَلَلِكَ الْقَدِيمِ ﴾ [يوسف: ٩٥] أي: حبُّك القديم ليوسف ويطلق على الابتداع في العقيدة نحو: «كل بدعة ضلالة»
الحديث ويطلق على الخطأ في الطريق ومنه أطلق المحدثون على معاوية بن عبد
الضلال
الكريم الثقفي الثقة لقب الضال لأنه ضل في طريق مكة فلا : يصح علة براءة إبراهيم من أبيه لأعميَّته كما تبين. قال فرعون الموسي: أَلونُرَبِّكَ فِينَا
وليدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ :
ا وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ
الكفرين [الشعراء: ۱۸ - ۱۹] فأجابه موسى عليه السلام بقوله : فَعَلْتُهَا إِذَا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: ٢٠].
ففر موسى من وصف الكفر الذي وصفه به فرعون ووصف نفسه بأنه كان من الضالين أي: المخطئين بسب وَكُزه القبطي، أو من الجاهلين بأن الوَكْزَ يؤدي للقتل فالضلال في بعض المعاني يصحُ وصف الأنبياء به
العلة الصحيحة لبراءة إبراهيم من أبيه ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم
حيث قال: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَبَيَّنَ لَهُ وَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ [التوبة: ١١٤ ] .
أفاد الشرط والجواب في هذه الآية أن علة براءة إبراهيم من أبيه هي كونه عدوا الله وهذه هي ا يتساويان في المصادق فكل كافر عدو الله، وتنعكس القضية بطريق عكس
العلة الصحيحة المساوية للحكم لأن العداوة لله والكفر
النقيض الموافق إلى قولنا: كل من ليس عدوا الله، ليس بكافر.
والدليل على ذلك من القرءان عدة آيات: مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَتَبِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَنلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَفِرِينَ ﴾ [البقرة: ۹۸]، مَن كَانَ
عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَتَبِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَنلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَفِرِينَ [البقرة: ۹۸]، وقال عن فرعون : فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذُهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُولَهُ
[طه: ٣٩].
وهذه الآية تردُّ قول من زعم أنَّ فرعون قبل إسلامه ومات مسلما وهذا باطل؛ لأنَّ الله أخبر أنه عدو له ولو قبل إسلامه لم يكن عدوا الله والأخبار لا يدخلها النسخ ففرعون مات كافرًا عدوا الله.
أمرنا الله في كتابه الكريم بالاقتداء بإبراهيم وأصحابه في براءته من أبيه فقال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَ وا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: ٤]. فشرع لنا بذلك مقاطعة أقربائنا الكفار والبراءة منهم لكن بعد موتهم على الكفر إذ بموتهم على الكفر نتحقق أنَّهم أعداء الله وهذا كما فعل إبراهيم عليه السلام فإنه وعد أباه بالاستغفار له فوفى بوعده حيث قال: ﴿ وَأَغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: ٨٦] وكان حيًّا، وكان يأمل أن يسلم فيغفر الله له لقوله تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال : ٣٨]. فلما مات أبوه مشركا تبيَّن له أنه عدو الله فتبرأ منه ولهذا قال تعالى: الاقولَ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ [الممتحنة: 4 ] . أي أن استغفار إبراهيم لأبيه لا يُقتدى به فيه لما سبق بيانه.
وقال تعالى في آية أخرى لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: ٢٢].
والمحادة الله ورسوله ترادف في المعنى الكفر وعداوة الله فهذه الألفاظ الثلاثة ما صدقها واحد وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْعُ الْعَظِيمُ } [التوبة: ٦٣] وقال تعالى: ياتها الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكفْرَ عَلَى الْإِيمَ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَأَوَلَيْكَ هُمُ الظَّلِمُونَ ﴾ [التوبة: ٢٣].
علم مما سبق أنه يحرم على المسلم أن يتبرأ من قريبه المسلم أبا كان أو أخا أو غير ذلك لأنَّ البراءة مشروعةٌ بالنسبة للكافر عدو الله، ولا تشرع بالنسبة للمسلم ولي الله ولو كان عاصيّاً أو مبتدعاً ما دام مسلما يصلى عليه إذا مات وتلحقه رحمة الله في الآخرة بالشفاعة أو غيرها، بخلاف الكفار فإن الله قال
عنهم : أُولَيْكَ يَسُوا مِن رَّحْمَنِ ﴾ [العنكبوت: ٢٣]. وقياس المسلم على الكافر من أبطل القياس وأفسده لأنه قياس ولي على
عدو، قياس مسلم على كافر، فأين الجامع بينهما؟!
وإنما تبرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من القدرية كما في "صحيح مسلم " لكفرهم لأنهم أنكروا القدر، وإنكاره كفر لأنه جزء من الإيمان ولأنهم زعموا أنَّ الله تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها فنسبوا الجهل إلى الله وهو كفر
وقد قال النبيُّ في حديث صحيح: «خَيَّرني الله بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترتُ الشفاعة لأنها أعم وأكْفا أترَوْنها للمؤمنين المنقين ولكنَّها للمذنبين الخاطئين المتلوثين».
وقال أيضًا صلى الله عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وثبت في الصحيحين أيضًا عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «كان رجلٌ ممن كان قبلكم حضرته الوفاة فدعا أولاده وأخبر أنَّه لم يعمل خيرًا قطُّ إِلَّا الإيمان وأمرهم بتخريقِ جسمه بعد موته ورمي رماده في البر
والبحر فأحياه الله تعالى وسأله ما حَمَلَك على ما فعلت قال: مخافتُكَ فغَفَر له». والله تعالى يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: ٧] والميت المسلم معه أصل الخير وهو الإيمان فلابد أن يدخُل الجنَّة ليرى جزاء
إيمانه فكيف يجوز التُرؤ من مسلم يدخل الجنة ولو عذب قبل دخولها؟! وأيضًا فإنَّ الله شرع التبرُّؤ من القريب الكافر لأنَّ الكفار من أصحاب الشمال والمسلمون من أصحاب اليمين فلا يجتمعان يوم القيامة أبدًا لأنَّ كلَّا منهما له طريق غير طريق الآخر فلا يجوز تبرُّؤ مسلم من مسلم لأنَّ كليهما من أصحاب اليمين يلتقيان في الآخرة فكيف يلتقي في الآخرة الرجل المتبرئ من
أبيه أو خيه أو قريب معه. إذ يكون بينهما غاية الحرج والعتاب.
(V)
من كبائر المعاصي أن يقول الشخص عن مسلم أنه كافر أو عدو الله لما ثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: «أيها رجل قال لأخيه يا كافر فقد باءَ بها أحدهما إن كان كما قال وإلَّا
رجعت عليه.
وفي "صحيح البخاري عن أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه
إن لم يكن صاحبه كذلك».
وفي رواية لمسلم : ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك
إلا صار عليه .
وهذا وعيد شديد يقتضي أن من يرمي مسلما بالكفر أو بعداوة الله كان مرتدا، ولكن العلماء حملوه على استباحة ذلك بمعنى أنه إن قال عن مسلم
كافر أو عدو الله معتقدا أن ذلك مباح له يكون مرتدا كما في الحديث. وفي صحيح ابن حِبَّان" عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أكفرَ رجلٌ رجلًا إلا باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا كفر بتكفيره». وهذا يدل على أنَّ تكفير المسلم كفر سواء كان يستبيحه أو لا
يستبيحه.
والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
إثمد العينين
المقدمة
الحمد لله رب العالمينَ ، والصَّلاة والسَّلامُ على سيدنا محمَّد وَآلِهِ الأَكرَمِينَ. وبعد: فقد جَاءَ فِي سَبَبٍ نُزول (سورة الكَهْفِ مَا رَوى محمدُ بنُ إِسْحَاقَ حيث قال: حدثني شيخ منْ أهلِ مصر قدِمَ علينا منذُ بِضْعِ وأَربَعِينَ سنةً، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ عباس قال: بعثَتْ قُرَيشُ النَّضْرَ مِنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما: سَلُوهُم عن محمَّدٍ وصِفُوا لَهُمْ صِفته وأخبرُوهُم
بقوله، فإنَّهم أهل الكتابِ الأول وعندَهُم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخَرَجًا حتَّى أنّيا المدينةَ فسألوا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسَلَّمَ ووصَفُوا هُمْ صِفته وبعض قوله، وقالا: إِنَّكُم أهلُ التَّوراةِ، وقد جئناكم لتُخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالت لهم: سَلُوه عن ثلاث نأمرُكم
بهنَّ، فإن أخبرَكُم بهنَّ فهو نبيٌّ مُرسَلٌ ؛ وإلا فالرَّجُلُ مُتقوِّلٌ، فَرَوا فيه رأيكم. سَلُوه عنْ فِتْية ذهبوا في الدَّهرِ الأَوَّل، ما كانَ مِنْ أَمْرِهِمْ؟ فَإِنَّهُمْ قد كانَ لهُم حديث عجيب، وسَلُوه عن رجل طوَّافٍ بلغَ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبوه؟ وسَلُوه عنِ الرُّوحِ، ما هُوَ؟ فإنّ أَخبَرَكُم بذاكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ وَإِنْ
لم يخبركم فإنَّه رجل متقول فَاصْنَعُوا في أمرِه ما بَدا لكُم.
فأقبل النَّضْرُ وعُقبةُ حتَّى قَدِما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد
جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار اليهودِ أن نسأله عن أمورٍ،
فأخبروهم بها.
فجاؤوا رسول الله صلَّى الله عليه وآلهِ وسَلَّمَ فقالوا: يا محمد أخبرنا،
فسَأَلُوه عما أمروهم بهِ.
فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّمَ: «أخبرُكم غدًا عمَّا سَأَلتُم
عنه»، ولم يسْتَثْنِ.
فانصرفوا عنه، ومَكَثَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خمْسَ عشرةَ ليلة لا يُحدث الله له في ذلكَ وَحْيّا ولا يأتيه جبريل عليه السَّلامُ، حَتَّى أَرْجَفَ أهل مكة وقالوا: وعَدَنا محمَّدٌ غدًا واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبَحْنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه !! وحتَّى أحزنَ رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمِ مُكْثُ الوحي عنه وشقَّ عليه ما يتكلم به أهل مكة فجاءَهُ جبريل عليه السَّلامُ مِنَ الله عز وجل بسورة أهل الكهف فيها معاتبته إيَّاهُ على حزنه عليهم، وخبر ما
سألوه عنه من أمرِ الفِتْيةِ والرَّجُلِ الطوافِ والرُّوحِ.
قلتُ: اشتملت (سورةُ الكَهْفِ على ثلاث قِصَص: قِصَّةِ أصحابِ
الكهفِ، وقصَّةِ الخَضِرِ عليه السَّلامُ ، وقصَّةِ ذي القَرْنَينِ وسُمِّيت سورة الكهفِ تنويها بالفتية الموحدِينَ وتذكيرًا بما لهم عند الله منَ الأجْرِ العَظيمِ ولأجل ما في مُفْتَتَحِها من تقريرِ التَّوحيد وتعظيم أمرِه، قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ: «مَنْ حَفِظَ عشْرَ آياتٍ مِنْ أَوَّلِ (سُورَةِ الكَهْفِ) عُصِمَ مِنَ الدَّجَّال». وفي رواية: مِنْ آخِرِ الكَهْفِ لأنَّ آخِرَ السُّورَةِ مُقرِّرُ للتَّوحِيدِ أيضًا
ومبين لعِظَمِ شَأْنِهِ، فبينَ فاتحة السُّورة وخاتمتها مناسبة واضحة.
وأصحاب الكهف كانوا بعد عيسى عليه السَّلام، لقوله تعالى: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ [الكهف: ٢٥]، وقد عُثر على المسجد
إثمد العينين
الذي بني عليهم وهو بعمانَ عاصمة الأردن يقصده السُّيَّاحُ لرؤيته والاطلاع عليه. كان في مصرَ مُلْحِدٌ اسمه خلف الله كتب رسالة لنيل دكتوراة، موضوعها: «القَصَصُ في القرآنِ، وكانَ فيها آراء قبيحةً، وزعم في قصَّةِ أصحابِ الكَهْفِ
أنها قصة خياليَّةٌ ، وعَمِيَ عنْ قول الله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ [الكهف: ١٣]، ولما قدَّم الرِّسالة إلى الجامعة رفضت اللجنة قبولها لأنها وجدت في الرسالة طعنًا في القرآنِ؛ ثارَ أستاذه أمينُ الخولي وكتب مقالا في «جريدة الأهرام» يدافع عنه وقالَ: «ارموني وإيَّاه في الجحيم»!!، وسيرميها الله فيه. ورَدَّ عليه العقاد في «الأهرام» أيضًا ردًا متينا أفحَمَه وأسكته.
والخضر عليه السَّلامُ هوَ العبدُ الصَّالحُ الذي ذهب موسى عليه السَّلامُ يطلبه ومعه فتاه، وهو نبي على القول الصحيح، بل الحقُّ الذي لا يجوز غيره، والدليل عليهِ مِنَ القرآنِ أمورٌ :
الأول: قول الله تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَانَيْنَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
وَعَلَّمْنَهُ مِن لَّدُنَا عِلْمًا ﴾ [الكهف: ٦٥] ففي هذه الآية دليل من وجهين: أحدهما: أنَّ الله تعالى إذا نَسَبَ إلى ذاتِه المقدَّسة تعليم شخص معيَّن كان دليلا
على نبوته، اتْلُ الآياتِ التَّاليةَ : وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: ٣١] وَقَتَلَ دَاوُردُ جَالُوتَ وَعَاتَهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يشاء [البقرة: ٢٥١]، وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ﴾ [النساء: ۱۱۳)، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ ﴾ [يوسف: ٦٨]، ﴿وَكَذَلِكَ مَكَنَّا لِيُوسُفَ فَالْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: ۲۱]، ﴿ وَلُوطًا ءَانَيْنَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: ٧٤]
وقال في الخضر: وَعَلَّمْنَهُ مِن لَّدُنَا عِلْمًا ﴾ [الكهف: ٦٥]، فهو نبي. ثانيهما: قوله تَعَالَى: وَالَيْتَهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا ﴾ [الكهف: ٦٥] رحمةً يعني: نبوة، بدليل قول نُوحٍ أَرَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيْنَةٍ مِّن رَّبِّي وَ النِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ﴾ [هود: ۲۸] يعني: نُبوَّةً، وقول الله تعالى: وَإِسْمَعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلُّ
من الصَّبِرِينَ وَأَدْخَلْنَهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ﴾ [الأنبياء: ٨٥ - ٨٦)؛ أي: نُبوتنا. الثاني: قول موسى له : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: ٦٦] يفيدُ أَنَّ الله علَّمَه، فهو نبي.
الثالث: قولُ الخضرِ لموسى عليه السَّلامُ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } [الكهف: ٦٧] هذا الجزم المؤكَّد بـ«إنَّ» و «لن» دليل على أنَّه صادرٌ عن نبي، وإِلَّا
فالولي الذي علمه الإلهام لا يمكنه أن يجزم مثل هذا الجزم.
الرابع: خَرْقُ السَّفينةِ لا يقدر أن يُقدِمَ عليه الولي بمجرَّدِ الإلهام الذي لا يفيدُ اليقين أصلا فلابد أن يكون صادرًا من نبي بوحي منَ الله تعالى. الخامس: قتلُ الغُلامِ لأَجْلِ أَنَّهُ سيكونُ في المستقبل كافرًا لا يجوز أن يكونُ
إِلَّا من نبي بوحي من الله تعالى أعلَمَهُ بعاقبة هذا الغلامِ وأباحَ له قتله. السادس : قول الخضرِ : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ﴾ [الكهف: ۸۲] نص في أنَّ ما فعله كان بوحْيِ مِنَ الله تعالى، واحتمال أن يكون بواسطة نبي آخرَ سَفْسَطَةٌ فارغة.
قِصَّةُ الخضرِ وموسى عليهما السّلامُ كما رواها البُخَارِيُّ في "صحيحه" : قال البُخَارِيُّ في كتاب أحاديثِ الأنبياء، باب حديثِ الخَضِرِ مَعَ مُوسى عليه السلام»: حدَّثَنا عليُّ بنُ عبد الله : حدَّثَنَا سُفْيان: حدثنا عمرو بن دينار،
إثمد العينين
قال: أخبرني سعيدُ بنُ جُبَيرٍ قال : قلتُ لابنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا البِكَالِيَّ يزعمُ أَنَّ
موسى صاحب الخَضِرِ ليس هو موسى بني إسرائيل، إِنَّمَا هُوَ مُوسى آخر. فقال : كذب عدو الله، حدَّثَنا أبي بن كعب، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآلهِ وسَلَّمَ: أَنَّ موسى قامَ خَطَيبًا في بني إسرائيل فسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أعلمُ؟ فقال: أنا. فعتَبَ الله عليه إذ لم يرُدَّ العلم إليه فقال له : بلى، لي عبدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَينِ هو أعلمُ مِنْكَ. قال: أي ربِّ ومَنْ لي بِه؟ قال: تأخذُ حُونًا فتجعله في مِكْتَلٍ، حيثما فقَدتَ الحوتَ فهوَ ثَمَّ. وأخذ الحوت فجعلَه فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هوَ وفتاه يُوشَعُ بنُ نُونِ حتَّى أتيا الصَّخْرَةَ وَضَعا رؤوسهما فرقد موسى واضطرب الحُوتُ فسقَطَ في البَحْرِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَه في البَحْرِ سَرَبًا، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جرية الماء فصار مثل الطَّاقِ، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتَّى إذا كانَ مِنَ الغَدِ قال لفتاهُ: عَائِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبا ﴾ [الكهف: ٦٢] ولم يجد موسى النَّصَبَ حَتَّى جاوزا حيثُ أمره الله، قال له فتاهُ: أَرَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّحْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَنِيهُ إِلَّا الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ عَجَباً ﴾ [الكهف: ٦٣] ، فكانَ للحُوتِ سَرَبًا ولهما عَجَبًا.
قال له :موسى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبِعْ فَارْتَدَا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف: ٦٤] رجَعَا يَقُصَّان آثارهما حتَّى انتهيا إلى الصَّخرة فإذا رجلٌ مُسَجَّى بثوبٍ فَسَلَّمَ موسى، فرد عليه فقال : وأَنَّى بأرضِكَ السَلامُ؟! قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتُكَ لِتُعلِّمَني مما عُلمتَ رُشْدًا. قال: يا موسى إنِّي على علمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وأَنتَ على علمٍ مِنْ علمِ اللَّهُ عَلَّمَكَهُ الله
لا أَعْلَمُهُ، فقال: هل أَتَّبِعُكَ؟ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا
لو تحط به خبراً إلى قوله : أمراً ﴾ [الكهف: ٦٧ - ٦٩].
فانطلقا يمشيان على ساحلِ البَحْر فمرَّت بهما سفينةٌ كَلَّمُوهُهم أن يحملُوهُم فعرَفُوا الخَضِرَ فَحَمَلُوه بغيرِ نَول، فلمَّا ركِبًا في السَّفينة جاء عُصِفُورٌ فوقَعَ على حرفِ السَّفِينَةِ فنقر في البَحْرِ نَقْرةً أو نقرَتَينِ، قال له الخضر : يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفورُ بمنقاره منَ البحرِ، إِذْ أخَذَ الفأس فتَزَعَ لوحا قال: فلم يفْجَاً موسى إلا وقد قَلَعَ لوحًا بالقَدُّوم فقال له موسى ما صنعت؟! قوم حملونا بغير نول؛ عَمَدْتَ إلى سفينتهم فَخَرَقْتَها لتُغْرِقَ أهلها؟! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) قَالَ لَا
تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: ۷۱ - ۷۳] . فكانت الأولى من موسى نسيانا، فلما خرَجًا مِنَ البَحْرِ مِرُّوا بِغُلَامِ يَلْعَبُ مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلَعَه بيده هكذا وأومَاً سفيان بأطرافِ أصابعه كأنه يقطفُ شيئًا - فقال له موسى: أَقْتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةٌ بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا تكرا ) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٥) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَحِبَنِي قَدْ بَلَغَتَ مِن لَدُنِي عُدْرًا فَأَنطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَنْيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ أَسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَ ﴾ [الكهف: ٧٤ - ٧٧] مائلا - أومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأَنَّه يمسحُ شيئًا إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر «مائلا إلا مرَّةً - قال: قوم أتيناهم فلم يُطْعِمُونَا ولم يُضَيَّفُونَا عَمَدتَ إلى حائطهم؟! لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ ؟
إثمد العينين
بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: ۷۷ - ۷۸].
قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسى كَانَ صِبرَ فَقَصَّ الله
علينا منْ خَبر هما».
وللحديث طرق في "صحيح البخاري"، وفيه أدلَّةٌ على نبوة الخضر عليه
السلام:
الأَوَّلُ: قول الله لموسى: «بل لي عبدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَينِ هُوَ أَعلَمُ مِنْكَ». يقتضي نُبوَّتَه، لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَ أَتَيْنَا دَاوُرَدَ
زبورًا ﴾ [الإسراء: ٥٥]، ولا يجوز أن يفضّل الله وليَّا على نبي. الثاني: تصريحُ الخَضِرِ بأنَّ الله علَّمه كما علم موسى، وهو قاطع في أَنَّه نبي. الثالث: اشتراطه على موسى ألا يسأله عن شيءٍ حَتَّى يخبره به.
الرابع: قوله: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ [الكهف: ۸۲] لا يمكن أن
يعلم إرادة الله إلا بوَحْيِ منه.
فهذه عشرة أدلَّةٍ على نبوَّةِ الخَضِرِ عليه السَّلامُ.
الحادي عشر : قالَ الطَّبراني في "المعجم الكبير ": حدثنا عمرو بن إسحاق ابنِ إبراهيم بن العلاء الحِمصيّ: ثنا محمدُ بنُ الفضّل بن عِمرانَ الكِنْدِي : ثنا بقيَّةُ بنُ الوليد، عن محمَّدِ بنِ زيَّادِ الألهاني، عن أبي أمامةَ : أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله
وسلَّم قال لأصحابه: «ألا أحدَّثُكُمْ عَنِ الْخَضِرِ؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «بينما هو ذاتَ يومٍ يَمْشِي في سُوقِ بني إسرائيل، أبصرَه رجُلٌ مكاتب فقال: تصدَّق عليَّ بارك الله فيك. فقال الخَضِرُ : آمنتُ بالله، ما شاء اللهُ مِنْ أَمرٍ
يكون، ما عندي شيء أعطيكه.
فقال المسكين: أسألكَ بوجْهِ الله لما تصدَّقتَ عليَّ، فإنِّي نظرتُ السَّماحة في وجهك، ورجوتُ البركة عندك. فقال الخَضِرُ: آمنتُ بالله ما عندي شيء أعطيكَه إلا أن تأخذني فتبيعني فقال المسكينُ: وهل يستقيم هذا؟ قال: نعم، الحق أقولُ لكَ، لقد سألتني بأمر عظيم، أمَا أَنِّي لا أخيِّبُكَ بوجهِ ربِّ، يعني، فقدمه إلى السُّوقِ فباعه بأربعمائة درهم.
فمكث عند المشتري زمانًا لا يَستعمله في شيء، فقال له: إِنَّكَ ابْتَعْتَني التماس خير عندي فأوصني بعمل. قال: أكرَهُ أَنْ أَشقَّ عليكَ، إِنَّكَ شيخ كبير ضعيف. قال: ليس يشق على. قال: فانقل هذه الحجارة، وكانَ لا ينقُلُها دونَ ستة نفر في يوم، فخرجَ الرَّجلُ لبعض حاجتِه ثم انصرف وقد نقل الحجارة في
ساعة. فقال: أحسنت وأجملتَ وأطقتَ ما لم أرك تُطيقه.
ثم عرضَ للرجلِ ،سفر، فقال: إنّي أحْسَبُكَ أَمِينًا فَاخْلُفْني في أهلي خِلافةً حسَنةً. قال: فأوصني بعمل، قال: إني أكرهُ أَنْ أَشَقَّ عليكَ. قال ليسَ يَشُقُّ عليَّ، قال: فاضرب مِنَ اللَّبِنِ لبيتي حتَّى أقدم عليكَ. فمضى الرَّجلُ لسَفَرِه فرجَعَ وقد شُيّد بناءه. فقال: أسألك بوجه الله، ما سبيلك وما شأنُكَ؟! فقال: سألتني بوجه الله، والسُّؤال بوجه الله أوقَعَني في العُبُودِيَّةِ، سأخبرُكَ مِنْ أنا؛ أنا الخَضِرُ الذي سمعت به سألني مسكين صدقةً فلم يكن عندي شيء أعطيه، فسألني بوجه الله، فأمكنته من رقبتي فباعني، وأخبرك أنَّه مِنْ سُئِلَ بوجه الله فرد سائلة وهو يقدِرُ، وَقَفَ يومَ القيامةِ جِلْدُه لا لحمَ له ولا عظم يتَقَعْقَعُ. فقال الرجلُ : آمنتُ بالله، شقَقْتُ عليكَ يا نبي الله ولم أعلم. فقال: لا بأس، أحسنتَ. فقال
إثمد العينين
الرجلُ : بأبي وأمي يا نبي الله احكُمْ في أهلي بما أراك الله، أو أخيركَ فأُخْلِي سبيلك. فقال: أ حبُّ أن تُخلي سبيلي فأعبد ربِّ. فخَلَّى سبيله. فقالَ الخَضِرُ:
الحمد لله الذي أوقَعَنِي فِي العُبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِ مِنْهُ».
قال الحافظ ابن كثير في "تاريخه ": «وهذا حديث رفعه خطأ، والأشبه أن يكون موقوفا، وفي رجالِه مَنْ لا يعرفُ». اهـ
وقال الحافظ في "الزَّهْرِ النَّصْرِ في نبأ الخضر": «وسند هذا الحديث حسن لولا عنعنه بقيَّة، ولو ثبت لكانَ نصًا أنَّ الخَضِر نبي الحكاية النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قول الرجل: يانبيَّ الله، وتقريره على ذلك».اهـ وفي الأدلة المذكورة كفاية عنه وغناء.
وعلى اعتبار أنَّ ذلك الحديث موقوف كما قال ابن كثير، فهو يدلُّ على أنَّ الخضر كان معروفًا بالنبوة، مشهورًا بها.
قال ابن كثير في "تاريخه ": «دل سياقُ القِصَّةِ على نبوته من وُجوه: أحدها: قوله تعالى: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ءَانَيْنَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
وَعَلَّمْنَهُ مِن لَّدُنَا عِلْمًا ﴾ [الكهف: ٦٥].
الثاني: قول موسى له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا لا قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعَى صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، خُبْرًا ) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْتَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى
أُحدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: ٦٦ - ٧٠]. فلو كان وليا وليس بنبي لم يخاطبه موسى بهذه المخاطبة ولم يرد على موسى
هذا الرد، بل موسى إنَّما سأل صحبته لينال ما عنده مِنَ العلم الذي اختصه الله به دونه، فلو كان غير نبي لم يكن معصُومًا، ولم تكن لموسى -وهو نبي عظيم ورسول كريمٌ واجب العصمةِ - كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علمٍ ولي غير واجب العصمةِ، ولَما عَزَمَ على الذَّهَابِ إليه والتفتيش عليه، ولو أنَّه يمضي حُقُبًا منَ الزَّمانِ قيل : ثمانين سنةً، ثم لما اجتمع به تواضع له وعظَمَه واتَّبَعَه في صورة مستفيد منه ، دلّ على أنه نبي مثله يُوحى إليه كما يُوحى إليه، وقد خُصَّ من العلوم الدينية والأسرار النبوية بما لم يُطْلِعِ الله عليه موسى الكليم نبي بني إسرائيل
الكريم، وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرُّمَّانيُّ على نبوَّةِ الخَضِرِ عليه السَّلامُ. الثالث: أنَّ الخضر أقدم على قتلِ الغُلامِ وما ذاكَ إلا للوَحْيِ إليه من الملكِ العلام، وهذا دليل مستقل على نبوّته وبرهان ظاهر على عصمته؛ لأنَّ الولي لا
يجوز له الإقدام على قتلِ النَّفْسِ بمجرَّدِ ما يُلقى فِي خَلَدِهِ؛ لأنَّ خاطره ليسَ بواجب العصمة، إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق، ولما أقدمَ الخَضِرُ على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحُلُمَ عِلما منه بأنَّه إذا بلغَ يكفُرُ ويحمِلُ أبَوَيْهِ على الكفر لشدة محبَّتِها له فيتّبعانِه عليه ففي قتله مصلحة عظيمةٌ تربو على بقاءِ مُهْجَتِهِ صيانة لأبويه عن الوقوع في الكُفْر وعقوبته؛ دلّ ذلك على نبوتِهِ وَأَنَّه مؤيَّد من الله بعضمته وقد رأيتُ الشيخ أبا الفرَج بن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوَّةِ الخَضِرِ وصححه.
الرابع: أنه لما فسَّر الخضر تأويل تلك الأفعال لموسى ووضَّحَ له عن حقيقة أمره
وجلا، قال بعد ذلك كلّه : رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: ۸۲] . يعني: ما فعلته من تلقاء نفسي بل أُمِرتُ به وأُوحِيَ إليَّ فيه، فدلَّتْ هذه
إثمد العينين
الوجوه على نبوته، وإذا ثبتت نبوتُه كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته ، وأنَّ الولي قد يطلعُ على حقيقة الأمورِ دونَ أربابِ الشَّرعِ الظَّاهِرِ مستند يستند إليه، والخضر نبي عند الجمهور، وقيل: هو عبد صالح غير نبي. والآية تشهد بنبوته لأنَّ بواطِنَ أفعاله لا تكون إلا بوَحْيِ. وأيضًا فَإِنَّ الإِنسانَ لا يتعلَّمُ ولا يَتَّبِعُ إلا تمن هو فوقه وليسَ يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي» . اهـ وقال ابن عطية: كانَ علمُ الخَضِرِ علم معرفة بواطن قد أُوحِيتُ إليه لا
تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها».اهـ
وقال التعلبيُّ: «هو نبي على جميع الأقوال».
وقال أبو حيان في تفسيره": «و الجمهور على أنَّ الخضر نبي، وكان علمه: معرفة بواطن قد أُوحيت إليه، وعلم موسى: الأحكام والفتيا بالظاهر» . اهـ وقال الزمخشري في "تفسيره : عَالَيْتَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ [الكهف: ٦٥] هي: الوحي والنبوَّة»، وقال أيضًا: «لا غَضَاضة بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله، وإنَّما يُغضى منه أن يأخذه ممَّنْ هو دونَه». اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في "الزَّهْرِ النَّضِر"، «باب ما ورد في كونه نبيَّا»:
«قال الله تعالى حكاية في خبره عن موسى حكاية عنه: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى [الكهف: ۸۲] وهذا ظاهرُه أَنَّه فعَلَه بأمر من الله والأصل عدمُ الواسطة ويحتَمَلُ أن يكون بواسطة نبي آخَرَ لم يذكره، وهو بعيدٌ، ولا سبيل إلى القول بأنَّه إلهام لأن ذلك لا يكون من غير النبي وحيا حتَّى يعمل به ما عَمِلَ مِنْ قتلِ النَّفْسِ وتعريض الأنفُسِ ِللغَرَقِ، فإنْ كانَ نبيًّا فلا إنكار في ذلك، وأيضًا كيف يكونُ
النبي تابعا لغير نبي ؟!» . اهـ
قلتُ: احتمال أن يكونَ الخضر فعَل تلك الأفعال بواسطة نبي آخَرَ لا يجوز أن يقال فيه: «بعيد»، بل هو احتمال باطل ، إذ لو صح لكان الله تعالى يُحيل على ذلك النبي مباشرةً لا على الخضر عليه السَّلامُ، وهذا الاحتمال الباطلُ إِنَّما أبداه
الذينَ يَنفُونَ نبوة الخضر، ولم يتفطنوا لبطلانه الواضح.
ونقل الإمامُ النَّوويُّ في "تهذيب الأسماء واللغات"، عن أبي إسحاق الثعلبي في "تفسيره" قال : والخَضِرُ على جميع الأقوال نبي مُعَمَّرٌ محجوب عن
الأبصَارِ» . اهـ وصحَّحَ الشيخُ زكريا الأنصاري في "شرح البخاري" أنَّ الخَضِرَ نبي. وقال الحافظ في آخر جزء "الزَّهر النضر ": «والذي لا يُتَوقَّفُ فيه: الجزم
بنبوته . اهـ
مسائل
الأولى: في تخريج قِصَّةِ مُوسَى وَالخَضِرِ عليها السَّلَامُ:
حديث قصَّةِ موسى والخَضِرِ عليهما السَّلام رواه البخاري في "صحيحه" في عدة مواضِعَ فيه، مختصرًا ومطوَّلًا، ورواه مسلم في «فضائل الأنبياء» من "صحيحه"، ورواه الترمذي في "سننه" في تفسير (سورة الكهف)، وقال:
«هذا حديث حسن صحيح». ورواه ابن جرير في تفسيره"، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويَه في تفاسيرهم، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، ورواه النسائي في "الكبرى".
إثمد العينين
الثانية: الخضر محجوب من الأبصار، وكلام بعض السَّلفِ في ذلك : قال أبو العالية، وشعيب بن الحبحاب كان الخضر عبدا لا تراه الأعينُ إلا من أرادَ الله أَنْ يُرِيَه إِيَّاه، فلم يره منَ القوم إلا مُوسَى، ولو رآه القومُ لحالوا بينَه وبينَ خَرْقِ السَّفِينَةِ، وبينَ قتلِ الغُلامِ. وقال حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ: وكانوا يَرَوْنَ أَنَّ موت الفجأة من ذلك.
قلتُ: لا أدري ما معنى كلام حمادٍ، أَمَّا الخَضِرُ عليه السَّلامُ فالأقوال
متضافرة على أنَّه محجوب عن الأبصارِ.
الثالثة: اختلف القائلُونَ في نبوتِه : هلْ كَانَ رَسُولًا؟
اختلف القائلونَ بنبوَّةِ الخَضَرِ عليه السَّلامُ هَلْ كَانَ رَسُولًا؟ جاءَ عَنِ ابنِ عباس ووهب بن منبه أنَّه كان نبيا غير مرسل. وجاء عن إسماعيل بن زياد ومحمَّدِ بن إسحاق أنه أُرسل إلى قوم فاستجابوا له، وأيَّد هذا القول أبو الحسن الرُّمَّاني. الرابعة: في الفوائدِ المستخرَجةِ مِنْ قِصَّةِ موسى والخَضِرِ عليهما السّلام:
استخرجَ العلماء منْ قصَّةِ موسى والخَضِرِ عليهما السَّلامُ عدَّةَ فوائد. منها: استحبابُ الحِرْصِ على الازدِيادِ منَ العِلمِ، والرّحلة فيه، ولقاء المشايخ، وتجشم المشاق في ذلك، والاستعانة بالأتباع، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحرّ، وطواعية الخادمِ لمخدومِه، وعُذْرُ النَّاسِي، وقبوله الهبة، وجواز الإخبار بالتَّعَبِ، وجواز طلبِ القُوتِ، وطلبُ الضّيافة، وقيامُ العُذرِ بالمرة الواحدة، وقيامُ الحَجَّةِ بالمرَّةِ الثانية، وحُسنُ الأَدبِ مَعَ الله، وألا يُضافَ إليه ما يُستَهْجَنُ لفظه وإنْ كانَ الكلُّ بتقديره وخلقه؛ لقول الخضر عن
السفينة: فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ [الكهف: ٧٩] وعن الجدار: فَأَرَادَ رَبُّكَ ﴾ [الكهف:
٤٨٢، وسلوك الأدب معَ الشَّيخِ والتلطُّفُ في مخاطبته والتسليم له فيهما لا يخالفُ
الشرع، ومنها غير ذلك.
الخامسة : الخَضِرُ مُعَمَّر على جميع الأقوال، والآراء في وقتِ موته : قال التَّعلبي في "تفسيره " : الخَضِرُ مُعمَّرٌ على جميع ا الأقوال، وقد قيل: إنَّه لا يموتُ إلا في آخِرِ الزَّمَانِ، حِينَ يُرْفَعُ القرآنُ.
وجاء عنِ ابنِ عباس بإسنادٍ ضعيف جدا قال: نُسِيَ للخَضِرِ فِي أَجَلِه حتى يكذِّبَ الدَّجال. ورُوِيَ عنِ الحَسَنِ البصري قال: وُكِّلَ إلياس بالفيافي، ووُكِّل الخضر بالبحور، وقد أُعطِيَا الخلد في الدُّنيا إلى الصيحة الأولى، وأنهما يجتمعانِ
في موسم كل عام. وروى الحارث بن أبي أسامة عن أنس مرفوعا: «إِنَّ الخضر في البحرِ واليسعَ في البرِّ يجتمعان كلَّ ليلة عندَ الرَّدْمِ الذي بناه ذو القَرْنَيْنِ بَينَ النَّاسِ وبَينَ يأجوج ومأجُوجَ ويعتمِرانِ كلَّ عام ويشربانِ مِنْ مَاءٍ زَمْزَمَ شَرِبةٌ تكفيهما إلى قابل». إسناده ضعيف جدا، ولا يثبت في هذا البابِ حديث.
من هو ذو القرنين؟
قال أبو حيَّانَ في "البحر المحيط": وذُو القرنين هو الإسكندر اليوناني
ذكره ابن إسحاق. وقال وهب: هو رومي.
وهل هو نبي أو هو عبد صالح ليس بنبي؟ قولان، وقيل: كانَ ملكًا من الملائكة وهذا غريب. قيل: ملَكَ الدُّنيا مُؤْمِنانِ: سُليمان وذو القرنين،
وكافران: نمرود، ويُخْتَنَصَّرُ، وكان بعد نُمْرُود.
وعن عليّ : كان عبدا صالحا، ليس بملك ولا نبي، ضُرب على قرنه الأيمن فيات
إثمد العينين
في طاعة الله، ثم بعثه الله فضُرب على قرنه الأيسر فمات فبعثَهُ اللهُ فسُمِّي ذا القرنَينِ. وقيل: كانَ له قرنانِ أي: ضَفِيرتان وقيل انقرَضَ في وقتِه قرنانِ من النَّاسِ. وعن وهب لأنَّه ملَكَ الرُّومَ وفارسَ. ورُوي: الرُّومَ والتَّركَ. وعنه : كانت صفيحتا رأسه من نُحاس، وقيل: كان لتاجه قرنان، وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين.
قال الزمخشري: ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشُّجاع
كبشًا كأَنَّه ينطَعُ أقرانه، وكان منَ الرُّومِ ولد عجوز ليس لها ولد غيره . اهـ وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنَّه الإسكندر. وقال أبو الريحان البيروني المنجِّمُ صاحبُ كتابِ: "الآثار الباقية عنِ القُرونِ الخالية": هو أبو كَرِب سمي عُمير بنُ إفريقس الحِميري، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشُّعراء من حمير حيث قال: قد كان ذو القرنينِ قَبْلِيَ مُسلما مَلِكًا علا في الأرض غير مفنَّدِ بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسبابَ مُلكِ من كريمٍ سَيِّدِ ثم قال أبو الريحان: يشبِهُ أنْ يكونَ هذا القول أقرب؛ لأنَّ الأدواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أسماؤهم من «ذي كذا» كذي المنار، وذي نُوَاس» . اهـ، والشِّعرُ الذي أنشدَه نُسِبَ أيضًا إلى تُبعِ الحِمْيَري وهو : قد كان ذو القرنين جدي مُسلما
وعن محمد بن عليّ بن الحُسَينِ عيّاش، وعن أبي خيثمة: هو الصَّعبُ بنُ جابر بن القَلَمَّس، وقيل مَرزُبانُ بن مَرزَبةَ اليوناني، من وَلَد يونان بن يافت. وعن علي: هو من القرن الأول من ولدِ يافث بن نوح. وعن الحسن: كان
بعد ثَمُودَ، وكان عمره ألف سنةٍ وستمائة، وعن وهب: كان في الفترة بين عيسى ومحمَّدٍ صَلَّى الله عليهما وسَلَّم». اهـ ما في "البحر المحيط" (١٥٨/٦). وفي "تفسير القرطبي: قال ابن إسحاق: حدثني مَنْ يسوقُ الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثُوا منْ علمٍ ذي القرْنَينِ: أَنَّ ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزُبانُ بنُ مردبة اليوناني منْ ولَدِ يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام: واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه. قال ابنُ إسحاق: وقد حدَّثني ثور بن يزيد عن خالدِ بنِ مَعْدانَ وكان خالد رجلًا قد أدرك الناس - أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سُئل عن ذي القرنينِ فقال: «مَلِكٌ مسَحَ الأرض من تحتها بالأسباب».
قال خالد: وسَمعَ عمر بن الخطابِ رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللهم
غَفْرًا، أما رضيتُم أَنْ تَسَمَّوا بأسماء الأنبياء، حتَّى تسميتُم بأسماء الملائكة ؟! فقال ابنُ إسحاق : فالله أعلم أيُّ ذلك كان؟ أقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ذلك أم لا؟ والحق ما قال.
وقيل: هو نبي مبعوث فتح الله على يديه الأرض، وذكر الدارقطني في كتاب "الأخبار": أنَّ مَلَكًا يقال له: «رفائيل» كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوِي الأرضَ يومَ القيامةِ وينقصها فتقعُ أقدامُ الخلائق بالساهرة فيها ذكر بعضُ أهل العلم. وقال السهيلي: «وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرضَ مشارقها ومغاربها، كما أنَّ قصَّةَ خالد بن سنان في تسخيرِ النَّار له مُشاكلةٌ بحال الملكِ الموكَّل بها وهو مالك عليه السَّلام. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب "البدء " له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته
إثمد العينين
وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النارِ وكَانَ مِنْ أَعلامِ نبوتِه أَنَّ نَارًا يقال لها نارُ الحَدَثانِ كانت تخرج على النَّاس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردّها، فردها خالد بن سنان فلم تخرج بعد. قلت: قريب من هذه القصَّةِ - قصة خالد بن سنان في إطفاء النَّارِ - ما رواه البغوي من طريق الجريري، عن أبي العلاء، عن معاوية بن حرمل صِهْرِ مُسَيْلَمةَ في الرِّدَّةِ قال: قدمتُ على عمر تائبا، فقلتُ: يا أمير المؤمنينَ، تائب من قبل أن يُقدر عليَّ. فقال: من أنتَ ؟ فقلتُ: معاوية بن حرملٍ خَتَنُ مُسَيْلَمةَ. قال: اذهب فانزل على خير أهل المدينةِ. قال: فنزلتُ على تميم الداري، فبينما نحن نتحدثُ إذ خرجت نارُ بالحَرَّةِ فجاء عمر إلى تميم فقال: يا تميم اخرج. فقال وما أنا؟ وما تخشَى أن يبلغ من أمري؟ فصغر نفسه، ثمَّ قام فحاشها حتى
أدخلها الباب الذي خرجت منه ثم اقتحَمَ في أثرها ثم خرج فلم تضره. وهذه كرامة كبيرة لتميم رضي الله عنه، ذكرتها في كتاب "الحجج البينات". ومن مناقب تميم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم روى عنه خبر الجسَّاسة،
وهو في "صحيح مسلم". وتميم هو أول من أسرَجَ السِّراج في المسجد. قال القرطبي أيضًا: واختلف في اسمِ ذي القرنين وفي السبب الذي سُمِّي به بذلك اختلافا كثيرًا، وأما اسمه فقيل : هو الإسكندر، الملك اليوناني المقدوني وقد تُشَدَّدُ قافه فيقال: المقدوني، وقيل: اسمه هرمس، ويقال: اسمه هرديس.
وقال ابن هشام هو الصَّعبُ بن ذي يزنَ الحِمْيَريُّ مِنْ ولد وائل بن حمير. وقال وهب بن منبه : هو رومي، وذكر الطبري حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ ذَا القَرْنَينِ شاب منَ الرُّومِ وهو حديثُ واهي ال
السند
قاله ابن عطية.
قال الشهيلي : والظَّاهِرُ من علم الأخبار أنهما اثنان، أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السَّلام، وهو الذي قضى لإبراهيم عليه السَّلامُ حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشَّامِ والآخَرُ: أنَّه كان قريبًا مِنْ عَهدِ عيسى عليه السَّلامُ. وقيل: إنَّه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطَّاغي على عهد إبراهيم عليه السَّلام أو قبله بزمان.
وأما الاختلافُ في السَّببِ الذي سُمِّي به فقيل: إِنَّه كان ذا ضَفِيرتينِ مِنْ شَعرٍ فسُمِّي بهما ، والضَّفائر قرونُ الرَّأْسِ. وقيل: إِنَّه رأى في أَوَّل مُلْكِهِ كأَنَّه قابض على قرني الشَّمس فقصَّ ذلك، ففُسّر أنَّه سيغلبُ ما ذَرتُ عليه الشمس، فسُمِّي بذلك ذا القرنين. وقيل: إنَّما سُمِّي بذلك لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا أو قرنّي الشَّيطانِ بها.
وقال وهب بن منبه: كانَ له قرْنانِ تحتَ عِمامته وسأل ابنُ الكَوَّاء عليًّا رضي الله عنه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكًا ؟ فقال : لا ذا ولا ذا، كان عبدًا صالحا دعا قومه إلى الله فشجُوه على قرنه ثمَّ دعاهُم فشجُوه على قرنه الآخَرِ فسُمِّي ذا القرنين. وقد قيل: إنَّما سُمِّي ذا القرنينِ لأَنَّهُ كَانَ كَرِيمَ الطَّرَفِينِ من أَهلِ بيت شريف مِنْ قِبَلِ أبيهِ وأُمِّهِ. وقيل: لأنَّه انقرضَ في وقتِه قرنانِ مِنْ النَّاسِ وهو حي، وقيل: لأنه دخل الظُّلْمةَ والنُّورَ. وقيل: لأنَّه مَلَكَ فارس والرُّومَ. واختلفوا أيضًا في زمانه فقال قوم: كان بعد موسى، وقال قوم: كان في الفترة بين عيسى، وقيل: كان في وقتِ إبراهيم وإسماعيل، وكانَ الخَضِرُ عليه السَّلامُ صاحب لوائه الأعظَمِ». اهـ
إثمد العينين
قلت: هذه أقوال متضاربةٌ متباعدة، وفي بعضها غرابة ونكارة وهي
الأقوال الآتية:
١ - أنَّه كان من الملائكة وهذا في غاية النكارة. ٢ - أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنيا كلها، ولم يملِكِ الدُّنيا كلها أحد أصلا، وسليمان عليه السلام كان ملكه بالشَّامِ ولم يعرِفُ مملكة سَبَا حَتَّى أخبره الهدهد، ولم يملك مصر وهي تجاورُ الشَّامَ، وإنّما كانَ ملكه الذي لم يكن لغيره: تسخير الجن والشياطين له، ومعرفته بلغة الطيور والنَّمل، ويُخْتَنَصَّرُ والتُّمْرُوذُ لا يملكا مصر ولا اليمن، فأينَ الدُّنْيا التي مَلَكَاها ؟!! ٣- أنَّ قومَ ذي القرنين ضربوه على قرنِه فمات ثم أحياه الله فدعاهم فضربوه على قرنه الآخَرِ ، وهذا غير صحيح عن علي عليه السلام، ولا هو
صحيح في نفسه.
٤ - أنَّه وكل بذي القرنين ملَك يسمَّى رافائيل أو زرافيل وهذا بالخرافة أشبه منه بالحقيقة.
ه - أنَّه أُعطِي علم الظاهر والباطن ، وهذا كلام صوفي لا عبرة به في هذا المقامِ. وقد استوفى الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دِمَشْق" أخبار ذي القرنين وما قيل فيه من أقوال ونُقل كثيرًا منها الحافظ ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" ولم يرد في تعيينه أو شيء من خبره حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، إلا ما رواه ابن جرير وغيره من طريق ابن طَيعَة، عن عبدِ الرَّحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخَينِ من تجيبَ عنْ عُقبة بن عامر: أنَّ نفرا من اليهودِ جاءوا يسألون النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاءوا له
ابتداءًا فكان فيما أخبرهم به أنَّه كان شابا من الرُّوم وأنه بنى الإسكندرية وأنَّه علا به ملك إلى السَّماءِ وذهب به إلى السَّماءِ ورأى أقواما وجوههم مثل وجوه الكلاب. قال ابن كثير : وفيه طول ونكارةٌ ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أَنَّه من الإسرائيليات، والعجبُ أنَّ أبا زُرْعة الرازي - مع جلالة قدره - ساقه بتمامه في كتابه: "دلائل النبوة" وذلك غريب منه».
قلت: في إسنادِ الحديث راويان مجهولان، وعبد الرحمن بن زياد، وهو ضعيف. و سبقَ مرسَلُ خالِدِ بنِ مَعْدانَ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سُئَلَ عَنْ ذي القرنين فقال: «ملِكٌ مسَحَ الأرضَ مِنْ تحتها بالأشبابِ» والمرسل ضعيف. وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره"، عن الأحوص بن حكيم، عن أبيه: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سُئل عن ذي القرنين فقال: «هو مَلِك مسَحَ الأرض بالإحسان». وهذا أيضًا مرسل ضعيفٌ.
وهو يدل على أنَّ "تفسير ابن أبي حاتم" فيه أحاديث ضعيفةٌ خلافًا لما زَعَمَ
الألباني أنَّ أحاديثه صحيحة.
وبالجملة لم يصح عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حديث في ذي القرنين. وكان في حمير والرُّومِ وغيرهما ملوكُ سُمِّي كل منهم بذي القرنين وأحدهم كان في عهدِ إبراهيم عليه السَّلام. لكنَّ المذكور في القرآن الكريم غيرُ هؤلاء جميعا وصفاته لا تنطبق عليهم. وأوَّلُ مَنْ فَطِنَ لذلك ونبَّه عليه العلامة أبو الكلام آزاد رحمه الله، وقد كان وزير المعارف بالهند حين استقلاله وكان قبل ذلك يفسر القرآن الكريم باللغة الأرديَّة لغة الهنديينَ ولما وصَلَ في تفسيره إلى قصَّة ذي القرنين رجع إلى ما كتبه
إثمد العينين
المفسرون والمؤرّخُون فوجد أقوالا كثيرةً وآراء متضاربة لم يطمئِنَّ إليها قلبه فردها، وقال: إنَّها قامت على افتراض مُخطي لا يدعَمُه دليل، واعتَرَضَ عَلى مَنْ قال: إنَّه الإسكندر المقدوني، فقال: لا يُمكنُ أن يكون هو المذكور في القرآنِ إِذْ لا تعرفُ له فتوحات في المغرب كما لم يعرف عنه أَنَّه بنى سدا ولم يكن مؤمنًا ولا
شفيقا عادلا مع الشعوب التي غلب عليها، وتاريخه مدوَّن معروفٌ. وأبطل قول من قال: إنَّه يمني حميري، بأنَّ سببَ التُّرول سؤالُ اليهودِ عَنْ ذي القرنين لتعجيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان عربيا يمنيا لكان احتمالا قويا لدي اليهودِ أنْ يكونَ عند قريش علم به وبالتالي عند النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فيكون قصد اليهودِ التَّعجيز غير وارد ولا محتمل، لكنَّهم كانوا متأكدين حين سألوه بأنه لم يصله خبرٌ عنه وكانوا يقصدون بذلك عجزه عنِ الرَّد. قلتُ: يؤكد هذا ما رواه الشَّيرازي في "الألقاب" عن جُبَير بنِ نُفَير : أَنَّ أحبارًا من اليهودِ قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: حدثنا عن ذي القرنين إن كنت نبيا. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هُوَ مَلِكٌ مسَحَ
الأرض بالأسبَابِ». فلم يزد في جوابهم عما جاءَ في القرآنِ. قال أبو الكلام آزاد أيضًا : والحاصلُ : أَنَّ المفسرين لم يصلوا إلى نتيجةٍ مُقْنِعَةٍ في بَحْثِهِم عن ذي القَرْنَينِ، المتقدِّمُونَ منهم لم يحاولوا التحقيق، والمتأخُرُونَ حاولوه لكن كان نصيبهم الفشل، ولا عجب، فالطريق الذي سلكوه كان طريقًا مخطِئًا. لقد صرحت الآثارُ بأنَّ السؤال كانَ مِنْ قِبل اليهودِ وجهوه مباشرةً أو أو عزوا إلى قريش بتوجيهه، فكانَ اللائق بالباحثين أن يرجعوا إلى أسفار اليهودِ
فكان
ويبحثوا هل يوجد فيها شيءٌ يُلقِي الضَّوءَ على شخصِيَّة ذي القَرْنَيْنِ. إنهم لو فعلوا ذلك لفازُوا بالحقيقة، ذلك أن توجيه السُّؤال مِنَ اليَهُودِ بقصدِ التَّعجيز يفيدُ أنَّ لديهم في كتبهم وتاريخهم علما به، مع تأكدهم بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم أو العرب لم يطَّلعوا على ما جاء في كتبهم فـ الطريق السليم هو البحثُ عنِ المصدر الذي أخذ اليهود عنه علمهم بهذا الشَّخص ومصدرُهم الأوَّلُ هو التَّوراة. فاتجه إليها آزاد وبحث في أسفار الأنبياء من بني إسرائيل ووجدَ في التَّوراةِ ما يشير إلى أصل تسمية ذي القرنين وهُوَ «الوقرنائيم» كما جاء في التَّوراة، وجاءَ فيها أنَّ الملك الذي أطلقوا عليه هذه الكنية اسمه خورش، وهو كورش بالفارسية ويقال: غورش
وسبب اعتناء اليهودِ بهذا الملكِ واحتفائِهِمْ بِهِ ما جاء مِنَ التَّنويه عنه في كتب إشعياء: «وإنِّي أقول في حق خورش بأنَّه راعٍ له وهو يتم مرْضَاتي كلها، يقولُ الرَّبُّ في شأن مسِيحِهِ خورش: أنا أخذتُ بيده اليمنى لأجل الأمم في حوزته، وأنزع القوَّةَ منْ سواعدِ الملوكِ وأفتح له الأبواب تلو الأبواب، أجَلْ إنِّي أمشي بين يديك وأقوم ما اعوج منْ سُبُلِكَ...»، إلى أن يقولُ: «أفعل كلَّ ذلك لتعلم أنني أنا الربُّ إلهُ إسرائيل الذي ناداك باسمك صراحة لأجل
إسرائيل شعبه المختار » ( ١:٤٥).
ما الذي فعله منْ أجلِ إسْرائيل؟
إِنَّ النُّصوص التي أوردها آزاد من الأسفار تخبرُ أنَّ ملكًا سيظهرُ في الشَّرِقِ ويُنْقِذُهُم من الأسر الذي وقعوا فيه على يدِ بُخْتُنَصَّرَ ويعيدُهم من بابِلَ إلى
إثمد العينين
أرضهم ويجدِّدُ عِمارةَ أُورُشَلِيمَ (القدس) والذي يفعل هذا قد ذكرت الأسفار وصفه تارة بطريقِ الرَّمْزِ بصورة كبش له قرنان (لوقرنايم) أو عُقاب يأتي من الشرق له جناحانِ ، وتارةً تذكرُ اسمه صراحةً بأنَّه خورش (كورش) وتصفه بأنه مسيحُ الله وتُضفي عليه منْ صِفَاتِ المدح وثناء الرَّبِّ عليه ومخاطبته إيَّاه بالكثير من الأوصاف.
وقد ظهر هذا في الأسفار على شكل نبوءات ورؤى سابقة على ظهورِ خورش مما جعل المؤرّخينَ يتّهمونَ اليهود الأسارى في بابل بمساعدته حين هجم عليها حتَّى انتصر على ملكها.
ومما قد موه إليه وأطْلَعُوه عليه من نبوءات خاصة به ومما قيل عن هذهِ المساعدة تجاوب الملك الفارسي الفاتح معَهُم وعَطَفَ عليهم وأعادَهُم مكرمينَ إلى بلادِهم وجدَّدَ لهم عِمارَةَ أُورُشَلِيمَ.
ويضيف آزاد إلى هذا سببًا دينيا هو اتَّحاد عقيدة كورش مع عقيدة اليهودِ في توحيد الله وسَطَ أقوامٍ يعبدونَ الأصنام، فكورش كانَ مِنْ أَتْباعِ الدِّينِ الزرادشتي وهو دين توحيد، واليهودية دينُ توحيد كذلك، ثمَّ عَيَّنَ مكان السَّد الذي بناه ذو القرنين بأنَّهُ واقع في البقْعَةِ الواقعةِ بينَ بَحْرِ قَزْوِينَ والبَحْرِ الأسود حيثُ توجَدُ سِلْسِله جبال القَوْقَازِ بينهما وتكادُ تَفْصِلُ بينَ الشَّمال والجنوب إلَّا في ممر كان يَهْبِطُ منه المغيرُونَ مِنَ الشَّمال للجنوب، وهم قبائل همجيَّةٌ من التتار (يأجوج وأجوج).
في هذا الممر بنى كورش أو غورش ذو القرنين) السَّدَّ المعروف بسَدٌ يأجوج ...، أو سد ذي القرنين، أو ردّمِ ذي القرنينِ، ورَسَمَ خريطة تبينُ
رحلات ذي القرنين وموضعَ السَّد وشرح كلمة يأجوج ومأجوج وبيَّن أصلها وأنها تنطبق على قبائلِ النَّتارِ، واستدلّ لذلك بأدلة تاريخية ولغويَّة، ووجدها موافقة لما في القرآن الكريم عن ذي القرنين ورحلاته، فأزال الغموض الذي
اكتنف قصَّةَ ذي القرنينِ وقِصَّةَ السَّد جزاه الله خيرًا وأكرَمَ منزلته.
وأخيرا، أخبرني الدكتور عز الدين عبد القادر أنَّ قبائل التتار يسميهم
الأرمن: هاجوج ().
تنبيهات في ختام البحث
الأول: فيما ورد من أخبار حولَ مَنْ خلف السد (يأجوج ومأجوج): وردت بعض الأحاديث والآثارِ تفيدُ أنَّ الذين خلفَ السد يحاولُونَ نقبه
والخروج منه حتَّى إذا قرُبَ وقت خروجهم في آخِرِ الزَّمَانِ نَقَبُوهُ وخَرَجُوا منه. روى أحمد من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنَّ يأجوج ومأجوجَ ليَحْفِرُونَ السَّدَّ كلَّ يومٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يحِدُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قال الذي عليهِمْ: ارجِعُوا فستحفِرُونَهُ غَدًا، فيعُودُونَ إليه كأشد ما كانَ، حتَّى إذا بلغتْ مدَّتُهم وأرادَ الله أَنْ يبعثَهُم على النَّاسِ حَفَرُوا حتَّى إذا كادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قال الذي عليهم: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَه غدًا إن شاء الله فيسْتَثْني، فيعُودُونَ إليهِ وهو كَهَيْئَتِه حين تركوه فيحفِرُونَه ويخرجُونَ على النَّاسِ الحديث. رواه الترمذي وابن ماجه. قال ابن كثير : وإسناده جيدٌ قوي، لكنَّ متنه في رَفْعِه نكارةٌ لأَنَّ ظاهر الآية
(1) أهل المغرب يطلقون لفظ (الهجيج) على الجماعاتِ الذين يفارقُونَ بلدهم في طَلَبِ القوتِ المجاعة تصيبهم.
إثمد العينين
يقتضي أنهم لم يتمَكَّنُوا مِنْ ارتقائه ولا مِنْ نقبِه لإحكام بنائه وصلابته وشدّتِه، ولعل أبا هريرةَ تلقَّاهُ منْ كعب فإنَّه كان كثيرًا ما يجالسه ويحدثُهُ فحدَّثَ به أبو هريرة فتوهم بعضُ الرُّواةِ عنه أَنَّهُ مرفوع فرفَعَه.
قلت: ومِنْ نكارته قوله أيضًا : حتَّى كادوا يرونَ شُعَاعَ الشَّمسِ» وهذا يقتضي أنَّ السَّدَّ منطبق عليهِمْ كالسَّقْفِ وهُمْ تحته وهذا ليس بصحيح، وأيضًا قوله: «يحفرونه لأنَّ السَّدَّ لا يتأتى حفره، لأنَّه من حديد ونُحاس مُذابٍ، والحفرُ إنَّما يكونُ في بناء منْ حِجارةٍ وطين، ومِنْ نكارة هذا الحديثِ أَنَّهُ يخالف القرآن الذي يفيدُ أنَّ الله يدُكَ السَّدَّ عند خروج يأجوج ومأجوج.
ورُوي عن كعب الأحبار قال: إنَّ يأجوج ومأجوج يأتونَ السَّدَّ فيلحَسُونَه حتَّى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولونَ: غدًا نفتحه فيأتون من الغدِ وقد عاد كما كان، فيلْحَسُونه حتَّى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولونَ كذلك، فيصبحُونَ وهو كما كان، فيلْحَسُونَه ويقولونَ: غدًا نفتَحُه ويُلْهَمُون أَن يقولُوا: إِنْ شَاءَ الله، فيُصبحون وهو كما قد فارقوه فيفتَحُونَه.
قلت: كلامُ كعب خرافةٌ غير معقولة، وإذا كانَ الله قد أَخْبَرَ أَنَّ يَأْجُوجَ ومأجوج لم يستطيعوا أن ينقُبوا السَّدَّ لصلابَتِه وشَدَّتِه فكيف يستطيعُونَ أَنْ
يهدوه بألسنتهم؟!! وقد هوّل كعب وغيرُه في وصفِ يأجوج ومأجوج وذكروا عن أشكالهم وخلقتهم وجماعِهم وقصرهِم وطول آذانهم غير المعتادِ ، وغير ذلك مِنَ
التَّهْوِيلات الخرافية.
والحقيقة الواقعةُ أنَّ يأجوج ومأجوج أناس من بني آدم وهمُ التَّنارُ،
خلقتهم كخلقتِنا، وهم لا يحاولون هدم السَّدّ ولا يعرِفُونَ ذلك ولكنَّ الناس
يحبُّونَ التَّهويل في الأمرِ الغائبِ عَنِ الْعَيْنِ واللَّهُ فِي خَلقِهِ شَؤُونٌ. الثاني: حديثُ الصَّحِيحَيْنِ فيها فُتِح منْ ردّمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ والتعليق عليه: ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة رضي الله عنها عن زينب بنتِ جَحْشٍ رضي الله عنها قالت: استيقظ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقولُ: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقتربَ، فُتِحَ اليومَ مِنْ ردْمِ يأجُوجَ ومأجُوجَ مثلَ هَذا وحَلَّق هكذا. قلتُ يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعَمْ، إِذا كَثُرَ الخَبَثُ».
قوله: «فُتِحَ اليومَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ وحَلَّق هكذا، يعني: ضَمَّ السَّبابَةَ مَعَ الإبهام بشكل حَلَقَةٍ ، وفَتحُ الرَّدِّمِ كناية عن قربِ ظُهُورِ الفَتَنِ ولذلك قال: «ويْلٌ للعَرَب من شر قد اقْتَرَبَ». والفتَنُ قد ابتدأت بقتل عثمان
رضي الله عنه، واستمرَّتْ.
والحاصل أنَّ الرَّدمَ لا يُنقَبُ ولا يُهدَمُ إلا عند الوقت الذي أراده الله
لخروج يأجوج ومأجوج فيدكُه بالأرض.
الثالث: رواية عن كعب الأخبار في أصل يأجوج ومأجوج ونقدها : قال كعب الأحبار : احتلم آدم عليه الصَّلاة والسَّلامُ فاختلط ماؤُه بالتُّرابِ فأسِفَ، فَخُلِقُوا مِنْ ذلك الماء، فهم متّصلونَ بنا مِنْ جِهَةِ الأَبِ لا مَنْ جِهَةِ الأم. قلت: هذا كلام ساقط، والأنبياء عليهم الصَّلَاةُ والسَّلامُ لا يحتلِمُونَ، ويأجوجُ ومأجوجُ من نسلِ يافث بن نوح عليه السَّلامُ، وكذلك الترك، ووقت خروجهم بعد نزول عيسى عليه السَّلامُ وقتله للدَّجَّال، والحديث يفيدُ أنَّهم لا يؤمنون بالله فهم
إثمد العينين
شيوعِيُّونَ ولا يبعد أن يكونوا همُ السُّوفيات أو من جنسهم، والله أعلم.
الرابع: هل كان ذو القرنينِ نبيًّا؟
هل
كان ذو القرنين نبيًّا؟ روى الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أدري اتَّبَعُ كان لعَيْنًا أم لا؟ وما أدرِي
أذو القرنين كان نبيا أم لا؟ وما أدري الحدود كفَّاراتٌ لأهلها أم لا؟». وروى ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال : سُئِل علي عليه السَّلامُ عنْ ذي القرنين: أنبي هو ؟ فقال: سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو عبد ناصح الله فنصحه» . وروى ابن أبي حاتم، عن الأحوص بن حكيم عن أبيه : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سُئل عن ذي القرنينِ فقال: «هُوَ ملك مسَحَ الأَرضَ بالإِحْسانِ».
وروي عن ابنِ عباس وعلي: أنَّه ليس بنبي وأنه عبد صالح، وهو الصواب، وليس في القرآنِ ما يقتضي نبوته إلا قوله تعالى: ﴿ قُلْنَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن نَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾ [الكهف: ٨٦]، وهذا ليس بنص، إذ يُحتمل أَنَّه على سبيل الإلهام أو بواسطة نبي في وقته، أما تُبَّع فقد ثبتَ النَّهِي عَنْ سَبِّه لأنَّه قد أسلم، وأما الحدود فقد صح الحديث بأنها كفارات لأهلها.
وروى ابن أبي حاتم ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تَسُبُّوا تُبَّعًا فإنَّه قدْ كانَ أَسْلَمَ»، ورواه الطبراني
بإسنادٍ آخَرَ عَنِ ابنِ عباس مرفوعا أيضًا.
وقال عبد الرَّزَّاقِ : أخبرنا أبو الهديل: أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال: قال عطاء
ابنُ أَبي رَبَاحٍ: لا تسُبُّوا تَبَّعًا فَإِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن سبه. الله عنها تقولُ : لا تسبوا تبعًا فإنَّه كان رجلا صالحًا.
كانت عائشة .
رضي
وفي الصحيحين عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «بايعُوني على ألا تُشْرِكوا بالله شيئًا ولا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا ولا تَقْتُلُوا أولادَكُم ولا تأتُونَ ببهتان تفتَرُونَه بينَ أيدِيكُم وأرجُلِكم ولا تعطوني في معروف، فمنْ وَفَى منكُم فأجره على الله، ومَنْ أَصابَ مِنْ ذلك شيئًا فعوقب في الدُّنيا فهو كفارةٌ له، ومَنْ أَصابَ مِنْ ذلكَ شَيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلى الله إن شاء الله عفا عنهُ وإنْ شاءَ عاقبه».
وثبتت أحاديثُ بهذا عن جماعةٍ مِنَ الصَّحابة، وجملتها تفيدُ القطَّعَ بأنَ الحدود كفارات.
وروى الترمذي والحاكم وصححه عن علي عليه السَّلامُ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ أصابَ ذنبًا فعُوقِبَ بِه فِي الدُّنيا فالله أكرمُ مِنْ أَنْ يُثني على عبده العقوبة في الآخِرة».
وروى أحمد بإسنادٍ حسن، عن خُزَيمةَ بنِ ثابت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أَصابَ ذنبًا أُقِيمَ عليه حَدُّ ذلك الذنبِ فهوَ كفَّارةٌ له». وروى الطبراني بإسنادٍ حَسَنٍ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما عُوقِبَ رجلٌ على ذَنْبٍ إلا جعله الله كفارةٌ لما أصابَ ذلك الذَّنبِ». الخامس: رواية عن مجاهد أنَّ الدُّنيا ملكها أربعة: مؤمنان وكافران، ونقدها: قال مجاهد: ملك الدُّنيا أربعةٌ، مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران:
إثمد العينين
نُمْرُوذُ ويُخْتَنَصَّرُ.
وهذا ليس بصحيح وإنما كان سليمان عليه السَّلامُ ملكًا في الشام وكانت مملكة سبأ في اليمن ولم يعلم بها حتَّى أخبره الهدهد، وكانت عظَمَةُ مُلكِ
سليمان في أنَّ الله سخّر له الجن والشياطين والرِّيحَ وعَلَّمَه لغةَ الحيوانِ. وذو القرنين كانَ ملِكًا على فارسَ وضَمَّ إليها بابل، ولم يَطْفُ الدُّنيا كلها كما شاع بينَ النَّاسِ بدونِ دليل، ورحلةُ ابن بطوطة كانت أوسعَ مِنْ رِحْلِةِ ذِي القرنينِ. ورؤية غروبِ الشَّمس كانت في إزمير من بلادِ اليونان وهي رؤية بحسبِ ما يظهر للعين فإنَّ الشَّخْصَ إذا كانَ على شاطئ البَحْرِ عند الغروب يرى الشمس تغرب في البحر، وإذا كان في صحراء يرى الشَّمس تغرب خلفها، والشمس أكبر منَ الدُّنيا بمليون مرَّةٍ فكيف تغرب في البحر أو الصَّحراء وهو
بعضُ الدُّنيا؟!!
وكان هارون الرشيدُ إذا رأى سحابةٌ مرَّت يقول لها: أمطري حيثُ شئتِ فسيأتيني خراجُك. وذلك لسعة البلاد التي يحكمها، ومع ذلك لم يملِكِ الدُّنيا. وليس في القرآنِ ما يفيدُ أنَّ ذا القرنين ملَكَ الدُّنيا كلها، وأنَّ رحلته جمعت بين قرني الشَّمس كما يقولُ المهولون، إنَّما اليهود سألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم على سَبيلِ التَّعجيز والامتحانِ فأجابهم الله بما يعرفُونَه في كتبهم فكان الجواب مطابقا للسؤال.
والتهويل في شأن ذي القَرْنَينِ وحكمه ورحلته لغو لا فائدة فيه ولا
مصلحة في نقله وتتبعه.
والله يقولُ الحَقِّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبيل، والحمد لله رب العالمينَ
تنوير البصيرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، رغب عباده في طاعته ونيل ثوابه، وحذرهم من معصيته وأسباب عقابه، أحمده وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، شهادة نستجلب بها رحمته، ونستدفع بها نقمته، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، لم يدع شيئًا يُقرّب إلى الجنَّة إلَّا أمر به، ولا شيئًا يُقرّب إلى النَّارِ إِلَّا نهى عنه، نُصْحا خالصًا وجهه إلى أُمَّته، وأرشدها إلى ما يُبعدها عن غضب الله وسطوته، فصلَّى الله وسلَّم عليه صلاةً وسلامًا يليقان بمقامه، ويفاض عليه بهما سيب من فضل الله وإنعامه، ورضي الله عن آله المطهرين الأبرار، وصحابته الأخيار من المهاجرين والأنصار.
أما بعد: فإننا لما كنا بمصر سنة ١٣٥٣ كتب تلميذ لي رسالة في تحريم حَلْق اللحية، سميتها له " تنبيه أولي البصائر على أنَّ حلق اللحية من الكبائر"، وأمليت عليه سطرًا كتبه في خطبتها مفاده أنَّ القارئ قد يعجب إذا رأى هذا العنوان، لكن لا يعجل بالإنكار حتى يقرأ الرسالة، ويرى ما فيها من الأدلة على صحة ما نقول، وكنت أفهم إذ ذاك أنَّ ما نُهي عنه يكون كبيرة، سواء أكان النهي صريحا أم التزاما. ثم تمكنت في علم الأصول، وخَبُرت قواعده ومسائله، وبرزت فيه - بفضل الله - على الأقران بل الشيوخ، فأدركت خطأ ما فهمته أولا، وعرفت أنَّ المنهي عنه لا يكون كبيرة إلَّا إذا انضم إلى النهي علامة تدل على عظم الإثم وكبر الجرم، ولما رجعت إلى المغرب وجدت التلميذ المذكور متمسكا بذلك الخطأ الذي لقنته إياه، مغرقاً في التمسك به إلى درجة التزمت، وعلمت أنه ألف رسالة سماها الحجة الواضحة علل فيها حرمة حلق اللحية بتغيير خلق الله والتشبه بالنساء،
وبنى على ذلك أنَّ حالق اللحية ملعون وصلاته باطلة، وهو استنباط طريف. ثم قرأت في مجلة الكلمة" أنَّ تلك الرسالة أوجدت قلقا وبلبلة فكر عند بعض المصلين بالدار البيضاء، وأنهم طلبوا فتوى تبين لهم حقيقة الأمر، فكتبت مقالا بالمجلة المذكورة، وذكرت فيه أنَّ التعليل الذي عل به تحريم حلق اللحية مأخوذ من رسالة أدب الزفاف للألباني، وقلتُ: إِنَّ حلق اللحية لأن النهي عنه مأخوذ بطريق الالتزام، ولأنه لم يأتِ فيه شيء من علامات الكبائر، وأبطلت التعليل بتغيير خلق الله والتشبه بالنساء بقواعد أصولية لم تخطر على باله ولم تمر بخياله.
صغيرة؛
فلما قرأ المقال وعرف أنَّ أهل العلم عَدُّوه بسببه صفرًا على الشمال، قامت قيامته، وثارت ثائرته، وخرج عن وعيه وركب رأسه مستمرا في غيه، وصار يهذي كالمحموم، ويهذر بكلام غير مفهوم. لكن ماذا يفعل؟! والقواعد التي أبديتها أوصدت دونه الأبواب، وقطعت بينه وبين الحجة جميع الأسباب. فلجأ إلى السلاح الذي يأنسه من نفسه، ويعتز به في صباحه وأمسه، ألا وهو سلاح السَّفَه والشتيمة، ونهش الأعراض بكل ذميمة، فكتب رسالة ملأها بها جاد به طبعه السليم من كذب وبهتان قبيح، وسب وتجريح، ولم يذكر فيها ما يمكن أن يُسمَّى علمًا إلَّا أشياء معرفة، ومسائل مشوّهة، من ذلك زعمه أنَّ الأمن من مكر الله كبيرة، وليس فيه علامة من علاماتها.
فأعرضت عن إجابته، وتركته يشرق بغصَّته، ورأيت أن أحرر رسالة في بيان العلامات التي يكون وجود شيء منها في معصية مؤذنا بأنها كبيرة.
وهذا بحث مهم يجهله كثير من أهل العلم، ولم يكتب فيه قبل اليوم كتاب خاص به، وقد ألف العلماء في الكبائر، وذكروا بعض أماراتها، واختلفوا في بعضها الآخر، لكن لم يستوعبوا ولا قاربوا وأنا أريد- بحول الله تعالى- أن أستوعب الأمارات بقدر استطاعتي، وحسب اطلاعي، بحيث لا يفوتني منها إلا ما طغى عليه النسيان، والله المستعان وعليه التكلان.
أقوال العلماء في تعريف الكبيرة
ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والأستاذ أبو إسحق الإسفراييني وإمام الحرمين وابن القشيري إلى أن الذنوب كلها كبائر، وحكاه ابن فورك في "تفسيره" عن الأشاعرة، واختاره، وحكاه الشبكي في "جمع الجوامع" عن والده تقي الدين، وروى الطبراني بإسنادٍ منقطع عن ابن عباس قال: «كل ما نهي عنه فهو كبيرة». وذهب الجمهور إلى أنَّ الذنوب قسمان: كبائر وصغائر، والخلاف لفظي – كما قال المحلي وغيره - لاتفاق الفريقين على أنَّ مِن الذنوب ما لا يُفسق صاحبه ولا يُسقط عدالته، غير أن أصحاب القول الأول استعظموا أن يُسموا معصية الله
صغيرة، فرجع الخلاف إلى اللفظ والتسمية دون المعنى. وقد جاء القرآن والسُّنَّة بالتفريق بين الذنوب، وتقسيمها إلى كبائر وصغائر، قال الله تعالى: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلَا كَرِيمًا ﴾ [النساء:٣١]، وقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يجتنبونَ كَثِيرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَ ﴾ [النجم: ٣٢]، وقال عزَّ وجلَّ: وَكَرةَ إِلَيْكُم الكفرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ [الحجرات: ٧].
وفي "صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الصَّلوات الخَمْسُ والجمعة إلى الجُمُعَةِ، مُكَفِّرَاتٌ لِما بينهنَّ ما لم تُغْشَ الكَبائر». وفيه أيضًا عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: «الصَّلواتُ الخَمْسُ ، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنَّ ما اجتنبَتِ الكَبائِرُ».
وفي "صَحِيحَي البخاري ومسلم ، عن ابن مسعود: أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ طَرَفِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤]، فقال الرجل: ألي هذا خاصَّة يا رسول الله؟ قال: «الجميع أمتي كلهم». أفادت هذه الآيات والأحاديث أنَّ في الذنوب صغائر، وهي المعبر عنها بالسيئات والعصيان واللمم، وسميت في الحديث أيضًا «محقرات الذنوب». قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر، وقد عُرفا من مدارك الشرع» . اهـ
ثم اختلف الجمهور هل تدرك الكبيرة بتعريف بجميع جزئياتها؟ أو بعدد يضم أفرادها؟ فذهب طائفة إلى الأول، وذكروا لها تعاريف، ليس منها تعريف جامع مانع، وقال آخرون بالعدد، ثم اختلفوا، فقيل: هي المذكورة من أول سورة النساء إلى قوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾ [النساء: ٣١]، وروي عن ابن عباس.
وقيل: هي سبع، الحديث: «اجتنبوا السَّبْعَ الموبقات الحديث. روي عن
علي عليه السلام.
وقيل: أربع ، وقيل ثلاث، وقيل: عشر، رويت هذه عن ابن مسعود.
وقيل: هي إلى السبعين أقرب، روي عن ابن عباس أيضًا. وقيل هي إلى السبعمائة أقرب روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقال الديلمي: قد ذكرنا عددها في تأليف لنا باجتهادنا، فزادت على
أربعين كبيرة . وقال الحافظ العلائي: «صنفتُ جزءًا جمعت فيه ما نص صلَّى الله عليه وآله وسلم على أنه كبيرة، فبلغت خمسا وعشرين».اهـ
قلت: والذي تحرّر لي من قراءة هذا البحث أنَّ الكبيرة نوعان: منصوصة، ومستنبطة، فالمنصوصة لها أمارات وعلامات ذكرها الشارع، والمستنبطة أماراتها التي تعرف بها أن تكون فيها مفسدة تساوي مفسدة الكبيرة المنصوصة أو تزيدها.
وأرى أن أحسن تعريف للكبيرة قول الإمام البارزي في "شرح الحاوي": التحقيق أنَّ الكبيرة كل ذنب قرن به وعيدٌ أو لَعَنْ بنص كتابٍ أو سُنَّةٍ، أو علم أنَّ
مفسدته كمفسدة ما قُرِنَ به وعيدٌ أو حد أو لعن، أو أكثر من مفسدته».
فقد ضم هذا التعريف الكبيرة بنوعيها، وزيادته تبعا لابن عبد السلام وغيره : «أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك لا حاجة إليها، لأن الإشعار بالتهاون ليس من العلامات، بل هو ناشئ عنها، بمعنى أنه لا يوجد إلا بعد العلم بأن المعصية فيها حد أو لعن،
أو مَفْسَدَةٌ تساوي ذلك، فإذا لم يوجد شيء من العلامات في معصية، فلا إشعار بالتهاون في ارتكابها لأنها تكون حينئذ صغيرة، أما قوله: «كما لو قتل من يعتقده معصوماً، فظهر أنه مستحق لدمه، أو وطئ امرأة ظانًا أنه زان بها، فإذا هي امرأته أو أمته» . اهـ
فذكره مثالا لكون المعصية كبيرة بمجرد الإشعار بالتهاون، إذ لا حد على القاتل والواطئ في المثال المذكور، لظهور أنَّ المقتول مُهْدَرُ الدَّم، وأنَّ الموطوءة زوجة أو أمة، وهذا غير صحيح؛ لأن الإشعار بالتهاون في ذاك المثال إنما وجد لاعتقاد القاتل أو الواطئ أنه مُقدِمٌ على معصية فيها حد ووعيد، فلما تبين خطأ تهديد ولعن فاعله على لسان نبينا محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإنه كبيرة، ولا بد من تسليم أن بعض الكبائر أكبر من بعض".اهـ
قلت: لا شك أنَّ. بعض الكبائر أشد إنما من بعض وأقبح فحشا، فالزنا
كبيرة، لكن الزنا بإحدى المحارم أقبح وأفحش، ثم بحليلة الجار، ثم بالمغيبة، وهي التي غاب عنها زوجها في سفر، ويشتد الإثم إذا كان في سفر طاعة كالحج والجهاد وطلب العلم ونحو ذلك.
وأكل الخنزير أكبر إنما من أكل الميتة، وأكل مال المسلم بدون حق كبيرة،
لكنه بالنسبة لمال اليتيم أشد إثما، وعلى هذا القياس.
ثم الكبيرة تطلق بالمعنى الأعمّ فتشمل الكفر، وعليه فإن حديث "الصحيحين: «ألا أُنبِّئُكُم بأكبر الكبائر؟» قالوا بلى يا رسول الله، قال:
الإشراك بالله وعقوق الوالدين الحديث.
اعتقاده لم يكن فعله كبيرة ، بل هو مسقط للعدالة فقط، لجرأته على فعل ما يعتقده معصية، والعدالة تسقط بما يخرم المروءة، وببعض الصغائر، كما هنا، وبصغائر الخسة، كتطفيف تمرة.
وقال الحافظ الذهبي في كتاب "الكبائر ": «والذي يتجه ويقوم عليه الدليل، أن من ارتكب شيئًا مما فيه حد في الدنيا كالقتل والزنا والسرقة، أو جاء فيه وعيد في الآخرة، من عذاب أو غضب، وحديثهما أيضًا: «اجتنبوا السبع الموبقات» فذكر فيها: الشرك بالله، وتطلق على المعاصي غير الكفر، وهذا المعنى هو المراد هنا.
(تنبيه): الشرك أخصُّ من الكفر؛ لأن الشرك اعتقاد شريك الله أو عبادة الأوثان أو الملائكة أو الكواكب أو النار أو نحو ذلك، والكفر يطلق على هذا، وعلى كل قول أو فعل يقتضي الخروج من الإسلام، كإنكار نبوة نبي من الأنبياء، أو إنكار وجود الملائكة، أو الجن، أو البعث، أو إنكار أحد أركان الإسلام، أو إنكار تحريم الربا، أو الزّنا، أو الخمر، أو الخنزير، أو إنكار آية من القرآن، أو تنجيسه أو إلقائه في القاذورات، أو نحو ذلك مما فصله القاضي عياض في "الشفا".
وحكم المشرك والكافر: أن الله لا يغفر لهما أبدًا وهما مخلدان في النار، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَادُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: ٤٨]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٦٤]، وإذ تمهدت هذه
المقدمة الوجيزة، نبدأ في المقصود بعون الله تعالى، فإياه نستعين، وهو المعين.
اعلم أنَّ الشارع نصب علامات يعرف بها كون المعصية كبيرة، وتلك
العلامات كثيرة منتشرة في آيات من القرآن الكريم، وأحاديث من السُّنَّة المطهرة.
منها: إيجاب الحد على المعصية، ويدخل تحتها عدة كبائر :
١- قتل المؤمن عمدًا: قال الله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة: ۱۷۸]، وقال سبحانه: وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا
لوَلِيهِ سُلْطَنَا فَلَا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ﴾ [الإسراء: ٣٣].
٢- الزنا: قال الله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذَكُم بهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: ٢]، وثبت في السُّنَّة المتواترة رجم الزانية والزاني المحصنين. - القذف: قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَرَ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
تمنينَ جَلْدَةً ﴾ [النور: ٤]، وكذلك يجلد قاذف الذكر البالغ العفيف بالإجماع. ٤- السرقة: قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءُ بِمَا كَسَبَا نَكَلًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَ [المائدة: ٣٨].
شرب الخمر ثبت فيه الحدُّ بالجلد من حديث عمر, والسائب بن يزيد، وأبي هريرة، وعقبة بن الحارث عند البخاري، ومن حديث أنس عند مسلم، وانعقد عليه الإجماع. - اللواط فيه الحدُّ بالجلد والرَّجم قياسًا على الزنا، وقال جماعة من التابعين: «يرجم اللوطي مطلقا، بكرًا أو محصنًا، وكذلك المفعول به إن كان بالغا، لحديث ابن عباس : مَن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به. رواه أحمد والأربعة، وصححه الحاكم، وله شواهد من حديث علي وأبي هريرة وجابر.
وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي حصين: أن عثمان أشرف على الناس يوم الدار فقال: «أما علمتم أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأربعة: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس، أو عمل عمل قوم لوط ؟!». وروي عن يزيد بن قيس أن عليا رجم لوطيًّا.
وروى هو وعبد الرزاق، عن سعيد بن جبير ومجاهد، حدثا عن ابن عباس أنه قال - في البكر يوجد على اللوطية - : «أنه يرجم».
قطع الطريق: قال الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَلُوا أَوْ يُصَلَبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: ٣٣].
اختلف في أو في الآية، هل هي على ظاهرها في إفادة التخيير، أو مرتبة على اختلاف الأحوال؟ فقال ابن عبّاس في رواية علي بن أبي طلحة: «الإمام بالخيار فإن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وإن شاء نفاه».
وهذا قول سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وحكي عن مالك. وقال ابن عباس في رواية صالح مولى التوأمة وعطية: «إذا قتل قطاع
الطريق وأخذوا المال، قُتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يُصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض». وهو قول الجمهور.
ومنها: تسمية المعصية كبيرة، أو أكبر الكبائر، ولذلك أمثلة:
۱ - روى البخاري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس».
٢ - وفي الصحيحين" عن عبد الله بن عمرو أيضًا: أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: من الكبائر شتم الرجل والديه». قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: «نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه». وفي رواية لهما : إنَّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟! قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه». - وفي صحيح ابن حِبَّان"، من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده - في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن في الفرائض والسنن والدِّيات والزكاة فذكر فيه: «وإنَّ أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حقٌّ، والفرار في سبيل الله يوم الزَّحفِ، وعقوق الوالدين، ورمي ) المحصنة، وتعلم السخر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم.
٤ - روى الطبراني والبزار من طريق شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنَّ رجلا قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: «الشرك بالله، والإياس من رَوْحِ الله، والقُنوط مِن ذِمَّة الله». قال الحافظ الهيثمي: «رجاله موثقون». ورواه ابن أبي حاتم من هذا الطريق أيضًا، ولفظه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم كان متكنّا فدخل عليه رجل، فقال: ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأس مِن رَوْحِ الله، والقُنوط مِن رحمة الله، والأمن مِن مَكْرِ الله
وهو أكبر الكبائر». وإسناده حسن كما أفادته عبارة الهيثمي. لكن أعله ابن كثير وقال: «في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفا»، وأيده بأنه روي كذلك عن ابن مسعود.
روى الطبراني عنه أنه قال: «الكبائر : الإشراك بالله، والأمن مِن مَكْرِ الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله». صححه ابن كثير والهيثمي، لكن صحته عن ابن مسعود موقوفًا لا تعل روايته عن ابن عباس مرفوعًا، بدليل أن الحافظ الهيثمي حكم على الرواية المرفوعة بالحسن، وعلى الموقوفة بالصحة، ولم يُعل إحداهما بالأخرى، وهو أقعد بالصناعة من ابن كثير .
5 روى الحاكم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبدالحميد بن سنان،
عن عبيد بن عمير، عن أبيه عمير بن قتادة - وكانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم في حَجَّة الوداع: «إنَّ أولياء الله: المصلون ومن يُقيم الصلوات الخمس التي كتبهنَّ الله عليه، ويصوم رمضان
ويحتسب صومه، ويؤتي الزكاة محتسباً طيبةً بها نفسه، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها». فقال رجل من أصحابه وكم الكبائر؟ قال: «تسع، أعظمهنَّ الإشراك بالله، وقتل المؤمن بغير حقٌّ، والفرار من الزَّحف، وقذف المحصنة، والسحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأموانًا. لا يموت رجل لم يعمل هولاء الكبائر ويقيم الصَّلاة ويؤتي الزكاة إلا رافق محمدا صلى الله عليه وآله وسلَّم في بُحْبُوحَة جَنَّةٍ أبوابها مَصَارِيعُ الذَّهَبِ».
وروى أبو داود والنسائي منه قصة الكبائر، قال الحاكم: «رجاله كلهم
محتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان».
قلت: نقل العقيلي عن البخاري قال: «في حديثه نظر». وذكره ابن حبان في الثقات. ورواه ابن جرير، من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبيد بن عمير، عن أبيه.
لم يذكر عبدالحميد، وعزاه الحافظ المنذري للطبراني وقال: «إسناده حسن». ٦ - روى الشيخان عن أبي بكرة قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ألَا أُنبِّئُكُم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين». وكان متكنّا فجلس فقال: «ألا وشهادة النُّورِ، ألا وقول الزور». فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
روى الشيخان أيضًا عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله الذنب أعظم؟ وفي رواية أكبر ؟ قال: أن تجعل الله يدا وهو خَلَقَك». قلت: ثم أيُّ؟ قال: «أن تقتل ولدك خَشْيَةَ أن يَطْعَمَ معك». قلت: ثم أي ؟ قال: «أن تُزاني
حليلة جارك». ثم قرأ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَاءَ اخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَنَا مَا لا يُضَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَلِحَا فَأُولَبِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٧٠]
ومنها: وصف المعصية بأنها موبقة؛ بكسر الباء:
روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات». قيل: يا رسول الله وما هُنَّ: قال: «الشَّرك بالله، وقتل النَّفْسِ التي حَرَّم الله إلَّا بالحقِّ، والسِّحْرُ ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزَّحْفِ، وقَذْفُ المحصنات الغافلات المؤمنات».
ومنها وصف المعصية بأنها فاحشة
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتَا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: ۲۲]، ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الريح إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: ۳۲]، أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم
بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَلَمِينَ ﴾ [الأعراف: ۸۰].
ومنها: وصف المعصية بأنها من عمل الشيطان:
وعمل الشيطان لا يكون إلا كبيرة، قال الله تعالى: ﴿يَنَايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: ٩٠ ] . فالخمر والميسِرُ والأَنصَابُ والأَزْلامُ كبائر؛ لأنها من عمل الشيطان، وقد غفل جماعة من العصريين عن هذا فزعموا أنَّ القرآن لم يحرم الخمر، مع أن قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ * يقضي التحريم؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، نعم مجرد الأمر بالاجتناب لا يقتضي عظم المعصية، لولا عبارة: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ التي
أفادت ذلك. والخلاصة: أنَّ الخمر حرام وكبيرة بنص القرآن، ومنكر حرمتها كافر،
لإنكاره أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة. ومنها: وصف المعصية أو فاعلها بالفسق :
قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَهِ ذَلِكُمْ فِسْقُ ﴾ [المائدة: ٣]، قال ابن جرير: «يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿ذَلِكُمْ فسق هذه الأمور التي ذكرها، وذلك: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله، والاستقسام بالأزلام فسق». ثم روى عن ابن عباس ذلك.
خطأ.
ومن قصر اسم الإشارة في ذلك على الاستقسام بالأزلام فقد عدل عن سياق الآية لغير موجب، وهو . والحاصل أنَّ الأمور الأحد عشر المذكورة في هذه الآية كبائر؛ لأن الله تعالى
صرح بتحريمها وأخبر أنها فسق، ومعنى ذلك أن فاعل واحد منها يكون فاسقا. وروى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «سِبَابُ المسلمِ فُسُوقٌ وقِتاله كُفْرٌ».
ومنها: الخبر بأن الله تعالى يحارب فاعلها
قال الله تعالى: ﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبوا إِن كُنتُم
مؤْمِنِينَ : فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: ۲۷۸ - ۲۷۹]. وروى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله تعالى: مَن عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب». أفاد
الحديث أن مُعادي الولي لأجل ولايته يحاربه الله تعالى، وفي هذا إنذار شديد للذين يعادون كثيرًا من الصالحين، الذين يعتقد فيهم بعض الناس أنهم كانوا مستجابي الدعوة عند الله تعالى.
ومنها: الخبر بأن الله لا يحبها أو لا يحب فاعلها، أو أن الله يبغضه:
قال تعالى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ﴾ [النساء: ١٤٨]، الجهر بالسوء معناه: الجهر بالسب والشتم والهجر، ونحو ذلك من الألفاظ الذميمة، فالآية تفيد أنها كبيرة.
وقال الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُختَا لَا فَخُورًا ﴾ [النساء: ٣٦] الاختيال التكبر والفخر عد المناقب على سبيل التطاول بها، وهما كبيرتان كما
أفادته الآية.
وقال سبحانه: وَلَا تُصَعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: ۱۸]، روى مالك عن زيد بن أسلم: وَلَا تُصَعِرْ خَدَّكَ للناس قال: «لا تتكلم وأنت معرض»، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، ويزيد بن الأصم، وأبو الجوزاء، وسعيد بن جبير، والضَّحَّاك وعبد الرحمن بن زيد، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أي خيلاء متكبرا، وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَانِينَ ﴾ [الأنفال: ٥٨]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَانِ كَفُورٍ ﴾ [الحج : ٣٨]، أفادت الآيتان أن الخيانة كبيرة. وفي "مستدرك الحاكم" بإسناد صحيح، عن عبدالله بن عمرو بن العاص
قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله لا يُحِبُّ الفَاحِشَ ولا المتفحش، والذي نَفْسُ محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحْشُ والتفخُشُ، وقطيعة الرّحِمِ، وسوء الجوار. الحديث ، فالفحش والتفحش كبيرتان؛ لأن الله لا يحب من اتصف بهما أو بأحدهما.
وفي "صحيح ابن حِبَّان"، عن المغيرة بن شعبة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أخذ بحجزة سفيان بن أبي سهل فقال: «يا سفيان لا تسبل إزارك فإنَّ الله لا يحبُّ المُسْبِلين». رواه ابن ماجه في "سننه"، وقال الحافظ البوصيري: «إسناده صحيح».
وروى الحاكم بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله يحبُّ ثلاثة ويبغض ثلاثة فذكر الحديث إلى أن قال: فقلت فمن الثلاثة الذين يبغضهم الله؟ قال: المُخْتَال الفَخُور وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ ﴾ [لقمان: ۱۸]، والبخيل المنان، والتاجر - أو البائع- الحلاف». ورواه أبو داود والترمذي والنسائي بنحوه.
وروى النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أربعةٌ يَبغضهم الله: البياع الحلاف ) والفقير المختال، والشيخ الزَّانِي،
والإمام الجائر». صححه ابن حِبَّان.
ومنها: لعن فاعلها:
قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَذِبِينَ ﴾ [آل
عمران: ٦١]. وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الرجل يلبسُ لِبْسَةَ المرأة، والمرأة تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرجل». صححه ابن حبان والحاكم.
وفي "صحيح البخاري" و "السنن الأربعة" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المتشبهين من الرجال بالنِّساء، والمتشبهات من النِّساء بالرجال».
وفي رواية للبخاري: لعن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المخنثين من الرجال، والمترجلات مِن النِّساء».
وفي رواية عند الطبراني: أنَّ امرأة مرَّت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم متقلّدةً قوسا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لعن الله
المتشبهات من النِّساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنِّساء». وروى أبو داود والترمذي، عن عبدالله بن عمرو قال: «لعن رسول الله
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الرَّاشِي والمُرْتَشِي». صححه الترمذي.
وعند ابن ماجه قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «لعنة الله على الراشي والمرتشي». صححه ابن حبان والحاكم.
وفي صحيحي ابن حِبَّان والحاكم" عن أبي هريرة قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الراشي والمرتشي والرائش». يعني الذي يسعى بينهما. وروى ابن حِبَّان في "صحيحه" عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لعن الله مَن ذَبَحَ لغير الله، ولعن الله من غَيَّر تخوم الأرض، ولعن الله مَن كَمَّه أعمى عن السَّبيل، ولعن الله مَن سبّ والديه، ولعن الله مَن تولَّى غير
مَوَالِيه، ولعن الله مَن عَمِلَ عَمَل قوم لوط». قالها ثلاثا في عمل قوم لوط. وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مرَّ على فتيان من قريش قد نصبوا طيرًا ودجاجة يترامونها ، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال: «من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؛ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم لعن مَنِ اتَّخذ شيئًا فيه الرُّوح غرضًا». وفي "صحيح مسلم"، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرَّ على حمارٍ قد وُسمَ في وجهه فقال: «لعن الله الذي وَسَمَهُ». وفي صحيح ابن حِبَّان" ، عن جابر رضي الله عنه قال : مرَّ حمارٌ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قد كوي في وجهه يفور مَنْخِرَاهِ مِن دمٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لعن الله من فعل هذا». ثُمَّ نهى عن الكي في الوجه،
والضرب في الوجه. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس: أنَّ رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلَّم لعن مَن يَسِمُ في الوجه.
عائشة رضي
الله
وروى الطبراني، وابن حبان في "صحيحه" ، والحاكم : عنها: أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب الزائد في كتاب الله عزّ وجلَّ، والمكذب بقدر الله، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذلَّ مَن أعز الله عزّ وجلَّ ويعزّ مَن أذلَّ الله، وا والمستحل حرمة الله، والمستحلُّ مِن عِترتي ما حرَّم الله، والتارك السُّنَّة». قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولا أعرف له عِلَّة».
وفي معجم الطبراني" بإسناد حسن عن حذيفة بن أسد رضي ا الله عنه :
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: من آذى المسلمين في طُرُقِهم وجَبَتْ
عليه لعنتهم".
وفي "صحيح مسلم عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «اتقوا اللَّاعِنَينِ»، قالوا: وما اللّاعِنان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلَّى فِي طُرُقِ النَّاسِ أو في ظِلَّهم».
وفي "الصحيحين" عن ابن عمر: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لَعَنَ الوَاصِلَةَ والمُسْتَوصِلَةَ والوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوشِمةَ».
وفيهما أيضًا عن ابن مسعود أنه قال: «العن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحُسْنِ المغيرات خَلْقَ الله». قلت: تغيير خلق الله يكون فيما يبقى أثره كالوشم والتفلج، أو يزول ببطء كالتنميص، أما حلق اللحية فلا يكون تغييرًا لخلق الله؛ لأن الشعر يبدو ثاني
يوم من حلقه، ولهذا لم يصف الشارع حالق لحيته بأنه مُغير لخلق الله كما وصف به الواشمة والمستوشمة والمتنمصة والمتفلجة، ولا يجوز قياس حلق اللحية على النمص؛ لاختلاف حقيقتهما، ولأن شرط القياس أن يكون الفرع غير منصوص عليه، وحلق اللحية مُصرَّحُ بحُكمه وعِلَّته في حديث "الصحيحين"، فكيف يُقاس منصوص على منصوص ؟!. لا يقال: فقد استدلُّوا لوصول القرآن إلى الميت بقياسه على الصوم والحج
وغيرهما مع التنصيص عليه في حديث اللجلاج؛ لأنا نقول : أولا: من قاس القرآن على الصوم كابن القيم - لم يبلغه حديث اللجلاج كما لم يبلغ أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فكان قياسه صحيحًا مستوفيا للشروط.
ثانيا: أنَّ إلحاق القرآن بالصوم ونحوه لم يقصد به القياس المعهود - وإن سُمِّي بذلك تجوزا - وإنما قصد به إلحاق القرآن بما نص عليه من تلك العبادات باعتباره فردا منها لا مقيسًا عليها، وبيان ذلك أنَّ الشارع أخبر بوصول الصدقة إلى الميت، والصدقة في عُرْفِ الشرع تشمل المال وغيره، كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ، فقراءة القرآن داخلة في مسمَّى الصدقة شرعًا لا
قياسًا، وأيضًا فإن مما أخبر الشارع بوصوله إلى الميت بجانب الصدقة الدعاء والاستغفار والصوم والحج، وهذه تسمى عبادة، وكذلك قراءة القرآن عبادة مثلها، فإلحاق القراءة بهذه الأشياء بيان لدخولها في مسمى العبادة شرعًا لا قياسًا، ومثل هذا الإلحاق يقبله نفاة القياس ولا يردُّونه، وقد يسميه بعضهم: قياسًا في معنى النص». ثالثًا: لو سلمنا أنَّ قياس القرآن على الصوم ونحوه من القياس المعهود، فهو قياس صحيح مُعتبر عند من لم يبلغه الحديث كابن القيم، وعند من بلغه أيضًا؛ لأن الحديث أفاد قراءة القرآن بعد دفن الميت، وليس نصا في وصول الثواب إليه، بل يحتمل أن يكون القصد بالقراءة تذكير الميت بأصول الإيمان التي يسأل عنها؛ لأن فاتحة البقرة وخاتمتها تشتمل على ذلك، والقياس أفاد وصول ثواب القراءة إلى الميت مطلقا، وهو حكم لم يفده الحديث صراحة،
بخلاف قياس حلق اللحية على التنميص فإنه قياس فاسد لاغ لوجهين: أحدهما: أنَّ الأمر بإعفاء اللحية علله الشارع بمخالفة المجوس كما علل لعن المتنمصة بتغيير خلق الله، فوضع بجانب كل حكم علة تخالف الأخرى، ولم يكن ذلك مصادفة أو عفو الخاطر، بل هو مقصود وملحوظ، فقياس
أحدهما على الآخر - والحالة هذه افتيات على الشارع وتعليل بغير ما علل به. ثانيهما: أنَّ الحلق يُهيّج الشعر وينميه بحيث صار من الضروريات أن من أراد أن يكتمل شعر لحيته وينمو فليحلقه بالموسى، والتنميص أخذ الشعر بالمناص الذي يقلع الشعرة بجذرها، فيدع مكانها ناعما كأن لم يكن به شعر قط، ومن هنا كان تغييرا الخلق الله، حيث أشبه قطع أذن البهيمة، أو فقء عينها،
ولم يصح إلحاق الحلق به لتباينهما من حيث حقيقتهما والأثر المترتب عليهما. وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: «ملعون من أتى امرأةٌ مِن دُبُرِها».
ومنها وصف فاعلها بأن الله لا ينظر إليه:
روى النَّسائي، والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لا يَنْظُرُ الله عزَّ وجلَّ إلى رجل أتى رجلًا أو
امرأة في دبرها». صححه ابن حِبَّان.
وروى مالك، والشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم قال: «مَن جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لم يَنْظُرُ اللَّهُ إِليه يومَ القيامةِ». وروى مالك، والشيخان أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يَنْظُرُ الله يومَ القيامةِ إِلى مَن جَرَّ إزاره بَطَرًا». وروى مسلم وأصحاب السنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ثلاثة لا يُكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت من هم خابوا وخَسِروا- قال: «المُسْبِلُ، والمنفق سِلْعَتهُ بالحَلِفِ الكاذب، والمَنَّان».
و روی مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ثلاثةٌ لا يُكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وعائلٌ مُستكبر». ومنها: الإخبار بأنه لا يدخل الجنة:
روى النسائي، والبزار - واللفظ له عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومُدْمِنُ الخَمْرِ ، والمَنَّان ،عَطَاءه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرَّجُلَة». صححه الحاكم.
وروى أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما" عن أبي موسى الأشعري: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنَّةَ: مُدْمِنُ الخَمْرِ، وقاطِعُ الرَّحِمِ، ومُصَدِّقٌ بالسِّحْرِ ، ومَن مات مُدمنا للخَمْرِ سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِن نَهْرِ الغُوطَةِ». قيل وما نهر الغُوطَةِ؟ قال: «نهر يجري مِن فُرُوحِ الْمُومِساتِ، يؤذي
أهل النَّار ريحُ فُروجهنَّ». صححه ابن حِبَّان و الحاكم.
وروى أبو داود عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا يدخل الجنَّة الجَوَّاظُ ولا الجَعْظَرِي». قال: والجواظ: الغليظ الفظ»، وهو في "الصحيحين" بلفظ «ألا أخبركم بأهل
النَّارِ؟ كُلَّ عُثْلٌ جَوَّاطٍ مُستكبر».
وروى مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: «لا يدخل الجنَّة مَن كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ مِن كِبْرِ».
سياط
ورواه أحمد بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص. وروى مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم . كأذناب البقر يضربون بها النَّاس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رُؤوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَة، لا يدخلن الجنَّة ولا يجدن ريحها، وإنَّ ريحها
ليوجد من مسيرة كذا وكذا».
ومنها: الإخبار بتحريم الجنة عليه:
روى الشيخان عن جُندب بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كان برجل جراح فقتل نَفْسَه، فقال الله: بَدَرني عبدي بنَفْسِه
فحرمت عليه الجنة».
وروى أحمد، والنَّسائيُّ ، والبزار عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى الجنَّة: مُدمن الخَمْر، والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله».
عليهم
صححه الحاكم.
ومنها: الإخبار بأن فاعلها برئت منه ذمة الله ورسوله:
روى أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أوصاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعشر كلمات قال: «لا تُشْرك بالله شيئًا وإن قتلت وحُرِّقت، ولا تعص والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك، ولا تتركنَّ صلاة مكتوبةً متعمدا فإن من ترك صلاةً مكتوبةً مُتعمدًا فقد بَرِئَتْ منه ذمة الله الحديث.
وفي "معجم الطبراني" بإسناد لا بأس به في المتابعات، عن معاذ أيضا قال: أتى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم رجل فقال: يا رسول الله علمني عملا إذا أنا عملته دخلت الجنة، قال: «لا تشرك بالله شيئًا وإِن عُذِّبت وحُرِّقتَ، أَطِعْ والديك وإن أخرجاك من مالك ومن كلِّ شيء هو لك، لا تترك الصَّلاة متعمدا فإن من ترك الصَّلاة مُتعمِّدًا فقد بَرِئَتْ منه ذمة الله...». الحديث. وفي "مسند أحمد بإسناد صحيح عن مكحول، عن أم أيمن رضي عنها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لا تترك الصَّلاةَ مُتعَمِّدًا فإِنه مَن ترك الصلاة متعمدا فقد بَرِئتْ منه ذمة الله ورسوله».
الله
وروى النَّسائي بإسناد حسن عن رُوَيفع بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا رُوَيْفع لعلَّ الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر النَّاسَ أَنه مَن عَقَدَ لِحيته، أو تقلد وَتَرًا، أو استنجى برجيع دابَّةٍ أو عَظْم، فإن محمدا بريءٌ منه». ورواه أبو داود ولكن في إسناده راو مجهول.
ومنها: الإخبار بأنها حالقة تحلق الدين: روى أبو داود والترمذي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين فإنَّ فساد ذات البين هي
الحالقة». قال الترمذي: حديث صحيح». قلت: وصححه ابن حبان. قال الترمذي: ويروى عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «هي
الحالقة، لا أقول تحلق الشَّعْرَ ولكن تحلق الدِّين».
قلت: رواه البزار بإسناد صحيح، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنَّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «دَبَّ إِليكم دَاءُ الأُمَمِ قبلكم الحَسَدُ والبغضاءُ، والبغضاءُ هي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين».
ومنها: الإخبار بنزع الإيمان منه أو نفيه عنه:
روى الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن زَنَى أَو شَرِبَ الخَمْرَ نَزَعَ اللَّهُ مِنه الإيمان كما يَخْلُعُ الإِنسانُ القَميصَ مِن رأسِهِ».
وروى أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن»، قيل : مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُهُ بَوَائِقَهُ». زاد أحمد قالوا: يا رسول الله ما بوائقه؟ قال: «شَرُّه». ورواه البخاري بهذه الزيادة أيضًا من حديث شريح الكعبي رضي الله عنه.
ومنها الإخبار بغضب الله عليه
روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: مَن حَلَفَ على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال
امرئ مسلم، لقي الله عزَّ وجلَّ وهو عليه غضبان».
ومنها: الجامه بلجام من نار : روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن سُئِلَ عن عَلْمٍ فكتمه، ألجم يوم القيامة بلِجَامِ
من نار. حسنه الترمذي، وصححه ابن حِبَّان.
وروى ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن كَتَمَ عِلْمًا أَلجَمَهُ الله يوم القيامة بلجام من نار. قال الحاكم: «صحيح لا غبار عليه».
الله
وروى أبو يعلى بإسناد رجاله رجال الصحيح، عن ابن عباس رضي ا عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَن سُئل عن علم فكتمه
جاء يوم القيامةِ مُلجَمًا بلجام من نار، ومَن قال في القرآن بغير ما يعلم جاء يوم
القيامة ملجبًا بلجام من نار». ومنها: عدم قبول صلاته مثلا:
رضي
الله
روى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة، ولا تَصْعَدُ هم إلى السَّماء حَسَنةٌ: السَّكرانُ حتى يَصْحُو، والمرأة السَّاخِطُ عليها زوجها، والعبد الآبق حتى يرجع فيضع يده في يد مواليه».
ومنها: وصفه بالكفر أو الإشراك مثلا: روى أحمد، والأربعة، عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهما الصَّلاةُ فمن تركها
فقد كَفَرَ». صححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
وروى ابن ماجه، والحاكم والبيهقي في "الزهد" بإسناد صحيح، عن معاذ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اليَسِيرُ مِن الرِّيَاء شِرْكٌ، وَمَن عَادَى أولياء الله فقد بارَزَ الله بالمحاربة...» الحديث.
وروى البيهقي، عن شداد بن أوس رضي الله عنه، أنه سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن صام يُرائي فقد أشرك، ومَن صلَّى يُرائي فقد
أشرك، ومن تصدَّق يُرائي فقد أشرك الحديث.
وروى الترمذي عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول: «مَن حَلَف بغير الله فقد كَفَر أو أشرك». حسنه الترمذي، وصححه
ابن حبان والحاكم. ومنها: وصفه بالخسران:
قال الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ ﴾ [الأعراف: ۹۹] أفادت الآية أنَّ الأمن مِن مَكْرِ الله كبيرة؛ لأن
الخسران لا يوصف به إلَّا فاعل الكبيرة.
ومنها وصفه بالضلال
قال الله تعالى في قصة ضيوف إبراهيم وتبشيرهم له: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُونَ ﴾ [الحجر: ٥٦].
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله لا يَقْبضُ العِلمَ انتزاعًا ينتزعه مِن النَّاسِ، ولكن يقبض
العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رُوْسًا جُهَّالًا فسُئلوا فأفتوا
بغير علم فضلوا وأضَلُّواء.
فالإفتاء في الدين بغير علم كبيرة، وما أكثر المفتين في هذا العصر بالجهل.
ومنها التعبير عنه بكلمة: ليس منا :
رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن حَمَلَ علينا السَّلاحَ فليس مِنَّا، ومَن عَشَنا فليس منا».
وروى الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن ، عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «مَن غَشَّ المسلمين فليس منهم». وروى أبو داود عن بريدة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله
وسلم قال: «مَن حَلَفَ بالأمانة فليس منا». إسناده حسن.
ومنها: وصفه بالخلود في النار :
قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خلدا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: ٩٣]. وفي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن كَذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا فليتبوأ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ». وهو حديث
متواتر، وتبوء المقعد معناه: طول الإقامة والمكث، وهو الخلود.
وروى أبو داود والترمذي، عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». حسنه الترمذي. فمحبة الشخص قيام الناس له كبيرة، لكن قيامهم له من غير أن يحبه ليس بحرام، بدليل أنَّ طلحة قام يهنئ كعبا بتوبة الله عليه فلم ينهه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كما في "الصحيحين".
ومنها: إلحاقها بكبيرة معروفة:
ثبت في "الصحيحين" عن ثابت بن الضَّحَّاك رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن حَلَف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدا فهو كما قال ومَن قتل نفسه بشيءٍ عُذَّب به يوم القيامة، وليس على رجل نَذْرُ فيها لا يَمْلِك، ولَعْنُ المؤمِنِ كقتله، ومَن رَمَى مؤمنًا بكُفْرٍ فهو
كقتله الحديث.
فلعن المؤمن ورميه بكفر كبيرتان؛ لأن الحديث ألحقهما بالقتل.
ومنها: الإخبار بأنها تهدي إلى الفجور
ثبت في "الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: عليكم بالصِّدْقِ فَإِنَّ الصَّدْقَ يهدي إلى البر، وإنَّ البر يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجل يَصْدُقُ ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإنَّ الكذب يهدي إلى الفُجُور، والفُجُور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذَّابًا». وفي "صحيح ابن حِبَّان" عن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: عليكم بالصِّدْقِ فإنه مع البر وهما في
الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفُجُور وهما في النَّار».
ومنها وصف صاحبها بالنفاق ثبت في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كانت فيه خَصْلَةٌ مِن النّفاق حتى يدعها: إذا ؤتمن خان، وإذا
حدث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر».
وفي "صحيح البخاري عن محمد بن زيد أن ناسا قالوا لجده عبدالله بن عمر: إننا ندخل على سلطاننا فنقول بخلاف ما نتكلم به إذا خرجنا من عنده،
فقال: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
ومنها: وصف مرتكبها بأنه لم يزل في سخط الله، أو سخط الله عليه: روى أبو داود، والطبراني، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضادَّ الله عزَّ وجلَّ، ومَن خاصَمَ في باطل وهو يعلم لم يزل في
سَخَط الله حتى ينزع ، ومَن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله رَدْغَة الخبال حتى يخرج مما قال». صححه الحاكم.
وروى ابن حبان في "صحيحه"، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن التمَسَ رِضا اللهُ بِسَخَطِ النَّاسِ، رضي الله عنه وأرضى عنه النَّاسَ ومَن التمَسَ رِضا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهُ، سَخِطَ الله عليه وأَسْخَطَ عليه النَّاسَ».
وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أَسْخَطَ اللَّهُ فِي رضا النَّاسِ سَخِطَ اللَّه عليه وأَسْخَطَ عليه النَّاسَ، ومَن أرضى الله في سَخَطِ النَّاسِ رضي الله عنه وأرضى مَن أَسْخَطَهُ في رضاه حتى يزيَّنه ويزين قوله وعمله في عينه».
ومنها: وصفه بأنه ضاد الله عزَّ وجلَّ:
تقدم الحديث بذلك في العلامة قبل هذه.
ومنها الإخبار بأن الله يسكنه ردغة الخبال
تقدم الحديث بها في العلامة المذكورة أيضًا، «ورَدْغَةُ الخبال»: عصارة أهل النار. فسرها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم في حديث رواه مسلم في "صحيحه".
ومنها: الإخبار بأن الله حجب التوبة عن مرتكبها :
روى الطبراني بإسناد حسن، عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّ الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته». والمراد بالبدعة في هذا الحديث بدعة العقيدة، كالمعتزلة والمرجئة والجهمية والمجسمة ونحوهم من الفرق الضالة، أمَّا المسائل الفرعية المختلف فيها بين العلماء، وقيل في بعضها إنه بدعة، فلا تدخل في هذا الباب، وإليك أمثلة منها : ١ قال الإمام أبو بكر الطرطوشي : اقتعاط العمائم هو التعميم دون حنك، وهو بدعة منكرة، وقد شاعت في بلاد الإسلام». وقال الإمام مالك: أدركت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم سبعين محنكا، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت المال لكان به أمينًا». ۲ - قال طاوس: «القنوت في الوتر بدعة وروى محمد بن نصر مثل قوله
عن ابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير، وقال غيرهم بسنيته أو استحبابه. ٣- إحياء ليلة النصف من شعبان، قال أكثر علماء الحجاز: إنه بدعة، منهم عطاء، وابن أبي مليكة، ومالك، وقال علماء الشام باستحبابه، منهم خالد بن
معدان، ومكحول ، ولقمان بن عامر، ورجّحه والدي الإمام رضي الله عنه. وللإمامين مالك والشافعي عبارتان جامعتان تبيَّنان البدعة المذمومة التي يحجب الله التوبة عن صاحبها، والبدعة التي ليست كذلك:
روى ابن حميد عن مالك قال: «لم يكن شيءٌ من هذه الأهواء في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان».
قال الحافظ ابن رجب : كان مالك يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمور الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواص هذه الأمة، أو عكس ذلك من زعم أن المعاصي لا تضر أهلها، وأنه لا يدخل النَّارَ مِن أهل التوحيد أحدٌ» . اهـ
وروى البيهقي عن الشافعي قال: «المحدثات ضربان: ما أُحدث مما يخالف كتابًا أو سُنَّةً أو أثرًا أو إجماعا، فهذه البدعة الضالة، وما أحدث مما لا
خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.
فتبين من هذا أنَّ البدعة المذمومة هي بدعة العقيدة، كما بينها الحافظ ابن رجب في شرح عبارة الإمام مالك، وهي التي تخالف الكتاب والسنة والأثر وإجماع أهل السُّنَّة، كما جاء في عبارة الإمام الشافعي، ولا تدخل فيها البدع التي تقع في المسائل الفرعية التي لم يحصل إجماع على ذمها وتحريمها. ومنها: الإخبار بأن المعصية تأكل الحسنة
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِيَّاكم والحَسَدَ، فإنَّ الحَسَدَ يأكلُ الحَسَناتِ كما تأكل النَّارُ الخَطَبَ، أو قال: العُشْبَ». إسناده حسن.
وفي "سنن ابن ماجه" بإسناد ضعيف عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الحَسَدُ يأكل الحَسَناتِ كما تأكل النَّارُ الخَطَبَ، والصدقة
تُطفئ الخطيئة كما يُطْفِئُ الماء النَّارَ ، والصَّلاةُ نور المؤمن، والصّيام جُنَّةَ مِن النَّارِ».
ومنها: الإخبار بأنها ليست من الإسلام
روى أحمد بإسناد جيد، عن جابر بن سمرة قال: كنت في مجلس فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو أمامة وسمرة فقال: «إِنَّ الفُحْشَ والتفَحْشَ ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن النَّاس إسلامًا أحسنهم خُلُقًا».
ومنها: الإخبار بأن الله خسف بمرتكبها :
روى البخاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بينما رجلٌ ممن كان قبلكم يجر إزاره مِن الخيلاء خُسِفَ به فهو
يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرضِ إلى يوم القيامةِ».
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «بينها رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ تُعجبه نفسه، مُرجُلٌ رأسه، يختال في مشيته إذ خَسَفَ الله به فهو يَتَجَلْجَلُ في الأرض إلى يوم القيامة». ومنها: الإخبار بأن مرتكبها لا يسأل عنه:
روى الطبراني، عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاثةٌ لا يُسأل عنهم: رجلٌ نازع الله رِداءَهُ فَإِنَّ رِداءَهُ الكبر وإزاره العز، ورجلٌ في شكٍّ مِن أمر الله، والقَنُوطُ مِن رحمته». صححه ابن حبان والقنوط : بفتح القاف.
قوله: «لا يسأل عنهم يفيد أن عذابهم شديد لا يوصف، وهذا كما يحصل لشخص مصيبة، فتسأل عنه ما حاله؟ فيقال لك: لا يسأل عنه، أي لأن المصيبة التي نزلت به أعظم من أن يتحدث عنها، أو توصف، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا
تُلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [البقرة: ۱۱۹] نهى عن السؤال عنهم؛ لأن السائل لا
يطيق سماع ما يحصل لهم من العذاب.
ومنها: الإخبار بأن الله تعالى يكون خصمه
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خَصْمُهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثمَّ غَدَرَ، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يُعطه أجره».
ومنها: الإخبار بأن مرتكبها لا يجد عرف الجنة
روى أبو داود وابن ماجه وابن حِبَّان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن تعلَّم عِلْمًا مما يبتغي به وجه الله تعالى، لا يتعلَّمه إلا ليُصيب به عَرَضًا مِن الدُّنيا لم يجد عَرْفَ الجنَّة يومَ القيامة». يعني ريحها. صححه الحاكم على شرط الشيخين. ومنها التوعد عليها بالويل
قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطفين: ۱ - ۳ ، فتطفيف الكيل والميزان كبيرة، وقال سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ تُمَزَة [الهمزة: ١]، الهمزة: من يعيب الشخص في غيبته. واللُّمَزة: مَن يعيبه في وجهه، وقيل بالعكس، فعيب المسلم
في غيبته أو حضوره كبيرة.
ومنها: وعيد مرتكبها بأن يحشر بآفة في جسمه:
روى الأربعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال: مَن كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل». ورواه ابن حِبَّان في "صحيحه"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين،
وهو كما قال، وما علله به الترمذي ليس بقادح.
ومنها الإخبار بحبوط عمله
قال الله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: ٢].
وروى البخاري، والنسائي وابن ماجه عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن ترك صلاة العصر فقد حَبِطَ عَمَلُهُ». ولفظ رواية ابن ماجه: «بكروا بالصَّلاة في يوم الغيم؛ فإنه من فاتته صلاة
العصر فقد حَبِطَ عَمَلُهُ».
ومنها التوعد بفضيحة مرتكبها
روى الترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتَّبعوا عَوْرَاتِهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رَحْلِهِ». وصححه ابن حِبَّان، وروى أبو يعلى نحوه من حديث البراء بن عازب، وإسناده حسن.
ومنها الإخبار بأن الله يمقت فاعلها
روى الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يخرج اثنان إلى الغائط فيجلسان يتحدثان كاشفين عن عورتهما؛ فإنَّ الله عزّ وجلَّ يَمْقُتُ على ذلك». رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري، وفي سنده عياض بن هلال، وثقه ابن حبان، فهو صحيح على قاعدته، وقد رواه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق عياض أيضًا.
ومنها الإخبار بأن فاعلها خارج عن الإسلام
روى البزار بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لو أنَّ رجلين دخلا في الإسلام فاهْتَجَرا، لكان أحدهما
خارجا عن الإسلام حتى يرجع». يعني الظالم منهما.
من
ومنها: الإخبار بأن فاعلها يكلف يوم القيامة بما لا يستطيعه: روى البخاري، عن ابن عبّاس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ، تحلم بحُلْمٍ لم يرَه كُلّف أن يَعْقِدَ بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورةً كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ». وفي رواية الإمام أحمد: «من تحلم بحُلْمٍ لم يَرَه عُذَّب حتى يعقد بين شعيرتين وليس عاقدًا، ومَن صور صورة عُذَّب يوم القيامة حتى ينفخ فيها الرُّوح وليس بنافخ فيها».
ومعنى العقد بين الشَّعِيرتين: قتل إحداهما بالأخرى، وهو محال في العادة، وهذا الوعيد الشديد يدل على أنَّ الكذب في المنام كبيرة؛ لأن الرؤيا جزء من النبوة، وما كان من النبوة فهو من قبل الله، والكذب في الرؤيا كذب على الله تعالى، وكذلك نفخ
الرُّوح في الصورة مما لا يستطيعه مخلوق، فهو يدل على أنَّ التصوير كبيرة. ومنها : توعد فاعلها بعذاب شديد في جوارحه
سبق في الحديث المذكور: ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُبَّ في
أذنه الأنك يوم القيامة». والأنك بالمد وضم النون -: هو الرصاص المذاب. وروى البخاري حديث سَمُرة الطويل في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: «وأنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيتلغ رأسه فيندَهْدَه الحجر هاهنا فيتبع الحجر، فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثُمَّ يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، وأتينا على رجل مُستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلُوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه، فيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قفاه، ومِنْخَره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحوّل إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثُمَّ يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى». وذكر الحديث إلى أن قال: قالا - أي الملكان- أما الرجل الذي أتيت عليه يتلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصَّلاة المكتوبة، وأما الذي أتيت عليه يُشَرْشِرُ شِدْقه إلى قفاه، ومِنْخَره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه،
فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق».
ومعنى كونه ينام عن الصلاة المكتوبة أنه يتركها، والذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق وصف ينطبق على الصحفي الذي ينشر في الجريدة خبرا كاذبا، فهو داخل في هذا الوعيد الشديد، ويدخل فيه أيضًا كذبة أبريل، وذلك أن
كثيرًا من الناس اعتادوا أن يكذبوا أول يوم من أبريل على شخص معروف بأنه مات أو تزوج أو ولد له أو أنه حصل انقلاب في دولة ما أو نحو ذلك، ثم يتبيَّن في اليوم الثاني أنه كذبة بعد أن ينشر في الجرائد، وترسل برقيات تعزية أو تهنئة بناء على ذلك الخبر الكاذب، وهي عادة إفرنجية قلد الناس فيها الفرنج. ومنها: الإخبار بأن الله يطبع على قلبه :
روى أحمد والأربعة، عن أبي الجعد الضمري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ترك ثلاث جُمَعِ تهاونًا طَبَعَ الله على قلبه». حسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وعن أبي قتادة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورةٍ طَبَعَ الله على قلبه. رواه أحمد، وصححه الحاكم. هذه بضعة وأربعون علامة للكبيرة استخرجناها بالاستقراء والتتبع، وذكرنا لكل علامة منها مثلا أو مثلين أو أكثر ، ولم نقصد الاستيعاب في ذكر الأمثلة لأن ذلك يطول، فكل معصية قُرنت بها أو بمرتكبها علامة من تلك العلامات في القرآن أو السُّنَّة الثابتة فهي كبيرة، وإن خالف بعض الشافعية في بعض المعاصي فاعتبروها صغيرة مع وجود العلامة فيها فذلك جارٍ على قواعد مذهبهم، لا يلزمنا اتباعهم وترك الدليل.
الصغائر وأمثلة لها
أما الصغائر : فهي ما خَلَت من العلامات المذكورة، ونذكر بعضا منها على
سبيل التمثيل لا الحصر:
١ - فمنها : النظر إلى الأجنبية أو تقبيلها.
٢- ومنها: الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر.
ومنها ترك ردَّ السَّلام, ومثله ترك رد جواب الكتاب.
٤ - ومنها: ترك إجابة الدعوة لوليمة أو نحوها.
ه - ومنها: لعب النرد أو الكارطة أو نحو ذلك ما لم يصحبه :
فهو كبيرة.
حبه قمار، وإلا
٦- ومنها: حلق اللحية لما مرَّ بيانه في الكلام على التنميص، وهذا إذا حمل الأمر في: «أعفوا اللحى على الوجوب، فإن حمل على الندب كان حلق اللحية
مكروها فقط.
ومنها: الجمع بين الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء بدون عذر،
وحديث: من جمع بين صلاتين فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر» ضعيف. - ومنها: ترك الترحم على الوالدين أو أحدهما لقول الله تعالى: وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا ﴾ [الإسراء: ٢٤]، والأمر للوجوب، يؤكده ورود الآية في سياق وجوب بر الوالدين وعرفان حقهما، فإن ترك الترحم عليهما بدعوى أنهما ضالان أو أحدهما فهو كبيرة؛ لأنه حينئذ عقوق.
٩ - ومنها: سرقة شيء قليل دون النصاب الذي يوجب الحد، وحديث:
«لعن الله السَّارِقِ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقطعُ يده، ويَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقطَعُ يده». رواه
الشيخان من حديث أبي هريرة، يحتمل أحد معنيين
1 - أنه جاء على وفاق الآية: ﴿ وَالسَارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَأَقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: ٣٨]، فإنها تعمُّ سارق القليل والكثير ، ثم ثبت تخصيصها ببيان النصاب الذي يجب فيه القطع، وهو يدل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يتمسك بعموم القرآن حتى يأتيه البيان من الله بتخصيصه.
٢- كان قطع السارق معمولا به في الجاهلية وأقره الإسلام، كما أقر القسامة والدية والقراض، وكانوا في أيام الجاهلية يقطعون في سرقة ما قل أو كثر، فأراد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بلعن السارق تحقير شأنه حيث بذل يده الثمينة في سرقة الأشياء المهينة.
اليوم.
١٠ - ومنها: صوم يوم العيد، لأنه إعراض عن ضيافة الله لعباده في ذلك
١١- ومنها: صلاة النافلة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. ١٢ - ومنها: ترك صلاة الجمعة مرة أو مرتين بدون عذر، أما تركها ثلاث مرات متواليات فهو كبيرة كما سبق.
١٣ - ومنها : عقد بيع أو نكاح وقت آذان الجمعة إلى الانتهاء من صلاتها. ١٤ - ومنها : مكث الجنب أو الحائض في المسجد.
١٥ - ومنها: مسُّ القرآن على غير وضوء؛ لحديث حكيم بن حزام قال: لما بعثني النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى اليمن قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر». رواه الطبراني، والدارقطني، والحاكم وصححه، وله طرق من حديث
ابن عمرو، وعمرو بن حزم وعثمان بن أبي العاص، وثوبان. والنهي يقتضي
حرمة مس القرآن بغير وضوء، فيكون صغيرة.
١٦ - ومنها : ترك تكفير الحالف عن يمينه إذا حنث فيها.
١٧- ومنها: ترك الوفاء بالنذر إذا نذر طاعة كصدقة أو صلاة مثلا، أما نذر المعصية فلا يجوز، وإذا وقع فلا يجوز الوفاء به، وكذلك لا يجوز النذر لولي، ولا يجوز الوفاء به لو وقع.
١٨ - ومنها: الإصرار على فعل الصغيرة، بأن يفعلها كل يوم مثلا، وحديث
لا صغيرة مع الإصرار». ضعيف، والصحيح أنه من قول ابن عباس. ١٩ - ومنها: بيعتان في بيعة، وهو أن يبيع التاجر سلعة بمائة نقدا، وبمائتين
إلى أجل.
هذه أمثلة من الصغائر ، ومن أراد الزيادة عليها فليطلبها من كتب الفقه.
خاتمة في بيان ما يكفر الكبائر والصغائر
وأختم هذا البحث ببيان ما يُكفّر الكبائر والصغائر فأقول: إنَّ الله تعالى علم ضعف الإنسان، وغَلَبة الشهوة عليه، وتزيين الشيطان له، وأنه بسبب ذلك واقع في المخالفة لا محالة إلَّا مَن أدركه الله بحفظه ولطفه، وهم قليلون؛ فجعل للعاصين أنواعًا من الخير إذا فعلوها تحت عنهم معاصيهم، وطهرتهم من مخالفاتهم بفضله وكرمه، فصرف عنهم عذابه، وتلقاهم بمغفرته، وهذه المكفرات ثلاثة أنواع:
نوع يُكفّر الكبائر والصغائر : وهو التوبة بشروطها المعروفة، فإنها تكفّر الصغائر والكبائر، وتمحو الكفر أيضًا، وهذا من المعلوم بالضرورة لكل مسلم فلا نحتاج إلى الإطالة بذكر
الأدلة عليه.
ونوع يكفر الصغائر: وهو ثلاثة أشياء:
۱ - اجتناب الكبائر
قال الله تعالى: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْ خَلَا كَرِيمًا ﴾ [النساء: (۳۱] ، وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعةِ، ورمضان إلى رمضانَ مُكَفِّرَاتٌ ما بينهنَّ إذا
اجتنبت الكبائر».
٢ - إتباعها الحسنة
روى ابن جرير، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلّم: جعلت الصلوات كفارات لما بينهن، فإن الله قال:
إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤].
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلوةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤] فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ قال: «الجميع أمني كلهم». وفي "المسند" معاذ الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله
عن .
رضي
وسلم قال له: يا معاذ أتبع السيِّئَةَ الحَسَنةَ تَمْحُها، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». وروى الترمذي، عن أبي ذرّ، ومعاذ رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمنحها، وخالِقِ
النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
مصيبة من مصائب الدنيا
ثبت في "الصحيحين". عائشة عن
رضي
الله عنها قالت قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما مِن مُصيبةٍ تُصيب المسلمَ إِلَّا كَفَّر الله عنه بها
حتى الشوكة يشاكها».
وفيهما أيضًا، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما يُصيب المؤمِنُ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَم ولا حَزَنِ ولا أَذًى ولا غَم حتى الشوكة يشاكها إلَّا كفر الله بها من خطاياه». وفي "صحيح ابن حِبَّان"، عن عبد الله بن مغفل رضي ا الله عنه: أنَّ رجلًا
لقي امرأة كانت بغيَّاً في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط إليها يده، فقالت: مه فإنَّ الله قد أذهب الشَّرك وجاء بالإسلام فتركها وولى، فجعل يلتفت خلفه، وينظر إليها حتى أصاب وجهه حائطا ثم أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله . أ وسلم والدم يسيل على وجهه، فأخبره بالأمر، فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: أنت عبد أراد الله بك خيرًا»، ثم قال: «إنَّ الله جل وعلا إذا أراد بعبد خيرًا عجل عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شرا أمسك عن ذنبه حتى يوافي يوم القيامة
كأنه عائر .
الحائط،
وروى الطبراني في "الأوسط"، عن أبي تميمة الهجيمي قال: بينا أنا في حائط من حيطان المدينة إذ بصرت بامرأة، فلم يكن لي هم غيرها حتى حاذتني ثم أتبعتها بصري حتى حاذت الحائط، فالتفت فأصاب فأدماني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقال: «إِنَّ الله عزّ وجل إذا أراد بعبد خيرًا عجّل عقوبة ذنبه، وربنا تبارك وتعالى أكرم من أن
وجهي
يعاقب على ذنب مرتين». قال الحافظ ابن حجر: «إسناده حسن». قلت: كيف يكون حسنًا وفيه هشام بن لاحق أبو عثمان المدائن أو المدني؟! ضعفه شبابة بن سوار، والبخاري والساجي والعقيلي، وترك أحمد حديثه بعد أن روى عنه، لكن قواه النسائي، وقال ابن عدي: «أحاديثه حسان، وأرجو أنه لا بأس به» . وذكره ابن حِبَّان في "الثقات" كما ذكره في "الضعفاء" أيضا، وأبو تميمة تابعي معروف يروي عن أبي هريرة وأبي موسى، وأصل الحديث عن أبي تميمة الهجيمي: أنَّ رجلا كان في حائط من حيطان المدينة... إلخ. ولكن هشام بن لاحق لضعفه واضطراب حديثه نسب القصة
لأبي تميمة، مع أنه ليس بصاحبها ولا حضرها، فالحديث مرسل ضعيف الإسناد، لكنه يتقوى بما قبله من الأحاديث.
هذا وتنقلب الصغيرة كبيرة بانضمام معصية إليها كما سيأتي بحول الله. وذكر كثير من العلماء أنَّ الإصرار على الصغيرة يُصيّرها كبيرة واحتجوا بحديث: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار». وهذا الحديث رواه أبو الشيخ، ومن طريقه الديلمي، من رواية سعيد بن سليمان سعدويه،
عن أبي شيبة الخراساني، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس به مرفوعًا. ومن هذا الطريق رواه العسكري في "الأمثال"، وأبو شيبة ضعيف. ورواه البغوي، ومن طريقه الديلمي من رواية خلف بن هشام، عن
سفيان بن عيينة ، عن الزهري عن أنس به مرفوعا، وفيه راو مجهول. ورواه أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتاب "المبتدأ"، عن سفيان الثوري،
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به. وأبو حذيفة كذَّاب. ورواه الطبراني في "مسند الشاميين" من رواية مكحول، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة، وفي سنده بشر بن عبيد الدارمي متروك. ورواه الثعلبي، وابن شاهين من طريق بشر بن إبراهيم، عن خليفة بن سليمان،
عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أيضًا. بشر بن ابراهيم متروك، وشيخه مجهول. والصحيح أنه من كلام ابن عباس، رواه البيهقي في "الشعب"، من طريق سعيد بن أبي صدقة، عن قيس بن سعد، عن ابن عباس قال: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار». والمقصود أنَّ الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ولا
تقوم به حُجَّة، ولهذا اختار الشوكاني في إرشاد الفحول أنَّ الإصرار على الصغيرة صغيرة، كما أنَّ الإصرار على الكبيرة كبيرة هو الصواب.
أما ما يكفر الكبائر فأمور أربعة
۱ - الحد المرتب على بعضها :
لما رواه الشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال - وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقب في الدنيا فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصاب من ذلك شيئًا ثُمَّ ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه». وفي "معجم الطبراني "الأوسط" بإسناد حسن، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلَّا بالحقِّ، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تشربوا مُسْكِرًا، فمن فعل من ذلك شيئًا فأقيم عليه حده فهو كفَّارةٌ له، ومَن سَتَرَ الله عليه فحِسَابُهُ على الله عزَّ وجلَّ، وَمَن لم يفعل من ذلك شيئًا ضَمِنتُ له على الله الجنَّة».
وروى الترمذي، عن علي عليه السَّلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن أصاب حدًّا فجعل له عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة، ومَن أصاب حدًّا فسَتَرَهُ الله عليه وعفا عنه فالله
أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه». حسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
وفي "المسند" عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن أصاب ذنبًا وأُقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته». قال الحافظ الهيثمي: «فيه راو لم يسم وهو ابن خزيمة، وبقية رجاله رجال ثقات.
قلت: ابن خزيمة هو عُمارة بضم العين وهو ثقة، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: «إسناده حسن».
وروى الطبراني في "الكبير" عن خزيمة بن معمر الأنصاري قال: رجمت امرأة في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال النَّاسِ : حَبِطَ عملها، فبلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «هو كفَّارة ذنبها، وتحشر على ما سوى ذلك». قال الحافظ الهيثمي : «فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني ضعيف». قلت: الحماني بكسر الحاء وتشديد الميم - حافظ مشهور، وثقه ابن معين، وابن
نمير والرمادي، وكان أحمد سيء الرأي فيه، وهو أول من ألف المسند بالكوفة. ورواه ابن السكن، وابن شاهين من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن خزيمة بن معمر به قال ابن السكن تفرد به المنكدر، وهو ضعيف». قلت: لم يقف على رواية الحماني، وهي تبين أنَّ المنكدر لم يتفرد به. قال الحافظ : «وقد خالفه أسامة بن زيد فرواه عن ابن المنكدر، عن أبي
خزيمة بن ثابت، عن أبيه، وهذا أشبه، وفيه اختلاف آخر». قلت: رواية أسامة أخرجها الدارمي في "سننه" وأسامة ضعيف أيضًا، والحديث مضطرب الإسناد كما قال ابن عبدالبر.
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ما عُوقب رجلٌ على ذنبٍ إِلَّا جعله الله كفَّارة لما أصاب من ذلك الذنب». في إسناده ياسين أبي معاذ الزيات، ضعيف متروك، لكنه مؤيد بالأحاديث السابقة.
ولا يعارضها ما رواه أحمد، عن عبد الرزاق عن معمر، والبزار، والحاكم من طريق معمر، عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أدري الحدود كفارات أم لا؟». إسناده على شرط الشيخين.
لأن الأصل عدم العلم، ثم يأتي العلم ناقلا عن الأصل، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدري هل الحدود كفَّارات كما أفاد هذا الحديث، ثُمَّ أدراه الله بأنها كفَّارات كما أفادته الأحاديث المذكورة.
- الاستشهاد في سبيل الله :
روى مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يُغفر للشهيد كلُّ ذنبٍ إِلَّا الدَّين». وروى أيضًا عن أبي قتادة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قام فيهم فذكر أنَّ الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفّر عني خطاياي؟ فقال: «نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مُقبل غير مُذبرٍ». ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كيف قلت؟»، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفّر عنّي خطاياي؟ فقال: «نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب، مُقبل غير مدبر، إِلَّا الدين فإن جبريل قال لي ذلك».
وفي "صحيح ابن حِبَّان" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ السيف تحاءُ للخطايا».
وفي "المسند" بإسناد جيد عن عتبة بن عبدالسلمي رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «القتلى ثلاثة: رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدوّ قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد الممتحن في جنَّة الله تحت عرشه لا يَفْضُلُهُ النبيون إلا بفضل درجة النبوة، ورجلٌ قَرَفَ على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل فتلك مَصْمَصَةٌ محت ذنوبه وخطاياه، إنَّ السيف تماء للخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنَّة شاء، فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدوّ قاتل حتى
يقتل فذلك في النَّار، إنَّ السيف لا يمحو النفاق». صححه ابن حبان. وروى العقيلي في "الضعفاء"، من طريق أصرم بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أنس مرفوعا: «لا يمرُّ السيف بذنب إلا محاه». وأصرم ضعيف.
٣- القتل: بمعنى أن مرتكب الكبيرة إذا قُتِل ظلما كان القتل كفَّارة له.
روى البزار بإسناد رجاله ثقات، عائشة
عن
رضي
الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قَتْلُ الصَّبِرِ لا يمرُّ بذنبٍ إِلَّا تَحَاهُ». قتل الصبر»: أن يُقتل الشخص مقيَّدًا، والحديث يفيد شرطيته في التكفير. وروى سعيد بن منصور، عن عمرو بن شعيب، عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلَّم قال: «مَن قُتل صَبْرًا كان كفَّارة الخطاياه». وهذا مُعضَلٌ.
وروى البزار، من طريق داود بن عمرو الصبي قال: حدثنا صالح بن موسى: ثنا عبدالعزيز بن رفيع عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «قَتْلُ الرجل صبرًا كفَّارة لما قبله مِن الذنوب». صالح بن موسى متروك.
ورواه أبو الأحوص و محمد بن الفضل بن عطية، عن عبدالعزيز بن رفيع،
عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده به. قال الدارقطني: «هذا أشبه». قلت: يريد أنَّ هذ الرواية أشبه بالصواب من رواية صالح بن موسى. فالحديث من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص لا من رواية أبي هريرة، ومحمد بن الفضل كذَّاب، لكن العبرة برواية أبي الأحوص سلام بن سليم،
وهو ثقة من رجال الصحيحين"، وكذلك شيخه عبدالعزيز بن رفيع - بصيغة التصغير ، فهذا الطريق على شرط ،الحسن، بل قال الذهبي: «أعلى مراتب الحسن: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأمثال ذلك مما قيل إنه صحيح، وهو أدنى مراتب الصحيح".اهـ
وروى الطبراني بإسناد صحيح عن الحسن - هو البصري - قال: كان زياد يتتبع شيعة علي عليه السَّلام فيقتلهم، فبلغ ذلك الحسن بن علي عليهما السلام فقال: «اللهم تفرد بموته، فإن القتل كفَّارة».
دعا الحسن بن علي أن يموت زياد بن أبيه حتف أنفه؛ لأنه لو مات مقتولا كان القتل كفَّارة لذنوبه.
وروى الطبراني أيضًا عن ابن مسعود - في الذي يصيب الحدود ثم يقتل عمدا - قال: «إذا جاء القتل محا كل شيء».
قلت: شرط القتل المكفّر للذنوب أن يكون عن عمد؛ لأن القتل المتعمد
يحمل عن المقتول ذنوبه يوم القيامة، فإن كان القتل خطأ لم يكفر الذنوب لأنه
لا إثم فيه على القاتل.
أعمال ثبت فيها أنها تكفر الكبائر
كالحج المبرور، وقيام ليلة القدر، وصلاة التسابيح، ونحو ذلك مما أفرد لجمعه مؤلفات للحافظين المنذري وابن حجر، وللقابوني، والحطاب شارح
المختصر، وسيدي محمد بن جعفر الكتاني، وشقيقنا أبي الفيض رحمهم الله. وللحافظ ابن حجرٍ جزء اسمه "قوة الحجاج لعموم مغفرة الحجاج" طبعته مع تعليقاتي عليه، وتلك المؤلفات مطبوعة إلا مؤلف المنذري والحطاب وشقيقنا، وكتاب القابوني طبعته مع تعليقاتي عليه أيضًا واسمه: "بشارة
المحبوب بتكفير الذنوب". نسأل الله أن يمحو آثامنا ويحسن ختامنا إنه جواد كريم غفور رحيم.
الحجج البينات
ونفحهم
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله الفتّاح العليم الوهّاب الكريم، منح أولياءه منحةً من عطائه، نفحة من آلائه، قربهم إليه ،بمحبته وحفظهم من طوارق الأغيار برعايته، فكان سمعهم وبصرهم ويدهم، ولا بحلول ولا اتحاد، لكن عناية خاصة كعناية الأم بصغار الأولاد.
والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلّم قطب الوجود، وشمس دائرة الشهود عين الأعيان والجوهر الفرد في نوع الإنسان: مُنَزَّهُ عَنْ شَرِيكَ في محاسِنِهِ فجوهَرُ الحُسْنِ فيه غيرُ مُنقَسِمٍ والرضى عن آله الكرام وصحابته الأعلام، ومن تبعهم بإحسان إلى قيام الساعة وساعة القيام.
أما بعد: فقد طلب مني صديقي الأستاذ الفاضل الحاج محمد أحمد عمارة - جنبه الله آفات الوقت وأغياره - أن أُحرّر له رسالة في كرامات الأولياء، وبيان
جوازها عقلا، ووقوعها نقلًا، فتأخّرت عن إجابته مدةً لأسباب عدة. أهمها: اشتغالي بكتاب "إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان" وهو الكتاب الذي رددتُ به على بعض مبتدعة العصر ممن قل نصيبهم في العلم وكثر خطأهم في الفهم.
فلما قضى الله بإتمامه، واستوفى الردُّ غاية مرامه، بادرت إلى إجابة الطلب، وأسرعت إلى تلبية الرغب، وألفت هذه الرسالة التي سميتها: بـ "الحجج البينات في إثبات الكَرَامَات"، وتجنَّبتُ فيها الإكثار الحمل والإقلال المخل جعلها الله هدى للقاريء المستفيد، وقدّى في عين الحاسد العنيد، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الحجج البينات
مقدمة
في معنى الولي
قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
)
الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: ٦٢ - ٦٤].
قال الزمخشري في "الكشاف": «الوليُّ من تولى الله بالطاعة فتولاه الله بالكرامة». وقال السَّعد التفتازاني في "شرح العقائد النسفية" ، والجلال المحلّي في "شرح جمع الجوامع ": «الوليُّ العارف بالله حسبما يُمكن، المواظب على الطاعات المجتنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات».
وقيل : الولي من يُحب أخاه المؤمن لا يحبه إلا الله، وقيل غير ذلك.
وقد تبدو هذه الأقوال لأوّل وهلة - متنافرة مختلفة، لكنها في التحقيق متوافقة مؤتلفة، إذ ما من ولي إلَّا وهو مُتصفُ بما ذكر فيها من الصفات، ومتسم بغيرها من كريم الخلال والسمات، وقد جاءت الأحاديث مختلفة في هذا الباب كاختلاف الأقوال، وذلك محمول على اختلاف الأحوال مع قصد
الشارع الحضّ على أنواع من فضائل الأعمال.
ففي "صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تَقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أَحَبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتَّى أَحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويَدَهُ التي يبطش بها، ورِجْلَهُ التي يمشي بها، ولين
سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه...» الحديث.
وفي "سنن أبي داود عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ من عباد الله لأناسًا ما هُم بأنبياء ولا شُهداء، يَغبِطُهُم الأنبياء والشُّهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله تُخبرنا من هم؟ قال: هم قومٌ تَحابُّوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنَّ وجوههم لنور، وإنَّهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف النَّاس، ولا يحزنون إذا حَزِنَ النَّاس، وقرأ هذه الآية: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس : ٦٢] . وروى النَّسائي عن أبي هريرة نحوه. وروى ابن أبي الدنيا في "كتاب الأولياء" بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه قال: «ثلاث من كُنَّ فيه استَحَقَّ ولاية الله: حِلمٌ أصيل يدفع سفَه السَّفِيه عن
نفسه، وورع صادق يحجزه عن معاصي الله، وخُلقٌ حَسَنٌ يُدارِي بِهِ النَّاسِ». وروى أحمد بإسناد ضعيف عن عمرو بن الجموح رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يجد العبد صَرِيح الإيمان، حتَّى يُحِبَّ الله تعالى، ويُبغضَ الله، فإذا أَحَبَّ الله تبارك وتعالى، وأبغض الله تبارك وتعالى فقد استَحَقَّ الولاء من الله». ورواه ابن أبي الدنيا في "الأولياء" وزاد في آخره: «قال الله: إنَّ أوليائي من
عبادي وأحبائي من خَلقي الذين يُذكرون بذكري وأذكر بذكرهم». وروى النَّسائيُّ والبزار عن ابن عباس قال: «سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: من هم أولياء الله ؟ قال : هم الذين يُذكر الله عند رؤيتهم". ورواه ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وغيرهما عن سعيد بن جبير .
مرسلًا
وهو أصح وأشهر.
وروى ابن أبي الدنيا في "الأولياء" عن ابن عباس مرفوعا: «ألا أخبركم بخير جلسائكم؟ من ذَكَّركم الله ،رؤيتُه، وزادكم في علمكم منطقه، وذَكَّركم
بالآخرة عمله».
صوم
وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ بُدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة ولا صلاة، ولكن دخلوها برحمة الله وسلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، والرحمة بجميع المسلمين». وروى ابن أبي الدنيا عن بكر بن خنيس يرفعه: «علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئًا أبدًا». وهذا معضل.
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يقول الله تعالى : إنَّما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، ولم يتعاظم على خَلْقي، وكفَّ نَفْسَهُ عن الشَّهوات ابتغاء مرضاتي، فقطع نهاره في ذِكْري، ولم يبتْ مُصرا على خطيئة، يُطعم الجائع، ويكسو العاري، ويرحم الضعيف، ويُؤوي الغريب، فذاك الذي يُضيء وجهه كما يُضيء نور الشمس، يدعوني فألبي، ويسألني فأعطي، ويُقسم عليَّ فَأَبَر قَسَمَهُ، أجعل له في الجهالة عِلْمًا، وفي الظُّلْمَةِ نورًا، أكلأه بقوت، وأسْتَحْفِظُهُ ملائكتي».
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى، إذا تتبعها الباحث استخلص من مجموعها أنَّ الوليَّ مَن تولَّى الله بصنوف القربات، فتولاه الله بأنواع من المكرمات، حققنا الله بولايته، وكلانا بقوته، إنَّه قريب مجيب.
باب
في بيان جواز الكرامات ووقوعها
وهو يشتمل على فصول:
الفصل الأول
الكرامة: اسم من الإكرام والتكريم، تقول: أكرمت العالم وكَرَّمته إكراما وتكريما، إذا فعلت معه ما يدل على تعظيمه واحترامه والاسم: الكرامة، كما يُقال : وَكَّلَه توكيلا ووكالة وحمله تحميلًا وحمالة، في نظائر أخرى تعرف من
كتب اللغة.
والكرامة في اصطلاح أهل السُّنَّة القائلين بها: هي أمر خارق للعادة
يُظهره الله على يد مؤمن صالح غير مقرون بدعوى النبوة. وقد قسَّموا الخوارق التي تظهر من بعض الأشخاص عدة أقسام فقالوا: الخارق للعادة إن ظهر على يد مُدَّعي النُّبوَّة وفق طلبه فهو المعجزة، وإن كان على خلاف طلبه فهو الإهانة: مثل ما يُروى أنَّ مسيلمة الكذاب دعا لأعور بأن يفتح الله عينه فعمي، ومسح بيده رأس يتيم فقرع، وبلغه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تَفَل في بئر فكثر ماؤها وعذب - بعد أن لم يكن كذلك - فتفل هو في بئر ليعذب ماؤها فصار ملحًا أجاجاً.
وإن ظهر الخارق على يد مؤمن صالح فهو الكرامة، أو على يد فاسق فهو الاستدراج، وقد يقع الخارق لبعض عوام المسلمين تخليصا له من محنة أو مكروه، ويُسمَّى مَعونةٌ.
ومذهب أهل السنة في كرامات الأولياء أنها حق؛ لأنها أمورٌ ممكنة دلّ على
وقوعها الكتاب والسنة كما سيأتي.
قال أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المضلين": «جمله ما عليه أهل الحديثِ وأهلُ السُّنَّة: الإقرار بالله وملائكته وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وما جاء من عند الله ، وما رواه الثّقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لا يردّون من ذلك شيئًا»، وذكر العقيدة إلى أن قال: «وأنَّ الصَّالحين قد يجوز أن يَخصَّهم الله تعالى بآياتٍ تَظهر عليهم، وقال في آخر العقيدة: «فهذه جملة ما يؤمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب» . اهـ
وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق البخاري الكلاباذي في كتاب " التَّعرُّف لمذهب أهل التَّصرُّف" في الباب السادس والعشرين منه ما نصه: أجمعوا على إثبات كرامات الأولياء، وإن كانت تدخل في باب المعجزات كالمشي على الماء، وكلام البهائم، وطَيّ الأرض، وظهور الشيء في غير موضعه ووقته، وقد جاءت بها الأخبار وصحت الروايات، ونطق بها التَّنزيل من قصَّة الذي عنده علم من الكتاب في قوله تعالى: أنا انيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [النمل: ٤٠]، وقصة مريم حين قال لها زكريَّا: أَنَّ لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ [آل عمران: ۳۷] ، وقصّة الرجلين اللذين كانا عند النبي صلى الله عليه
الله
وآله وسلم ثُمَّ خرجا فأضاء لهما سَوْطَاهما، وغير ذلك.
وجواز ذلك في عصر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وغير عصره واحد
وذلك أنه إذا كانت في عصر النبي للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم على معنى التصديق، لكان في غير عصره على معنى التصديق، وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لعُمر بن الخطاب رضي الله عنه حين نادى سارية قال: «يا سارية بن حصن الجبل الجبل، وعمر بالمدينة وسارية في وجه العدو على مسيرة شهرٍ، والأخبار في هذا كثيرة وافرة» . اهـ ثُمَّ ذكر بقية المذاهب والأقوال فلينظر كلامه. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "الرسالة": «ظهور الكرامات على الأولياء جائز، والدليل على جوازه أنَّه أمر موهوم حدوثه في العقل لا يُؤدِّي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فوجب وصفه سبحانه بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدورًا الله سبحانه فلا شيء يمنع جواز حصوله، وظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله، فمن لم يكن صادقا فظهور مثلها عليه لا يجوز ، والذي يدلُّ عليه أنَّ تعريف القديم سبحانه إيَّانا حتى نُفرّق بين من كان صادقًا في أحواله وبين من هو مبطل من طريق الاستدلال أمر موهوم، ولا يكون ذلك إلا باختصاص الولي بما لا يوجد مع المفتري في دعواه، وذلك الأمر هو الكرامة التي أشرنا إليها، ولابد أن تكون هذه الكرامة فعلا ناقضًا للعادة في أيام التكليف ظاهرا على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله» . اهـ
وقال أيضًا - بعد كلام في الكرامة - : وبالجملة فالقول بجواز ظهورها على الأولياء واجب، وعليه جمهور أهل المعرفة، ولكثرة ما تواتر بأجناسها الأخبار والحكايات صار العلم بكونها وظهورها على الأولياء في الجملة علما قويا انتفى عنه الشكوك» . اهـ
وقال الإمام النووي في "بستان العارفين": «اعلم أنَّ مذهب أهل الحق إثبات كرامات الأولياء، وأنَّها واقعةٌ موجودةٌ مستمرة في الأعصار، ويدل عليها دلائل العقول وصرائح النُّقول، أما دلائل العقل فهي أمر يمكن حدوثه، ولا يؤدّي وقوعه إلى رفع أصل من أصول الدين، فيجب وصف الله تعالى بالقدرة عليه، وما كان مقدورًا كان جائز الوقوع، وأما التقول فآيات في القرآن العظيم وأحاديث مستفيضة». اهـ
وفي "شرح المقاصد" للسعد ما نصه: ظهور كرامات الأولياء تكاد تلحق بمعجزات الأنبياء، وإنكارها ليس بعجيب من أهل البدع والأهواء، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما رُوي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة: أنَّ من
اعتقد جواز ذلك يكفر .
والإنصاف ما ذكره الإمام النسفي حين سُئل عمَّا يُحكى: «أنَّ الكعبة كانت تزور أحدًا من الأولياء، هل يجوز القول به؟ فقال: نَقُضُ العادة على سبيل
الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة» . اهـ
وفي "العقائد النَّسَفِيَّة" للعلامة نجم الدين النسفي وشرحها للعلامة سعد الدين التفتازاني ما نصه: وكرامات الأولياء حق، والدليل على حقية الكرامة
ما تواتر عن كثير من الصحابة ومن بعدهم، بحيث لا يمكن إنكاره خصوصا الأمر المشترك وإن كانت التفاصيل آحادًا، وأيضا الكتاب ناطق بظهورها من مريم ومن صاحب سليمان عليهما السَّلام وبعد ثبوت الوقوع لا حاجة إلى إثبات الجواز».
آصف بن
ثُم أورد كلامًا يُشير إلى تفسير الكرامة، وإلى تفصيل بعض جزئياتها المستبعدة جدا فقال: «فتظهر الكرامة على طريق نقض العادة للولي من قطع المسافة البعيدة في المدة القليلة، كإتيان صاحب سليمان عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو برخيا على الأشهر - بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف مع بعد المسافة، وظهور الطعام والشراب واللباس عند الحاجة إليها كما في حق مريم؛ فإنَّه قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عند الله ﴾ [آل عمران: ۳۷] ، والمشي على الماء كما نقل عن كثير من الأولياء، وفي الهواء كما نقل عن جعفر بن أبي طالب ولقمان السرخسي وغيرهما، وكلام الجماد والعجماء، واندفاع المتوجّه من البلاء، وكفاية المهم من الأعداء. أما كلام الجماد فكما رُوى أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء رضي !
عنهما قصعة فسبحت وسمعا تسبيحها.
الله
وأما كلام العجماء فكتكليم الكلب لأصحاب الكهف، وكما رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بينها رجلٌ يَسُوقُ بقرةً له قد حَمَلَ عليها إِذا التَفَتَت البقرة إليه فقالت: إنّي لم أُخلق لهذا ولكنّي إِنَّما خُلقتُ للحرثِ؛ فقال النَّاسُ:
سُبحانَ الله أَبقرةٌ تَكَلَّمُ؟ فقالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: آمنت بهذا». وغير ذلك من الأشياء مثل رؤية عمر رضي الله عنه وهو على المنبر بالمدينة جيشه بنهاوند، حتّى أنَّه قال لأمير جيشه يا سارية الجبل الجبل، تحذيرا له من وراء الجبل لمكر العدوّ هناك، وسماع سارية كلامه مع بعد المسافة، وكشرب خالد رضي الله عنه السُمَّ من غير تضرر به، وكجريان النيل بكتاب عمر
رضي الله عنه، وأمثال هذا أكثر من أن تُحصى.
ولما استدل المعتزلة المنكرون لكرامات الأولياء: بأنه لو جاز ظهور خوارق
العادات من الأولياء لاشتبه بالمعجزة فلم يتميز النبي من غيره. أشار إلى الجواب بقوله: (ويكون ذلك أي ظهور خوارق العادات من الأولياء أو الولي الذي هو من آحاد الأمة (معجزة للرسول الذي ظهرت هذه الكرامة لواحد من أمته؛ لأنه يظهر بها أي بتلك الكرامة (أنه ولي، ولن يكون وليا إلا وأن يكون محقاً في ديانته، وديانته الإقرار باللسان والتصديق بالقلب (برسالة رسوله) مع الطاعة له في أوامره ونواهيه، حتى لو ادعى هذا الولي
الاستقلال بنفسه وعدم المتابعة لم يكن وليا ولم يظهر ذلك على يده. والحاصل أن الأمر الخارق للعادة هو بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام معجزة، سواء ظهر ذلك من قِبله أو من قِبَل آحاد من أمته، وبالنسبة إلى الولي كرامة لخلوه عن دعوى نبوة من ظهر ذلك من قبله، فالنبي لابد من علمه بكونه نبيا ومن قصده إظهار خوارق العادات، ومن حكمه قطعا بموجب المعجزات بخلاف الولي.اهـ
وقال اللقاني في "الجوهرة":
وأثبتن لِلأَوْلِيَا الكَرَامَه وَمَنْ نَفَاهَا فَانْبِذَنْ كَلامَــــه ونصوص العلماء في هذا كثيرة جدا نكتفي منها بما ذكرناه.
وأنكر المعتزلة إلَّا أبا الحسين البصري الكرامات جُملةً، ووافقهم من الأشعرية أبو إسحاق الإسفراييني وأبو عبد الله الحليمي الشافعيَّان، واستدلوا بأدلَّةٍ أجاب عنها أهل السُّنَّة بأجوبة مبسوطة في كتب العقائد وغيرها لا داعي إلى إيرادها.
وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: وَ عَلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولِ ﴾ [الجن: ٢٧،٢٦] ما نصه: «في هذا إبطال للكرامات؛ لأنَّ الذين تُضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل،
وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب». اهـ وتعقبه العلامة ابن المنير في "الانتصاف" بما نصه: «ادَّعى عاما واستدل بخاص، فإنَّ دعواه إبطال الكرامات بجميع أنواعها، والمدلول عليه بالآية إبطال اطلاع الولي على الغيب خاصَّةً، فيجوز إعطاء الولي الكرامات كلها إلَّا الاطلاع على الغيب» . اهـ
وقد اختلف العلماء في الكرامات اختلافاتٍ كثيرة لخصها إمام الحرمين في كلامه، حيث قال: الذي صار إليه أهل الحقِّ جواز انحراق العادة في حق الأولياء، وأطبقت المعتزلة على إنكار ذلك، ثُمَّ مِن أهل الحق من صار إلى أنَّ الكرامة الخارقة للعادة شرطها أن تجري من غير اختيار من الولي وصار هؤلاء
إلى أن الكرامة تُفارق المعجزة من هذا الوجه، وهذا القول غير صحيح. وصار آخرون منهم إلى تجويز وقوع الكرامة على حكم الاختيار، ولكنهم منعوا وقوعها على مقتضى الدَّعوى فقالوا: إذا ادَّعى الولي الولاية واعتضد في إثبات دعواه بما يخرق العادة فإنَّ ذلك ممتنع، وهؤلاء فرقوا بين المعجزة والكرامة بهذا، وهذه الطَّريقة غير مَرضيَّة أيضًا، ولا يمتنع عندنا ظهور خوارق العوائد مع الدعوى المفروضة. وصار بعض أصحابنا إلى أنَّ ما وقع معجزة لنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامةً لولي، فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر وينقلب العصا ثعبانا، وتحيي الموتى إلى
غير ذلك من آيات الأنبياء كرامة لولي، وهذه طريقة غير سديدة أيضًا. والمرضي عندنا جواز خوارق العادات في معارض الكرامات، وغرضنا من إبطال هذه المذاهب والطُّرق إثبات الصحيح عندنا، وأما الفرق بين المعجزة والكرامة فلا يفترقان في جواز العقل إلَّا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النُّبوَّة، ووقوع الكرامة دون ادّعاء النُّبوَّة».
وذكر كلاما في هذا المعنى إلى أن قال: والفرق بين السحر والكرامة: أنَّ السحر لا يظهر إلا على فاسق، وليس ذلك من مقتضيات العقل، ولكنه متلقى من إجماع الأمة، ثُمَّ الكرامة وإن كانت لا تظهر على فاسق معلن بفسقه فلا تشهد بالولاية على القطع، إذ لو شهدت بها لأمن صاحبها العواقب، وذلك لم يجز لولي
في كرامة باتفاق . اهـ نقله الإمام النووي في "بستان العارفين" وسَلَّمه. وقال الإمام أبو بكر بن فورك: المعجزات دلالات الصدق، ثُمَّ إن ادَّعى صاحبها النُّبوَّة فالمعجزات تدلُّ على صدقه في مقالته، وإن أشار صاحبها إلى الولاية دلّت المعجزة على صدقه في حاله فتُسمَّى كرامة ولا تُسمَّى معجزةً، وإن كانت من جنس المعجزات للفرق . اهـ وقال أيضًا من الفرق بين المعجزات والكرامات: أنَّ الأنبياء عليهم السلام مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه سترها وإخفاؤها، والنبي يدعي ذلك ويقطع القول به، والوليُّ لا يدَّعيها ولا يقطع بكرامته لجواز أن يكون ذلك مكرا . اهـ
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي: «المعجزات تختص بالأنبياء والكرامات تكون للأولياء كما تكون للأنبياء، ولا تكون للأولياء معجزة؛ لأنَّ
من شرط المعجزة اقتران دعوى النُّبوَّة بها، والمعجزة لم تكن معجزة لعينها وإنَّما كانت معجزة لحصولها على أوصاف كثيرة، فمتى اختل شرط من تلك الشرائط لا تكون معجزةً، وأحد تلك الشرائط دعوى النُّبوَّة، والوليُّ لا يدعي النُّبوَّة والذي يظهر عليه لا يكون معجزة» . اهـ قال الأستاذ القشيري: وهذا القول الذي نعتمده وندين به، فشرائط المعجزات كلُّها أو أكثرها توجد في الكرامة إلا هذا الشرط الواحد، والكرامة فعل لا محالة محدث؛ لأنَّ ما كان قديما لم يكن له اختصاص بأحد، وهو ناقض للعادة، وتحصل في زمان التكليف وتظهر على عبد تخصيصا له وتفضيلا، وقد تحصل بدعائه واختياره وقد لا تَحصُل، وقد تكون بغير اختياره في بعض الأوقات، ولم يُؤمر الولي بدعاء الخلق إلى نفسه، ولو ظهر شيءٌ من ذلك على من يكون أهلا له الجاز» . اهـ
قلت: قوله وتحصل في زمان التكليف»، هذا تقييد ليس بلازم كما قال بعضهم: الجواز أن تحصل الكرامة في غير زمان التكليف، كأن الله يكرم بها صبيا أو ميتا، وقد حصل ذلك كثيرًا، ونصوص العلماء في جواز الكرامات كثيرة يعسُر تتبعها.
وفي "طبقات الشَّافعيّة الكُبرى" للتّاج الشبكي بحث جيد في ذلك مذكور في (ص ٥٧ جـ ٢) من الطبقات فليراجع، وللعلامة عماد الدين إسماعيل بن هبة الله بن باطيس كتاب "مزيل الشُّبهات في إثبات الكرامات"، وذكر فيه من النصوص وقدرًا لا بأس به من الكرامات المنقولة عن الصحابة والتابعين وغيرهم، وهو واحدٌ من مئات أفردوا مبحث الكرامات بالتأليف.
جملة
(تنبيه): كل كرامة لولي معجزة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلّم قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في "الرسالة" - بعد أن استدل لوقوع الكرامات بقصَّة صاحب سليمان عليه الصَّلاة والسَّلام، وبقول عمر رضي الله عنه يا سارية الجبل - ما نصه: فإن قيل: كيف يجوز إظهار هذه الكرامات الزائدة في المعاني على معجزات الرسل؟ وهل يجوز تفضيل الأولياء على الأنبياء عليهم السلام؟
قيل: هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؛ لأنَّ كلَّ من ليس بصادقٍ في الإسلام لا تظهر عليه الكرامة، وكل نبي ظهرت كرامة على واحد من أمته فهي معدودةٌ من جملة معجزاته، إذ لو لم يكن ذلك الرسول صادقًا لم تظهر على يد من تابعه الكرامة.
فأما رتبة الأولياء لا تبلغ رتبة الأنبياء عليهم السلام للإجماع المنعقد على ذلك. وهذا أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه سُئل عن هذه المسألة فقال: مثل ما حصل للأولياء كمثل زِقٌ فيه عسل ترشح منه قطرة، فتلك القطرة مثل ما
لجميع الأولياء، وما في الظرف مثل ما لنبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم» . اهـ قلت: ما أجاب به الأستاذ القشيري تقدَّم معناه في كلام صاحب "العقائد
النَّسَفِيَّة"، وإليه يُشير قول الإمام البوصيري رحمه الله :
والكَرَامَاتُ مِنْهُمُ مُعْجِزاتٌ نالها مِنْ نَوَالِكَ الأَولِياءُ وبهذا: يُجاب عما يعترض به منكروا الكرامات في هذا العصر حيث يقولون: إنَّ ما تروونه عن الأولياء لم يحصل كثير منه للأنبياء وقد كانوا أولى بذلك، وهذا جهل أو تجاهل من هؤلاء المعترضين؛ لأنَّ من المعلوم بالضرورة
أنَّه ليس من شرط النبي أن يأتي بجميع الخوارق أو أكثرها، وإنما شرطه أن يأتي بما يكون دالا على نبوّته، وهذا هو ما حصل للأنبياء عليهم السلام فإنَّ كلَّ نبي أُعطِيَ ما مِثله آمن عليه البَشَرُ». كما في الحديث الصحيح، فإذا ظهرت
منهم
كرامة على ولي كانت معجزة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما لم تحصل له مباشرة الحصول الكفاية بغيرها من المعجزات العظيمة، خصوصا القرآن العظيم الذي أعجز الخلائق أجمعين، وهذا واضح لمن أنصف وطرح التعصب جانبا. والله ولي التوفيق.
الدليل على وقوع الكرامات وحصولها
اعلم أن المنقول من أنواع الكرامات عن الصحابة والتابعين وتابعيهم وزهاد الأمة وصلحائها، وصُلحاء الأمم السابقة شيء كثير جدا لا يكاد يُحصى، بحيث يُعدُّ مُنكِره بالغًا حدَّ النهاية في الجهل والمكابرة، فلا جواب له إلا الإعراض عنه كما قال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَهلِينَ ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وستثبت في هذه الأوراق ما فيه الكفاية مُستمدّين من الله العون والهداية،
مبتدئين بما ورد في القرآن من ذلك، وهو بضعة مواضع.
منها: قوله تعالى في شأن مريم عليها السّلام: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: ۳۷]. قال أهل التفسير : كان زكريا عليه السَّلام يدخل عليها وهي صغيرة في كفالته، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وقد
أخبر الله عنها أنها كانت صديقة، والصديقيَّة: أعلى مقام في الولاية. ومنها: قول الله تعالى في شأن أهل الكهف : فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي
الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ) ثُمَّ بَعَثْتَهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف: ۱۱ ، ۱۲] ، إلى آخر ما قصّه الله عنهم، وليسوا أنبياء بالإجماع.
ومنها: قول الله تعالى في قصَّة صاحب سليمان عليه السّلام: قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمُ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءَانِيكَ بِهِ - قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَوَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ، قَالَ هَذَا مِن
فَضْلِ رَبِّي الآية [النمل: ٤٠]، وليس نبيا بالإجماع.
ومنها: قصة الخضر وما جرى على يده من الكرامات، بناءً على أنه لم يكن
نبيا وهو المشهور عند جمهور الأشاعرة وجماعة الصُّوفيَّة، قال النووي: «وهذا
خلاف المختار»، قال: «والذي عليه الأكثرون أنه كان نبيا»،
قلت: وهو الصحيح.
الفصل الثاني
في ذكر بعض أحاديث تعد على طريق الإجمال أصولا لأنواع من
الكرامات
ثبت في "صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «القد كان فيها قبلكم من الأُمَمِ مُحدَّثُونَ، فَإِن يكن فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَر». وفي رواية: «قد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل يُكَلَّمُون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَر».
وفي "صحيح مسلم " عن عائشة، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّه كان يقول: «قد كان يكون في الأُمم قبلكم تُحَدَّثُون، فإن يكن في أُمَّتِي منهم أَحَدٌ
فعُمَرَ منهم». قال ابن وَهْبٍ: تفسير «حَدَّثُونَ»: مُلْهَمُونَ.
في هذا الحديث: إثبات كرامات الأولياء كما قال الإمام النووي رضي الله عنه، والمحدث - بفتح الدال المشددة - اختلف في تأويله، فقال الأكثرون: هو
الملهم كما قال ابن وهب.
قالوا: وهو الرجل الصَّادق الظنَّ يُلقى في روعه شيءٌ من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به.
وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد. وقيل : مُكَلَّم تُكلّمه الملائكة بغير نبوَّة كما سبق في إحدى روايتي البخاري. وجاء في حديث أبي سعيد الخدري قيل: يا رسول الله وكيف يُحدث؟ قال تتكلم الملائكة على لسانه». رواه الجوهري في "فوائده".
قال الحافظ : ويُحتمل ردُّه إلى المعنى الأول أي: تكلمه في نفسه وإن لمير
مكلما في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام، وقوله: «فإن يكن في أُمَّتِي أَحَدٌ الخ. قال الحافظ : قيل لم يورد هذا القول مورد للترديد، فإنَّ أُمَّته أفضل الأمم،
وإذا ثبت أنَّ ذلك وُجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى، وإنما أورده مورد التأكيد كما يقول الرجل: إن يكن لي صديقٌ فإنَّه فلان، يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، ونحوه قول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقي، وكلاهما عالم بالعمل، لكن مراد القائل أن تأخيرك حقي عمل من عنده شك في كوني عملت.
وقيل : الحكمة فيه أنَّ وجودهم في بني إسرائيل كان قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واحتمل عنده صلى الله عليه وآله وسلم ألا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك - أي حصل الاستغناء بالقرآن - حتى أنَّ المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما وقع له بل لابُدَّ من عرضه على القرآن، فإن وافقه أو وافق السنة عمل به وإلا تركه، وهذا وإن جاز أن يقع لكنه نادر ممن يكون أمره منهم مبنيا على اتباع الكتاب والسنة، وتمحضت الحكمة في وجودهم وكثرتهم بعد العصر الأول في زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه، وقد تكون الحكمة في تكثير هم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة
الأنبياء فيها لكون نبيها خاتم الأنبياء عُوّضوا بكثرة الملهمين». اهـ وأخرج الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الطب النبوي"، والترمذي الحكيم في "النوادر" عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤمِنِ، فَإِنَّه يَنظُرُ بنورِ ال الله .
ورواه الترمذي في "جامعه" عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا، ورواه ابن جرير وأبو نعيم من حديث ابن عمر وهو حديث حسن كما قال الحافظ
الهيثمي والحافظ السيوطي، ولم يُصب ابن الجوزي في الحكم عليه بالوضع. وهذا الحديث أصل في الكشف الذي يقع لكثير من الأولياء، تجد الواحد
منهم يُكاشف الشخص بما حصل له في غيبته كأنه كان حاضرا معه. وسبق في المقدمة حديث البخاري: من عادى لي وَلِيًّا فقد آذنْتُهُ بالحَرْبِ» الحديث. وهو أصل فيما يُكرم به الأولياء من إجابة الدعاء، وفيما ينزل ممن
آذاهم من البلاء. وأخرج الطبسي في "الترغيب " ، والديلمي في "مسند الفردوس"، وأبو عبد الرحمن السلمي في "الأربعين" التي له في التصوف، بإسناد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ من العِلْمِ كَهَيْئَةِ المَكْنُونِ لا يَعلَمُه إِلَّا العُلَماء بالله تعالى، فإِذا نَطَقُوا بِه لَا يُنكِرُهُ إِلَّا أهل الغرة بالله عزَّ وجلَّ».
وأخرج المروَزِيُّ في زوائد الزهد" لعبد الله بن المبارك قال: حدثنا أبو معاوية، أنبأنا حجّاج، عن مكحول، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن أَخلَصَ الله أربعين يومًا ظهرت ينابيعُ الحِكْمَةِ من قلبه على لِسَانِه». هذا إسناد صحيح لكنه مرسل ، وقد ورد موصولا من حديث أبي أيوب في "حلية أبي نعيم" بإسناد ضعيف.
وسبق في المقدمة حديث ابن عباس القدسي: «إِنَّما أتقبَّلَ الصَّلاة من
تواضَعَ لعَظَمَتي... الحديث. وفيه: «أجعل له في الجهالة علما».
فهذه الأحاديث أصل فيما يفاض على الأولياء من العلوم والمعارف والأسرار مما قد يُنكره بعض الأغرار الذين يجهلون أو يتجاهلون فضل الله على
عباده المخلصين، فيتهمون الأولياء بالزندقة والخروج على الدين. ورأيت الذهبي قال في ترجمة ذي النون المصري ما نصه: «كان ممن امتحن وأُوذي لكونه أتاهم بعلم لم يعهدوه ، كان أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال وفي مقامات الأولياء، فقال الجهلة: هو زنديق، قال السلمي: لما مات أظلت الطيور جنازته . اهـ
وروى الحاكم والخطيب بسند صحيح عن إسماعيل بن إسحاق السراج قال: «قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أنَّ الحارث هذا – يعني المحاسبي- يُكثر السكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه لفعلت، وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا وصلُّوا العتمة ثُمَّ قعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت إلى قريب نصف الليل، ثُمَّ أخذ الحارث في الكلام وكأنَّ على رؤوسهم الطَّير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يخر، ومنهم من يزعق، وهو
في كلامه، فصعدت الغرفة فوجدت أحمد قد بكى حتى غُشي عليه. فلما تفرقوا قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء، ولا سمعت في علم
الحقائق مثل كلام هذا، وعلى هذا فلا أرى لك صحبتهم . اهـ قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب": «إنَّما نهاه عن صحبتهم؛ لعلمه بقصوره عن مقامهم، فإنَّه مقامٌ ضَيَّقٌ لا يسلكه كل أحد ويخاف على من يسلكه ألا يوفيه حقه» . اهـ
وروى الحافظ الخطيب في "تاريخ بغداد": قال أخبرنا أبو عبدالرحمن
إسماعيل بن أحمد الحيري، أنبأنا محمد بن الحسين السلمي، قال: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يحكي عن ابن الأعرابي قال: قال أبو حمزة: كان الإمام أحمد بن
حنبل يسألني في مجلسه عن مسائل، وكان يقول : ما تقول فيها يا صوفي؟
الفصل الثالث
فيما حَدَّثَ به النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من كرامات صلحاء الأمم السابقة
ثبت في "الصحيحين عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «انطَلَقَ ثلاثةُ رَهْطٍ ممن كان قبلكم حَتَّى أَوَوْا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحَدَرَتْ صخرةٌ من الجبل فسدَّتْ عليهم الغار فقالوا: إنَّه لا يُنجِيكُم من هذه الصخرةِ إلَّا أن تدعوا الله بصَالِحِ أعمالكم. فقال رجلٌ منهم: اللهمَّ كان لي أَبَوَانِ شيخان كبيران، وكنت لا أَغْبِقُ قبلهما - أي لا أُقدِّمُ في شُرب اللبن عليهما - أهلا ولا مالا، فَنَأَى بي في طَلَبِ شيء يوما فلم أرح عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبَتُ لهما غَبُوقَهُما فوجدتُها نائمين، وكَرِهتُ أن أغبِقَ قبلهما أهلا أو مالا، فلبثتُ والقَدَحُ على يَدَيَّ أنتظِرُ استيقاظهما حتَّى بَرَقَ الفجرُ والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غَبُوقَهُا، اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من
هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج». قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وقال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحبَّ النَّاسِ إِليَّ فأردتها عن نفسها فامتنعت مِنِّي حَتَّى ألَّتْ بها سَنَةٌ من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها،
ففعلت حتّى إذا قَدَرتُ عليها قالت: لا أُحِلُّ لك أن تَفُضَّ الخاتم إِلَّا بِحَقِّهِ، فتحرَّجتُ من الوقوع عليها فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ النَّاسِ إِليَّ، وتركتُ الذهب الذي أَعطَيْتُها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه؛ فانفَرَجَتْ الصَّخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وقال الثَّالثُ : اللَّهمَّ استأجرتُ أُجَرَاءَ فأعطيتُهم أجرهم غير رجل واحدٍ ترك الذي له وذهبَ، فَثَمَّرْتُ أجره حتَّى كَثُرَتْ منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبدالله أَد إليَّ أجري، فقلت له: كُلُّ ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبدالله لا تستهزئ بي، فقلت: إنّي لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصَّخرةُ فخرجوا يَمْشُونَ».
ولهذا الحديث ألفاظ وروايات في "الصحيحين"، ورواه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة أيضًا ثُمَّ إنَّ البخاري ذكر هذا الحديث في
صحيحه عَقِب قصة أصحاب الكهف، وعنونَ عليه بحديث الغار.
قال
الحافظ
ابن حجرٍ في فتح الباري" ما نصه: «عَقَبَ المُصنِّفُ قصّة أصحاب الكهف بحديث الغار إشارة إلى ما ورد أنَّه قد قيل: إنَّ الرَّقيم المذكور في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَتِنَا عَجَبًا [الكهف: 9]، هو الغار الذي أصاب فيه الثلاثة ما أصابهم، وذلك فيما أخرجه البزار والطبراني بإسنادٍ حسن عن النعمان بن بشيرِ: أَنَّه سمع النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يذكر الرَّقيم- قال: انطلق ثلاثة فكانوا في كَهْفٍ، فوقع
الجبل على باب الكهف فأوصَدَ عليهم فذكر الحديث. اهـ واستنبط من هذا الحديث أمور منها: إثبات كرامة الأولياء، وإثبات التوسل بصالح الأعمال وهو مُتفق عليه، وإنما الخلاف في التوسل بالذوات، وقد ألفتُ فيه رسالةً صغيرةً سمّيتها "إتحاف الأذكياء"، ثُمَّ أَلفتُ كتابًا كبيرًا
رَدَدَتُ به على بعض الوهابيين سميته " الرد المحكم المتين".
ومنها استحباب الدعاء عند الكرب وأنَّه ينفع في دفع البلاء، وأنَّ الإنسان إذا دعا بعمل صالح فلا يَجزِم به بل يُفوّضه إلى علم الله كما في الحديث بأن يقول: اللهم إن كنتَ تعلمُ أنَّ عملي خالص لك أو نحو ذلك، وفضل بر الوالدين، وفضل العِفَّة والكفُّ عن الحرام مع القدرة عليه، وأنَّ ترك المعصية مُقدِّمات طلبها، وأنَّ التوبة تجب ما قبلها، وفضل الإخلاص والصدق، والإخبار عما جرى للأُمم الماضية ليعتبر السامع بأعمالهم فيعمل بحسنها ويترك قبيحها، وفيه غير ذلك من الاستنباطات الفقهية التي أخذ بها الأئمة، وهي مبسوطة في "فتح الباري" وغيره من شروح الحديث.
يمحو
(تنبيه): ذكر الحافظ أنَّ هذا الحديث ورد من حديث أنس، وأبي هريرة، والنعمان بن بشير بأسانيد حسانٍ، إلا حديث أنس فإنَّ أحد إسناديه صحيح،
بـ
وورد من حديث علي، وعقبة بن عامر وعبدالله بن عمرو بن العاص، وابن أبي أوفى بأسانيد ضعيفة، وقد استوعب طرقه أبو عوانة في "صحيحه"، والطبراني في "كتاب الدُّعاء" قال: واتَّفقت الروايات كلها على أنَّ القصص الثلاثة في الأجير والمرأة والأبوين، إلا حديث عقبة ففيه بدل الأجير أنَّ الثالث قال: كنتُ في غَنَمِ أرعاها فحَضَرتِ الصَّلاة فقمتُ أُصَلِّي، فجاء الذئب
فدخل الغنم، فكرهتُ أن أقطع صلاتي فصبرت حتى فرغت...». قال: فلو كان إسناده قويًّا لحمل على تعدد القصّة، ثُمَّ ذكر أنَّ الروايات اختلفت فبعضها
قدم ذكر المرأة ثُمَّ الأجير ثُمَّ الأبوين، وبعضها عكس على أنحاء متعددة. قال: وفي ذلك دلالة على أنَّ الرواية بالمعنى سائغة شائعة، وأن لا أثر للتقديم والتأخير في مثل ذلك، ثُمَّ رجّح مِن حيث الإسناد رواية تقديم الأبوين، ثُمَّ المرأة، ثُمَّ الأجير.
قال: وأما من حيث المعنى فيُنظر أي الثلاثة كان أنفع لأصحابه؟ والذي يظهر أنه الثالث؛ لأنَّه هو الذي أمكنهم أن يخرجوا بدعائه، وإلا فالأول أفاد إخراجهم من الظلمة، والثاني أفاد الزيادة في ذلك وإمكان التوسل إلى الخروج بمعالجة، والثالث هو الذي تهيّأ لهم الخروج بسببه فهو أنفعهم لهم، فينبغي أن يكون عمله أفضل من عمل الآخرين ويظهر ذلك من الأعمال الثلاثة، فصاحب الأبوين فضيلته مقصورة على نفسه؛ لأنَّه أفاد أنه كان بارا بأبويه، وصاحب الأجير نفعه مُتعد وأفاد أنه كان عظيم الأمانة، وصاحب المرأة أفضلهم؛ لأنه أفاد أنه كان في قلبه خَشية ربه، وقد شهد الله لمن كان كذلك بأنَّ له الجنة، وأضاف إلى ذلك ترك الذهب الذي أعطاه للمرأة، فأضاف إلى النفع القاصر النفع المتعدّي، ولاسيما وقد قال إنها ابنة عمه فتكون فيه صلة رحم أيضًا، وتقدم أنَّ ذلك كان في سنة قحط فتكون الحاجة إلى ذلك أَحْرَى». اهـ فيترجح على هذا: رواية تقديم الأبوين، ثُمَّ الأجير، ثُمَّ المرأة، والله أعلم. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لم يتكلم في المَهْدِ إِلَّا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجلٌ
يقال له: جُرَيْج، كان يُصَلِّي جاءته أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقالَ: أُجِيبُها أو أُصَلِّي، فقالت: اللهم لا تمتهُ حتَّى تُرِيَهُ وجُوهَ المُومِسَاتِ، وكان جُرَيجُ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعيًا فأمكنته من نفسها؛ فولدت غُلامًا فقالت: من جُرَيْجٍ، فأتوه فكَسَروا صَومَعتهُ وأنزلوه وسَبُّوه، فتوضأ وصَلَّى ثُمَّ أَتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ فقال: الرَّاعِي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلَّا من طين.
وكانت امرأةٌ تُرضِعُ ابنًا لها من بني إسرائيل فمَرَّ بها رجلٌ راكبٌ ذو شَارَةٍ، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله فترك ثَديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مِثلَهُ، ثُمَّ أقبل على ثديها يَمَصُّهُ - قال أبو هريرة رضي الله عنه: كأني أنظر إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يَمَصُّ إِصْبَعَهُ - ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فتَرَك ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ من الجَبَابِرَةِ، وهذه الأَمةُ يقولون: سَرَقْتِ زَنَيْتِ، ولم تفعل». وهذا الحديث له ألفاظ وطرفٌ في "الصحيحين"، و"مسند أحمد". ويستنبط من قصة جُريج أمورٌ منها عِظم بر الوالدين، وإجابة دعائها في الولد، وأن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن، وقوَّة يقين جريج، وصحة رجائه؛ لأنه استنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق، وإثبات كرامات الأولياء ووقوعها لهم بطلبهم واختيارهم إلى غير ذلك مما . الحافظ ابن حجر رحمه الله .
بینه
كما يستنبط من قصة المرأة وابنها : أنَّ الكرامة قد تقع في غير زمن التكليف، وقول الطفل: اللهم اجعلني مثل الجارية) يعني في السلامة من المعاصي
وليس المراد أن يكون مثلها في النسبة إلى باطل يكون منه بريئًا، كذا قال النووي
في "شرح مسلم".
(تنبيه): قوله في أول الحديث: «لم يتكَلَّم في المَهْدِ إِلَّا ثلاثةٌ».
قال القرطبي : في هذا الحصر نظر، إلَّا أن يُحمل على أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلم قال ذلك قبل أن يعلم الزيادة على ذلك وفيه بعد، ويُحتمل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيَّدًا بالمهد وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد، لكنَّه يُعكّر عليه أنَّ في رواية ابن قتيبة: «أَنَّ الصَّبي الذي طرحته أُمه في الأخدود كان ابن سبعة أشهر». وصرح بالمهد في حديث أبي هريرة، وفيه تعقب على النووي في قوله: «إِنَّ صاحب الأخدود لم يكن في المهد . اهـ من "فتح الباري". ويظهر لي أنَّ الحديث مروي بالمعنى بدليل حديث أبي هريرة الآتي: «لم يتكلم في المهد إلَّا أربعة». وحديث ابن عباس الآتي أيضًا: «تكلم في المهد أربعة». إذ من المحال أن ينطق النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام بجميع هذه الألفاظ المتضاربة، فلا وجه لذلك إلَّا أن يكون الراوي عبر بلفظه حسب فهمه كما حصل في غير هذا من الأحاديث. يؤيد هذا ما جاء عند الطبراني عن عِمرانَ بن حُصَينِ رضي الله عنه قال: تذاكرنا البِرَّ عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فأنشأ يُحدثنا فقال: «إنَّه كان فيها قبلكم من الأُمَمِ رجلٌ يتعبدُ في صَومَعَته يُقال له جُرَيجُ وذكر قصة جُريج وفي آخرها: فزعم أبو حرب -وهو أحد الرواة- أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جُريج.
والذي تلخص من مجموع الروايات صحيحها وسقيمها: أنَّ الذين
تكلموا في المهد عشرة هؤلاء الثلاثة المذكورون في الحديث، وصاحب
الأخدود، وابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وستأتي أحاديثهم. ويحيى عليه السَّلام زعم الضَّحَّاك في "تفسيره": أنَّه تكلم في المهد.
وإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ذكره البغوي في "تفسيره".
ونبينا عليه الصَّلاة والسَّلام ذكر الواقدي في "سيره": أنَّه تكلم أوائل ما ولد، وذكر ابن سبع في "الخصائص ": أنَّ مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة، وأنَّ أول كلام تكلَّم به أن قال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرًا».
هؤلاء تسعة، والعاشر مبارك اليمامة.
روى ابن قانع، والبيهقي في "دلائل النبوة"، والخطيب في "التاريخ" من طريق الكديمي، عن شَاصُونة بن عُبيد أبي محمَّد اليمامي قال: حدثني معرض بن
عبد الله بن معرض بن مُعَيقِيب اليمامي، عن أبيه، عن جده قال : حَجَجَتُ حَجَّة الوداع، فدخلتُ دارًا بمكة فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وجهه مثل دَارَة القمر، وسمعت منه عَجَبًا، جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد - وقد لفّه في خِرقةٍ - فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا غلام، من أنا؟ قال: أنت رسول الله، قال: صَدَقت بارك الله فيك». قال: ثُمَّ إنَّ الغلام لم يتكلم بعدها حتَّى شَبَّ ، قال : قال أبي : فكنَّا نُسمّيه مُبَاركَ اليَامَةِ . وورد من غير طريق الكديمي عن شَاصُونة أيضًا، رواه البيهقي في "الدلائل" والخطيب في تاريخ بغداد وغيرهما، ولتراجع ترجمة معرض بن مُعَيقِيبٍ في "الإصابة" للحافظ ابن حجرٍ.
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن حبان في "صحيحه"، وابن جرير
والطبراني والبزار وغيرهم، واللفظ لمسلم، عن صهيبٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: كان مَلِكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له سَاحِرٌ ، فلمَّا كَبِرَ قال للمَلِكِ : إني قد كَبِرَت فابعث إليَّ غلامًا أُعلمه السحر فبعث إليه غلامًا يُعلَّمه، فكان في طريقه إذا سلك رَاهِبٌ فقعد إليه وسَمِعَ كلامه فأعجبه؛ فكان إذا أتى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الرَّاهِبِ فقال : إذا خشيت السَّاحِر فقل حَبَسَنِي أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حَبَسَنِي السَّاحِرُ ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حَبَسَت النَّاسَ ، فقال : اليوم أعلمُ السَّاحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حَجَرًا فقال: اللهمَّ إن كان أمرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِليك من أمر السَّاحِرِ فاقتل هذه الدابَّةَ حتّى يمضي النَّاسُ، فرماها فقتلها ومضى النَّاسُ، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الرّاهب أي بُنيَّ، أنت اليوم أفضلُ مِنّي، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنَّك ستُبتَلَى، فإن ابتليتَ فلا تَدلَّ عليَّ، وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص ويداوي النَّاس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عَمِي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إنّي لا أَشفي أحدًا إِنَّما يَشفِي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملكُ : من رَدَّ عليك بصرك؟ قال : رَبِّي، قال: ولك رب غيري؟ قال: رَبِّ ورَبُّكَ الله، فأخذه فلم يزل يُعَذِّبُهُ حتَّى دَلَّ على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بُنَيَّ قد بلغ من سحرك ما تُبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إِنِّي لا أَشفي أحدًا إِنَّما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يُعذِّبه حتّى دلّ على الرَّاهِبِ، فجيء بالرَّاهِب، فقيل له:
ارجع عن دينك، فأبى، فدعى بالمنشار فوضعوا المنشَار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقهُ، ثُمَّ جيء بجليس الملك ، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتّى وقع شِقّاه، ثُمَّ جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جَبَل كذا وكذا فاصْعَدُوا به الجبل فإذا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فإِن رَجَعَ عَن دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شِئتَ فَرَجَفَ بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرْقُورٍ -بضم القافين: سفينة صغيرة - فتوسطوا به إلى البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شِئتَ، فغرِقُوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال : كَفَانِيهِم الله، فقال للملك: إنَّك لست بقاتِلي حتّى تفعل ما آمرك به، قال : وما هو ؟ قال : تَجمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ واحد، وتَصلُبُني على جِذْعِ ثُمَّ خُذُ سَهُما مِن كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ القَوسِ ثُمَّ قل: بسمِ ا رب الغلامِ، ثُمَّ ارمني فإنَّك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع النَّاسَ في صعيدٍ واحدٍ وصَلَبه على جذع، ثُمَّ أخذ سهما من كِنَانَته ثُمَّ وضع السَّهم في كَبِد القوس ثُمَّ قال: بسم الله ربِّ الغلام، ثُمَّ رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السَّهم فمات، فقال النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغلام، آمَنَّا بِرَبِّ الغلام، آمنا برب الغلام فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنتَ تَحذَرُ قد والله - نزل بك حذرك، قد آمن النَّاسُ، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فَخُدَّتْ، وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها - أي ارموه فيها ليُحمَى -
الله
أو قيل له: اقتحم ، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست -أي توقفت أن تَقَعَ فِي النَّار، فقال الصَّبِيُّ : يا أُمَّة اصبري فإنَّك على الحقِّ». في هذا الحديث: إثبات كرامات الأولياء في عدة مواضع منه، وأنَّ الكرامة قد تقع بطلب الولي واختياره وجواز الكذب في الحرب ونحوها، وفي إنقاذ النَّفس من الهلاك سواء نفسه أو نفس غيره ممن له حرمة. وفيه أنَّ هذه القصة كانت بعد عيسى عليه السَّلام؛ لأنَّ الرهبان من أتباعه إذ هم الذين ابتدعوا الترهب وحبس النفس في الصوامع ونحوها، نبه عليه الحافظ في الكلام على قصَّة جُريج الراهب، وقد ذكرناها قبل هذا الحديث، والله أعلم.
(تنبيه): القصّة المذكورة في هذا الحديث هي المشار إليها بقوله تعالى : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُورٍ قُبِلَ أَصْحَبُ الْأَخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوُقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: ٩:١].
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة، والبزار ، وأبو يعلى، والحاكم، وابن حبان، والبيهقي في " الشُّعب" من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لما أُسرِيَ فِي مَرَّت بي رائحةٌ
طيبة، فقلت: ما هذه الرائحةُ؟ قالوا مَاشِطَةِ بنت فرعون وأولادها، سَقَطَ مشطها من يدها فقالت : بسم الله ، فقالت ابنة فرعون: أبي، قالت: ربي هو ربُّك وربُّ أبيك، قالت: أو لك رب غير أبي؟ قالت: نعم، فَدَعَاهَا، فقال: أَلَكِ رَبُّ
غيري؟ قالت: نعم ربي وربُّك الله؛ فأمر ببَقَرَةٍ مِن نُحَاسٍ فَأُحِيَتْ، ثُمَّ أمر بها لتلقى فيها وأولادها فألقوا واحدًا واحدًا حتّى بلغ رضيعا فيهم فقال: قعي يا أُمه ولا تقاعسي فإنَّك على الحقِّ» قال: «وتكلَّم أربعةٌ وهم صِغَارٌ : هذا، وشَاهِدُ يُوسُفَ، وصاحبُ جُرَيج، وعيسى ابن مريم .
قال الحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى": «إسناده صحيح». قلت: كذا قال، ولكن عطاء فيه كلام من أجل اختلاطه كما يُعرف من كتب الرجال.
نعم روى الحاكم من طريق مسلم بن إبراهيم، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رفعه: «لم يتكلم في المهد إلَّا أربعة: عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جُريج، وابن ماشطة فرعون». صححه الحاكم على شرط الشيخين وسلَّمه الذهبي. فهذا شاهد صحيح لحديث ابن عباس، وفيه إثبات كرامات الأولياء، وقُوَّة إيمان ماشطة فرعون حيث واجهت فرعون بعقيدتها غير خائفة من ظُلْمِهِ وعَسَفه،
و كلام الطفل يحتمل كونه بلا تعقل كالجهاد، وكونه عن معرفة قاله المناوي. وانظر "تفسير الآلوسي" في الكلام على قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي
الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦].
وروى الإمام أحمد والنسائي والبخاري معلقا بصيغة الجزم والإسماعيلي من طريق عبدالرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَنَّه ذكر رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَهُ ألف دينار فقال: ائتني بالشُّهداء أُشْهِدُهم، فقال: كَفَى بالله
شهيدًا، قال: فأتني بالكَفِيلِ، قال: كَفَى بالله كَفِيلًا، قال: صَدَقت؛ فدفعها إليه إلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثُمَّ التمس مَركَبًا يَركَبُها يَقدَمُ عليه للأجل الذي أجَّلَه فلم يجد مَركَبًا فأخذ خَشَبَةً فنقَرَها فأدخل فيها ألف دينار وصَحِيفَةً منه إلى صاحبه، ثُمَّ زَجَجَ موضعها ثُمَّ أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنَّك تعلم أني كنتُ تَسَلَّفتُ فلانًا ألفَ دِينَارٍ فسألني كَفِيلًا فقلتُ: كَفَى بالله كَفِيلًا فرَضِيَ بك، وسألني شهيدًا فقلت: كَفَى بالله شهيدًا فرضي بك، وإِنِّي جَهَدتُ أن أَجِدَ مَركَبًا أبعثُ إليه الذي له فلم أَقدر، وإِنِّي أَستودِعُكَها، فرَمَى بها في البحر حتَّى وَلَجَت فيه ثُمَّ انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أَسْلَفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها حَطَبًا لأهله فلما نَشَرها وجد المال والصحيفة، ثُمَّ قَدِم الذي كان أَسْلَفه فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدتُ مَركبًا قبل الذي أتيتُ فيه، قال: هل كنت بعثت إلى بشيء ؟ قال : أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإنَّ الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدًا». وصله البخاري في باب التجارة في البحر» من «كتاب البيوع» وعلقه في باب بمن يبدأ في الكتاب من كتاب الاستئذان عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة بصيغة الجزم، ووصله في "الأدب المفرد"، ومن هذا الطريق رواه ابن حبان في "صحيحه". وفي "مسند الصحابة الذين نزلوا مصر" لمحمد ابن الربيع الجيزي بسند فيه مجهول، عن عبدالله بن عمر ويرفعه: أنَّ رجلًا جاء إلى النجاشي فقال له:
أَسْلِفْني ألف دينار إلى أجل، فقال: من الحميل بك؟ قال الله، فأعطاه الألف فضرب بها - أي سافر بها في تجارة - فلما بلغ الأجل أراد الخروج إليه فحبسته
الريح فعمل تابوتا...» وذكر الحديث، نحو ما سبق.
قال الحافظ : استفدنا منه أنَّ الذي أقرض هو النجاشي، فيجوز أن تكون
نسبته إلى بني إسرائيل بطريق الاتباع لهم لا أنه من نسلهم».اهـ وفي الحديث فوائد منها إثبات كرامات الأولياء، وفضل التوكل على الله، وأنَّ من صح توكُله تكفّل الله بنصره وعونه.
وقال ابن التين: قيل في قصَّة صاحب الخشبة إثبات كرامات الأولياء وجمهور الأشاعرة على إثباتها، وأنكرها الإمام أبو إسحاق الشيرازي من الشَّافعيّة، والشيخان أبو محمد بن أبي زيد وأبو الحسن القابسي من المالكية».اهـ
قال الحافظ: «أما الشَّيرازي فلا يُحفظ عنه ذلك، وإِنَّما نُقل ذلك . عن أبي إسحاق الإسفراييني، وأما الآخرون فإنَّما أنكروا ما وقع معجزة مستقلةً لنبي من الأنبياء، كإيجاد ولد عن غير والد والإسراء إلى السموات السبع بالجسد في
اليقظة، وقد صرَّح إمام الصُّوفيَّة أبو القاسم القشيري في رسالته بذلك». اهـ وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «بينما رجلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً له قد حَمَلَ عليها التفتت إليه فقالت: إنِّي لم أُخلَق لهذا، ولكنّي إِنَّما خُلِقتُ للحَرْثِ ، فقال النَّاسُ: سُبحانَ الله تعجبًا وَفَزَعًا أَبقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟!». فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فإنِّي أومن به وأبو بكرٍ وعُمَر، وما هما ثَمَّ». قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «بينا راع في غنمه
عدا عليه الذِّئب فأخذ منها شَاءً، فطلبه الراعي حتَّى استَنْقَذَها مِنه، فالتفت إليه الذئب فقال له: مَن لها يوم السَّبُعِ يوم ليس لها راع غيري؟ فقال النَّاسُ: سُبحان الله ! » . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «فإنّي أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثَمَّ».
قال النووي: «في الحديث فضيلةٌ ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما،
وفيه جواز كرامات الأولياء وخَرِّقِ العَوَائد، وهو مذهب أهل الحق». اهـ وفيه أيضًا كما قال الحافظ : جواز التَّعجب من خوارق العادات، وتفاوت النَّاسِ في المعارف».
ورواه ابن حِبَّان في "صحيحه" وزاد في آخره: فقال النَّاسُ آمَنَّا بما آمَنَ به رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم. وفي هذه الزيادة دليل على إسراع الصحابة إلى الإيمان بما يصدر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلَّم، ويُؤخذ من الحديث أيضًا: أَنَّ التَّعجب من الخبر لا ينا في صدقه، فإنَّ الصحابة ليس عندهم شكٍّ في عصمة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومع ذلك تعجبوا لما أخبرهم بشيء غريب عن مألوف العادة.
وقوله مَن لها يوم السَّبع اختلف في ضبط لفظ السبع ومعناه. أما الضبط فقال عِياض: يجوز ضَمِّ الموحدة وإسكانها، إِلَّا أَنَّ الرواية بالضَّمِّ. وقال الحربي: هو بالضم والسكون
وقال ابن الجوزي: هو بالسُّكون، والمحدّثون يروونه بالضَّمِّ، وجَزَم ابن
العربي بأنَّ الضَّمَّ تصحيف وليس كذلك.
وأما المعنى فإن كان السَّبع بضَمِّ الباء فالمراد به: الحيوان المعروف، كما قال
الحربي والداودي، والمعنى حينئذ من لها إذا أخذها الأسد فتفر أنت منه؟
ويأخذ منها حاجته، وأتخلَّفُ أنا أرعى ما يفضل لي منها.
وقيل: إنما يكون ذلك عند الاشتغال بالفتن فتصير الغنم هملا فتنهبها
السباع، فيصير الذَّئب كالراعي لها لانفراده بها.
وإن كان السبع بسكون الباء فقيل: هو اسم يوم عيد لهم في الجاهلية يشتغلون فيه باللهو واللعب، فيغفل الرّاعي عن غَنَمِه فيتمكن الذِّئب منها، ويصير بتمكنه كأنه راع لها، نقله الإسماعيلي عن أبي عبيد.
وقيل: المراد به الفَزَع من سبعت الرجل أفزعته، أي: من لها يوم الفزع؟ وقيل: المراد به الإهمال من أسبع الرجل غنمه: أهملها، أي: من لها يوم الإهمال، ورجحه النووي.
وقيل: المراد به يوم الشّدّة كما رُوي عن ابن عباس: أنَّه سُئل عن مسألة فقال: أجرأ من سبع، يريد أنها من المسائل الشّداد التي يشتد فيها الخطب على المفتي» . اهـ من "فتح الباري".
ويظهر لي معنى آخر وهو الإشارة إلى زمان نزول عيسى عليه الصلاة والسَّلام، فقد صح في حديث عند أحمد وغيره عن أبي هريرة: «وأني أولى النَّاسِ بـ ، بعیسی ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنَّه نازل فإذا رأيتُمُوه فاعرفوه وذكر الحديث، وفيه ثُمَّ تَقَعُ الأَمَنَةُ على الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذَّئاب مع الغَنَمِ، ويلعب الصبيانُ بالحَيَّات لا تَضُرُّهُم الحديث.
والمعنى على هذا من لها يوم السَّبع حين يرعى الذَّئب مع الشاة بل لا
يكون لها راع غيره، وسُمِّي ذلك الزمن يوم السَّبع؛ إمَّا لكثرة ظهور السباع فيه من قولهم: أرض مُسبعةٌ كثيرة السباع؛ وإما لأنَّ السباع لا تُؤذي فيه على خلاف ما عُهد من طبيعتها.
(تنبيه): قال الحافظ ابن حجر : الم أقف على اسم هذا الراعي الذي كلَّمه الذِّئبُ. وقد أورد المصنف - يعنى البخاري - الحديث في ذكر بني إسرائيل، وهو مشعر بأنه عنده ممن كان قبل الإسلام، وقد وقع كلام الذئب لبعض الصحابة في نحو هذه القصة.
فروى أبو نعيم في "الدلائل" من طريق ربيعة بن أوس، عن أنيس بن عمرو، عن أَهْبَان بن أوس قال: كنت في غَنَمٍ لِي، فَشَدَّ الذَّئبُ على شَاةٍ منها، فصِحْتُ عليه فأَقعَى الذَّئبُ على ذنبه يُخاطبني وقال: مَن لَهَا يوم يُشتغل عنها؟ تمنعني رِزْقًا رَزَقَنِيهِ الله تعالى، فصَفَقْتُ بيدي وقلتُ: والله ما رأيتُ شيئًا أَعجَبَ من هذا، فقال: أَعجَبُ مِن هذا هذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بين هذه النَّخَلات يدعو إلى الله، قال: فأتى أهبَان إلى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله
وسلم فأخبره وأسلم. فيُحتمل أن يكون أُهْبَان لما أخبر النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذلك كان أبو بكر وعمر ،حاضرين، ثُمَّ أخبر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذلك وأبو
بكر وعمر غائبان، فلذلك قال: فإنّي أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر». ويُحتمل أن يكون صلَّى الله عليه وآله وسلم قال ذلك لا أُطلع عليه من
غَلَبة صدق إيمانهما وقُوَّة يقينهما، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما». اهـ
بين
وحديث أَهْبَان بن أوس رواه البخاري أيضًا في "التاريخ" وضعفه؛ لأنَّ في سنده عبدالله بن عامر الأسلمي وهو ضعيفٌ، لكن روى أحمد، وابن سعد، والبزار، والحاكم والبيهقي وصححاه، وأبو نعيم من طرق عن أبي سعيد الخدري قال: بينما راعٍ يرعى بالحَرَّة إذ عَرَضَ ذئب لشاة من شياهه، فحال الراعي الذئب وبين الشَّاةِ، فَأَقعَى الذَّئبُ على ذَنَبه ثُمَّ قال: للرَّاعي: ألا تتقي الله تعالى؟ تحول بيني وبين رِزق ساقه الله تعالى إلي، فقال الراعي: العجب من الذئب يتكلم بكلام الإنس! فقال الذَّئبُ : ألا أحدثك بأعجب من ذلك؟ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بين الحرَّتين يُحدِّث النَّاسَ بأنباء ما قد سبق. فساق الراعي غَنَمه حتَّى قَدِم المدينة، فدخل على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فحدَّث بحديث الذُّنبِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: صَدَق صَدَق، ألا إِنَّه من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتَّى تُكلّم السباع الإنس، ويُكلم الرجل شراك نعله، وعَذَبة سوطه، ويخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده».
ب
وذكره الدميري في مبحث الذِّئب من "حياة الحيوان" عازيا له إلى الحاكم، وقال إسناده على شرط مسلم، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" من مُسنَدَي أحمد والبزار ، وقال: «رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح». فصاحب هذه القصَّة أهبان بن أوس المذكور؛ لأنه جاء في إحدى روايات أحمد والبزار عن أبي سعيد قال: «بينما رجل من أَسْلَمَ فِي غُنَيَمَةٍ لَه يَهشُ عليها في بَيْدَاء ذِي الخليفة إذ عَدَا عليه الذَّئب... وذكر الحديث، وأهبان بن أوس أَسْلَمي. أما ما نقله الحافظ في "الإصابة" عن ابن الكلبي، وأبي عبيد، والبلاذري،
والطبري: أنَّ مُكلَّم الذِّئب أهبان بن الأكوع بن عياذ الخزاعي فذلك في قصة
أخرى؛ لأنَّ كلام الذَّنْبِ تكرّر في زمن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. قال الحافظ بن عبدالبر : كلَّم الذِّئبُ من الصحابة ثلاثة: رافع بن عميرة، وسلمة بن الأكوع، وأهبان بن أوس الأسلمي»، قال: «ولذلك تقول العرب هو كذئب أهبان، يتعجبون منه . اهـ
وقال أبو بكر بن أبي داود: يقال لأهبان مُكلّم الذَّئب، ولأولاده أولاد مكلّم الذئب، ومحمد بن الأشعث الخزاعي من ولده، واتفق مثل ذلك لرافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع» . اهـ
فهؤلاء أربعةٌ كلَّمهم الذَّئبُ وهُم: أهبان الأسلمي، وأهبان الخزاعي، وسلمة بن الأكوع، ورافع بن عميرة.
وروى أحمد بإسناد رجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي - عن أبي هريرة قال: جاء الذَّئبُ إلى راعي غَنَمٍ فأخذ منها شاةً، فطلبه الراعي حتَّى انتزعها منه فَصَعِد الذِّئبُ على تَلْ فَأَفْعَى وقال : عَمِدتَ إلى رِزْقٍ رَزَقَنِيه الله فانتزعتَه مِنِّي، فقال: تالله إن رأيت كاليوم ذئبا يتكلَّم! قال الذَّئبُ: أعجب من هذا رجلٌ
يتكلم في النَّخلات بين الحرَّتين يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم. وكان الرجل يهوديا فجاء النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأخبره وصَدَّقه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّها أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرجَ فلا يرجع . يرجع حتَّى تُحدثه نعلاه وسوطه ما أحدَثَ أهْلُهُ بَعدَهُ».
فإن ضُمَّ هذا اليهودي إلى من سبق صاروا خمسةً، إن لم يكن هو أحد
الأربعة المذكورين.
وروى أبو نعيم عن أنس قال: كنتُ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في غزوة تبوك، فشددتُ على غنمي فجاء الذِّئب فأخذ منها شاةً فاشتدَّت الرِّعَاءُ خلفه فقال الذئب : طُعْمَةٌ أَطْعَمنيها الله تعالى تنزعونها مِنِّي، فبهت القوم، فقال الذئب: ما تعجبون من كلام الذَّئبِ وقد نزل الوحي على محمد صلى الله عليه
وآله وسلم!. هذا ما بلغنا مما يتعلق بكلام الذئب، وأمَّا كلام البقرة فلا نعلم فيه سوى
الحديث الذي أوردناه. وحديث آخر أسنده الدينوري في "المجالسة" عن عكرمة، عن ابن عباس قال : مَرَّ عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ببقرة قد اعترض ولدها في بطنها، فقالت: يا كلمة الله ادع الله أن يُخلّصني، فقال: يا خالق النفس من النَّفس، ويا
مخرج النَّفس من النَّفس، خَلَّصها، فألقت ما في بطنها.
ووقعت حادثة من هذا النوع بعد العصر النبوي بكثير. قال المقريزي : في كتاب "إغاثة الأُمَّة بكشف الغُمَّة" (ص: ۳۸) ما لفظه : ووقع بآخر هذا الغلاء أعجوبة في غاية الغرابة لم يسمع بمثلها وهي: أنَّ رجلًا من أهل الفلح بجبة عسال إحدى قرى دمشق الشام- خرج بثور له ليرد الماء، فإذا عِدَّةٌ من الفلاحين قد وردوا الماء، فأورد الثور حتى إذا اكتفى نطق
هذه الأمة
بلسان فصيح أسمع من بالمورد وقال : الحمد لله والشكر له، إنَّ الله تعالى وعد سنين مجدبة، فشفع لهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإِنَّ الرسول أمره -أي- الثور - أن يُبلغ ذلك وأنَّه قال: يا رسول الله فما علامة
سبع
صدقي عندهم قال : أن تموت بعد تبليغ الرسالة، وإنَّه بعد فراغ كلامه صعد إلى مكان مُرتفع وسَقَطَ مِنه ومات، فتسامع به أهل القرية وجاءوا من كل حَدَبٍ ينسلون، فأخذوا شعره وعظامه للتبرك، فكانوا إذا بحروا به موعوكًا برئ، وعمل بذلك محضر مثبوت على قاضي البلد وحمل السلطان بمصر، فوقف عليه الأمراء واشتهر بين النَّاس خَبَره وشاع ذكره، وذكر هذه الحادثة أيضًا في كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك " (۱ / ۸۱۱، ۸۱۲).
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى من طريق الربيع بن سعد الجعفي عن عبدالرحمن بن سابط عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «حَدَّثوا عن بني إسرائيل فإنَّه كان فيهم الأعاجيب»، ثُمَّ أنشا يُحدث قال: خرجت رُفقةٌ مرَّةً يسيرون في الأرض فمروا بمقبرة، فقال بعضهم لبعض: لو صلَّينا ركعتين ثُمَّ دعونا الله عزّ وجلَّ لعله يُخرج بعض هذه المقبرة، فيخبرنا عن الموت، قال: فصلوا ركعتين ثُمَّ دعوا الله، فإذا هم برَجُلٍ قد خرج من قبره ينفضُ رأسه وبين عينيه أثر السجودِ، فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلى هذا، لقدمتُ منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت إلى ساعتي هذه، فادعو الله أن يعيدني كما كنت. وأخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِن الأرضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سحابة: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فتَنَحَّى ذلك السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِن تلك الشِّرَاجِ قد اسْتَوْعَبَتْ ذلك الماءَ كُلَّهُ، فتتبَّعَ المَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحوِّلُ الماءَ بِمِسْحَاتِهِ، فقال له: يا عبد الله ما اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلانٌ - لِلاسْمِ الذي
سَمِعَ في السَّحابة - فقال له: يا عبد الله لم تَسْألني عن اسْمِي؟ فقال: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحَابِ الذي هذا ماؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةً فُلانٍ، لاسمِكَ، فما تَصْنَعُ فيها؟ قال: أما إذ قُلْتَ هذا، فإنّي أنظُرُ إلى ما يَخْرُجُ منها، فَأَتَصَدَّقُ بِثْلُثِهِ، وَآكُلُ أنا وعِيالي ثُلُنَّا، وأرُدُّ فيها ثُلُثَهُ».
في الحديث إثبات الكرامات، وفضل الصَّدقة والإنفاق على العيال ومن تلزم نفقته، و«الحَرَّة» بفتح الحاء : أرضُ ذات حجارة سود، و«الشرجة» -
بفتح الشين وسكون الراء - : مَسيلُ الماء أي: مكان اجتماعه وسيله.
الفصل الرابع
في ذكر ما ثبت من الكرامات عن الصحابة رضي الله عنهم
أخرج الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اهْتَزَّ عَرشُ الرَّحمن لموتِ سَعِدِ بن مُعَادٍ».
وروى مسلم عن أنس مِثلَه، بل ثبت هذا الحديث عن عشرة من الصحابة أو أكثر كما قال الحافظ .
وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث اختلافا لخصه الحافظ في "الفتح" فقال: والمراد باهتزاز العرش استبشاره وسُرُوره بقدوم روحه، يقال لكل من فَرِح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه: اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت، ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: «اهتزَّ العرش فَرَحًا به». لكنه تأوَّله كما تأوّله البراء بن عازب فقال : اهتز العرش فَرَحًا بلقاء الله سعدًا حتَّى تَفَسَّخَتْ أَعْوَادِهِ عَلى عَوَاتِقنَا.
قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وهذا من رواية عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر.
وفي حديث عطاء مقال؛ لأنَّه تممَّن اختلط في آخر عمره، ويعارض روايته أيضًا ما صححه الترمذي من حديث أنس قال : لَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَهُ سَعِدِ بن مُعَادٍ قال المنافقون: ما أَخَفَّ جَنَازَتَهُ، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ
الملائكة كانت تحمله». قال الحاكم: الأحاديث التي تُصرّح باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في
الصحيحين، وليس لمعارضها في الصحيح ذكر » . اهـ
وقيل: المراد باهتزاز العرش اهتزاز حملة العرش، ويؤيده حديث: «إنَّ جبريل قال: من هذا الميت الذي فُتِحَتْ له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟».
أخرجه الحاكم. وقيل: هي علامة جعلها الله لمن يموت من أوليائه ليشعر ملائكته بفضله. وقال الحربي: «إذا عظموا الأمر نسبوه إلى عظيم، كما يقولون: قامت لموت
فلان القيامة وأظلمت الدنيا ونحو ذلك، وفي هذه منقبةٌ عظيمة لسعد» . اهـ وفي "شرح مسلم" للإمام النووي ما نصه: «اختلف العلماء في تأويلها، فقالت طائفة: هو على ظاهره واهتزاز العرش تحركه فَرحًا بقدوم رُوح سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزاً حصل به هذا ولا مانع منه كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: ٧٤]، وهذا القول هو ظاهر الحديث، وهو المختار.
وقال المازري: قال بعضهم : هو على حقيقته وأنَّ العرش تحرَّك لموته، قال: وهذا لا ينكر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم من الأجسام يقبل الحركة ال والسكون، قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك إلَّا أن يُقال: الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته.
وقال آخرون: المراد اهتزاز أهل العرش وهم حَمَلَتْهُ وغيرهم من الملائكة،
فحذف المضاف والمراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول
ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه
وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها وإقباله عليها.
وقال الحربي: هو كِنايةٌ عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له
القيامة» . اهـ
وقول من قال: إنَّ المراد بالعرش السرير الذي حمل عليه غلط تَردُّه
الروايات الصحيحة الصريحة كما قال النووي وغيره.
وإلى هذه الكرامة الجليلة أشار حسّان بن ثابت في رثاء سعد بقوله: وَمَا اهْتَزَّ عَرِشُ اللَّهُ مِن أَجلِ هَالِكِ سَمِعنا به إلَّا لِسَعْدِ أبي عمرو وأما إنكار مالك لهذا الحديث، وقوله لمن سأله عنه: «أنهاك أن تقول...» إلخ ما جاء عنه في "العتبية" فمحمول على ما قال الإمام أبو الوليد بن رشد في شرحها، ومُلخص كلامه: «إنّما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أنَّ العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته كما يقع للجالس مِنَّا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله تبارك الله وتنزَّه عن مشابهة خلقه». اهـ ويُحتمل ألا يكون الحديث ثبت عنده كما قال الحافظ.
وقال الحافظ السُهيلي في "الروض الأنف" ما نصه: «وحدیث اهتزاز العرش الموت سعد صحيح، قال أبو عمر هو ثابت من طرق متواترة، وما روى من قول البراء ابن عازب في معناه: أنَّه سرير سعد اهتز»، لم يلتفت إليه العلماء وقالوا: كانت بين هذين الحيين من الأنصار ضغائن، وفي لفظ الحديث: اهتز عرش الرحمن». رواه أبو الزبير، عن جابر يرفعه، ورواه البخاري من طريق الأعمش، عن أبي صالح وأبي سفيان، كلاهما عن جابر، ورواه من الصحابة جماعة غير جابر منهم أبو سعيد الخدري، وأُسَيِّد بن حُضَير، ورُمَيْتَةُ
بنت عمرو، ذكر ذلك الترمذي.
والعجب لما روى عن مالك رحمه الله من إنكاره للحديث وكراهيته للتحدث به مع صحة نقله وكثرة الرواة له، ولعل هذه الرواية لم تصح عن
عَمَّةُ أَنس بن
مالك، والله أعلم. وأخرج البخاري عن أنس قال: كَسَرَتْ الرُّبَيعُ - وهي : مالك - ثَنِيَّة جارية من الأنصار، فطَلَبَ القومُ القِصَاصَ، فأتوا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فأَمَرَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالقِصَاصِ، فقال أنس بن النَّصْرِ - عَمُّ أنس بن مالك - : لا والله لا تُكسَرُ سِتُّها يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا أنسُ ، كتاب الله القصاص». فَرَضِيَ القوم وقبلوا الأرش، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِن عِبَادِ اللهِ مَن لو أَقسَمَ على اللَّهُ لأَبَرَّهُ».
وفي رواية: فعَجِبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقال: «إِنَّ مِن عِبَادِ الله مَن لو أَقسَمَ على اللَّهُ لأَبَرَّهُ». قال الحافظ: «وجه تعجبه أنَّ أنس بن النضر أقسم على نفي فعل غيره مع إصرار ذلك الغير على إيقاع ذلك الفعل، فكان قضيَّة ذلك في العادة أن يحنث في يمينه، فألهم الله الغير العفو فبر قسم أنس، وأشار بقوله: «إِنَّ مِن عِبَادِ الله». إلى أنَّ هذا الاتفاق إنَّما وقع إكراما من الله لأنس ليبر يمينه، وأنه من جملة عباد الله الذين يُجيب دعاءهم، ويعطيهم أَربَهم . اهـ وإنكار أنس بن النضر كَسْر سنّ أخته لم يقصد به إنكار الحكم الشرعي ورده، بل قاله توقعًا ورجاء من فضل الله أن يُلهم الخصوم الرضى حتّى يعفوا،
أو يقبلوا الأرش؛ فحقق الله رجاءه. وأخرج مسلم في "صحيحه" عن أنس: أنَّ أخت الربيع أُمَّ حَارِثَةَ جرحت إنسانًا، فاختصموا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: القِصَاصَ القِصَاصَ». فقالت أم الربيع: يا رسول الله أَيقتَصُّ مِن فلانة؟! والله لا يُقتَصُّ منها، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «سبحان الله يا أُمَّ الربيع القِصَاصُ كتاب الله». قالت: لا والله لا يُقتَصُّ منها أبدا، قال: فما زالت حتَّى قَبلُوا الدِّيَةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «إِنَّ مِن عِبَادِ اللَّهُ مَن لَو أَقسَمَ على اللَّهُ لأَبَرَّهُ».
وعلقه البخاري في "صحيحه" بصيغة الجزم، والصحيح كما جزم به ابن حزم والنووي والحافظ: أنّهما قضيَّتان مختلفتان، خلافًا لمن ادعى أنها قضيَّةٌ
واحدة، وذهب يتلمس وجوه الجمع أو الترجيح بين الروايتين.
(تنبيه): الربيع بضم الراء وفتح الباء الموحدة، وكسر المثناة التحتية المشددة - : صحابية جليلة، وهي أُمُّ حارثة بن سراقة -صحابي أيضًا - استشهد في غزوة أحد، وأمها صحابيَّة، وأخوها أنس بن النضر صحابي جليل رضي الله عنهم أجمعين.
وفي "صحيح مسلم" وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعِ
بالأبواب لو أَقْسَمَ على الله لأَبَرَّهُ».
والحاكم عنه نحوه بلفظ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ تنبو عنه أعين
النَّاسِ لو أَقْسَمَ على اللَّهُ لأَبَرَّهُ». إسناده صحيحٌ
وللبزار عن ابن مسعود نحوه بلفظ : ربَّ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ له لو أَقْسَمَ
على الله لأبره». وإسناده صحيح.
و في "أوسط معاجم الطبراني" عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول : كم مِن ذِي عِمْرَيْنِ لا ثوب له لو أَقْسَمَ على الله لأبَرَّهُ منهم عمار بن ياسر ».
وروى البيهقي عن ابن عبّاس قال: عَادَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رَجُلا مِن الأنصارِ فلمَّا دَنَا مِن مَنْزِلِهِ سَمِعَهُ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّاخِلِ، فلما دخل لم ير أحدًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن كنتُ تُكَلِّمُ». قال: يا رسول الله ، دَخَلَ عليَّ داخل ما رأيتُ رَجُلًا قَطُّ بعدك أَكْرَمَ تَجْلِسًا، ولا ا منه، قال: «ذاك جبريلُ، وإنَّ مِنكُم لِرِجَالًا لو أَنَّ أَحَدَهُمْ يُقْسِمُ
أحسن حديثاً .
على الله لأبره».
وأخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ أسيد بن حضير رضي الله عنه بينما هو ليلةٌ يَقرأ في مِرْبَدِه إذ جَالت فرسه فقرأ، ثُمَّ جَالت أُخرى فقرأ، ثُمَّ جَالت أيضًا. قال أُسَيد: فَخَشِيتُ أَن تَطَأَ يحيى - ابنه - فقمتُ إليها، فإذا هو مثل الظُّلَّة فوق رأسي، فيها أمثال السُّرُج، عَرَجَت في الجو حتَّى ما أراها، فغدوتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقلت: يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مِرْبَدِ لي إذ جَالت فرسي، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اقرأ يا ابن حُضَير». قال: فقرأتُ، ثُمَّ جَالت فرسي أ أيضًا، فقال: «اقرأ يا ابن حُضَير». قال: فقرأتُ ثُمَّ جالت أيضًا، فقال: «اقرأ يا ابن حُضَير». قال: فانصرفت وكان يحيى قريباً منها فخَشِيت أن تطأه، فرأيتُ مثل تلك الظلة فيها أمثال الشرج عَرَجت في الجو
حتى ما أراها ، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت تراها النَّاسُ ما تَستَتِرُ مِنهم». وعلَّقه البخاري بصيغة الجزم.
وله طريق آخر عن البراء بن عازب رواه مسلم أيضًا، ووقع في البخاري: أنه كان يقرأ سورة البقرة، وجاء في رواية أبي عبيد في "فضائل القرآن" من طريق أبي بن كعب بن مالك قال: وكان أُسَيْدُ حَسَن الصَّوت، وفي رواية الإسماعيلي: «اقرأ أُسَيْدُ، فقد أُوتِيتَ مِن مَزامير آل داود».
قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأُمَّة للملائكة. قال الحافظ : كذا أطلق، وهو صحيح، لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلا، والحَسَن الصوت، وفيه فضيلةٌ لأُسَيِّدِ بن حُضَير، وأنَّ التَّشاغل بشيءٍ مِن أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح، وفيه غير ذلك مما بيَّنه الحافظ. وقال أبو داود الطيالسي : ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء يقول: بينما رجلٌ يَقرأ سورة الكهف ليلة إذ رَأَى دابَّتِه تَركُضُ أو قال: فرسه تركض - فنَظَرَ فإذا مثل الصَّبابة - أو قال: مثل الغَمَامَةِ - فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «تلك السَّكِينَةُ نَزَلَتْ مَعَ القُرْآنِ أَو تَنَزَّلَتْ على القُرآنِ». ووقع نظير هذه القصَّة لثابت بن قيس بن شماس.، قال أبو عبيد في كتاب "فضائل القرآن": حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن عمه جرير بن يزيد: أنَّ أشياخ أهل المدينة حدثوه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شَمَّاس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟
قال: «فلعله قرأ سورة البقرة . قال : فسُئل ثابت، فقال: قرأت سورة البقرة. وروى عبدالرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس: أنَّ أُسَيِّد بن حُضَير ورجلا من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتَّى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظُّلمة، ثُمَّ خَرَجا وبيد كُل منهما عصاةٌ، فأضاءت عصا أحدهما حتَّى مَشَيا في ضَوّئها، حتّى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر؛ فمشى كل منهما في ضَوْء عصاه حتَّى بلغ أهلَهُ.
بن عن ثابت، عن
وفي "المسند"، و"المستدرك" من طريق حماد سلمة أنس: أنَّ أُسَيْدَ بن حُضَير، وعَبَّادَ بن بِشْرِ كانا عند ا النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله
وسلّم في ليلةٍ ظَلَمَاءَ عِنْدِسِ، فلمَّا خَرَجا أضاءت عصا أحدهما؛ فمشيا في ضَوْئِها، فلما افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر.
والحديث في "صحيح البخاري". وفيه كرامتان لهذين الصحابيين منها . وقال البخاري في "التاريخ": حدثني أحمد بن الحجاج، ثنا سفيان بن حمزة، عن كثير بن زيد - هو الأسلمي - عن محمد بن حمزة الأسلمي، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في ليلةٍ ظَلْمَاءَ دُحْمُسَةٍ، فأضاءت أصابعي حتَّى جمعوا عليها ظَهْرَهم وما هلك منهم، وإنَّ أصابعي لتنير. ورواه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق إبراهيم بن المنذر: ثنا سفيان بن حمزة به، وزاد: أنَّهم كانوا في سَفَرٍ. وحمزة: هو ابن عمر بن عويمر ا الأسلمي المدني يكنى: أبا صالح، صحابي. وأخرج أبو نعيم في "الدلائل": عن زيد بن أبي عيسى: أنَّ أبا عيسى كان يُصلي مع رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم الله الصَّلوات، ثُمَّ يرجع إلى بني
حارثة، فخرج ليلةٌ مَطَريَّةٌ مُظلِمةً؛ فنوّرت له عصاه حتى دخل دار بني حارثة. قلت: كذا في "الدلائل " : أبو عيسى وهو تصحيف، والصواب أبو عبس، وهو ابن جبر بن عمرو الأنصاري الحارثي، اسمه: عبدالرحمن شهد بدرًا وما بعدها، وكان فيمن قتلوا كعب بن الأشرف.
وأخرج أبو نعيم أيضًا من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه قال: عرض لعلي - كرم الله وجهه - رجلان في حكومة، فجلس في أصل جدار، فقال رجل: يا أمير المؤمنين الجدار يقع، فقال علي رضي الله عنه: امض كفى بالله حارسًا، فقضى بينهما وقام، ثُمَّ سَقَط الجدار.
وأخرج أيضًا عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: حدث علي عليه
السلام رجلًا بحديث، فكذَّبه فما قام حتَّى عَمِي. وأخرج البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سَرِيَّةٌ عَيْنًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، فانطلقوا حتَّى إذا كانوا بالهدأة موضع بين عُسْفَان ومكة - ذكروا لحي من هذيل - يقال لهم: بنو لحيان - فنفروا إليهم قريباً من مائتي رجل كلهم
بهم
رام، فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فَدْفَد، وأحاط . القوم فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا، قال عاصم بن ثابت - أمير- السَّريَّة : أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذِمَّة كافر، اللهم أخبر عنا نبيَّك، فرموهم بالنبل ، فقتلوا عاصما في سبعة؛ فنزل إليهم ثلاثة رَهْطٍ بالعهد والميثاق منهم حُبَيب الأنصاري وابن دَيْنَة، ورجل
آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قِسِيّهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث
- وهو عبد الله بن طارق كما في رواية ابن إسحاق : هذا أوّل الغَدْرِ، والله لا أصحبكم إنَّ في هؤلاء لأُسوةً يريد القتلى فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى؛ فقتلوه.
فانطلقوا بخُبَيبٍ وابن دَيَّنَة حَتَّى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع حُبَيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان حبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر ، فلبث حبيب عندهم أسيرًا، فأخبرني عبيد الله بن عياض: أنَّ بنت الحارث أخبرته أنَّهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعةً عرفها حبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. والله ما رأيت أسيرًا قَطُّ خيرًا من حُبَيبٍ، والله لقد وجدته يوما يأكل من قِطْفِ عِنَبٍ في يده، وإنَّه لوثَقٌ في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول : إنَّه لرزق من الله رزقه حُبَيبا، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم :حبيب ذروني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، ثُمَّ قال:
لولا أن تظنّوا أن ما بي جَزَعٌ لطَوَّلتها، اللهم أحصهم عَدَدًا. ولستُ أبالي حِينَ أُقتلُ مُسْلِمًا على أي شِقُّ كَانَ الله مَصْرَعِي وذلك في ذاتِ الإله وإن يَشَأ يُبارك على أَوْصال شلو مُزِّعِ فقتله ابن الحارث، فكان خُبيب هو سَنَّ الرَّكعتين لكل امرئ مسلم قُتِل صبرًا، فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فأخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه خبرهم وما أصيبوا، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم - حين حُدِّثوا أَنَّه قُتل - ليُؤْتَوا بشيءٍ منه يُعرَف، وكان قد قتل رجلًا من
عظمائهم يوم بدر؛ فبعث على عاصم مثل الظُّلَّة من الدبر فحمته من رسولهم، فلم يقدروا على أن يقطع من لحمه شيئًا».
وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمر، عن قتادة قال : كان عاصم بن ثابت
أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مُشرك وأن لا يمس مشركًا أبدا، فكان عمر رضي ا
عنه يقول لما بلغه خبره: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته.
الله
وقد أرادت هُذيل أخذ رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعيد بن شهيد، وكانت نذرت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنَّ في قَحْفِه الخمر؛ لأنه قتل ابنين لها يوم م أحد، فحماه الله منهم بالدبر كما حماه من قريش الذين طلبوه أيضًا؛ لأنَّه قتل منهم يوم بدرٍ عُقبة بن أبي معيط صبرًا بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وكان عاصم قد دعا قبيل استشهاده بقوله: «اللهم إنّي أحمي لك اليوم دينك فاحم لي الحمي». وفي هذا الحديث: دليل على أنَّ الله يُكرم أولياءه أحياءًا وأمواتا، وقول حُبَيب: «اللَّهُمَّ أَحصِهِم عَدَدًا»، زاد عليه في رواية أخرى: «واقتلهم بَدَدًا - أي متفرقين ولا تُبقِ مِنهُم أَحَدًا». وفي رواية أخرى: فقال حُبَيب: «اللهمَّ إنِّي لا أجد من يبلغ رسولك منِّي السلام، فبلغه فلما رفع على الخشبة استقبل الدّعاء، فلَبِدَ رجل بالأرض خوفًا من دعائه، فقال: «اللَّهُمَّ أَحصِهِم عَدَدًا واقتلهم بَدَدًا»، فلم يحل الحول ومنهم غير ذلك الرجل الذي ليد بالأرض. وروى ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان قال: كنت مع أبي فجعل
أحد.
يلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة حُبيب، وفي رواية أخرى: «فجاء جبريل
إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبَرَهُ، فأخبَرَ أصحابه بذلك». وعند موسى بن عقبة: فزعموا أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال
ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السَّلام يا خُبَيْبُ، قَتَلَتهُ (قريضٌ
الخصتُ هذه الروايات من "فتح الباري". وفي هذه القِصَّة عِدَّة كرامات الخُبَيْبٍ رضي الله عنه: استجابة دعائه فيمن قتلوه، وتبليغ سلامه إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، ووجود العنب عنده في غير أوانه مع كونه مُوثَقًا في الحديد حتَّى كانت بنت الحارث تَحلِف أَنَّه رِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ حُبَيْبًا.
قال ابن بطال : هذا يمكن أن يكون الله جعله آية على الكفَّار، وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته، فأما من يدعي وقوع ذلك له اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له؛ إذ المسلمون قد دخلوا في الدين، وأيقنوا بالنُّبوَّة، فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلَّا أن يقول جاهل: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبي، فكيف نُصدّقها من نبي؟ والفرض أنَّ غيره يأتي بها، لكان في إنكار ذلك قطعًا للذريعة». إلى أن قال: إلَّا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادةً، ولا يقلب عينًا، مثل أن يكرم الله عبدا بإجابة دعوة في الحين، ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الولي، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصما لئلا ينتهك عدوه
حرمته . اهـ
قال الحافظ: والحاصل أنَّ ابن بطال توسط بين مَن يُثبت الكرامات ومن ينفيها، فجعل الذي يثبت: ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنع:
ما يقلب الأعيان مثلا، والمشهور عن أهل السُّنَّة إثبات الكرامات مطلقًا، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري- ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك، وهذا أعدل المذاهب في ذلك؛ فإنَّ إجابة الدعوة في الحال، وتكثير الطعام والماء، والمكاشفة بما يغيب عن العين والإخبار بما سيأتي، ونحو ذلك قد كَثُر جدا حتى صار وقوع ذلك ممَّن يُنسب إلى الصلاح كالعادة؛ فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيري، وتعيَّن تقييد قول من أطلق أنَّ كلَّ معجزةٍ وُجدت لنبي يجوز أن تقع لولي».اهـ واختار التَّاج السُّبكي أيضًا هذا القول في "جمع الجوامع" فقال: وكرامات الأولياء حقٌّ، قال القشيري: ولا ينتهون إلى نحو ولد دون
والد» . اهـ
لكن ذكر الزركشي في "شرحه" : أنَّ ما قاله القشيري مذهب ضعيف، والجمهور على خلافه» . اهـ
نعم من المعجزات ما قام الدليل القاطع على أنَّ أحدا لا يأتي بمثله
كالقرآن، فلا خلاف في هذا بين أحدٍ من الناس، والله أعلم. ومن الروايات المتعلقة بقصّة حُبَيبٍ : ما ذكره ابن أبي شيبة قال: ثنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن الزهري، عن جعفر بن عمرو بن أُميَّة، عن أبيه: «أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بعثه وحده عينًا على قريش، قال: فجئتُ إلى خَشَبة خُبَيبٍ، وأنا أتخوّف العين فرقيتُ فيها فأطلقتُ حُبَيبا، فوقع على الأرض فانتبذتُ غير بعيد، ثُمَّ التفت فلم أرَ حُبَيبا، كأنَّها ابتلعته
الأرض، فما رؤي إلى الساعة».
قال ابن أبي شيبة: وقد كان جعفر بن عون قال: عن جعفر بن عمرو بن
أمية، عن أبيه، عن جده».
قلت: روايته الأولى عن الزهري أصح، وهذه كرامةٌ أُخرى الحبيبِ سُمِّيَ من
أجلها بليع الأرض، كما نقله أبو يوسف في كتاب "اللطائف" عن الضَّحَّاك. وذكر القيرواني في "حلى العلى": «أنَّ حُبَيبا لما قتلوه جعلوا وجهه إلى غير القبلة فوجدوه مستقبل القبلة، فأداروه مِرارًا ثُمَّ عجزوا فتركوه، كذا في " الإصابة" للحافظ. وأخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: «جاء أبو بكرٍ رضي الله عنه بضيف له -أو- بأضياف له فأمسى عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فلما جاء قالت له :أمي احتبست عن ضيفك أو عن أضيافك - الليلة، قال: ما عَشَيْتهم؟ فقالت: عرضنا عليه - أو عليهم - فأبى -
أو فأبوا فغضب أبو بكرٍ رضي الله عنه فَسَبَّ وجَدَّع وحَلَفَ لا يَطْعَمُه، فاختبأتُ أنا، فقال: يا غُنثرُ ، فحَلَفت المرأة لا تطعمه حتّى يطعمه، فحلف الضيف أو الأضياف - أن لا يطعمه - أو يطعموه - حتّى يطعمه، فقال أبو بكر رضي الله عنه : كأنَّ هذه من الشَّيطان، فدعا بالطعام فأكل وأكلوا؛ فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فقال: يا أخت بني فراس، ما هذا؟ فقالت: وقُرَّةِ عيني إنّها الآن لأكثر قبل أن نأكل، فأكلوا وبعث بها إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر أنه أكل منها».
وفي هذا الحديث: تكثير الطعام القليل إكراما للصَّدِّيق رضي ا الله عنه،
وجبرًا لما حصل له من الغضب أولا، كما قال الحافظ.
استرجع
وفي "الموطأ" بإسناد صحيح على شرط الشيخين: أنَّ أبا بكر رضي الله عنه عند وفاته أرضًا كان وهبها لعائشة رضي الله عنها، وقال -يُطَيبُ قلبها -: «إنَّما هما أَخَوَاكِ وأختاك»، أي: لم أسترجع الأرض الموهوبة إلا لمصلحة الورثة الذين هم أخواك وأختاك، قالت لأبيها رضي الله عنهما: «إنَّما هي أسماء فمن الأخرى؟» أي: ليس لي أخت غير أسماء، فأين الأخت الثانية؟ فأجابها الصِّدِّيق رضي الله عنه: «ذُو بَطْنِ بِنتِ خَارِجَةَ» -هي امرأته، وكانت
حاملًا - أُرَاهَا جَارِيَةً» قالت عائشة: فولدت بعد وفاته بنتا.
وفي "صحيح البخاري" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه قال: «لما قُتِلَ الذين بيرِ مَعُونَةَ وأُسِرَ عَمرو بن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قال له عامر بن الطَّفَيْلِ: من هذا؟ وأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أُمَيَّةَ: هذا عامر بن فُهَيْرَةً، فقال: لقد رأيتُه بعد ما قُتِلَ رُفِعَ إلى السَّماء حتَّى إنّي لأنظُرُ إلى السَّماء بينه وبين الأرض، ثُمَّ وضع فأتى النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خَبَرُهُم، فنعاهم فقال: «إِنَّ أصحابكم قد أُصيبوا...» الحديث.
وروى ابن المبارك وعبد الرزاق، عن مَعْمَرٍ، عن الزهري، عن عروة قال: طلِب عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ يومئذٍ في القَتْلَى فلم يُوجد، قال عروة: فيرون أنَّ الملائكة دفنته أو رفعته».
قلت: عَامِرُ بن فُهَيْرَة التَّمِيمِيُّ: مَولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، ومن الذين عُذَّبوا في الله، وخَرَج في الهجرة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكرٍ كما في الصحيح، واستشهد ببئر معونة، فلا
غرو أن يُكرمه الله بهذه الكرامة العظيمة رضي الله عنه وأرضاه. وأخرج البيهقي في "الدلائل"، واللالكائي في "شرح السُّنَّة"، وابن الأعرابي في "كرامات الأولياء"، والدير عاقولي في "فوائده" من طريق ابن
وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر قال: وجه عمر رضي الله عنه جيشًا ورَأَسَ عليهم رجلًا يُدعى سارية بن زنيم، فبينا عُمر يخطب جعل ينادي يا سارية، الجبل ثلاثًا - ثُمَّ قَدِم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتا يُنادي: يا سارية، الجبل - ثلاثا - فأسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى»، قال: قيل لعمر رضي الله عنه: إنَّك كنتَ تصيح بذلك، وكذا ذكره حرملة في جمعه لحديث ابن وهب قال الحافظ: «وهو إسناد حسن».
وفي رواية ابن مردويه من طريق ميمون بن مهران، عن ابن عمر، عن أبيه: أنه كان يخطب يوم الجمعة فعرض في خطبته أن قال: يا سارية، الجبل، من استرعى الذئب ظُلِم، فالتفت النَّاس بعضهم إلى بعض، فقال لهم على: ليخرجن مما قال، فلما فرغ ،سألوه، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجه واحد، وإن جاوزوا هلكوا، فخرج ما تزعمون أنكم سمعتموه، قال: فجاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم، قال: فعدلنا إلى الجبل ففتح الله علينا».
ولأبي نعيم من طريق قتيبة بن سعيد: ثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحرث قال: «بينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يخطب يوم الجمعة إذ
ترك الخطبة، فقال: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثا - ثُمَّ أقبل على خطبته، فقال: أولئك النظراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم-: لقد جنّ، ، لمجنون، هو في خطبته إذ قال : يا سارية الجبل، فدخل عبدالرحمن بن عوف - وكان يطمئن إليه فقال : أشد ما أَلوَمَهُم عليك، إنك تجعل على نفسك لهم مقالا، بينا أنت تخطب إذ أنت تصيح يا سارية الجبل أي شيء هذا؟! قال: إني والله ما ملكت ذلك، رأيتهم يقاتلون عند جبل يؤتون من بين أيديهم ومن خلفهم، فلم أملك أن قلت يا سارية الجبل ليلحقوا بالجبل.
يوم
الجمعة،
فلبثوا إلى أن جاء رسول سارية بكتابه: أن القوم لحقونا . فقاتلناهم من حين صلينا الصبح إلى حين حضرت الجمعة، ودار حاجب الشمس، فسمعنا مناديًا ينادي يا سارية الجبل مرَّتين، فلحقنا بالجبل، فلم نزل قاهرين لعدوّنا حتى هزمهم الله وقتلهم. فقال أولئك الذين طعنوا عليه: دعوا هذا الرجل، فإنَّه مصنوع له». وللقصة طرق أخرى جاء فيها: أنَّ سارية كان بنهاوند من بلاد فارس، وقد صححها ابن تيمية، وفيها كرامة لعمر وسارية ومن كان معه ممن سمع الصوت. وكرامات سيدنا عمر رضي الله عنه يقول عنها التَّاج الشبكي في "مُعِيد النعم ومبيد النقم": «إنَّها أكثر من أن تُحصر » . اهـ
وأخرج البخاري في "الصحيح" عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: «ما حَضَرَ أَحَدٌ دَعَانِي أبي من الليل فقال : ما أَرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّل مَن يُقتَلُ من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإنِّي لا أَترُكُ بعدي أَعَزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإنَّ عليَّ دَيْنًا فاقض،
واستوص بأخواتك خيرًا، فأصبحنا فكان أوّل قتيل، ودُفن معه آخر في قبر، ثُمَّ لم تَطِب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعتُهُ غير هُنَيَّةٌ فِي أُذُنه».
في هذا الحديث: قُوَّة إيمان والد جابر لاستثنائه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ممن جعل ولده أعز عليه منهم، وفيه كرامته بوقوع الأمر على ما ظن، وكرامته بكون الأرض لم تُبل جسده مع لبثه فيها، والظاهر أنَّ ذلك لمكان الشهادة. قاله الحافظ.
وإنَّما أخبر والد جابر بأنّه مقتول يوم أحد؛ لأنه رأى في المنام مبشر بن
عبدالمنذر وكان ممن استشهد ببدر - يقول له: أنت قادم علينا في هذه الأيام، فقصها على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: «هذه الشهادة». رواه الحاكم في "المستدرك" عن الواقدي. وقول جابرٍ رضي الله عنه: «غَيْرَ هُنَيَّةٌ فِي أُذُنِهِ»، هنيَّة - بضم الهاء - تصغير هنة، والمراد: أنَّ أذنه أصابها شيءٌ يسير؛ لأنها كانت مما يلي الأرض كما جاء في
رواية أخرى.
محمد
قال الحافظ : ولا يُعكّر على ذلك ما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه : «أَنَّ أَباه قُتِلَ يومٍ أُحُدٍ ثُمَّ مَثَلُوا به فجَدَعُوا أنفه وأذنيه... الحديث، وأصله في مسلم؛ لأنه محمول على أنهم قطعوا بعض أُذنيه لا جميعها».اهـ
(تنبيه) رویى مالكٌ في "الموطأ" عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه : أنَّ عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو - والد جابر - الأنصاريين، وكانا قد
حَفَرَ السَّيْلُ قبرهما - وكانا في قبر واحد - فحُفِرَ عنهما لِيُغَيَّرا من مكانهما، فوُجِدَا لم يَتَغَيَّرا كأنها ماتا بالأمس، وكان بين أحدٍ وبين يوم حُفِرَ عنهما سِتٌ وأربعون سَنَةٌ». فهذا الحديث يُخالف حديث جابر المذكور، وقد جمع بينهما ابن عبدالبر بتعدد القصة.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنَّ الذي في حديث جابر: «أَنَّه دَفَنَ أباه في قبره وحده بعد ستة أشهر، وفي حديث "الموطأ": «أنها وُجِدا في قبر واحد بعد سِتَّةٍ وأربعين سنة، قال : فإما أن المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو
من
أن السيل خرق أحد القبرين فصارا كقير واحد. وقد ذكر ابن إسحاق القصة في "المغازي" فقال: «حدثني أبي، عن أشياخ الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشُّهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما - يعني عمرو وعبدالله وعليهما بردتان قد غُطّي بهما وجوههما، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنها دفنا بالأمس، وله شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر» . اهـ
ولأبي نعيم في "الدلائل" من طريق عبدالواحد بن غياث: ثنا حماد بن سلمة قال: سمعت عمرو بن دينار، وأبا الزبير يقولان: «إنَّ المسحاة أصابت قدم حمزة فدميت بعد أربعين سنة».
وأخرج أبو نعيم أيضًا من طريق ضَمْرة، عن مرزوق: أنَّ نارًا خرجت على عهد عمر رضي الله عنه فجعل تميم الداري يدفعها بردائه حتى دخلت غارا، فقال له عمر رضي ا الله عنه: لمثل هذا كنا نَحْتَبِئُكَ يا أبا رُقيَّة».
وأخرج هو والبغوي من طريق الجريري: عن أبي العلاء، عن معاوية بن حرمل قال: «قدمت على عمر فقلت: يا أمير المؤمنين، تائب من قبل أن يُقدر علي، قال: من أنت؟ قلت: معاوية بن حرمل -خَتَن مسيلمة- قال: اذهب فانزل على خير أهل المدينة، قال: فنزلت على تميم الداري، فبينا نحن نتحدث إذ خرجت نار بالحرّة، فجاء عمر إلى تميم، فقال: يا أمير المؤمنين، من أنا وما أنا؟ فصغر نفسه فلم يزل به حتى قام ،معه قال: وتبعتهما، فانطلقا إلى النَّار، فجعل يحوشها بيده - هكذا - حتى أدخلها الباب الذي خرجت منه، ثُمَّ اقتحم
خلفها، ثُمَّ خرج فلم تضره، وجعل يقول: ليس من رأى كمن لم ير». قال الحافظ: «في هذه القصة كرامة واضحة لتميم، وتعظيم كثير من عُمَر له». اهـ وثبت في "الصحيحين" وغيرهما، واللفظ لمسلم عن عُروة بن الزبير: أنَّ
سعید بن زید خاصمته أروى بنت أوس إلى مروان، وادعت عليه أنه أخذ منها شيئًا من أرضها فقال سعيد: أنا أخُذُ مِن أرضها بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من أخذ شبرًا من أرض ظُلما طوَّقَهُ إلى سبع أرَضِين»؟ فقال مروان: لا أسألك بَيْنَةً بعد هذا، فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فأعمِ بَصَرَها، واقتلها في أرضها، فما ماتت حتَّى ذَهَبَ بَصَرُها، وبينا هي تمشي في أرضها إذ وَقَعَتْ في حُفْرَةٍ فماتت، وفي رواية لمسلم أيضًا أن أروى قالت: أصابتني دعوة سعيد. ولهذه القصة طرقٌ عن ابن عمر وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما، أوردها الحافظ بن عبدالبر" في "الاستيعاب" ومما جاء فيها: «أنَّ أهل المدينة كان يدعو بعضهم على بعض يقولون: أعماك الله كما أعمى أروى -
يريدونها - ثُمَّ صار أهل الجهل يقولون: أعماك الله كما أعمى الأروى، يريدون الأروى التي في الجبل يظنونها - ويقولون: إنها عمياء، وهذا جهل منهم. وذكر القصَّة أيضًا الدميري في مبحث الأروية من "حياة الحيوان". وذكر ابن عبدالبر والنووي وغيرهما: أنَّ سيّدنا سعيد بن زيد رضي الله عنه
كان مجاب الدعوة، وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة أيضًا، وتُرجى لاشتهارها بالإجابة، وله في ذلك حوادث كثيرة.
تخاف
دعوته
وقصته مع الرجل الذي كَذَب عليه مشهورة في "صحيح البخاري" وغيره وحاصلها على ما جاء في رواية عبدالملك بن عمير، عن جابر بن الله عنه قال: «شَكا أهل الكوفة سعدًا إلى عُمر رضي الله عنهما؛
سَمُرَةَ رضي
فعزله واستعمل عليهم عَمَّارًا رضي الله عنه فشكوا، حَتَّى ذكروا أَنَّه لا يُحسِنُ يُصَلِّي؛ فأرسل إليه فقال : يا أبا إسحاق إنَّ هؤلاء يزعمون أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قال أبو إسحاق أما أنا والله فإنّي كنتُ أُصَلِّي بهم صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما أَخْرِمُ عنها، أُصَلِّي صلاة العِشَاءِ فأركُدُ فِي الأُولَيَينِ، وأُخِفٌ في الأُخْرَيَنِ، قال عمر رضي الله عنه ذاك الظُّنُّ بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلا أو رجالًا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يَدَعْ مسجدًا إِلَّا سَأَلَ ، ويُثنون عليه مَعرُوفًا، حتَّى دَخَلَ مسجدًا لبني عبس، فقام رجلٌ مِنهم -
يُقال له: أسامة بن قتادة يُكنى أبا سَعْدَةَ - قال : إذ نَشَدِّتَنا فَإِنَّ سَعدًا كان لا يسير بالسَّرِيَّة - أي لا يسير مع الجيش للقتال - ولا يَقسِمُ بالسَّويَّة، ولا يَعدِلُ في القضيَّة، قال سعد: أما والله لأدعُوَنَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فَقرَهُ، وعَرَّضُهُ للفِتَن، قال: فكان بعد
ذلك إذا سُئِل يقول : شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك فأنا رأيته بعد، قد سَقَطَ حَاجِبَاه على عينيه مِن الكِبَرِ، وإنَّه
ليتعرَّضُ للجواري في الطُّرُق يَعْمِرُهُنَّ»، وهذا القصّة ألفاظ وطرق. قال العلامة الزَّين بن المنير : في الدعوات الثلاثة مناسبة للحال، أما طول عمره: فليراه من سمع بأمره فيعلم كرامة سعد، وأما طول فقره: فلنقيض مطلوبه؛ لأن حاله يُشعر لأنه طلب أمر دنيويًا، وأمَّا تعرضه للفتن فلكونه قام فيها ورضيها دون أهل بلده . اهـ قال الحافظ : ومن أعجب العجب أنَّ سعدا مع كون هذا الرجل واجهه بهذا، وأغضبه حتّى دعا عليه في حال غضبه، راعى العدل والإنصاف في بشرط أن يكون كاذبا، وأن يكون الحامل له على ذلك
الدعاء عليه؛ إذ
علقه
الغرض الدنيوي» . اهـ
وأخرج مسلم في "صحيحه" عن مطرف قال: قال لي عِمْرَانُ بن حُصَينٍ رضي الله عنه: «قد كان يُسَلَّمُ عليَّ حتّى اكتويتُ فتُرِكتُ ثُمَّ تَرَكتُ الكَيَّ فعاد». وأخرج أيضًا من طريق آخر عن مُطَرِّف قال: «بعث إليَّ عِمران بن حُصَينٍ في مرضه الذي تُوُفِّي فيه فقال: إنّي مُحدِّثك فإن عِشتُ فاكتُم عَنِّي، وإِن مُتُ فحدث بها إن شِئتَ: إِنَّه قد سُلَّمَ عليّ». قال النووي في شرح مسلم": معنى الحديث الأول: أنَّ سيدنا عمران بن حُصَين رضي الله عنه كانت به ،بواسير فكان يصبر على ألمها، وكانت الملائكة تُسَلّم عليه، واكتوى فانقطع سلامهم عليه ، ثُمَّ ترك الكي فعاد سلامهم عليه. قال: قوله في الحديث الثاني: فإن عشت فاكتم عني، أراد به الإخبار
بالسلام عليه؛ لأنه كره أن يشاع عنه ذلك في حياته؛ لما فيه من التعرض للفتنة
بخلاف ما بعد الموت». اهـ
وقال القرطبي في "شرح مسلم: «يعني أنَّ الملائكة كانت تُسَلّم عليه إكراما
واحتراما إلى أن اكتوى؛ فتركت السّلام عليه، ففيه إثبات كرامات الأولياء» . اهـ وأخرج الحاكم في "المستدرك" وصححه عن مطرف بن عبدالله، عن عمران بن حصين قال: اعلم يا مُطرّف، أنه كانت تُسَلَّم الملائكة عليَّ عند رأسي، وعند البيت، وعند باب الحجر، فلما اكتويتُ ذهب ذاك، قال: فلما برئ كلمه، قال: اعلم يا مُطَرّف أنه عاد الذي كنت أخبرتك به، اكتم عليَّ حتّى أموت». قال البيهقي في "شعب الإيمان": «لو كان النهي عن الكي على طريق التحريم، لم يكتو مع علمه بالنهي، غير أنَّه رَكِب المكروه؛ ففارقه مَلَكٌ كان يُسَلِّم عليه؛ فحزن
على ذلك وقال هذا القول، ثُمَّ قد رُوي : أنَّه قد عاد إليه قبل موته». اهـ وقال ابن الأثير في "النهاية": «يعني أن الملائكة كانت تُسَلِّم عليه، فلما
اكتوى بسبب مرضه تركوا السَّلام عليه؛ لأنَّ الكي يقدح في التوكل والتسليم إلى الله، والصبر على ما يُبتلى به العبد، وطلب الشفاء من عنده، وليس ذلك قادحًا في جواز الكي، ولكنه قادح في التوكل وهي درجة عالية وراء مباشرة الأسباب». اهـ
وأخرج الترمذي في "التاريخ"، وأبو نعيم والبيهقي في "دلائل النبوة" عن غزالة قالت: «كان) عمران بن حصين يأمرنا أن نكنس الدار، ونسمع السلام
عليكم، ولا نرى أحدًا». قال الترمذي: هذا تسليم الملائكة.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" عن قتادة: «أنَّ الملائكة كانت ؟ كانت تُصافح
عمران بن حصين حتى اكتوى فتنحت عنه».
وأخرج أبو نعيم في "دلائل النُّبوَّة" عن يحيى بن سعيد القطان - أحد الحفاظ الأئمة - قال: «ما قَدِم علينا البصرة من الصحابة أفضل من عمران بن
حصين، أتت عليه ثلاثون سنة تُسلّم عليه الملائكة من جوانب بيته». وقال الحافظ ابن عبدالبر في "الاستيعاب": «كان عمران بن حصين رضي الله عنه مِن فُضلاء الصَّحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة: أنه كان يرى الحفظة، وكانت تُكلّمه حتَّى اكتوى» . اهـ
وعاد إليه ذلك كما تقدَّم، وكان مُجاب الدعوة أيضًا كما قال النووي والحافظ، وفي هذه القصَّة دليل على أنَّ الله قد يُكرم بعض أوليائه بتسليم
الملائكة عليه، ومصافحتهم له، ورؤيته إياهم.
وأخرج الطبراني وعنه أبو نعيم من طريق أبي هريرة قال: «لما بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم العلاء بن الحَضْرَمِي إلى البحرين تبعته، فرأيت منه خِصَالًا لا أدري أَيَّتُهنَّ أَعجَبُ انتهينا إلى شاطئ البحر فقال: سَمُّوا الله واقتَحِمُوا، فَسَمَّينا واقتَحَمُنا، فما بَل الماءُ إِلَّا أَسَافِلَ خِفَافِ إبلنا، فلما قفلنا صرنا معه بفلاةٍ من الأرض وليس معنا ماء، فشكونا إليه، فصلى ركعتين ثُمَّ دعا، فإذا سَحَابَةٌ مثل التُّرْسِ، ثُمَّ أَرخَت غَزَالَيْهَا فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا، ومات فدفناه في الرمل، فلما سرنا غير بعيد قلنا: يجيئ سَبع فيأكله، فرجعنا فلم نَرَه . وفي رواية ابن سعد عنه: رأيته قطع البحر على فرسه، وهذه القصة
مشهورة».
قال الحافظ بن عبدالبر: «كان يُقال: إنَّ العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه
كان مُجاب الدعوة، وأنه خاض البحر بكلمات قالها ودعا بها، وذلك مشهور عنه» . اهـ، ونحوه للحافظ في "الإصابة".
وقول أبي هريرة : ومات فدفناه... إلخ، مراده به: بيان الكرامة التي شاهدوها بعد موت العلاء رضي الله عنه، فهو من عطف قصة على قصّة، وإن كان موت العلاء تأخر إلى السَّنة الرابعة عشرة، أو الحادية والعشرين من الهجرة. يُوضح هذا ما رواه البيهقي عن أنس قال: أدركتُ في هذه الأمة ثلاثا لو كانت في بني إسرائيل لم تقاسمها الأمم، قلنا: ما هنَّ ؟ قال : كنَّا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أيامًا ثُمَّ قُبِضَ، فَغَمَّضه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله قال: «يا أنس، ايت أُمه، فأعلمها». قال: فأعلمتها، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما، ثُمَّ قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا، وخلعت الأوثان زهدا، وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تُسمت بي عبدة الأوثان، ولا تُحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، فوالله ما تقضَى كلامها حتى حرَّك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه،
وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحتى هلكت أمه. قال : ثُمَّ جهَّز عمر جيشًا، فاستعمل عليه العلاء بن الحضرمي قال: وكنت في غزاته، فأتينا مَغَازينا فوجدنا القوم قد نذروا بنا فعفوا آثار الماء، قال: والحر شديد، فجهدنا العطش ودوابنا، فلما مالت الشمس صلى بنا ركعتين، ثُمَّ مدَّ يده - وما نرى في السماء شيئًا - فوالله ما حطّ يده حتى بعث الله ريحا، وأنشأ
سحابًا، فأفرغت حتى ملأت الغُدُرَ والشَّعَاب، فشربنا، وسقينا، واستقينا.
ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجا في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا علي يا عظيم، يا كريم، ثُمَّ قال: أجيزوا باسم الله، قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات فدفناه، فأتى رجل بعد فراغنا من دفنه فقال: من هذا؟ قلنا : هذا خير البشر ، هذا ابن الحضرمي، فقال: إنَّ هذه الأرض تلفظ الموتى - لعل ذلك لكونها رملية - فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى، فقلنا ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسباع تأكله، فاجتمعنا على نبشه، قال: فلما وصلنا إلى اللحد إذا صاحبنا ليس فيه، وإذا اللحد مد البصر، نور يتلألأ ، فأعدنا التراب إلى القبر، ثُمَّ ارتحلنا.
فهذه الرواية اشتملت على عِدَّة كرامات، وأوضحت كثيرًا مما يذكر في رواية أبي هريرة المختصرة، وبيّنت وقت وفاة العلاء، وأنه كان في خلافة سيدنا عمر رضي الله عنه، وهو الموافق لما في كتب التاريخ والفتوح. ويستفاد من روايتي أبي هريرة وأنس: أنَّ العلاء رضي الله عنه تكررت كراماته ال
بمجاوزة البحر، ونزول المطر في العهد النبوي والعهد العُمري، والله أعلم.
وأخرج الطبراني في "الأوسط"، و"الصغير" عن أبي قرصافة بكسر القاف، واسمه جَنْدُرة بن خَيْشَنَة - قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «نَضَّرَ الله امرءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ عِلمٍ إِلى مَن ، هو أَعلَمُ مِنهُ، ثلاث لا يُغِلُّ عليهنَّ القلبُ: إخلاص العَمَلِ، ومُناصَحَةُ الولاة، ولُزُومُ الجماعة». قال: وبلغني أنَّ ابنا لأبي قِرْصَافة أسرته الرُّوم، فكان أبو قِرْصَافة يناديه من سُور عَسْقَلان في وقت كل صلاة يا فلان، الصَّلاةَ، فيسمعه فيجيبه،
وبينهما عرض البحر، وإسناده ضعيف.
لكن أخرج الطبرانيُّ أيضًا بإسنادٍ رجاله ثقات - كما قال الحافظ الهيثمي - من طريق عزّة بنت عياض بن أبي قِرْصَافة قالت: أَسر الرُّوم ابنا لأبي قِرْصَافة، فكان أبو قِرْصَافة إذا كان وقت كل صلاةٍ صَعِدَ . عَسْقَلان، ونادي يا سور فلان الصَّلاة، فيسمعه وهو في بلد الرُّوم. وقال الحافظ أبو عبدالله الضياء المقدسي في "المختارة": أنبأنا أبو عبدالله محمد بن معمر بأصبهان، أنَّ جعفر بن عبدالواحد أخبرهم إجازة: أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الهمداني: أنبأنا أبو محمد عبدالله بن جعفر بن حيان - هو أبو الشيخ - ثنا إسحق بن إسماعيل: ثنا آدم بن أبي إياس: ثنا محمد بن نشر : ثنا محمد بن عامر: ثنا أبو قرصافة - وكان لأبي قرصافة صحبة، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد كَسَاه برنسا، وكان الناس يأتونه فيدعو لهم ويبارك فيهم؛ فتعرف البركة فيهم، وكان لأبي قِرْصَافة ابن في بلد الرُّوم غازيًا، وكان أبو قِرْصَافة إذا أصبح في السحر بعسقلان نادى بأعلى صوته : يا قِرْصَافَة الصَّلاة؛ فيقول قِرْصَافة من بلاد الروم: لبيك يا أبتاه؛ فيقول أصحابه: ويحك لمن تنادي ؟ فيقول: لأبي ورب الكعبة يوقظني للصلاة. قال أبو قِرْصَافة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من آوى إلى فراشه، ثُمَّ قرأ سورة تبارك، ثُمَّ قال: اللهم ربَّ الحل والحرام، وربَّ البلد م الحرام، وربَّ الرُّكن والمقام، وربَّ المشعر الحرام، وبحق كل آية أنزلتها في شهر رمضان، بلغ رُوح محمَّدٍ مِنّي تحية وسلامًا، أربع مرات، وَكَّلَ الله به ملكين حتى يأتيا محمدًا، فيقولان له ذلك، فيقول صلى الله عليه وآله وسلَّم: وعلى فلان بن فلانٍ
السَّلام منّي ورحمة الله وبركاته». قال الضياء بعد تخريجه : لا أعرف هذا الحديث
إلا بهذا الطريق، وهو غريب جدًّا، وفي رواته من فيه بعض المقال» . اهـ قلت: الحديث أخرجه الديلمي، وأبو موسى المديني، كلاهما من طريق أبي
الشيخ.
قال أبو موسى ونشر» والد محمَّد بالنون، قال ابن القيم: محمد بن نشر هذا هو المدني، قال فيه الأزدي: «متروك الحديث مجهول»، قال ابن القيم أيضًا:
وعِلَّة الحديث أنه معروف من قول أبي جعفر الباقر، وهذا أشبه». اهـ قلت: لكن أحاديث إبلاغ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سلام من يُسلَّم عليه من أمته كثيرةٌ، يطول تتبعها، فلينظرها من أرادها في "جلاء الأفهام" ا لابن القيم، و"القول البديع" للسخاوي، و"الخصائص الكبرى" للسيوطي،
و"المواهب اللدنية" للقسطلاني، وغيرها ففيها جملة أحاديث بأسانيد جياد وأخرج الطبراني من طريق عبدالله بن عبيد، عن عُديسة بنت أُهْبَان بن صيفي الغِفَارِيّ : أنَّ أباها لما حضرته الوفاة أوصى أن يكفن في ثوبين، فكفَّنوه في ثلاثة، فأصبحوا فوجدوا الثوب الثالث على السرير، ورواه المعلى بن جابر بن
مسلم، عن أبيه، عن عُدَيسَة به.
وقال
الحافظ عبدالبر في "الاستيعاب": أُهبان بن صيفي الغفاري
بن
البصري - يكنى أبا مسلم - حديثه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في الفتنة: «اتَّخِذ سَيفًا مِن خَشَبٍ». ويُقال: وهبان بن صيفي روت عنه ابنته عُديسة، وقصّته في القميص الذي كُفّن فيه رواها النَّاس، وفيها آية، وذلك أنَّه : ا حضرته الوفاة قال: كفّنوني في ثوبين قالت ابنته: فزدنا ثوبا ثالثًا قميصا،
لما
فدفناه فيها، فأصبح ذلك القميص على المشجب موضوعا. وهذا خبر رواه جماعة من ثقات البصريين وغيرهم، منهم سليمان التيمي
وابنه معتمر، ويزيد بن زريع ومحمد بن عبد الله بن المثنى، عن المعلى بن جابر بن
مسلم، عن عديسة بنت وهبان، عن أبيها.اهـ
وكذا ذكر هذه القصة الحافظ في تهذيب التهذيب" و "الإصابة". وأخرج البزار والطبراني عن سفينة قال: «كنتُ في البحر، فانكسرت سفينتنا؛ فلم نعرف الطريق، فإذا أنا بالأسد قد عرض لنا؛ فتأخر أصحابي فدنوت منه، فقلتُ: أنا سَفِينَة مَوْلَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أضللنا الطريق، فمشى بين يدي حتى وقفنا على الطَّريق، ثُمَّ تنحى ودَفَعَنِي،
كأَنَّه يُرِيني الطريق، فظننتُ أنَّه يُوَدِّعُنا» هذا لفظ البزار .
ولفظ الطبراني: ركبت البحر، فانكَسَرَت سفينتي التي كنتُ فيها فركبتُ لوحًا مِن ألواحها، فطَرَحَني اللُّوحُ فِي أَجَمَةٍ فيها الأسد، فأقبل إليَّ يُرِيدُني، فقلت له: يا أبا الحارث، أنا سَفِينَة مَوْلَى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فطَاطَاً
رأسه، وأقبل إليَّ، فدفعني بمنكبه...»، وذكر باقي القصة نحو رواية البزار. وللقصة طرق أخرى، ورجال البزار والطبراني وتقوا كما قال الحافظ الهيثمي، ورواها ابن سعد، وأبو يعلى، وابن منده، والحاكم وصححها، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في "الدلائل". وأخرج الطبراني عن الحسن قال : كان عمار رضي الله عنه يقول: قاتلت مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الجن والإنس، أرسلني إلى بئر بدرٍ؛ فلقيتُ
الشيطان في صورة الإنس، فصار عني فصرعته، فجعلتُ أدقه بفهرٍ معي -
أو
حجرٍ معي - فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «عمار لَقِي الشَّيطان عند البئر، فقاتله». فما عدا أن ،رجعت فأخبرته فقال: «ذاك الشيطان». في إسناده ضعف.
وروى الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح - كما قال الحافظ الهيثمي -: عن سعيد بن عبدالعزيز: أنَّ عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أقسم يوم أُحُدٍ فهزم المشركون، وأقسم يوم الجمل فغلبوا أهل البصرة، وقيل له يوم صفين لو أقسمت، فقال: لو ضربونا بأسيافهم حتى نبلغ سَعَفَات هَجَر لعلمنا أنا على الحق، وهم على الباطل فلم يُقسم فقتل يومئذ، وقال يوم أُحُدٍ:
أقسمت يا جبريل ويا ميگــال
لا يغلبنا ا معشر ضُلال
إنا على الحق وهُم جُهَّال
وتقدَّم حديث: كم من ذي طمرين لا ثوب له لو أقسم على الله لأبره،
منهم عمار بن ياسر».
وأخرج ابن سعد، عن نافع قال: «بينما عثمان يخطب إذ قام إليه جَهْجَاه
الغفاري، فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبته؛ فوقعت فيها الأكلة». وأخرج الباوردي وابن السكن عن ابن عمر قال: «قام جَهْجَاه الغفاري إلى عثمان وهو على المنبر ، فأخذ عصاه فكسرها ، فما حال على جَهْجَاه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة، فمات منها». وأخرج ابن السكن أيضًا من طريق فليح بن سليم، عن
عمته، عن أبيها وعمها: «أنهما حضرا عثمان رضي الله عنه فقام إليه جهجاه الغفاري حتى أخذ
القضيب من يده فوضعها على ركبته فكسرها، فصاح به الناس؛ فرمى الله
الغفاري في ركبته فلم يحل عليه الحول حتى مات».
وليس بين هذه الروايات تناقض، بل هي محمولةٌ على أنَّ الله رمى الغِفَارِيَّ في يده التي أخذ بها، وفي ركبته التي كسر عليها، وأماته بدائه قبل الحول انتقاما لعثمان أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنه، والله عزيز ذو انتقام.
وأخرج أبو يعلى، والطبراني وأبو نعيم، والبيهقي بإسناد رجاله رجال الصحيح عن أبي السَّفَر قال: نزل خالد بن الوليد رضي الله عنه ال الله عنه الحيرة على أمير بني المرازبة، فقالوا له: احذرِ السُّمَّ لا تَسقِيكَه الأعاجم، فقال: ائتوني به، فأخذه بيده، ثُمَّ اقتحمه وقال: بسم الله، فلم يضره شيئًا».
وفي طريق آخر لأبي نعيم قال : فأتى بسم ساعة». وأخرجه ابن سعد من وجهين آخرين.
وأخرج أبو نعيم من طريق الكلبي قال: «لما أقبل خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه يريد الحيرة، بعثوا إليه عبد المسيح، ومعه سم ساعة، فقال له خالد: هاته فأخذه في راحته ثُمَّ قال: بسم الله وبالله رب الأرض والسماء،
بسم
م الله الذي لا يضر مع اسمه داء، ثُمَّ أكل منه، فانصرف عبدالمسيح فقال: يا
قوم أكل سم ساعة فلم يضره فصالحوهم، فهذا أمر مصنوع لهم».
وأخرج ابن أبي الدنيا بإسناد . الدنيا بإسناد صحيح كما قال الحافظ: عن خيثمة قال: أتى خالد بن الوليد رجل معه زِقُ عَمر فقال: اللهم اجعله عَسَلًا فصار
عَسَلا.
وقال ابن المبارك في كتاب "الجهاد" له : ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبدالله
عن حميد بن عبدالرحمن - هو الحميري - قال: «كان رجلٌ يُقال له: حُمَة - من أصحاب محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- خرج إلى أصبهان غازيًا في خلافة عمر رضي الله عنه - قال: وفتحت أصْبَهان في خلافة عمر رضي الله عنه – قال: فقال : اللهمَّ إِنَّ مُمَمَة يزعم أنَّه يُحِبُّ لقاءك، فإن كان حممة صادقًا فاعزم له عليه بصدقه، اللهم لا تَرُدَّ حُمَة مِن سَفَرِه ،هذا، قال: فأخذه بطنه فمات بأصبهان، فقام أبو موسى فقال : يا أيُّها النَّاس إِنَّا والله ما سَمِعنا فيما سَمِعنا من
نبيكم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وفيما بلغنا علمه إِلَّا أَنَّ حُمَة شهيدٌ». وقال ابن أبي شيبة في كتاب "فتح العراق" من مُصنَّفه: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، ثنا داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبدالرحمن: «أَنَّ رجلا كان يُقال له: حممة من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم...»، فذكره بمعناه سواء، إلا أنَّه قال: «فأخذه الموت فمات بأصبهان، ولم يقل فأخذه بطنه، وذكر القصة إلى آخرها. ورواها أبو داود ، ومُسدَّد، وأحمد، والحارث، في مسانيدهم من طريق حميد بن عبدالرحمن أيضًا، وفي روايتهم من الزّيادة: أنَّ حُمَة قال: «وإن كان كاذبًا فاحمل عليه وإن كَرِه، اللهم لا يرجع مُمَمَة من سفره هذا»، وأشار أحمد أنَّ عفان كان يقول: «فأخذه الموت»، وتارة «فأخذه البطن...» إلخ، ولا منافاة بين الرواتين، فإنَّ البطن كان سبب موته رضي الله عنه، فمن قال: أخذه الموت أراد بسبب بطنه، يؤيد هذا قول أبي موسى الأشعري: «يا أيها الناس ما
إلى
سمعنا فيهما سمعنا من نبيكم، وفيما بلغنا عِلمه إِلَّا أَنَّ مُحَمَة شهيد». يشير بذلك إلى حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" وغيره: «الشُّهداء
خمسة: المطعون، والمَبْطُونُ والغَريقُ، وصاحبُ الهَدْمِ، والشَّهيدُ في سبيل الله». وفي الباب أحاديث أخرى، ثُمَّ إنَّ قصَّة حممة إسنادها صحيح، وقال الحافظ الهيثمي - بعد أن عزاها لأحمد - : رجاله رجال الصحيح غير داود بن عبد الله الأودي، وهو ثقة وفيه خلاف» . اهـ
وكأنه يعني بالخلاف ما رواه الدوري عن ابن معين: أنَّ داود ليس بشيء،
مع رواية إسحاق بن منصور عنه: أنه ثقة.
والصواب: أنَّ ابن معين أطلق العبارة الأولى في داود بن يزيد الأودي عم
عبد الله بن إدريس، وهو ضعيف ضعفه ابن معين وغيره.
أما داود بن عبد الله الأودي فثقةٌ، نقله ابن شاهين في "الثقات" عن أحمد، وفي رواية أخرى عنه قال: شيخ ثقةٌ ،قديم، وهو غير عم ابن إدريس، وكذا وثقه ابن معين، وأبو داود، وغيرهما.
وروى أبو داود والنسائي من طريق داود الأودي، عن حميد بن عبدالرحمن الحميري قال: لقيت رجلًا صَحِب النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم أربع سنين، فقال: «نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن تغتسل المرأة
بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعًا». قال ابن حزم إن كان داود عم ابن إدريس فهو ضعيف وإلا فهو مجهول، ورد عليه ابن مفوز وابن القطان.
وقال ابن القطان أيضًا: «كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يُخبره بصحة هذا الحديث، وبيَّن له أمر هذا الرجل بالثقة، فلا أدري أرجع عن قوله أم لا . اهـ نقله الحافظ في "تهذيب التهذيب".
وقال في "فتح الباري" بعد أن أورد الحديث المذكور ما نصه: «رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعله على حُجَّةٍ قويَّة، ودعوى البيهقي: أنَّه في معنى المرسل مردودة؛ لأنَّ إبهام الصحابي لا يضر ، وقد صرّح التابعي بأنَّه لقيه، ودعوى ابن حزم: أن داود راويه عن حميد ابن عبدالرحمن وهو ابن يزيد الأودي، وهو ضعیف مردودة؛ فإنَّه ابن عبدالله الأودي، وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو
داود وغيره» . اهـ
وقد أطلت هنا بعض الإطالة دفعا لما حصل في داود الأودي من
الاشتباه، والله الموفق لا رب غيره.
وأخرج البيهقي عن حبيب بن مسلمة أنَّه أُمر على جيش، فلما أتى العدو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يجتمع قوم فيدعو بعضهم ويُؤَمِّن بعضهم، إلا أجابهم الله تعالى». ثُمَّ إِنَّه حمد الله تعالى، وأثنى عليه، وقال: «اللهم احقِنُ دِمائنا، واجعل أُجُورنا أُجُورَ الشُّهداء». فبينما هُم على ذلك إذ نزل أمير العدو فدخل على حبيب سرادقه.
قلت: كان حبيب بن مسلمة مجاب الدعوة، نقله الحافظ في "الإصابة" عن ابن أبي هبيرة برواية الطبراني، وعن سعيد بن عبدالعزيز وقال: «ابن حبيب هو الذي فتح أرمينية».
وقال ابن سعد: الريزل مع معاوية في حروبه، ووجهه إلى أرمينية فمات بها سنة اثنتين وأربعين ولم يبلغ خمسين». اهـ ومن كراماته: ما رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي عنه: أنَّه ناهض يوما حصنًا
فقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وقالها المسلمون؛ فانصدع الحصن.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ثنا على بن المديني: ثنا عبدالله بن مسلمة بن قعنب: ثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: «أنَّ زيد بن خارجة الأنصاري ثُمَ من بني الحارث بن الخزرج، تُوفي في زمن عثمان بن عفان، فَسُجِّي بثوب، ثُمَّ إنَّهم سمعوا جلجلة في صدره، ثُمَّ تكلّم فقال: أحمد أحمد في الكتاب الأوَّل، وصدق صدق أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه، القويُّ في أمر الله في الكتاب الأول، صدق صدق عمر بن الخطاب القويُّ الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن . منهاجهم، مضت أربع وبقيت ،ثنتان أتت الفتن، وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم خبر بئر أريس، وما بئر أريس؟».
عفان على
قال يحيى بن سعيد : قال سعيد بن المسيب: «ثُمَّ هَلَكَ رَجُلٌ من بني خطمة فَسُجِّي بثوبٍ، فسمعوا جَلْجَلَةٌ في صدره، ثُمَّ تكلَّم فقال: إن أخا بني الحارث بن الخزرج - يعني زيد بن خارجة - صدق صدق، وكانت وفاته في خلافة عثمان رضي الله عنه أيضًا»، هذا إسناد صحيح رجاله كلُّهم أئمة أعلام
وللقصة طريق آخر عند ابن مَنْدَه في "الصَّحابة" من جهة داود بن أبي هند عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال: «كان شاب من سراة شباب الأنصار وخيارهم يقال له: زيد بن خارجة، وكان أبوه وأخوه سعد بن خارجة أصيبا يوم أحدٍ، وأنَّه تكلَّم بعد موته، فذكر القصة نحو ما تقدم، ورواها أبو
نعيم في "معرفة الصَّحابة، والمحاملي في الحادي عشر من "أماليه الأصبهانية"، ومحمد بن نصر بن أحمد بن محمد بن مكرم في الجزء الثاني من " حديثه"، ورواها ابن أبي الدنيا في جزء من عاش بعد الموت" وهو مطبوع
فليراجع فإنَّ فيه آثارًا أُخرى بهذا المعنى.
وقال الحافظ ابن عبدالبر" في "الاستيعاب : زيد بن خارجة بن زيد بن . أبي زهير بن مالك من بني الحارث بن الخزرج، وهو الذي تكلم بعد الموت لا يختلفون في ذلك»، ثُمَّ قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبدالمؤمن قال: ثنا إسماعيل بن محمد: ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي وذكر القصَّة بالسند المذكور آنفا.
ويقرب من هذه القصَّة ما رواه ابن أبي الدنيا قال: حدثني أحمد بن جميل: ثنا عبد الله بن المبارك: أنا عبد الرحمن بن عبدالله بن دينار، عن زيد بن أسلم قال: أغمي على المسور بن تَخَرَمة ثُمَّ أفاق فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، عبدالرحمن بن عوف في الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقا، وعبد الملك والحجاج يَجْران أمعاء هما في النَّارِ». قال الحافظ في "تهذيب التهذيب": «هذا إسناد صحيح، ولم يكن للحجاج حينئذ ذكر ولا كان عبد الملك ولي الخلافة بعد؛ لأنَّ المسور مات في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد بن معاوية من الشّام، وذلك في ربيع الأول سنة (٦٤)، والمسور - بكسر الميم وفتح الواو بينهما سين ساكنة - صحابي فاضل، وهو ابن أخت عبدالرحمن بن عوف، وأبوه محرمة - بفتح الميم- ابن نوفل كان من مسلمة الفتح، وله علم بالنَّسب، فكان يؤخذ عنه، عُمر نحو مائة وخمس عشرة سنة، مات سنة أربع وخمسين. وأخرج ابن عساكر عن الأعمش قال: «تغوط رجل على قبر الحسن بن
علي رضي الله عنهما، فجُنَّ فجعل يَنبَحُ كما تنبح الكلاب، ثُمَّ إِنَّه مات فسمع في قبره يعوي ويصيح». وقال عبدالله بن وهب أخبرني أبو صخر، عن ابن قسيط، عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: أنَّ عبدالله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي فندعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد وقال: يا رب إذا لقيت العدو غدًا فلقني رجلا شديدًا بأسه، شديدًا حَرَدُه ، أقاتله فيك ويُقاتلني، ثُمَّ ارزقني الظَّفر عليه حتَّى أقتله وآخذ سلبه، فأَمَّن عبد الله ابن جحش ثُمَّ قال: اللهم ارزقني غدًا رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حَرَدُه أقاتله فيك ويقاتلني فيقتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله فيم جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك فتقول: صدقت، قال سعد: كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه معلقان جميعًا في خيط».
ورواه البغوي من طريق إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال: حدثني أبي فذكره، ورواه ابن شاهين من طريق آخر عن سعيد بن المسيب: «أَنَّ رجلًا عبد الله سمع
بن جحش...»، فذكر نحوه، وعزاه الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" لرواية الطبراني وقال: «رجاله رجال الصحيح». وعبدالله بن جحش هذا أحد السابقين هاجر إلى الحبشة ثُمَّ إلى المدينة، وشهد بدرًا، قال ابن أبي حاتم: دعا الله يوم أحد أن يرزقه الشَّهادة فقتل فيها، وقال الزبير : كان يقال له : المجدع في الله، وكان سيفه انقطع يوم أحد فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عُرجُون نخل فصار في يده سيفا، فكان يُسمَّى
العرجون، وقد بقي هذا السيف حتى بيع من بغاء التركي بمائتي دينار» . اهـ
(فائدة) عبدالله بن جحش هو أول أمير في الإسلام لما رواه البغوي من طريق زيادة بن علاقة، عن سعد بن أبي وقاص، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في سَريّة، وقال: «الأبعثنَّ عليكم رجلًا أصبركم على الجوع
والعطش». فبعث علينا عبد الله بن جحش، فكان أول أمير في الإسلام. قال الحافظ اليعمري: وسُمِّي في هذه السرية بأمير المؤمنين، وكانت هذه السرية بعد بدر الأولى إلى بطن نخلة بين مكة والطائف، فلما رجعوا منها قال عبدالله لأصحابه : إِنَّ لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مما غنمنا الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله الخمس - فكان أول خُمس في الإسلام، وأنزل الله
تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَالرَّسُول ﴾ الآية [الأنفال : ٤١]. وأخرج مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد أَنَّه . سمع . عبدالله بن عامر بن ربيعة يقول: «قام عامر بن ربيعة يُصلِّي من الليل، حين نشب النَّاس في الطعن على عثمان رضي الله عنه، ثُمَّ نام فأتي في المنام فقيل له: قم فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فصلى ودعا ثُمَّ اشتكى، فما خرج بعد إلا بجنازته»، ورواه الطبراني عن مصعب الزبيري، وقال الحافظ الهيثمي : «رجاله رجال الصحيح».
وعامر بن ربيعة: من السابقين هاجر مع زوجه إلى الحبشة ثُمَّ إلى المدينة، وشهد بدرًا وسائر المشاهد، مات بعد قتل عثمان بأيام رضي الله عنهما
وأرضاهما.
وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة" عن الحسن قال: كنا جلوسا مع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتي فقيل له:
أدرك دارك فقد احترقت فقال: ما احترقت فذهب ثُمَّ جاء، فقيل له: أدرك دارك فقد احترقت، فقال: لا والله ما احترقت ،داري، فقيل: احترقت دارك وتحلف بالله ما احترقت؟! فقال: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من قال حين يُصبح: ربي الله الذي لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أشهد أنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير، وأنَّ الله قد أحاط بكل شيءٍ عِلْمًا، أعوذ بالله الذي يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه مِن شَرِّ كلَّ دابَّةٍ ربي آخذ بناصيتها، إنَّ ربي على صِرَاطٍ مُستقيم» لم يُصِبْهُ فِي نَفْسِهِ ولا أهْلِهِ ولا مالِهِ شيءٌ يَكْرَهُهُ». وقد قلتها اليوم، ثُمَّ قال: انهضوا بنا، فقام وقاموا
معه، فانتهوا إلى داره، وقد احترق ما حولها ولم يصبها شيء. قلت: هذا الصحابي هو أبو الدرداء، كذلك جاء مُفسَّرًا في رواية لابن
السُّني أيضًا.
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن قيس قال: كان أبو الدرداء إذا كتب إلى سلمان، أو سلمان كتب إلى أبي الدرداء كتب إليه يذكره بآية الصحفة. وكنا
نتحدث أنه بينما هما يأكلان من الصحفة، فسبحت الصحفة وما فيها.
وروى أبو نعيم أيضًا عن حصين بن عبدالرحمن، عن عمران بن الحارث، عن مولى لكعب قال: انطلقنا مع المقداد بن الأسود، وعمرو بن عَبَسَةً، وشافع بن حبيب الهذلي، فخرج عمرو بن عَبَسَة يومًا للرعيَّة، فانطلقت نصف النهار - يعني: لأراها - فإذا سحابة قد أظلَّته ما فيها عنه فضل، فقال: إنَّ هذا شيء أتينا به، لئن علمت أنك أخبرت به لا يكون بيني وبينك خير، قال: فوالله ما
أخبرت به حتى مات.
قلت:
عمرو بن عَبَسَة السُّلَميُّ صحابي قديم الإسلام كان يقول: «لقد :
رأيتني وأنا ربع الإسلام، وفي رواية: «وأنا رابع الإسلام». وأخرج الترمذي والحاكم، وابن عدي، والبيهقي عن ابن عباس قال: ضَرب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم خِبَاءَه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، وإذا فيه إنسان يقرأ (سورة الملك) حتى ختمها فأتى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هي المنجية، ب المانعة، تُنجيه من عذاب القبر». وهذه كرامة كبيرة كما لا يخفى.
هي
قال الإمام كمال الدين ابن الزملكاني في كتاب "العمل المقبول في زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هذا الحديث واضح الدلالة: على أنَّ الميت كان يقرأ في قبره (سورة الملك)، وقد وقع في هذه الرواية ذكر إكرام الله بعض أوليائه بذلك، وإكرام بعضهم بالصَّلاة وكان يدعو الله في حياته بذلك، فإذا كان من كرامة الله لأوليائه تمكينهم من الطَّاعة والعبادة في القبر، فالأنبياء بطريق الأولى".اهـ
وقال الحافظ
بن رجب في كتاب "أهوال القبور": «بعض أهل البرزخ يكرمه الله تعالى بأعماله الصالحة في البرزخ، وإن لم يحصل له بذلك ثواب تلك الأعمال لانقطاع عمله بالموت، لكن إنَّما يبقى عمله عليه ليتنعم بذكر الله تعالى وطاعته كما يتنعم بذلك الملائكة، وأهل الجنة في الجنة وإن لم يكن لهم ثواب على ذلك؛ لأنَّ نفس الذكر والطَّاعة أعظم نعيما عند أهلها من جميع نعيم أ الدُّنيا ولذتها، فما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله وطاعته» . اهـ
أهل
وهذا الحديث قد زعم بعض جهلة الوهابيين - وكُلُّهم جهلةٌ- في كُتيب له
سماه "القول المبين" أنَّه مكذوب.
الله عنه
أحد
وهو زَعْمٌ باطل كما بينته في ردّي عليه المسمى بـ "الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين في حكم دعاء ونداء الموتى من الأنبياء والصالحين"، وهو رد واسع مفيد لا يُستغنى - عنه. وأخرج ابن مَنْدَه، وأبو أحمد الحاكم في "الكنى" بإسناد ضعيف كما قال الحافظان ابن رجب والسيوطي - عن طلحة بن عُبيد الله رضي ا العشرة قال: أردت مالي بالغابة فأدركني ،الليل، فأويت إلى قبر عبدالله بن عمرو بن حرام - والد جابر - فسمعتُ قراءةً من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فذكرت ذلك له فقال: «ذاك عبدالله، ألم تعلم أنَّ الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد، وعلقها في وسط الجنَّة فإذا كان الليل رُدَّت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر رُدَّت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت فيه». وقال شبابة بن سَوَّار ثنا المغيرة بن مسلم، عن حصين، عن عبدالله بن عبيد الأنصاري قال: كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن شماس -وكان أصيب يوم اليمامة - فلما أدخلناه القبر سمعناه يقول: محمد رسول الله، أبو بكر
الصديق عمر الشهيد عثمان الرحيم، فنظرنا فإذا هو ميت».
أخرجه أبو عبدالله بن مخلد من طريق الأعمش عن شبابة، ورواه ابن أبي
الدنيا في جزء من عاش بعد الموت" من طريق خلف البزار عن خالد الطحان عن حصين به ولفظه: «أن رجلا من قتلى مسيلمة تكلم فقال : محمد رسول الله،
أبو بكر الصديق، عثمان اللين الرحيم
قلت: كان ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري - خطيب الأنصار - وكان
يقال له خطيب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، شهد أحدًا وما بعدها
واستشهد باليمامة.
ومن كراماته في تلك الواقعة ما رواه هشام بن عمار عن صدقة بن خالد: ثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر: حدثني عطاء الخراساني قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس قالت لما نزلت يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية [الحجرات: ٢]، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأرسل إليه يسأله ما خبره؟ فقال: أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي، قال: «لست منهم، بل تعيش
بخير وتموت بخير».
قالت: ثُمَّ أنزل الله عزَّ وجلَّ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَا لَا فَخُورًا [النساء: ٣٦]، فأغلق عليه بابه وطفق يبكي، ففقده النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليه، فأخبره وقال: يا رسول الله إنِّي أُحبُّ الجمال، وأُحبُّ أن أسود قومي، فقال: «الست منهم بل تعيش حميدًا، وتُقتل شهيدًا وتدخل الجنَّة». قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة ما هكذا كنَّا نُقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ حفر كل واحد منهما له حفرةً فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع نفيسة فمرَّ به رجلٌ من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من
المسلمين نائم إذا أتاه ثابت في المنام فقال له: إنّي أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مرَّ بي رجلٌ من المسلمين فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرسٌ يَستنُ في طوله، وقد كَفَاً على الدرع بُرْمَةً وفوق البرمة رحل، فائتِ خالدًا فمُره أن يبعث إلى درعي فيأخذه، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم - يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه -
فقل له : إنَّ عليَّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان.
فأتى الرجل خالدًا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحدًا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس
رضي الله عنه. هكذا ذكره بن عبدالبر في "الاستيعاب".
ورواه الطبراني من هذا الطريق، ومن طريق أنس بن مالك.
وقال الحافظ الهيثمي: «كل من الطريقين رجاله رجال الصحيح، قال: إلَّا أنَّ بنت ثابت بن قيس لم أعرفها، والظاهر أنها صحابية، فإنها قالت: سمعت أبي». اهـ وذكر ابن القيم هذه القصة في المسألة الأولى من كتاب "الروح" وبين وجه
عمل أبي بكر الصديق، وخالد بن الوليد بهذه الرؤيا، وإنفاذ وصية صاحبها. ونظير هذه القصة ما ذكره ابن القيم أيضًا حيث قال: وصح عن حماد بن سلمة، عن ثابت عن شَهر بن حَوْشَبٍ: أَنَّ الصَّعب بن جَنَّامة وعوف بن مالك كانا متواخيين، قال صعبٌ لعوف: أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليترايا له، قال: أويكون ذلك؟ قال: نعم، فمات الصعب، فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه قد أتاه، قال: قلت: أي أخي، قال: نعم، قلت: ما فعل بكم؟ قال: غفر لنا بعد المصائب، قال: ورأيت لمعة سوداء في عنقه، قلت: أي أخي ما
هذا؟ قال: عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي فهنَّ في قرني فأعطوه إياها، واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حَدَتْ بعد موتي إلا قد لحق بي خبره، حتى هرة لنا ماتت منذ أيام، واعلم أنَّ بنتي تموت إلى ستة أيام فاستوصوا بها معروفًا.
فلما أصبحت قلت: إنَّ في هذا المعلما، فأتيت أهله فقالوا: مرحبا بعوف
أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم؟ لم تقربنا منذ مات صعب، قال: فاعتللت بما يعتل به النَّاس، فنظرت إلى القرن فأنزلته فانتثلت ما فيه، فوجدت الصرة التي فيها الدنانير، فبعثت بها إلى اليهودي فقلتُ: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعبًا كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي له قلت: لتخبرني، قال: نعم أ أسلفته عشرة دنانير، فنبذتها إليه، قال:
هي
حدث
والله بأعيانها، قال: قلتُ هذه واحدةٌ، قال: فقلت: هل حدث فيكم بعد موت صعب؟ قالوا: نعم حَدَث فينا كذا، حدث فينا كذا، قال: قلت : اذكروا، قالوا: نعم هِرَّة ماتت منذ أيام، فقلتُ: هاتان اثنتان، قلتُ: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب فأتيت بها فمسستها فإذا هي محمومة، فقلت:
استوصوا بها معروفًا، فماتت لستة أيام».
قلت: رواها ابن أبي الدنيا من هذا الطريق.
وأخرج أبو بكر بن لال في كتاب "المتحابين" من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت قال آخى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بين عوف بن مالك والصَّعب بن جَثَّامة، فقال كل منهما للآخر: إن مِتَّ قبل فتراء لي، فمات الصعب
قبل عوف فتراءى له وذكر القصة نحو ما سبق، وهذه أيضا كرامة لا تخفى.
ووردت القصة على وجه آخر قال الحافظ بن رجب وهو أشبه - فروى ابن المبارك في كتاب "الزهد" عن أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس، عن عوف بن مالك الأشجعي: «أَنَّه كان مواخيا لرجل من قيس يقال له: محلم ثم إن تحلما حضره الوفاة فأقبل عليه عوفٌ فقال: يا محلم إذا أنت وردت فارجع إلينا فأخبرنا بالذي صُنع بك، قال مُحلّم: إن كان ذلك يكون لمثلي فعلت، فقُبض حلم، ثُمَّ ثوى عوف بعده عاما فرآه في منامه فقال: يا مُحلّم ما صنعت وما صُنع بك؟ فقال له: وُفِّينا أجورنا، قال: كلكم، قال: كلنا إلَّا الأحراض - هلكوا في الشر - الذين يُشار إليهم بالأصابع، والله لقد وُفِّيت أجري كلَّه حتى وُفِّيت أجر هِرَّةٍ ضلَّت لأهلي قبل موتي بليلةٍ، فأصبح عوف فغدا إلى امرأة محلم، فلما دخل قالت: مرحبا زور صعب بعد محلم، فقال عوف: هل رأيت محلها منذ تُوفّي؟ قالت نعم رأيته البارحة ، ونازعني في ابنتي ليذهب بها معه، فأخبرها عوف بالذي رأى، وما ذكر من الهِرَّة التي ضلت، فقالت: لا علم لي بذلك، خدمي أعلم، فدعت خدمها فسألتهم فأخبروها أنّها ضلَّت . لهم هرةٌ قبل موت محلم بليلة». قلت: مُحلّم - بضم الميم وكسر اللام المشددة هو ابن جَثَّامة، اختلف في موته فقيل: مات في العهد النبوي ولفظته الأرض بضع مرات فوضعوه بين صدين، وقيل: مات بعد ذلك، وقصته هذه إسنادها ضعيف، فلا تكون أشبه من قصة أخيه الصعب التي إسنادها حسن. وأخرج الطبراني بإسنادين - قال الحافظ الهيثمي : أحدهما حسن- عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم جالس وأسماء بنت
عُميس قريبةٌ منه إذ ردَّ السَّلام، ثُمَّ قال: «يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل صلَّى الله عليهما، مرُّوا فسلَّموا علينا فرددت عليهم السلام، وأخبرني أنَّه لَقِي المشركين يوم كذا وكذا فأُصبتُ في جسدي من مَقادِيمي ثلاثًا وسبعين بين طَعنةٍ وضَربةٍ ، ثُمَّ أخذتُ اللواء بيدي اليمنى فقُطعتْ، ثُمَّ أخذته باليسار فقطعت فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل
في الجنة أنزل بهما حيث شئتُ، وآكل من ثمارها حيث شئتُ». فقالت أسماء: هنيئا لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكني أخاف ألا
يُصدقني النَّاسُ فاصعد المنبر فأخبر النَّاسَ يا رسول الله. فصعد المنبر فحَمِد الله وأثنى عليه ، ثُمَّ قال: «أَيُّها النَّاسُ إِنَّ جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل له جَناحان عوّضه الله من يديه يطير بهما في الجنَّةِ حيث شاء، فسلَّم علي فأخبر كيف كان أمرهم حين لقي المشركين». فاستبان للنَّاس بعد ذلك أن جعفرًا لقيهم؛ فسُمِّى جعفر الطيار في الجنة ذا جناحين يطير بهما حيث شاء، مخصوبة قوادمه بالدماء.
وأخرج الطبراني بإسنادٍ حسن كما قال الحافظ: عن عبدالله بن جعفر قال: قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هنيئًا لك، أبوك يطير مع الملائكة في السَّماء». وللحديث طرق عن علي، وأبي هريرة، وغيرهما.
وفي "صحيح البخاري" عن الشَّعْبِي: أنَّ ابن عمر كان إذا سلَّم على ابن
جعفر قال : السَّلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
قال السهيلي: ليس الجناحان كما يسبق إلى الوهم- كجناحي الطائر وريشه؛ لأنَّ الصُّورة الآدمية أشرف الصُّور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفةٌ
مَلكيّة، وقوة روحانية أعطيها جعفر، وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح
توسعا في قوله تعالى: وَأَضَهُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ [القصص : ٣٢]. وقال العلماء في أجنحة الملائكة: إنّها صفاتٌ مَلَكيَّةٌ لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت: أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبرٌ في بيان كيفيَّتها فنؤمن بها من غير بحث عن
حقيقتها » . اهـ
ضعيف،
قال ا الحافظ: «وهذا الذي جزم به في مقام المنع، والذي نقله عن العلماء ليس صريحا في الدلالة لما ادعاه، ولا مانع من الحمل على الظاهر إلَّا من جهة ما ذكره من المعهود وهو من قياس الغائب على الشاهد وهو وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره؛ لأنَّ الصورة باقية. وقد روى البيهقي في "الدلائل" من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة: «أنَّ جناحي جعفر من ياقوت، وجاء في جناحي جبريل أنهما لؤلؤ». أخرجه ابن مَنْدَه في ترجمة ورقة». اهـ. والحديث الأخير: رواه الطبري، والبغوي، وابن قانع، وابن السكن، وغيرهم في الصحابة من طريق روح بن مسافر ، عن الأعمش، عن عبدالله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن ورقة بن نوفل قال: قلت: يا محمد كيف يأتيك الذي يأتيك؟ قال: يأتينى من السَّماء جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر».
قال ابن عساكر: «لم يسمع ابن عباس من ورقة».اهـ
وروح بن مُسافر متروك، لكن أخرج ابن مردويه من طريق عاصم، عن زر، عن عبدالله بن مسعود قال: رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم جبريل له ستمائة جناح يتناثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت»، ورواه النسائي من هذا الطريق ولفظه: (يتناثر منها تهاويل الدر والياقوت».
ورواه ابن حِبَّان، والبيهقي، وأبو نعيم من طريق زر عن ابن مسعود في قوله تعالى: وَلَقَدْرَ اهُ نَزَلَةٌ أُخْرَى [ النجم : ١٣]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «رأيتُ جبريل عند سِدْرَةِ المنتهى له ستمائة جناحِ يَنتَير مِن
ريشِهِ تهاويل الدر والياقوت».
والمقصود:
أنَّ طيران جعفر مع جبريل وميكائيل عليهما السلام كرامة
كبيرة أكرمه الله بها .
وأخرج الطبراني عن أبي رجاء العطاردي قال: «لا تسبوا عليا ولا أحدًا من أهل البيت فإنَّ جارًا لنا من بَلْهُجَيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين بن على قاتله الله؛ فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس الله بصره». وقال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح. وأخرج الطبراني أيضًا عن الزهري قال: «قال لي عبدالملك -يعني ابن مروان أي واحدٍ أنت إن أعلمتني أنَّ علامةً كانت يوم قتل الحسين؟ فقال: قلت: لم تُرفع حصاة ببيت المقدس إلَّا وُجد تحتها دم عبيط، فقال لي عبدالملك:
إنِّي وإياك في هذا الحديث لقرينان». قال الحافظ الهيثمي : «رجاله ثقات». وأخرج أيضًا عن دُوَيدِ الجعفي، عن أبيه قال: «لما قتل الحسين رضي الله عنه انتهبت جزورٌ من عسكره، فلما طبخت إذا هي دم». قال الهيثمي : «رجاله ثقات».
وأخرج أيضًا عن حاجب عُبيدالله بن زياد، قال: «دخلت القصر خلف عبيد الله بن زيادٍ حين قتل الحسين فاضطرم في وجهه نار، فقال: هكذا بكمه
على وجهه، فقال: هل رأيت؟ قلت: نعم، وأمرني أن أكتم ذلك».
قال الهيثمي : «حاجب عبيد الله لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات». وأخرج أيضًا عن الشَّعبي قال: رأيت في النوم، كأنَّ رجالًا من السَّماء نزلوا معهم حراب يتتبعون قتلة الحسين، فما لبثت أن نزل المختار فقتلهم».
قال الهيثمي: «سنده حسن».
وأخرج أيضًا عن الأعمش قال: «تغوط رجل على قبر الحسين؛ فأصاب أهل ذلك البيت خَبَلٌ وجُنونٌ وجُذَامٌ وبَرَصٌ وفقر».
قال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح».
وقال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": قرأتُ على أحمد بن إسحاق: أخبركم الفتح بن عبد السَّلام: أنَّ هبة الله بن الحسين أخبرهم قال: أنا أحمد بن محمد البزار: أنا علي بن عيسى إملاء: أنا أبو بكر محمد بن الحسن المقري: حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى أنا عمر بن . ا عمر بن شبة: أنا عُبيد بن جناد: أخبرني عطاء بن مسلم قال : قال السُّدِّيُّ: أتيت كربلاء أبيع البز بها، فعمل لنا شيخ من طيء طعامًا فتعشينا عنده، فذكر قتل الحسين، فقلت: ما شرك أحد في قتله إلا مات بأسوأ ميتة، فقال: ما أكذبكم يا أهل العراق فأنا ممن شرك في ذلك، فلم نبرح حتى دنا من المصباح ليصلحه وهو يتقد، فذهب يخرج الفتيلة بأصبعه فأخذت النار فيها، فأخذ يُطفئها بريقه فأخذت النار لحيته، فعدا فألقى نفسه في الماء فرأيته كأنه حممة».
قلتُ : السُّدِّيُّ راوي هذه الكرامة هو السُّدِّيُّ الكبير، وهو ثقةٌ، بخلاف السُّدِّي الصغير فهو هالك، والكرامات التي ظهرت عند مقتل الحسين بن على
رضوان الله عليهما فيمن قتله أو أعان عليه كثيرة يطول تتبعها.
وأخرج البخاري في "الصحيح" عن أنس: «أنَّ عمر رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهمَّ إِنَّا كُنَّا نتوسل إليك بنبينا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون».
وقال ابن عبدالبر في "الاستيعاب": روينا من وجوه عن عمر: أنه خرج يستسقي وخرج معه بالعبّاس فقال: «اللهمَّ إِنَّا نتقرب إليك بعم نبيك صلى الله عليه وآله وسلَّم ونستشفع به، فاحفظ فيه لنبيك صلى الله عليه وآله وسلّم كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما وذكر بقيَّة الخبر، وفي آخره: «فوالله ما برحوا حتى اعتلقوا الجدر، وقلصوا المآزر ، وطفق النَّاس بالعباس يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئا لك ساقي الحرمين».
وأخرج الزبير بن بكار في «الأنساب» بإسناده: أنَّ العباس لما استقى به عمر قال: «اللهم إنَّه لم ينزل بلاء إلَّا بذنب، ولم يُكشف إلَّا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث؛ فأرخت السَّماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس». (تنبيه): جعل الوهابيون هذا الأثر حُجَّتهم في منع التوسل بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته، وابن تيمية أكثر من الاستدلال به لهذا المعنى في
كثير من مؤلفاته، وهو لا يدلُّ على شيء مما زعموه، كما بينته من عِدة وجوه في
كتابي "الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين".
وأخرج ابن سعد، والبيهقي عن ثابت البناني قال: «جاء قيم أنس بن مالك في أرضه، فقال: عطشت أرضك، فصلَّى ثُمَّ دعا فثارت سحابة، فجاءت وغشيت أرضه، ومطرت حتى ملأت صهريجه - وذلك في الصيف - فأرسل بعض أهله فقال: انظروا أين بلغت فإذا هي لم تعد أرضه، ورواه ابن سعد من طريق ثمامة بن عبد الله.
وفي "الإصابة" للحافظ ابن حجر: وقال جعفر بن سليمان: عن ثابت قال: كنت مع أنس فجاء قهرمانة، فقال أبا حمزة عطشت أرضنا...»، وذكر الخبر نحوه، غير أنه قال: «فنظر فإذا هي لم تعد أرضه إلا يسيرا».
وأخرج أحمد في "الزهد والدارمي في "السنن" عن الحسن: أنَّ هَرِم بن حَيَّان مات في غزاة له في يوم صائف ، فلما فرغ النَّاس من دفنه جاءت سحابة حتى كانت حيال القبر فرشت القبر حتى روى لم تجاوزه قطرة، ثُمَّ عادت
عودها على بدئها.
ورواه أبو نعيم : أيديهم عن قبره جاءت سحابة تسير حتى قامت على القبر، فلم تكن أطول منه ولا أقصر منه رشَّته حتى روته ثُمَّ انصرفت». وفي لفظ له آخر: «لما مات جاءت سحابة فأظلت سريره، فلما دفن رست على القبر فما أصابت حول القبر
بلفظ: مات هَرِم في يوم صائف شديد الحر، فلما نفضوا
شيئًا».
وأخرج أبو نعيم أيضًا عن قتادة قال: «أُمطر قبر هرم من يومه، وأنبت
العشب من يومه».
قلت: هرم - بفتح الهاء وكسر الراء - ابن حَيَّان العبدي، قال ابن عبد البر : من صغار الصحابة، افتتح قلعة بجرة عُنوةً في عهد عمر بن الخطاب رضي الله
عنه .
وفي "تاريخ البخاري" من طريق الأعمش، حدثنا عامر، حدثني أبو زيد بن خليفة: أنَّه لقي رجلًا من أصحاب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هَرِم بن حَيَّان بن عبدالقيس، فقال: أمِن أهل الكوفة أنت؟ قال: نعم، قال: تسألني
وفيكم عبد الله بن مسعود ؟!
وعده ابن أبي حاتم في الزهاد الثمانية من كبار التابعين، وقال العسكري: كان من خيار التابعين».
وكذا ذكره في التابعين أبو نعيم في "الحلية" فقال في الطبقة الأولى من التابعين: «ومنهم الهائم الحيران، القائم العطشان هَرِم بن حَيَّان، عاش في حُبِّه ولهان حرقًا، وعاد قبره حين دفن ريَّان غَدِقًا» . اهـ هذا ما رأينا أن نذكره من كرامات الصَّحابة الأجلاء من غير حصر ولا استقصاء، إذ أنَّ فيه عُسرًا وعناءا؛ لانتشار كراماتهم الكثيرة في كتب السنة، والزهد، والتراجم والسير، وغيرها، وختمنا هذا الفصل بذكر هَرِم بن حَيَّان لحصول الخلاف في صحبته كما بيناه، وما توفيقنا إلَّا بالله.
الفصل الخامس
فيما ورد من الكرامات عن التابعين وغيرهم
وهذا فصل واسع جدا يتعذَّرُ على الباحث تتبعه باستيفاء؛ لأنَّ ما حصل على يد زُهّاد الأُمَّة وأوليائها من الكرامات والفضائل يفوق عدد رمل عالج،
لكنا مع ذلك نذكر جملة وافرةً تكون عُنوانًا لغيرها ودليلا عليه فنقول: أخرج الحسن بن عرفة قال : ثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي سَبْرَة النَّخعي قال: «أقبل رجل من اليمن، فلما كان في بعض الطريق نفق حماره؛ فقام فتوضأ وصلى ركعتين ثُمَّ قال: «اللهم إني جئتُ مُجاهدًا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنَّك تُحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحدٍ عليَّ اليوم مِنّةٌ أطلب إليك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفضُ أُذنيه».
وأخرجه البيهقي في "الدلائل" من هذا الطريق وقال: «هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون معجزة لصاحب الشريعة حيث يكون في أُمَّته من
يُحيي الله له الموتى كما سبق ويأتي». اهـ
وأخرجه هو، وابن أبي الدنيا من طريق آخر عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي مثله زاد الشَّعْبِي: فأنا رأيت الحمار يباع في الكناسة»، قال البيهقي : فكأن إسماعيل سمعه منهما.
وأخرجه هو وابن أبي الدنيا عن مسلم بن عبد الله بن شريك النَّخعي قال: خرج نباتة بن يزيد - رجلٌ من النَّخع - في زمن عمر بن الخطاب غازيًا
فذكر نحوه، وزاد، فقال رجل من رهطه أبياتا منها :
ومنا الذي أحيى الإلهُ حِماره وقد ماتَ مِنه كُلَّ عُضرٍ ومَفصل وأخرج أحمد في "الزهد" والبيهقي وصححه من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد: «أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى الدجلة وهي ترمي بالخشب في مدها فوقف عليها، ثُمَّ حمد الله وأثنى عليه وذكر تسيير بني إسرائيل في البحر، ثُمَّ نهر دابته فانطلقت تخوض به واتَّبعه النَّاس حتى قطعها والتفت إلى أصحابه
وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئًا حتى ندعو الله تعالى فيرده؟». وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن شُرحبيل الخولاني قال: «تنبأ الأسود بن قيس بن ذي الخمار العنسي باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم فقال له: أتشهد أنَّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فتشهد أني رسول الله ؟ قال: ما أسمع، قال: فأمر بنار عظيمة فأُججَتْ وطُرح فيها أبو مسلم فلم تَضُرَّه، فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلدك أفسدها عليك، فأمره بالرحيل.
فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه، فعقل راحلته على باب المسجد، وقام إلى سارية من سواري المسجد يُصلّي إليها، فبصر به عمر رضي الله عنه فأتاه فقال: من أين الرجل؟ قال: من اليمن قال : فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره، قال: ذاك عبدالله بن ثُوَب قال: ناشدتك بالله أنت هو ؟ قال: اللهم نعم، قال:
فقبل ما بين عينيه، ثُمَّ جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبو بكر وقال: الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى أراني في أُمَّة محمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَن فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه الصَّلاة والسَّلام».
قال الحوطي: قال إسماعيل بن عيَّاش : فأنا أدركتُ قوما من المدادين
الذين مدوا من اليمن يقولون لقومٍ من عَنْسي: صاحبكم الذي حرق صاحبنا
بالنار فلم تضره».
ورواه ابن سعد في "الطبقات" من طريق شُرَحْبيل الخولاني أيضًا. وقال ابن عبدالبر في "الاستيعاب": «أبو مسلم الخولاني العابد أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ولم ير رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقدم المدينة حين قبض رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه، فهو معدود في كبار التابعين، عداده في الشاميين اسمه عبد الله بن ثُوَبٍ - بضم المثلثة وفتح الواو- وقيل: عبدالله بن !
عوف والأول أكثر وأشهر ، كان فاضلا ناسكًا عابدا، وله كرامات وفضائل. ومن نوادر أخباره وكراماته ما حدثنا عبدالوارث بن سفيان: ثنا قاسم بن أصبغ : ثنا أحمد بن زهير: ثنا عبدالوهاب بن نجدة الحوطي: ثنا إسماعيل بن عياش قال: أخبرنا شُرحبيل بن مسلم الخولاني: أنَّ الأسود بن قيس بن ذي الخمار تنبأ باليمن... وذكر الخبر نحو ما تقدم. قال إسماعيل بن عيَّاش فأنا أدركت رجلا من الأمداد الذين يمدون من اليمن من خولان - يعني لأجل الغزو والجهاد - يقول للأمداد - من عنس-: صاحبكم الكذاب حرق صاحبنا بالنار فلم تضره».
ثم قال ابن عبدالبر : وإسماعيل بن عياش ليس بحُجَّةٍ في غير الشاميين،
وهو فيما حدث به عن الشاميين أهل بلده لا بأس به. اهـ
قلت: ذكر الحافظ في "القول المُسدَّد": أنَّ رواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين قويَّة عند الجمهور، وإنَّما ضعفوه في روايته عن غير أهل الشام، قال:
علي
نص على ذلك يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وعمرو بن الفلاس، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، والبخاري، ويعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، وأبو إسحاق الجوزجاني، والنسائي، والدولابي، وأبو أحمد بن عدي وآخرون، وقد وثقه جماعةٌ مُطلقًا» . اهـ
وهذا الخبر يرويه إسماعيل عن شامي، ورجاله كلهم ثقات فيكون صحيحًا، هذا مع أنَّ أبا نعيم رواه من طريق آخر فقال: أخبرنا ثابت بن أحمد: ثنا محمد بن إسحاق: ثنا عبد الملك - يعني ابن عمير - مثله. و وقعت هذه القصة لرجل آخر، فروى ابن وهب، عن ابن لهيعة: أنَّ الأسود العنسي لما ادَّعى النُّبوَّة وغلب على صنعاء أخذ ذؤيب بن كليب فألقاه في النار لتصديقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تضره النَّار، فذكر ذلك النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لأصحابه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل. قال عبدان: ذؤيب هو أول من أسلم من أهل اليمن، ولا أعلم له صحبة. وأخرج ابن عساكر من طريق أبي بشر جعفر بن أبي وحشيّة: أنَّ رجلا من خولان أسلم فأراده قومه على الكفر، فألقوه في النَّار فلم يحترق منه إلَّا أمكنةٌ لم يكن فيما مضى يُصيبها الوضوء، فقَدِم على أبي بكر رضي الله عنه فقال له: استغفر لي قال: أنت أحق قال أبو بكر: إنَّك أُلقيت في النَّار فلم تحترق، فاستغفر له، ثُمَّ خرج إلى الشَّام فكانوا يشبهونه بإبراهيم عليه الصَّلاة والسلام. وأخرج أبو نعيم من طريق ضَمِّرَة، عن بلال بن كعب العكي، قال: كان الطبي يمر بأبي مسلم الخولاني فيقول له الصبيان: ادع الله يحبسه علينا نأخذه
بأيدينا، فكان يدعو الله عزَّ وجلَّ فيحبسه عليهم حتى يأخذوه بأيديهم. وأخرج أيضًا من طريق ضَمْرَة، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه قال: «كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف إلى منزله من المسجد كبر على باب منزله فتكبر امرأته، وإذا بلغ باب بيته كَبَّر فتُجيبه ،امرأته فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يُحبه أحد، فلما كان في الصَّحن كبر فلم يُجبه أحدٌ، فلما كان عند باب بيته كبر فلم يُحبه أحد، وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثُمَّ أتته بطعامه قال: فدخل البيت فإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا امرأته جالسة في البيت منكسةٌ ، بعود معها، فقال: ما لَكِ؟ قالت أنت لك منزلةٌ من معاوية وليس لنا خادم، فلو سألته فأخدمنا وأعطاك، فقال: اللهم من أفسد على امرأتي فأعمِ بصرها، قال: وقد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت لها: زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية يُخْدِمُه ويُعطيه عِشتُم، قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها، فقالت: ما لسراجكم طفي؟ قالوا: لا فعرفت ذنبها، فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي وتسأله أن يدعو الله عزَّ وجل لها أن يرد عليها
تَنكُتُ
بصرها، قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله لها فرد عليها بصرها. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" من طرق عن هَرِم بن حَيَّان قال: «قدمت الكوفة فلم يكن لي هَمّ إلَّا أويس أسأل عنه، فدفعت إليه بشاطيء الفُرات يتوضأ ويغسل ثوبه فعرفته بالنَّعت، فإذا رجل آدم، محلوق الرأس، كثُ اللحية، مهيب المنظر، فسلَّمتُ عليه ومددت يدي لأصافحه، فأبى أن
يُصافحني، فخنقتني العبرة لما رأيت من حاله، فقلت: السَّلام عليك يا أويس كيف أنت يا أخي؟ قال: وأنت فحياك الله يا هَرِم بن حَيَّان، من دلك عليَّ؟
قلتُ: الله عزّ وجل قال : سُبْحَنَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبَّنَا لَمَفْعُولًا ﴾ [الإسراء:١٠٨] قلت: يرحمك الله من أين عرفت اسمي واسم أبي؟! فوالله ما رأيتك قط ولا رأيتني، قال: عرف روحي روحك حيث كلمت نفسي؛ لأنَّ الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد، وإنَّ المؤمنين يتعارفون بروح الله عزَّ وجلَّ وإن نأت : الديار وتفرقت بهم المنازل ...». وذكر خبرًا طويلًا في وصيّة أويس الهرم بعدة وصايا، والقصة مشهورة في كتب الزهد والمناقب.
مهم
وفي "صحيح مسلم عن أسير بن جابر: أنَّ أهل الكوفة وفَدُوا إلى عُمر رضي الله عنه وفيهم رجل ممن كان يَسخَرُ بأويس، فقال عمر: هل هاهنا أحدٌ من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل فقال عُمر: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد قال: «إنَّ رجلا يأتيكم من اليمن يُقال له: أُوَيس، لا يَدَعُ باليمن غير أم له، قد كان به بَيَاضُ فدعا الله فأذهبه عنه إلَّا موضِعَ الدينار أو الدرهم، فمن
ق
لَقِيَهُ منكم فليستغفر لكم». وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن أسير بن جابر قال: كان عُمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر ؟ حتَّى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر ؟ قال: نعم، قال : مِن مُرادٍ ثُمَّ مِن قَرَنِ؟ قال: نعم، قال: فكان بك بَرَضٌ فَبَرَأتَ منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال نعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامِرٍ مع أمْدَادِ أهل اليمن من مُرَادٍ ثُمَّ مِن قَرَنٍ، كان به بَرَضٌ فَبَرَأَ منه إلَّا موضع درهم، له والدةٌ هو بها بَر، لو أَقْسَمَ على اللَّهُ لأَبَرَّهُ، فَإِن استطعت أن يَسْتَغْفِرَ لك فافعل. فاستغفر لي؛ فاستغفر له، فقال له عُمر: أين
تُرِيدُ؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتُبُ لك إلى عاملها، قال: أكون في غبراء النَّاسِ أحب إلي ... الحديث.
وفي "الصحيح" أيضًا من حديث عمر رضي الله عنه: «إِنَّ : الله عنه: «إِنَّ خير التابعين رجلٌ يُقال له : أويس وله والده، وكان به بياضُ، فمُرُوهُ فَليَستَغْفِرْ لكم». أراد الاطلاع على مناقب أويس فليراجع "الحلية" لأبي نعيم، و"الميزان" للذهبي، و"لسان "الميزان" للحافظ و"الإصابة" له، و"طبقات الصوفية" للمناوي، وغيرها من كتب الزهد والرقائق.
ومن
والعجيب | أنَّ مالكًا. على جلالة قدره - كان يُنكر وجود أويس ويقول: لم يكن !»، حكاه ابن عدي في " الكامل"، وتعقبه: بأنَّ أويسا لا يجوز أن يُشكَ
فيه لشهرته.
وقال ابن عبدالبر في "الاستيعاب : أخبرنا محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالمؤمن: ثنا إسماعيل بن محمد الصفار ببغداد: ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي: ثنا علي بن المديني: ثنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عبدالملك بن عمير يقول: حدثني ربعي بن حِراش قال: مات أخ لي كان أطولنا صلاة وأصومنا في اليوم الحار، فَسَجَّيناه وجلسنا عنده، فبينما نحن كذلك إذ كشف عن وجهه ثُمَّ قال: السَّلام عليكم قلت: سبحان الله! أبعد الموت؟ قال: إنّي لقيت ربي فتلقاني بروح وريحان ووجه غير غضبان، وكساني ثيابا خضرا من سندس واستبرق، أسرعوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؛ فإنَّه قد أقسم ألا يبرح حتى أدركه أو آتيه - وإنَّ الأمر أهون مما تذهبون إليه فلا تغتروا، ثُمَّ والله كأَنَّما كانت نفسه حصاة فألقيت في طست.
قال علي بن المديني : وقد روي هذا الحديث عن عبدالملك بن عمير غير واحد منهم جرير بن عبد الحميد، وزكريا بن يحيى بن عمارة، ورواه عن ربعي بن حراش حميد بن هلال كما رواه عن عبد الملك بن عمير، وروى عن حميد بن هلال أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، ثُمَّ ذكر علي بن المديني الأحاديث عنهم كلهم، كذا ذكره الحافظ ابن عبدالبر في ترجمة زيد بن خارجة، فالخبر في
غاية الصحة كما لا يخفى.
وأخو "تهذيب التهذيب" لكن روى أبو نعيم في "الدلائل" من طريق عبيدة، عن عبدالملك بن عمير، عن ربعي بن حِراش قال: «كنا أربعة أخوة، وكان ربيع أخونا أكثرنا صلاة وأكثرنا صياما في الهواجر ، وإنَّه توفى فبينما نحن حوله، وقد بعثنا من يبتاع له كفنا ، إذ كشف عن وجهه فقال : السَّلام عليكم، فقال القوم: وعليك السلام يا أخاه عيشًا بعد الموت؟! - يعني حياة قال: نعم إنّي لقيت ربي بعدكم، فلقيت ربا غير غضبان، واستقبلني بروح وريحان وإستبرق، ألا وإنَّ أبا القاسم صلَّى الله عليه وآله وسلّم ينتظر الصَّلاة عليَّ فعجلوا بي ولا تؤخروني، ثُمَّ كان بمنزلة حصاة رُمي بها في الطست، فنمى الحديث إلى عائشة الله عنها فقالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «يتكلم رجل من أمتي بعد الموت».
الذي تكلّم بعد الموت اسمه مسعود بن حراش كما في ربعي
رضي
قال: وكان محمد بن عمر بن على الأنصاري: حدثنا به عن جعفر بن محمد بن رباح النخعي، ثُمَّ سمعناه من جعفر، رواه شريك، والمسعودي، وزيد بن أبي
أنيسة، وإسماعيل بن أبي خالد، وسفيان بن عيينة عن عبد الملك، ورواه أيوب
السختياني، عن حميد بن هلال عن ربعي بن حراش.اهـ فمقتضى هذه الرواية أنَّ المتكلم ربيع ، وقد راجعت ترجمة مسعود في " التاريخ الكبير" للبخاري، و"الإصابة" للحافظ فلم أجد فيها إشارة إلى هذه القصة، والله أعلم. وقال ابن حبان في "روضة العقلاء": «أنبأنا القطان بالرقة: ثنا نوح بن حبيب: ثنا وكيع: ثنا سفيان عن منصور، عن ربعي قالوا: من ذكرت يا أبا سفيان؟ قال: ذكرت ربعيًّا، وتدرون من كان ربعي؟ كان رجلًا من أشجع، زعم قومه أنه لم يكذب قط، فسعى به ساع إلى الحجاج فقال: هاهنا رجل زعم قومه أنه لم يكذب قط وأنَّه يكذب لك اليوم، فإنَّك ضربت على ابنيه البعث فعصيا وهما في البيت - وكان عقوبة الحَجّاج للعاصي ضرب السيف- قال: فدعاه فإذا شيخُ مُنْحَنِ فقال له: أنت ربعي؟ قال: نعم، قال: ما فعل ابناك؟
قال: هاهما ذان في البيت قال : فحمله وكساه وأوصى به خيرا». وروى الخطيب في "التاريخ" هذه القصَّة، وزاد في آخرها قال الحجاج: قد عفونا عنها بصدقك».
وروى الخطيب أيضًا من طريق ابن أبي الدنيا قال: حدثني محمد بن الحسين: ثنا محمد بن جعفر بن عون أخبرني بكر بن محمد العابد، عن الحارث الغنوي قال: «آلى الربيع بن حراش ألا يفتر أسنانه ضاحكًا حتى يعلم أين مصيره؟ فما ضحك إلا بعد موته، وآلى أخوه ربعي بعده ألا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أم في النَّار؟ قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله أنَّه لم يزل
مبتسما على سريره ونحن نُغسله حتى فرغنا منه».
وذكر ابن عبد البر في ترجمة حُجْرِ بن عَدي قتل معاوية له على ما هو مفصل في التاريخ، ثُمَّ قال: ولما بلغ الربيع بن زياد الحارثي من بني الحرث بن كعب - وكان فاضلاً جليلا، وكان عاملاً لمعاوية على خُراسان، وكان الحسن بن أبي الحسن كاتبه فلما بلغه قتل معاوية حُجر بن عدي دعا الله عزّ وجلَّ فقال: اللهم إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجل، فلم يبرح من مجلسه حتى مات» . اهـ
والربيع بن زياد الحارثي ذكره ابن عبدالبر في "الاستيعاب" وقال: له صحبة ولا أعرف له روايةً، لكن قال أبو أحمد العسكري: أدرك الأيام النَّبوية، ولم يقدم المدينة إلا في أيام عمر رضي الله عنه، وذكره البخاري وابن أبي حاتم وابن حِبَّان في التّابعين، ولم يكن في عصره عربي ولا عجمي أعلم بالنجوم منه، وفي "الإصابة" وغيرها بقيَّة أخباره
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" من طريق عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة قال: سأل عامر بن عبد قيس ربَّه أن يُهوّن عليه الطُّهُورَ في الشتاء، وكان يُؤتى بالماء البارد وله بخار».
وأخرج أبو نعيم من طريق عُمارة بن أبي شعيب الأزدي: ثنا مالك بن دينار قال: «مر عامر بن عبد قيس، فإذا قافلةٌ قد احتبست فقال لهم: مالكم لا تمرون ؟ فقالوا: الأسد حال بيننا وبين الطريق قال: هذا كلب من الكلاب فمرَّ
به حتى أصاب ثوبه فم الأسد».
وأخرج أيضًا من طريق أحمد بن أبي الحواري، عن أبي سليمان الداراني قال: «قيل لعامر بن عبد قيس: النَّار قد وقعت قريبا من دارك، فقال: دعوها
فإنّها مأمورة، وأقبل على صلاته فأخذت النار ، فلما بلغت داره عَدلت عنها».
وله كرامة أخرى أسندها أبو نعيم في "الحلية" أيضًا.
وأخرج الحافظ أبو محمد الخلال في "كرامات الأولياء"، والحافظ أبو القاسم بن مَنْدَه في كتاب "الأهوال والإيمان بالسؤال"، وأبو الحسين بن العريف في "فوائده" عن الحسن بن صالح بن حي قال: «قال لي أخي علي بن صالح في الليلة التي تُوفّي فيها: يا أخي اسقني ماء، وكنت قائما أُصلي، فلما قضيتُ صلاتي أتيته بماءٍ فقلتُ: اشرب، فقال لي: شربت السَّاعة، فقلتُ: مَن سقاك وليس في الغرفة غيري وغيرك؟ فقال: أتاني جبريل الساعة بماء فسقاني، وقال لي: أنت وأخوك وأمك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشُّهداء والصالحين، وخرجت نفسه».
وقال ابن عبدالبر في "الاستيعاب": أخبرنا عبدالرحمن بن يحيى: ثنا أحمد بن سعيد: ثنا إسحق بن إبراهيم بن النعمان: ثنا محمد بن علي بن مروان: ثنا موسى بن إسماعيل: ثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن زيد بن جدعان قال: قال لي سعيد بن المسيب: «انظر إلى وجه هذا الرجل، فنظرت فإذا هو مُسودُّ الوجه، فقال: سَلَّه عن أمره، فقلت: حسبي ، أنت، فحدثني قال: إنَّ هذا كان يَسبُّ عليا وعثمان رضي الله عنهما، فكنت أنهاه فلا ينتهي وقلت: اللهم هذا يسب رجلين قد سبق لهما ما تعلم، اللهم إن كان يُسخطك ما يقول فيهما فأرني فيه آيةً، فاسود
وجهه كما ترى».
وأخرج أبو نعيم في «الحلية» من طريق الهيثم بن علي، ثنا يحيى بن سعيد بن المسيب قال: قال سعيد: «دخلت المسجد في ليلة إِضْحَيَانٍ، وأظنُّ أنّي قد
أصبحت فإذا الليل على حاله، فقمت أُصلِّي فجلست أدعو، فإذا هاتف يهتف من خلفي: يا عبدالله قل قلت ما أقول ؟ قل: اللهم إني أسالك بأنَّك مالك الملك، وأنك على كل شيءٍ قدير، وما تشاء من أمر يكن، قال سعيد: فما دعوت بها قط بشئ إلا رأيت نجحه».
وأخرج أبو زرعة الدمشقي، ويعقوب بن سفيان في "تاريخهما" بسند الحافظ - كما قال عن سليم بن عامر: أنَّ النَّاسِ قُحِطوا بدمشق صحيح
فخرج معاوية يستسقي بيزيد بن الأسود فسقوا.
ويزيد هذا كان عابدا خَشِنًا - كما قال ابن حبان - أدرك الجاهلية. قال ابن مَنْدَه: «ذكر في الصحابة ولم يثبت» . اهـ
ولما زاره وائلة بن الأسقع أخذ كفَّه فجعل يُمرُّها على صدره مرَّةً، وعلى وجهه مرةً، تبركا بها لموضع كفّ واثلة من يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومثل هذا ما صح عن ثابت البناني قال: «كنت إذا أتيت أنسًا يُخبَر بمكاني، فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبلهما، فأقول: بأبي هاتين اليدين اللتين مستا رسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأقبل عينيه وأقول بأبي هاتين العينين
اللتين رأنا رسول صلى الله عليه وآله وسلّم»، رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. والأحاديث في التقبيل وفي تبرك الصحابة والتابعين بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كثيرةٌ يطول تتبعها، ويخرج بنا عن مقصود الكتاب، وقد كنت ألفت باستدعاء بعض العلماء جزءًا صغيرًا سميته "إعلام النبيل بجواز التقبيل" جمعت فيه جُملةً من الأحاديث والآثار وطبعته، ثُم وقفت على أحاديث وآثار لم أذكرها في ذلك الجزء، وفي عزمي أن أجمعها وأتوسع في
الكلام عليها؛ لأنّي سمعت نجديا من الوهابية المجسمة يُبالغ في إنكار التقبيل ويصف فاعله بأشنع الأوصاف ويُنكر ما ورد فيه بكل جهل ووقاحة، وهذا شأنه في كل ما لا يوافق هواه، مع أني جرَّبتُ عليه الكذب والتهاون في الصَّلاة، وقانا الله شر الفتن.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل : حدثني محمد بن عُبيد بن حِساب: ثنا جعفر بن سليمان حدثه أبو التياح قال: كان مُطرف بن عبد الله يبدو -أي: يخرج إلى البادية - فإذا كان ليلة الجمعة أَدْلَج على فرسه، فربَّما نور له سوطه قال : فأَدْلَجَ ليلةٌ، حتى إذا كان عند القبور هوم على فرسه قال: فرأيتُ أهل القبور، صاحب كل قبر جالسًا على قبره، فلما رأوني قالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة، قال: قلتُ: أتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما تقول
الطير فيه، قلت: وما تقول الطَّير؟ قالوا: تقول سلام سلام من يوم صالح». وقال عبد الرزاق: ثنا مَعْمَرٌ، عن قتادة قال: «كان مطرف بن عبدالله بن الشخير وصاحب له سَريا في ليلةٍ مُظلمة، فإذا طَرَفُ سَوْطِ أحدهما عنده ضَوْء، فقال: أما إنَّا لو حدثنا النَّاسَ بهذا لكذَّبونا، فقال مُطرّفٌ: المكذِّبُ أَكْذَبُ، يقول: المكذِّب بنعمة الله أَكْذَبُ».
وروى الحسين بن منصور: ثنا حجاج بن محمد، عن مهدي بن ميمون، عن غيلان بن جَرِيرٍ قال: أقبل مُطرّف مع ابن أخ له من البادية وكان يبدو، فبينا هو يسير سمع في طَرَف سوطه كالتسبيح، فقال له ابن أخيه: يا أبا عبدالله لو حدثنا النَّاسَ بهذا كذَّبونا، فقال مُطرّف : المكذِّبُ أَكْذَبُ النَّاس». وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عفان، ثنا حماد، عن ثابت، عن مُطَرفٍ أَنَّه
أقبل من مبداه، فجعل يسير بالليل فأضاء له سوطه. وقال عبدالله بن أحمد أ بن حنبل: حدثني أبي: ثنا هاشم بن القاسم: ثنا
سليمان بن المغيرة قال: كان مُطرّفٌ إذا دخل بيته سبحت معه آنية بيته. وقال يزيد بن هارون: أخبرنا جرير بن حازم عن حميد بن هلال قال : كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء، فقال له مُطرّف : إن كنت كاذبا فأماتك الله أو تَعجَّل الله بك، قال: فخر ميتًا مكانه، قال: فاستعدى أهله زيادًا - وهو على البصرة - فقال لهم زياد هل ضربه؟ هل مَسَّه ؟ فقالوا: لا، فقال زياد: هي دعوة رجل صالح وافقت قدر الله.
وقال عبدالله بن الإمام أحمد ثنا أحمد بن إبراهيم: ثنا أبو عامر القيسي، ثنا بشر بن كثير الأسدي قال: رأيت مُطرّف بن عبد الله إذا نزل باديةً خَطَّ مسجدًا وركّز عصاه حيال وجهه، وكان كلب أبيضُ يمر بين يديه وهو يُصلِّي فلا ينصرف، فقال: اللهم احرمه صيده ، قال بشر : فلا أعلمه إلَّا كان يُخالط الصيد
فلا يصيد.
وقال أبو العباس السَّراج: ثنا حاتم بن الليث: ثنا خالد بن خداش: ثنا
حماد بن زيد ثنا غيلان بن جرير قال: حبس الحجاج مُورقًا العجليَّ في السجن، فقال لي مطرف بن عبد الله تعالى حتى ندعو وأمنوا، فدعا مُطرّف وأمَّنَّا على دعائه، فلما كان العشاء خرج الحجّاج ودخل النَّاس ودخل أبو مُورِّقِ فيمن دخل، فقال الحجاج لحرسه : اذهب إلى السجن فادفع ابن هذا الشيخ إليه، قال خالد: من غير أن يُكلمه فيه أحدٌ من الناس.
وقال سلمة بن شَبِيبٍ ثنا عبد الله بن جعفر : ثنا الحسن بن عمرو الفزاري،
عن ثابت البناني ورجلٌ آخر: أنّهما دخلا على مُطَرفٍ وهو مُغمى عليه، فسطعت منه أنوار ثلاثة نورٌ من رأسه ونورٌ من وسطه، ونور من رجليه وقدميه قال: فهالنا ذلك، فأفاق فقالا له كيف أنت يا أبا عبدالله؟ فقال: صالح، فقيل: لقد رأينا شيئًا هالنا قال وما هو ؟ قلنا: أنوار سطعت منك قال: وقد رأيتم؟ قالوا: نعم، قال: تلك تنزيل السجدة وهي ثلاثون آيةً، سطع أولها من رأسي، ووسطها من وسطي، وآخرها من قدمي، وقد صُورت تشفع لي، فهذا ثوابها يحرسني. قلتُ: كرامات مُطرّفٍ كثيرةٌ مُخرَّجةٌ في "طبقات ابن سعد" وكتاب "الزهد" للإمام أحمد وزوائده لابنه عبدالله وكتاب "مجابي الدعوة" لابن أبي الدنيا، و"الحلية" لأبي نعيم وغيرها، وقد وُلد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبوه عبد الله بن الشَّخّير صحابي ذكره ابن سعد في طبقة مسلمة الفتح، وقال ابن مَنْدَه: وفد في وفد بني عامر. وقال عبدالله بن المبارك: أخبرنا جرير بن حازم: ثنا حميد بن هلال، عن صلة بن أَشْيَم العدوي قال: خرجنا في بعض قرى نهر تيرى، أسير على دابتي في زمن فيوض الماء، فأنا أسير على مُسناة، فسِرتُ يوما لا أجد شيئًا آكله فاشتدَّ جوعي فلقيني عِلْجٌ يَحمل على عاتقه شيئًا، فقلت: ضعه فوضعه، فإذا هو خبز فقلتُ: أطعمني منه فقال: نعم إن شئت، ولكن فيه شحم خنزير، فلما قال ذلك تركته ومضيتُ، ثُمَّ لقيني آخر يحمل طعامًا، فقلت له: أطعمني منه، فقال: تزودتُ هذا لكذا وكذا من يوم، فإن أخذت منه شيئًا أضررت بي وأجعتني، فتركته ثُمَّ مضيتُ، فوالله إني لأسير إذ سمعت خلفي وجبة كوجبة
الطَّير - يعني صوت طيرانه - فالتفتُ فإذا بشيء ملفوف في سِبِّ أبيضَ-أي:
خمار - فنزلت إليه فإذا هو دوخلةٌ من رُطَب في زمانٍ ليس في الأرض رُطبةٌ، فأكلت منه ولم آكل قطُّ رطبًا أطيب منه وشربت من الماء، ثُمَّ لفَفْتُ ما بقي منه،
وركبت الفرس وحملت معي نَواهُنَّ، قال جرير بن حازم: فحدثني أوفى بن دهم قال : رأيت ذلك اليب مع امرأته ملفوفًا فيه مُصحفٌ، ثُمَّ فُقد بعد ذلك، قال: فلا يدرون أشرق أم ذهب أم ما صُنع به؟».
وقال ابن المبارك أيضًا: ثنا المستلم بن سعيد الواسطي: أخبرنا حماد بن جعفر بن زيد: أنَّ أباه أخبره قال: «خرجنا في غَزَاةٍ إلى كَابُل، وفي الجيش صِلة بن أَشْيَم قال : فترك النَّاس عند العتمة فقلت: لأرمقنَّ عمله فأنظر ما يذكر النَّاس من عبادته، فصلَّى أُراه العتمة - ثُمَّ اضطجع فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثَبَ فدخل غَيْضةً قريبةً منا، فدخلت أثره، فتوضأ ثُمَّ قام يُصلِّي فافتتح الصَّلاة، قال: وجاء أسد حتى دنا منه، قال: فصَعِدتُ إلى
عند
ا
شجرة، قال: أفتراه التفتَ إليه أو عَذَبَه - أي: طرده - حتى سجد؟ فقلت: الآن يفترسه، فلا شيء، فجلس ثُمَّ سلّم فقال: أيها السَّبع اطلب الرزق من مكانٍ آخر، فولى وإن له لزيئرًا أقول: تصدعت منه الجبال، فما زال يُصلِّي حتى لما كان . الصُّبح جلس فحَمِد الله بمحامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله ؟ الله، ثُمَّ قال: اللهم إني أسالك أن تُجيرني من النَّارِ ، أَوَمِثلي يجترئ أن يسألك الجنَّة؟ ثُمَّ رجع فأصبح كأنه بات على الحشايا - أي: الوسائد المحشوة قطنا- وقد أصبحتُ وفي من الفترة شيء الله تعالى به عليم. وقال أبو الشيخ بن حَيَّان: حدثت عن عبدالله بن حُبَيق: أخبرني نَجدَةَ بن
المبارك: حدثني مالك بن مغول قال: كان بالبصرة ثلاثة متعبدون: صلة بن أسيم، وكُلثوم بن الأسود، ورجل آخر فكان صلة إذا كان الليل خرج إلى أَجَمَةٍ يعبد الله تعالى فيها، ففَطِن له رجل فقام له في الأكمة لينظر إلى عبادته، فأتى سبع فبصر به صِلة فأتاه فقال: قم أيُّها السَّبع فابتغ الرّزق، فتمطى السَّبع وذهب، ثُمَّ قام لعبادته فلما كان في السَّحر قال: اللهم إنَّ صلة ليس بأهل أن يسألك الجنَّة ولكن سترا من النَّار».
قلت: صلة بن أشيم - بوزن أحمر - أبو الصَّهباء العبدي تابعي مشهور ورد في فضله حديث رواه أبو نعيم في "الحلية" من طريق ابن المبارك، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: بلغنا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال:
يكون في أمتي رجلٌ يقال له: صِلَة، يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا». وكانت امرأته معاذة بنت عبدالله العدوية أُمُّ الصهباء- من العابدات الصالحات لها مناقب وكرامات منها ما رواه عبدالعزيز المشرقي في "فوائده" والدولابي في "الكنى والأسماء" عن أبي بشر -شيخ من أهل البصرة- قال: أتيت معاذة العدوية فقالت: ألا أعجبك يا أبا بشر؟ شربت دواء للمشي
قلت: كانت مُعاذة ثقةٌ، خَرَّج لها الأئمة الستة في كتبهم، وحديثها في نبيذ ر مُخرَّج في "الصحيح".
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبيد بن حِساب: ثنا جعفر بن سليمان: ثنا هشام بن زياد أخو العلاء بن زياد - قال: كان العلاء بن زياد يُحيي كل ليلة جمعة، فوجد ليلةً فترةً فقال لامرأته: يا أسماء، إنِّي أجد فترةً، فإذا مضى كذا وكذا، فأيقظيني قالت نعم فأتاه آتٍ في منامه، فأخذ بناصيته فقال: یا ابن زياد قم فاذكر الله يذكرك، قال: فقام فما زالت تلك الشعرات التي أخذها منه قائمة حتى مات رحمه الله .
وأخرج أبو نعيم من طريق سَيَّار : ثنا جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يسأل هشام بن زياد العدوي عن هذا الحديث فحدثنا به يومئذٍ فقال: تجهز رجل من أهل الشام وهو يريد الحج فأتاه آتٍ في منامه، فقال: ائتِ العراق، ثُمَّ انت البصرة، ثُمَّ انتِ بني عدي، فائت بها العلاء بن زياد، فإنَّه رجل أقصم الثنية بسام، فبشره بالجنَّة، قال: فقال: رؤيا ليست بشيء، حتى إذا كانت الليلة الثانية رقد فأتاه آت، فقال: ألا تأتي العراق؟ فذكر مثل ذلك، حتى إذا كانت الليلة الثالثة جاءه بوعيد، فقال: ألا تأتي العراق ثُمَّ تأتي البصرة، ثُمَّ تأتي بني عدي؟ فتلقى العلاء بن زيادٍ رجل ربعة أقصم الثنية بسام فبشره بالجنَّة، فأصبح وأخذ جهازه إلى العراق، فلما خرج من البيوت إذا الذي أتاه في منامه يسير بين يديه ما سار، فإذا نزل فقده، فلم يزل يراه حتى دخل الكوفة ففقده قال: فتجهز من الكوفة فخرج فرآه يسير بين يديه ما سار، حتى قدم البصرة فأتى بني عدي، فدخل دار العلاء بن زياد، فوقف الرجل على باب العلاء
فسلم، قال هشام فخرجتُ إليه، فقال لي: أنت العلاء بن زياد؟ قلت: لا،
زیاد؟
وقلتُ: انزل رحمك الله فضع رحلك وضع متاعك، فقال: لا، أين العلاء بن قلت: هو في المسجد قال وكان العلاء يجلس في المسجد ويدعو بدعوات ويُحدث، قال هشام: فأتيت العلاء، فخفَّف من حديثه وصلى ركعتين، ثُمَّ جاء فلما رآه العلاء تبسم فبدت ثنيته، فقال: هذا والله صاحبي، قال: فقال العلاء: هلا حططت رحل الرجل؟ هلا أنزلته؟ قال: قد قلتُ له فأبى، قال: فقال الرجل: أَخْلني، قال: فدخل العلاء منزله وقال: يا أسماء تحولي إلى البيت الآخر، قال: فتحولت ودخل الرجل وبشره برؤياه، ثُمَّ خرج فركب، قال : وقام العلاء فأغلق بابه وبكى ثلاثة أيام - أو قال: سبعة أيام - لا يذوق فيها طعاما ولا شرابًا ولا يفتح بابه فقال: فسمعته يقول في خلال بكائه: أنا أنا، قال: فكنا نهابه وخشيت أن يموت، فأتيت الحسن فذكرت له ذلك وقلت: لا أراه إلَّا ميتا لا يأكل ولا يشرب، باكيا، قال: فجاء الحسن حتى
ضرب عليه بابه وقال: افتح يا أخي، فلما سمع كلام الحسن قام ففتح بابه، وبه من الضر شيء الله به عليم، فكلَّمه الحسن، ثُمَّ قال: رحمك الله ومن أهل الجنة إن شاء الله، أفقاتل نفسك أنت؟، قال هشام: حدثنا العلاء لي وللحسن بالرؤيا، وقال : لا تُحدّثوا بها ما كنت حيا. وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن سنان القزاز: ثنا سَيَّار بن جسرٍ، عن أبيه قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو أدخلت ثابتا البناني لحده، ومعي حميد الطويل أو رجل غيره - شكٍّ محمد - قال : فلما سوينا عليه اللَّين سقطت لينةٌ، فإذا أنا به يُصلّي في قبره فقلتُ: للذي معي أ ألا ترى، قال: اسكت فلما سوينا
عليه وفرغنا أتينا ابنته فقلنا لها: ما كان عمل أبيك ثابت؟ قالت: وما رأيتم؟ فأخبرناها، فقالت: كان يقوم الليل خمسين سنةً، فإذا كان السَّحَر قال في دعائه: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من خلقك الصَّلاة في قبره فأعطينيها، فما كان الله ليرة ذلك الدعاء.
وأخرج ابن جرير في "تهذيب الآثار" ، وأبو الشيخ ابن حَيَّان، وأبو نعيم عن إبراهيم بن الصَّمَّة المهلبي قال: حدَّثني الذين كانوا يمرون بالحفر بالأسحار قالوا كنا إذا مررنا بجنبات قبر ثابت سمعنا قراءة القرآن.
وقال ابن عقيل في شمائل الزهاد": أنا محمد بن إبراهيم: أنا أبو الربيع: سمعت أبا يعمر بالري يقول : كان أيوب السختياني في طريق مكة، فأصاب النَّاسَ عطش وخافوا، فقال :أيوب تكتمون عليَّ؟ قالوا: نعم، فدوّر دائرة ودعا، فنبع الماء فرووا وسقوا الجمال، ثُمَّ أَمَرَّ يده على الموضع، فصار كما كان، قال أبو الربيع: فلما رجعت إلى البصرة حدثت حماد بن زيد، فقال: حدثني
عبدالواحد بن زيد: أنَّه كان مع أيوب في هذه السفرة التي كان هذا فيها. وأخرج أبو نعيم من طريق النضر بن كثير السعدي: ثنا عبدالواحد بن زيد قال: كنت مع أيوب السختياني على جراء، فعطشت عطشا شديدًا حتى رأى ذلك في وجهي، فقال: ما الذي أرى بك؟ قلت: العطش وقد خفت على نفسي، قال: تستر عليَّ ؟ قلتُ: نعم، قال: فاستحلفني، فحلفت له ألا أخبر عنه مادام حيا، قال: فغمز برجله على حِراء فنبع الماء، فشربت حتى رويت وحملت معي من الماء، قال: فما حدثت به أحدًا حتى مات، قال عبدالواحد: فأتيت موسى الأسواري فذكرت له ذلك، فقال ما بهذه البلدة – يعني البصرة - أفضل
من الحسن وأيوب.
رأسه.
وأخرج أبو نعيم أيضًا عن عاصم أنَّ مُورقًا العجلي كان يجد نفقته تحت
وأخرج أيضًا عن جعفر بن سليمان قال : سمعت مالك بن دينار يقول : لما كان يوم الزاوية قال عبد الله بن غالب إنّي لأرى أمرًا مالي عليه صبر، روحوا بنا إلى الجنَّة قال : فكسر جَفْن سيفه ثُمَّ تقدَّم، فقاتل حتى قتل قال: فكان يوجد من قبره ريح المسك. وروي عن جعفر أيضًا قال: ثنا أبو عيسى قال: لما كان يوم الزاوية رأيت عبد الله بن غالب دعا بماء فصبه على رأسه، وكان صائما وكان يوما حارًا وحوله أصحابه، ثُمَّ كسر جَفن سيفه فألقاه ثُمَّ قال لأصحابه: روحوا بنا إلى الجنة قال: فنادى عبدالملك بن المهلب أبا فراس أنت آمن أنت آمن، فلم يلتفت إليه، ثُمَّ مضى فضرب بسيفه حتى قتل، قال: فلما دفن كان الناس يأخذون من تراب قبره كأَنَّه مسلٌ يُصِرُّونه في ثيابهم. قلت: عبد الله بن غالب الحدَّانِيُّ - بضم ! الحاء وتشديد الدال- التّابعي، يكنى أبا قريش كان عابدا ثقةً، روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَصلتان لا تجتمعان في مؤمِنِ: البُخْلُ وسُوءُ الخُلُقِ» رواه البخاري في "الأدب المفرد" ، والترمذي، وأبو نعيم، وغيرهم، وقال البزار: لا نعلمه أسند غير هذا الحديث.
وأخرج أبو نعيم من طريق حاتم بن الليث حدثني غَسَّان بن المفضَّل: حدثني إبراهيم بن إسماعيل وكان ثقة - :قال كان بين سليمان التيمي وبين
رجل منازعةٌ في شيء، فتناول الرجل سليمان فغَمَزَ بطنه قال : فجفَّتْ يد الرجل. وقال جعفر الفريابي : ثنا عبَّاس: ثنا يحيى بن أبي بكير: ثنا شعبة عن هشام بن حسانٍ قال: صلَّيتُ إلى جنبب منصور بن زاذان فيما بين المغرب والعشاء الآخرة، فقرأ القرآن وبلغ بالثانية إلى النحل.
وروى أبو نعيم من طريق تَخَلَدُ بن الحسين، عن هشام بن حسان قال: صلَّيتُ إلى جنب منصور بن زاذان يوم الجمعة - في مسجد واسط- فختم القرآن مرتين، والثالثة إلى الطواسين، وكان عليه عمامة كورها اثني عشر ذراعا، فبلها بدموعه ووضعها قُدَّامه.
روى أيضًا من طريق مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال: كنت أصلي أنا ومنصور بن زاذان جميعا - وأشار مخلد بأصبعيه السبابة والتي تليها - فكان إذا جاء شهر رمضان ختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء ختمتين، ثُمَّ يقرأ إلى الطواسين قبل أن تُقام الصَّلاة، قال: وكانوا إذ ذاك يؤخّرون العشاء في شهر رمضان إلى أن يذهب ربع الليل، فكان منصور يجيء والحسن جالس مع أصحابه فيقوم إلى عمودٍ يُصلّي، فيختم القرآن، ثُمَّ يأتي الحسن فيجلس قبل أن يفترق أصحابه، وكان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر، ويختمه فيما بين المغرب والعشاء في غير شهر رمضان، وكان يأتي وقد سَدَل عِمامته على عاتقه فيقوم يُصلّي ويبكي ويمسح بعمامته عينيه، فلا يزال حتى يبلها كلها بدموعه ثُمَّ
يلفها ويضعها بين يديه، قال مخلدٌ : ولو أنَّ غير هشام يُخبرني بهذا ما صدقته. قلت: هذه الآثار صحيحة، ولا شك أن قراءة القرآن مرتين وثلاثا في المدة
اليسيرة كرامة كبيرة.
وأخرج أبو نعيم من طريق يونس بن عبدالأعلى: ثنا ابن وهب: ثنا ابن زيد قال : قال محمد بن المُنكَدِر إنِّي لليلةً حِذاء هذا المنبر جوف الليل أدعو، إذا إنسان عند اسطوانة مُقنَّع رأسه فأسمعه يقول: أي ربِّ إِنَّ القحط قد اشتدَّ على عبادك، وإنّي مُقسم عليك يا ربِّ إِلَّا سقيتهم، قال: فما كان إلا ساعة إذا بسحابة قد أقبلت، ثُمَّ أرسلها الله سبحانه وكان عزيزا على ابن المنكدر أن يخفى عليه أحد من أهل الخير فقال: هذا في المدينة ولا أعرفه؟ فلما سلَّم الإمام تقنع وانصرف، فاتَّبعه ولم يجلس للقاص حتى أتى دار أنس، فدخل موضعاً وأخرج مفتاحًا ففتح ثُمَّ دخل ، قال : ورجعت فلما أصبحت أتيته، فإذا أنا أسمع نَجْرًا في بيته فسلَّمتُ ، ثُمَّ قلتُ: أدخل؟ قال: ادخل، فإذا هو يَنْجُر أقداحًا يعملها، فقلت: كيف أصبحت أصلحك الله؟ قال: فاستشهدها وأعظمها مني، فلما رأيتُ ذلك قلتُ: إني سمعتُ البارحة إقسامك على الله عزَّ وجل يا أخي، هل لك في نفقة تغنيك عن هذا، وتفرغك لما تريد من الآخرة؟ قال: لا ولكن غير ذلك، لا تذكرني لأحد ولا تذكر هذا عند أحد حتى أموت ولا تأتني يا ابن المنكدر، فإنَّك إن أتيتني شهرتني للنَّاس، فقلتُ: إِنِّي أحبُّ أن ألقاك، قال: القني في المسجد، وكان فارسيًّا، قال: فما ذكر ذلك ابن المنكدر لأحد حتى مات الرجل رحمه الله قال ابن وهب بلغني أنه انتقل من الدار فلم يره ولم يدرِ أين ذهب، فقال أهل تلك الدار: الله بيننا وبين ابن المنكدر أخرج عنا الرجل الصالح. وقال عبدالله بن المبارك: ثنا عيسى بن عمر: حدثني حوط بن رافع: أنَّ عمرو بن عتبة كان يشترط على أصحابه أن يكون خادمهم، قال: فخرج في
تلك
الرعي في يوم حار، فأتى بعض أصحابه فإذا هو بالغمامة تُظله وهو قائم، فقال:
أبشر يا عمرو فأخذ عليه عمرو ألا يخبر أحدًا.
وقال أيضا: ثنا الحسن بن عمرو الفزاري : حدثني مولى لعمرو بن عتبة قال: استيقظنا يوما حارا في ساعةٍ حارَّةٍ، فطلبنا عمرو بن عتبة فوجدناه في جبل وهو ساجد وغمامةٌ تُظلُّه، وكنا نخرج إلى العدو فلا نتحارس لكثرة صلاته، ورأيته ليلةً يصلي فسمعنا زئير الأسد فهربنا، وهو قائمٌ يُصلِّي لم ينصرف، فقلنا له: أما خفتَ
الأسد؟ فقال: إنّي لأستحي من الله أن أخاف شيئًا سواه.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني محمد بن العباس صاحب الشامة - ثنا عبدالله بن داود عن علي بن صالح قال: كان عمرو بن عتبة يسوق أو یزود- ركائب أصحابه وغامةٌ تُظلُّه.
وروى أبو نعيم من طريق عبدالله بن داود عن علي بن صالح قال: كان عمرو بن عتبة يرعى ركائب أصحابه وغَمامةٌ تُظلُّه.
وروى أبو نعيم أيضًا من طريق عبدالله بن داود، عن علي بن صالح قال:
كان عمرو بن عتبة يُصلِّي والسَّبع حوله يضرب بذَنَبِه يَحميه.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي وأبو سعيد الأشج: ثنا محمد بن فضيل: حدثني إبراهيم - مؤذن بني حنيفة - قال: أَمَرَ الحجاج بماهان -هو أبو صالح الحنفي - أن يُصلب على بابه قال ورأيته حين رفع على خشبة يُسبِّح ويُهلل ويُكبر ويعقد بيده حتى بلغ تسعًا وعشرين قال: وطعنه الرجل على تلك الحال، فلقد رأيته بعد شهر معقودًا بيده تسعةً وعشرين، وكنا نرى عنده الضّوء بالليل شبه السراج.
وقال عبد الله أيضًا : حدثني أبي ثنا حسين بن علي، عن الحسن بن الحر، عن ميمون بن أبي شَبِيب قال: أردت الجمعة زمن الحجاج، فتهيأت للذهاب ثُمَّ قلت: أين أذهب أُصلّي خلف هذا؟ فقلتُ مرةً: أذهب، وقلت مرّةً: لا أذهب، فأجمع رأيي على الذهاب، فناداني منادٍ من جانب البيت: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة:9]، قال: فذهبت، قال: وجلستُ مرّةً أكتب كتابًا فعرض لي شيء إن أنا كتبته في كتابي زين كتابي وكنت قد كذبت، وإن أنا تركته كان في كتابي بعض القبح وكنتُ قد صَدَقتُ، فقلت مرَّةً: أكتبه، وقلت مرَّةً: لا أكتبه، فأجمعت رأيي على تركه، قال:
فناداني منادٍ من جانب البيت يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: ٢٧].
وأخرج أبو نعيم من طريق عمران بن عمرو اليامي - ابن أخ زُبيد اليامي - قال: كان زبيد اليامي حاجا فاحتاج إلى الوضوء، فقام فتنحى فقضى حاجته ثُمَّ أقبل فإذا هو بماء في موضع ولم يكن معهم ماء فتوضأ، ثُمَّ جاء يُعلمهم ليأخذوا منه ويتوضؤا، فلم يجدوه ووجدوه قد ذهب.
وروى أيضًا من طريق عمران بن عمرو اليامي - ابن أخ زُبيد - قال: كان معاوية بن خديج - يعني أبا زهير بن معاوية - تزوج امرأة من آل خارجة زوجها أخوها، وغضب أخ لها آخر فخرج إلى الوالي قال: فكتب إلى يوسف بن عمر انظر شاهديه واحبسهما، قال: وكان أحد الشاهدين زُبيدا، قال: فتغيب وحضر الحج فقال: اللهم ارزقني حج بيتك في عامي هذا ثُمَّ لا ترني يوسف
أبدا، قال: فرزقه الله الحج ومات في انصرافه ودفن في النقرة. قلتُ: زُبيد بضم الزاي ابن الحارث اليامي، ويقال: الأيامي أبو عبدالرحمن، كان ثقةً زاهدًا ،عابدا قال شعبة ما رأيت رجلا خيرًا وأفضل من زُبيد، وقال سعيد بن جبير: لو اخترت عبدا الله أكون في مِسْلَاخه لاخترت زُبيدا اليامي، ورآه يحيى بن كثير الضَّرير في النوم بعد موته فقال: إلى ما صرت يا أبا عبدالرحمن؟ قال: إلى رحمة الله، قال: فأيُّ العمل وجدت أفضل؟ قال: الصَّلاة، وحُبُّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأخرج أبو نعيم من طريق محمَّد بن فُضَيل بن غَزْوان، حدَّثني أبي: أَنَّ كُرِّزَ بن
وبرة الحارثي دخل على ابن شبرمة يعوده وهو مُبرسم، فتفل في أذنه فبَرِئَ. وروى أيضًا من طريق جرير بن زياد بن وَبَرَة الحارثي، عن شجاع بن صبيح مولى كُرْزَ بن وَبَرَة قال: أخبرني أبو سليمان المكتب قال: صَحِبتُ كُرْزا إلى مكة، فكان إذا نزل أخرج ثيابه فألقاها في الرحل، ثُمَّ تنحى للصَّلاة فإذا رُغَاء الإبل أقبل فاحتبس يوما عن الوقت فانبت أصحابه في طلبه، سمع فكنتُ فيمن طلبه قال: فأصبته في وَهْدَةٍ يُصلّي في ساعة حارة وإذا سحابة تظلُّه، فلما رآني أقبل نحوي فقال: يا أبا سليمان لي إليك حاجة، قلت: وما حاجتك يا أبا عبدالله؟ قال: أُحبُّ أن تكتم ما رأيت، قال: قلت: ذلك لك يا
أبا عبدالله ، فقال : أوثق لي، فحلفتُ له أَلَّا أُخبر به أحدًا حتى يموت.
وروى أبو نعيم أيضًا من طريق أحمد بن كثير : حدثتني رَوْضَة مولاة كرز قالت: قلنا لها من أين يُنفِق كُرِّزُ؟ قالت: كان يقول لي: يا رَوْضَة إذا أردت شيئًا فخذي من هذه الكوة، قالت: فكنت آخذ كل ما أردت.
وقال سعيد بن عثمان الدارمي: سمعت ابن عيينة يقول: قال ابن شبرمة: سأل كرز بن وَبَرَة ربَّه أن يعطيه الاسم الأعظم على ألا يسأل به شيئًا من الدنيا، فأعطاه الله ذلك، فسأل أن يقوى حتى يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث ختمات. قلتُ : كُرْنُ بن وَبَرَة الحارثي ثقةٌ عابد كان من أتباع التابعين، ذكره ابن حِبَّان في "الثقات" وقال: كان من العُبَّاد قَدِم مكة فأتعب من بها من العابدين، وكان إذا دعا أجيب، وكانت السحابة تُظلُّه، وكان ابن شُبِّرُمَة كثير
المدح له» . اهـ
وذكر أبو نعيم بإسناده عن ابن شبرمة : أَنَّ كُرْزًا كان يختم القرآن في كل
يوم وليلة ثلاث حتماتٍ.
ومما رواه كُرُزُ من الأحاديث: الحديث الذي رواه عن الربيع بن خُثيم، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم نوم الصائم عبادة، ونفسه تسبيح، ودعاؤه مستجاب». أخرجه أبو في "الحلية"، وأخرجه البيهقي من حديث عبدالله بن أبي أوفى بلفظ: «نوم الصائم عبادة، وصمته
نعيم
تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور».
والحديث بكلا اللفطين ضعيف.
وأخرج أبو نعيم من طريق جَسِّرُ القَصَّاب قال: كنت أجلب الغنم في خلافة عمر بن عبدالعزيز، فمررت براع وفي غنمه نحو ثلاثين ذئباً فحسبتها كلابا - ولم أكن رأيت الذئب قبل ذلك فقلت: يا راعي ما ترجو بهذه الكلاب كلها؟ فقال يا بُنَيَّ : إنَّها ليست كلابًا إنَّما هي ذئاب، فقلت: سبحان الله! ذئب في غنم لا يضرها ، فقال : يا بُنيَّ إنَّه إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس، وكان
ذلك في خلافة عمر بن عبدالعزيز.
وقال عبدالله بن الإمام أحمد : حدثني علي بن سلم الطوسي: ثنا سَيَّار : ثنا جعفر: ثنا مالك بن دينار قال: لما استُعمل عمر بن عبدالعزيز على الناس قال رعاء الشاء: من هذا العبد الصَّالح الذي قام على الناس؟ قيل لهم: وما عليكم
بذلك؟ قالوا: إنَّه إذا قام على النَّاس خليفةٌ عدل كَفَّت الذَّئاب عن شائنا. وقال خالد بن خِدَاش ثنا حماد بن زيد: ثنا موسى بن أعين قال: كنا نرعى الشَّاء بكَرْمان في خلافة عمر بن عبدالعزيز، فكانت الشَّاء والذئاب ترعى في مكان واحد، فبينما نحن ذات ليلةٍ إذا عَرَضَ الذَّئب لشاة فقلت: ما نرى الرجل الصالح إلَّا هلك، قال حماد: فحدثني هو -أو غيره-: أنهم حسبوا فوجدوه قد هلك في تلك الليلة.
قلت: في هذه الآثار بيان فضل العدل، وكرامة كبيرة لعمر بن عبدالعزيز
رضي الله عنه، وهي بعض من كراماته ومناقبه الكثيرة، وقد كان عمر إماما من أئمة الهدى، ناسجا على منوال الخلفاء الراشدين، منقطع النظير في الورع والزهد والعدل والعبادة، بحيث كان كما قال محمد الباقر لما سُئل عنه: أما علمت أنَّ لكل قوم نجيبةً؟ وإنَّ نجيبة بني أُمية عمر بن عبدالعزيز، وإنَّه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وقال نافع : كنت أسمع ابن عمر كثيرًا يقول : ليت شعري من هذا الذي في
وجهه علامة من ولد عمر يملأ الأرض عدلا ؟.
قلت: كانت أم عمر بن عبدالعزيز حفيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان في وجهه شَجَّةٌ من ضربة فرس.
وقال حبيب بن هند الأسلمي: قال لي سعيد بن المسيب ونحن على عرفة - : إنما الخلفاء ثلاثة قلت من الخلفاء؟ قال: أبو بكر، وعمر، وعمر، قلت: هذا أبو بكر، وعمر قد عرفناهما فمن عمر الثالث؟ قال: إن عشت أدركته وإن مت كان بعدك.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه " : ثنا محمد بن عبدالعزيز الرملي: ثنا ضَمْرَة - هو ابن ربيعة - عن السَّرِيِّ بن يحيى، عن رباح بن عُبيدة قال: رأيت رجلا يماشي عمر بن عبدالعزيز معتمدًا على يده، فقلت في نفسي: إنَّ هذا الرجل جافٌ ، فلما صَلَّى قلت: يا أبا حفص من الرجل الذي كان معك معتمدًا على يدك آنفا؟ قال: وقد رأيته يا رباح؟ قلتُ : : نعم، قال: إني لأراك رجلًا صالحا، ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي – يعني الخلافة - فأعدِلُ. ورواه أبو عروبة الحرَّاني في "تاريخه " عن أيوب بن محمد الوزان، عن ضَمْرَة به، وقد أطال أبو نعيم في "الحلية" في ترجمة عمر بن عبدالعزيز رضي ا وذكر مناقبه وفضائله فلتراجع.
الله عنه
وأخرج أبو نعيم من طريق ضَمْرَة: ثنا السَّرِي بن يحيى وغيره، عن حبيب أبي محمد: أنَّه أصاب النَّاسَ ،مجاعة، فاشترى من أصحاب الدقيق دقيقا وسَوِيقا
بنسيئة، وعَمَد إلى خَرَائطه فخيَّطها ووضعها تحت فراشه، ثُمَّ
أولئك الذين اشترى منهم يطلبون ،حقوقهم، قال: فأخرج تلك الخرائط قد امتلأت، فقال لهم: زنوا فوزنوا، فإذا هو يقوم من حقوقهم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: ثنا أبي ثنا يونس قال: جاء رجل إلى أبي محمد - يعني حبيبًا - فشكا إليه دينا عليه، فقال: اذهب واستقرض وأنا أضمن،
قال: فأتي رجلًا فاقترض منه خمسمائة درهم وضَمِنها أبو محمد، ثُمَّ جاء الرجل فقال: يا أبا محمد دراهمي قد أضرني حبسها، فقال: نعم غدًا، فتوضأ أبو محمد ودخل المسجد ودعا الله تعالى، وجاء الرجل فقال له: اذهب فإن وجدت في المسجد شيئًا فخذه، قال: فذهب فإذا في المسجد صُرة فيها خمسمائة درهم، فذهب فوجدها تزيد على خمسمائة فرجع إليه فقال يا أبا محمد: تلك الدراهم تزيد، فقال: اذهب فهي لك.
حتى
وروى أبو نعيم من طريق عيسى بن أبي حرب: ثنا أبي، عن رجلٍ، عن جدي قال : كنا عند حبيب أبي محمد فقال رجل: إنِّي أجد وجعا في رجلي فقال له: اجلس، فلما تفرَّق النَّاس قام فعلَّق المصحف في عنقه وقال: (يا خدا حبيب رسوا مياش) - كلامٌ فارسي - يقول: لا تُسوّد وجه حبيب، اللهم عافه . ينصرف، ولا يدري في أي رجليه كان الوجع فوجد الرجل العافية فسألناه في أي رجليك كان الوجع؟ قال: لا أدري. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: أخبرتُ، عن عبد الله بن أبي بكر المُقَدَّمِي: ثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت حبيبًا يقول: أتانا سائل وقد عجنت عُمْرَةً، وذهبت تجيء بنار تخبزه، فقلت للسائل: خذ العجين، قال: فاحتمله، فجاءت عُمْرَةُ فقالت: أين العجين؟ فقلت: ذهبوا يخبزونه، فلما أكثرت علي أخبرتها، فقالت: سبحان الله ! لابد لنا من شيء ،نأكله، قال: فإذا رجل قد جاء بحَفْنَةٍ عظيمة مملوءةٍ خُبزًا ولحما، فقالت عُمْرَة: ما أسرع ما ردُّوه عليك قد خبزوه وجعلوا معه لحما.
وقال أبو الشيخ ابن حَيَّان ثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم: ثنا محمد بن معبد
الجَوْسَقِيُّ : ثنا محمد بن موسى المقرِئُ: ثنا عَون بن عُمارة، عن حماد وأبي عوانة، قالا: شهدنا حبيباً الفارسي يوما جاءته امرأة فقالت: يا أبا محمد (نان نسيت مارا) - كلام فارسي - فقال لها: كم لك من العيال؟ قالت: كذا وكذا، فقام حبيب إلى وَضُوئه فتوضأ، ثُمَّ جاء إلى الصَّلاة فصلى بخضوع وسكون، فلما فرغ قال: يا ربِّ إِنَّ النَّاس يحسنون ظنَّهم بي، وذلك من سترك عليَّ فلا تُخلف ظنَّهم بي، ثُمَّ رفع حصيره فإذا بخمسين درهما فأعطاها إيَّاها ثُمَّ قال: يا حماد اكتم ما رأيت حياتي.
وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان الداراني يقول: كان حبيب أبو محمد يأخذ متاعًا من التجار يتصدَّق به، فأخذه مَرَّةً فلم يجد شيئًا يعطيهم، فقال : يا رب كأنه يقول: إنّي ينكسر وجهي عندهم، فدخل فإذا هو بجوالق من شَعرٍ ، كأَنَّه نُصِب من أرض البيت إلى السَّقف ملآن دراهم، فقال: يا رب ليس أريد هذا، قال: فأخذ حاجته وترك البقية.
وقال أبو الشيخ ثنا محمد بن العباس بن أيوب: ثنا عبدالرحمن بن واقد: ثنا ضَمْرَة : حدثني السَّرِيُّ بن يحيى قال: كان حبيب أبو محمد يُرى بالبصرة يوم التروية، ويُرى بعرفة عَشيَّة عرفة.
قلت: حبيب بن محمد الفارسي أصلا، البصري دارًا وسكنى، ذكره أبو نعيم في أتباع التابعين، وقال: كان صاحب المكرمات مُجاب الدعوات، وكان صاحب مال كثير، ثُمَّ حضر مجلس الحسن البصري فاتَّعظ بكلامه، وتصدق في يوم واحد بأربعين ألف درهم. ومن خبره في ذلك ما رواه أبو نعيم من طريق جعفر بن سليمان قال: «كنا
ننصرف من مجلس ثابت البناني فنأتي حبيبًا أبا محمد، فيحث على الصدقة فإذا
وقعت قام فتعلق بقرن مُعلَّق في بيته، ثُمَّ يقول:
هاقد تَغَذَيتُ وطابَت نَفْ
يس في الحـــــي غـــــــلام مـــــلي
إلَّا غُلامٌ قد تَغَذَّى قبلي
سبحانك وحنانيك خَلَقْتَ فسويت، وقَدَّرتَ فهديت، وأعطيت فأغنيت، وأقنيتَ وعافيت، وعَفْوَتَ وأعطيت، فلك الحمد على ما أعطيت حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، حمدًا لا ينقطع أولاه، ولا ينفد أخراه، حمدًا أنت منتهاه، فتكون الجنة عقباه، أنت الكريم الأعلى، وأنت جزيل العطاء، وأنت أهل النعماء، وأنت ولي الحسنات، وأنت خليل إبراهيم، لا يُحفيك سائل، ولا يُنقصك نائل، ولا يبلغ مدحك قول قائل، سجد وجهي لوجهك الكريم، ثُمَّ يَخر فيسجد ونسجد معه، ثُمَّ يُفرّق الصَّدقة على من حضر من المساكين». ومن كلامه الدَّالّ على عُلوّ مَقامه قوله: «لا قرة عين لمن لا تَقرُّ عينه بك،
ولا فرح لمن لا يفرح بك، وعزّتك إنَّك تعلم أني أحبك».
وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان عابدا ورعًا فاضلا تقيا من
المجابين الدعوة».
وقال ابن عبدالبر في كتاب "الكُنى": كان حبيب ثقة وفوق الثّقة، قليل
الحديث». قلت: هذا هو حبيب العَجَميُّ المذكور في سلسلة طريقتنا الشاذلية –التي هي لب الطرق الاتصالية - أخذ الطَّريقة عن الحسن البصري، وتلقى عنه أبو
سليمان داود الطائي.
وأخرج أبو نعيم من طريق أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي أبو سليمان الدراني: «أصاب عبدالواحد بن زيد الفالج، فسأل الله أن يُطلقه في وقت
الوضوء، فإذا أراد أن يتوضأ ،انطلق، وإذا رجع إلى سريره عاد عليه الفالج». وأخرج أيضًا من طريق الفيض بن إسحاق الرَّقي: سمعت الفضيل بن عياض يقول: قال عبدالواحد بن زید سألت الله ثلاث ليال أن يُريني رفيقي في الجنة، فرأيت كأنَّ قائلا يقول لي: يا عبد الواحد رفيقك في الجنة ميمونة السوداء، فقلت: وأين هي ؟ فقال : في آل بني فلان بالكوفة، قال: فخرجت إلى الكوفة فسألت عنها، فقيل : هي مجنونة بين ظهرانينا ترعى غنيمات لنا، فقلت: أريد أن أراها؟ قالوا: اخرج إلى الخان، فخرجت فإذا هي قائمةٌ تُصلِّي، وإذا بين يديها عُكازة لها، فإذا عليها جُبَّةٌ من صوف مكتوب عليها لا تُباع ولا تُشترى، وإذا الغنم مع الذَّئاب - لا الذُّئاب تأكل الغنم ولا الغنم تفزع من الذئاب- فلما رأتني أَوْجَزَت في صلاتها ثُمَّ قالت ارجع يا ابن زيد فليس الموعد هاهنا إنَّما الموعد ثَمَّ، فقلت لها: رحمك الله وما يعلمك أني ابن زيد؟ فقالت: أما عَلِمتَ أنَّ الأرواح جنودٌ مُجنَّدَةٌ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فقلت لها: عظيني. فقالت: واعجبًا لواعظ يوعظ ! ثُمَّ قالت: يا ابن زيد إنَّك لو وضعت معاير القسط على جوارحك؛ لأخْبَرتُكَ بمكنون ما فيها، يا ابن زيد ه بلغني : ما من عبد أعطي من الدنيا شيئًا فابتغى إليه ثانيا؛ إِلَّا سَلَبه الله حُبَّ الخلوة معه، ويبدله بعد القرب البعد، وبعد الأنس الوَحْشَة، ثُمَّ أنشأت تقول: يا وَاعِظَا قَامَ لاحْتِسابِ يَزْجُرُ قَومَــا عــن الـذَّنوبِ
تنهى وأنت السَّقِيمُ حقا هــذا مـــن المنكر العجيب لو كنتَ أصْلَحْتَ قبل هذا غَيَّكَ أو تُبتَ مِن قَرِيبٍ كان لما قلت يا حبيبي مَوقِعَ صِدْقٍ مِن القُلوبِ تَنْهَـــي عـــــن الــــي والــتـادِي من الغَيِّ والسَّمادِي وأنت في النهي كالمريب فقلت لها: إني أرى هذه الذُّئاب مع الغنم، لا الغنم تفزع من الذئاب ولا الذئاب تأكل الغنم فإيش هذا؟ فقالت: إليك عني، فإنِّي أصلحت ما بيني وبين
سيدي فأصلح بين الذَّئاب والغنم».
قلت: عبدالواحد بن زيد البصري أحد شيوخ الصُّوفية، كان زاهدًا عابدًا واعظا، له أخبار في الزهد والوعظ ، لكنَّه ضعيفٌ في الحديث، روى عن الحسن البصري وغيره أحاديث منكرةً، أتي فيها من قبل سوء حفظه، ولم يكن الحديث صناعته بل كان مشغولاً بالعبادة. قال محمد بن عبدالله الخزاعي: صلَّى عبدالواحد بن زيد الصبح بوضوء العشاء أربعين سنةً، وقال غيره: كان مُجاب الدعوة، وترجمته مبسوطة في "الحلية"، وغيرها.
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم ثنا محمد بن يحيى: ثنا محمد بن عبيد الله التيمي: ثنا صالح المري قال: أصاب أهلي ريح الفالج، فقرأت عليها القرآن ففاقت، فحدثت به غالبًا القطَّان فقال : وما تعجب من ذلك؟! والله لو أنَّك
حدثتني أنَّ ميتًا قُريء عليه القرآن فحيي ما كان ذلك عندي عجبا!». قلتُ: هذه كرامة لصالح تدلُّ على: صدق إيمانه وقوة يقينه، وما ذكره
غالب القطان صحيح؛ لكن ذلك إنَّما يظهر على من كان صالحا تقيا، وصالح بن
بشير المري كان عابدا تقيًّا ،واعظاً، وإن كان ضعيفًا في الحديث؛ لأنَّه ليس فنه. قال خلف بن الوليد كان صالح المري إذا قصَّ - أي: وعظ النَّاس - قال: هات جؤنة المسك والترياق المجرَّب - يعني القرآن فلا يزال يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف»، وأخباره في الوعظ والخوف من الله كثيرة، مبسوطة في "الحلية" وغيرها.
وروى أبو إبراهيم الترجماني عنه قال: قال لي في منامي قائل: إذا أحببت أن يُستجاب لك فقل: اللهم إنّي أسألك باسمك المخزون المكنون المبارك
المطهر الطَّاهر المقدَّس، قال: فما دعوت به في شيء إلا تعرفت الإجابة». وقال أبو الشيخ ثنا أحمد بن الحسين ثنا أحمد بن إبراهيم: ثنا خالد بن خداش : سمعت بعض أصحابنا يقول: «دعا عتبة الغلام هذا الطَّير الأقمر، فقال: تعال فأنت آمن، فجاء حتى وقع في يده، ثُمَّ خلى سبيله وقال لصاحبه الذي رآه: لا تُحدث به أحدًا».
وروى أبو نعيم من طريق مسلم بن إبراهيم قال: رأيت عتبة الغلام وكان يقال: إنَّ الطير تُجيبه».
وروى أبو الشيخ وعنه أبو نعيم من طريق مهدي بن ميمون قال: خرجت في بعض الليالي إلى بعض الجبال ، فإذا عُتبة الغلام قال لي: جئتَ ؟ قد دعوت الله أن يجئ بك، قلت: ادعُ الله أن يُطعمنا رُطبًا، فدعا فإذا دَوْخَلَةٌ مملوءة رطبا».
قلت: عتبة بن أبان بن صَمْعَة الغلام كان عابدا زاهدًا، يحترف عمل فيبيعه ويتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويجعل الثلث الباقي رأس ماله،
الخوص
استشهد في إحدى غزوات المسلمين في قرية يقال لها: الحباب، ووجد في
جسده سبع طعنات، ووجدوه واضعا يده على فرجه.
ذكر مخلد بن الحسين: «عُتبة الغلام وصاحبه يحيى الواسطي، فقال كأنَّها ربتهم الأنبياء».
وقال قدامة بن أيوب العَتَكِيُّ - وكان من أصحاب عتبة -: «رأيت عتبة في المنام فقلت: يا أبا عبدالله ما صنع الله بك؟ قال: يا قدامة دخلت الجنة بتلك الدعوة المكتوبة في بيتك، قال: فلما أصبحت جئت إلى بيتي، وإذا خط عتبة في حائط البيت مكتوب يا هادي المضلين وراحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، ارحم عبدك ذا الخطر العظيم، والمسلمين كلهم أجمعين، واجعلنا مع الأحياء المرزوقين، مع الذين أنعمت عليهم من النَّبيين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين يا رب العالمين».
وأخرج أبو نعيم من طريق أبو النضر قال: «كان إبراهيم بن أدهم يأخذ الرُّطَبَ من شجرة البلوط».
وروى أيضًا من طريق وَبَرَة الغَسَّاني: ثنا عَدِي الصَّيَّاد - من أهل جَبَلة-: سمعت يزيد بن قيس يحلف بالله، أنَّه كان ينظر إلى إبراهيم بن أدهم وهو على شَط البحر في وقت الإفطار فيرى مائدة توضع بين يديه لا يدري من وضعها، ثُمَّ يراه يقوم فينصرف حتى يدخل جبلة وما معه شيء».
وروى أبو نعيم أيضًا عن مكي بن إبراهيم قال: «كان إبراهيم بن أدهم بمكة فسُئل ما يبلغ من كرامة المؤمن على الله عزّ وجل؟ قال: يبلغ من كرامته على الله
تعالى لو قال للجبل تحرَّك لتحرَّكَ؛ فتحرك الجبل، فقال: ما إيَّاكَ عَنَيتُ».
وقال أبو الشيخ: ثنا أبو العباس الهروي: ثنا عصام بن رواد: ثنا عيسى بن حازم: حدثني إبراهيم بن أدهم قال: «لو أنَّ مؤمناً قال لذاك الجبل: زُل لزال،
قال: فتحرك أبو قبيس، فقال: اسكن إني لم أعنك فسكن».
وقال أبو الشيخ أيضًا: ثنا أحمد بن الحسين: ثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي: ثنا خلف ابن تميم: حدثني عبد الجبار بن كثير قال: «قيل لإبراهيم بن أدهم:
هذا هو السبع قد ظهر؟ فقال: أرنيه، فلما نظر إليه قال: يا قسورة إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أُمرت به، وإلا فعودك على بديك، قال: فضرب بذنبه وولى ذاهبًا قال: فعَجِبنا منه حين فَقِه كلامه! ثُمَّ أقبل علينا إبراهيم فقال: قولوا اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، اللهم واكتفنا بكنفك الذي لا يُرام، اللهم وارحمنا بقدرتك علينا ولا نهلك وأنت الرَّجاء، قال خلف: فأنا أُسافر منذ نيف وخمسين سنة فأقولها لم يأتني لِصّ قطُّ، ولم أرَ إلا خيرًا قط»، ولهذه القصة طريقان رواهما أبو نعيم.
وقال أبو الشيخ أيضًا: ثنا محمد بن أحمد بن سليمان الهروي: سمعت ابن العباس بن محمد يقول: سمعتُ خلف ابن تميم يقول: «كان إبراهيم بن أدهم في البحر، فعصفت الريح واشتدَّت، وإبراهيم ملفوف في كسائه، فجعل أهل السفينة ينظرون إليه، فقال له رجلٌ منهم: يا هذا ما ترى ما نحن فيه من هذا الهول وأنت نائم في كسائك؟ قال: فكشف إبراهيم رأسه فأخرجه من الكساء، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك قال : فسكن البحر حتى صار كالدهن»، ولهذه القصة طريق آخر عند أ عند أبي نعيم.
وقال أبو الشيخ أيضًا ثنا أحمد بن الحسين: ثنا أحمد بن إبراهيم: حدثني
خلف بن تميم قال: كنت عند أبي رجاء الهروي في مسجد، فأتى رجل على فرس فنزل فسلَّم عليه وودعه، فأخبرني أبو رجاء عنه أنه كان مع إبراهيم بن أدهم في سفينة في غَزَاة البحر، فعصفت عليهم الرّيح وأشرفوا على الغرق،
فسمعوا في البحر هاتفًا يهتف بأعلى صوته: تخافون وفيكم إبراهيم؟!». قلت: كرامات إبراهيم بن أدهم كثيرة مروية في "حلية أبي نعيم" و"رسالة القشيري" وغيرهما، وهو أحد شيوخ الصُّوفيَّة كان زاهدًا ثقةً في الحديث، وثقه ابن معين، وابن نُمير، والعجلي، والنسائي، والدارقطني، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان، وغيرهم، روى عنه الثوري والأوزعي وعِدَّةٌ، وأطال أبو نعيم ترجمته في "الحلية"، وتوسع في نقل كراماته وأحواله وكلامه في الزهد وغيره، ثُمَّ قال: لم تكن الرواية من شأنه، فلذلك يقل حديثه، ثُمَّ أسند الأحاديث التي رواها. وللحافظ أبي عبدالله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده "مسند أحاديث إبراهيم بن أدهم"، وهو جزء صغير وقفت عليه وقرأته، افتتحه بذكر نسب إبراهيم ومبدأ زهده وتاريخ وفاته وموضع دفنه، ثُمَّ بدأ من الأحاديث بما رواه إبراهيم بن أدهم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب . رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: من أنعم الله عليه نعمةً فليحمد الله، ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله ومن حَزبه أمر فليقل لا حول ولا قوة إلا بالله». وهذا الحديث رواه البيهقي في "شعب الإيمان" من حديث عليّ أيضًا. ومن أحاديث إبراهيم بن أدهم ما رواه عن الزُّبيدي، عن عطاء الخراساني يرفع الحديث قال: «ليس للنساء سلام ولا عليهنَّ سلام».
قال الزُّبيدي: «أُخذ على النساء ما أخذ على الحيات: أن ينجحرن في ا
بيوتهنَّ»، أخرجه أبو نعيم.
ولكن نساء اليوم يُردن أن يزاحمن الرجال في أعمالهم الخاصة بهم، ويدعن بيوتهنَّ وأولادهنَّ في أيدي الخَدَم والمربيات، وقد عقدن في هذه الأيام مؤتمرًا للبحث في حقوقهنَّ كما زعمن دُعِيَتْ إليه كل خليعة سافرة وقررن قراراتٍ
هي مع خروجها عن تعاليم الدين ومنافاتها للمروءة- غاية في السَّخافة ودليل آخر على نقص عقولهنَّ، والعيب في هذا يعود على الرجال الذين تركوا لهن الحبل على الغارب ولم يأخذو هنَّ بشيء من الحزم، كما هو الواجب شرعا وعادةً، فلا حول ولا قوة إلا بالله
وقال أبو الشيخ ثنا جعفر بن أحمد بن فارس: ثنا إبراهيم بن الجنيد: ثنا مليح بن وكيع قال: سمعتهم يقولون: خرجنا من مكة في طلب فضيل بن عياضي إلى رأس الجبل، فقرأنا القرآن فإذا هو قد خرج علينا من شعب لم نره، فقال لنا: أخرجتموني من منزلي ومنعتموني الصَّلاة والطَّواف، أما إنَّكم لو أطعتم الله ثُمَّ شئتم أن تزول الجبال معكم زالت، ثُمَّ دَقَّ الجبل بيده فرأينا الجبل - أو الجبال - اهتزت وتحركت.
وقال أبو الشيخ أيضًا: ثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن سليمان الهروي: ثنا إبراهيم بن يعقوب: ثنا أحمد بن نصر، عن محمد بن حمزة المرتضى قال: «كان شيبان الراعي إذا أجنب وليس عنده ماء دعا ربه، فجاءت سحابة فأظلت فاغتسل، وكان
يذهب إلى الجمعة فيخط على غنمه، فيجئ فيجدها على حالتها لم تتحرك». وأخرج أبو نعيم من طريق أبي سليمان الرومي: «سمعت خليلا الصياد
يقول: غاب ابني محمد، فجزعت أمه عليه جزءًا شديدا، فأتيت معروفًا الكرخي فقلت أبا محفوظ، قال: ما تشاء؟ قلت: ابني محمد غاب وجزعت اله عليه جزءًا شديدًا فادع الله أن يردَّه عليها، فقال: اللهم إنَّ السماء سماؤك، والأرض أرضك، وما بينهما لك، فائتِ به، قال خليل: فأتيت باب الشام - مکان ببغداد - فإذا ابني محمد قائمٌ مُنبهر ، قلتُ: محمد! قال: يا أبت كنت الساعة بالأنبار».
وأخرج الخطيب في "التاريخ" عن ابن شيرويه قال: «كنت أجالس معروفا الكرخي كثيرًا ، فلما كان ذات يوم رأيت وجهه قد خلا، فقلت له: يا أبا محفوظ بلغني ، أنَّك تمشي على الماء، فقال لي: ما مشيت قط على الماء، ولكن إذا هممت بالعبور جُمع لي طرفاها فأتخطاها».
وروى أيضا قال: أخبرنا الأزهري : ثنا عثمان بن عمرو الإمام: ثنا محمد بن تخلد قال: «قُرئ على الحسن بن عبد الوهاب - وأنا أسمع - قال: سمعت أبي يقول: قالوا إنَّ معروفًا الكرخي يمشي على الماء، ولو قيل إنَّه يمشي في الهواء لصدقتُ». وروى أيضا عن يعقوب ابن أخي معروف قال: «قالوا المعروف: يا أبا محفوظ لو سألت الله أن يمطرنا ؟ قال : وكان يوما صائفًا شديد الحر - قال :
ارفعوا إذا ثيابكم قال : فما استتموا رفع ثيابهم حتى جاء المطر».
وروى الخطيب أيضًا من طريق سعيد بن عثمان: سمعت محمد بن منصور يقول: «ذهبت يوما إلى معروفِ الكَرخي، ثُمَّ عُدت إليه من غَدٍ فرأيت في وجهه أثر شَجَةٍ فَهِبتُ أن أسأله عنها، وكان عنده رجل أجرأ عليه مني فقال له : يا أبا محمَّدٍ كنَّا عندك البارحة ومعنا محمد بن منصور، فلم نر في وجهك
هذا الأثر؟ فقال له معروف: خذ فيما تنتفع به، فقال له: أسألك بحق الله؟ قال: فانتفض معروفٌ ثُمَّ قال: ويحك وما حاجتك إلى هذا؟ مضيت البارحة إلى يت الله الحرام، ثُمَّ صِرتُ إلى زمزم فشربت منها، فزلت رجلي فبطح وجهي
الباب، فهذا الذي ترى من ذلك».
قلت: معروف بن الفيرزان الكرخي أستاذ السَّرِي السَّقَطِي، ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخ "بغداد" فقال: كان أحد المشتهرين بالزهد والعزوف عن الدنيا، يغشاه الصالحون، ويتبرك بلقائه العارفون، وكان يوصف بأنه عُجاب الدعوات، ويُحكى عنه كرامات، وأسند أحاديث كثيرة عن بكر بن خُنَيس، والربيع بن صُبيح وغيرهما، ثُمَّ ذكر جملة من كراماته، وثناء الإمام أحمد عليه
وذهابه مع ابن معين إلى معروف ليكتبا عنه جزءًا عن ابن أبي حازم.
وقال أبو القاسم القشيري في "الرسالة": «كان معروف من المشايخ الكبار، مُجاب الدعوة، يُستشفى بقبره ، يقول البغداديون: قبر معروف ترياق
مُجرَّب، وهو من موالي علي بن موسى الرضى، رضي الله عنهم». وروى الحافظ الخطيب في "التاريخ" من طريق عبدالله بن موسى الطلحي: سمعت أحمد بن العباس يقول: «خرجت من بغداد فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال: من أين خرجت؟ قلت من بغداد، هربت منها لما رأيت فيها من الفساد، خفت أن يُخسف بأهلها، فقال: ارجع ولا تخف، فإنَّ فيها قبور أربعة من أولياء الله هم حِصن لهم من جميع البلايا، قلت: من هم؟ قال: ثم الإمام أحمد، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي، ومنصور بن عمار، فرجعت وزرت القبور، ولم أخرج تلك السنة».
محمد
وقال أبو نعيم: ثنا أبو الفضل نصر بن أبي نصر الطوسي ثنا علي بن : المصري: ثنا يوسف بن موسي المروزي : ثنا عبد الله بن خُبَيق: «سمعت عبدالله بن السندي يُحدِّث أصحابه قال: لو أنَّ وليّا من أولياء الله قال للجبل: زُل لزال، قال: فتحرك الجبل من تحته فضربه برجله فقال: اسكن إنَّما ضربتك مثلا
لأصحابي». وأخرج أبو نعيم عن طريق زكريا بن يحيى - قاضي عين زربة - ثنا أبو بكر المقابري قال: دخلت على علي بن بكار وهو ينقي شعيرا لفرسه، فقلت: يا أبا الحسن ما لك من يكفيك هذا؟ فقال لي: كنت في بعض المغازي وواقعنا العدو وانهزم المسلمون وانهزمتُ معهم، وقصر بي فرسي فقلت: إنَّا الله وإنا إليه راجعون، فقال الفرس: نعم إنا لله وإنا إليه راجعون حيث تتكلم علي فلا تُنقي علفي ! فضَمِنتُ ألا يليه غيري.
وأخرج أبو نعيم أيضًا عن أبي عبدالله بن الجلاء قال: «خرجت إلى شَكٍّ نيل مصر، فرأيت امرأة تبكي وتصرخ فأدركها ذو النون فقال لها: ما لك تبكين؟ قالت: كان ولدي وقرة عيني على صدري، فخرج تمساح فاستلب مني ولدي، قال: فأقبل ذو النون على صلاته وصلى ركعتين ودعا دعوات، فإذا التمساح خرج من النيل والولد معه ودفعه إلى أُمِّه فأخذته، وأنا كنت أرى». وفي ترجمة ذي النون المصري من "الحلية" كرامات له ولغيره من الأولياء، شاهدها هو بنفسه يطول بنا تتبعها . وقال أبو الحسين بن بشران في الأول من "فوائده": أخبرنا دَعْلَج بن أحمد، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا جعفر بن عمران الثعلبي، ثنا المحاربي، عن
شعير - مصغرًا - ابن الخمس - بكسر الخاء المعجمة – عن عبدالعزيز بن أبي رواد قال: «كانت امرأة أسفل مكة تُسبِّح في كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحةً فماتت، فلما بلغ بها القبر أُخذت من أيدي الرجال».
وأخرج أبو نعيم عن آدم بن أبي إياس قال: «كان شاب يكتب عنِّي، قال: فأخذ مني دفترًا ينسخه فنسخه فظننتُ عليه ظنَّ سُوءٍ، ثُمَّ جاء به وعليه ثياب رَبَّةٌ فرفقت به ثُمَّ أمرت له بدراهم فلم يقبلها، فجَهَدتُ فلم يفعل، ثُمَّ أخذ بيدي فمرَّ بي إلى البحر ثُمَّ أخرج من كُمه قدحًا فغرف من ماء البحر، ثُمَّ قال: اشرب، فشربت أحلى من العسل ، ثُمَّ قال: من كان في خدمة من هذه قدرته،
أي شيء يصنع بدراهمك؟! ثُمَّ غاب عنِّي فلم أرَه». وأخرج أبو نعيم عن أبي الحارث الأُولاسي قال: «خرجت من حصن أولاس أُريد البحر فقال بعض إخواني: لا تخرج فإنِّي قد هيأت لك عِجَّةً حتى تأكل قال: فجلستُ وأكلتُ معه، ونزلتُ إلى الساحل فإذا أنا بإبراهيم بن سعد قائما يُصلّي، فقلت في نفسي: ما أشكُ إلا أنه يريد أن يقول لي: امش معي على الماء، ولئن قال لي لأمشين معه، فما استحكمت الخاطر حتى سلَّم، ثُمَّ قال: هيه يا أبا الحارث امش على الخاطر، فقلت: بسم الله، فمشى هو على الماء وذهبت أمشي فغاصت رجلي، فالتفت إليَّ وقال : يا أبا الحارث، العجة أخذت برجلك». قلت: إبراهيم بن سعد العلوي ذكر أبو نعيم أنه: كان معروفًا بالآيات، موصوفا بالكرامات. وأخرج أيضًا عن أبي جعفر الخصَّاف قال: «قال لي جابر الرَّحَبيُّ -يوما وأنا أماشيه : مرَّ بنا نتسابق مُرَّ أنت هكذا حتى أمر أنا هكذا، قال: فمررتُ
أنا على الجسر ، فلما أبعدت على الجسر التفتُ فإذا هو يمشي على الماء ينتضحُ من تحت قدميه مثل ما يخرج الغُبار من تحت قدم الماشي، فلما التقينا قلت: من يحسن مثل هذا؟ أمشي على الجسر وتمشي أنت على الماء، فقال: أو قد رأيتني؟ قلت: نعم، قال: أنت رجل صالح».
وقال أبو نعيم: ثنا عثمان بن محمد العثماني: سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد يقول: ثنا عُبيد المُسْرِيُّ قال: سألت رجلًا بالكام ما الذي أجلسك في هذا الموضع ؟ قال : وما سُؤالك عن شيء إن طلبته لم تُدركه، وإن لحقته لم تقع عليه؟ قلت: تخبرني ما هو ؟ قال: علمي بأن مجالسة الله تستغرق نعيم الجنان
كلها، قلت: بِمَ؟ قال: أوَّاهُ قد كنتُ أظنُّ أنَّ نفسي ظَفَرتْ، ومن الخلق هَرَبتْ، فإذا أنا كذَّابٌ في مقامي، لو كنتُ مُحبا لله صادقا ما اطلع على أحد، فقلت: أما علمت أن المحبين خُلفاء الله في أرضه مستأنسون بخلقه يبعثهم على طاعته، قال: فصاح بي صيحةً وقال : يا مخدوع لو شممت رائحة الحب، وعاين قلبك ما وراء ذلك من القُرب، ما احتجت أن ترى فوق ما رأيت، ثُمَّ قال: يا سماء ويا أرض اشهدا على أنه ما خطر على قلبي ذكر الجنة والنار قطُّ، إن كنت صادقًا فأمتني، فوالله ما سمعت له كلاما بعدها، وخفت أن يسبق إلى الظن من النَّاس في قتله، فتركته ومضيت فبينا أنا على ذلك إذا أنا بجماعة قالوا: ما فعل الفتى، فكنيت عن ذلك فقالوا: ارجع فإنَّ الله قد قبضه، فصليتُ معهم عليه فقلت لهم: من هذا الرجل؟ ومن أنتم؟ قالوا: ويحك هذا رجلٌ به كان يمطر المطر، قلبه على قلب إبراهيم الخليل عليه الصَّلاة والسلام، أما رأيته يُخبر عن نفسه أن ذكر الجنة والنار ما خطر على قلبه قطُّ، فهل كان أحدٌ هكذا !
إبراهيم الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام :قلت فمن أنتم؟ فقالوا: نحن السبعة المخصوصون من الأبدال، قلت: علموني شيئًا؟ قالوا: لا تُحبَّ أن تُعرف، ولا تحبَّ أن يُعرف أَنَّكَ ممَّن لا يُحِبُّ أن يُعرف».
وذكر الحافظ السَّخاويُّ في "القول البديع" مما عزاه لأبي عبدالرحمن السلمي بإسناده إلى أبي الخير الأقطع، قال: دخلت المدينة وأنا بفاقة شديدة، فأقمت خمسة أيام لم أذق ذواقا، فتقدمت إلى القبر الشريف وسلَّمتُ على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وعلى أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله، وتخليت ونمت خلف المنبر، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعليا بين يديه، فحركني علي وقال : قم فقد جاء النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقمت إليه وقبلت بين
عينيه، فدفع إلى رغيفا، فأكلت نصفه فانتبهت فإذا في يدي نصف رغيف». وأبو الخير الأقطع ذكره القشيري في "الرسالة" وقال: مغربي الأصل، سكن تينات وله كرامات وفراسة حادّة، وكان كبير الشأن مات سنة نيف وأربعين وثلاثمائة، وذكر من كلامه قوله: «ما بلغ أحد إلى حالة شريفة؛ إلَّا
بملازمة الموافقة ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض وصحبة الصالحين». وذكر ابن القيم في كتاب "الكبائر" وكتاب "السُّنَّة والبدعة" في بيان بدعة الرفض من هذين الكتابين ناقلا عن الحافظ السلفي نزيل الإسكندرية، مما رواه بإسناده إلى يحيى بن عَطَّاف المعدل : أنه حكى عن شيخ دمشقي جاور بالحجاز سنين، قال: كنت بالمدينة في سنةٍ مُجدبة، فخرجت يوما إلى الشوق لأشتري دقيقا برباعي قال : فأخذ الدقاق الرباعي، وقال: العن الشيخين حتى
أبيعك الدقيق، فامتنعت من ذلك فراجعني مرّات وهو يضحك، فضجرت منه وقلت: لعن الله من يلعنهما، قال: فلطم عيني فسالت على خدي، فرجعت إلى المسجد وكان لي صديق من أهل ميافارقين جاور بالمدينة سنين، فسألني عما جرى فأخبرته، فقام معي إلى الحجرة المقدَّسة فقال : السَّلام عليك يا رسول الله قد جئناك مظلومين فخذ بثأرنا ، ثُمَّ رجعنا، فلما جَنَّ الليل نمت؛ فلما استيقظت وجدت عيني صحيحةً أحسن ما كانت... وذكر بقية القصَّة فيما حصل لذلك الدقاق من العطب على لعنه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما، وهذه القصة مع كثيراتٍ مثلها مذكورة في كتاب "مصباح الظلام" المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (٥٩م) ، ولست أعني "مصباح الظلام" للجرداني
فليتنبه.
وقال الحافظ أبو بكر بن المقري في "مسند أصبهان": «كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في مدينة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فضاق بنا الوقت فواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء أتيت إلى القبر الشريف وقلت: يا رسول الله، الجوع ؟ فقال لي الطَّبراني: اجلس فإما أن يكون الرزق أو الموت، فقمت أنا وأبو الشيخ فحضر الباب علوي، ففتحنا له فإذا معه غلامان بزنبيلين فيهما شيء كثير، فقال: يا قوم شكيتم إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فإني رأيته فأمرني بحمل شيء إليكم»، نقل هذه القصة الحافظ السخاوي في "القول البديع"، وفيها كرامة للشريف العلوي ولهؤلاء الحفاظ الثلاثة، وهم أهل لكل كرامة وإكرام . وقال الحافظ أسلم بن سهل الواسطي المعروف ببخشل- في "تاريخ
واسط": حدثنا محمد بن أبان ثنا خلف بن خليفة قال: حدثني بواب الحجاج
قال: «لما سقط رأس سعيد إلى الأرض قال : لا إله إلا الله. يجهر بها».
قلت:
سعيد هو ابن جُبير، وبوّاب الحجّاج اسمه عتبة بن مسلمة، كذا جاء
مُبيِّنًا في ترجمة حمزة بن عبد القاهر بن حمزة من "تاريخ واسط" أيضًا. وقال الحافظ أبو سعد الماليني في " الأربعين في شيوخ الصُّوفيَّة": «سمعت أبا بكر أحمد بن عبدالله بن المنتصر الأندلسي يقول: أنبأ أبو الفرج الموحد إبراهيم بن إسحاق بن البري قال: قال لي أبو صالح مفلح بن عبدالله: «أقمت أربعين يوما ما شربت ماءً، فلما مضى أربعون يوما أخذ بيدي أبو بكر محمد بن سيد حمدويه، وحملني إلى بيته، فأخرج إلى ماءً وقال: اشرب فشربت، فحكت لي امرأته أنه قال لها: اشربي فضلة رجل له أربعون يوما ما شرب ماء، قال أبو صالح: وما اطلع على تركي لشرب الماء أحدٌ غير الله تعالى». وقال الماليني أيضًا: سمعت قاسم بن عمرو المعافري يقول: «كنت ألزم مجلس أبي الحسن الدَّينَوَرِيِّ، فخرجت يوم الجمعة أروح إلى الجامع، فرأيت الناس يتزاحمون على الخبازين وكنت صائما، فقالت لي نفسي: حصل إفطارك قبل الصَّلاة، فإنَّك إذا صليت لم تجد شيئًا تشتريه، فأخذت إفطاري وخبّأته في موضع، فلما صليت الجمعة قعدت في مجلس الشيخ أبي الحسن الدينوري فسألته مسألة فالتفتَ إليَّ، وقال: ليس هذا مسألة من يهتم لإفطاره قبل صلاة
الجمعة».
وقال الحافظ الماليني أيضًا: سمعت أبا علي الحسين بن علي بن خلف قال: سمعت أبا بكر محمد بن إبراهيم المصري يقول: «كنت بالمدينة فجئت إلى عند
الفقراء، فإذا رجل أعجمي كبير الهامة يُودِّع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فودعه، وتبعته حتى جاء إلى مسجد الشجرة، فصلى ولى فصليتُ ولبيتُ، وخرجت خلفه فالتفت فرآني فقال: ما تريد؟ قلت: أريد أن أتبعك، فأبى على فالححت، فقال: إن كان ولابد فانظر ألا تضع قدمك إلا على أثر قدمي، قلت: نعم ، فمشى وأخذ على غير الطريق ، فلما مر هوى من الليل إذا بضَوء سراج فالتفت إلي فقال: هذا مسجد عائشة تتقدم أنت أو أتقدم أنا؟ قلت: ما تختار ؟ فتقدم ، ون ، ونمت حتى إذا كان وقت السَّحَر دخلت إلى مكة فطفت وسَعَيت، وجئت إلى عند أبي بكر الكتاني وجماعة الشيوخ قعود فسلمت عليهم، فقال لي أبو بكر: متى قدمت؟ قلت الساعة قال: من أين؟ قلت: من المدينة، قال: كم عهدك منها؟ قلت البارحة، فنظر بعضهم إلى بعض فقال لي الكتاني: مع من جئت؟ فقلت: مع رجل من حاله ،وقصته فقال: ذاك أبو جعفر الدامغاني ، وهذا في حاله قليل ، ثُمَّ قال: قوموا اطلبوه، ثُمَّ قال لي: علمت أن هذا ليس حالك، قال أبو عليّ: قلت لأبي بكر المصري كيف كنت تحس بالأرض تحت
قدمك؟ قال: كنت أحس بها مثل الموج إذا دخل تحت السفينة». هذا وقد أورد الأستاذ الأجل شيخ الصُّوفيَّة وأحد أئمة أهل السنة الإمام أبو القاسم القشيري في "رسالته" جملةً من الكرامات سمعها من شيوخه
الأجلاء عن مشايخهم متصلة ،الإسناد، أحببت أن أنقل منها ما لم يتقدم ذكره لتتم فائدة الكتاب. قال في باب كرامات الأولياء" - بعد أن تكلم على جوازها وما يتعلق
بذلك، وأسند بعض الأحاديث مما سبق لنا إيراده بتوسع - ما نصه:
«وقد ظهر على السَّلف من الصَّحابة والتابعين، ثُمَّ على من بعدهم من الكرامات ما بلغ حدَّ الاستفاضة، وقد صُنف في ذلك كتب كثيرة سنشير إلى طَرَف منها على وجه الإيجاز، فمن ذلك: أنَّ ابن عمر كان في بعض الأسفار؛ فلقي جماعة وقفوا على الطَّريق من خوف السَّبع؛ فطرد السَّبع من طريقهم ثُمَّ قال: إنَّما يُسلَّط على ابن آدم ما يخافه، ولو أنَّه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء، وهذا خبر معروف".
وروى أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء قَصْعَةٌ، فسبحت حتى سمعا التسبيح، وذكر أخبارًا تقدَّمت، ثم قال : وحُكي عن سهل بن عبدالله أنَّه قال: مَن زَهِد في الدنيا أربعين يوما صادقًا من قلبه مخلصًا ظهرت له الكرامات، ومن لم تظهر له فلعدم الصدق في زهده فقيل لسهل: كيف تظهر له الكرامة؟ فقال : يأخذ ما يشاء كما يشاء من حيث يشاء.
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول : سمعت أبا نصر السراج يقول: دخلنا تستر فرأينا في قصر سهل بن عبدالله بيتا كان النَّاسِ يُسمونه بيت السباع، فسألنا الناس عن ذلك؟ فقالوا: كانت السباع تجيء إلى سهل، وكان يُدخلها هذا البيت، ويُضيّفها ويُطعمها اللحم ثُمَّ يخليها، قال أبو نصر: ورأيت أهل تُستَر كلهم متفقين على هذا لا ينكرونه وهو الجمع الكثير.
سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبدالله بن على الصوفي يقول : سمعت حمزة بن عبد الله العلوي يقول: دخلت على أبي الخير التيناتي، وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاما، فلما خرجت من عنده ومشيت قدرًا فإذا به خلفي وقد حمل طبقا عليه طعامًا،
فقال : يا فتى كُل هذا، فقد خرجت الساعة من اعتقادك. وأبو الخير التيناتي مشهورٌ بالكرامات حكى عن إبراهيم الرقي قال: قصدته مسلّما عليه فصلَّى المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستويا، فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي، فلما سلَّمتُ خرجت للطَّهارة فقصدني السبع فعدت إليه، وقلت: إنَّ الأسد قصدني، فخرج وصاح على الأسد، وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني؟ فتنحى وتطهرتُ فلما رجعت قال: اشتغلتم بتقويم
الظواهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد». نقل هذه الكرامة أيضًا الإمام النووي في "بستان العارفين" وقال: «قد يتوهم من يتشبه بالفقهاء ولا فقه عنده أنَّ صلاة أبي الخير هذا كانت فاسدةً لقوله : لم يقرأ الفاتحة مستويا، وهذه جهالة وغباوة ممن يتوهم ذلك، وجسارةٌ منه على إرسال الظنون في أولياء الرحمن، فليحذر العاقل من التعرض لشيء من ذلك؛ بل حقه إذا لم يفهم حكمهم المستفادة، ولطائفهم المستجادة أن يتفهمها ممن يعرفها، وكل شيء رأيته من هذا النوع مما يتوهم من لا تحقيق عنده أنَّه مُخالف، ليس بمخالف بل يجب تأويل أفعال أولياء الله تعالى، وجواب هذا من ثلاثة أوجه: أحدهما أنَّه جرى منه لحن لا يخل بالمعنى، ومثل هذا لا يُفسد أ الصَّلاة بالاتفاق، الثاني: أنَّه مغلوب على ذلك بخلل في لسانه، فتصح صلاته بالاتفاق، الثالث: أنه لو لم يكن له عذر ، فقراءة الفاتحة ليست بمتعينة عند أبي حنيفة وطائفة من العلماء، ولا يلزم هذا الولي أن يتقيد بمذهب من أوجبها».اهـ
وقيل: كان الجعفر الخلديّ فصّ فوقع يوما في دجلة، وكان عنده دعاء
مُجرَّب للضَّالة تُردُّ به، فدعا به فوجد الفصَّ في وسط أوراق كان يتصفحها. سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: إنَّ ذلك الدُّعاء: «يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع عليَّ ضالتي»، قال أبو نصر السَّراج: أراني أبو الطيب العكي جزءًا ذكر فيه: من ذكر هذا الدُّعاء على ضالة وجدها، وكان الجزء أوراقا كثيرة. سألت أحمد الطابرانيَّ السَّرْخَسيَّ رحمه الله تعالى فقلت: هل ظهر لك شيء من الكرامات؟ فقال: في وقت إرادتي وابتداء أمري ربَّما كنت أطلب حجرًا أستنجي به، فلم أجد فتناولت شيئًا من الهواء، فكان جوهرًا فاستنجيت به وطرحته، ثُمَّ قال: وأي خَطَر للكرامات؟ إنَّما المقصود زيادة اليقين في التوحيد، فمن لا يشهد
غيره موجودًا في الكون فسواء أبصر فعلًا معتادًا أو ناقضا للعادة.
سمعت
محمد بن أحمد الصوفي يقول: سمعت عبدالله بن علي يقول:
سمعت أبا الحسين البصري :يقول : كان بعبادان رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات فحملت معي شيئًا وطلبته، فلما وقعت عينه علي تبسم، وأشار بيده إلى الأرض فرأيت الأرض كلها ذهبًا تلمع ، ثُمَّ قال: هات ما معك؟ فناولته وهالني أمره وهربت.
سمعت منصورًا المغربي يقول: سمعت أحمد بن عطاء الروذباري يقول: كان لي استقصاء في أمر الطَّهارة فضاق صدري ليلة من كثرة ما صببت من
الماء، ولم يسكن قلبي، فقلت: يا رب عفوك، فسمعت هاتفا يقول: العفو في العلم، فزال عني ذلك. سمعت منصورًا المغربي يقول : فرأيته يومًا قعد على الأرض في الصحراء،
وكان عليها آثار الغنم بلا سَجَّادة، فقلت: أيُّها الشيخ هذه آثار الغنم، فقال: اختلف الفقهاء فيه.
سمعت أبا حاتم السَّجستاني يقول : سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا سليمان الخواص يقول: كنت راكبًا حمارًا يوما، وكان الذباب يؤذيه فيطأطأ رأسه، فكنت أضرب رأسه بخشبة في يدي، فرفع الحمار رأسه وقال: اضرب فإنَّك على رأسك هكذا تُضرب، قال الحسين : فقلت لأبي سليمان لك وقع هذا؟ فقال: نعم كما تسمعني. وذكر ابن عطاء أنَّه قال: سمعت أبا الحسن النوري يقول: كان في نفسي من هذه الكرامات شيء، فأخذتُ قصبة من الصبيان وقمتُ بين زورقين، ثُمَّ قلت: وعِزَّتك لئن لم يُخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي، قال:
فخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال، فبلغ ذلك الجنيد فقال: كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه.
سمعت الشيخ أبا عبدالرحمن السلمي يقول: سمعت أبا الفتح يوسف بن عمر الزاهد القوّاس ببغداد: ثنا عبد الكبير بن أحمد: سمعت أبا بكر الصائغ: سمعت أبا جعفر الحداد - أستاذ الجنيد - يقول: كنت بمكة فطال شعري ولم
يكن معي !
قطعة
من حديد آخذ بها شعري، فتقدمت إلى مزين توسمتُ فيه الخير وقلت: تأخذ شعري الله تعالى ؟ فقال : نعم وكرامة، وكان بين يديه رجل من أبناء الدنيا، فصرفه وأجلسني وحلق شعري، ثُمَّ دفع إلى قرطاسًا فيه دراهم، وقال: استعن بها على قضاء حوائجك، فأخذتها واعتقدت أن أدفع إليه أول شيء يفتح علي به قال: فدخلت المسجد فاستقبلني بعض إخواني، وقال
لي: جاء بعض إخوانك بصُرَّة من البصرة من بعض إخوانك، فيها ثلاثمائة دينار قال: فأخذت الصُرَّة وحملتها إلى المزين وقلت: هذه ثلاثمائة دينار تصرفها في بعض أمورك، فقال لي: ألا تستحي يا شيخ؟ تقول لي: احلق شعري
الله ثُمَّ أخذ عليه شيئًا، انصرف عافاك الله .
وحكي عن !
النوري: أنَّه خرج ليلة إلى شط دجلة، فوجدها قد التزق
الشطان فانصرف وقال : وعِزَّتك لا أجوزها إِلَّا فِي زَوْرَقٍ.
وقيل لأبي يزيد البِسْطَامي: فلان يمشي في ليلة إلى مكة، فقال: الشيطان يمشي في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله، وقيل له: فلان يمشي على
الماء ويطير في الهواء، فقال: الطّير يطير في الهواء، والسمك يمر على الماء. وقال سهل بن عبد الله: أكبر الكرامات أن تُبدِّل خُلقًا مذموما من أخلاقك. سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي يقول: سمعت عبدالله الصوفي يقول: سمعت ابن سالم يقول: سمعت أبي يقول: كان رجل يقال له عبد الرحمن بن أحمد يصحب سهل بن عبد الله فقال له يوما ربَّما أتوضأ للصلاة فيسيل الماء بين يدي قضبان ذهب وفضة فقال سهل: أما علمت أنَّ الصبيان إذا بكوا أُعطوا خَشْخَاشَةً ليشتغلوا بها.
سمعت أبا حاتم السَّجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: أخبرني جعفر بن محمد، حدثني الجنيد قال: دخلت على السري يوما فقال لي: عصفور كان يجيء في كل يوم فأفت له الخبز فيأكل من يدي، فنزل وقتا من الأوقات فلم يسقط على يدي، فتذكرت في نفسي إيش السبب؟ فذكرت أني أكلت ملحا بإبزار،
فقلت في نفسي: لا آكل بعدها وأنا تائب منه، فسقط على يدي وأكل.
وحكى أبو عمرو الأنماطي قال: كنت مع أستاذي في البادية، فأخذنا المطر؛ فدخلنا مسجدا نستكن فيه، وكان السقف يفك، فصعدنا السطح ومعنا خشبة نريد إصلاح السقف فقصر الخشب عن الجدار، فقال أستاذي: مُدَّه، فمددتها فركبت الحائط من هاهنا، ومن هاهنا .
سمعت محمد بن أحمد النجار يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت أبا بكر الدقاق يقول: كنت مارا في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أنَّ علم الحقيقة مُباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كلُّ حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر. وقال بعضهم: كنت عند خير النساج فجاءه رجل، وقال: أيها الشيخ رأيتك أمس وقد بعت الغزل ،بدر همين فجئت خلفك فحللتهما من طرف إزارك، وقد صارت يدي منقبضة على كتفي، قال: فضحك خير، وأومأ بيده إلى يد الرجل ففتحها، ثُمَّ قال: امض واشترِ لعيالك بهما شيئًا ولا تعد لمثله.
وحكي عن أحمد بن محمد السلمي قال: دخلت على ذي النون المصري يوما، فرأيت بين يديه طستا من ذهب، وحوله الندّ والعنبر يَسجُر، فقال لي: أنت ممن
يدخل على الملوك في حال بسطهم ! ثُمَّ أعطاني درهما فأنفقت منه ! ـقت منه إلى بَلْخِ!. وحكي عن أبي سعيد الخراز قال: كنت في بعض أسفاري، وكان يظهر لي كل لاثة أيام شيءٌ فكنت آكله وأستقل به، فمضى ثلاثة أيام وقتا من الأوقات ولم يظهر شيء، فضعفت وجلست فهتف بي هاتف : أيما أحب إليك سبب أو قوة؟
فقلت: القوة، فقمت من وقتي ومشيت إثني عشر يوما لم أذق شيئًا ولم أضعف. وعن المرتعش قال : سمعت الخواص يقول: تُهتُ في البادية أياما فجاءني شخص وسلَّم علي، وقال لي: تُهتَ؟ فقلت: نعم، فقال: ألا أدلك على الطريق
ومشى بين يدي خطواتٍ ثُمَّ غاب عن عيني، وإذا أنا على الجادة فبعد ذلك ما تهت، ولا أصابني في سفر جوع ولا عطش.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول : سمعت عمر بن يحيى الأردبيلي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت ابن الجلاء يقول : لما مات أبي ضحك على المغتسل،
فلم يجسر أحدٌ يُغسله، وقالوا: إنَّه حيٌّ، حتى جاء واحد من أقرانه وغسله. سمعت محمد بن ، أحمد التميمي يقول: سمعت طلحة القصائري يقول: سمعت المفتاحي صاحب سهل بن عبد الله يقول: كان سهل يصبر عن الطعام سبعين يوما، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي. ثنا محمد بن عبدالله الصوفي: ثنا أبو الحسن غلام شَعوانة: سمعت عليَّ بن سالم يقول: كان سهل بن عبد الله أصابته زَمَانةٌ في آخر عمره، فكان إذا حضر
وقت الصلاة انتشرت يداه ورجلاه، فإذا أدى الفرض عاد إلى حال الزَّمانة. وقال بعضهم: كنت بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم في مسجده مع جماعة نتجارى الآيات، ورجلٌ ضَرير بالقرب منا يسمع، فتقدم إلينا وقال: أنسْتُ بكلامكم، اعلموا أنه كان لي صبية وعيال، وكنت أخرج إلى البقيع أحتطب، فخرجت يوما فرأيت شابا عليه قميص كتان ونعله في أصبعه، فتوهمت أنَّه تائه فقصدته لسلب ثوبه، فقلت له: انزع ما عليك؟ فقال: سر في حفظ الله، فقلت: الثانية والثالثة، فقال: لابد فقلت: لابد، فأشار بأصبعيه من فسقطتا، فقلت بالله عليك من أنت؟ فقال: إبراهيم الخواص.
بعيد إلى عيني وحكي عن إبراهيم الخواص قال: دخلت البادية مرةً، فرأيت نصرانيا على وسطه زُنَارًا، فسألني الصحبة فمشينا سبعة أيام، فقال لي: يا راهب
مع
الحنيفية هات ما عندك من الانبساط فقد جُعنا؟ فقلت: إلهي لا تفضحني هذا الكافر، فرأيت طبقا عليه خبزًا وشواءً ورطبًا وكوز ماء، فأكلنا وشربنا ومشينا سبعة أيام، ثُمَّ بادرت وقلت يا راهب النصارى هات ما عندك فقد انتهت النوبة إليك؟ فاتكأ على عصاه ودعا، فإذا بطبقين عليهما أضعاف ما كان على طبقي ، قال : فتحيّرت وتغيّرت وأبيت أن آكل فألح عليَّ فلم أجبه، فقال: كُل فإنّي أُبشرك ببشارتين: أحدهما أنّي أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وحلَّ الزُّنّار، والأخرى أني قلت: اللهم إن كان لهذا العبد خطر عندك فافتح علي بهذا، ففتح، قال: فأكلنا ومشينا وحج وأقمنا بمكة سنةً، ثُمَّ إِنَّه مات ودفن بالبطحاء.
سمعت محمد بن عبدالله الصوفي يقول: سمعت محمد بن الفرحان يقول: سمعت الجنيد يقول : سمعت أبا جعفر الخصاف يقول: حدثني جابر الرحبي قال: أكثر أهل الرحبة على الإنكار في باب الكرامات، فركبت السبع يوما ودخلت الرحبة، وقلت: أين الذين يُكذِّبون أولياء الله؟ قال: فكفوا بعد ذلك عنّي. وقيل: كان لإبراهيم بن أدهم صاحب - يُقال له: يحيى - يتعبد في غرفة ليس إليها سُلَّم ولا درج، فكان إذا أراد أن يتطهر يجيء إلى باب الغرفة، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويمر في الهواء كأَنَّه طير، ثُمَّ يتطهر، فإذا فرغ يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويعود إلى غرفته. أخبرنا محمد بن عبد الله الصوفي: سمعت عمر بن محمد بن أحمد الشيرازي بالبصرة - قال: سمعت أبا محمد جعفر الحَذَاء بشيراز قال: كنت أتأدب بأبي عمر الإِصْطَخْرِي، فكان إذا خطر لي خاطر أخرج إلى إِصْطَخَرَ، فربما أجابني عما
أحتاج إليه من غير أن أسأله، وربَّما سألت فأجابني، ثُمَّ شُغلت عن الذهاب، فكان
إذا خطر على سري مسألة أجابني من إِصْطَخْرَ فيخاطبني بما يَرِدُ عليَّ. وحكى بعضهم قال: مات فقير في بيت مُظلم، فلما أردنا غُسله تكلفنا طلب سراج، فوقع من كُوَّةٍ ضوء فأضاء البيت فغسلناه، فلما فرغنا ذهب
الضوء كأن لم يكن.
وحكي عن إبراهيم الآجري قال: جاءني يهودي يتقاضى دينا كان له عليَّ، وأنا قاعد عند الأتون أوقد تحت الآجُرّ ، فقال لي اليهودي: يا إبراهيم، أرني آية أسلم عليها، فقلت له: تفعل ؟ قال: نعم، فقلت: انزع ثوبك، فنزع فلففته، ولففت على ثوبه ثوبي وطرحته في النَّار، ثُمَّ دخلت الأتون وأخرجتُ الثّوب من وسط النار، وخرجت من الباب الآخر؛ فإذا ثيابي بحالها لم يصبها شيء، وثيابه في وسطها صارت حراقة، فأسلم اليهودي.
سمعت محمد بن عبدالله الصوفي يقول : سمعت أحمد بن محمد بن عبدالله الفرغاني يقول: تزوّج عباس بن المهتدي امرأةً، فلما كانت ليلة الدخول وقع عليه ندامة، فلما أراد الدُّنو منها زُجر عنها، فامتنع من وطئها وخرج، فبعد
ثلاثة أيام ظهر لها زوج.
قال الأستاذ : هذا هو الكرامة على الحقيقية حيث حفظ عليه العلم. وقال عبدالواحد بن زيد لأبي عاصم البصري: كيف صنعت حين طلبك الحجاج؟ قال: كنت في غرفتي فدقوا عليَّ الباب، فدخلوا فدفعت بي دفعةً، فإذا أنا على أبي قبيس بمكة، فقال له عبد الواحد: من أين كنت تأكل؟ قال: كانت تصعد إلى عجوز كل وقت عند إفطاري بالرغيفين اللذين كنت آكلها
بالبصرة، فقال عبد الواحد تلك الدنيا أمرها الله أن تخدم أبا عاصم. وقيل: كان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه، ولا يستقبله أحدٌ إلا أعطاه شيئًا، وكان إذا أتى منزله رمى إليه بالدراهم، فتكون بمقدار ما أخذ لم تنقص. سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول : سمعت أبا أحمد الكبير يقول: سمعت
أبا عبدالله بن خَفِيف يقول: سمعت أبا عمر الزَّجَاجِيَّ يقول: دخلت على الجنيد وكنت أريد أن أخرج إلى الحجّ، فأعطاني درهما صحيحًا، فشددته على مئزري، فلم أدخل منزلاً إلا وجدت رفقاء، ولم أحتج إلى الدرهم، فلما حججت ورجعت إلى بغداد دخلت على الجنيد فمد يده، وقال: هات فناولته
الدرهم فقال: كيف كان؟ فقلت: كان الحتم -أي: الأمر - نافذا. وحكي عن أبي جعفر الأعور قال: كنت عند ذي النون المصري فتذاكرنا حديث طاعة الأشياء للأولياء، فقال ذو النون من الطاعة أن أقول لهذا السرير يدور في أربع زوايا البيت ثُمَّ يرجع إلى مكانه فيفعل، قال: فدار السرير في أربع زوايا البيت وعاد إلى مكانه، وكان هناك شاب فأخذ يبكي حتى مات في الوقت. وقال أبو بكر بن عبدالرحمن: كنا مع ذي النون المصري في البادية، فنزلنا تحت شجرة أُمّ غَيلان، فقلنا: ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رُطَبٌ ! فتبسم ذو النون وقال: أتشتهون الرُّطب؟ وحرَّك الشَّجرة وقال: أقسمت عليك بالذي ابتدأك وخلقك شجرةً إِلَّا نثرت علينا رُطبًا جَنيَّا، ثُمَّ حرَّكها فنشرت رطبًا جَنيَّا، فأكلنا وشبعنا، ثُمَّ نمنا وانتبهنا فحركنا الشَّجرة فنثرت علينا شوكًا. وحكي عن أبي القاسم بن مروان النهاوندي قال: كنت أنا وأبو بكر الوراق مع أبي سعيد الخراز نمشي على ساحل البحر نحو صيدا، فرأى شخصا
من بعيد، فقال: اجلسوا لا يخلو هذا الشخص أن يكون وليا من أولياء الله قال: فما لبثنا أن جاء شاب حسن الوجه، وبيده رَكوةٌ ومعه تحبرةٌ وعليه مُرَقَّعَةٌ، فالتفت أبو سعيد إليه منكرًا عليه، لحمله المحبرة مع الركوة، فقال له: يا فتى كيف الطرق إلى الله تعالى ؟ فقال : أبا سعيد أعرف طريقين: طريقا خاصا، وطريقا عاما، فأما الطريق العام فالذي أنت عليه، وأما الطريق الخاص فهلم، ثُمَّ مشى على الماء حتى غاب عن أعيننا، فبقي أبو سعيد حيران مما رأى. وقال الجنيد: جئت مسجد الشُّونيزيَّة، فرأيت فيه جماعة . يتكلمون في الآيات، فقال فقير منهم أعرف رجلًا لو قال لهذه الأسطوانة كوني ذهباً نصفك ونصفك فضةٌ كانت قال الجنيد: فنظرت فإذا الأسطوانة نصفها ذهب ونصفها فضةٌ.
من الفقراء
وقيل: حج سفيان الثوري مع شيبان الرَّاعي، فعرض لهما سبع، فقال سفيان لشيبان: أما ترى هذا السَّبع ؟ فقال : لا تخف، فأخذ شيبان أذنه فعركها، فبصبص وحرّك ذنبه، فقال سفيان: ما هذه الشُّهرة؟ فقال: لولا مخافة الشُّهرة،
لوضعت زادي على ظهره حتى آتي مكة.
وحكي عن أبي عليّ الرّازي قال مررتُ يوما على الفرات، فعرضت لنفسي شهوة السمك الطري، فإذا الماء قد قذف سمكة نحوي وإذا رجل يعدو ويقول: أشويها لك؟ فقلت: نعم، فشواها فقعدت وأكلتها.
وقال حامد الأسود: كنت مع الخواص في البريَّة، فبتنا عند شجرة، وجاء السَّبع فصعدت الشَّجرة إلى الصَّباح لا يأخذني النوم، ونام إبراهيم الخواص والسَّبع يشم من رأسه إلى قدمه ، ثُمَّ مضى، فلما كانت الليلة الثانية بتنا في مسجد
في قرية، فوقعت بقَةٌ على وجهه فضربته، فأنَّ أَنَّةً، فقلت: هذا عجب! البارحة
لم تجزع من الأسد، والليلة تصيح من البقّ ؟ فقال : أما البارحة فتلك حالة كنت فيها بالله عزّ وجلَّ، وأما الليلة فهذه حالة أنا فيها بنفسي.
وحكي عن . ليشتري الدقيق لهم، فخرج من بيته فلقي جارية تبكي، فقال لها: ما لك؟ فقالت: دفع إلى مولاي در همين أشتري لهم شيئًا وسقطا مِنِّي، فأخاف أن يضربني، فدفع عطاء الدرهمين إليها، ومرَّ وقعد على حانوت صديق له ممن يشقُ السَّاج، وذكر له الحال وما يخاف من سوء خُلق امرأته، فقال له صاحبه: خذ من هذه النشارة في هذا الجراب؛ لعلكم تنتفعون بها في سجر التنور، إذ ليس يساعدني الإمكان في شيء آخر ، فحمل النشارة وفتح باب داره ورمى بالجراب ورد الباب ودخل المسجد إلى ما بعد العتمة؛ ليكون النوم أخذهم ولا تسطيل عليه المرأة، فلما فتح الباب وجدهم يخبزون الخبز، فقال: من أين لكم هذا الخبز ؟ فقالوا: من الدقيق الذي كان في الجراب، لا تشتر غير هذا الدقيق، قال: أفعل إن شاء الله تعالى.
عطاء الأزرق أنه دفعت إليه امرأته در همين من ثمن غزلها
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السُّلَميَّ يقول: سمعت منصور بن عبدالله يقول: سمعت أبا جعفر بن بركات يقول: كنت أجالس الفقراء ففتح على بدينار، فأردت أن أدفعه إليهم، ثُمَّ قلت في نفسي: لعلّي أحتاج إليه، فهاج بي الفرس، فقلعت سَنَّا، فوجعت الأخرى حتى قلعتها، فهتف بي هاتف: وجع إن لم تدفع إليهم بدينار فلا يبقى في فمك سِن واحدةٌ.
قال الأستاذ: وهذا في باب الكرامة أتمُّ من أن كان يفتح عليه دنانير كثيرة
بنقض العادة.
وحكى أبو سليمان الداراني قال: خرج عامر بن عبد قيس إلى الشّام، ومعه رَكُوةٌ إذا شاء صبّ منها ماءٌ يتوضأ للصَّلاة، وإذا شاء صب منها لبنا يشربه. ثنا محمد بن عبدالله الصوفي : ثنا عبد العزيز بن الفضل: ثنا محمد بن أحمد المروزي: ثنا عبد الله بن سليمان قال: قال أبو حمزة نصر بن الفرج - خادم أبي معاوية الأسود : كان أبو معاوية ذهب بصره، فإذا أراد أن يقرأ نشر المصحف فيرد الله عليه بصره، فإذا أطبق المصحف ذهب بصره.
وقال أحمد بن الهيثم المتطبب: قال لي بشر الحافي قُل لمعروف الكرخي: إذا صليت جئتك، قال: فأديت الرسالة وانتظرته، فصلينا الظهر ولم يجيء، ثُمَّ صلينا العصر، ثُمَّ المغرب، ثُمَّ العِشاء، فقلت في نفسي: سبحان الله ! مثل بشر يقول شيئًا ثُمَّ لا يفعل! لا يجوز أ الا يفعل، وانتظرته وأنا فوق مسجد على مشرعة، فجاء بشر بعد هوى من الليل وعلى رأسه سَجادة، فتقدم إلى دجلة ومشى على الماء، فرميت بنفسي من السطح وقبلت يديه ورجليه، وقلت: ادع الله لي، فدعا لي وقال : استره عليَّ، فلم أتكلم بهذا حتى مات. أخبرنا أبو عبدالله الشيرازي: ثنا أبو الفرج الورثاني: سمعت علي بن يعقوب بدمشق - قال: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول: سمعت قاسما الجوعي يقول: رأيت رجلا في الطواف لا يزيد على قوله: قضيت حوائج الكل ولم تقض حاجتي؟ فقلت: ما لك لا تزيد على هذا الدعاء؟ فقال: أُحدثك: اعلم أنا كنا سبعة أنفس من بلدان شتّى، فخرجنا إلى الجهاد فأسرنا الروم، ومضوا بنا لنقتل، فرأيت سبعة أبواب فتحت من السماء، وعلى كل باب جاريةٌ
حسناء من الحور العين، فَقُدم واحد منا فضُربت عنقه، فرأيت جارية منهن هبطت إلى الأرض بيدها منديل، فقبضت روحه حتى ضُربت أعناق ستة منا، فاستوهبني بعض رجالهم، فقالت الجارية: أي شيء فاتك يا محروم؟ وغُلّقت الأبواب، فأنا يا أخي متأسف متحسر على ما فاتني.
قال قاسم الجوعيُّ : أراه أفضلهم؛ لأنَّه رأى ما لم يروا، وعمل على الشوق بعدهم.
وسمعته يقول: سمعت أبا النجم أحمد بن الحسين -بخوزستان- يقول: سمعت أبا بكر الكناني يقول: كنت في طريق مكة في وسط السنة، فإذا أنا بهمیان ملآن يلتمع دنانير، فهممت أن أحمله؛ لأفرقه بمكة على الفقراء، فهتف بي هاتف: إن أخذته سلبناك فقرك. ثنا محمد بن محمد بن عبد الله الصوفي: ثنا أحمد بن يوسف الخياط قال: سمعت أبا علي الروذباري يقول: سمعت أبا العباس الشرقي يقول: كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية، فقال بعض أصحابه : أنا عطشان، فضرب برجله الأرض؛ فإذا عين ماءٍ زُلال، فقال الفتى: أحب أن أشربه في قدح، فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض، كأحسن ما رأيت وسقانا ومازال القدح معنا إلى مكة، فقال لي أبو تراب يوما ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده؟ فقلت: ما رأيت أحدًا إلا وهو يؤمن بها، فقال: من لم يؤمن بها فقد كفر، إنما سألتك عن طريق الأحوال، فقلت: ما أعرف لهم قولا فيه، قال: بلى قد زعم أصحابك أنها خدع من الحقِّ، وليس الأمر كذلك، إنَّها الخدع في حال السكون إليها، فأمَّا
من لم يقترح ذلك، ولم يُساكنها، فتلك مرتبة الربانيين. حدثنا محمد بن عبلة الصوفي : ثنا أبو الفرج الورثاني قال: سمعت محمد بن الحسين الخلدي بطرسوس قال: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: كنَّا في غرفة سري السقطي ببغداد، فلما ذهب من الليل شيء لبس قميصا نظيفا وسراويل ورداء ونعلا، وقام ليخرج فقلت: إلى أين في هذا الوقت؟ فقال: أعود فتحا الموصلي، فلما مشى في طرقات بغداد أخذه العَسَسُ وحبسوه، فلما كان من الغد أمر بضربه مع المحبوسين، فلما رفع الجلاد يده ليضربه وقفت يداه فلم يقدر أن يحركها، فقيل للجلاد اضرب، فقال: بحذائي شيخ يقول: لا تضربه، فتقف يداه
لا تتحرك، فنظروا من الرجل، فإذا هو فتح الموصلي فلم يضربوه. أخبرنا الشيخ أبو عبدالرحمن السُلَميُّ: حدثنا أبو الحارث الخطابي : ثنا محمد بن الفضل: ثنا علي بن مسلم : ثنا سعيد بن يحيى البصري قال: كان أناس من قريش يجلسون إلى عبدالواحد بن زيد فأتوه يوما وقالوا: إنَّا نخاف من الضيقة والحاجة، فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أسالك باسمك المرتفع، الذي تكرم به من شئت من أوليائك، وتلهمه الصفي من أحبابك، أن تأتينا برزق من لدنك تقطع به علائق الشيطان من قلوبنا وقلوب أصحابنا هؤلاء، فأنت الحنان المنَّان القديم الإحسان، اللهم الساعة الساعة. قال: فسمعت والله قعقعة للسَّقف، ثُمَّ تناثرت علينا دنانير ودراهم، فقال
عبدالواحد بن زید استغنوا بالله عزّ وجلَّ عن غيره، فأخذوا ذلك، ولم يأخذ عبد الواحد شيئًا. وسمعت أبا عبد الله الشَّيرازي يقول: سمعت عبدالواحد بن بكر الورثاني
يقول: سمعت محمد بن علي بن الحسين المقري -بطرسوس- يقول: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول : اشتهت والدتي على والدي يوما من الأيام السمك، فمضى والدي إلى السوق وأنا معه، فاشترى سمكًا ووقف ينتظر من يحمله، فرأى صبيا وقف بحذائه مع صبي فقال : يا عم تريد من يحمله؟ فقال: نعم، فحمله ومشى معنا فسمعنا الأذان، فقال الصَّبيُّ: أَذَن المؤذن وأحتاج أن أتطهر وأُصلي فإن رضيت وإلا فاحمل السمك، ووضع الصَّبيُّ السَّمك ومر، فقال أبي: فنحن أولى أن نتوكَّل في السَّمك، فدخلنا المسجد فصلينا، وجاء الصَّبيُّ وصلَّى، فلما خرجنا فإذا بالسمك موضوع مكانه، فحمله الصبي، ومضى معنا إلى دارنا، فذكر والدي ذلك لوالدتي، فقالت له : قل له حتى يقيم عندنا ويأكل معنا، فقلنا له، فقال: إني صائم، فقلنا : تعود بالعشي؟ فقال: إذا حملت مرّةً في اليوم لا أحمل ثانيًا، ولكني سأدخل المسجد إلى المساء، ثُمَّ أدخل عليكم، فمضى، فلما أمسينا، دخل الصَّبيُّ وأكلنا، فلما فرغنا دللناه على موضع الطَّهارة، ورأينا فيه أنه يؤثر الخلوة، فتركناه في بيت، فلما كان بعض الليل كان لقريب لنا بنت زَمِنَةٌ فجاءت تمشي، فسألناها عن حالها، فقالت: قلت: يا رب أسألك بحرمة ضيفنا أن تعافيني، فقمت قال: فمضينا لنطلب الصَّبيَّ فإذا الأبواب مغلقة كما كانت ولم نجد الصَّبيَّ، فقال أبي : فمنهم -أي: الأولياء- صغير، ومنهم كبير.
سمعت محمد بن الحسين يقول: ثنا أبو الحارث الخطابي: ثنا محمد بن الفضل: ثنا علي بن مسلم: ثنا سعيد بن يحيى البصري قال: أتيت عبدالواحد بن زيد وهو جالس في ظل فقلت له: لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق،
لرجوت أن يفعل، فقال: ربي أعلم بمصالح عباده، ثُمَّ أخذ حصى من الأرض،
ثُمَّ قال: اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبًا فعلت، فإذا هي والله في يده ذهب فألقاها إليَّ، وقال: أنفقها أنت، فلا خير في الدُّنيا إلا للآخرة.
سمعت أبا عبدالرحمن السُّلَميَّ يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت أبا علي بن يوسف المؤدب يقول: تكلَّم سهل بن عبدالله يوما في الذكر فقال: إنَّ الذاكر الله على الحقيقة لو هَمَّ أن يُحيى الموتى لفعل، ومسح يده
على عليل بين يديه فبرئ وقام. وسمعت أبا عبدالله الشيرازي يقول: سمعت أبا عبدالله بن مفلج يقول: سمعت المغازلي يقول: سمعت الجنيد يقول: كانت معي أربعة دراهم، فدخلت على السري، وقلت هذه أربعة دراهم حملتها إليك، فقال: أبشر يا غلام بأنك تُفلح، كنت أحتاج إلى أربعة دراهم، فقلت: اللهم ابعثها على يد من يُفلح عندك.
وسمعته يقول: حدَّثني إبراهيم بن أحمد الطبري: ثنا أحمد بن يوسف: ثنا أحمد بن إبراهيم بن يحيى : حدثني أبي حدثني أبو إبراهيم اليماني قال: خرجنا نسير مع إبراهيم بن أدهم على ساحل البحر، فانتهينا إلى غَيْضَةٍ فيها حطب يابس كثير، وبالقرب منها حصنٌ، فقلنا لإبراهيم بن أدهم: لو أقمنا الليلة هاهنا وأوقدنا من هذا الحطب، فقال: افعلوا، فطلبنا النار من الحصن فأوقدنا، وكان معنا الخبز فأخرجنا نأكل، فقال واحد منا : ما أحسن هذا الجمر لو كان لنا لحم نشويه عليه ! فقال إبراهيم بن أدهم: إنَّ الله تعالى لقادر على أن يطعمكموه، قال: فبينا نحن كذلك إذا بأسد يطرد أيلا - ذكر الوعل - فلما
قرب منا وقع فاندقت عنقه، فقام إبراهيم بن أدهم وقال: اذبحوه فقد
أطعمكم الله، فذبحناه وشوينا من لحمه، والأسد واقف ينظر إلينا. سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا القاسم عبدالله بن علي
الشَّجَري يقول: كنت مع إبراهيم الخواص في البادية سبعة أيام على حالة واحدة، فلما كان اليوم السابع ضَعُفتُ فجلستُ، فالتفت إليَّ وقال : ما لَكَ؟ فقلت: ضَعُفت، فقال: أيهما أغلب عليك، الماء أو الطعام؟ فقلت: الماء، فقال: الماء وراءك، فالتفتُ فإذا عين ماء كاللبن الحليب، فشربت وتطهرت، وإبراهيم ينظر ولم يقربه، فلما أردت القيام هممت أن أحمل منه فقال: أمسك؛ فإنَّه ليس مما يتزود منه. سمعت أبا عبدالله يقول : سمعت أبا عبدالله بن عبدالله يقول: سمعت أبا عبدالله الدباس البغدادي يقول: سمعت فاطمة - أخت أبي علي الروذباري تقول: سمعت زيتونة - خادمة أبي الحسين النُّوري، وكانت تخدمه، وخدمت أبا حمزة والجنيد - قالت: كان يوم بارد فقلت للنُّوري: أحمل شيئًا إليك؟ قال: نعم، فقلت: إيش تريد؟ قال: خبز ولبن، فحملت وكان بين يديه فحم، وكان يقلبها بيديه وقد اشتعلت فأخذ يأكل الخبز واللبن يسيل على يده، وعليها سواد الفحم، فقلت في نفسي ما أقذر أولياءك يا رب! ما فيهم أحد نظيف! قالت: فخرجت من عنده ، فتعلقت بي امرأة، فقالت: سرقت لي رزمة ثياب، وجروني إلى الشرطي، فأخبر النُّوري بذلك، فخرج وقال للشرطي: لا تتعرضوا لها؛ فإنَّها وليَّةٌ من أولياء الله تعالى، فقال الشرطي: كيف أصنع والمرأة تدعي؟ قال: فجاءت جاريةٌ، ومعها الرزمة المطلوبة، فاستردَّ النُّوري المرأة
وقال لها : لا تقولي بعدها، ما أقذر أولياءك، قالت: فقلت: ثبتُ إلى الله تعالى. سمعت محمد بن عبدالله الشَّيرازي يقول: سمعت محمد بن فارس الفارسي يقول: سمعت أبا الحسن خيرًا النَّسَّاج يقول: سمعت الخواص يقول: عطشت في بعض أسفاري وسقطت من العطش، فإذا أنا بماء رُشَّ على وجهي، ففتحت عيني، فإذا برجل حسن الوجه راكب دابَّة شَهْبَاء، فسقاني الماء، وقال: كن رديفي، وكنت بالحجاز، فما لبثت إلا يسيرًا، فقال لي: ما ترى؟ فقلت: أرى المدينة، فقال: انزل وأقرأ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم منِّي السَّلام، وقل أخوك الخضر يُقرؤك السَّلام.
سمعت الشيخ أبا عبدالرحمن السُّلَميَّ يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: قال أبو الحديد: سمعت المظفّر الجصاص يقول: كنت أنا ونصر الخراط ليلة في موضع فتذاكرنا شيئًا من العلم، فقال الخراط: إنَّ الذاكر لله تعالى فائدته في أول ذكره أن يعلم أنَّ الله تعالى ذكره، فبذكر الله ذكره، قال: فخالفته، فقال: لو كان الخضر عليه السَّلام هاهنا لشهد بصحته، قال: فإذا نحن بشيخ يجيء بين السَّماء والأرض، حتى بلغ إلينا وسلَّم، وقال: صَدَق، الذاكر الله تعالى بفضل ذكر الله تعالى له ذكره، فعلمنا أنَّه الخضر عليه السلام. سمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول: جاء رجل إلى سهل بن عبدالله، وقال: إنَّ النَّاس يقولون إنَّك تمشي على الماء فقال: سَل مؤذن المحلة؛ فإنَّه رجل صالح لا يكذب، قال: فسألته، فقال المؤذن: لا أدري هذا، ولكنه كان في بعض هذه الأيام نزل الحوض ليتطهر فوقع في الماء، فلو لم أكن أنا لبقي فيه. قال الأستاذ أبو علي الدقاق: إنَّ سهلا كان بتلك الحالة التي وصف، ولكنَّ الله
تعالى يريد أن يستر أولياءه، فأجرى ما وقع من حديث المؤذن والحوض سترا لحال سهل، وسهل كان صاحب الكرامات.
وقريب من هذا المعنى ما حُكي عن أبي عثمان المغربي قال: رأيته بخط أبي الحسين الجرجاني قال: أردت مرَّةً أن أمضي إلى مصر، فخطر لي أن أركب السفينة، ثُمَّ خطر ببالي أني أعرف هناك، فخفت الشُّهرة، فمر مركب، فبدا لي، فمشيت على الماء، ولحقت بالمركب ودخلت السفينة، والناس ينظرون، ولم يقل أحد إنَّ هذا ناقض للعادة أو غير ناقض، فعرفت أنَّ الولي مستور وإن كان مشهورًا. ومما شاهدنا من أحوال الأستاذ أبي على الدقاق رضي ! الله عنه معاينة: أنَّه كان به عِلَّة حرقة البول، وكان يقوم في ساعةٍ غير مرة حتى كان يُجدد الوضوء غير مرَّةٍ لركعتي فرض، وكان يحمل معه قارورة في طريق المجلس، وربَّما كان يحتاج إليها في الطَّريق مرَّات ذاهبًا ،وجائيًا، وكان إذا قعد على رأس الكرسي يتكلم لا يحتاج إلى طهارة، ولو امتدَّ به المجلس زمنا طويلا، وكنا نعاين ذلك من سنين، ولم يقع لنا في حياته أنَّ هذا شيءٌ ناقض لعادته، وإنَّما وقع لي هذا، وفتح عليَّ علمه بعد وفاته.
وفي قريب من هذا ما يُحكى عن سهل بن عبدالله : أَنَّه كان قد أصابته زَمَانةٌ
في آخر عمره، وكانت تُردُّ عليه القوة في أوقات الفرض فيُصلِّي قائما. ومن المشهور : أنَّ عبد الله الوزَّان كان مقعدًا، وكان في السَّماع إذا ظهر به وجد يقوم ويستمع.
وسمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول: ثنا إبراهيم بن محمد المالكي: ثنا يوسف بن أحمد البغدادي: ثنا أحمد بن أبي الحواري قال : حَجَجْتُ أنا وأبو
سليمان الداراني، فبينا نحن نسير إذ سقطت السَّطيحة مني، فقلت لأبي سليمان: فقدت السطيحة وبقينا بلا ماء، وكان برد شديد، فقال أبو سليمان: يا راد
الضالة ويا هاديًا من الضَّلالة أُردُدُ علينا الضَّالة، فإذا واحد ينادي: من ذهبت
له سَطيحة؟ قال: فقلت: أنا، فأخذتها، فبينا نحن نسير، وقد تدرعنا بالفراء؛ لشدة البرد، فإذا نحن بإنسان عليه طمران، وهو يترشّح عرفا، فقال أبو سليمان: تعالى ندفع إليه شيئًا مما علينا من النياب، فقال: يا أبا سليمان، أتشير بالزهد وأنت تجد البرد؟ أنا أسيح في هذه البريَّة منذ ثلاثين سنةً ما انتفضت ولا ارتعدت، يُلبسني الله في البرد فيحا من محبته، ويلبسني في الصيف برد مذاق محبته، ومر.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن علي التكريتي يقول: سمعت محمد بن علي الكتاني يقول - بمكة - : سمعت الخواص يقول: كنت في البادية مرَّةً، فسرت في وسط النهار فوصلت إلى شجرة وبالقرب منها ماء، فنزلت فإذا أنا بسبع عظيم أقبل، فاستسلمت، فلما قرب مني إذا هو يعرج، فحمحم وبرك بين يدي ووضع يده على حجري، فنظرت فإذا يده منتفخة بها قيح ودم، فأخذت خشبة، وشققت الموضع الذي فيه القيح وشددت عليه خرقة ومضى،
فإذا أنا به بعد ساعةٍ ومعه شبلان يبصبصان لي وحملا إلي رغيفا.
وسمعته يقول: ثنا أحمد بن علي السَّائح: ثنا محمد بن عبد الله بن مطرف: ثنا محمد بن الحسن العسقلاني: ثنا أحمد بن أبي الحواري قال: اشتكى محمد بـ السماك، فأخذنا ماءه وانطلقنا إلى الطبيب وكان نصرانيا، فبينا نحن بين الحيرة
بن
والكوفة استقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة نقي الثوب، فقال لنا: إلى
أين تريدون؟ قلنا : نريد فلانًا الطبيب؛ نريه ماء ابن السماك، فقال: سبحان الله، تستعينون على ولي الله بعدو الله اضربوا به الأرض وارجعوا إلى ابن السماك
وقولوا له : ضع يدك على موضع الوجع وقل: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْتَهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَل [الإسراء: ١٠٥]، ثُمَّ غاب عنا فلم نره، فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك، فوضع يده على موضع الوجع وقال ما قال الرجل، فعُوفي في الوقت، فقال: ذلك كان الخضر عليه السلام.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الرحمن بن محمد الصوفي يقول: سمعت عمر البسطامي يقول: كنا قعودًا في مجلس أبي يزيد البِسْطَامي فقال : قوموا بنا نستقبل وليّا من أولياء الله تعالى، فقمنا معه، فلما بلغنا الدرب فإذا إبراهيم بن شيبة الهروي، فقال له أبو يزيد وقع في خاطري أن أستقبلك، وأشفع لك إلى ربي، فقال إبراهيم بن شيبة: لو شفعك في جميع الخلق لم يكن بكثير؛ إنَّما هم قطعة طين، فتحيّر أبو يزيد من جوابه. قال الأستاذ: وكرامة إبراهيم في استصغار ذلك أتم من كرامة أبي يزيد،
فيما حصل له من الفراسة وصدق له من الحالة في باب الشفاعة. سمعت الشيخ أبا عبدالرحمن السُّلَميَّ يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري وقد سأله سالم المغربي عن أصل توبته؟ فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق ثُمَّ انتبهت وفتحت عيني؛ فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من شجرة على الأرض فانشقت الأرض فخرج منها سُكرجَتان إحداهما من ذهب والأخرى من فضة، وفي إحداهما سمسم وفي الأخرى ماء، فأكلت من هذه،
وشربت من هذه فقلت: حسبي تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني. وقيل: أصاب عبدالواحد بن زيد فالج، فدخل وقت الصلاة واحتاج إلى الوضوء، فقال: من هاهنا ؟ فلم يجبه أحدٌ ، فخاف فوت الوقت، فقال: يا رب أحللني من وثاقي حتى أقضي طهارتي، ثُمَّ شأنك وأمرك، قال: فصح حتى أكمل طهارته ، ثُمَّ عاد إلى فراشه وصار كما كان.
وقال أيوب الجمال : كان أبو عبدالله الديلمي إذا نزل منزلا في سفر عمد إلى حماره وقال في أذنه: كنت أريد أن أشدَّك فالآن لا أشدُّك وأُرسلك في هذه الصحراء
لتأكل الكلاً فإذا أردنا الرحيل فتعال ، فإذا كان وقت الرحيل يأتيه الحمار. وقال النَّضر بن شميل : ابتعت إزارًا فوجدته قصيرًا، فسألت ربي تعالى أن
يُمغط لي ذراعًا، ففعل.
قال الأستاذ: أي: يمد من مَغَط القوس، وهو . مده، قال النضر : ولو
استزدته لزادني.
وقال إبراهيم الخواص : دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة بالليل، فإذا فيها سَبعُ عظيمٌ، فخفت فهتف بي هاتف: اثبت، فإنَّ حولك سبعين ألف ملك يحفظونك. أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا أبو الفرج الورثاني: سمعت أبا الحسن علي بن محمد الصوفي يقول: سمعت جعفر الدبيل يقول: دخل النوري الماء، فجاء لص فأخذ ثيابه، ثُمَّ إنَّه جاء ومعه التّياب وقد جفت يده، فقال النوري: قدرةً علينا الثياب فردَّ عليه يده، فعُوفي وقال الشَّبيُّ : اعتقدت وقتا أن لا آكل إلَّا من الحلال، فكنت أدور في
البراري فرأيت شجرة تين فمددت يدي إليها ،لآكل، فنادتني الشجرة: احفظ
عليك عقدك، لا تأكل مني فإني ليهودي.
وقال أبو عبدالله بن خَفَيف: دخلت بغداد قاصدًا إلى الحج، وفي رأسي نخوة الصوفية، ولم أكل الخبز أربعين يوما، ولم أدخل على الجنيد، وخرجت ولم أشرب الماء إلى زبالة، وكنت على طهارة، فرأيت ظبيا على رأس البئر وهو يشرب - وكنت عطشان - فلما دنوت من البئر ولى الظبي وإذا الماء في أسفله، فمشيت وقلت يا سيدي ما لي محل هذا الظبي فسمعت من خلفي: جرّبناك
فلم تصبر، ارجع وخذ الماء، فرجعت فإذا البئر ملآي ماء، فملأت ركوتي وكنت أشرب منه وأتطهر إلى المدينة ولم ينفد، ولما استقيت سمعت هاتفًا يقول: إنَّ الظبي جاء بلا رَكوة ولا حبل، وأنت جئت مع الركوة والحبل ! فلما رجعت من الحج، دخلت الجامع، فلما وقع بصر الجنيد علي قال: لو صبرت لنبع الماء من تحت رجلك، لو صبرت ساعة.
سمعت حمزة بن يوسف السَّهميَّ يقول : سمعت أبا أحمد بن عدي الحافظ يقول: سمعت أحمد بن حمزة بمصر - يقول : حدثني عبدالوهاب - وكان من الصالحين قال محمد بن سعيد البصري: بينا أنا أمشي في بعض طرق البصرة، إذ رأيت أعرابيا يسوق جملا، فالتفت فإذا الجمل قد وقع مينا ووقع الرحل والقتب، فمشيت ثُمَّ التفت، فإذا الأعرابي يقول: يا مُسبب كل سبب، ويا مولى من طلب، رُدَّ على ما ذهب من جمل يحمل الرحل والقتب، وإذا الجمل قائم والرحل والقتب فوقه.
وقيل: إنَّ شبلا المروزي اشتهى لحما، فأخذ بنصف درهم، فـ فاختطفته منه
حدأة في الطريق، فدخل شبل مسجدًا ليصلّي، فلما رجع إلى منزله قدَّمت امرأته إليه لحما فقال: من أين هذا؟ فقالت: تنازعت حدأتان فسقط هذا منهما، فقال شبل : الحمد لله الذي لم ينس شبلا، وإن كان شبل كثيرًا ينساه. أخبرنا محمد بن عبدالله الصوفي ثنا عبدالواحد بن بكر الورثاني قال: سمعت محمد بن داود يقول: سمعت أبا بكر بن معمر يقول: سمعت ابن أبي عبيد البسري يحدث عن أبيه : أنّه غزا سنة من السنين، فخرج في السَّريَّة، فمات المهر الذي كان تحته وهو في السَّرية، فقال: يا رب أعرناه حتى نرجع إلى بسرى -يعني قريته - فإذا المهر قائم، فلما غزا ورجع إلى بسرى قال: يا بني خذ السرج عن المهر، فقلت: إنَّه عرق، فإن أخذت الشرج داخله الريح، فقال: يا بني إنَّه عارية، قال: فلما أخذت الشرج وقع المهر ميتا.
وقيل: كان بعضهم نباشًا، فتوفيت امرأةٌ فصلَّى النَّاس عليها وصلى هذا النباش؛ ليعرف القبر، فلما جَنَّ عليه الليل نبش قبرها، فقالت: سبحان الله !!
رجل مغفور له يأخذ كفن امرأةٍ مغفور لها ؟! فقال: هبي أ أنَّك مغفور لك، فأنا من أين؟ فقالت: إنَّ الله تعالى غفر لي ولجميع من صلى علي، وأنت قد صليت علي، فتركتها ورددت التراب عليها، ثم تاب الرجل وحسنت توبته. سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا الحسن إسماعيل بن عمرو بن
كامل بمصر - يقول: سمعت أبا محمد نعمان بن موسى الحيري بالحيرة يقول: رأيت ذا النون المصري وقد تقاتل اثنان أحدهما من أولياء السلطان والآخر من الرعية، فعدا الذي من الرعية عليه فكسر ثنيته، فتعلق الجندي بالرجل وقال: بيني وبينك الأمير فجازوا بذي النون، فقال لهم الناس:
اصعدوا إلى الشيخ، فصعدوا إليه فعرَّفوه ما جرى، فأخذ السنَّ ثُمَّ بلَّها بريقه وردها إلى فم الرجل في الموضع الذي كانت فيه، وحرك شفتيه فتعلقت بإذن الله تعالى، فبقي الرجل يفتش فاه فلم يجد الأسنان إلا سواء.
سمعت حمزة بن يوسف يقول : سمعت أبا بكر النابلسي يقول: سمعت أبا بكر الهمذاني يقول : بقيت في بريَّة الحجاز أيامًا لم آكل شيئًا، فاشتهيت باقلا حارا، وخبرا من باب الطاق، فقلت: أنا في البرية وبيني وبين العراق مسافة بعيدة، فلم أتم خاطري إلا وأعرابي من بعيد ينادي: باقلا حار وخبز، فتقدمت إليه، فقلت: عندك باقلا حارٌ وخبر؟ قال: نعم، وبسط مئزرا كان عليه، وأخرج خبزًا وباقلا وقال لي: كُل، فأكلت ثم قال لي: كُل، فأكلت، ثم قال لي: كُل، فأكلت فلما قال في المرة الرابعة، قلت: بحقِّ الذي بعثك إليَّ إِلَّا ما
قلت لي من أنت ؟ فقال : الخضر، وغاب عني فلم أره.
سمعت الشيخ أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا العباس بن الخشاب البغدادي يقول: سمعت محمد بن عبدالله الفرغاني يقول: سمعت أبا جعفر الحداد يقول: جئت الثعلبية وهي خراب ولي سبعة أيام لم آكل فيها شيئًا، فدخلت القبة، وجاء قوم خراسانيون أصابهم جهد فطرحوا أنفسهم على باب القبة، فجاء أعرابي على راحلةٍ وصبَّ تمرًا بين أيديهم فاشتغلوا بالأكل ولم يقولوا لي شيئًا ولم يرني الأعرابي، فلما كان بعد ساعتين فإذا بالأعرابي جاء وقال لهم: معكم غيركم؟ قالوا: نعم هذا الرجل داخل القبة، قال: فدخل الأعرابي وقال لي: إيش أنت؟! لولم تتكلم؟! مضيتُ فعارضني إنسان فقال لي: قد خلَّفت إنسانًا لم تطعمه، ولم يمكنني أن أمضي وتطولت على الطريق؛ لأني رجعت عن أميال،
وصب بين يدي التمر الكثير ومضى، فدعوتهم فأكلوا وأكلت. سمعت حمزة بن يوسف يقول: سمعت أبا طاهر الرقي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: كلمني جمل في طريق مكة، رأيت جمالا والمحامل عليها، وقد مدت أعناقها في الليل، فقلت: سبحان الله من يحمل عنها ما هي فيه ! فالتفت إلي جمل وقال لي: قل جلَّ الله ! فقلت: جلَّ الله !.
سمعت محمد بن عبدالله الصوفي يقول: سمعت الحسن بن أحمد الفارسي يقول: سمعت الرقيَّ يقول: سمعت أبا بكر بن معمر يقول: سمعت أبا زرعة الجنبي يقول : مكرت بي امرأة فقالت: ألا تدخل الدار؛ فتعود مريضا، فدخلتُ فأغلقت الباب ولم أرَ أحدا، فعلمتُ ما فعلت، فقلت: اللهم سودها،
فاسودت، فتحيَّرت وفتحت الباب فخرجت، فقلت: اللهم رُدَّها إلى حالها، فردها إلى ما كانت. قال الأستاذ: واعلم أنَّ الحكايات في هذا الباب تربو على الحصر، والزيادة على ما ذكرناه، تخرجنا عن المقصود من الإيجاز، وفيما ذكرناه مقنع في هذا الباب» . اهـ ما أردت نقله من رسالة" الإمام أبي القاسم القشيري" في باب كرامات الأولياء. وذكر كرامات أخرى في باب رؤيا القوم وغيره من أبواب "الرسالة" من ذلك ما ذكره عن ابن الجلاء أنّه قال: دخلت المدينة ) فاقة، فتقدمت إلى القبر وقلت: أنا ضيفك فغفوت، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أعطاني ،رغيفا، فأكلت نصفه وانتبهت وبيدي النصف، وقد تقدم نظير هذه القصة عن أبي الخير الأقطع».
وبي
وقال الإمام الحافظ النووي في بستان العارفين": روينا عن السيد الجليل أبي ميسرة عمرو بن شُرَحْيِيل التابعي الكوفي الهمداني - رضي الله عنه بإسكان الميم وبالدال المهملة : أنَّه كان إذا أخذ عطاءه تصدق منه، فإذا جاء أهله فعدوه فوجدوه سواء، فقال ابن أخيه ألا تفعلون مثل هذا؟ فقالوا: لو علمنا أنه لا ينقص لفعلنا، قال أبو ميسرة: إنّي لست أشرط هذا على ربي عزَّ وجلَّ». وذكر هذه الحكاية الحافظ المزي في "التهذيب"، والحافظ في "تهذيب التهذيب" من طريق أبي نعيم - الفَضّل بن دُكَين - عن إسرائيل باللفظ المذكور وروى الحافظ النسفي في "فضائل الأعمال" من طريق حماد بن سلمة: «أنَّ عاصم بن أبي النَّجُود - أحد أئمة القُرّاء - قال: أصابني خَصَاصَةٌ، فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الجبانة، فصليتُ ما شاء الله ثُمَّ وضعت وجهي على الأرض، وقلت: يا مُسَبِّب الأسباب، يا مُفتّح الأبواب يا جامع الأصوات، يا مُجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك، قال: فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعةً بقربي، فرفعت رأسي فإذا حِداةٌ طرحت كيسًا أحمر ، فأخذتُ الكيس فإذا فيه ثمانون دينارًا وجوهرة ملفوفة في قطنة مندوفة، قال : فبعت الجوهرة بمال عظيم، وفضلت الدنانير فاشتريت بها عقارا، وحمدت الله على ذلك».
وقال ابن ظفر في كتاب "النصائح : دخلت ثغرا من ثغور الأندلس، فألفيت به شاباً متفقها من أهل قرطبة، فأنسني بحديثه وذاكرني طرفًا من
العلم، ثُمَّ إنّي دعوت فقلت: يا من قال: ﴿وَسْتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ
[النساء:۳۲]، فقال: ألا أحدثك . عن هذه الآية بعجب؟! قلت: بلى، فحدثني عن بعض سلفه أنه قال : قدم علينا من طليطلة راهبان، كانا عظيمي القدر بها وكانا يعرفان اللسان العربي، فأظهرا الإسلام وتعلَّما القرآن والفقه، فظنَّ الناس بهما الظنون، قال: فضممتهما إليَّ وقمت بأمرهما، وتجسّست عليهما، فإذا هما على بصيرة من أمر هما ، وكانا ،شيخين فقلما لبث أحدهما حتى مات، وأقام الآخر أعوامًا، ثُمَّ ،مرض فقلت له يوما ما سبب إسلامكما؟ فكره مسألتي، فرفقت به، فقال: إنَّ أسيرًا من أهل القرآن كان يخدم في كنيسة نحن في صومعة منها، فاختصصنا به لخدمتنا وطالت صحبته لنا حتى فقهنا اللسان العربي
وحفظنا آيات كثيرة من القرآن لكثرة تلاوته له، فقرأ يومًا وَسْتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ [النساء : ٣٢].
فقلت لصاحبي - وكان أسدى مني رأيا وأحسن فهما -: أما تسمع دعاوى هذه الآية؟ فزجرني، ثُمَّ إنَّ الأسير قرأ يومًا: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ [غافر : ٦٠] ، فقلت لصاحبي هذه أشدُّ من تلك، فقال: ما أحسب الأمر
إلا على ما يقولون، وما بَشَّر عيسى إلَّا بصاحبهم.
قال: واتفق يومًا أني غُصصت بلقمة والأسير قائم علينا يسقينا الخمر على طعامنا، فأخذت الكأس منه فلم أنتفع بها، فقلت في نفسي: يا رب إنَّ محمدا قال عنك أنك قلت وَسْتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِه ، وأنك قلت : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لك، فإن كان صادقًا فاسقني، فإذا صخرة يتفجر منها الماء فبادرت
وشربت منه.
مني
فلما قضيت حاجتي انقطع، ووراثي ذلك الأسير فشك في الإسلام ورغبت أنا فيه، وأطلعت صاحبي على أمري فأسلمنا معا، وغدا علينا الأسير يرغب في أن نعمده وننصره فانتهرناه وصرفناه عن خدمتنا، ثُمَّ إِنَّه فارق دينه وتنصر، فجرنا في أمرنا ولم نهتد لوجه الخلاص، فقال صاحبي – وكان أسدى رأيا : لم لا ندعو بتلك الدعوة؟ فدعونا بها في التماس الفرج، ونمنا القائلة، فرأيت في المنام أنَّ ثلاثة أشخاص نورانية دخلوا معبدنا، فأشاروا إلى صور فيه فانمحت وأتوا بكرسي فنصبوهنَّ، ثُمَّ أتى جماعةٌ مثلهم في النور والبهجة وبينهم رجل ما رأيت أحسن خَلْقًا منه، فجلس على الكرسي فقمت إليه، فقلت له: أنت السيد المسيح؟ فقال: لا، بل أنا أخوه أحمد، أسلم، فأسلمت، ثُمَّ قلت يا رسول الله ، كيف لنا بالخروج إلى بلاد أمتك؟ فقال لشخص قائم بين يديه : اذهب إلى ملكهم وقل له يحملهما مكرمين إلى حيث أحبا من بلاد المسلمين، وأن يحضر الأسير فلانًا ويعرض عليه العود إلى دينه، فإن فعل يخلي سبيله، وإن لم يفعل فليقتله، قال: فاستيقظت من منامي وأيقظت صاحبي وأخبرته بما رأيت وقلت له: ما الحيلة؟ فقال: قد فرج الله، أما ترى الصور ممحوة ؟! فنظرت فوجدتها ممحوة، فازددت يقينًا، ثُمَّ قال لي صاحبي قم بنا إلى الملك، فأتيناه فجرى في تعظيمنا على عادته وأنكر قصدنا له، فقال له صاحبي : افعل ما أُمرت به في أمرنا، وفي أمر فلان الأسير، فانتقع لونه وأرعد ثُم دعا بالأسير وقال له: أنت مسلم أو نصراني؟ فقال: بل نصراني، فقال له: ارجع إلى دينك فلا حاجة لنا فيمن لا يحفظ دينه، فقال: لا أرجع إليه أبدا، فاخترط الملك سيفه وقتله بيده، ثُمَّ قال لنا سِرا: إِنَّ الذي جاء إليَّ وإليكما
شيطان، ولكن ما الذي تريدان؟ قلنا: الخروج إلى بلاد المسلمين، قال: أنا أفعل ما تريدان لكن أظهرا أنَّكم تريدان بيت المقدس، فقلنا له: نفعل فجهزنا وأخرجنا مكرمين . اهـ
نقل هذه القصّة الحافظ الدميري في مبحث الحمار من "حياة الحيوان" ونقل عقبها عن مسروق قال: كان رجل بالبادية له حمار وكلب وديك، وكان الديك يُوقظهم للصَّلاة، والكلب يحرسهم، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خيامهم، فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له، وكان الرجل صالحا فقال : عسى أن يكون خيرًا، ثُمَّ جاء الذَّئب فخرق بطن الحمار فقتله، فقال الرجل: عسى أن يكون خيرًا، ثُمَّ أُصيب الكلب بعد ذلك فقال: عسى أن يكون خيرا، ثُمَّ أصبحوا ذات يوم فنظروا ، فإذا قد سُبي من كان حولهم وبقوا سالمين، وإنَّها أخذ أولئك بما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة في هلاك ما كان عندهم من ذلك كما قدَّر الله سبحانه وتعالى، فمن عرف خفي لُطف الله رضي بفعله».اهـ
وقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد المزين الصغير الصوفي: «كنت ببادية تبوك فقدمت إلى بئر أستقي منها فزلقت رجلي، فوقعت في جوف البئر فرأيت في البئر زاوية واسعةً فأصلحت موضعاً وجلست فيه، فبينما أنا كذلك إذا أنا بخشخشة، فتأملت، فإذا أنا بأفعى سقطت عليّ ودارت بي وأنا ساكن في البئر لا أضطرب، ثُمَّ لقت عليَّ ذنبها وأخرجتني من البئر وحلّت .
، عني ذنبها، ثُمَّ ذهبت عني، نقل هذه القصة الحافظ الدميري في "حياة الحيوان"، وذكر : أنَّ أبا الحسن هذا تُوفَّى بمكة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
وقال الدميري أيضًا روينا بالسند الصحيح: «أنَّ الشيخ عبدالقادر الجيلي - قدس الله روحه جلس يوما يعظ الناس وكانت الريح عاصفة، فمرت على مجلسه حدأة طائرة فصاحت فشوشت على الحاضرين ما هم فيه، فقال الشيخ يا ريح خذي رأس هذه الحدأة، فوقعت لوقتها في ناحية ورأسها في ناحية، فنزل الشيخ عن الكرسي، وأخذها بيده ، وأمر يده الأخرى عليها، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فحييت وطارت والناس يشاهدون ذلك» . اهـ وقال أيضا: روينا بأسانيد شتى من طرقٍ مُختلفة: «أن امرأة جاءت بولدها إلى سيدي الشيخ عبدالقادر الجيلاني قدس الله روحه وقالت: إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك، وقد خرجت عن حقي فيه الله عزَّ وجل ولك فاقبله، فقبله الشيخ وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق، فدخلت عليه أمه يوما، فوجدته نَحيلًا مُصفرا من آثار الجوع والشهر، ووجدته يأكل قرصا من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيدي تأكل لحم الدجاج ويأكل ابني خبز الشعير؟! فوضع الشيخ يده على تلك العظام وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يُحيي العظام وهي رميم، فقامت دجاجة سوية وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء» . اهـ
وذكر
محمد الحافظ ابن النجار في "تاريخه" في ترجمة يوسف بن علي بن
الزنجاني - الفقيه الشافعي - قال: حدثنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، عن القاضي الإمام أبي الطيب الطبري قال: كنَّا في حلقة النظر بجامع المنصور ببغداد، فجاء شابّ خُراساني يسأل عن مسألة المصراة ويطالب بالدليل،
فاحتج المستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في "الصحيحين"
وغيرهما فقال: الشَّاب - وكان حنفيا - أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما استتم كلامه حتى سقطت حيَّةٌ عظيمة من سقف الجامع، فهرب الناس وتبعت الشاب دون غيره، فقيل له: تُب تُب، فقال: ثبت، فغابت الحية ولم يبق لها أثر .
وذكرها الحافظ بن الصَّلاح في "رحلته" وقال: «هذا إسناد ثابت فيه ثلاثة من صالحي أئمة المسلمين: القاضي أبو الطَّيِّب الطبري، وتلميذه أبو إسحاق الشيرازي، وتلميذه أبو القاسم الزنجاني».
مقامه
قلت: هذه كرامة عظيمة دافع الله بها عن صحابي جليل، طالما تهجم على بعض الحنفية المبتدعة فرموه تارةً بعدم الفقه وتارةً بعدم الثقة، مع أنَّه أوثق من أبي حنيفة وأفقه بدرجات، والكلام في الصحابة هو باب الزندقة الأعظم والسلم الموصل لهدم الدين؛ لأنّهم نَقَلة القرآن وحملة الحديث وحَفَظة
الشريعة، فالطَّعن فيهم هدم للدين من أساسه، نسأل الله السلامة من الفتن. وذكر الدميري في مبحث "الحيَّة" عن أبي بكر بن أبي داود قال: «كان المستعين بالله بعث إلى علي بن نصر - يعني الجهضمي الحفيد - يشخصه للقضاء، فدعاه عبدالملك - أمير البصرة - وأمره بذلك، فقال: ارجع فاستخير الله، فرجع إلى بيته فصلى ركعتين وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك ونام،
فنبهوه فإذا هو ميت، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين». اهـ وذكر الحافظ السيوطي في ترجمة السيد عبدالرحيم بن أحمد بن حجون
السبتي الحسني دفين قنا: «أنَّ حفيده السيد محمد ابن السيد الحسن ابن السيد
عبد الرحيم كان في بعض السياحات، فكان يمرُّ بالحشائش فتخبره بمنافعها»، وذكر الحافظ السيوطي أيضًا: «أنَّ هؤلاء السادات الثلاثة كانوا أصحاب علم
وورع وزهد وعبادة، وكانت لهم كرامات ومكاشفات وأحوال عالية». وذكر الحافظ السيوطي أيضًا: أن أبا القاسم بن منصور بن يحيى الإسكندري المالكي المعروف بالقباري باع دابَّة لرجل، فأقامت أياما لم تأكل عنده شيئًا، فجاء إليه وأخبره، فقال له الشيخ: ما صنعتك؟ قال: رقاص عند الوالي، فقال: إن دابتنا لا تأكل الحرام، ثُمَّ ردَّ إليه دراهمه». قلت: كان العلامة ناصر الدين بن المنير تلميذا لهذا الشيخ، وله في مناقبه تأليف خاص نبه عليه الحافظ السيوطي في "حسن المحاضرة"، ورأيت الحافظ ابن حجر نقل منه في "فتح الباري" في الكلام على حديث «الحَلَالُ بَيِّنُ وَالحَرَامُ بين حيث قال ما نصه: ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: المكروه عقبةُ بين العبد ،والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه، وهو منزع حسن» . اهـ
وذكر أبو عمران الفاسي - أحد أئمة المالكية -: «أن أبا الحسن بن حرزهم سجنه سلطان مراکش، فقال لتلامذته في الطريق لا ألبث في السجن، فقالوا له: سبحان الله !! اسكت، وهل سُجنت إلا على مثل هذه الأحوال، فقال لهم: ها هو الشيخ (أبو يعزى) ينظرني لا يتركني، فإنَّه كل ما يطلبه من مولاه يعمله له، وبينهما مسيرة خمسة أيام، فأُطلق من ساعته»، نقل هذه القصة العلامة
المحقق للشيخ أحمد بابا التنبكتي في كتاب "نيل الابتهاج بتطريز الديباج".
قلت: أبو يعزى كان من الأولياء الكبار ذوي المقامات الحميدة والكرامات العديدة، أفرد التادي مناقبه بكتاب خاص سماه "المعزى في مناقب أبي يعزى" رأيته وهو يقع في عشر كراسات تقريبا وأبو الحسن علي بن إسماعيل بن محمد بن عبدالله بن حرزهم كان عالما . جمع بين الحديث والفقه وغيرهما، وأخذ عن أبي بكر بن العربي وغيره، وسلك طريق القوم وغلب عليه الزهد والورع، أصله من فاس ودخل الأندلس وأخذ عن علمائها، ثُمَّ رحل لمراكش فدرس بها العلم وتَوّب ناسًا وزَهّد أميرها في الدنيا، وكثر أتباعه وتلاميذه، ترجمه التادلي في "التشوف"، والساحلي في "بغية السالك"، والشيخ أحمد بابا في "نيل الابتهاج، والسيد محمد بن جعفر الكتاني في "سلوة الأنفاس" وغيرهم، وقبره مشهور بفاس زرته مرات.
ومن كراماته: أنَّه نعى نفسه للنَّاس، وذلك أنَّه قال لهم: لا أصوم رمضان الآتي، ثُمَّ بعد أيام قصد صاحبًا له فقال له : قدم لي طعاما أكله؛ فطعامك حلال، فقدم له خبزًا ولبنا فأكل ثُمَّ دخل الحمام وقال لخدمة الحمام: لم يبق لكم من خدمتي إلا هذا اليوم، فلما خرج منه أتى منزله فاستلقى على فراشه، فلما حان وقت صلاة العصر أتاه بعض تلامذته ليوقظه للصَّلاة فوجده ميتا، تُوفّي في آخر شعبان سنة تسع وخمسين وخمسمائة رحمه الله ورضي عنه.
ومن تلاميذه شيخ الشيوخ، الشيخ شعيب بن الحسن الأندلسي المعروف بأبي مدين، كان من أفراد الرجال ومن أعلام العلماء، وحفاظ الحديث خصوصا "جامع الترمذي" قائما عليه، رواه عن شيوخه عن أبي ذر الحافظ، يلازم كتاب "الإحياء" وترد عليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في
الحال، له مجلس وعظ يتكلم فيه على النَّاس، وتمرُّ به الطيور وهو يتكلم فتقف تستمع وربما مات بعضها، وكثيرًا ما يموت بمجلسه أهل الحب، تخرج به جماعة من العلماء والمحدثين وأرباب الأحوال، وكان شيخه أبو يعزى يثني عليه ويعظمه بين أصحابه، ولما قدم من الأندلس قرأ على ابن حرزهم المتقدم، وعلى الفقيه العلامة ابن غالب. وذكر عنه أنه قال: كنت في ابتدائي إذا سمعت تفسير آية أو حديث قنعت به، وانصرفت لموضع خارج فاس أتخذه للعمل بما فتح الله عليَّ به، فإذا خلوت تأتيني غزالة تؤنسني وأمرُّ في طريقي بالكلاب فتبصبص لي وتدور حولي، فبينا أنا يوما بفاس إذا رجلٌ أندلسي من معارفي سلّم علي، فقلت: وجبت ضيافته، فبعت ثوبًا بعشرة دراهم فطلبته لأدفعها له فلم أجده هنالك، معي وخرجت لخلوتي على عادتي فتعرَّضت لي الكلاب ومنعتني الجواز حتى جاء رجل حال بيني وبينها، ولما وصلت قريتي جاءتني الغزالة على عادتها فشمتني ونفرت عني وأنكرت علي، فقلت: ما أتى على الدُّ من هذه الدراهم، فرميتها عنِّي، فسكنت الغزالة وعادت لحالها، ولما رجعت رفعتها معي، ولقيت الأندلسي فدفعتها له ثُمَّ خرجت للخلوة، فدارت بي الكلاب
فحملتها
وبصبصت على عادتها، وجاءت الغزالة فشمتني وأتت كعادتها. وبقيت كذلك مدَّةً، وأخبار أبي يعزى ترد عليَّ، وكراماته يتداولها الناس، فملأ حبه قلبي، فقصدته مع الفقراء، فلما وصلنا إليه أقبل عليهم دوني، وإذا حضر الطعام منعني من الأكل معهم فبقيت ثلاثة أيام فأجهدني الجوع، وتحيّرت من خواطر ترد عليَّ وقلت في نفسي: إذا قام الشيخ من موضعه
مرغت فيه وجهي، فلما قام مرغته فإذا أنا لا أبصر شيئًا، فبكيت ليلتي، فلما أصبح دعاني وقربني، فقلت: يا سيدي قد عميتُ، فمسح بيده على عيني فأبصرت، ثُمَّ على صدري فزالت عني تلك الخواطر وفقدت ألم الجوع، وشاهدت في الوقت عجائب بركاته ، ثُمَّ استأذنته في الانصراف للحج فأذن لي، وقال: ستلقى الأسد في طريقك فلا يروّعك، فإن غلب عليك خوفه، فقل: بحرمة آل النور إلا انصرفت عني، فكان كما قال، ولما حج تعرف في عرفة بالشيخ عبدالقادر الجيلاني، فقرأ عليه في الحرم كثيرًا من الحديث، وألبسه الخرقة، وأودعه كثيرًا من أسراره.
ومن كرامات الشيخ أبي مدين رضي الله عنه ما نقله صاحب "الروض" عن الشيخ الزاهد عبدالرزاق أحد خواص أصحابه- قال: «مرَّ الشيخ في بلاد الغرب، فرأى أسدا افترس حمارًا يأكله، وصاحبه جالس بالبعد على غاية الحاجة والفاقة، فجاء أبو مدين وأخذ بناصية الأسد وقال له: امسكه، واستعمله في الخدمة موضع حمارك، فقال: يا سيدي أخاف منه، فقال: لا تخف، لا يستطيع أن يؤذيك، فمرَّ بالأسد يقوده، والناس ينظرون، فلما كان آخر النهار جاء الرجل وقال: يا سيدي هذا الأسد يـ أينما ذهبت وأنا يتبعني خائف منه لا طاقة لي بعشرته، فقال الشيخ للأسد: اذهب ولا تعد، ومتى آذيتم بني آدم سلطتهم عليك».
ومن كراماته المشهورة: أنَّه كان يوما يمشي على الساحل فأسَرَه العدو، وجعلوه في سفينة فيها جماعةٌ من الأسرى، فلما استقر في السفينة توقفت عن السير ولم تتحرّك مع قوة الريح ومساعدتها، وأيقن الروم ألا يقدورا على
السير، فقال بعضهم: أنزلوا هذا المسلم فإنَّه قسيس، ولعله من أصحاب السرائر عند الله تعالى، فأشاروا إليه بالنزول فقال: لا إلَّا إن أطلقتم كل من فيها من الأساري، فعلموا ألا بدَّ لهم من ذلك، فأطلقوهم كلهم وسارت السفينة في الحال.
ومن كراماته أيضًا: «أنَّ بعض طلبة العلم -ببجاية- اختلفوا في حديث إذا مات المؤمِن أُعْطِي نصف الجنَّة». فأشكل عليهم ظاهره، إذ يموت مؤمنين يستحقان كل الجنَّة؟ فجاءوه وهو يتكلّم على "رسالة القشيري" فقال لهم قبل أن يسألوه: المراد: يُعطى نصف جنّته هو، فيُكشف له عن مقعده ليتنعم به وتقرّ عينه، ثُمَّ النصف الآخر يوم القيامة». ولما كثر أتباعه وتلاميذه، وكثر إخباره بالغيوب، وظهرت الخوارق على يده، وشى به بعض العلماء عند السلطان يعقوب المنصور وخوفوه منه على الدولة، وأنه يشبه الإمام المهدي قد كثر أتباعه من كل بلد، فوقع في قلبه وأهمه شأنه، فبعث إليه في القدوم عليه ليختبره، ووصى صاحب بجاية أن يحمله خير محمل، فلما أخذ في السفر شق على أصحابه وتغيروا، فسكنهم، وقال: إن منيتي قربت، وبغير هذا المكان قدرت ولابد منه، وقد كبرت وضعفت لا أقدر على الحركة، فبعث الله لي مَن يحملني إليه برفق وأنا لا أرى السلطان ولا يراني، فطابت نفوسهم، وعدوه من كراماته فارتحلوا به على أحسن حال حتى وصلوا حوز تلمسان، فبدت لهم رابطة العباد، فقال لأصحابه: ما أصلحه للرقاد فمرض، فلما وصل وادي يسر اشتد مرضه فنزلوا به هناك، فكان آخر كلامه الله الحق، وتوفي وكان ذلك سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ولم ير
السلطان كما قال رضي الله عنه، ومناقبه وكراماته كثير، ترجمه التادلي في "التشوف"، والإمام الغبريني في "عنوان الدارية"، والشيخ أحمد بابا في "نيل الابتهاج"، بل أفرد ابن الخطيب القسنطيني جزءًا في التعريف به وبأصحابه، قال التادلي: تخرج به ألف شيخ من الأولياء أُولي الكرامات.
قلت: ومن تلاميذه القطب الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه، وكان الشيخ أبو مدين يقول : كرامات الأولياء نتائج معجزاته صلى الله عليه وآله وسلَّم، وطريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده إلى الجنيد، بسنده إلى الحسن البصري، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم. ومن كلامه: «حسن الخلق معاشرة كل شخص بما يؤنسه ولا يوحشه،
فمع العلماء، بحسن الاستماع والافتقار ومع أهل المعرفة بالسكون والانتظار، ومع أهل المقامات بالتوحيد والانكسار».
ومن كلامه أيضًا: من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه، ومن خدم الصالحين ارتفع، ومن حرمه الله احترامهم ابتلاه بالمقت من خلقه، وانكسار العاصي خير من صَوْلَة المطيع، وله كلام من هذا القبيل كله حكم ومواعظ . وذكر الإمام العلامة أبو العباس الغبريني في "عنوان الدراية في تراجم علماء وصلحاء "بجاية": «أنَّ أبا الفضل بن النَّحوي كان يقرر ) للطلبة .
علم
الحلقة
الكلام، فدخل قاضي الجماعة يوما الجامع فوجده يقرر، فسأل عن فأخبر، فأمر بإبطال الدرس، فقال أبو الفضل كما تسبب في إهانة العلم؛ فأرنا فيه العلامة وخرج، فتبعه ولد القاضي - وله في أبي الفضل اعتقاد فقال له:
ارجع لوالدك لتواريه، فرجع فوجد أباه قد قتله بعض أعدائه».
قلت: أبو الفضل اسمه يوسف بن محمد بن يوسف التوزري، أخذ "صحيح البخاري" عن اللخمي، وقرأ الفقه والأصلين على المازري، وأبي زكريا الشقراطيسي، وعبد الجليل الربعي وغيرهم، وكان يميل إلى النظر والاجتهاد، وكان مُجاب الدعوة، قال القاضي أبو عبدالله بن حماد: «كان أبو الفضل ببلادنا كالغزالي في العراق علما وعملاً».
ومن كراماته أنه قرأ بسلجلماسة الأصلين، فقال ابن بسام أحد رؤساء البلد: يريد هذا أن يُدخل علينا علومًا لا نعرفها، فأمر بطرده من المسجد،
فقال : أمَتَّ
العلم أماتك الله هنا، فجلس ثاني يوم لعقد نكاح سحرًا فقتلته صنهاجة، وجرى له مثل هذا بفاس مع قاضيها ابن دبوس، فدعا عليه فأصابته أكلة في رأسه فوصلت لحلقه فمات وكراماته كثيرة، وهو ناظم المنفرجة
المشهورة التي أولها:
اشتدَّي أَزمَةُ تَنفَرِجِـي قــــد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَج
تُوفِّي
سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ترجمه القاضي عياض، وابن الأبار،
والغبريني، والشيخ أحمد بابا وغيرهم. وقال ابن الخطيب القسنطيني: أنَّ الإمام أبا محمد موسى بن الجرائي - فقيه فاس - دخل يوما جامع فاس وليس فيه قنديل، فأضاء منه الجامع حتى صلَّى وخرج وعاينه الناس. قلت: هذا الشيخ من أصحاب أبي الحسن بن حرزهم ترجمه التادلي في "التشوف" ووصفه بالورع والفضل والاجتهاد وكثرة الصوم، تُوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة رحمه الله ورضي عنه.
وقال ابن الخطيب القسنطيني: حدثني ثقات: «أن الشيخ أبا عبدالله الهزميري كان يتكلم على مسألة يوما في مجلس أقرانه، فتكلم رجل من طرف الحلقة فيها معه فلم يجبه، والرجل لا يعرف وعليه مرقعة، فنظر إليه الحاضرون استهزاء، فقال له الرجل: يا فقيه أدرك أمَّك فقد حضر أجلها، ثُمَّ قال: الله، فطار في الهواء، فعجب الحاضرون من ذلك وقام ضجيج في المسجد، وغشي على الشيخ ساعة وانصرف إلى منزله فوجد أمه منتظرة له وكانت من الصالحات فقالت: يا ولدي حضر أجلي وأردت حضورك، وأعياني انتظارك، فجلس عندها حتى قبضت».
قلت: الشيخ أبو عبدالله محمد الهزميري كان عالما صالحا زاهدًا، له كرامات كثيرة، تُوفّي سنة ثمان وسبعين وستمائة، قال الشيخ أحمد بابا: «وقد
زرت قبره بأغمات مرارًا، وتوسلت عنده والله الحمد» . اهـ
وله أخ اسمه عبد الرحمن الهزميري - وكنيته أبو زيد كان أيضًا عالما ورعًا زاهدًا صاحب کرامات قال ابن الخطيب القسنطيني عن بعض شيوخه بمراكش أنه قال: كان أعجوبة وقته، يتحدَّث أبدًا على الضمائر ولا يفضح
أحدًا، إنَّما يقول: مثل رجل فعل كذا في مكان كذا».
قال ابن الخطيب وذكر لي هذا الشيخ: أنَّ شيخ شيوخنا الشيخ الصالح أبا العباس بن البنّا، كان يقصده فيما يشكل عليه من مسائل الهندسة وغيرها،
قال: فأجد الزحام عليه فيجيبني من طرف الحلقة فأنصرف بلا سؤال». وقال الإمام الشريف أبو عبد الله التلمساني: أخبرني شيخنا الأبلي قال : أخبرنا الفقيه أبو عبدالله بن الحداد قال: ورد علينا بفاس العارف أبو زيد الهزميري،
فكنت أنتابه بالزيادة، وأتردَّدُ على أبي محمَّدٍ الفشتالي -رضي الله عنهما - فكان يسألني عن الشيخ أبي زيد إلى أن قال لي في يوم جمعة: ترى الشيخ أبا زيد أين يُصلي الجمعة؟ فقلت: لا أدري، فخرجت من عنده إلى الشيخ أبي زيد، فلما سلمت عليه قال لي: سألك الشيخ أبو محمد أين أُصلِّي الجمعة؟ لقد حجبته تلك الركيعات أن يعلم أين أصلي؟، فعجبت من مكاشفته، ثُمَّ رجعت إلى الشيخ أبي محمد فلما سلمت عليه قال لي: قال لك الشيخ أبو زيد: حجبته تلك الركيعات،
قل له: لا قطع الله عني تلك الركيعات». قال الإمام الشريف التلمساني: أشار الشيخ أبو زيد إلى اللذة العاجلة بالصَّلاة، وأن الالتفات إليها حجاب، وأشار الشيخ أبو محمد إلى ثوابها
الأخروي الباقي». اهـ تُوفّي أبو زيد الهزميري سنة ست وسبعمائة -رحمه الله ورضي عنه - وذكر
الخطيب القسنطيني: «أن الدعاء عند قبره مستجاب». قلت: وقد جمع كراماته وكرامات أخيه - أبي عبدالله السابق- الشيخ أبو عبدالله بن تجلات الأغماتي في كتاب سماه "إثمد العينين في مناقب الأخوين". وقال العلامة بن سلامة البكري: حدثني شيخنا الإمام العلامة المحقق محمد بن محمد التميميي المعلقي، عن شيخه إمام المغرب محمد بن مرزوق: «أَنَّه أراد ركوب البحر من تونس، فأخذ الفأل من المصحف فوقع له: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهُوا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴾ [الدخان: ٢٤]، فترك الركوب في ذلك الوقت فغرق ذلك المركب، ثُمَّ أتى مركب آخر فأراد الركوب، فأخذ المصحف ونظر فيه فوقع له
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا ﴾ الآية [هود : ٤١]، فركب ولقي السلامة رحمه الله تعالى». قال البسكري: «في هذا دليل جواز أخذ الفأل من المصحف، مع
انه
مكروه، فهو كرامة في حق الشيخ رحمه الله تعالى» . اهـ قال الشيخ أحمد بابا التنبكتي: «بل ذلك يدلُّ على جوازه عنده، إذ مثله لا يُقدم على ما هو مكروه لجلالته علما ودينًا، على أنَّ الشيخ أبا الحسن الزرويلي حكى في "التقيد" عن الطرطوشي: أنَّ أخذ الفأل من المصحف من الاستقسام
بالأزلام، وأقره وأظنه في آخر كتاب "الصيد والضحايا" فانظره».اهـ
وفي " الذخيرة" للقرافي قال الطرطوشي: «أخذ الفأل من المصحف حرام». وقال العلامة ابن عرضون: «في عدّ ما هو من الكهانة، وقرعة النساء والرجال، وأخذ المصحف لأجل الفأل إلى آخر ما قال، وهو منقول في
حاشية ابن الحاج على المرشد المعين وفي تعليقاتي على "كتاب الأربعين حديثًا الصديقيَّة".
وذكر ابن فضل الله عن الأمير الجائي الدوادار قال: «وقع في نفسي إشكال في مسألة، وكان لي صاحب من الفقهاء الحنفية أتردَّدُ إليه، فكتبتُ إليه لأساله عن تلك المسألة فلم أجده، فأتيتُ الشيخ عبدالله المنوفي فلما جلست قال: كأنك مشتغل بشيء من الفقه؟ قلتُ: نعم قال: فما قولك في كذا وكذا لتلك المسألة بعينها؟ فقلت: منكم يُستفاد، فأخذ يتكلم في تلك المسألة، وما عليها من الإيرادات، وذكر الإشكال الذي وقع في نفسي، ثُمَّ شرع يُجيب عنه حتى
إنجلى، فسألته عن شيءٍ آخر فقال: لا، قم بالسلامة، والقصد حصل». قلت: الشيخ عبد الله المنوفي من العلماء العاملين والأولياء الكبار، جمع مناقبه وكراماته تلميذه الشيخ خليل صاحب "المختصر" في جزء مستقل رأيته وهو في مكتبتنا، قال الشيخ خليل في هذا الجزء: «أخبرني القاضي نجم الدين حمزة أنه يرى
النور يخرج من فم الشيخ إذا تكلم، ويظهر على ساعديه إذا حسر هما». وقال الشيخ خليل أيضًا لما حصل الفناء، وأراد الناس أن يخرجوا ليدعوا
ربهم، جئت إلى الشيخ وطلبت منه الحضور مع الناس، قال لي: نعم أكون معهم في ذلك اليوم ولكن لا أظهر، فكان ذلك يوم موته، ففهمت أنه أشار إلى
خفائه
عنهم
بالكفن . اهـ
توفّي في رمضان سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وكانت جنازته عظيمة، قال الحافظ العراقي: «لم أرَ جنازة قط أكثر جمعًا من جنازة الشيخ عبدالله المنوفي، وذلك أنه صادف اليوم الذي خرج فيه أهل مصر يدعون ربهم لما كثر الفناء، وكأنَّ الناس إنَّما خرجوا في الحقيقة لجنازة الشيخ» . اهـ
وذكر الإمام الغبريني في "عنوان الدراية": «أنَّ الشيخ النجيبي كان له أم ولد سيئة الخلُق - تُسمَّى كريمة - اشتدت عليه يوما في الطلب، وأنَّ الأولاد لا شيء عندهم، فقال لها: الآن يأتي من قبل الوكيل ما نتقوّت به، فبينما هما كذلك إذا الحمال يطرق الباب بشكارة قمح، فقال لها: يا كريمة ما أعجلك! هذا الوكيل بعث بالقمح، فقالت: ومن يصنعه؟ فأمر فتصدق به وقال لها: يأتيك ما هو أحسن منه، فانتظرت يسيرًا وبدا لها فتكلمت بما لا يليق، فبينما هما كذلك، إذا الحمال يطرق الباب بشكارة سميد - أسهل وأيسر من القمح - فلم يقنعها ذلك، فأمر بالتصدق به أيضًا، فزادت في المقال، وإذا رجلٌ على رأسه كاملي، فقال لها: يا كريمة قد كُفيت المؤنة علم الوكيل بحالك». وذكر أيضًا: «أنَّ بعض الطلبة الذين يحضرون دروس الشيخ اجتمعوا في نزهة، وأخذوا حليًّا من زينة النِّساء فزيَّنوا به بعضهم، ثُمَّ جاءوا بعد لمجلس
الشيخ، فتكلم الذي كان في يده الحلي وأشار بيده، فقال الشيخ مكاشفا له: يد يُجعل فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد.
وأصاب الناس مرةً جفاف ببجاية، فأرسل إلى داره من يسوق ماء الفقراء، فامتنعت كريمة وانتهرت رسوله فسمع كلامها فقال للرسول: قل لها يا كريمة والله لأشربن من ماء المطر السَّاعة فرمق السَّماء بطرفه ودعا ورفع يده
به، وشرع المؤذن في الأذان فما ختم أذانه حتى أمطرت كأفواه القرب. وكان بعض تلاميذه مولعًا بالخمر فاعتكف عليها ليلة، وسقطت على وجهه
زجاجة فأثرت فيه، فلما أصبح جاء إلى الشيخ وفي وجهه أثرها فأنشده مكاشفًا: لا تَسْفِكَنَّ دَمَ الزُّجَاجَةِ بعدَها إِنَّ الجُرُوحَ كما عَلِمْتَ قِصَاصِ فاستحى الطالب وتاب.
قلت: الشيخ التجيبي هو : علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم -المعروف بالحرالي - أندلسي الأصل، وُلد بمراكش ونشأ بها، حج ورحل ولقي جماعة من العلماء وناظر معهم فبرع ، وشارك في عدة فنونِ ثُمَّ تخلى عن الدنيا وزهد فيها، قال الغبريني: «تعلمنا عليه الفاتحة في نحو ستة أشهر يلقي في التعليم قوانين تتنزل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام، حتى مَنَّ الله تعالى ببركات ومواهب لا تُحصى، وعلى أحكام تلك القوانين ألف كتابه "مفتاح اللب المقفل على فهم القرآن المنزل " » . اهـ وقال أبو محمد عبد الحق: "كنا نقرأ عليه "النجاة" لابن سينا فينقضه عروةً
عروة» . اهـ
وله تفسير سلك فيه سبيل التحرير، وصل فيه إلى قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ [آل عمران: ۳۷]، وعليه نسج البقاعي مناسباته التي سماها "تناسق الدرر في تناسب السور" تُوفّي فجأةً في الشام سنة سبع وثلاثين وستمائة،
حاله
ترجمه الذهبي وابن الأبار وأبو العباس الغبريني والشيخ أحمد بابا وغيرهم. وذكر الشيخ أحمد بابا في ترجمة الشيخ السنوسي صاحب العقيدة المشهورة: أنَّ رجلا اشترى الحما من السوق، فسمع الإقامة في المسجد فدخل واللحم في قبه - يعني رأس البرنس - فخاف من طرحه فوات ركعة فكبَّر كذلك، فلما سلم ذهب لداره فطبخ اللحم، فبقي إلى العشاء فأرادوا طرحه؛ فإذا هو بدمه لم يتغير فقالوا: لعله لحم شارف، فأوقدوا عليه إلى الصُّبح فلم يتغيَّر عن . حين وضعوه، فتذكر الرجل، فذهب إلى الشيخ فأعلمه، فقال له: يا بني أرجو الله أنَّ كل من صلى ورائي ألا تعدو عليه النار ، ولعل هذا اللحم من ذلك ولكن اكتم ذلك». اهـ وللشيخ السنوسي هذا كرامات ومناقب، جمعها تلميذه الشيخ الملالي في كتاب يقع في ستة عشر كرّاسًا من القطع الكبير، واختصره الشيخ أحمد التنبكتي في نحو ثلاثة كراريس، تُوفّي سنة خمس وتسعين وثمانمائة، وشم الناس المسك عند موته رحمه الله.
أخذ الطريق عن الإمام العلامة القطب الكبير أبي سالم إبراهيم بن محمد بن
علي التازي بسنده إلى الشيخ أبي مدين وهو صاحب الصلاة التّازيَّة - المشهورة في مصر بالنَّاريَّة - وهي: «اللهم صل صلاة كاملة، وسلّم سلاما تاما على نبي تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب، وتقضى به الحوائج، وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم، ويُستسقى الغمام بوجهه الكريم، وعلى آله
وصحبه»، تُوفّي سنة ست وستين وثمانمائة، أطال أبو عبدالله بن صعد ترجمته في
النجم الثاقب وذكر جملا من أحواله وكراماته، كما ذكر التنبكتي وغيره. وذكر القاضي بن عبدالملك: «أن أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم السلمي البلفيقي الأندلسي وكان عالماً زاهدًا - أتاه مرَّةً طبيبٌ يُنكر كرامات الأولياء ومعه صبي يشكو ألم الحصى، وقال للشيخ على جهة الاستهزاء: يا شيخ تداوي هذا الصَّبيَّ؟! فتفرَّس ما أضمره وتغيّر وجهه، واستدعى الصَّبيَّ وأَمَرَّ يده على صدره والأخرى على قلبه وحرَّك شفتيه، ورفع ثياب الصبي ونفخ ثلاثا، وقبض بعنف وقوة على دبر الصبي، فتجمع وقذف خمس حصيات في
حجم
تحته
م الحمص مخضوبة بالدم، وسكن الألم عنه حينئذ، ثُمَّ قال للطبيب وصاحبه:
ما حملكما على إنكار مثل هذا؟ فتنصَّلا وخرجا على أسوأ حال». وقال الإمام ابن مرزوق الحفيد في الكتاب الذي ألفه في التعريف بشيخه العلامة المحقق الولي الكبير أبي إسحاق إبراهيم بن موسى المصمودي المكناسي: «حدثني كبير أصحابه الشيخ أبو عبدالله بن جميل: أنَّه عرض له شيء منعه منا اتباع المشهور في مسألة، واضطر لفعله، فبحث حتى وجد جوازه لأصبغ وابن حبيب فقلدهما ، قال : ثم مضيت لزيارة أمي وسقط عليَّ حَجَرٌ آلمني شديد واعتقدت أ انه عقوبتي لمخالفة المشهور وتقليد غيره، وما علم بذلك أحد، ثُمَّ زرت الشيخ وأنا متألم فقال لي: ما لك يا فلان؟ قلت له: ذنوبي، فقال لي على الفور: من قلد أصبغ وابن حبيب فلا ذنوب عليه». قال: «وحدثني بعض صالحي أصحابه قال: كنت جالسا معه في بيته ليس معنا أحد، وهو يقرأ القرآن ويشير بقضيب في يده إلى محل الوقوف على عادة
شيوخ التجويد - فقلت في نفسي: ليفعل هذا؟ أتراه يقرأ عليه أحدٌ من الجن؟! فما تم الخاطر حتى قال لي: يا محمد كان بعض الشيوخ الجنّ يُجود عليه القرآن». اهـ. وذكر الحافظ السيوطي في ترجمة أبي الحسن بن بنان بن حمدان الحمال الزاهد من كتاب "حسن المحاضرة " : أنَّه أنكر على ابن طولون يوما شيئًا من المنكرات وأمره بالمعروف، فأمر ابن طولون فأُلقي بين يدي الأسد، فكان
يشمه ويحجم عنه فرفع من بين يديه، وزاد تعظيم الناس له.
وجاءه رجل فقال: لي على شخص مائة دينار وقد ضاعت الوثيقة، وأخاف أن ينكر فادع لي فقال له: إني قد كبرت وأحب الحلواء؛ فاذهب فاشتر لي رطلا وائتني به حتى أدعو لك، فذهب الرجل فوضع له البائع الحلواء في ورقة، فإذا هي وثيقته بالمائة دينار، فجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال: خذ الحلواء فأطعمها صبيانك».
وذكر أيضًا: «أنَّ أبا الحسن علي بن محمد بن سهل الدينوري الصائغ الزاهد
رُؤي يُصلِّي بالصَّحراء في شِدَّة الحرّ، ونسر قد نشر جناحيه يظله من الحر». ونقل أيضا عن صاحب "المرآة": «أنَّ أبا الحسن هذا أنكر على تكين - أمير مصر - - أشياء، وكان تكين ظالما؛ فسيّره إلى القدس، فلما وصل إليه قال: كأنّي بالبائس - يعني تكين وقد جئ به في تابوت إلى هنا، فإذا دنا من الباب عثر البغل ووقع التابوت، فبال عليه البغل فلم يلبث إلا مدةً يسيرة، وإذا بقائل يقول: قد وصل تكين وهو ميت في التابوت، فلما وصل إلى الباب عثر البغل في المكان الذي أشار إليه الدينوري، فوقع التابوت، وغفل عنه المكاري فبال عليه
البغل، وخرج الدينوري فقال للتابوت: جئت بالبائس إلى المكان الذي نفانا
إليه، ثُمَّ ركب الدينوري، وعاد إلى مصر، فمات بها في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ودفن بالقرافة.
وذكر الحافظ السيوطي أيضًا في ترجمة رفاعة بن أحمد بن رفاعة القناوي الجذامي - المشهور بالصَّلاح والكرامات : «أن شيخه أبا الحسن بن الصباغ تحدث مع والي قوص أن يعزل والي قنا فرفض، وكان الشيخ رفاعة حاضرًا فقال يا سيدي أقول ، قال : لا ، فلما خرج سأله الفقراء: ما الذي كنت تريد أن تقول ؟ فقال : إنَّ الوالي لما ردَّ على الشيخ عُزل في ساعته، فأرخوا ذلك الوقت، فجاء المرسوم بعزله في ذلك التاريخ.
الفصل السادس
فيما أكرم الله به أولياءه بعد وفاتهم من بقاء أجسامهم سليمة لا يُغيرها البلى ولا يعفيها التراب
ثبت ذلك بالمشاهدة والتواتر في وقائع لا يكاد يحصيها العد، وأنا أذكر من
ذلك ما يتيسر من غير استيفاء.
قال الحافظ بن رجب في كتاب "أهوال القبور" ما نصه: «وأما من شوهد بدنه طريا صحيحًا، وأكفانه عليه صحيحة، بعد تطاول المدة من غير الأنبياء -
عليهم السلام - فكثير جدا، ونحن نذكر من أعيانهم جماعة. قال عمر بن شبة: حدثني محمد بن يحيى ثنا هشام بن عبدالله بن عكرمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما سقط جدار بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمر بن عبدالعزيز على المدينة انكشف قدم من القبور التي في البيت فأصابها شيء فدميت، ففزع من ذلك ابن عبد العزيز فزعا شديدا، فدخل عروة البيت، فإذا القدم قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لعمر: لا ترع هي قدم عمر بن الخطاب، فأمر بالجدار فبني ورُدَّ على حاله.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا عبد الأعلى بن حماد: ثنا عبدالجبار بن الورد: سمعت أبا الزبير يقول : سمعت جابر بن عبدالله يقول: كتب معاوية إلى عامله بالمدينة: أن يُجري عيناً إلى أحد، فكتب إليه عامله: إنَّها لا تجري إلَّا على قبور الشهداء، فكتب إليه أن أنفذها، قال: سمعت جابرا يقول: فرأيتهم يخرجون على رقاب الرجال كأنَّهم رجال نوم، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة فانبعثت دما.
وروى مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أنه بلغه أنَّ عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاري كانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد فحفر السيل قبرهما، فحفر عليهما ليغيرا من مكانها، فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جُرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو هكذا، فأشيلت يده عن جرحه، ثُمَّ أرسلت، فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين ما حفر عليهما است وأربعون سنة.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا أحمد بن عاصم: ثنا سعيد بن عامر، عن المثني بن سعيد قال : لما قدمت عائشة بنت طلحة البصرة، أتاها رجل فقال: إني رأيت طلحة بن عبيد الله في المنام فقال : قل لعائشة، تُحوّلني من هذا المكان فإنَّ النز آذاني؛ فركبت في مواليها وحشمها، فضربوا عليها واستثأروه، فلم يتغيَّر منه إلَّا شعيرات في إحدى شقي لحيته أو قال: رأسه حتى حُوِّل إلى موضعه، وكان بينهما بضع وثمانون سنة.
وبإسناده عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبيه أنه قال: رأيت طلحة لما حُوِّل من مكانه، فرأيت الكافور في عينيه لم يتغيّر منه شيء إلا عقيصته مالت من مكانها. وقال في "كتاب الأولياء": كتب إلى أبو عبدالله محمد بن خلف بن صالح التيمي: أنَّ إسحاق بن أبي بنانة، مكث ستين سنة يؤذن لقومه في مسجد بني عمرو بن سعد - يعني بالكوفة - وكان يُعلم الغلمان في الكتاب ولا يأخذ الأجر، ومات قبل أن يُحفر الخندق بثلاثين سنة، فلما حُفر الخندق وكان بين المقابر ذهب بعض أصحابه يستخرجه ووقع قبره في الخندق، فاستخرجوه كما دفن لم يتغير منه شيء، إلَّا أنَّ الكفن قد جفَّ عليه ويبس، والحنوط محطوط عليه، وكان خضيبًا
فرأوا وجهه مكشوفًا وقد ظهر الحناء في أطراف الشعر، فمضى المسيب بن زهير
إلى أبي جعفر المنصور وهو على شاطيء الفرات، فأخبره فركب أبو جعفر في الليل حتى رآه فأمر به فدفن بالليل؛ لئلا يفتتن النَّاس».
وفي "الترمذي" في سياق حديث صهيب المرفوع في قصة أصحاب الأخدود: «أنَّ ذلك الغلام الذي قتله الملك وآمن الناس كلهم، وقالوا: آمنًا برب
الغلام، وجد في زمان عمر بن الخطاب ويده على جرحه كهيئته حين مات». وقد ذكر محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم وغيرهما قصة عبدالله بن التامر -وهو رأس أصحاب الأخدود وقصته شبيهة بقصة الغلام المخرجة في "الترمذي" وأنَّه وُجد في زمان عمر رضي الله عنه بنجران، ويده على جرحه، وأن جرحه يُدمي، وكذا ذكره ابن إسحاق عن عبدالله أبي بكر بن
عمرو بن حزم.
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور": دانيال لما وجده أبو موسى
بالسوس، وأخبارًا قصيرةً من أخبار المتقدمين في هذا المعنى.
وذكر أبو الفرج ابن الجوزي: أنَّ الشريف أبا جعفر بن أبي موسى لما دفن بجانب قبر الإمام أحمد بعد موت أحمد بمائتي سنة، رُؤي كفن الإمام أحمد وهو يتقعقع. قال: ولما كشف قبر البربهاري فاحت ببغداد رائحة طيبة حتى ملأت المدينة. قال: وحدثنا محمد بن منصور بن يوسف: حدثني أبي قال: كنت في جملة من كشف ابن سمعون لما نقل من بيته إلى مقبرة الإمام أحمد بعد أربعين سنة وكفنه يتقعقع » . اهـ وقصة نقل طلحة بن عبيد الله أسندها ابن عبدالبر في "الاستيعاب" من
طرق، وتقدم حديث ابن عبّاس: في الرَّجُلِ الذي ضَرَبَ خبأه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر؛ فإذا رجلٌ يقرأ سورة (الملك)». وفي هذا المعنى آثار كثيرة جدا، كما قال ابن رجب ذكرها ابن أبي الدنيا وغيره.
وذكر الحافظ السيوطي جملةً منها في كتاب "شرح الصدور"، ومن طالع
كتب التاريخ وتراجم الرجال وجد من هذا النوع ما لا يحصى. وذكر العلامة الشيخ أحمد بابا في ترجمة العالم الولي الشهير سيدي محمد بن سليمان الجزولي صاحب دلائل الخيرات" أنه نُقل بعد موته بسبع وسبعين
سنة فوجده لم يتغير منه شيء. وذكر الفضيلي في "الدرر البهية": أنَّ الشريف الصالح الزاهد سيدي عبدالملك بن محمد بن طاهر بن الحسن بن الحفيد الإدريسي مرَّ على قبره فرس، فزلت رجله فانكشف القبر عنه، فوجد كأَنَّه دُفن الآن لم يتغير من جسده شيء،
وذلك بعد دفنه بأكثر من أربعين سنة، وحضر لذلك جماعةٌ . من الشرفاء والعلماء، منهم الفقيه العلامة القاضي السيد الصادق بن هاشم وشاهدوه». اهـ ومنذ عشرين سنة أو أكثر نقلت الجرائد الأسبانية التي تصدر في طنجة عن مراسليها في أسبانيا: أنَّ الحكومة هناك كانت تقوم بحفر بعض الطرق والميادين لإصلاحها في قرطبة أو إشبيلية، فعثروا على أجساد قوم من المسلمين بلحاهم وعمائمهم البيض لم يتغيّر منهم شيء، مع أنه مرَّ على موتهم أكثر من ثلاثمائة سنة، وكان لهذا الحادث ضجّةٌ في الصُّحف الأسبانية وتحيَّروا في تعليله؛ لأنهم لم يجدوا
على أولئك الموتى أثر التحنيط الذي يحفظ الجسم من البلى.
ولما مات العلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني دُفن بالقباب خارج مدينة
فاس، ثُمَّ اقتضى الحال نقله إلى داخل المدينة، فنقل بعد أربعة أشهر فإذا هو
كهيئته يوم دفن. ومما رأيته بعيني: أنَّ والدتي - رحمها الله ورضي عنها- تُوفّيت بالنفاس ليلة
أنشأها
السابع والعشرين من رمضان (١٣٤١)، ودُفنت بزاويتنا الصِّدِّيقيَّة التي أ مولانا الوالد رضي الله عنه بطنجة، ثُمَّ في اليوم السادس من شوال (١٣٥٤) اختار الله والدي لجواره، فدفناه في الزاوية في مكان أوصى أن يُدفن فيه، ورأينا أن تنقل الوالدة إلى جانبه؛ حيث يكون عليهما ضريح واحد، وفعلنا، فوجدناها كهيئتها يوم دفنت لم يتغيَّر من كفنها ولا من جسدها شيء، شاهدت ذلك بنفسي حين نزلت إلى قبرها، وشاهده الإخوان الذين قاموا بنقلها في تابوت عُمل لذلك، وكانوا أكثر من عشرين فتعجبنا وزاد إيماننا.
وقد كانت من الصالحات العابدات وكانت منقطعة النظير في الكرم وحسن الخلق، ولها فراسةٌ حادة وأخلاق حميدة جمة، وأدركت الولاية في آخر
حياتها كما أخبرنا مولانا الوالد قدس الله سره.
وهي من نسل الولي الشهير والعارف الكبير سيدي أحمد بن عجيبة الحسني صاحب "شرح الحكم" وغيره من المؤلفات التي تزيد على ثلاثين مؤلفا، وكان والدها سيدي عبد الحفيظ بن أحمد بن أحمد بن عجيبة صالحا تاليا لكتاب الله منور الشيبة، ظاهر البركة، يقصده الناس لالتماس بركته، ويُستشفى المرضى بدعوته وتوجهاته، لم تفته صلاة الصبح جماعة في المسجد الذي كان يؤم فيه أكثر من ثلاثين سنة، ووالده سيدي أحمد جمع بين العلم والولاية، والزهد والصلاح، أخذ الطريق عن جدّي من جهة الأب - الإمام العلامة المقرئ سيدي الحاج
أخذ
أحمد ابن عبد المؤمن الغماري، وعلى يده رُزق الفتح والولاية، كما أنَّ جدي أ عنه علم المنطق، رحمهم الله جميعا وألحقنا بهم على الإيمان، وجمعنا بهم في دار
كرامته ومستقر رحمته تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، والحمد
الله رب العالمين.
الفصل السابع
فيما أكرم الله به أولياءه من الظهور في صورٍ مُختلفة وإني ذاكر هنا بحول الله ما نشرته بـ"مجلة الإسلام" سنة ١٣٥٨ - عدد
۳۱، ۳۳ - السنة الثامنة للمجلة.
ونصه: كتب إليَّ فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الغني عوض كتابا يقول فيه: بعد الديباجة والتحيَّة، أرجو الجواب عن الآتي مع البيان الشافي والدليل الكافي، راجيا نشره على صفحات "مجلة الإسلام" للنفع العام، أوفد الله لكم الإنعام على الدوام.
سؤال: هل يتبدَّل الولي؟ وما الدليل على ذلك من السُّنَّة؟ وإذا قلتم به فهل تكون جميع الصُّور مُكَلَّفةً أم صورة واحدةً معينة أم مبهمة؟ وإنِّي أناشدك الله وأستحلفك به أنّي في حيرة منه مع الوسط الذي أنا فيه، فأغثنا بغوثك، وتكرم علينا بوابل كرمك، إلى آخر ما جاء في الكتاب المذكور. الجواب: وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته، وإني أشكرك كثيرًا على ما أطريت وأثنيت، وأسأل الله أن يجزيك خير الجزاء، ويكثر أمثالك في العلماء. مختلفة مع ب
وبعد: فاعلم أنَّ تبدل الولي أي تطوّره وظهوره في صور
بقاء
صورته الأصلية على حقيقتها جائز وواقع، كما بين ذلك في كتب العقائد وغيرها.
قال الجاميُّ : النفس الناطقة الكاملة إذا تحققت بمظهرية الاسم الجامع تظهر في صور كثيرة من غير تقييد وانحصار، فتصدق تلك الصور عليها وتتصادق لاتحاد عينها كما تتعدد لاختلاف صورها، ولذلك قيل في إدريس عليه الصَّلاة والسَّلام: إنَّه هو إلياس المرسل إلى بعلبك، لا . بمعنى أنَّ العين خلع الصور الإدريسية ولبس لباس الصورة الإلياسية؛ وإلا لكان قولا بالتناسخ، بل إنَّ هوية إدريس عليه السَّلام مع كونها قائمة في آنية وصورة في السماء الرابعة ظهرت وتعيَّنت في آنية إلياس الباقي إلى الآن، فيكون من حيث العين والحقيقة واحدا، ومن حيث التعين الصُّوري اثنين، كنحو جبريل وميكائيل وعزرائيل، يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصورٍ شتى كلها قائمة : ، كذلك أرواح الكُمَّل كما يُروى عن قضيب البان الموصلي أنَّه بهم، كان يُرى في زمانٍ واحدٍ في مجالس متعدّدة، مُشتغلا في كل بما يُغاير ما في الآخر، ولما لم يسع هذا الحديث أوهام المتوغلين في الزمان والمكان، تلقوه بالرد والعناد، وحكموا عليه بالبطلان والفساد، وأمَّا الذين منحوا التوفيق للنجاة من هذا المضيق، فسلَّموا».اهـ
وقال العلامة علاء الدين القونوي - شارح "الحاوي"- في تأليف له يُسمَّى "الإعلام": «و من الممكن أن يخص الله بعض عباده في حال الحياة بخاصة لنفسه الملكية القدسية وقوة لها تقدر بها على التصرف في بدن آخر غير بدنها المعهود، مع استمرار صرفها في الأول، وقد قيل في الأبدال : إنَّهم إنما سموا أبدالا؛ لأنهم قد يرحلون إلى مكانهم ويقيمون في مكانهم الأول شبحًا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، وإذا جاز في الجنّ أن يتشكلوا في صورٍ
مختلفة، فالأنبياء والملائكة والأولياء أولى بذلك، وقد أثبت الصُّوفية عالماً متوسطا بين عالم الأجساد وعالم الأرواح سموه عالم المثال- وقالوا: هو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها مختلفة بصور . من عالم المثال وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم : ۱۷]، فتكون الروح الواحدة كروح
جبريل مثلا، هي في وقتٍ واحدٍ مُدبّرة لشبحه الأصلي ولهذا الشبح المثالي. وينحل بهذا ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة: أنه سأل بعض الأكابر عن
جسم جبريل عليه السلام فقال : أين كان يذهب جسمه الأول الذي سدَّ الأفق بأجنحته لما تراءى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صورته الأصلية عند إتيانه إليه في صورة دحية؟ وقد تكلف بعضهم الجواب عنه: بأنه يجوز أن يقال : كان يندمج بعضه في بعض إلى أن يصغر حجمه فيصير بقدر صورة دحية ثُمَّ يعود ينبسط إلى أن يصير كهيئته الأولى. وما ذكره الصوفية أحسن وهو: أن يكون جسمه الأول بحاله لم يتغيَّر، وقد أقام الله له شبحًا آخر وروحه تتصرف فيهما جميعا في وقت واحد، وكذلك الأنبياء ولا بعد ذلك؛ لأنه إذا جاز إحياء الموتى لهم، وقلب العصا ثعبانا، وأن يقدرهم الله على خلاف المعتاد في قطع المسافة البعيدة كما بين السماء والأرض في لحظة واحدة، إلى غير ذلك من الخوارق، فلا يمتنع أن يخصهم بالتصرف في بدنين وأكثر من ذلك. وعلى هذا الأصل تخرج جملة مسائل كثيرة، وتنحل إشكالات غير يسيرة، جنة عرضها السموات والأرض، وهو فوق السموات، وسقفها
كقولهم:
عرش الرحمن، كيف أُريها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في عرض ا
الحائط
حتى تقدم إليها في صلاته ليقطف منها عنقودًا على ما ورد به الحديث؟ وجوابه أنَّه بطريق التمثل، وكما يُحكى عن قضيب البان الموصلي - وكان : من الأبدال - أنه اتهمه بعض من الميره يُصلِّي بترك الصلاة وشدَّد النكير عليه في ذلك، فتمثل له على الفور في صور مختلفة، فقال: في أي هذه الصور رأيتني ما أُصلي؟! ولهم حكايات كثيرة مبنية على هذه القاعدة، و وهي من أمهات القواعد عندهم، والله أعلم . اهو هو كلام جيد. وذكر التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى": «أنَّ الكرامات أنواع وعدها، وذكر في النوع الثاني والعشرين منها: التطور بأطوار مختلفة، قال: وهذا الذي تُسميه الصوفية بعالم المثال، وبنوا عليه تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال، واستأنسوا له بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: ١٧]، ومنه
قصة قضيب البان». اهـ وهو مأخوذ من كلام العلاء القونوي المتقدم. وقال العلامة الولي الكبير الشيخ عبدالغفار القوصي: في كتاب "الوحيد في سلوك أهل التوحيد" : الخصائص الإلهية لا تحجير عليها، هذا عزرائيل يقبض في كل ساعة من الخلائق في جميع العوالم ما لا يعلمه إلا الله، وهو يظهر لهم بصور
أعمالهم في مرائي شتى، وكل واحد منهم يشهده ببصره في صور مختلفة». اهـ وقال ابن القيم في كتاب "الروح": «للروح شأن آخر غير شأن البدن، فتكون في الرفيق الأعلى وهي متصلة ببدن الميت، بحيث إذا سُلَّم على صاحبها ردَّت السَّلام وهي في مكانها هناك، وهذا جبريل رآه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وله ستمائة جناح، منها جناحان سدَّ الأفق بهما، وكان يدنو من النبي
صلى الله عليه وآله وسلّم حتى يضع ركبتيه على ركبتيه، ويديه على فخذيه، وقلوب المخلصين تتسع للإيمان بأن من الممكن أنَّه كان يدنو هذا الدنو وهي في مستقرها من السموات . اهـ وقال العلامة اليافعي في "كفاية المعتقد": «روينا عن بعض الأكابر أنه قال: ما الشَّأن في الطَّيران؛ إنَّما الشَّأن في اثنين أحدهما بالمشرق، والآخر بالمغرب يشتاق كل منهما إلى زيارة الآخر، فيجتمعان ويتحدثان ويعود كل واحد منهما إلى مكانه، والناس يشاهدون كل واحد منهما في مكانه لم يبرح عنه» . اهـ
قلت: وقد ثبت التَّبدل والتَّطور عن كثير من الأولياء، فذكر أبو القاسم القشيري في "رسالته" المشهورة: «أنَّ حبيبا العجمي -وهو في سلسلة الطريقة
الشاذلية - كان يُرى يوم التروية بالبصرة، ويوم عرفة بعرفات».
وذكر العلامة اليافعي في "روض الرياحين": «أن بعض أصحاب سهل
بن عبدالله التستري قال: حجّ رجل سنة فلما رجع قال لأخ له: رأيت سهل بن
عبدالله في الموقف بعرفة، فقال له أخوه: نحن كنا عنده يوم التروية في رباطه بباب تستر، فحلف بالطلاق أنَّه رآه بالموقف، فقال له أخوه: قمنا بنا حتى نسأله، فقاما ودخلا عليه وذكرا له ما جرى بينهما وسألاه عن حكم اليمين،
فقال سهل: مالكم بهذا من حاجةٍ اشتغلوا بالله وقال للحالف: أمسك عليك زوجك ولا تُخبر بهذا أحدًا».اهـ
أبا
ونقل التاج السبكي في "الطبقات" في ترجمة أبي العباس الملثم عن الشيخ عبدالغفار القوصي قال في كتابه المسمى بـ"الوحيد": «كنا عنده -يعني أ الجمعة فاشتغلنا بالحديث، وكان حديثه يلتذ منه السامع، فبينما
العباس- يوم
نحن في الحديث والغلام يتوضّأ، فقال الشيخ للغلام: إلى أين يا مبارك؟ فقال: إلى الجامع، فقال: وحياتي صليت، فخرج الغلام وجاء فوجد الناس قد خرجوا من الجامع، قال عبدالغفار فخرجت فسألت فقالوا: كان الشيخ أبو العباس في الجامع والناس تُسلّم عليه، فرجعت إليه فسألته، فقال: أنا أعطيت التبدل» . اهـ وأبو العباس الملثم كان صاحب كرامات وأحوال كما قال ابن السبكي في
ترجمته، وكان مقيما في قوص وبها توفي سنة ٦٧٢ وقبره ظاهر هناك يزار. وذكر الشيخ خليل المالكي صاحب "المختصر" و"التوضيح" في كتابه الذي ألفه في مناقب شيخه الشيخ عبدالله المنوفي -وهو جزء لطيف- قال في الباب السادس منه في طي الأرض لشيخه المذكور مع عدم تحركه: «من ذلك أنَّ رجلا جاء من الحج وسأل عن الشيخ، وذكر أنه رآه واقفًا بعرفة، فقال له الناس: الشيخ لم يزل من مكانه فحلف على ذلك فطلع للشيخ وأراد أن يتكلم، فأشار عليه بالسكوت، ثُمَّ ذكر الشيخ خليل وقائع أخرى وقعت لشيخه من هذا النوع.
ثم قال : فإن قلت: كيف يُمكن وجود الشخص الواحد في مكانين؟ قلت: الولي إذا تحقق في ولايته يُمَكِّن من التصور في روحانيته، ويُعطى
القدرة على التصور في صور عديدةٍ، وليس ذلك بمحال؛ لأن المتعدد هو الصورة الروحانية وقد اشتهر ذلك عند العارفين بالله تعالى، كما حكي عن قضيب البان لما أنكر عليه بعض الفقهاء عدم الصَّلاة في جماعة، ثُمَّ اجتمع ذلك الفقيه به فصلَّى
بحضرته ثمان ركعات في أربع صُورٍ ، ثُمَّ قال : أي صورة لم تُصل معكم ؟ . وكما حكي عن الشيخ أبي العباس المرسي: «أنه طلبه إنسان لأمر عنده يوم
الجمعة بعد الصلاة، فأنعم له، ثُمَّ جاء له أربعة كل منهم طلب مثل ذلك، فأنعم للجميع، ثُمَّ صلَّى الشيخ مع الجماعة، وجاء فقعد بين الفقراء ولم يذهب لأحد منهم، وإذا بكل من الخمسة جاء يشكر الشيخ على حضوره عنده . اهـ كلام الشيخ خليل.
وقال صفي الدين بن أبي منصور: جرت للشيخ مفرج الدماميني ببلده قضية مع أصحابه، قال شخص منهم كان قد حج لآخر: رأيت مفرجًا بعرفة، فنازعه الآخر بأن الشيخ ما فارق دمامين ولا راح لغيرها، وحلف كل منهما بالطلاق، الذي كان قد حجّ حلف بالطلاق من زوجته أنه رآه بعرفة، وحلف الآخر بالطلاق أنه لم يغب عن دمامين في يوم عرفة، فاختصما إليه وذكر كل منهما يمينه؛ فأقرهما على حالهما، وأبقى كل واحد على زوجته، فسألته عن حكم ذلك، وصدق أحدهما يوجب حنث الآخر، وكان حاضرا معنا رجال معتبرون، فقال الشيخ لنا: قولوا إذنًا منه بأن نتكلم في سر هذا الحكم، فتحدث كل منهم بوجه لا يكفي، وكانت المسألة قد اتضحت لي فأشار إليَّ بالإيضاح، فقلت: الولي إذا تحقق في ولايته تمكن من التصور في صور عديدة، تظهر على روحانيته في حين واحدٍ في جهاتٍ مُتعدّدة، فإنَّه يُعطى التَّطور في الأطوار، والتلبس في الصور على حكم إرادته، فالصورة التي ظهرت لمن رآها بعرفة حق، وصورته التي رآها الآخر لم تفارق دمامين حق، وصدق كل منهما في يمينه، فقال الشيخ: هذا هو الصحيح» . اهـ وقال الحافظ السيوطي: رأيت في مناقب الشيخ تاج الدين بن عطاء لبعض تلامذته: أنَّ رجلا من جماعة الشيخ حج، قال: فرأيت الشيخ في
المطاف، وخلف المقام، وفي المسعى، وفي عرفة، فلما رجعت وسألت عن الشيخ، فقيل لي: هو طيب فقلت هل سافر أو خرج من البلد؟ فقيل: لا، فجئت إليه وسلمت عليه، فقال لي: من رأيت في سفرتك هذه من الرجال؟
قلت: يا سيدي رأيتك، فتبسم وقال الرجل الكبير يملأ الكون».
وذكر الشعراني في ترجمة الشيخ عبدالقادر الدشطوطي من "الطبقات" قال: «كان من شأنه التطور، حلف اثنان أن الشيخ نام عند كل منهما إلى
الصباح في ليلةٍ واحدةٍ في مكانين، فأفتى شيخ الإسلام الشيخ جلال الدين السيوطي بعدم وقوع الطلاق».
قلت: هذه المسألة ألف فيها الحافظ السيوطي رسالة خاصة سماها
المنجلي في تطور الولي قال في أولها: «رفع إلى سؤال في رجل حلف بالطلاق أن ولي الله الشيخ عبدالقادر الدَّشطوطي بات عنده ليلة كذا، فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما أم لا؟ فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك، فقال: لو قال أربعة إنِّي بِتُ عندهم لصدّقوا، فأفتيت بأنه لا يحنث واحد منهما، وقرر ذلك من حيث الفقه، ثُمَّ قال: قد نصَّ على إمكان ذلك - يعني وجود الشخص في مكانين في وقت واحد - أئمة أعلام منهم: العلامة علاء الدين القونوي شارح الحاوي"، والشيخ تاج الدين السبكي، وكريم الدين الآملي - شيخ الخانقاه الصلاحية- سعيد السعداء، وصفي الدين بن أبي المنصور، وعبدالغفار بن نوح القوصي صاحب "الوحيد"، والعفيف اليافعي، والتاج بن عطاء الله، والسراج بن الملقن والبرهان الأبناسي، والشيخ عبدالله المنوفي، وتلميذه
الشيخ خليل المالكي صاحب "المختصر" وأبو الفضل محمد بن إبراهيم
التلمساني المالكي، وآخرون.
قال: وحاصل ما ذكروه في توجيه ذلك ثلاثة أمور:
أحدها: أنَّه من باب تعدد الصور بالتمثل، والتشكل كما يقع ذلك للجن.
والثاني: أنه من باب طيّ المسافة، وزوي الأرض من غير تعدد، فيراه الرائيان كل في بيته، وهي بقعةٌ واحدةٌ إلَّا أنَّ الله طوى الأرض وزواها ورفع الحجب المانعة من الاستطراق، فظنّ أنّه في مكانين وإنَّما هو في مكان واحد، وهذا أحسن ما يحمل عليه حديث: رَفْعُ بيت المقدس حتى رآه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بمكة حال وَصْفِهِ إياه لقريشي صبيحة الإسراء. الثالث: أنه من باب عِظَم جنَّة الولي بحيث ملأ الكون؛ فشوهد في كل مكان كما قرر بذلك شأن ملك الموت ومنكر ونكير، حين يقبض من مات في المشرق وفي المغرب في ساعةٍ واحدةٍ، ويسألان من قبر فيهما في الساعة الواحدة؛ فإنَّ ذلك أحسن الأجوبة في الثلاثة، ولا ينافي ذلك رؤيته على صورته المعتادة، فإنَّ الله يحجب الزائد عن الأبصار، أو يدمج بعضه في بعض، كما قيل بالأمرين في رؤية جبريل في صورة دحية، وخلقته الأصلية أعظم من ذلك، بحيث إن جناحين من أجنحته يسُدَّان الأفق.
هذا كلام الحافظ السيوطي في "رسالة المنجلي" وهي رسالة لطيفة تقع في عشر
صفحات، وأغلب النقول السابقة نقلناها منها، فهي مع صغرها مفيدة جيدة. وذكر الشعراني في ترجمة الشيخ حسين الجاكي - إمام جامع الجاكي
وخطيبه -: «أنه كان واعظا ينتفع الناس بكلامه لصلاحه، فعقد له بعض أهل
عصره مجلسًا عند السلطان ليمنعوه من الوعظ، وقالوا: إنَّه يلحن، فرسم السلطان بمنعه، فشكا ذلك لشيخه الشيخ أيوب الكنَّاس، فبينما السلطان في بيت الخلاء إذ خرج له الشيخ أيوب من الحائط والمكنسة على كتفه في صورة أسد عظيم وفتح فمه يريد أن يبلع السلطان، ووقع مغشيا عليه، فلما أفاق قال له: أرسل للشيخ حسين يعظ وإلا أهلكتك، ثُمَّ دخل من الحائط، فأذن
السلطان للشيخ حسين، وأراد الاجتماع بالشيخ أيوب فلم يأذن له». وذكر العلامة الشيخ أحمد بابا التنبكتي في ترجمة الشيخ شعيب بن الحسن الأندلسي - المشهور بأبي مدين - نقلا عن تلميذه الشيخ عبد الخالق التونسي - قال: سمعت رجلًا يُسمَّى موسى الطيَّار ، يطير في الهواء، ويمشي على الماء، وكان رجل يأتيني عند طلوع الفجر فيسألني عن مسائل الناس، فوقع لي ليلة أنه موسى الطيار الذي أسمع به، فلما طلع الفجر نقر الباب رجلٌ، فإذا هو الذي يسألني فقلت له: أنت موسى الطيار؟ قال: نعم، ثُمَّ سألني وانصرف، ثُمَّ جاءني مع آخر، فقال لي: صليت الصبح ببغداد وقدمنا مكة، فوجدناهم في الصبح، فأعدنا .
أعدنا
معهم وبقينا في مكة حتى صلينا الظهر، فجئنا القدس فوجدناهم في الظهر، فقال صاحبي :هذا نعيد معهم، فقلت: لا، فقال لي: ولم ا الصبح بمكة؟ فقلت له: كذلك كان شيخي يفعل وبه أمرنا، فاختلفنا، قال أبو مدين : فقلت لهم أمَّا إعادة الصبح بمكة فإنّها عين اليقين، وببغداد علم اليقين، وعين اليقين أقوى من علم اليقين، وصلاتكم بمكة وهي أم القرى فلا تعاد في غيرها، قال: فقنعا به وانصرفا».
وذكر لي مولانا الوالد رحمه الله ورضي عنه-: أنَّ جدنا سيدي الحاج
أحمد، دعاه أحد أتباعه بفاس في بعض زياراته لها إلى العشاء - أو الغداء عنده في يوم معيَّن - الشك مني - فأنعم له، ثُمَّ دعاه ثلاثة آخرون، كل منهم عيّن ذلك الوقت من ذلك اليوم، فأنعم لهم، وذهب إليهم جميعا في وقت واحد، ولم يعرفوا ذلك إلا من الغد حينما تقابلوا، وذكر كل منهم أنَّ الشيخ كان عنده، وما إخالك - بعد هذه الوقائع المنقولة بطريق الثقات العدول في حاجة إلى الدليل من السنة على تبدل الولي وتطوره؛ إذ الأمر الحاصل المحسوس لا يحتاج
إلى دليل، وفي الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة».
وقد قال اليافعي عقب حكاية الشيخ مفرج الدماميني: «إنَّ تعدد الصور من الولي قد وقع وشوهد ولا يمكن جحده».
قلت: ومع . بحديث: رفع بيت المقدس حتى وضع دون دار عقيل أو عقال». وهو عند أحمد، والنسائي بإسناد صحيح كما قال.
هذا فقد استشهد الحافظ السيوطي لذلك في آخر "المنجلي"
واستشهد أيضًا بما أخرجه ابن جرير وغيره وصححه الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْلَا أَن رَّمَا بُرْهَنَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: ٢٤]، قال: مثل له يعقوب، وذكر مثله عن سعيد بن جبير، وحميد بن عبدالرحمن، ومجاهد، وعكرمة، وابن سيرين، وقتادة، وأبي صالح، وشمر بن عطية، والضَّحَّاك، وعن الحسن قال : انفرج سقف البيت فرأى يعقوب، وفي رواية عنه قال: رأى تمثال يعقوب. قال الحافظ السيوطي: فهذا القول من هؤلاء السلف، دليل على إثبات المثال، أو طي المسافة، وهو شاهدٌ عظيمٌ لمسألتنا؛ حيث رأى يوسف عليه
السلام وهو بمصر أباه، وكان إذ ذاك بأرض الشَّام، ففيه إثبات رؤية يعقوب عليه السلام بمكانين متباعدين في وقتٍ واحدٍ، بناء على إحدى القاعدتين اللتين ذكر ناهما » . اهـ
ولا تنسى حديث جبريل وظهوره في صورة دحية، فإنَّه من شواهد ما نحن فيه وهناك أحاديث من هذا القبيل ليس لي نشاط في ذكرها الآن، على أنَّ هذا لا يمنعني أن أذكر حديثا استدل به بعض العلماء في هذا الموضوع - أو ما يقرب منه فقرأت في كتاب "المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح" للعلامة أبي العباس أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي محمد صالح الماجري المغربي مما رواه بإسناد إلى أنس بن مالك قال : لما رجعنا من غزوة تبوك قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ بالمدينة لأقوامًا ما سِرْتُمْ مَسِيرًا ولا قَطَعْتُمْ وادِيًا إلَّا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة مقيمون؟ قال: نَعَمْ، حَبَسَهُم العُذْرُ». ثُمَّ قال: هذا حديث صحيح متفق على صحته أخرجه البخاري، وفيه دلالة واضحة على إثبات الكرامات بخرق العادات، في طي الأرض والاحتجاب عن الخلق، وقد شهد لهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذلك فلا عطر بعد عروس، ولا ريب يبقى في النفوس، وليس فيه احتمال لتأويل المنكرين، ولا مجال لإبطال الملحدين الخاسرين، عافانا الله من صفة
تؤدي إلى المهالك، ورزقنا بمنه وكرمه الإيمان بذلك»، هذا كلامه. والحديث رواه البخاري عن أنس، ومسلم عن جابر، وتأويله بهذا المعنى تأويل غريب طريف، فإن صح فيكون معنى قوله: حبسهم العُذْرُ» أَنَّه .
حبس
أبدانهم الأصلية وذهبت للغزو أبدانهم الصورية، كما وقع من الملائكة يوم بدر فإنّهم شهدوا الغزوة في صورة فرسان معتجرين بعمائم، ويكون الحديث على هذا دليلا لمسألتنا؛ لأنَّه إذا كانت أبدانهم في المدينة محبوسة للمرض، ولهم أبدان أُخرى في الغزو فهذا هو التطور.
هذا ولا يفوتني أن أنبهك على خطأ وقع في "الفتاوي البزازية" من كتب الحنفية فقد جاء فيها : سُئل الزعفراني عمن يزعم أنه رأى ابن أدهم يوم التروية ورآه أيضًا في ذلك اليوم بمكة؟ قال: كان ابن مقاتل يُكفّره فيقول: من المعجزات لا من الكرامات وأمَّا أنا فأستجهله ولا أطلق عليه الكفر، وقال محمد بن يوسف يكفر، وعلى هذا ما يحكيه جهلة خوارزم: أنَّ فلان كان يُصلِّي سُنَّة الفجر بخوارزم، وفرضه بمكة».اهـ
ذلك
غلط وهو ظاهر، فالصواب: أنَّه لا كُفر ولا جهل على ما تبين من النقول التي قدمناها، وقد أشار السعد إلى رد هذا في "شرح المقاصد" حيث قال:
ظهور كرامات الأولياء تكاد تلحق بمعجزات الأنبياء، وإنكارها ليس بعجيب من أهل البدع والأهواء، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما رُوي عن إبراهيم بن أدهم أنّهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة أن من اعتقد جواز ذلك يكفر، والإنصاف ما ذكره الإمام النسفي حين سُئل عما يُحكى : أنَّ الكعبة كانت تزور أحدًا من الأولياء هل يجوز القول به؟ فقال: نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة» . اهـ كلام السعد، وهو يشير إلى ما في "الفتاوي البزازية" كما هو ظاهر. هذا ما يتعلق بالتطور إثباتًا ونفيّا، وقد علمت أنه جائز واقع، وأنَّه لا عبرة
بمن نفاه.
بقي الكلام في التكليف هل يتوجه إلى جميع الصورة أو صورة واحدة؟ ولم أرهم تعرضوا له فيها قرأت ورأيت، ولعلهم تركوه لوضوحه؛ لأنه من الواضح المعلوم أن التكليف إنما يتوجه إلى الذات الأصلية التي تدرّجت في هذه الحياة تدرجا طبيعيًا وتطورت أطوارًا معتادةً، فإليها يتوجه الخطاب وهي المقصودة بالثواب والعقاب، أما الذوات الأخرى فإنما هي ذوات مثالية تظهر عند الحاجة إليها إظهار قدرة الله تعالى وإكرامه لأوليائه، ثُمَّ تتوارى فلا يتوجه عليها تكليف أصلًا.
هذا ما عندي في هذا المقام أفدتك به، ولم أدَّخر عنك وسعا، فعسى أن
يكون مزيلًا لحيرتك، وحكما فاصلا بينك وبين من اختلفت معهم.
غير أني أرجو ألا يكون سببا في اغترارك بأولئك المريلين ومن على شاكلتهم ممن يملؤن بطونهم بأنواع المخدرات، ويتركون الصلوات وسائر الواجبات، زاعمين أنهم يؤدُّونها عند الكعبة أو غيرها من الأماكن البعيدة، فكن حذرًا متيقظًا إِلَّا فيمن تختبره بنفسك، ولا تصدق من الكرامات في هذا الوقت المظلم إلا ما رأته عيناك المرة بعد المرة بحيث يخرج عن حد المصادفة، فقد كثرت الأكاذيب في هذا الباب.
ألا ترى إلى حكاية طيران النعش بالميت كيف شاعت بمصر فقط شيوعاً كبيرا، وهي أكذوبة لا أصل لها، وقد كنت مترددًا فيها عندما سمعت بها لأول مرة، ثُمَّ لم ألبس أن جزمت بكذبها على كثرة من أخبرني بأنه شاهدها، وقد قرأت منذ خمس سنين تأليفاً لطيفًا للعارف الشعراني ألفه لبيان كذب هذه
الكرامة المفتعلة ونحى فيه باللائمة على العوام والجهلة الذين يدعون ذلك،
وأنهم لا يراقبون الله فيما يقولون، وأيم الله إنَّه لصادق.
وقد حصل أني حضرت جنازة شيخنا ختام علماء مصر المغفور له محمد بخيت رحمه الله، وبعد الصَّلاة عليه بالأزهر سِرنا خلف النعش، فادَّعى بعض من كان بجانبي أنَّه رأى النعش يطير في تلك اللحظة فأحددت نظري فلم أرَ شيئًا، فقلت له، فعاد وأكد أنه طار، ولفت نظري إلى رؤيته ثانيًا فلم أرَ شيئًا، فقال: صدقني أنه طار، فقلت: سبحان الله ترى ما لا نرى؟! وكم لها من نظير. ومن المدهش أنهم يدعون هذا الطيران لأناس كانوا في حياتهم فساقا مجاهرين، فلا أدري كيف يفهمونه؟ أكرامةٌ هو أم استدراج، أم هو أمر عادي ليس فيه ما يُستغرب؟! وإن كان عاديًا عندهم فلم لا يحصل في سائر الأقطار الإسلامية غير مصر ؟!
ألا فليتق الله هؤلاء المدَّعون وليعلموا أنَّ الميت مشغول عنهم بما هو فيه من نعيم أو غيره، وأنه لا يعود عليه من النفع بهذا الكذب المكشوف شيء، وإنما يعود عليهم إثم كذبهم وتضليلهم بحيث يضرون أنفسهم من غير أن
ينفعوا من كذبوا له، وهذه غاية الخيبة نسأل الله السلامة منها.
وليس من غرضي الاسترسال في هذا الموضوع الذي لو شئت فردت لإبطاله مقالا خاصا، ولكن غرضي التنبيه على ما كثر من الأكاذيب حول الأولياء والكرامات، مما يدعو إلى كثير من التحفظ والاحتراس مع اليقظة والتحري، وإنَّ من الحزم سوء الظن، وبالله التوفيق.
هذا ما نشرته بعددين من "مجلة الإسلام" (عدد ٣١ صادر يوم الجمعة ٨
من شعبان سنة ١٣٥٨ وعدد ۳۳ صادر يوم الجمعة ٢٢ من شعبان سنة ١٣٥٨) سوى قصة الشيخ موسى الطيار مع أبي مدين، فإني ألحقتها الآن، وقد قرأه أهل العلم حين ظهوره في المجلة واستحسنوه، ووجدوه مبنيا على الجواز العقلي، ومؤيدا بالوقائع المنقولة بطريق الإثبات إلا الوهابية الجهلة؛ فإن عقولهم قصرت عن فهم ما فيه، ومداركهم ضاقت عن إدراك ما اشتمل عليه. وكتب الشيخ النجدي - أحد دعاتهم في كتيب له سماه: "كيف ذل المسلمون؟" يُعلّق عليه بكلام كله سفه وإفذاع، وبألفاظ متخيرة من قاموس الشتائم لا تليق إلا بأمثاله المجرمين السفهاء، وبنى عليه لوازم وإلزامات لا تلزم إلا في عقله المختل، ولو جاء هذا البحث عن طريق الغربيين الذين أثبتوا أخيرًا إمكان تجسد الروح، وظهورها في مكان بعيد عن مكان الجسم الأصلي، ومخاطبتها في الأمور المختلفة عن طريق تحضير الأرواح الذي كتبوا فيه المؤلفات العديدة لكان أول من يدعو إلى تصديقه وتأييده، ولظلت عنقه خاضعة له لا ينبس فيه ببنت شفة شأنه في ذلك شأن أشكاله قليلي الدين ضعفاء الإيمان الذين يستبعدون كثيرًا من المعجزات والكرامات ويصدقون ما يرد عن الغربيين ولو كان أشبه بالخيال منه بالواقع، ولقد سمعت بعض المفتونين يقول عن نظرية داروين الباطلة بالبداهة: إذا أثبتها العلم الحديث وجب تأويل القرآن ليوافقها !!
ومن
العجب أن تجد ذلك المجرم النجدي يتطاول في كتيبه المذكور على علماء المسلمين أحياء وأمواتاً، ويسوّد صحيفته بشتمهم وإيذائهم، وبلغ في
أعراضهم الطاهرة، ويذمُّ كتبهم أقبح ذمّ كأن بينه وبينهم ثأرا، ثُمَّ تراه في نقده
لكتاب "حياة محمد" يردُّ بذوق وأدب ولا يذكر المردود عليه إلا بـ(حضرة الدكتور) فما السبب في هذا؟!
قد يقول قائل : سبب هذا أنَّ أولئك العلماء الفضلاء أغلبهم ذهب إلى ربه لا يُخشى منهم ضرر بخلاف مؤلف "حياة محمَّد" فإنَّه لا يزال على قيد الحياة، وبسبيل أن يلي المناصب الحكومية التي يستطيع بسببها أن يقتص من المجرم
النجدي إن سمع أ أنه شتمه و آذاه.
وربما يذكر هذا القائل في تقييد السبب الذي أبداه: أن هذا النجدي الأثيم كان طالبا برواق الحرمين، ثُمَّ تطاول على فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ يوسف الدجوي - رحمه الله - في رده عليه، فطرد من الأزهر وحرم بدل الجراية الذي كان يستعين به، فهو لذلك يخشى أن يقع له حادث يماثل هذا؛ لأنه جبان حقير يخاف ولا يستحي، وهذا سبب صحيح معقول.
وعندي سبب آخر ينبغي أن يُضم إليه ؛ إذ الأسباب يجوز تعددها، ذلك أنَّ أولئك العلماء الذين ولغ في عرضهم هذا النجدي الدنيء يحبون النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويعطّرون كتبهم ومجالسهم بالثناء عليه، ويذكرون فضل
هدايته على العالم، ويتقربون إلى الله بذكر معجزاته وشمائله، ويتشرفون بالانتساب إلى خدمة جنابه العظيم بخلاف صاحب كتاب "حياة محمد" فإنَّه نفى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جميع المعجزات غير القرآن، وأوَّل الإسراء تأويلا يُخالف ما دلّ عليه القرآن وصرحت به السنة، ويُباين ما يعتقده المسلمون، وصرح بعدم الاعتماد على الأحاديث النبوية إلا بقدر ما يوافق القرآن - في رأيه طبعًا - مُستندًا إلى حديث مكذوب جاء فيه: «اعرضوا حديثي
على القرآن، فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله».
وأتى بطامات سبق إلى بعضها الغربيون واخترع باقيها من قبل نفسه، وهذا المسلك يرضى عنه ذلك الوغد النجدي من حيث إنَّه ليس فيه مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ولا تعظيم له إلا بقدر محدود يراه اعتدالًا، ويرى
كلام القاضي عياض ، والبوصيري، والقسطلاني غلوا وإفراطا، بل يعد بعضه داخلا في باب التخريف. ولقد سألني مرة متهكما كيف كان محمد نورًا مع العلم بأنه خلق من نطفة كسائر الناس وكان من لحم ودم؟ فلم أجبه عن هذا السؤال الذي يدل على غل في قلبه، وسائر كلامه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على ذلك، فإني ما سمعته يذكر اسمه إلَّا مجرَّدًا عن السيادة والصلاة، ويمثل به في أقبح الأشياء. تذاكرنا مرة في معنى الظلم هل هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه، أو وضع الشيء في غير موضعه؟ وكان من رأيه اختيار الثاني، فقال يستدل عليه: لو لم يكن الظلم ما ذكر لكان محمد في أطباق النيران، وفرعون في الفردوس، من غير أن يكون في ذلك ظلم !!!! فانظر إلى بشاعة هذا التمثيل وخطأ الاستدلال، وقد كان يمكنه أن يذكر لفظ المؤمن أو الطائع أو المتقي، فإنه يؤدي المعنى المقصود من غير أن يمس الجناب النبوي بشيءٍ ولكنه الغِل يغلي في قلبه على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فيظهر أثره على لسانه. وقد أخبرني الشيخ يوسف الزواوي أنه سأل هذا الوغد النجدي عن حملة النجديين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: أجيبك
سبب
بصراحة هو الذي بدأنا بالعداوة! يُشير بهذا إلى ما جاء في "صحيح البخاري" وغيره عن ابن عمر قال: ذكر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمينا، قالوا: يا رسول الله وفي نَجْدِنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شَامِنا، اللهم بارك لنا في يمينا، قالوا: يا رسول الله وفي نَجْدِنا؟
فأظُنُّه قال في الثالثة: هناك الزَّلازِلُ والفتن وبها يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيطان».
وهذا الحديث صريح في الإشارة إلى هذه الفئة الضالة، التي ظهر قرنها في نجد، وأظهر خلاف المسلمين واستباح غزوهم وقتلهم، إلى آخر ما هو معروف، فلا تطيل به.
ولهذا الوغد النجدي رسالة سماها: "مشكلات الأحاديث النبوية والجواب عنها" ما جمعها إلَّا ليجيب عن هذا الحديث الذي أظهر للناس نواياهم، ووصمهم وصمة لا تمحى إلى آخر الدهر، ولو ذهبت أعد مخازي هذا النجدي من تهاونه في الصلاة، وكذبه في المناقشات العلمية، ووقاحته وجرأته على الله ورسوله أعياني العد فأكتفي بهذا القدر الكافي في التحذير والاستبصار مع رعاية جانب الاختصار، وبالله التوفيق.
الفصل الثامن
فيما أكرم الله به أولياءه من رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم
واجتماعهم به في اليقظة وأخذهم عنه.
وهذا مطلب عزيز نفيس خفي على كثير من الناس فأنكروه واستبعدوا وقوعه، وهو لعمر الله سائغ في قضايا العقول، واقع بصحيح المنقول، كما بينه الحافظ السيوطي وابن مغيزل وغيرهما، والأصل فيه ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثَلُ الشَّيطان بي».
قال البخاري: قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته».
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بصفته المعلومة إدرالاً على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإنَّ الصواب أنَّ الأنبياء لا تُغيّرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقةً وإدراك الصفات إدراك المثل» . اهـ
وقوله: «فسيراني في اليقظة اختلف العلماء في تأويله فقيل : معناه فسيراني في القيامة، وتُعقب بأنه لا فائدة لهذا التخصيص؛ لأنَّ كلَّ أمته يرونه يوم القيامة، وقيل: المراد به من آمن به في حياته ولم يره لكونه غائبًا عنه، فيكون مبشرا له بأنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته.
وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في شرحه للأحاديث التي اختصرها من البخاري: «هذا الحديث يدل على أن من رآه في النوم فسيراه في اليقظة، وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته أو هذا كان في حياته؟ وهل ذلك لكل من رآه
مطلقا أو خاص بمن فيه الأهلية والإتباع لسنته عليه السلام؟ اللفظ يعطي العموم، ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلى الله عليه وآله وسلَّم فمتعسف. وقد وقع من بعض الناس عدم التصديق بعمومه، وقال على ما أعطاه
عقله: كيف يكون من قدمات يراه الحي في عالم الشاهد ؟!
وفي هذا القول من المحذور وجهان خطران أحدهما: عدم التصديق لقول الصادق عليه الصَّلاة والسلام الذي لا
ينطق عن الهوى.
والثاني: الجهل بقدرة القادر وتعجيزها، كأنه لم يسمع في سورة البقرة قصة
البقرة وكيف قال الله تعالى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة: ٧٣]، وقصة إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام في الأربعة من الطير، وقصة عزير، فالذي جعل ضرب الميت ببعض البقرة سببا لحياته، وجعل دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام سببًا لإحياء الطيور، وجعل تعجب عزيرا سبباً لموته وموت حماره ثُمَّ لإحيائهما بعد مائة سنة، قادر أن يجعل رؤيته صلَّى الله عليه وآله وسلم في النوم سببا لرؤيته في اليقظة.
وقد ذكر عن بعض الصحابة - أظنه ابن عباس رضي الله عنهما- أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فتذكَّر هذا الحديث، وبقي يُفكر فيه، ثُمَّ دخل على بعض أزواج النبي أظنها ميمونة، فقصَّ عليها قصته، فقامت وأخرجت له مراته صلى الله عليه وآله وسلم قال: رضي الله عنه فنظرتُ في المرآة فرأيتُ
صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم أرَ لنفسي صورة. وقد ذكر .
عن جماعة من السلف والخلف ممن كانوا رأوه صلَّى الله عليه وآله
وسلم في النوم وكانوا ممن يُصدِّقون بهذا الحديث- فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم بتفريجها ونصَّ لهم على الوجوه التي يكون منها فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص.
قال: والمنكر لهذا لا يخلو إما أن يصدق بكرامات الأولياء أو يكذب بها، فإن كان ممن يُكذِّب بها فقد سقط البحث معه، فإنه يُكذِّب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة وإن كان مصدقًا بها، فهذه من ذلك القبيل؛ لأنَّ الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي والسفلي، فلا ينكر هذا التصديق بذلك اهـ كلامه.
مع
ونقل الحافظ في "فتح الباري" بعضه، وقال عقبه ما نصه: «وهذا مشكل جدا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكّر عليه أنَّ جمعا جما رأوه في المنام، ثُمَّ لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة؛ وخبر الصادق لا يتخلف.
وقد اشتدَّ إنكار القرطبي على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته، ثُمَّ يراها كذلك في اليقظة كما تقدَّم قريبا، وقد تفطّن ابن أبي جمرة لهذا، فأحال بما قال على كرامات الأولياء، فإن يكن كذلك تعيَّن العدول عن العموم في كل راء، ثُمَّ ذكر أنه عام في أهل التوفيق وأمَّا غيرهم فعلى الاحتمال؛ فإنَّ خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء كما يقع للصدِّيق بطريق
الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة» . اهـ ويُجاب عن الإشكال: بأنَّ الصحبة إنها تثبت بالرؤية المتعارفة المعهودة على
قيد الحياة، حتى إنَّ الحافظ نفسه رجّح عدم ثبوت الصحبة لمن رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مينا قبل أن يُدفن، والرؤية التي تحصل للأولياء هي على سبيل خرق العادة، فلا تثبت بها صحبة ولا ينبني عليها حكم شرعي كما لا يخفى، وكون الجمع الجم لم يذكروا أنهم رأوه في اليقظة بعد رؤياهم له في المنام لا يدلُّ على عدم حصولها كما هو ظاهر، ولو سُلَّم فلا بد من حصول الرؤية ولو عند الاحتضار، فلا تفارق روحه جسده حتى يراه عليه الصَّلاة والسَّلام وفاء بوعده. كما قال الحافظ السيوطي مثل ذلك في حقٌّ العامة: «وعبارته وقوله - يعني ابن أبي جمرة - إنَّ ذلك عام وليس بخاص بمن فيه الأهلية، والاتباع لسنته عليه الصَّلاة والسلام مراده وقوع الرؤية الموعود بها في اليقظة على الرؤية في المنام ولو مرَّةً واحدةً تحقيقا لوعده الشريف الذي لا يُخلف، وأكثر ما يقع ذلك للعامة قبل الموت عند الاحتضار فلا تخرج روحه من جسده حتى يراه وفاء بوعده، وأما غيرهم فتحصل لهم الرؤية في طول حياتهم إمَّا كثيرًا وإما قليلا
بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة، والإخلال بالسنة مانع كبير». اهـ وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب "المنقذ من الضلال": «ثُمَّ إنني لما فرغت من العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، والقدر الذي أذكره لينتفع به : أنني علمت يقينًا أنَّ الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصَّةً، وأنَّ سيرهم وسيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو مُجمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليُغيّروا شيئًا من سيرهم وأخلاقهم ويُبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا، فإنّ جميع حركاتهم وسكناتهم في ظواهرهم وبواطنهم
مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور
يستضاء به».
إلى أن قال: «حتى إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد، ثُمَّ يترقى الحال من
مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق» . اهـ
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "قانون التأويل": «ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للإنسان طهارة النفس في تزكية القلب، وقطع وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس، والإقبال على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرًا كُشفت له الحُجُب، ورأى
العلاقة
الملائكة وسمع أقوالهم، واطلع على أرواح الأنبياء وسمع كلامهم». قال: «ورؤية الأنبياء والملائكة وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة، وللكافر عقوبة». اهـ
قال ابن الحاج في "المدخل": «رؤية النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في اليقظة باب ضيق وقل من يقع له ذلك، إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان بل عدمت غالبا - مع أنا لا تُنكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في ظواهرهم وبواطنهم، وقد أنكر بعض علماء الظاهر رؤية النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في اليقظة، وعلَّل ذلك بأن قال: العين الفانية لا ترى العين الباقية،
والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في دار البقاء والرائي في دار الفناء. وقد كان سيدي أبو محمد رحمه الله يحل هذا الإشكال ويردُّه: بأنَّ المؤمن إذا مات يرى الله وهو لا يموت، والواحد منهم يموت في اليوم سبعين مرة» . اهـ
وقال القاضي شرف الدين هبة الله بن عبدالرحيم البارزي في كتاب "توثيق عرى الإيمان": قال البيهقي في كتاب "الاعتقاد": الأنبياء بعد ما قبضوا رُدَّت إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم ليلة المعراج جماعة منهم وأخبر - وخبره صدق- أنَّ صلاتنا معروضة عليه وأنَّ سلامنا يبلغه، وأنَّ الله تعالى حرَّم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء.
قال البارزي: وقد سمع من جماعة من الأولياء في زماننا وقبله: أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في اليقظة، وقد ذكره الإمام شيخ الإسلام أبو
البيان نبأ بن محمد بن محفوظ الدمشقي في "نظيمته".اهـ
وقال الشيخ أكمل الدين البابرتي الحنفي في شرح "مشارق الأنوار" في الكلام على حديث من رآني في المنام... إلخ : الاجتماع بين الشخصين يقظةً ومناما لحصول ما به الاتحاد وله خمسة أصول كلية: الاشتراك في الذات، أو في صفة فصاعدًا، أو في الأفعال، أو في المراتب، وكل ما يتعقل من المناسبة بين شيئين أو أشياء لا يخرج عن هذه الخمسة، وبحسب قوته على ما به الاختلاف وضعفه يكثر الاجتماع ويقل، وقد يقوى على ضده فتقوى المحبة بحيث يكاد الشخصان لا يفترقان وقد يكون بالعكس، ومن حصل الأصول الخمسة
وثبتت المناسبة بينه وبين أرواح الكمل الماضين اجتمع بهم متى شاء» . اهـ ونقل الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في "رسالته"، والشيخ عفيف الدين اليافعي في "روض الرياحين" عن الشيخ الكبير قدوة العارفين أبي عبدالله القرشي قال: «لما جاء الغلاء الكبير إلى ديار مصر توجّهتُ لأن أدعو، فقيل لي : لا تدع فما
يُسمع لأحدٍ منكم في هذا الأمر ،دعاء، فسافرت إلى الشام فلما وصلت إلى قرب ضريح الخليل عليه الصَّلاة والسَّلام تلقاني الخليل، فقلت: يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر، فدعا لهم ففرج الله عنهم.
قال اليافعي: قوله: «تلقاني «الخليل قول حق لا يُنكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماء والأرض وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات، كما نظر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم إلى موسى عليه السَّلام في الأرض ونظره أيضًا هو وجماعة من الأنبياء في السموات وسمع منهم مخاطباتٍ، وقد تقرّر أنَّ ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي . اهـ ونقل سراج الدين بن الملقن في "طبقات الأولياء" عن الشيخ عبدالقادر الكيلاني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قبل الظهر، فقال لي: يا بني لو لا تتكلَّم؟ قلت: يا أبتاه أنا رجل أعجمي كيف أتكلم على فصحاء بغداد؟ فقال: افتح فاك، ففتحته فتفل فيه سبعا وقال: تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فصليت الظهر وجلست وحضرني
خلق كثير فارتج عليَّ، فرأيت عليا رضي الله عنه قائما بإزائي في المجلس، فقال لي: يا بني لو لا تتكلَّم؟ فقلت: يا أبتاه قد ارتج عليَّ، فقال: افتح فاك، ففتحته فتفل فيه ستا، فقلت: لم لا تكملها سبعًا، قال: أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ توارى عنِّي، فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها ترجمان اللسان فتُشترى بنفائس أتمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع».
وقال ابن الملقن أيضًا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: «كان
كثير الرؤية لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقظة ومناما».
وقال كمال الدين الأدفوي في "الطالع "السعيد" في ترجمة الصفي أبي عبدالله محمد بن يحيى الأسواني نزيل أخميم من أصحاب أبي يحيى بن شافع - كان مشهورًا بالصلاح وله مكاشفات وكرامات كتب عنه ابن دقيق العيد، وابن النعمان، والقطب القسطلاني، وكان يذكر أنه يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتمتع به».
وقال الشيخ عبدالغفار بن نوح القوصي في كتابه "الوحيد": «من أصحاب الشيخ أبي يحيى أبو عبد الله الأسواني المقيم بأخميم، كان يخبر أنه يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في كل ساعة حتى لا تكاد تمر ساعة إلا ويخبر عنه .
وقال الشيخ عبدالغفار في "الوحيد" أيضًا: «كان للشيخ أبي العباس المرسي وصلة بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، إذا سلَّم على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ردَّ عليه السلام ويجاوبه إذا تحدث معه».
وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في "لطائف المنن": «قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي: يا سيدي صافحني بكفّك هذه؛ فإنك لقيت رجالا وبلادا، فقال الشيخ: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وقال الشيخ: لو حُجب عني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين.
وقال الشيخ صفي الدين بن أبي المنصور في "رسالته"، والشيخ عبدالغفار
في "الوحيد": «حكي عن الشيخ أبي الحسن الوناني قال: أخبرني أبو العباس الطنجي قال: وردت على سيدي أحمد بن الرفاعي فقال لي: ما أنا شيخك، شيخك عبدالرحيم بقنا، فسافرت إلى قنا، فدخلت على الشيخ عبدالرحيم فقال لي: عرفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: لا، قال: رُح إلى بيت المقدس حتى تعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحين وضعت رجل وإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرجعت إلى الشيخ فقال: عرفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: نعم، قال: الآن كملت طريقتك، لم تكن الأقطاب أقطابا،
والأوتاد أوتادا، والأولياء أولياء إلا بمعرفته صلَّى الله عليه وآله وسلم». وقال في "الوحيد": "وممن رأيته بمكة الشيخ عبدالله الدلاصي: أخبرني أنه لم تصح له صلاة في عمره إلا صلاة واحدة، قال: وذلك أني كنت بالمسجد الحرام في صلاة الصبح فلما أحرم الإمام وأحرمت أخذتني أخذة فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يصلي إماما وخلفه العشرة فصليت معهم - وكان ذلك في سنة ثلاث وسبعين وستمائة - فقرأ صلى الله عليه وآله وسلم في الركعة الأولى: (سورة المدثر)، وفي الثانية (عم يتساءلون)، فلما سلم دعا بهذا الدعاء: اللهم اجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، لا طمعا في برك ولا رغبة فيما عندك؛ لأن لك المنة علينا بإيجادنا قبل أن لم نكن، فلك الحمد على ذلك لا إله إلا أنت، فلما فرغ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سلَّم الإمام، فعقلت تسلیمه فسلمت». وقال الشيخ صفي الدين في رسالته: رأيت الشيخ الجليل الكبير أبا
عبدالله القرطبي، أجل أصحاب الشيخ القرشي، وكان أكثر إقامته بالمدينة النبوية، وكان له بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلة وأجوبة ورد للسلام، وحمله رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رسالة للملك الكامل وتوجه بها إلى مصر وأداها وعاد إلى المدينة».
وقال ابن فارس في كتاب "المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية": عليا رضي الله عنه يقول: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ
سمعت سيدي القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب فأتيته يوما فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يقظةً لا منامًا وعليه قميص أبيض قطن، ثُمَّ رأيت القميص علي، فقال لي: اقرأ، فقرأت عليه (سورة والضحى)، و(ألم نشرح)، ثُمَّ غاب عنّي، فلما بلغت إحدى وعشرين سنة أحرمت لصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبالة وجهي فعانقني وقال لي: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِتْ [الضحى: ١١] فأوتيت لسانه من ذلك الوقت».
وقال الشيخ برهان الدين البقاعي في معجمه": «حدثني الإمام أبو الفضل بن أبي الفضل النويري: أن السيد نور الدين الأيجي -والد الشريف
عفيف الدين لما ورد إلى الروضة الشريفة وقال: السلام عليك أيها النبي قائلا كان بحضرته من القبر يقول: وعليك
ورحمة الله وبركاته،
السلام يا ولدي».
سمع من
وقال الحافظ محبُّ الدين بن النجار في "تاريخه ": «أخبرني أبو أحمد داود بن علي بن محمد بن هبة الله بن المسلمة: أنا أبو الفرج المبارك بن عبدالله بن محمد بن النقور قال : حكى شيخنا أبو نصر عبدالواحد بن عبدالملك بن محمد بن أبي سعد
الصوفي الكرخي قال: حججت وزرت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فبينا أنا جالس عند الحجرة إذ دخل الشيخ أبو بكر الديار بكري ووقف بإزاء وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقال: السلام عليك يا رسول الله، فسمعت صوتا من
داخل الحجرة: وعليك السلام يا أبا بكر، وسمعه من حضر».
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن موسى بن النعمان في كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" - وهو موجود بدار الكتب المصرية: «سمعت يوسف بن علي الزناتي يحكى عن امرأة هاشمية كانت مجاورة بالمدينة، وكان بعض الخدام يؤذيها قالت: فاستغثت بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسمعت قائلا من الروضة يقول : أما لكِ في أسوة؛ فاصبري كما صبرت أو نحو هذا
قالت: فزال عني ما كنت فيه، ومات الخدام الثلاثة الذين كانوا يؤذونني». وأخبرني مولانا الوالد رحمه الله وأثابه رضاه-: أنَّ الإمام الشاطبي لما حج وزار، التزم أن يقرأ القرآن بالقراءات عند الروضة الشريفة، فلما أتمه سمع قائلا من داخل القبر يقول: بارك الله فيك يا شاطبي هكذا أُنزل علي». وأخبرني الشيخ محمد راغب بن الحاج محمود بن الشيخ هاشم الطباخ قال: أخبرني الشيخ الأجل محمد كامل بن أحمد بن عبدالرحمن الحلبي: أخبرني والدي، عن والده - شيخ القراء والمحدثين في عصره الشيخ عبدالرحمن بن موفق الدين عبد الله بن الشيخ العلامة بن عبدالرحمن بن عبدالله الحنبلي الحلبي الشامي - عن والده الشيخ عبدالرحمن :قال أخبرني العلامة السيد يوسف الحسيني الحنفي: أخبرني السيد الشريف المحدّث الثقة المعمر الشيخ أحمد بن السيد عبدالقادر الرفاعي المكي: أخبرني مفتي تونس العالم الفاضل المحقق
ΕΛΕ
بقية السلف أبو العباس السيد أحمد بن السيد حسن الشريف التونسي المالكي أخبرنا شيخنا جمال الدين القيرواني، عن شيخه الشيخ يحيى الحطاب المالكي، أخبرنا عمي بركات عن والده وأخبرني والدي الشيخ محمد الحطاب، عن والدهما الشيخ محمد بن عبدالرحمن الحطاب شارح "مختصر خليل المالكي" قال: مشينا مع شيخنا العارف بالله الشيخ عبد المعطي التونسي لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلما قربنا من الروضة الشريفة ترجلنا ومعنا الشيخ، فجعل -رحمه الله تعالى - يمشي ويقف حتى وصلنا إلى الروضة الشريفة، فجعل الشيخ - نفعنا الله به - يتكلم وهو مواجه لقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرفنا من الزيارة سألناه عن سبب وقفاته، فقال: كنت أطلب من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم القدوم عليه، فإذا قال: أقدم يا عبدالمعطي قدمت، وإلا انتظرت قال: فلما وصلت إلى الروضة قلت: يا رسول الله أكُل ما رواه البخاري عنك صحيح؟ فقال: صحيح، فقلت: أرويه عنك يا رسول الله؟ فقال: اروه عنّي».
وقال الشيخ العلامة أبو العباس الهلالي في "فهرسته": «إنَّ الشيخ سيدي محمد العربي التلمساني كان لا يأذن في قراءة "دلائل الخيرات" إلا لمن كان غير شارب الدخان، وكان يقول : إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم شرط عليه ذلك وكان ممن يراه يقظة».
وقال الشيخ اليفرتي في "صفوة ما انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر": أنَّ مولاي عبدالله بن علي بن طاهر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عشبة الدخان؟ وكان ممن يراه يقظةً، فقال له: هي حرام، هي حرام، هي حرام».
وممن كان يرى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقظة ويسأله عما أشكل عليه القطب الكبير والعارف الشهير الشريف سيدي عبدالعزيز بن مسعود الدباغ الحسني تجد ذلك في عدة مواضع من كتاب "الإبريز"، وكذلك القطب الكبير سيدي علي الجمل الحسني، وتلميذه شيخ الأولياء مولاي العربي الدرقاوي الحسني، وتلميذه الولي الكامل سيدي محمد البوزيدي الغماري الحسني، كانوا يرون النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ويجتمعون به ويسألونه عن كل ما يهمهم، وكذلك غيرهم من كمل الأولياء ممن لا يحصون كثرة كابن العربي الحاتمي، والسيوطي، والشعراني رضي الله أجمعين وأنالنا مما أعطاهم بفضله وكرمه آمين.
عنهم
وقد عقد العلامة الصالح الشيخ يوسف النبهاني - رحمه الله وأثابه رضاه - الباب التاسع من كتاب "سعادة الدارين" في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يقظة ومناما، فجلب من النقول عن العلماء والأولياء ما تقرُّ به أعين المؤمنين، جزاه الله خير الجزاء.
9999
فهرس الموضوعات
فَتْحُ المعين فِي نَقْدِ كِتابِ الْأَرْبَعِين
الفهرس
تمهید
مقدمة
نقد باب: إيجاب قبول صفة الله تعالى.
نقد باب: الرد على من رأى كتمان أحاديث صفات الله تعالى ١٤
نقد باب: أنَّ الله تبارك وتقدَّس وتعالى شيءٌ .
نقد باب: بيان أنَّ الله عزَّ وجلَّ شخص .
نقد باب: إثبات النَّفْس الله عزّ وجلَّ. نقد باب: الدليل على أنه تعالى في السماء . نقد باب: وضع الله عزّ وجلَّ قدمه على الكرسي . نقد باب: إثبات الحمد لله عزّ وجلَّ .. نقد باب: في إثبات الجهات الله عزّ وجلَّ. نقد باب: إثبات الصورة له عزّ وجل
نقد باب: إثبات العَيْنَين له تعالى وتقدَّس . نقد باب: إثبات اليدين الله عزّ وجلَّ.. نقد باب خلق الله الفردوس بيده
نقد باب: إثبات الخط الله عزَّ وجلَّ نقد باب: أخذ الله صدقة المؤمن بيده.
نقد باب: إثبات الأصابع الله عزّ وجل. نقد باب: إثبات الضحك الله عزّ وجل نقد باب: إثبات القَدَم الله عزّ وجلَّ.
و الدليل على أنَّ القَدَم هو الرجل . نقد باب: إثبات الهرولة لله عزّ وجل
نقد باب: إثبات نزوله إلى السماء الدنيا .
نقد باب: إثبات رؤيتهم إياه عزَّ وجلَّ في الجنة .
خاتمة فيها مسائل: المسألة الأولى: الأحاديث الصحيحة في هذا الباب -يعني
في باب الصفات - على ثلاث مراتب
المسألة الثانية: كلام ابن الجوزي في الردّ على المشبهة والمجسمة من الحنابلة ٤٤
المسألة الثالثة: وصف السبكي في طبقات الشافعية" للهروي بأنه مُجسم ومُشبّه .
المسألة الرابعة للكلام العربي معانٍ أوائل، ومعانٍ ثوان . ٢ - النَّقْدُ المتين لكتابِ الفَتْحِ المبين
المقدمة وسبب تأليف الرسالة
الصفات التي هي أصل الإيمان . الصفات التي تقبل التأويل . ليس التمسلف مَذهبًا .
الفرق بين التنزيه والتشبيه .
مقدمة
التَّحْقِيقُ البَاهِرُ فِي مَعْنَى الإيمان بالله واليومِ الآخِر
أقوال المفسرين في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ﴾ الآية ... ٦٤
حقيقة الإيمان لا تقبل التجزئة .
الزامات للمخالف.
الإشارة إلى تلازم أجزاء الإيمان في تفسير الجلالين
الحكمة في الاقتصار على الإيمان باليوم الآخر في آية (البقرة) ٧٤
كُفْر من اعتقد نجاة غير المسلم يوم القيامة .
خاتمة
اسْتِمْدَادُ العَوْن لإثباتِ كُفْرِ فِرْعَونَ
خطبة الكتاب .
القول بإيمان فرعون لم يصح عن ابن العربي أو أحد من السلف .
الأدلة على كفر فرعون
رد القول بأن فرعون آمن في حال الاضطرار.
حديث أن جبر