بسم الله الرحمن الرحيم
موسوعة الحافظ عبد الله في 133 لغة

(١٣٢٨ - ١٤١٣هـ ) رحمه الله تعالی

المجلد الثالث : كتاب الإيمان
ويحتوي على:

١ - أولياء وكَرَامَات «النَّقْدُ المُبرَم لِرِسالَةِ الشَّرَفِ المُحَتَّم». ۲ - إِقَامَةُ البُرهان على نُزول عيسى عليه السلام آخرِ الزَّمانِ. ٣- عَقيدَةُ أَهْلِ الإسْلامِ في نُزول عيسى عليه السلام آخرِ الزَّمانِ. ٤ - المهدي المنتظر.

1 - أولياء وكَرَامَات

النَّقْدُ المُبْرَمُ لِرِسَالَةِ " الشَّرَفِ المُحَتَّم "

هذا كتاب كاشف المسائل تَخفَى على الحداق والفُطَنَاءِ يَنْفِي غُلُوا قد أُضِيفَ جَهَالةً لجماعةِ الفُضَلاءِ والصَّلَحَاءِ فالأولياء لهم كَرَامَاتٌ أَنت حقابِلا نُكْرٍ ولا غُلَوَاءِ لكنها لا تنتهي أبدا إلى ما قَدْ يَفُوقُ تَصَرُّرَ العُقَلاءِ أَعْنِي مُحَالًا لا تكونُ كَرَامَةٌ كلَّا ولا كَذِبًا على النُّجَبَاءِ

أولياء وكرامات

۱۱

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مظهرِ الحَقَّ ومُعلِيه، ومُدْحِضِ الباطِلِ وتُحفيه، والصَّلاة والسَّلام

على سيدنا محمد الذي جاء بالصدق وأرشد إليه، ونهى عن الكذب وأخبر بوجوب اللعنة عليه، ورضي الله عن آله الكرام وصحابته الأعلام، وعمن نهج نهجهم في التمسك بالصدق والتزام قول الحق، لا يبغون به بديلًا ولا يتخذون غيره سبيلا، ممثلين قول الله: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ

الصَّدِقِينَ } [التوبة: ١١٩].

أما بعد: فقد وقفت - وأنا في سنّ الطلب على رسالة منسوبة للحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى - اسمها: "الشَّرف المُحَرَّم فيما منَّ الله به على وليه السيد أحمد الرفاعي من تقبيل يد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم"، فلم أُعِرُها كبير اهتمام، بل قبلت ما جاء فيها بالإذعان والاستسلام، ولما قرأت علم الأصول وتمكنت فيه وعرفت قوادمه من خوافيه، أدركت بطلان تلك الكرامة التي ألفت الرسالة لإثباتها، ونبَّهتُ في كتابي: "مصباح الزجاجة في صلاة الحاجة" على ذلك، ثمَّ أُعيد طبع تلك الرسالة في هذه الأيام، فرأيت خطورة ما تحتويه من نسبة شيء إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يحصل منه، وهذا أمر لا يجوز السكوت عليه ولا يصح إغفاله. فأردت أن أبين في هذه الورقات كذب تلك الكرامة المفتعلة، وأبرهن على بطلانها بقاعدة أصولية لم يتنبه لها كثير من العلماء - فضلا عمَّن دونهم - كما أبين بطلان نسبة الرّسالة إلى الحافظ السيوطي رحمه الله ورضي عنه، ثم أذكر

۱۲

كتاب الإيمان

بعد ذلك كرامات نُسبت إلى عددٍ من الأولياء ولم تحصل منهم، وإنما صنعها

الأتباع والمحبون المتغالون.

والله المسئول أن يهدينا سواء السبيل، فهو حسبنا ونعم الوكيل.

أولياء وكرامات

مقدمة في ذم التغالي

۱۳

كثير من الناس إذا سمعوا بكتابي هذا ورأوه فسوف يعترضون علي، ويفوقون سهام اللوم إليَّ، وسوف يقولون عنِّي أَنِّي مِلْتُ للوهابية، أو الحدث لتعجيزي قدرة الله، أو نافقت لإنكاري بعض الكرامات، إلى غير هذا مما يتردد

على ألسنة الجهلة أعداء البحث العلمي، وأنصار الخرافات والأوهام (1). وذلك لا يُضيرني بل يُزينني عند الله وعند العلماء المنصفين؛ لأنّي نفيت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كذبًا يلحقني إثم لو لم أنفه عنه، وقد قيل ليحيى بن معين: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين جرحهتم خصماءك : القيامة؟ فقال: لأن يكونوا خصماء لي أحبُّ إليَّ من أن يكون النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم خصمي، حيث لم أُذُب عنه الكذب (٢).

يوم

والتصوف صدق في القول والعمل، وليس تلقفا للأكاذيب، ولا ترويجا لها، وأنا صوفي عقيدة ونسبا، شاذلي طريقة ومشربا، أعتقد الكرامات، ولي فيها تأليف جيد مفيد، اسمه "الحُجَجُ البيِّنات في إثبات الكرامات"، وهو مطبوع، لكن لا أؤيد الخرافات، والفرق بين الكرامة والخرافة ظاهر، يُعرف بالعرض

(۱) النَّاس في هذا الوقت لا يعرفون الاعتدال، فإما أن يعتقدوا ما يحكى عن الأولياء جميعه، لا يفرقون بين عنه وسمينه، وإذا أنكر الشَّخص بعض الكرامات التي اقتضى الدليل بطلانها اعتبروه وهابيا وناصبوه العداء، وإما أن ينكروا الأولياء وكراماتهم جملة، ويعتبروا معتقد ذلك مُحرّفًا كبيرًا، والحق خلاف هذين الطريقين.

(۲) وقال يحيى أيضا: نحن نجرح أناسًا لعلهم حطوا رحالهم في الجنة منذ زمان. يعني أنهم كانوا صالحين.

١٤

به

كتاب الإيمان

نفسه

على قواعد علم الكلام والأصول، ومن لا يُحسن قواعد هذين العلمين، يحسن ، أن يسكت عن الكلام في موضوع الكرامات؛ لأنَّه إذا تكلَّم فضح : وأظهر جهله، وتعجيز قدرة الله تعالى كفر صريح ، لكن لا علاقة له بنفي ما قام الدليل على بطلانه.

أما النفاق، فحشره هنا حشو ولغو من القول؛ لأنه بأنواعه (۱) الثلاثة، أبعد ما يكون عن الكرامات بله الخرافات.

هذا ومما لا شكّ فيه أنَّ التغالي مذموم؛ لأنَّه خروج عن حد الاعتدال المقبول، و لذلك نهى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الأمة عن التغالي في شأنه فقال: «لا تُطرُون كما أَطْرَتِ النَّصارى عيسى، وقولوا عبدالله ورسوله»؛ لأنَّه عليه الصلاة والسَّلام خشي أن يحمل حبه أناسا من أمته أن يدعوا فيه الألوهية، كما ادعاها النَّصارى في عيسى عليه السلام، حيث زعموا فيه أنه ابن الله أو ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا - وقد عَصَمَ اللهُ الأمَّة المحمدية من ذلك، فلم يصفوه بأكثر مما هو وصفه، كما قال البوصيري: فَمَبْلَعُ العِلْمِ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ وأَنَّهُ خَيْرٌ خَلْقِ الله كُلَّهـ لكن تغالى كثير من النَّاس في الأولياء، فرفعوهم إلى رتبة النبوة حينًا، وإلى رتبة الألوهية حينا آخر.

من النوع الأول: جاء في الحديث عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: إنَّ الله وكل بقبري مَلَكًا أعطاه أسماء الخلائق، ليبلغني سلام مَن سلَّم عليَّ مِن

(۱) هي: نفاق كفر، ونفاق عمل، ونفاق اجتماع، وقد بينتها بأمثلتها في "خواطر دينية".

أولياء وكرامات

۱۵

أُمتي .... الحديث. وقال المتغالون في الأولياء وكذبوا-: إنَّ الله وكل بقبر كل

ولي ملكًا يقضي حاجات الزائرين المتوسلين بذلك الولي، وهذا مخالف لما قاله الصوفية أنفسهم، فقد قال القطب شمس الدين محمد الحنفي: إذا مات الولي انقطع تصرفه في الكون من الإمداد، وإن حصل مدد للزائر بعد الموت، أو قضاء حاجة، فهو من الله تعالى على يد القطب صاحب الوقت يعني الولي الحي - لأن الميت لا إمداد عنده، ولا ملك عند قبره.

و من المعلوم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم هاجر من مكة إلى المدينة

بوحي من الله تعالى.

وقال المتغالون في السَّيد أحمد البدوي: إنَّه لم يذهب من مكة إلى العراق، إلا بأمر الهاتف الذي أمره بالسفر وقال له: إنَّ لنا في ذلك شأنا، ثُمَّ رجع إلى مكة فأمره الهاتف أيضًا بالذهاب إلى طندتا، وقال له أيضًا: إنَّ لنا في ذلك شأنا، وهكذا لم يكن يتحرك السيد البدوي إلا بوحي، كما لم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يتحرك إلَّا بوحي. و من النوع الآخر : قال الله تعالى عن عيسى عليه السَّلام حاكيًا على لسانه : وَأُخِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: ٤٩].

و حكى المتغالون - وكَذَّبوا عن الشيخ جلال الدين الرومي: أنَّ أناسا كانوا يناقشونه في كرامات الأولياء، وذكروا إحياء الموتى معجزة لعيسى عليه السَّلام فذكر لهم أنه يفعل مثلها، ومرَّت بهم جنازة، فأشاروا على المشيعين بالوقوف، ثم سأل المتناقشين: كيف كان عيسى عليه السلام يحيي الموتى؟ قالوا: كان يقول للميت قم بإذن الله، فيقوم. فالتفت الشيخ جلال الدين إلى

١٦

كتاب الإيمان

الميت - وهو على النعش - فقال له : قم بإذني، فقام !!

هذه رتبة الألوهية، ولكن المتغالين والمخرّفين لا يرون فيها شيئًا، بل يحتجون لصحتها بحديث قدسي يقول: «عَبْدِي أَطِعْني أجعلُكَ ربَّانيا تقول للشيء كن فيكون». وفاتهم أمران:

1 - أنَّ هذا الحديث لا أصل له، بمعنى أنه لم يروه أحد من أهل الحديث، ولا يوجد في شيء من كتب السنة (۱).

٢ - أنَّ الله تعالى قال لعيسى عليه السلام يعدّد نعمه عليه: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ كَهَيْةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: ١١٠].

فلم يعطه رتبة قول: كن، مع أنَّه من أفضل العبيد الربانيين. نعم، أعطيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصوصيَّةٌ له، ففي غزوة تبوك رأى الصحابة شبحًا من بعيد، فقالوا: هذا شخص يريد اللحوق بنا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كُنْ أبا خَيْثَمَة» فإذا هو أبو خيثمة، وشاهدوا شبحًا

آخر، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كُنْ أبا ذر» فإذا هو أبو ذَر. أما قول ممشاد الدِّينَوَري: تركت قولي للشَّيء: «كن، فيكون»، منذ عشرين سنة أدبا مع الله عزّ وجلَّ فقد أوَّله بعض كبار الصوفية بأن معناه: أنه كان تجاب الدعوة، كلَّما دعا أجيب، ثم ارتفع عن ذلك إلى الله تعالى، فصار بمراد الله

(۱) وإنما هو من الإسرائيليات، مثل الحديث القدسي القائل: «ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن ، فهو من الإسرائيليات أيضًا.

أولياء وكرامات

لا بمراده، فترك الدعاء، وهذا التأويل متعيّن.

۱۷

وحصلت مناقشة بين وهّابي وخصمه بالمنصورة، كنت حاضرًا فيها، فقال الوهابي لخصمه : لِمَ تذهب إلى قبر الولي فتشتكي فلانا الذي ظلمك ؟ ولم لا ترفع شكواك إلى الله ؟ فردَّ عليه خصمه بقوله - وبئس ما قال: لا أشتكي إلى الله

تعالى؛ لأنه حليمٌ يُمهل ، وأشتكي إلى الولي؛ لأنَّه عجول يعطب في الحال. فعرفته خطيئته، وبيَّنت له أنَّ الله تعالى إذا أمهل شخصا ولم يعاقبه فلا يستطيع ولي ولا نبي ولا مَلَكٌ تعجيل عقوبته، والله تعالى يقول لنبيه: قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ﴾ [الأعراف: ۱۸۸]، ﴿ قُلْ إِنِّي لَن

يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ [الجن: ۲۲].

ويقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في وصيَّته لابن عباس: «واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعوا على أنْ يَنْفَعُوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك،

ولو اجتمعوا على أنْ يَضُرُّوك بشيء، لم يَضُرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك». وليس الولي إلا رجلا صالحا ترجى بركة دعائه أو بركة الاستشفاع به، أما أن

يفعل شيئًا لم يرده الله، فلا يقدر عليه هو ولا العالم بأجمعه، قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جميعا ﴾ [المائدة: ١٧].

و هذا من البديهيات في عقيدة الإسلام، لكن الجهل بالدين عم أغلب

الناس، فوقعوا في الضَّلال وهم لا يشعرون.

و هو يشتمل على فصلين

الباب الأول

الفصل الأول: إبطال حكاية تقبيل الرّفاعي يدَ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.

الفصل الثاني: في إبطال نسبة رسالة "الشرف المحتم" إلى الحافظ السيوطي.

أولياء وكرامات

۲۱

الفصل الأول

إبطال حكاية تقبيل الرفاعي يد النبي

صلى الله عليه وآله وسلم

جاء في رسالة الشَّرف المحتّم عن الشَّيخ عز الدين عمر أبي الفرج

وخمسين

الفاروثي الواسطي، قال: كنت مع شيخنا ومَفْزَعنا وسيدنا أبي العباس القطب الغوث الجامع الشيخ السيد أحمد الرفاعي رضي ا الله عنه عام خمس وخمسمائة، العام الذي قدَّر الله له فيه الحج، فلما وصل مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وقف تجاه حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال على رؤوس الأشهاد السَّلام عليك يا جدّي، فقال له صلى الله عليه وآله وسلَّم: وعليك السَّلام يا ولدي. سمع ذلك كل من في المسجد النبوي، فتواجد سيدنا السيد أحمد الرفاعي وأرعد واصفر لونه وجثا على ركبتيه، ثم قام

وبكى وأنَّ طويلا، وقال: يا جداه:

في حالةِ البُعد رُوحي كُنت أُرْسِلُها تُقَبِّلُ الأرضَ عَنِّي وهي نائبتي وهذه نَوْبَةُ الأَشْبَاحِ قَدْ حَضَرَتْ فامْدَدْ يَمْينَكَ كَيْ تَحْطَى بِهَا شَفَتِي فمدَّ له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يده الشريفة العطرة من قبره الأزهر، فقبلها في ملأ يقرب من تسعين ألف رجل، والناس ينظرون اليد

الشريفة. وكان في المسجد مع الحُجّاج الشيخ حياة بن قيس الحراني، والشيخ عدي مسافر الشامي وغيرهم، وتشرفنا معهم برؤيا اليد المحمديَّة الزَّكية، وفي يومها

۲۲

كتاب الإيمان )، واندرج

لبس الشيخ حياة بن قيس الحراني خرقة السيد أحمد الرفاعي «الكبير» (١) ، في سلك أصحابه.

ومن طريق آخر عن الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي، عن شيخه القطب الفرد الشيخ عبد القادر الجيلي، ثمَّ البغدادي، قال: كنت في محفل الكرامة التي أكرم الله بها الشيخ أحمد الرفاعي «الكبير» بتقبيل يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال اليعقوبي فقلت: أي سيدي أما حسده على هذه الكرامة من حضر من الرجال ؟ فبكى رضي الله عنه ، ثمّ قال: يا بن إدريس عليها يغبطه الملأ الأعلى. وعن الشيخ عدي بن ،مسافر وخادمه الشيخ علي بن موهوب، قالا: كنا في مسجد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، عام حجنا، وكان الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه واقفا تجاه الحجرة الطَّاهرة، وقد تكلم بكلمات ضبطها عنه جماعة، فما أتم كلامه إلا وقد مُدَّت له يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبلها ونحن ننظر مع الحاضرين، قال ابن موهوب: والله كأني بها وقد خرجت من القبر المبارك، يد بيضاء سوية طويلة الأصابع، كأنها البرق المضيء، وكأني بالحرم وأهله وقد كاد يميد، وقد كادت تقوم قيامة الناس، لما ألم بهم من الدهش والحيرة والهيبة والسُّلطان المحمدي، وقد قام الرحب وقعد

بتكبير النَّاس وصلاتهم عليه صلى الله عليه وآله وسلّم.

هذه

القصة

هي التي يعدها المتصوفة معجزة للنبي صلى الله عليه وآله

(۱) هذا الوصف يدلُّ على كذب القصة أيضًا، وأنها صنعت في عهد متأخر؛ لأنَّ الشَّيخ

أحمد بن الرفاعي لم يوصف بـ «الكبير» إلا بعد وجود الشيخ علي الرفاعي، للتمييز بينهما.

أولياء وكرامات

۲۳

وسلم، وكرامة للشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه.

والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم له معجزات كثيرة، وهو حي في قبره الشريف بدلالة القرآن والسُّنَّة والإجماع، يردُّ سلام من يسلم عليه، ويشفع

فيمن استشفع به والشيخ الرّفاعي أهل لهذه الكرامة وغيرها؛ لأنه

الأقطاب الكبار الذين نعتقد ولايتهم الكبرى.

من

بأنَّ هذه القصَّة مكذوبةٌ لا نصيب لها من الصحة، وإن ذكرها لكنا نجزم به الشيخ عبدالجواد الشربيني في كتاب درر" الأصداف في مناقب الأشراف"، والجمل في حاشية الهمزية"، والسَّيد الشبلنجي في كتاب "نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار".

غير أنه بعد أن ذكرها ، عقب عليها بقوله: «لكن المشهور بهذه الكرامة سيدي علي الرفاعي الشهير بأبي شباك (۱) الذي بمسجد ذخيرة الملك، بسوق السلاح،

تجاه مدرسة السلطان حسن ولقائل أن يقول: لا مانع من وقوعها لهما». اهـ و نجزم بأنَّ مفتعلها تحمل وزرًا كبيرًا يتبوأ به مقعدًا في نار جهنم (۲)، وبيان ذلك من وجوه

الأول: تقرّر في علم الأصول: أنَّ الخبر إذا كان تتوفّر الدواعي على نقله

(۱) فالشيخ سيد الشَّبلنجي يرجح وقوع القصَّة للشيخ علي الرفاعي، ومعنى هذا: أنَّ القصة ليس متفقا على وقوعها للشيخ أحمد الرفاعي، وتجويزه وقوعها لهما معا بعيد جدا، والقصَّة على كلتا الحالتين باطلة.

(۲) للحديث المتواتر: «مَن كَذَبَ عليَّ مُتعَمِّدًا فَلْيتبوأ مَقْعَدَهُ فِي جَهَنَّم».

٢٤

كتاب الإيمان

بالتواتر، ثم نقل بطريق الآحاد فهو مقطوع بكذبه، ومثل أهل الأصول لذلك بسقوط الخطيب عن المنبر يوم الجمعة، فإنَّ هذا الحادث لو حصل، يستدعي أن يُخبر به جميع من كان في المسجد، فإذا انفرد به ثلاثة منهم أو أربعة أو عشرة، قطعنا بأنه مكذوب، وقطعنا بأنّهم اختلقوه، أو اختلقه أحدهم ووافقه بقيتهم. ونحن إذا تأملنا تلك القصَّة، وجدناها تحكي خروج اليد الشريفة من القبر المكرم أمام جمع يقرب من تسعين ألف رجل، وأنَّ الحرم النبوي كاد يميد من الدهشة، وكادت قيامة النَّاس تقوم، وقام الرحب وقعد بتكبير النَّاس وصلاتهم على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وهذا حادث عظيمٌ خارق للعادة، شهده عدد كبير من الحجاج من مختلف الأقطار الإسلامية، فكان الواجب أن يتحدثوا عنه، فيخبر حجازيون ويمنيون ومصريون أنهم شاهدوه، وكذلك غيرهم من الفارسيين والمغربين والسودانيين

والهنديين والأتراك والأكراد وخلافهم، وأن يسجل في تواريخ المدينة المنورة. لكن لا نجد له ذكرًا في كتاب "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى"، ولا في اختصاره "خلاصة الوفا ، ولا في غيرهما من تواريخها، ولم يذكره السيد عبدالقادر الجيلي في كتبه ولا في دروسه، ولم يذكره الشعراني في "الطبقات"، مع حرصه على ذكر ما هو أقل منه. وإنما تحدث عنه أربعة أشخاص فقط عراقيان وشاميان فهذا دليل قاطع على أنه حادث مفتعل . والذي صنعه متحملا وزره نسب روايته إلى ثلاثة شيوخ أجلاء هم: عبدالقادر الجيلي، وعدي بن مسافر ، وحياة بن قيس الحراني، وهؤلاء من كبار

أولياء وكرامات

٢٥

الأولياء، فنسبة القصَّة إلى روايتهم تحمل الناس على تصديقها واعتقاد

حقيقتها.

لكنهم لم يروا هذا الحادث ولم يتحدَّثوا عنه؛ لأنه لم يقع، ولو وقع لكان غيرهم ممن شاهده أسرع منهم بالحديث عنه، فإنَّ هذا الحادث في غرابته وعظم شأنه يتسابق من يشاهده إلى إشاعته، خصوصًا الحُجَّاج ()، فإنَّهم يتحدثون عما شاهدوه في الحجاز من الأمور المعتادة، فكيف نسوا أن يتحدثوا عن هذا الأمر

الجلل ؟ !! وقد وقع حادث شبيه بهذا، تحدّث عنه من شهده وكتبوه، قال تقي الدين

المقريزي في كتاب إغاثة" الأمَّة بكشف الغُمَّة" ما نصه: «حكاية الثور الذي

أن

نطق وقع في آخر هذا الغلاء أعجوبة في غاية الغرابة لم يسمع بمثلها، وهي أ رجلا من أهل الفلح بجبة عسال - إحدى قرى دمشق - خرج بثور له ليرد الماء، فإذا عدة من الفلاحين قد وردوا الماء، فأورد الثور حتى إذا اكتفى نطق بلسان فصيح أسمع من بالمورد وقال الحمد الله، والشكر له، إنَّ الله وعد هذه سبع سنين مجدبة، فشفع لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنَّ الرسول أمره أن يبلغ ذلك، وأنّه قال: يا رسول الله فما علامة صدقي عندهم؟

الأمة

قال: أن تموت بعد تبليغ الرسالة، وأنه بعد فراغ كلامه، صعد إلى مكان مرتفع، وسقط منه ومات فتسامع به أهل القرية، وجاؤا من : كل . فأخذوا شعره وعظامه للتبرك، فكانوا إذا بخّروا به موعوكًا برئ، وعمل

حدب

(۱) شاهدنا كثيرًا من الحجاج ظلُّوا يتحدثون عما شاهدوه في حجهم بقية حياتهم.

ينسلون،

٢٦

كتاب الإيمان

بذلك محضر مثبوت (۱) عند قاضى البلد، وحمل إلى السلطان بمصر، فوقف

عليه الأمراء، واشتهر بين الناس خبره، وشاع ذكره» . اهـ

وذكر هذا الحادث أيضًا في كتاب "السلوك المعرفة دول الملوك". هذا حادث وقع في قريةٍ من ريف دمشق، حضره عدة من الفلاحين، لا يتجاوزون مائة ومع ذلك عمل به محضر عند القاضي، وحمل إلى السلطان

بمصر، وسجله المؤرخ المقريزي في كتابين من كتبه.

فكيف لم يسجل حادث الشيخ الرفاعي وهو أغرب من هذا الحادث وأعجب، وأرفع منه وأشرف؟!

يضاف إلى ذلك أنه وقع في المدينة المنورة - قبلة الإسلام- وفي مسجدها النبوي -ثاني الحرمين - أمام عدة آلاف من المسلمين حضروا من مختلف بقاع

الأرض.

الوجه الثاني: أن رواة القصَّة لم يتفقوا على سياقها، بل اختلفوا فيه اختلافا يقضي ببطلانها، فبينما يقول عزّ الدين الفاروثي عن الشيخ أحمد الرفاعي: وقف تجاه حُجرة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وقال على رءوس الأشهاد: السلام عليك يا جدي، فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «وعليك السلام يا ولدي، سمع ذلك كل من في المسجد النبوي.

إذا بالشيخ عدي بن مسافر وتلميذه علي بن موهوب يقولان: كان الشيخ أحمد الرفاعي واقفًا تجاه الحُجرة الطَّاهرة، وقد تكلم بكلمات، ضبطها عنه

(۱) كذا، والصواب: مُثْبَت - بضم الميم وفتح الباء - لأنَّه من أثبت، أما ثبت الثلاثي فلازم.

أولياء وكرامات

۲۷

جماعة - يقصدان بيتي الشعر - فما أتم كلامه إلا وقد مُدَّت له يد رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلم، فقبلها ونحن ننظر مع الحاضرين.

فلم يذكرا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقد سمعه : ه كل من في

المسجد النبوي! وهو لا يقل غرابة وعجبًا عن خروج اليد الشريفة من القبر،

بل هو الذي شجع الشيخ على إنشاء البيتين، فكيف سكتا عنه؟ لا تعليل لذلك إلَّا أنَّ صانع القصة لم يحسن سبكها، فنسي أن ينسب إلى رواتها لفظا واحدا يتفقون عليه، والمثل يقول: «إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا». ويجوز أن يقال: كان الفاروثي تلميذا للشيخ الرفاعي، يهمه إثبات النسبة النبوية له، فلذلك سمع سلام شيخه، ورد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بما

.

يثبت نسبه، بخلاف الشَّيخ عدي وخادمه فليسا تلميذين للرفاعي، ولا يعنيهما ثبوت النسب له، فلم يسمعا تلك المحادثة التي سمعها كل من في المسجد النبوي!!

الوجه الثالث: أنَّ الشَّيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه - منسوب إلى بني رفاعة، قبيلة من العرب، كما في طبقات الشعراني"، فكيف يقول: السَّلام عليك يا جدي؟! وهو لم يدع الانتساب إلى الحسين ولا الحسن عليهما السلام، وخاله الشيخ منصور البطايحي - و هو من الأولياء- لم يكن يدعوه إلا بلفظ أحمد، مجردًا عن السيادة، مع أن الأولياء أحرص الناس على تعظيم أهل البيت وتسويدهم، من غير مراعاة للقرابة أو غيرها، كما هو معلوم من أخلاقهم

و آدابهم. والحقيقة أنَّ الرفاعي رضي الله عنه لم يثبت له الشرف إلا بعد موته بمدة،

۲۸

كتاب الإيمان

حين ظهرت فكرة الأقطاب الأربعة - وكان هو أحدهم- وعزّ على بعض أتباعه ألا يكون شريفا مثل إخوانه الأقطاب الثلاثة: الجيلي والبدوي والدسوقي، فأنشأ له نسبا يتصل بالحسين عليه السَّلام لكن أبا الهدى الصيادي الرفاعي لم يكتف بهذا، بل أنشأ له نسبًا أيضًا يتصل بالحسن عليه السلام وبذلك صار

الشيخ الرفاعي حُسينيّا حَسنيًّا، وامتاز على زملائه بالجمع بين الشرفين! الوجه الرابع: ولو كان الشَّيخ الرفاعي حُسينيا، فإنَّه لا يقول تلك الكلمة

لأسباب:

أحدها: أن الأدب المطلوب في الزيارة النبوية، أن يقف الزائر في المواجهة الشريفة بخشوع، ويقول: «السَّلام عليك يا نبي الله، السَّلام عليك يا رسول الله، أشهد أنَّك بلغت الرسالة، وأدَّيتَ الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده...»، إلى آخر ما هو مدوّن في كتب الفقه، والشيخ الرفاعي ما كان يجهل هذا الأدب وما كان ليدَعَه؛ لأنَّه من كُمَّل الأولياء الحريصين على اتباع آداب الشريعة.

ثانيها: أنَّ الشَّيخ الرفاعي كان متواضعًا شديد التواضع، يحبُّ الخمول وعدم الظهور، وطريقه مبني على التواضع، فكيف يقول على رؤوس الأشهاد: السلام عليك يا جدي؟! وهل هذا إِلَّا تَفَاخر بالنَّسب؟! وما كان التفَاخُر من خُلق الرفاعي، ولا حب الظهور في طبعه. ثالثها: أنَّ الأدب المراعى بين الأولياء بعضهم مع بعض إذا اجتمعوا: ألَّا يتقدم صغير منهم على كبير؛ لقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كَبَر كَبَّر»،

أولياء وكرامات

۲۹

أي: قدم الكبير، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تقدَّم الشيخ الرفاعي بتلك الكلمات، مع وجود السيد عبدالقادر الجيلي، وهو أكبر منه سنا وأجل مقاما

وأكثر علما وإنتاجا؟!

هذا إلى أنَّ الجيلي حَسني، والرفاعي حُسيني، والعارف الشَّعراني يقول عن تواضعه وفرط أدبه: «ما تصدر في مجلس، ولا جلس على سجادة، تواضعا» . اهـ

وأيضًا: فإنَّ الله تعالى يقول: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بعضكم بعضا ﴾ [النور: ٦٣]، أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا باسمه أو لقبه: يا فلان أو يا أبا فلان، ولكن عظموه ونادوه: «يا نبي الله»،«يارسول الله»، ونحو ذلك من ألقاب التعظيم، وكلمة: «يا جدي» أو «يا أبي» لا تعظيم فيها، بل من الآداب العامة أنَّ الشَّخص إذا كان أبوه خليفة أو ملكًا، فإنَّه يخاطبه أمام الناس بلقب التعظيم نحو يا أمير المؤمنين، يا أيها الملك، ولا يقول: يا أبي. وأيضًا: فإنَّ الواقف أمام الحجرة الشريفة ، يعتريه من هيبة المكان وجلال الموقف ما ينسيه نفسه وشرفه وعلمه، فلا يمكنه أن يقول: يا جدي، أو يا أبي، وإنما يهتف بشوق: يا رسول الله، يا شفیع المذنبين، يا نبي الرحمة، يا حبيب ربِّ العالمين، جئت أطلب شفاعتك، وأرجو رِفْدَك. وأيضًا: فإنَّ الصوفية قالوا: ينبغي لمن يدخل على ولي من أولياء الله تعالى أن يتجرد من علمه وشرفه وعمله، منتظرًا ما يفيضه الله عليه بطريقة ذلك الولي. وحكوا أنَّ أبا الحسن الشاذلي لما أراد الدخول على مولاي عبدالسلام بن

۳۰

كتاب الإيمان

مشيش (۱)، اغتسل ونوى التجرد من علمه وعمله وشرفه فحصل له الفتح الكبير على يد شيخه المذكور رضي الله عنهما، وإذا كان هذا بالنسبة لولي من الأولياء كيفما كانت رتبته في الولاية، فهل يجوز لزائر سيد الرسل وأفضل الخلق أن يذكر علمه أو شرفه؟!

وأيضًا فإنَّ الكُمَّل من الأولياء حين يدخلون المسجد النبوي لا يتقدمون

لزيارة الروضة الشريفة إلَّا بإذن من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. روينا عن العلامة الشيخ الحطاب شيخ المالكية في وقته، أنَّه حج مع شيخه القطب الشيخ عبدالمعطي التونسي، قال: فلما وصلنا إلى المسجد النبوي، ودخلنا الباب، صار الشَّيخ يتقدَّم خطوة ويقف، ثم يتقدم خطوة ويقف،

(۱) عبد السلام بن مشيش من كبار الأقطاب، مدفون بجبل العلم من قبيلة بني عروس بمراكش، زرت قبره، وهو في أعلى الجبل، يقام له مولد - عمارة بلهجة المغاربة - في

النصف من شعبان، وهو غير سيدي عبد السَّلام الأسمر المدفون بطرابلس الغرب. وبالقرب من قبر ابن مشيش حجران كبيران متقابلان بينهما فجوة طبيعية في داخلها انحراف وتعاريج، يمكن الدخول فيها والخروج منها بشيء من الحيلة والمرونة، والعامة هناك يعتقدون أنَّ من دخل في تلك الفجوة وكان مرضيا عند والديه خرج منها، ومن كان مسخوط والديه أي عاقًا لهما - تمسك فيه تلك الفجوة فلا يخرج بسهولة، وترى الزوار يهرعون إلى ذينك الحجرين يمتحنون أنفسهم بالدخول بينهما، فمن خرج بسهولة فرح؛ لأنه مرضي عند والديه، ومن لم يعرف كيف يخرج ساعده الزوار بقراءة القرآن والتوسلات وبجذبه حتى يخرج من بين الحجرين حزينا

خَجِلا ؛ لأنَّه عُرِف بين النَّاس بأنَّه مسخوط والديه، وهذه خرافة لا أصل لها .

أولياء وكرامات

۳۱

وهكذا حتى وصلنا إلى الحجرة الشَّريفة، فلما انتهينا من الزيارة سألناه عن سبب توقفه مرة بعد مرَّةٍ ، فقال : كنت أطلب الإذن من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بالقدوم عليه، فإذا قال: «تقدم يا عبدالمعطي»، تقدمت.

حكاية عن الشيخ الرفاعي باطلة

ثُمَّ ذَكَرتِ الرِّسالة قصَّةً أخرى شبيهة بهذه، إليك نصها:

وقد ثبت أنَّ السَّيد أحمد رضي الله عنه لما حج : ا حج ثانيا في العام الذي توفّي فيه، وزار القبر الطيب الطَّاهر على ساكنه أفضل صلوات الله وسلامه، قال وهو

تجاه القبر بانكسار ومسكنة:

إن قيلَ زُرِّتمْ بِما رَجَعْتُمْ؟ يا أَكْرَمَ الرُّسُلِ ما نَقَولُ؟

فظهر صوت من القبر الشريف، سمعه كل من في المسجد المبارك: قُولوا رَجَعْنَا بِكُل خَيرٍ واجْتَمَعَ الفَرْعُ والأُصُولُ وهذه القصة مقطوع بكذبها أيضًا مثل سابقتها؛ لأنها لو حصلت لأخبر بها

كل من كان في المسجد النبوي-وهم ألوف- لأنَّ الوقت كان موسم حج. ومما يدلُّ على كذبها أيضًا: حال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، بالنسبة لقول الشعر، فإنَّه لم ينشئ في حياته بيت شعر غير الرَّجَز (۱)، وما تمثل ببيت شعر كامل موزون، وإنّما كان يتمثل بشطر بيت فقط، مثل: «ألا كلُّ شيءٍ ما

(1) أمَّا الرَّجَز الذي قاله: «أنا النبيُّ لا كَذب، أنا ابن عبدالمطلب»، «هل أنت إِلَّا إِصْبَعُ دَمِيتِ، وفي سبيل الله ما لَقِيتِ»، فقد جاء عفو الطبيعة، لم يقصده كما يقصد الشاعر إنشاء بيت

مراعيا تفاعليه، على أنَّ بعض اللغويين لعله الأخفش - يرى أنَّ الرَّجَز ليس بشعرٍ.

۳۲

كتاب الإيمان

خَلَا الله باطل». ومثل: «ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوَّد».

وكان يتمثل أحيانًا بشطر بيت مكسور تمثل مرَّة بقول القائل: «كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر الصديق: يا رسول الله إنَّ الشاعر يقول: «كفى الشَّيب والإسلام للمرء ناهيا»، فأعاده صلى الله عليه وآله وسلم مكسورًا كما نطق به أوّل مرَّة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: صدق الله : وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشَّعْرَ وَمَايَنْبَغِي لَهُ ﴾ [يس: ١٩].

فكيف تزعم تلك القصَّة المكذوبة أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلم، أنشأ بيت شعر تام التفاعيل، أجاب به الشيخ الرفاعي مُساجَلَةٌ؟!

والعجيب أن يُقَدِّم الفروع على الأصول، حرصا على القافية لكيلا تختل!! مع مراعاة لزوم ما لا يلزم !! كأَنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يباشر فنون الشعر، كما باشرها فحول الشعراء.

لا

نعم، ثبت أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلَّم قوما بلغتهم التي ! يعرفها قريش ومعظم الصحابة، وتلك معجزة من معجزاته الكثيرة؛ لأن اختلاف اللغات من آيات الله تعالى، كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَنَيْهِ خَلْقُ

السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَفُ أَلْسِنَيْكُمْ وَأَلْوَنَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتِ لِلْعَلِمِينَ [الروم: ٢٢]، ومعرفة اللغات علم من العلوم التي أنعم الله بها على نبيه، حيث قال له: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: ۱۱۳] . لا . يصح خطاب النبي عليه الصلاة والسلام بكلام فيه لحن

أولياء وكرامات

۳۳

أما الشعر فقد نزّه الله عنه نبيه بقوله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي

له اما ايس: ٦٩] ، وذم الشُّعراء بقوله سبحانه: وَالشُّعَرَاهُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء: ٢٢٤]، وقد وفد عليه صلى الله عليه وآله وسلم شعراء، وأنشدوا بين يديه شعرًا، فلم يجبهم ببيتٍ، بل كان يثيب المادحين، ويكلف حسان بن ثابت بذم الدامين وهجاء الهجائين، فليس قول الشَّعر معجزة ولا مكرمة بالنسبة له صلَّى الله عليه وآله وسلم (۱). ثمَّ إِنَّ البيت الذي نَسَبَتْه القصَّة إلى الشيخ الرفاعي رضي الله عنه يشتمل على لحن في الإعراب، وشذوذ في التعبير، فلا يصح أن يخاطب به أفصح الخلق صلى الله عليه وآله وسلَّم؛ لأنَّه يؤلمه ويؤذيه، ذلك أنَّ العربي الفصيح يؤذي شعوره ويؤلم طَبعَه أن كلاما دخله لحن في الإعراب، أو خلل في يسمع التركيب، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يعلو بالدرة من يلحن في الكلام، ويحضُّ على تعلم الإعراب (۲).

(۱) بل كان العلماء ينفرون منه، ويعدونه منقصة ألا ترى إلى قول الإمام الشافعي: ولولا الشِّعْرُ بالعُلَماءِ يُزْرِي لكُنتُ اليومَ أَشْعَرَ مِن لَبِيد وكان وهب بن منبه يكره النطق بالشَّعر، ويقول : إني أكره أن يوجد في صحيفتي يوم

القيامة شعر.

(۲) كثيرًا ما كنت أتألم حين أسمع خطباء الجمعة يقولون: وهذا ضعفنا «ظاهر» بين يديك، وهو من اللحن الواضح الذي يدركه من أتقن باب الحال في "الآجرومية"

وفي القرآن الكريم: وَهَذَا بَعَلي شَيْئًا ﴾ [هود: ۷۲].

٣٤

كتاب الإيمان

وذاك البيت المنسوب إلى الرفاعي، يقول: «إن قيل زُرْتُم بما رجعتم؟». أسقط الفاء الرابطة بين الشرط والجواب، فلم يقل: فبما رجعتم؟ وهذا لحن، ثُمَّ أثبت الألف في «ما» الاستفهامية، في قوله: «بما رجعتم؟» والصواب: بم رجعتم» لأنَّ «ما» الاستفهامية إذا دخلت عليها باء الجر حذفت ألفها، نحو فيمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [الحجر: ٥٤]، ولا تثبت إلَّا شذوذا على قلة، كما نص عليه الزمخشري في (سورة الأعراف) من "تفسيره".

والظاهر أنَّ الذي صنع القصَّة كان يجهل قواعد علم العربية، فوقع في

ا

هذين الخطأين، وكان يمكنه تجنبهما بأن يقول: إن قيل زرتم فما استفدتم؟». ثم تأمل قوله: «واجتمع الفروع والأصول تجده حريصًا على إثبات الشرف للرفاعي، كما أثبت له الشرف أيضًا في القصَّة السابقة، بجملة: «وعليك السلام يا ولدي»، وهذا هو المقصود من القصَّتين، ولولا ذلك لما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قول الشعر، أو لأمكنه إذ نسبه إليه أن يقول:

قولوا رجعنا بكل خير ونــار مـنــا العقول والقلوب ويؤيد ذلك قوله بعد البيتين السابقين على لسان مؤلّف الرسالة: «والذي أدين الله تعالى به أنَّ السيد أحمد الرفاعي الشريف الفاطمي الحسيني رضي الله عنه كان جبلا راسخا، وبطلا جَحْجَاحًا... إلخ.

فإقحام عبارة: «الشَّريف الفاطمي الحسيني» هنا لا معنى لها إلَّا الحرص على إثبات الشَّرف للشَّيخ الرفاعي رضي الله عنه؛ لأنه كونه جبلا راسخا وبطلا جَحْجَاحًا لا يتوقف على كونه شريفا فاطميًا حُسينيا، فقد كان في

أولياء وكرامات

۳۵

الصوفية جبال رواسخُ وأبطال جَحَاجِعُ وهم لا ينتسبون إلى البيت النبوي، كسيد الطائفة الجنيد، وأبي بكر الشَّبلي وأبي القاسم القشيري، وأبي يعزى،

وأبي مدين الغوث، وابن العربي الحاتمي، وأبي العباس المرسي، وابن عطاء الله، رضي الله عنهم.

الفصل الثاني

في إبطال نسبة رسالة الشرف المحتَّم إلى الحافظ السيوطي اعلم أ م أنَّ كثيرًا من المؤلفات نُسبت إلى غير مؤلفيها، على سبيل الخطأ. منها: كتاب "الكنز المدفون والفلك المشحون"، طبع مرات، منسوبًا للحافظ السيوطي، لكنه تأليف الشَّيخ يونس السيوطي المالكي، تلميذ الحافظ

الذهبي. ومنها: كتاب الرحمة في الطب والحكمة" طبع عدة مرات، منسوبًا للسيوطي أيضًا، وهو تأليف الحكيم المقري مهدي الصبري، وهذا الكتاب تتبعه بالتجربة صاحبنا المرحوم الشيخ محمد بن الأزرق الغماري الصدِّيقي، فجرب ما ذكر فيه من الأدوية والوصفات من أوله إلى آخره، فلم يصح منه إلَّا وصف شربة واحدة. ومنها: "مختصر تذكرة القرطبي طبع مرات، منسوبًا للشعراني، مع أنَّ مؤلّفه فرغ من تأليفه وعمر الشعراني ست سنوات.

11

ومنها: كتاب في تفسير الأحلام، طبع مرات بهامش الجزء الأول من كتاب

"تعطير الأنام للنابلسي " منسوبا لابن سيرين لكنه لأبي سعيد الواعظ.

٣٦

كتاب الإيمان

ولو ذهبنا نعد الكتب التي نسبت إلى غير أصحابها لطال بنا الحال. ورسالة "الشرف المحتم، نُسبت إلى الحافظ السُّيوطي، إمَّا غلطا وإمَّا عمدا - لا نجزم بأحد الاحتمالين لكنَّا نجزم بأنها ليست له، والدليل على ذلك أمور: الأول: أنه ذكر مؤلّفاته في كتاب "حسن المحاضرة" وفي فهرسته، وهذه

الرسالة غير موجودة فيهما .

الثاني: عزو الحديث في أوّلها لأبي نعيم، وهو في "الصحيح" وهذه غلطة لا تقع في رسالة صغيرة، أنشئت بموضوع معيَّن، إلَّا من مؤلّف لا يعرف الحديث، على أن الحافظ السُّيوطي عوّدنا في رسائله الصغيرة أن يفتتحها بذكر

ما في الصحيحين أو أحدهما.

الحافظ نعم، قد يعزو

ابن

حجر

أو الحافظ السيوطي حديثا إلى غير

:

الصحيحين وهو فيهما أو في أحدهما إذا كان ذلك في مؤلّف كبير يتشعب فيه البحث ويتسع الكلام، أمَّا أن ينشئ رسالة صغيرة لبحث خاص ثم يغلط في عزو الحديث، فهذا لم يحصل.

الثالث: الخلاف المذكور في ثبوت الصحبة للشيخ الرفاعي رضي الله عنه لا يصدر من الحافظ السيوطي، لمنافاته كلامه في تعريف الصحابي في تدريب

الراوي وغيره، وإنَّما يصدر من رجل لا يعرف في علم الحديث مثقال ذرة. الرابع: أن الرفاعي رأى اليد الشَّريفة على فرض ثبوت تلك القصة المكذوبة - ولم يقل أحدٌ من علماء الحديث أنَّ الصحبة تثبت بمجرد رؤية اليد، بل هم نفوا الصحبة عمن رآه عليه الصَّلاة والسَّلام بعد وفاته قبل دفنه إذا لم

أولياء وكرامات

یكن رآه في حال الحياة، فكيف يحكي السيوطي خلافا لم يحصل؟!

۳۷

ثم ما وجه تخصيص الرفاعي بالخلاف؟ مع أنَّ تلك القصة المكذوبة تحكي أنَّ اليد الشريفة رآها كلُّ من في المسجد النبوي، فإن كانت الصحبة تثبت بهذا، فأولئك جميعهم صحابة، لا خصوص الرفاعي.

الخامس: نقله عن الحافظ السخاوي، وبينهما تنافر كبير وخصومة شديدة، فالسخاوي ترجم للسيوطي في "الضوء اللامع" وحط عليه كثيرا حتى وصفه بعقوق والدته لتكبره عليها، وأنَّه سطا على المكتبة المحمودية وأخذ منها مؤلفات أحدث فيها تغييرًا يسيرا ونسبها إلى نفسه.

والسيوطي كتب رسالة سماها الشهاب الهاوي في كبد "السخاوي عليه فيها كثيرا، ووصفه بالجهل بعلوم العربية وكثرة اللحن، كما حط عليه في رسالة ألفها في لفظ «خصيصى» (۲)، وهي في "الحاوي".

و قال في المقامة السندسية، يخاطبه قل للسَّخَاوِي إِنْ تَعْرُوكَ مُشْكِلَةٌ عِلْمِي كَبَحْرِ مِنَ الْأَمْواجِ مُلْتَطِمِ والحافظ الدِّيمِيُّ (٣) غَيْثُ الوجُودِ فَخُذْ غَرْفًا مِن البَحْرِ أَو رَشْفًا من الدِّيم

(۱) وانتصر للسخاوي بعض الأدباء المعاصرين له برسالة سماها: "المنتقد اللوذعي على المجتهد المدعي".

(۲) لفظ «خصیصی» مقصور، وقع في "الشفاء" للقاضي عياض، وضبطه السخاوي بسكون الياء على أنه مثنى، فردَّ عليه السيوطي. (۳) الحافظ عثمان الديمي: بكسر الدال وفتح الياء، وقفت على نسخة من شرح "نخبة الفكر" بخطة ذكر أنه تلقاه عن مؤلفه الحافظ ابن حجر، وهذا الشرح مطبوع. وهو

۳۸

كتاب الإيمان

فكيف ينقل السيوطي عن شخص يخاطبه بهذا الشعر ؟! هذا يوجد في المكتبات كتاب مطبوع يُنسب للسيوطي اسمه "الحرز

ومع

المنيع من القول البديع " وهو مختصر كتاب "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع " للحافظ السخاوي، وذاك المختصر ليس من مؤلفات الحافظ السيوطي. السادس: نقله عن الفراء، والسيوطي يعلم أنَّ الفراء نحوي لغوي لا صلة له بالحديث وعلومه، وأظنُّه لا يجهل أنَّ الفراء معتزلي لا يعتقد الكرامات ولا

يعترف بالصوفية.

السابع: استعماله في رواية القصَّة: حدَّثنا» والسيوطي لا يمكن أن

مدفون قرب جامع بيبرس، بجهة الأزهر. والحق أنَّ الدِّيمي والسيوطي لا يبلغان رتبة السَّخاوي في الإتقان والضبط ولا في علم الرجال والتاريخ؛ لأنَّه لازم الحافظ ابن حجرٍ أكثر من عشرين سنة، وقرأ عليه كتب الحديث والرّجال، والسيوطي لم يدرك الحافظ لكنه تخرج في علم الحديث بكتبه، ولم يتيسر له سماع الكتب الحديثية فرواها بالإجازة، وقد حضر السيوطي على السخاوي، وإن كان هو في المتون أحفظ من السخاوي، ولا شك أنَّ المكتبة المحمودية كان لها أكبر فضل على السُّيوطي، فبنفائسها صال وجال في ميادين العلوم التي كتب فيها. ولم يثبت أنه أخذ كتابا لغيره ونسبه إلى نفسه، إلا كتابًا واحدًا مطبوعًا، ذكر لي شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله أنَّه رأى كتابا في موضوعه بلفظه ومعناه، لعالم مشهور من القرن الثَّامن، قال وتعجبت حين رأيته كيف حصل هذا من الحافظ السيوطي ؟! وذكر لي اسم الكتاب ومؤلفه. وقد ابتلاه الله بابن طولون

الدمشقي أغار على كثير من كتبه فأخذها باسمها ومسماها ونسبها إلى نفسه.

أولياء وكرامات

۳۹

يستعمل هذه اللفظة في الإجازة؛ لأنها كذب، وهو ثقة.

الثامن: أنَّ السُّيوطي نقل هذه القصة في "تنوير الحلك بإمكان رؤية النبي والملك" عن بعض المجاميع، ولو كانت عنده مروية لأسندها هناك ولم ينقلها عن بعض المجاميع التي يعلم هو قبل غيره أنَّ العلماء قرروا عدم الاعتماد على ما فيها للجهل بمؤلّفها، وأن الاعتماد إنَّما يكون على كتاب عُرِف مؤلّفه بالعلم

والأمانة والثقة.

التاسع: قوله: «وإنكار هذه المزيَّة ومثلها يؤدّي إلى سوء الخاتمة»، ونحن نجزم أن الحافظ السُّيوطي لا يقول هذه العبارة أبدا، وإنما يقولها متصوف لأنَّ المعلوم أنَّ المعتزلة وبعض الأشعرية أنكروا الكرامات جملة، بل

جاهل؛

أنكر بعض المعتزلة معجزة انشقاق القمر، وأوَّلوا قوله تعالى: أَقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: ١] على مجاز الأول (۱). ولا يستطيع عالم أن يزعم أ

هؤلاء أو أولئك ماتوا على سوء الخاتمة.

أن

العاشر: قوله : والذي أدين الله تعالى به : أنَّ السيد أحمد الرفاعي كان جبلا راسخا ... إلخ». وهذه الكلمة لا يقولها الحافظ السيوطي، الإمام في علوم البلاغة، وإنما يقولها جاهل لا يعرف مواقع الكلام، إذ الواجب في هذا الموطن أن يقال: والذي أراه؛ لأن كوّن السيد أحمد الرفاعي جبلا راسخا، محل نظر ومجال رأي، فمن ثبت عنده ذلك بقرائن و شواهد رآه واعتقده، ومن لم يثبت

(۱) بفتح الهمزة وسكون الواو أي المآل أي سيؤول إلى الانشقاق في آخر الزمان. وهذا كقوله: إني أرني أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: ٣٦]، أي: أعصر عنبا يؤول إلى خمر.

٤٠

كتاب الإيمان

عنده وأنكر ولاية الشيخ الرفاعي أو أنكر وجوده من أصله لم ينقص دينه. وقد نقل الحافظ أبو أحمد بن عدي أنَّ الإمام مالكًا أنكر وجود أويس (1

(1)

القرني، مع أنَّ الحديث فيه ثابت في صحيح مسلم"، فلم ينقص إنكاره

إمامته. وإنما تستعمل تلك الكلمة فيما يتصل بعقيدة دينية، كأن يقال: الذي أدين الله به أن صفات المعاني ثابتة، أو أن خروج ا العصاة من النَّار بالشَّفاعة ثابت، أو أن المعاد الجسماني حَقٌّ، وما أشبه هذا من المسائل التي لها صلة وثيقة بعقيدة المسلم، فلهذه الأمور وغيرها جزمنا بأن رسالة "الشرف المحتم"

ليست للحافظ السيوطي.

والذي يظهر لي في شأنها أحد أمرين:

١ - إما أن يكون كتبها أحد المتصوّفة من أهل القرون المتأخرة، وحيث كان مجهول الاسم والشخصيَّة، نُسبت إلى السُّيوطي كما نسبت إليه المؤلفات

المذكورة فيما مر . ٢ - وإما أن يكون أبو الهدى الصيَّادي الرفاعي شيخ الطريقة الرفاعية

كتبها هو أو بعض أصدقائه ونسبها إلى السيوطي ضمانا لرواجها.

(۱) هو خير التابعين كما صرح به الحديث أي أفضلهم. وقال الإمام أحمد: أفضل التابعين سعيد بن المسيب. قال الحافظ العراقي: لعل الحديث لم يصل الإمام أحمد أو لا لم يصح عنده. وقال النووي: أفضليَّة أويس بشدَّة زهده وخشيته الله، وأفضلية سعيد بكثرة علمه وحفظه. وقيل: أفضل التابعين الحسن البصري، وقيل: حفصة بنت سيرين، قال بعض العلماء: لا شكَّ أنَّ الأفضلية على الإطلاق لأويس اتباعًا للنص، وبالعلم النافع لسعيد بن المسيب.

أولياء وكرامات

٤١

فقد أخبرني شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله تعالى : أنَّ أبا الهدى المذكور كان له جماعة أصدقاء يكتبون له مؤلفات في مناقب الشيخ الرفاعي وكراماته وفضائله، ثم ينسبها لعلماء في القرن الثامن أو التاسع، ومكنه اتصاله بالسلطان عبدالحميد، واستحواذه على عقله من وضع تلك المؤلفات في مكتبات الآستانة، ثمّ يوعز إلى بعض أتباعه في الطريق بأن يطبع بعضها، ويخبره بأنَّ نسخة خطية منه توجد في مكتبة كذا، تحت رقم كذا، وكان يقول: إنَّه من نسل الشيخ الرفاعي رضي الله عنه، وكان على جانب كبير من الذكاء وسعة الحيلة. وأنا أحيل إلى هذا الاحتمال والقرائن عليه كثيرة من تصرفاته، من ذلك

أنه جمع أربعين حديثا مسندة نسبها لرواية الشَّيخ أحمد الرفاعي، قرأتها وهي مطبوعة، وفيها حديث: «وأدبني ربي فأحسن تأديبي»، وهو حديث شديد الضعف، والشيخ الرفاعي لم يكتب هذه الأربعين ولا رواها، ولا تجد لها ذكرًا

في مرويات المحدثين أو الصوفية، ولا في كتب الأثبات والفهارس، والله

سبحانه وتعالى أعلم.

٤٢

كتاب الإيمان

الباب الثاني

في التنبيه على كرامات غير مقبولة ولا معقولة

منها ما ذكر في مناقب سفيان بن عُيَيْنَة أَنَّه حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين، وهذا غير معقول ؛ فإنَّ الطفل يُفْطَم من الرضاع وهو ابن سنتين، قال الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفَصَلُهُ ثَلَثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: ١٥] هي ستة أشهر للحمل وعامان للرضاع، كما قال تعالى في آية أخرى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: ١٤] ثم يتعلم النطق والمشي في عامين أيضًا.

فهل كان سفيان يحفظ القرآن وهو يتعلَّم الكلام؟! بل أقل سن يمكن للصبي أن يحفظ فيه القرآن تسع سنوات.

نعم،

كان علماء الحديث يحضرون أطفالهم في سن الرابعة أو الخامسة مجالس سماع الحديث التماسا للبركة وطلبا لعلو الإسناد. - وذكر الشعراني في ترجمة سيدي محمد وفا الشاذلي أنَّه ألف كتبا في صباه وهو ابن سبع سنين أو عشر ، وهذا غير معقول أيضًا، لا سيما إذا علمت أنَّ سيدي محمد وفا كان أُمَّيًا لا يقرأ ولا يكتب.

ومنها: ما ذكر في مناقب السيد عبد القادر الجيلي نقلا عن والدته، قالت: لما وضعت عبدالقادر، كان لا يرضع ثديها في نهار رمضان، ولقد غمّ على النَّاس هلال رمضان، فأتوني وسألوني فقلت لهم: إنَّه لم يلتقم اليوم ثديا. ثمَّ اتضح أنَّ ذلك اليوم من رمضان، واشتهر ببلدنا في ذلك الوقت أنه ولد للأشراف ولد لا يرضع في نهار رمضان.

أولياء وكرامات

٤٣

- وذكر في مناقب أبي السعود بن أبي العشائر أنه صام في المهد. - كذلك قيل في ترجمة الشيخ إبراهيم الدسوقي: أنَّه كان يصوم في المهد. وصوم الرضيع غير معقول، إلا أن يكون امتنع عن الرضاعة لعلَّة، كما قال الله تعالى في موسى عليه السَّلام: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾ [القصص: ۱۲] فانظر كيف عبر بقوله: وَحَرَّمْنَا ﴾ [القصص: ١٢]؛ لأنَّ الرضيع لا ينسب إليه فعل لعجزه مع فقد الإدراك، فكيف يقال : أنَّه صام نهار رمضان؟! إن صح هذا، صح ما جاء في حديث موضوع: أنَّ يوم عاشوراء تصومه الحيوانات. ثمَّ إِنَّ الكرامة هي الأمر الخارق الذي يظهر على يد رجل صالح في زمن التكليف، ويكون دليلا على تمسكه بالشريعة وعمله بأحكامها وآدابها، والرضيع غير مكلف، ولا عاقل.

فإن قيل: ألا يصح أن يقع الخارق للطفل، ويكون إعلاما بأنه سيكون من

الأولياء؟

فالجواب: صرَّح العلماء بأنَّ الخارق قد يقع للنبي قبل نبوته وسموه إرهاصا، وذلك مثل شق صدر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو عند مرضعته حليمة السعدية وعمره ست سنوات، ومثل إظلال الغمامة له في طريقه إلى الشام حين كان يتاجر لخديجة رضي الله عنها، وحصل عند ولادته عليه الصَّلاة والسلام خوارق، كل ذلك للإعلام بأنَّه سيكون نبيا يجب الإيمان به واتباعه، والنَّبي -كما هو معلوم تحوطه العصمة ويؤيده الوحي، فكان من المناسب أن يصحب ولادته أو طفولته بعض الخوارق التي تلفت نظر النَّاس إليه.

.

٤٤

كتاب الإيمان

أما الوليُّ فلا معنى لأن يقع له في طفولته خوارق، لأنَّه إذا بلغ وصار وليا فلا يجب على الناس أن يؤمنوا بولايته ولا أن يتبعوه إلا في حدود ما تأمر به الشريعة. ثم هو ليس بمعصوم ولا يأتيه ، وحي، وقد يكون الشخص في بداية أمره منغمسسًا في المعاصي ثمَّ يتوب ويستقيم فينال الولاية، وقد يكون وليا ثُمَّ يحصل منه ما يوجب سلبه، فتُسلَب الولاية عنه ويعود من عوام المسلمين كما كان، وأنا أعرف شخصا دخل الخلوة (۱) ولازم الأذكار والمجاهدة حتى فتح عليه ونال الولاية، فتعجل الأمر وتصدر للمشيخة، وأساء الأدب في حق شيخه. فسلب وعاد كما كان مريدا، فنسبة بعض الخوارق إلى بعض الأولياء في طفولتهم كذب لا مسوغ له.

ومنها: ما حكي عن الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه: أنه كان إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب حتى يصير بقعة ماء، ثم يتداركه اللطف فيصير يجمد شيئًا فشيئًا حتى يعود إلى جسمه المعتاد. ويقول: «لولا لطف الله بي ما رجعت إليكم». هذه خرافةٌ لا يقبلها عقل سليم، وأي عقل يصدق أن جسم الإنسان يتحلل إلى بقعة ماءٍ ثُمَّ يعود إلى طبيعته ؟! إنَّ هذا محال، والكرامات لا تخرج

(۱) في زاويتنا الصدّيقية بطنجة ووالاه مولانا الإمام الوالد -رضي الله عنه- برعايته في خلوته، فلما فتح عليه جاء يستأذنه في الذهاب إلى بلده فاس، فأخبره أنه هذا أول الفتح، وأن أمامه مقامات لابد من اجتيازها، فأصر على رأيه، فأذن له، فذهب وحصل له هناك أشياء مع الإخوان وادَّعى المشيخة واستطال على منصب شيخه، فسلب وعاد إلى طنجة، فأمره مولانا الإمام الوالد بمزاولة التجارة.

أولياء وكرامات

٤٥

عن دائرة الإمكان والذين يحكون هذه المستحيلات غير مدركين ما فيها من مناقضة لقضايا العقول يفتحون على أنفسهم وعلى الأولياء بابا للطعن الشديد والهزو المديد.

ومنها: ما حكي عن الشيخ السيد عبدالرحيم القناوي الغماري رضي الله عنه: أنه نزل يوما في حلقته شبح من الجو، لا يدري الحاضرون ما هو؟ فأطرق الشيخ ساعة، ثم ارتفع الشَّبح إلى السَّماء، فسألوه عنه؟ فقال: «هذا ملك، وقعت منه هفوة، فسقط علينا يستشفع بنا، فقبل الله شفاعتنا فيه فارتفع (۱). هذه الخرافة، ضعفها الشعراني في "الطبقات"، حيث حكاها بصيغة التمريض، وقد ذكر في مقدمتها: أنه سلك فيها مسلك المحدثين، فما كان من الحكايات والأقوال صحيحًا حكاه بصيغة الجزم، وما كان منها غير صحيح حكاه بصيغة التمريض، لكنه لم يلتزم بهذه القاعدة إلا في مواضع قليلة من "طبقاته"، وفي كثير منها حكى بصيغة الجزم طامات كأنها من القضايا المسلمات.

وذلك لغلبة التساهل عليه، مع حب تفخيم الأولياء وإعلاء شأنهم بين العامة. هذا والمقرر عند جمهور المحققين في شأن الملائكة -عليهم السلام- ما يأتي: ا - أنَّهم رسل، لقول الله تعالى: ﴿ جَاعِلِ الْمَلَكَةِ رُسُلًا ﴾ [فاطر: 1]، وهذا عموم يشملهم جميعًا، وقوله تعالى: اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَيْكَةِ رُسُلًا ومن الناس } [الحج: ٧٥]، «من» الداخلة على الملائكة للجنس، والداخلة على الناس للتبعيض؛ ولأنَّ الله تعالى جعل الإيمان بهم ركنا من الإيمان مثل الرسل.

(۱) قد يكون ذلك الشَّبح الجنّي جاء من جهة السقف يستشفع به.

٤٦

كتاب الإيمان

- أنَّهم معصومون، لقوله تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمَرُونَ [التحريم: ٦] وهذا وإن كان واردا في خَزَنَة جهنَّم يشملهم جميعًا، إذ كانوا كلهم مخلوقين من عنصر واحد وهو النور؛ ولأنه لم يجرِ ذكرهم في القرآن إلا مقرونا بمدحهم والثناء عليهم، وقصَّة هاروت وماروت غير صحيحة، كما بيناه في "قصة إدريس عليه السَّلام". - أنهم أفضل من البشر جميعًا إلَّا الأنبياء عليهم السلام وعقيدتي: أنهم أفضل من الرسل والأنبياء أيضًا إلا ثلاثة: النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم

وإبراهيم وموسى عليهما السَّلام، فهؤلاء أفضل من الملائكة عليهم السلام. إذا تقرر هذا فكيف يعقل أن يهفو مَلَكٌ معصوم ثمَّ يشفع فيه ولي غير معصوم؟! وكيف علم الوليُّ أنَّ الله قبل شفاعته ؟!

إنَّ الذين يفترون مثل هذه الحكاية ليرفعوا وليا فوق منزلته، بإنزال مَلَكِ عن رتبته، يجب أن يعلموا أنَّ الملائكة عِبادُ مُكْرَمون كما وصفهم الله تعالى، وأنَّ إلحاق نقص بأحدهم حرام، كإلحاقه بأحد الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام. ومنها: ما حكي من الكرامات في مناقب السيد أحمد البدوي، وقبل أن

نذكر بعضها نذكر نبذة عنه يقتضيها المقام. لقد اشتهر في مصر فكرة الأقطاب الأربعة وأنَّ السيد البدوي أحدهم، ولا ، مُستَنَدَهم في هذه الفكرة، وفي الصُّوفيَّة أقطاب يفوقون هؤلاء الأربعة، مثل سيدي عبد السَّلام بن مشيش وتلميذه أبي الحسن الشاذلي ()، وأبي مدين

ندري .

(۱) قال القطب شمس الدين محمد الحنفي رضي الله عنه: وجدت مقام سيدي أبي الحسن

أولياء وكرامات

٤٧

الغوث وتلميذه ابن العربي الحاتمي، وسيدي عبدالعزيز الدباغ ملي كتاب

"الإبريز" على تلميذه الإمام العلامة المحقق الشيخ أحمد بن المبارك اللمطي. وهذا القطب الدبَّاغ طراز غريب في أقطاب الأمة المحمدية، فهو مع كونه أميا، أُعطي من حقائق العلوم والمعارف ما يدهش كبار العلماء العارفين، توفّي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة رضي الله عنه، ولو طال عمره لرأينا من علومه العجب العجاب (۱).

ثم كون السيد أحمد البدوي أحد الأقطاب الأربعة ليس بصحيح، بل هو لم يبلغ درجة القطبانية، وقد قلت هذا في بعض دروسي التي ألقيتها في شرمساح،

من الدقهلية.

وأضفت أنه مجذوب، فعارضني الحاضرون، وكان أكثرهم معارضة شيخًا

الشاذلي -رضي الله عنه- أعلى من مقام سيدي عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه بسبب فـ ، أنَّ سيدي عبدالقادر سُئل يوما عن شيخه فقال: «أما فيما مضى فكان شيخي حمادًا الدباس، وأما الآن فإني أُسقى من بحرين بحر النبوة، وبحر الفتوة»، يعني

ببحر الفتوة: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وأما سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه فقيل له: من شيخك؟ فقال: «أما فيما مضى فكان شيخي سيدي عبد السلام بن مشيش، وأما الآن: فإنِّي أُسقى من عشرة أبحر: خمسة سماوية وخمسة أرضية».

قلت: ولا شك أن مقام سيدي عبد القادر الجيلاني أعلى من مقام بقية الأربعة، على أن السيد البدوي ليس بقطب كما يأتي بيانه.

(۱) رأيت "فتاوى الخواص" التي جمعها الشَّعراني، ورأيت "كشف الران عن وجه أسئلة الجان" للشعراني أيضًا، لكن كلام الدباغ أعلى وأجوبته أدق.

٤٨

كتاب الإيمان

أزهريا حضر على الشيخ الإمبابي، ولم يكن لهم من حُجَّةٍ إِلَّا ما شاع عند النَّاس

من كراماته ومناقبه، لكن ما أقوله يؤيده البحث العلمي البعيد عن ا والتعصب (۱)، وإليك البيان:

العاطفة

- أما أنَّه لم يبلغ رتبة القطبانية: لأنَّه لم يسلك على يد شيخ مُرَبِّ، غير أنَّه لا كان بفاس وعمره ست سنوات أخذ أخوه الأكبر السيد حسن الطريق عن الشيخ عبد الجليل النيسابوري، وأحضره معه إلى الشيخ فأخذ عنه تبركًا، ولا يُعرف له شيخ غير هذا. - وأما أنَّه مجذوب فذلك مستفاد من ترجمته، فقد ذكر الذين ترجموه وهم الشيخ عبدالصمد زين الدين، وتقي الدين المقريزي، والشعراني، والخفاجي

(۱) في شهر رمضان سنة ١٣٥٧ ، ومما حصل في تلك البلدة أنَّ أهلها طلبوا مني درسا في شرح قصة الإسراء والمعراج، فألقيته، وذكرت فيه أن جبريل كان يركب البراق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فعارضني ذلك الشَّيخ أيضًا، وادعى أن جبريل كان ممسكًا بالركاب. فقلت له: هذا غير صحيح، وأصر على قوله، ولم يكن معي كتاب. فسألت: هل يوجد في البلد مكتبة فيها بعض كتب الحديث والسيرة؟ فأخبرني الحاج عبد الخالق إبراهيم الزهيري: أن المنصورة يوجد بها مكتبة البلدية، وكان الوقت ليلا، فاتفقنا أن نذهب إليها صباحًا، وكان معي عالم أزهري أوجس في نفسه خيفة، وسألني على انفراد: هل أنت واثق مما تقول؟ قلت: نعم، كما أثق بوجودك معي. وفي الصباح ذهبنا إلى المنصورة ودخلنا المكتبة وطلبت كتاب "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" فأوقفت الحاج عبد الخالق على الحديث المصرح بأن جبريل كان يركب البراق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فكتبه وأطلع عليه ذلك الشيخ فسكت، وقصَّة المعراج فيها أشياء دخيلة تحتاج إلى بحث وتمحيص.

أولياء وكرامات

٤٩

وغيرهم: أنَّ أخاه الأكبر السيد حسن أدخله المكتب بمكة ليحفظ القرآن مع ابنه الحسين، فلما حدث له حادث الوله، تغيَّرت أحواله واعتزل عن الناس ولازم الصمت، فكان لا يكلّم النَّاس إلا بالإشارة، ولما ذهب إلى طنطا أكثر من الصياح ليلا ونهارًا.

ودخل دار شخص من مشايخ البلد اسمه: ابن شحيط، فطلع إلى سطح داره، وكان طول نهاره وليله قائما شاخصًا ببصره إلى السماء، وقد انقلب سواد بينيه حمرة تتوقد كالجمر، وكان يمكث الأربعين يوما لا يأكل ولا يشرب ولا

ينام، ثم نزل من السطح وخرج إلى فيشا المنارة، فتبعه الأطفال -كما يتبعون المجاذيب - ثم لزم السطح إلى أن مات، وكان إذا لبس عمامة أو ثوب، لا يخلعه لغسل ولا لغيره حتى يذوب فيبدلونه له بغيره. وقد سمي بالسطوحي

للزومه سطح دار ابن شحيط ، وسُمِّي أصحابه بالسطوحيين. فهذه الأحوال، تؤكد أنه مجذوب (۱) ؛ لأنَّ القطب لا يصيح ، فـ فضلا عن أن يكثر الصياح، ولا يلزم سطح دار ، ولا يمكث الأيام والليالي ينظر إلى السماء، بل هو يحافظ على الصَّلاة في وقتها، مع حضور الجماعة والجمعة، ويستحم ويغسل ثيابه إذا اتسخت، ويلبس النّياب النظيفة، وإذا نزل ضيفًا على شخص لا يمكث عنده أكثر من ثلاثة أيام مدَّة الضيافة، ولا يتخذ بيت مضيفه مركزا له ولأصحابه، وإذا أراد أن يسكن ببلد فإنَّه يستأجر فيه بيتا أو يشتريه،

(۱) ومثله في المغرب سيدي علي بن حمدوش كان شريفا مجذوبا، وله أتباع يعرفون بالحمادشة لهم زوايا في أنحاء المغرب، وفي حالة حضرة الذكر يضربون رءوسهم بالشواقير، أي: السواطير.

كتاب الإيمان

ويتباعد من شيوخ البلد وأمثالهم؛ لأنهم لا يخلون من ظلم بعض الناس، وإذا أتاه واحد منهم، نصحه ووعظه برفق. هذه هي أحوال القطب الذي هو على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واقرأ سير الأقطاب وكُمَّل الأولياء، فلا تجد أحدًا منهم أخل بأحكام الشريعة أو تهاون فيها، أو اعترته حالة غاب فيها عن الشعور أياما وليالي، أو اتخذ سطحًا مقرا له، أو احتل دارًا من غير استئذان صاحبها إلى غير ذلك من أحوال المجاذيب.

بعض كرامات السيد البدوي

ويؤيد ما قلناه هذه الحادثة: جاء الشيخ محمد المسمى بقمر الدولة إلى طنطا، : فعلم أن السيد أحمد البدوي مريض، فدخل عليه يزوره، وكان الشيخ عبدالعال غائبا، فوجد السيد أحمد قد شرب ماء بطيخة، وتقيأه فيها ثانيًا، فأخذه الشيخ

محمد المذكور وشربه، فقال له السيد البدوي: «أنت قمر دولة أصحابي». فلو كان قطبًا لما مكنه من شرب القيء، بل كان ينهاه عن شربه، ويبين له أن شرب القيء حرام؛ لأنَّه نجس. لكنَّه مجذوب يستحسن ما هو حرام غير

مدرك حرمته. وما نقلوه من كراماته: أنَّ الإمام تقي الدين بن دقيق العيد قاض القضاة بالديار المصرية (۱) سمع بالشَّيخ وأحواله، فذهب إليه بطنطا واجتمع به. وقال

(۱) تفقه على مذهبي مالك والشافعي، ثمَّ بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، وكان حافظا للحديث، لكن عنايته بالمتون أكثر من عنايته بالأسانيد، لأجل الاستنباط، وعدوه في المجددين.

أولياء وكرامات

۵۱

له: يا أحمد هذا الحال الذي أنت فيه، ما هو مشكور، فإنَّه مخالف للشرع الشريف، فإنَّك لا تصلي (۱) ولا تحضر الجماعة، وما هذه طريقة الصالحين. فالتفت إليه السيد أحمد البدوي وقال له: اسكت، وإلا أطير دقيقك، ودفعه دفعةً، فلم يشعر بنفسه إلَّا وهو في جزيرة واسعة، لا يعلم لها طولا ولا عرضًا، فأقبل يلوم نفسه ويعاتبها، وهو ذاهب العقل غائب عن الصواب، ويقول: مالي ومعارضة أولياء الله تعالى؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم، وصار يبكي ويستغيث ويبتهل إلى الله تعالى.

فبينما هو كذلك، ظهر له رجل ذو هيبة ووقار وسلَّم عليه، فرد عليه السَّلام وقام إليه وجعل يقبل يديه ورجليه، فقال له: ما قضيتك؟ فأخبره بخبره، فقال له: لقد وقعت في أمر عظيم، أتدري كم بينك وبين القاهرة؟ قال: لا. قال: والله بينك وبينها سفر ستين سنة لعله يقصد بسير السلحفاة فازداد هما على همه وغما على غمّه، وكبر في قلبه الخوف، وقال: ترى من يخلصني من هذه الورطة؟ إنَّا لله وإنا إليه راجعون.

وأقبل على الرجل يقول له: أرشدني يرحمك الله. فقال له: هون عليك الأمر، فما يحصل لك إلَّا الخير إن شاء الله تعالى. قال: وكيف لي بذلك؟ فأخذ بيده، وأراه قبةً كبيرةً. وقاله له ترى هذه القبَّة؟ اذهب إليها واجلس فيها فإنَّ سيدي أحمد البدوي يصلّي فيها العصر بجماعة من الرجال ويودعونه وينصرف كل منهم إلى حال سبيله، فإذ صليت معهم فتعلق به وتملق بين يديه وقبل يديه ورجليه واكشف رأسك وتأدب معه وقل له : استغفر الله وأتوب إليه ولا أعود

(۱) تأمل هذه الجملة، وتذكر هل سمعت بأنَّ قطبا لا يصلي ؟!

۵۲

كتاب الإيمان

لما صدر مني، فإذا رأى منك ذلك فإنَّه يُقبل عليك ويردك إلى موضعك إن شاء الله تعالى. وكان ذلك الرجل هو الخضر عليه السَّلام.

فذهب الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد إلى القبة وجلس فيها، فما كانت إلا هنيهه حتى أقبلت الجماعة من كل جانب ومكان وأقيمت الصلاة، فتقدم السيد أحمد البدوي وصلَّى بهم إمامًا، فلما انقضت الصلاة تعلق به ابن دقیق العيد وكشف رأسه وجعل يُقبل يديه ورجليهويبكي ويستغفر ويعتذر وأنصف من نفسه، فأقبل عليه السيد أحمد البدوي وقال له: ارجع عما كنت فيه ولا تعد إلى مثله (۱). فقال له: السمع والطاعة يا سيدي، فدفعه دفعة لطيفة، وقال: اذهب إلى بيتك فإنَّ عيالك في انتظارك، فلم يشعر ابن دقيق العيد، إلا وهو واقف بباب داره بمصر، فأقام مدة ببيته لا يخرج منه، لما جرى له مع السيد أحمد البدوي.

حكى هذه القصة الشيخ عبدالصمد زين الدين في "الجواهر السنية"، عن شمس الدين محمد المعروف بالحلبي، عن زين الدين ابن النقاش المكنى بأبي هريرة، وهي قصة مكذوبة والغرض من صياغتها أمران: ۱ - تعريف النَّاس أنَّ السيد البدوي إذا كان لا يصلي ولا يحضر الجماعة في مساجد طنطا، فإنَّه كان يصلّي إمامًا بجماعة من الرجال، في جزيرة واسعة تبعد عن مصر بمسافة ستين سنة! ولعل تلك الجزيرة من جزر واق الواق أو تقع خلف جبل قاف، فلا يصح الاعتراض عليه بأنه لا يصلي ولا يحضر الجماعة.

(1) أتدري ما كان فيه؟ كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مع تقوى واستقامة، والوقوف على حدود الشريعة وعدم تعديها.

أولياء وكرامات

٥٣

٢ - أنَّ من يعترض عليه يناله العقاب الشريع، ولو كان في اعتراضه متمسكا بالشريعة، وهذا خلاف ما صرح به الصوفية حيث قالوا: من اعترض على ولي لتقصيره في بعض أحكام الشرع أو خروجه عليه، فلا يستطيع ذلك الولي إذايته، لا بدعاء عليه ولا بكرامة. وهذا الحسين بن منصور الحلاج ، لما حكم العلماء بقتله لما صدر عنه من عبارات كفرية، وأراد أن يمتنع من تنفيذ الحكم بإظهار خارق، قال له بعض

الصوفية: «سلّم الحكم الشرع». فسلَّم، وقُتِل عفا الله عنا وعنه. والصَّلاة أهم أركان الدين، سمَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تاركها

كافرا، وحضور الجماعة واجب، لا رخصة في تركه إلا لضرورة ملحة. جاء أعمى يستأذن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يرخص له في الصَّلاة في بيته؛ لأنه ليس له قائد فرخص له. فلما ولى، دعاه فسأله: «هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: «فأجب» ولم يرخص له (۱).

وكذلك الجمعة، فُرضت بالقرآن، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: منْ تَرَكَ ثلاثَ جُمعَاتٍ مُتوَاليَاتٍ مِن غير عُذْرٍ، طَبَعَ اللهُ على قَلْبِهِ». فكيف يصح لولي أن يترك الجماعة والجمعة (۲) بدعوى أنه يحضرها في بلد يبعد عن

(۱) وكان الربيع بن خيثم يأتي مسجد الجماعة يُهادَى بين رجلين لمرضه. فيقول له الناس: إنَّ الله قد رخص لك، فيقول: فماذا أصنع في منادي ربي وهو يقول: حي على الصلاة؟ (۲) وكيف يترك الصَّلاة في مسجد يسمع نداءه وتجب إجابته ثم يصليها في مسجد لا يجب عليه الانتقال إليهو لا يطالب بالصَّلاة فيه ؟! وقد قرر العلماء أن الولي إذا كان فقيرا لا يملك الزَّاد والراحلة لا يجب عليه الحج، ولو كان يستطيعه بطريق طي

٥٤

كتاب الإيمان

بلده ستين سنة؟! ثمَّ إذا نصحه إمام مثل ابن دقيق العيد مجدد القرن السابع، يقال له: تُب إلى الله ولا تعد؟! ممَّ يتوب إلى الله؟! من النصيحة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم دينا، حيث قال: «الدِّينُ النصيحَةُ : الله ولرسوله

ولأئمة المسلمين وعامتهم»؟!!

والعجيب أن يظهر له الخضر عليه السَّلام فيهول عليه الأمر ويبين له عظم

ما أتاه، حيث نصح السيد البدوي !!

ويشير عليه بأن يذهب إلى السيد البدوي ويتعلق بأذياله، ويكشف رأسه ويُقبل يديه ورجليه !! لأنَّه لم يكن يعلم أنَّ السيد البدوي أعلى من أن تُقدَّم له نصيحة وأرقى من أن يوجه إليه لوم!! لكن صانع القصَّة، لم يكن يعرف خُلُق الإمام تقي الدين بن دقيق العيد، فقد كان عالي الهمة أيّ النفس (۱) ، تكسوه عزَّة الإيمان ويعلوه وَقَارِ العِلم، لا يمكن أن يتملّق لأحدٍ أو يُقبل رجليه ولو كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثُمَّ كيف يأمر الخضر عليه السَّلام الإمام ابن دقيق العيد بالتملق لغير الله تعالى؟! وهو - أعني الخضر عليه السَّلام - يعلم أنَّ الله بعث إليه موسى عليه

المكان أو الخطوة كما يُقال؛ لأنَّ التكليف إنما يتعلق بالأفعال المعتادة لا بالخوارق.

(۱) مما يدل على إباء نفسه وعزتها : أنه لعب مرة الشطرنج -وهو شاب حدث مع صهره وكان من العلماء، وحضر وقت الصَّلاة فصليا، وبعد انتهاء الصَّلاة، سأل صهره

أتلعب ثانيا؟ فأجابه: نعم، وأنشد: إِنْ عَادَتِ العَقْرَبُ عُدنا لها وكانت النَّعْلُ لهـــا حَاضِرَة فترك الشطرنج من ذلك الوقت ولم يعد إليه.

أولياء وكرامات

٥٥

السلام تكريما له لفضل علم عنده ، فكيف يُصغر العِلم في شخص الإمام ابن

دقيق العيد وهو عالم ممتاز يقل مثله في علماء الأمة المحمدية؟!

والحاصل: أنَّ في القصَّة تغيرات، تقضي بأنَّ صانعها لم يتقن صياغتها، ولو فرض صحتها، فهي أدل دليل على أنَّ السيد البدوي كان مجذوبا؛ إذ تُصرّح بأنَّه كان لا يصلي ولا يحضر الجماعة، وأنَّ حاله مخالف للشرع، وأنه أجاب الإمام ابن دقيق العيد بقوله: اسكت وإلّا أطير دقيقك»، وهذا جواب جاف، لا يصدر من شخص في حال وعيه وتمام عقله، وهكذا كلما أراد المتغالون أن يرفعوه إلى مصاف الأقطاب صاغواله من الكرامات ما يقضي بأنَّه من أكبر المجاذيب. واختلقوا له قصَّة مع فاطمة بنت بري بأرض العراق، ذكرها عبدالصمد زين الدين في "الجواهر السنية"، والخفاجي في "النفحات الأحمدية"، وهي قصة طويلة، فيها مبالغات غير معقولة (۱) بل ذكروا في رحلته للعراق خوارق

لا يقبلها العقل، فلا أدري كيف حكاها أولئك المتغالون مصدقين لها؟! وذكروا أنَّ الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد أيضًا، كلف الشيخ عبدالعزيز الديريني أن يذهب إلى السيد البدوي، وقال له امتحن لي هذا الرجل الذي اشتغل الناس بأمره، وأعطاه مسائل يمتحنه بها، فأجاب عنها بأحسن جواب، وقال: هذا الجواب مسطّر في كتاب "الشَّجرة"، فوجدوها في الكتاب كما قال! لكن ما هو كتاب الشجرة ؟ وما موضوعه؟ وأين يوجد (۲)؟ لعله يوجد

(۱) ل ننقلها استثقالا لما فيها من سجع وسمح، وكذب سخيف. (۲) من أنواع علوم اللغة: المشجر . كتب فيه كثير من أئمة اللغة كتباً سموها "شجر الدر" منهم أبو الطيب عبدالواحد بن علي اللغوي قرأت كتابه بخط السيوطي،

٥٦

كتاب الإيمان

في تلك الجزيرة التي دفع إليها الإمام ابن دقيق العيد ! ويزيد بعضهم في هذه الحكاية : أنَّ الشَّيخ عبدالعزيز الديريني لما دخل على السيد البدوي قال له قبل أن يتكلَّم : سلَّم على قاضي القضاة، وقل له: يصلح غلطا في المصحف الذي عنده معلقا في صدر البيت، غلطة في (سورة يس)، |

وغلطة في سورة الرحمن)، ولما روجع المصحف (۱) وجد الأمر كما قال!

وموضوعه: مداخلة الكلام للمعاني المختلفة مثل العين عين الشمس، والشمس شماس الخيل، والخيل الوهم والوهم الجمل الكبير، والجمل دابة من دواب البحر، والبحر الماء الملح، والملح الحرمة، والحرمة ما كان للإنسان حراما على غيره، وحرام حي من العرب، والحي ضد الميت. وبالضرورة هذا غير مقصود في كلام السيد البدوي، كما أنه لم يقصد الكتب التي تشتمل على شجرة النسب. (۱) وهل من المعقول أن يكون في مصحف الإمام ابن دقيق العيد غلطتان وهو المجتهد الذي يستنبط الأحكام من الكتاب والسُّنَّة، ثم لا يعرف تينك الغلطتين حتى يدله عليهما مجذوب؟!

ومثل هذه الحكاية ما يحكى عن الشيخ الأنبابي: أنَّه كان يدرس التفسير بالأزهر،

ووصل إلى قوله تعالى: الْقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: ۱۸] فقرأها: أذئبا يعونك؟ وكتب كرَّاسة في توجيه هذه الجملة، ولما جاء إلى الأزهر صباحًا وقرأ المقرئ الآية، التي هي موضوع الدرس، سمعها الشيخ صحيحة، فأدرك أنَّ ما كتبه مبني على تحريف للآية لم يعلم به إلا في تلك اللحظة! وأجل الدرس إلى اليوم التالي. فهذه الحكاية واضحة البطلان، قصد بها خصوم الشيخ الإنبابي التنكيت عليه، كما قصد السطوحيون بتلك الحكاية التشنيع على ابن

دقيق العيد.

أولياء وكرامات

وذكروا أنَّ امرأةً أُسِر ولدها في الحرب الصليبية، فلجأت إلى السيد البدوي، فأتاها به في قيوده، وقد اشتهرت هذه الحادثة في مصر حتى صاروا يقولونه: «الله الله يا بدوي جاب اليسرى» ، أي: جاب الأسرى. وذكروا أنَّه نقل أسرى بعد وفاته أيضًا، وهو كذب. بل ذكر بعض الناس الذين لا يتقون الله أنهم كانوا يرون السيد البدوي يخرج من قبره، فيتلقى بيده بعض القنابل التي ألقتها الطائرات الألمانية أو الإيطالية خطأ في الحرب الأخيرة، ويضعها في مصرف حتى لا تنفجر !!

وحكايته مع ابن اللبان هول بها المتغالون وطنطنوا مع أنها كذب مكشوف. وحاصلها : أنَّ العلامة شمس الدين محمد بن اللبان حضر من دمشق إلى

القاهرة في مهمة، واستقبله قاضي القضاة بمصر واحتفى به، وبعد صلاة العشاء خرج هو وقاضي القضاة يمشيان في بعض شوارع القاهرة، فلقيا رجلًا من أتباع السيد البدوي، يذكر ويقول : السَّلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا أحمد يا بدوي.

فعجب ابن اللبان، والتفت إلى قاضي القضاة يسأله عن هوية ذلك الرجل

الذي يصيح بالليل في الشوارع، ويشرك شيخه في السَّلام مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟! فتلمس قاضي القضاة العذر لذلك الرجل، ولكن ابن اللبان، قال: يجب تأديبه وتعزيره

فلما نام تلك الليلة رأى في منامه كأنَّ سقف الجامع قد انشق، ونزل منه شخصان جلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الأول: نسلبه الإيمان، فرد عليه الآخر : لا بل نسلبه العلم والقرآن، ونبقي عليه الإيمان، فإنَّه

۵۸

كتاب الإيمان

وقع في حق سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه، ثُمَّ أمسكه الرجلان فهزاه هزا شديدا فطمس الله على قلبه وانتزع العلم والقرآن من صدره!! فأصبح لا يحفظ آيةً من القرآن، ولا يعرف مسألة علمية.

وحضر الناس لصلاة الفجر فاعتذر لهم، فصلُّوا وانصرفوا، ولما طلع النهار أخبر قاضي القضاة بما حصل له بسبب ذلك الرجل الأحمدي فعرض عليه قاضي القضاة أن يحضّر له الفقراء الأحمدية يعتذر إليهم ويسترضيهم،

لكنه اقترح أن يذهب بنفسه إليهم في زاويتهم، فلما وصلا إليها، وقابلا أحد الفقراء الأحمدية، قال لهما قبل أن يكلماه: والله يا محمد ما بيدي حل ولا ربط فسأله قاضي القضاة: ما الخبر ؟ قال سُلب القرآن والعلم. فقال له قاضی القضاة: ياسيدي لوجه الله، وصار يتذلل له، وابن اللبان يبكي، فرقّ قلب الأحمدي، وقال لابن اللبان: تتوب إلى الله تعالى؟ قال ابن اللبان: نعم، ولا أعود لمثلها. قال الأحمدي: سافر إلى سيدي ياقوت العرشي بالإسكندرية، فإنك تلقى الفرج على يديه إن شاء الله تعالى (۱).

فسافر إلى الإسكندرية، ودخل على ياقوت العرشي في زاويته، فلما رآه، قال له يا شمس الدين ما الذي أوقعك في هذه الورطة العظيمة؟!! اذهب

(۱) في رواية ذكرها الشَّعراني في "الطبقات" أنَّ الشَّيخ ياقوت العرشي ذهب إلى السيد البدوي، وكلمه في القبر وأجابه !! وقال له: أنت أبو الفتيان رد على هذا المسكين رسماله - أي رأس ماله فقال : بشرط التوبة. فتاب وردَّ عليه رسماله، بعد أن دار ابن اللبان على الأولياء، فلم يقدر أحد منهم أن يدخل في أمره إلَّا العرشي!! والرواية التي أوردناها

ذكرها صاحب الجواهر السنية"، والتضارب بين الروايتين دليل على الكذب

أولياء وكرامات

۵۹

وتوضأ وصل، فقال ابن اللبان أنه نسي القرآن، فأمره الشيخ أن يشتغل بالذكر، وبعد ثلاثة أيام رأى في المنام النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالسا على كرسي عالي من نور، والأنبياء كلهم على كراسي، والسيد البدوي واقفًا بين يديه، وهو يقول له: يا أحمد لأجلنا طيب خاطرك على محمد بن اللبان، ثم التفت إلى ابن اللبان، وقال له: أما علمت أنَّ من أولياء الله تعالى من هو تحت جناحي الأيمن

ومنهم من تحت جناحي الأيسر ؟ وأحمد البدوي تحت جناحي الأيمن. فاستيقظ ابن اللبان وأسرع إلى باب الخلوة، فوجد الشيخ ياقوت العرشي واقفا يهدر وله زئير كالأسد! وقال له يا محمد أبشر فقد قضيت حاجتك، فإنّي شقت عليه جميع الأولياء، فلم يقبل فسقت عليه سيد الأولين والآخرين صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد رأيت بعينك، فسافر الآن إلى طنطا، وطف حول صندوق سيدي أحمد البدوي (۱) وأقم عنده ثلاثة أيام، فإن حاجتك قد قضيت.

فذهب ابن اللبان إلى طنطا، وأقام عند ضريح السيد البدوي ثلاثة أيام، يطوف ويبكي ويتضرع، وفي الليل ينام عند رجليه، وفي الليلة الثالثة رآه في المنام يقول له: لا تعد لمثلها، فوالله لولا جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسلبتك الإيمان !! ثمّ وضع يده على صدره، فعاد إليه حاله وعلمه!! ولما استيقظ ابن اللبان وجد نفسه يحفظ القرآن، ويعرف العلم كما كان!!! هذه قصة ابن اللبان، لعن الله من اختلقها، فقد كان وقحا قليل الأدب لا يعرف

(1) كيف يأمره العرشي بالطواف حول الضريح ؟ وكيف قبل ابن اللبان هذا الأمر

المخالف للشريعة؟

كتاب الإيمان

قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجلُّه الإجلال اللائق بمقامه العظيم. ثم ماذا فعل ابن اللبان حتى استحق هذا العقاب؟ أنَّه أنكر على الفقير الأحمدي أمرين منكرين:

۱ - إشراك شيخه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السَّلام.

٢ - صياحه بعد صلاة العشاء، وهو وقت نوم الناس وراحتهم. وإذا نهى العالم عن منكر أو أمر بمعروف أو نبه على خطأ، فإنَّه يستحق الشكر والتقدير ، لا العقاب والتعزير ، لكن يظهر أنَّ المفاهيم انقلبت عند أهل الطريقة الأحمدية وشيخهم، فهم يرون النصيحة ذما، ويعتبرون التنبيه على يقع من أحدهم إزراء بهم وبشيخهم، فلذلك يختلقون حكايات تخبر بنزول العقاب الشَّديد السَّريع على من وجه نقدا إلى السيد البدوي أو أحد أتباعه، مثل هذه الحكاية وحكاية ابن دقيق العيد.

خطأ

ومثل ما حكوه: أنَّ شخصًا أنكر حضور مولد السيد البدوي الذي يقام بطنطا كل سنة، فسُلب الإيمان، فلم تكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام، فاستغاث بسيدي أحمد البدوي !! (۱) فقال: بشرط ألا تعود! فقال: نعم. فردَّ عليه ثوب إيمانه ثمَّ قال له وماذا تنكر علينا؟ فقال: اختلاط الرجال والنساء (۲)، فقال له السيد البدوي: ذلك واقع في الطواف، ولم يمنع

(۱) نسي أن يستغيث بالله تعالى!

(۲) قد يكون هذا أهون ما يقع في الموالد التي تقام للأولياء، ويكون فيها أنواع من المعاصي: زنا ولواط وخمر وحشيش وقمار وغير ذلك.

أولياء وكرامات

٦١

أحد منه، ثم قال : وعزّة ربي ما عصى أحد في مولدي إلا وتاب وحسنت توبته، وإذا كنت أرعى الوحوش والسَّمك في البحار وأحميها من بعضها، أفيعجزني الله عن حماية من يحضر مولدي ؟!! وفي هذه الحكاية أشياء تخدش دين السيد أحمد البدوي، وتثبت نقص إدراكه، فإنَّ سلب الإيمان عمَّن ينتقده معناه أنه يحب لمنتقده الكفر، ويرضى له به، ومحبة الكفر أو الرضا به كفر .

وقد نص العلماء على أنَّ كافرا لو أتى إلى خطيب يخطب الجمعة، وقال له: «أريد الإسلام»، وجب علي الخطيب أن يلقنه الشَّهادة في الحال، ولو قال له:

انتظر حتى تنتهي ! الخطبة كفر؛ لأنَّه رضي بقاءه على الكفر مدة الخطبة.

فانظر كيف نسب المتغالون الكفر إلى السيد البدوي وهم لا يشعرون؟ هذا إن فرضنا صحة ما حكوه من سلب الإيمان، وإلا فإنَّ الإيمان لا يقدر على سلبه أو إثباته السيد البدوي، ولا من هو أقوى منه وأفضل، وإنَّما هو خاص بالخالق القادر المقتدر سبحانه. فإذا سمعت أنَّ وليَّا أو نبيًّا أو ملكًا نزع الإيمان من قلب شخص أو ردّه إليه، فاعتقد أنه كذب محض.

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يَا مُقَلِّب القُلُوبِ ثَبِّت قَلْبي على دينك»، فسأله بعض أمهات المؤمنين عن هذا الدعاء الذي كان يكثر منه؟ فقال لها: «إنَّ قلوب بني آدمَ كلّها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يُقلبه كيف يشاء». وقياس المولد على الطواف يقتضي أن السيد البدوي مجذوب، لا يعي ما

٦٢

كتاب الإيمان

يقول، فإنَّ الطواف عبادة، جعله الله ركنا من أركان الحج والعمرة، والطائف لا بد أن يكون متجرّدًا من ثيابه، يحرم عليه مس الطيب وقربان زوجته. ولو فعل بطل حجه أو عمرته، أما المولد فقد أحدثه الشيخ عبدالعال بعد موت شيخه، ولو فرضنا أنه حدث في حياة السيد البدوي فهو بدعة، وكيف تقاس البدعة على العبادة؟ إلَّا أن يقال: إنَّ المولد فيه طواف بالضريح، فأشبه الطواف بالكعبة! ثبت عن القطب الكبير سيدي عبد السَّلام بن مشيش رضي الله عنه أَنَّه

قال: سألت الله أن يشفعني فيمن جاء إليَّ زائرا.

هذا كلام معقول، ولي أحبَّ أن يُكافئ زُوَّاره، فسأل الله أن يشفعه فيهم. وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض ثابته بالسُّنَّة الصحيحة، وابن مشيش مع كونه من كبار الأقطاب، مات شهيدًا قتله أبو الطواجن مُدَّعي النبوة، لكن من غير المعقول ولا من المقبول أن يقول السيد البدوي: «وعزَّة ربي ما عصى أحد في مولدي إلا تاب وحسنت توبته؛ لأنَّه ائتلاء على الله ) واجتراء على الغيب. وقوله: «وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك في البحار، وأحميها من بعضها مردود بلا نزاع فالذي يرعى المخلوقات ويحميها من بعضها هو الله سبحانه وتعالى لا أحد سواه كائناً من كان. وذكروا من كرماته أنه كان ملثما بلثامين لا يخلعهما، فقال له تلميذه الشيخ عبد المجيد يوما يا سيدي أريد أن أرى وجهك ،أعرفه، فقال: يا عبدالمجيد كل نظرة برجل، فقال: يا سيدي أرني ولو مت فكشف له اللثام الفوقاني، فصعق

(۱) والله لا يحب من يتألى عليه.

أولياء وكرامات

ومات!!

٦٣

كان الجاحظ قبيح المنظر ، بحيث كان النساء يخو فن أطفالهن به، لكن يظهر أنَّ السيد البدوي فاقه في قبح المنظر، بحيث من نظر إليه يُصعق ويموت! ولهذا كان متلتها بلثامين يستر بهما وجهه لا يخلعها إلَّا إذا زاره أخوه السيد حسن، ولم يكن أحد من عائلته متلنما غيره (۱). هذا هو التعليل الصحيح لموت عبد المجيد حين رأى وجه شيخه - إن صحت الحكاية - لكنها غير صحيحة، مثل باقي الحكايات التي افتروها عليه، وهي كثيرة.

بعض كرامات السيد إبراهيم الدسوقي

وذكر الشيخ عبد الجواد الشربيني في كتاب "درر الأصداف": أنَّ سبعة من القضاة ركبوا النيل إلى دسوق ليمتحنوا الشَّيخ إبراهيم الدسوقي، فلما وصلت المركب إلى دسوق أرسل إليهم النقيب فدفعهم فوجدوا أنفسهم خلف جبل قاف ! فأقاموا سنة يأكلون من حشيش الأرض حتى تغيرت أجسادهم

النقيب،

وخلقت ثيابهم، ثمَّ تذكَّروا ما وقعوا فيه، فتابوا هنالك، فأرسل لهم ا فدفعهم فوجدوا أنفسهم على ساحل دسوق، ومسح الله من قلوبهم تلك الأسئلة كلها واعترفوا بما كانوا جاؤا لأجله، فقال لهم الشيخ: قولوا ما

عندكم من المسائل فضحكوا وقالوا: يكفينا ما جرى لنا، فأخذوا عليه العهد

وصاروا تلامذته.

هذه الحكاية مكذوبةٌ، والصَّنعة فيها ظاهرة وأولئك القضاة البؤساء الذين

(۱) وهذا من أدلة جذبه.

٦٤

كتاب الإيمان

قعدوا خلف جبل قاف مشردين ألم يكن لهم أهل وأقارب يسألون عنهم؟! ألم تكن عندهم قضايا يدرسونها ويفصلون فيها بين أصحابها؟! وهل اعتبرهم قاضي القضاة ماتوا، أو اختطفوا، أو ماذا ؟!!

يجوز أن يكون نقيب الشيخ اتصل بأهاليهم وبقاضي القضاة، وأخبرهم

أنهم أبعدوا إلى جبل قاف لمدة سنة زجرًا لهم وتأديبا !!

لقد كان لصانع هذه الحكاية أن يصوغها على غير هذا الوجه، بأن يقول: فلما وصلت المركب إلى دسوق وقابلوا الشَّيخ، أرادوا أن يسألوه فنسوا ما

جاءوا (۱) لأجله، ولم يتذكَّروا شيئًا، فعلموا أنها كرامة من الشيخ.

أو يقول : فلما ذهبوا إلى الشَّيخ وسألوه، أجابهم بما بهر عقولهم، واستفادوا منه ما لم يكونوا يعرفونه.

مثل هذه الكرامة لو حصلت للشيخ الدسوقي تشرفه وتُعلي قدره. كما حصل للإمام البخاري رضي الله عنه، فإنَّه لما جاء إلى بغداد وعقد مجلسًا لإملاء الحديث اتفق عشرة من العلماء أن يتقدموا إليه بمائة حديث

(۱) حكي مثل هذا في كرامات الشيخ شمس الدين الحنفي: جاءه مرَّة قاض من المالكية يريد امتحانه، فأعلموا الشيخ أَنَّه جاء ممتحنا ، فقال الشيخ ) الله عنه: إن استطاع يسألني ما عدت أقعد على سجادة الفقراء.

فلما جاء القاضي يسأل، قال: ما تقول في...؟ وتوقف! فقال له الشيخ: نعم. فقال: ما تقول في؟ وتوقف، حتى قال ذلك مرارًا، ولم يفتح عليه بشيء. فقال القاضي: كنت أريد أن أسأل عن سؤال وقد نسيته، ثُمَّ كشف رأسه واستغفر وأخذ عليه العهد بعدم الإنكار على الفقراء، والاعتراض عليهم.

أولياء وكرامات

70

يسألونه عنها، على أن تكون مقلوبة؛ إسناد هذا الحديث يجعلونه لحديث آخر، وهكذا، فلما جلس للإملاء قام أحد العشرة، فسأله عن عشرة أحاديث مقلوبة، والبخاري يجيب عن كل حديث منها بقوله: «لا أعرفه». فأما العلماء فأدركوا أنَّ البخاري إمام. وأمَّا العامة فظنوا أنه عجز عن الجواب، ثُمَّ قام الثاني والثالث إلى العاشر، والبخاري لا يزيد على قوله: «لا أعرفه». فلما علم أنهم أتموا سؤالهم، التفت إلى الأول، فقال له : الحديث الأول صوابه كذا. والثاني صوابه كذا. حتى أتمَّ الأحاديث العشرة. ثم التفت إلى الثاني والثالث: حتى صحح الأحاديث المائة كلها، وردَّ كل حديث إلى إسناده، على الترتيب

الذي ذكروه، فخضعوا له، واعترفوا بحفظه واتقانه.

هذه هي الكرامة، أما الحكاية التي افتروها على الشيخ إبراهيم الدسوقي فهي تصوره بصورة الشخص الذي لا يعرف العلم، ويخاف من أسئلة العلماء. وحكوا من كراماته أن تمساحًا خطف صبيًّا، فأتت أمه مذعورة فأرسل نقيبه، فنادى بشاطئ البحر معاشر التماسيح من ابتلع صبيا، فليطلع به، فطلع ومشى معه إلى الشَّيخ، فأمره أن يلفظ بهفلفظه حيًّا !!! وقال للتمساح : مت بإذن الله، فمات! (۱).

(۱) حكي مثل هذه الحكاية في مناقب ذي النون المصري على وجه معقول أو قريب من المعقول، قال ذو النون: جاءتني امرأة فقالت: إنَّ ابني أخذه التمساح، فلما رأيت حرقتها على ولدها أتيت النيل وقلت: اللهم أظهر التمساح. فخرج إلى فشققت عن جوفه فأخرجت ابنها حيا صحيحًا فأخَذته ومضت، وقالت: اجعلني في حل فإنّي

77

كتاب الإيمان

هذه خرافة ظاهرة، فلو سلمنا بما قالوا: أنَّ الشيخ كان يتكلم بالسرياني والعجمي والطلياني واليوناني ،واللاوندي، ولغة الوحوش والطير، فلا نسلّم أن نقيبه كان يعرف تلك اللغات، وأنَّ التمساح احتفظ بالطفل في بطنه حيًّا، انتظارا لنقيب الشيخ الذي جاء يناديه !

ونقلوا عنه أيضًا أشياء فيها مبالغات ومجازفات. وقالوا: إنَّه ذكرها في كتابه "الجواهر". وما نظنُّ أنَّ الكتاب له، وإنما كتبه بعض أتباعه، ونسبه إليه.

حكاية محمد بن هارون السنهوري مع صبي القرداتي:

وحكي عن الشيخ محمد بن هارون السنهوري: أنَّه كان إذا خرج من صلاة الجمعة تبعه أهل البلد يشيّعونه إلى داره، فمرَّ بصبي القراد وهو جالس تحت حائط يفلي خلقته من القمل، وهو ماد رجليه، فخطر في سر الشيخ أنَّ هذا قليل الأدب، يمد رجليه ومثلي يمر عليه. فسُلب لوقته وفر الناس عنه، فرجع فلم يجد الصبي. فدار عليه في البلاد إلى أن وجده في رميلة مصر، فلما نظر القراد الكبير إليه وهو واقف، وقد فرغوا، قال له: تعال يا سيدي الشيخ مثلك يخطر في خاطره أنَّ له مقاما أو قدرًا؟! هذا الصبي سلبك حالك، فله أن يمد رجله بحضرتك، لكونه أقرب إلى الله منك! فقال: التوبة. فأرسله إلى سنهور، إلى الحائط الذي كان يغلي ثوبه عنده وقال له: ناد السحلية التي هناك في الشق. وقل لها : إنَّ قزمان (۱) طاب خاطره عليَّ، فردي علي حالي، فخرجت

كنت إذا رأيتك سخرت منك وإني تائبة إلى الله تعالى.

(1) هذا الاسم من أسماء النَّصارى، ولا نعلم مسلما اسمه قزمان، فإن كان صانع الحكاية يعتقد أنَّ في النصارى أولياء مقربين فهو في ضلال مبين. أما سمع قول الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ

أولياء وكرامات

٦٧

ونفخت في وجهه، فرد الله عليه حاله.

فهذه الخرافة تفيد أنَّ صبي القرَّاد (۱) - وهو لا يصلي الجمعة، وربما لا يصلي إطلاقا - سلب الولي حاله ! لكونه أقرب إلى الله منه! وعلى هذا، لا داعي للصَّلاة ولا للعبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، كما جاء في الحديث: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه.... الحديث. وما على الإنسان إلَّا أن يشتغل قرادًا أو صبي قراد، فيعطيه الله الاطلاع على الضمائر، ويجعله أقرب إليه من بعض أوليائه! ثمَّ إِنَّ الولاية هانت وصغر شأنها، بحيث عادت إلى الولي بنفخ سحلية، إنَّ الذين يحكون مثل هذه الحكايات السخيفة، يُصغرون ما عظم الله، ويفتحون باب القول للسفهاء البطالين الذين لا يُحسنون الوضوء، وهم يدعون الولاية الكبرى.

حكاية يوسف الكردي و الجوهري وتحقيق معنى طي الزمان:

وذكر الشيخ يوسف الكردي تلميذ الشيخ إبراهيم المتبولي، وكان مقيما بالخلوة في زاوية الشيخ ببركة الحاج قال : اشتقت إلى أهلي بحصن كيفا من بلاد الأكراد، فشاورت ،الشيخ، وكان ذلك بعد صلاة العصر، فقال: إن شاء الله يكون، فدخلت الخلوة أقرأ ورد العصر.

فرأيت نفسي داخل بيتي، والنَّاس تسلّم عليَّ، وشالوا الأعلام قدامي،

غير الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ ﴾ [آل عمران: ٨٥]. (۱) بتشديد الراء هو الذي يربي القرد ويعلمه أنواعًا من اللعب والحركات. ويسمى في مصر القرداتي.

٦٨

كتاب الإيمان

فدخلت دارنا فسلمت على أمي وأبي، ومكنت عندهم أخطب في الجامع، وأقرئ أطفالا مدة تسعة شهور فقوي اشتياقي إلى الشيخ، فشاورت والدي ووالدتي، فأذنا لي، فخرجت إلى موضع خارج البلد، فإذا بي في خلوتي ببركة الحاج. فخرجت لأسلّم على إخواني، فلم يسلّموا علي، فأخبرتهم بسفري، فقالوا:

يوسف حصل له جنون، فعلم الشيخ بذلك، فقال: اكتم يا ولدي ما معك ! نقل هذه الحكاية الشيخ الشعراني، وشعر ببعدها فقال: حدثني بهذه القصة في حال كماله وعقله. قال : وهذه القصَّة تشبه مسألة الجوهري الذي غطس في البحر فرأى نفسه في بغداد، فتزوج وجاء بالأولاد، ثُمَّ رفع رأسه فإذا هو عند ثيابه بساحل النيل بمصر. فخرج في الحس ما كان في عالم الخيال. قلت: أتعجب ممن يصدق مثل هذه الحكاية، ويزعم أنها من طي الزمان!

مع أنها محال، لا يتصوّر العقل حصولها أبدًا. والكرامات لا تخرج عن دائرة الإمكان، وطيُّ الزَّمان له معنيان ممكنان

واقعان

أحدهما: الخروج عن دائرة الفلك التي يتكون عن حركتها الليل والنهار، كما حصل للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليلة المعراج، فإنَّه تجاوز دائرة الفلك، وترقّى حتى وصل إلى سدرة المنتهى ، فطوى الزمان ومشى في العالم العلوي مسافة لو قيست بالزَّمان كانت بضعة آلاف من السنين(۱)، وهذا طي حقيقي، ومن هذا كان المعراج معجزة عظيمة طوى الله فيها لنبيه الزمان

(۱) بل بضعة آلاف ألف من السنين؛ لأنَّ سدرة المنتهى خارجة عن دائرة المجموعة الشمسية بما فيها من نجوم وكواكب لا يعلم عددها إلَّا الله.

أولياء وكرامات

79

والمكان، أما طيُّ الزَّمان فقد علمته، وأمَّا طي المكان؛ فلأنه فارق العالم

الأرضي إلى العالم العلوي، ورأى فيه من آيات ربه الكبرى ثم عاد في ليلة. ثانيهما: طي مجازي، وهو أن يتيسر للشخص في الزمن اليسير من العمل النافع ما لا يتيسر لغيره إلَّا في زمن طويل، كالإمام الشافعي رضي ا عاش أربعًا وخمسين سنة، أنشأ فيها مذهبين المذهب القديم بالعراق، والمذهب

الله عنه

الجديد بمصر، واخترع علم الأصول، وترك من الآثار العلمية، ما لم يتيسر لغيره ممن عاشوا مائة سنة . وكذلك الغزالي رضي ا الله عنه عاش خمسا وخمسين سنة، وترك من المؤلفات في مختلف العلوم خصوصا كتاب "إحياء علوم الدين"- ما لم يتيسر لغيره في عدة سنين، هذا إلى ما كان يقوم به من تدريس العلوم للطلبة، مع التعبد والمجاهدة لنفسه. أما أن يذهب الشخص إلى العراق مثلا، ويمكث هناك سنة وتكون تلك السنة في مصر ساعة من نهار، فهذا أمر محال، تدرك استحالته بالبداهة العقلية؛ لأنه يلزم عليه أن تكون الساعة التي مضت بمصر، مساوية للسنة التي قضاها بالعراق والساعة كما هو معلوم جزءً من الليل والنهار اللذين هما جزء من الشهر الذي هو أحد الأجزاء الإثنى عشر التي تتكون منها السنة، ومساواة الساعة للسنة، يلزم عنها مساواة الجزء للكلِّ وهو محال، فما أدى إليه يكون محالا، ومن تحدث بوقوعه له أو لغيره، لا يخلو من أحد ثلاثة أشياء: إما أن يكون كاذبا يريد تعظيم شيخه أو نفسه، وإما أن يكون أحمق لا يدري ما يقول، وإما أن يكون واسع الخيال، تخيل أمرًا فخاله حقيقة (۱).

(۱) مرَّ قريبا قول الشَّعراني: فخرج في الحس ما كان في عالم الخيال.

كتاب الإيمان

محمد تاج الدين الذاكر وأبو السعود الجارحي:

وذكر في ترجمة الشيخ تاج الدين الذاكر : أنَّه كان يمكث سبعة أيام بوضوء واحد، وفي آخر عمره كان يتوضأ وضوءًا واحدًا كل أحد عشر يوما، وأراد جماعة أن يمتحنوه، فدعوه إلى ناحية الجيزة في الربيع، وصاروا يعملون له الخرفان والدجاج واللبن بالأرز وغير ذلك، وهو يأكل معهم من ذلك، ثم لا يرونه يتوضأ لا ليلا ولا نهارا مدة تسعة أيام.

وذكر في ترجمة أبي السعود الجارحي: أنَّه كان ينزل في سرداب تحت الأرض أول ليلة من رمضان فلا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام، وذلك بوضوء

واحدٍ من غير أكل، وأما الماء، فكان يشرب منه كل ليلة قدر أوقية.

ليس من المعقول أن يستغني الإنسان عن قضاء الحاجة يوما، فضلًا . أكثر. والمعروف أنَّ أهل الجنة خصهم الله تعالى بأنهم لا يقضون الحاجة فيها.

"

عن

ففي "صحيح مسلم ، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يتغوطون ولا يبولون ولا يمتخِطُون، ولكن طعامهم ذلك جشاء ورشح

كرشح المسك، يُلهمون التسبيح والتحميد، كما تُلهمون أنتم النفس». هذا مما ميزهم الله به عن أهل الدنيا، ولما أراد الله أن يبين للنصارى بشرية

عيسى وأمه عليهما السلام بأوضح بيان وأنصع برهان. قال: مَا الْمَسِيحُ ابن مريم إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يأكلان الطعام ﴾ [المائدة: ٧٥]، أي: ومن يأكل الطعام يضطر أن يخرج

أولياء وكرامات

۷۱

فضلته من الجسم، فهو بشر وليس بإله.

ثم ما كان يفعله أبو السعود الجارحي في رمضان مخالف للسُّنَّة النبوية، وهو دليل على أنه لم يبلغ درجة القطبية؛ لأنَّ القطب يكون في عبادته وجميع أحواله متقيدا باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ عبادته أكمل العبادات.

و من الكرامات العجيبة معزة السيدة نفسية :

وقصتها طويلة، حكاها الجبرتي، قرأتها منذ مدة، والذي أتذكره منها: أنَّ الناس فتنوا بها، فكانوا يبعثون إلى الشيخ عبداللطيف مؤذن مسجد السيدة نفسية - وهو مخترع قصة المعزة يطلبونها منه للتبرك بها. وكان يأخذها إليهم فيتمسحون بها ثمَّ يردُّونها إليه مع هدايا ثمينة من نقود وثياب وغير ذلك، حتى وصل الخبر إلى الأمير كتخدا، فبعث إليه يطلب المعزة للتبرك بها، فذهب إليه الشيخ عبد اللطيف راكبًا على بغلة والمعزة بين يديه حتى وصل إلى بيت الأمير فقدمها إليه، فأظهر الأمير أنه يتبرك بها، ثم أمر بإدخالها إلى الحريم للتبرك أيضًا، وأشار إلى طباخه بذبحها وطبخها، فلما حضر الغداء صار الأمير يقدم اللحم إلى الشيخ عبداللطيف ويقول له: كل منه فإنَّه لحم لذيذ، والشيخ يقول: نعم يا مولانا الأمير ما أكلت لحما ألذ منه، وانتهى الغداء وأراد الشيخ أن ينصرف، وطلب المعزة منتظرًا ما يأتي معها من هدايا فخمة. فقال له الأمير: تغديت بها، فبهت الشَّيخ، فوبخه الأمير على استغلاله المعزة، وأرجعه راكبًا على بغلته مقلوبا رأسه إلى جهة دبرها، وشنّع به.

وذكر في مناقب الشيخ محمد بن أحمد الفرغل: أن تمساحًا خطف بنت

۷۲

كتاب الإيمان

مخيمر النقيب، فجاء وهو يبكي إلى الشيخ ، فقال له: اذهب إلى الموضع الذي خطفها منه وناد بأعلى صوتك يا تمساح تعال كلّم الفرغل، فخرج التمساح من البحر، وطلع كالمركب وهو ماش والخلق بين يديه جارية يمينا وشمالا، إلى أن وقف على باب الدار، فأمر الشيخ -رضي الله عنه - الله عنه - الحداد بقلع جميع أسنانه، وأمره بلفظ البنت من بطنه فلفظها حيَّة مدهوشة، وأخذ على التمساح العهد ألا يعود يخطف أحدًا من بلده ما دام يعيش، ورجع التمساح

ودموعه تسيل حتى نزل البحر.

تقدم مثل هذه الحكاية في كرامات الشيخ إبراهيم الدسوقي، وهي مكذوبة كسابقتها، والشَّيخ فرغل كان مجذوبًا كما في ترجمة الشيخ الحنفي من "طبقات الشعراني".

طيران النعش بالميت كذبه الشعراني وأنكره:

ومن الكرامات الغريبة: طيران النعش بالميت، وهذه كرامة لم أجدها في كتب تراجم الأولياء المخطوط منها والمطبوع ، ولم أسمع بها حتى حضرت إلى مصر، فوجدتها شائعة بين أهل حاضرتها وباديتها، وتحيَّرت في أمرها، ولم اختص بها أولياء مصر دون سائر البلاد الإسلامية؟

ثم زالت حيرتي حين وقفت على رسالة مخطوطة للشيخ الشعراني ألفها في هذا الموضوع، وقرأتها فإذا هو يذكر فيها أنَّ العامة في وقته ابتدعوا هذه البدعة وادعوا أنهم شاهدوا النَّعش يطير ببعض الموتى، وكذَّبهم في هذه الدعوى وذكر أنه لا أصل لها في الدين وليس عليها دليل، وغاية ما في الباب حديث أبي سعيد الخدري رضي ) الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم

أولياء وكرامات

۷۳

يقول: «إذا وُضِعَتِ الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قدموني. وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها يا ويلها أين تذهبون بها،

يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمع الإنسان لصعق» رواه البخاري. لكن هذا لا يقتضي طيران النعش بالميت، فعرفت حينئذ أنَّ حكاية طيران النعش كذبة ابتدعت في عهد الشَّعراني وهو القرن العاشر الهجري، وتتبعتها في عدة جنازات شهدتها بالقاهرة وبالأرياف فوجدتها كذبا كما قال الشعراني، وأنَّ الحاملين للنَّعش يفعلون حركات بهلوانية توهم النَّاس أَنَّ النَّعش يطير، وأنَّ الحاملين يتشبثون به حتى لا يفلت من أيديهم، وقد يكذب بعض النَّاس حسبة، ليرفع من شأن الميت. حضرت جنازة شيخنا عالم الديار المصرية وشيخ شيوخها، الشيخ محمد

(۱) وكذبةٌ أخرى شاعت بمصر، وهي دعوى أنَّ النَّعش يثقل على حامليه بحيث لا يستطيعون حمله؛ لأنَّ الميت لا يريد نقله من ذلك المكان لسبب من الأسباب، ذكر لي

جماعة كنت عندهم بمعديَّة رشيد: أنَّ امرأة توفيت في تلك الجهة، ويظهر أنها كانت صالحة، فادَّعى أهلها أنهم بعد أن جهزوها ووضعوها في النعش، حاولوا حملها فلم يستطيعوا، وسرت الإشاعة بين أهل البلد بسرعة، وعلم مأمور المركز فبعث أربعة عساكر حملوا النعش إلى المقابر في هدوء، وكنت أعرف شخصا شاذليا اسمه الشيخ عبد الكريم، كان صالحا ذاكرًا يقوم الليل، على وجهه نورانية ظاهرة، فلما توفي رحمه الله زعم مشيعوه أنهم حين وصلوا به إلى باب زويلة بوابة المتولي وقف النعش كأَنَّه مشدود إلى الأرض بمسامير ، ولم يتحرَّك حتى أقاموا حضرة ذكر، كما كانوا يقيمونها عنده في الزاوية الشاذلية بدرب الحجر !

٧٤

كتاب الإيمان

بخيت - رحمه الله - وبعد الصَّلاة عليه بالجامع الأزهر خرج النعش محمولا على الأعناق، فقال بعض الطلبة: انظروا إلى النَّعش يطير ! فنظرت فرأيت النَّعش يهتز بحركة الحاملين له مع شدة الزحام، فقلت له: إنَّه لا يطير، ولكنَّه الزّحام أحدث ما ترى، فقال: إنَّه يطير ، فأحددت بصري فلم أر طيرانا، فراجعته،

فقال: صدقني إنَّه يطير. فقلت: سبحان الله ترى ما لا نرى!!

حكاية عيسى بن نجم

وقال الشعراني في "الطبقات : سمعت سيدي عليا المرصفي رضي الله عنه يقول : مكث سيدي عيسى بن نجم -رضي الله عنه - بوضوء واحد سبع عشرة سنة. فقلت: يا سيدي كيف ذلك؟ فقال: توضأ يوما قبل أذان العصر، واضطجع على سريره وقال للنقيب لا تمكّن أحدًا يوقظني حتى أستيقظ : بنفسي، فما تجرأ أحدٌ يوقظه، فانتظروه هذه المدة كلها فاستيقظ وعيناه كالدم الأحمر، فصلى بذلك الوضوء الذي كان قبل اضطجاعه، ولم يجدد وضوءه، وكان في وسطه منطقة، فلما قام وحلها تناثر منها الدود. قال الشعراني: وهذه الحالة من أحوال الشُّهود، فيمضي على صاحبها

عمره كله كأنَّه لَمْحَة ،برق، كما يعرفه من سلك أحوال القوم. قلت: وقد يحصل للشَّخص غيبوبة، عدة سنوات لإصابته بمرض النوم أو

إغماء أو نحو ذلك، لكن تجب عليه الطهارة إذا أفاق.

ويظهر أن الشيخ عيسى بن نجم لم يكن عالما، فصلى بوضوئه السابق على غيبوبته، وهي صلاة باطلة، ومثل هذا لا يعد كرامة، بل هو نتيجة جهل بحُكْمِ

شرعي.

أولياء وكرامات

Vo

حكاية حصان دخل قبره ولم يخرج منه :

وذكر الشَّعراني في ترجمة الشيخ عيسى بن نجم أيضًا، نقلا عن الشيخ محمد البرأْسي: أنَّ شخصًا نذر: إن ولدت فرسي هذه حصانًا، فهو لسيدي عيسى بن نجم، فولد له حصانًا فلما كبر، أراد أن يبيعه، وقال: إيش يعمل سيدي عيسى له؟ فبينما هو مار به ذات يوم – وقد صار تجاه سيدي عيسى- رمح من صاحبه حتى دخل الزَّاوية، فرمح صاحبه من ورائه، فدخل الحصان قبر الشيخ ولم يخرج.

قلت: يكثر من النَّاس أن ينذروا حصانًا للشيخ فلان، أو عِجلًا للشيخ فلان، ولا يكاد يخلو بيت في الفلاحين بالوجه البحري في مصر من أن ينذر صاحبه أو صاحبته عِجّلًا للسيّد البدوي أو خروفًا أو ديكا أو نحو ذلك، وعجل السيد مثل معروف عندهم، وهو أشبه بالسائبة التي كانت في الجاهلية. و النذر عبادة الله تعالى كالصَّلاة وغيرها من العبادات، وهو نوعان:

۱ - نذر لجاج، وهو ما يقع بشرط نحو : إن شفاني الله، أو قضى مسئلتي، فلله على أن أتصدق بكذا دينار، أو أذبح عِجّلًا وأطعمه للفقراء، وفي هذا يقول النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ النَّذْرَ لا يُقرِّبُ من ابن آدم شيئًا لم

(1)2

يكن الله تعالى قدره له ، ولكن النذر يوافق القَدَر فيُخْرِجُ (۱) ذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرج» رواه مسلم في "صحيحه". ۲ - ونذر بر، وهو الذي لا يكون بشرط. نحو الله على إطعام بعض

(۱) بضم الياء وسكون الخاء وكسر الراء.

٧٦

كتاب الإيمان

الفقراء، أو الله على صوم يوم أو أكثر، أو نحو ذلك.

وقد مدح الله تعالى الوفاء به في قوله سبحانه: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ [الإنسان: ۷] والنوع الأول يكره ابتداء؛ لأنه يفيد معاملة العبد الله بالشرط، لكن إذا وقع وجب الوفاء به كما يجب الوفاء بالنوع الثاني، ومن هنا تعلم أنَّ النَّذر لنبي أو لولي لا يجوز، كما لا تجوز الصَّلاة له أو الصّيام، ولما كثر من العوام النذر للأولياء، وفي الغالب يكون الولي المندور له ميتا والميت لا يملك.

أفتى بعض العلماء المتأخرين بأن معنى قول الشَّخص: نذرت هذا العجل أو الحصان لفلان الولي: أنَّه نذر الله، وثوابه لروح ذلك الولي صدقة عليه، وحيث كان الولي ميتا، فإنَّه يعطى لأولاده. وإن لم يكن له أولاد، أعطي لأتباعه والمقيمين بزاويته، وهذا تحايل لتصحيح النذر الواقع من العوام الجهلة بأحكام الشرع. وكثير من الأولياء لا يعرفون الأحكام الشرعية يعتبرون هذه النذور -

حقا

لهم مكتسبا، وإذا وقع للناذر شيء يؤذيه، اعتبروه كرامة لهم حيث لم يف بنذره. والعجب من الشيخ الشعراني - وهو فقيه شافعي- كيف يوافق العامة على آرائهم المخالفة للشرع ويحكي أنَّ الحصان المنذور رمح من صاحبه ودخل قبر الشيخ المنذور له!!

وكيف عرف الحصان أنَّه مَنذُورٌ للشيخ أو ماذا يفعل الشيخ بالحصان في قبره؟ تالله إنَّ هذه الحكاية لفرية، ما فيها مرية.

الشيخ الشربيني ردَّ ملك الموت حين حضر لقبض روح ولده: وقال الشيخ الشعراني أيضًا في ترجمة الشيخ محمد الشربيني: ولما ضعف ولده أحمد وأشرف على الموت وحضره عزرائيل لقبض روحه، قال له الشيخ:

أولياء وكرامات

۷۷

ارجع إلى ربك فراجعه فإنَّ الأمر نُسخ، فرجع عزرائيل، وشفي أحمد من تلك الضعفة، وعاش بعدها ثلاثين عاما.

معنى هذه الحكاية ومغزاها أنَّ الشَّيخ الشربيني علم ما لم يعلمه ملك

الموت الذي أُرسل لقبض روح ولده، وأن ولده أُخر أجله ثلاثين عاما. وهذه دعوى باطلة بشقيها، فلا الشربيني علم ما لم يعلمه ملك الموت، ولا ولده تأخر أجله . ثُمَّ يقال : كيف رأى الشيخ الشربيني ملك الموت؟ هل ظهر له عيانًا كما ظهر للنبي حين استأذن عليه لقبض روحه خصوصيَّةٌ له صلى الله عليه وآله وسلم أم ماذا؟!

والعجيب أنَّ الشَّعراني، قال بعد هذه الخرافة ببضعة أسطر ما نصه: «وكان الشيخ محمد بن عنان وغيره ينكرون عليه أي الشيخ الشربيني- لعدم صلاته مع الجماعة، ويقولون: نحن ما نعرف طريقًا تقرب إلى الله تعالى إلَّا ما درج عليه الصحابة والتابعون». فالشَّيخ الذي يعترض عليه شيوخ عصره لعدم صلاته مع الجماعة لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون مجذوبًا، وإما أن يكون عاقلا لكنه مقصر في واجبات الدين، وكلاهما بعيد من مناصب القُرب، لم يصل بعد إلى مقام الكرامة والإتحاف.

حكاية حسن العراقي:

وذكر الشيخ الشعراني أيضًا عن شيخه الشيخ حسن العراقي أنه قال له: دخلت جامع بني أميَّة، فوجدت شخصا يتكلم على الكرسي في شأن المهدي عليه السلام؛ فاشتقت إلى لقائه، فصرت لا أسجد سجدةً إِلَّا سألت الله تعالى أن يجمعني عليه، فبينما أنا ليلة بعد صلاة المغرب أصلي صلاة السُّنَّة إذا

۷۸

كتاب الإيمان

بشخص جلس خلفي وحسّس على كتفي وقال لي : قد استجاب الله دعاءك يا ولدي، مالك؟ أنا المهدي فقلت تذهب معي إلى الدار. فقال: نعم، فذهب معي. فقال: أخل لي مكانًا أنفرد فيه، فأخليت له مكانًا، فأقام عندي سبعة أيام بلياليها ولقنني بذكر، وقال: أعلمك وردي تدوم عليه إن شاء الله تعالى، تصوم يوما وتفطر يوما، وتصلّي كل ليلة خمسمائة ركعة. وكنت شابا أمرد حسن الصورة، فكان يقول: لا تجلس قطُّ إِلَّا ورائي، فكنت أفعل، وكانت عمامته كعامة العجم، وعليه جبَّة من وبر الجمال، فلما انقضت السبعة أيام خرج فودعته، وقال لي: يا حسن ما وقع لي قط مع أحدٍ ما وقع معك، فدم على وردك حتى تعجز، فإنَّك ستعمر طويلا. ثُمَّ قال الشعراني بعد هذه الحكاية فعمري الآن مائة وسبع وعشرون سنة.

وقبل أن نتكلم على هذه الحكاية نبين مسألتين:

1 - المهدي المنتظر فيه خلاف، معظم الأشعريَّة يعتقدون حقيقته حتى أنَّهم ذكروه في قسم السمعيات من علم العقائد؛ لأنَّ الأحاديث بظهوره متواترة، والمعتزلة ينكرونه ويعتبرون القول به نزعة شيعية.

- اختلف العلماء في الأرواح هل هي مخلوقة قبل الأجساد؟ ذهب جماعة إلى أنها خُلقت قبل الأجساد، ونفى آخرون ذلك وقالوا: إنَّما يخلق الروح بعد خلق الجسد حيث ينفخ فيه، وعلى هذا الرأي درج ابن حزم وغيره، وليس غرضنا الاستدلال للقولين والموازنة بينهما، ولكن غرضنا التمهيد لنقد الحكاية التي يدعي فيها الشيخ حسن العراقي أنه رأى المهدي المنتظر في أوائل القرن العاشر الهجري، مع أن الأحاديث تخبر بظهوره قرب الساعة، حيث يظهر

أولياء وكرامات

۷۹

الدجال ويقاتله، وينزل عيسى عليه السَّلام فيقتل الدجال، وينتصر الإسلام، وقد بدت الآن بوادر تنذر بقرب ظهور الدجال، فإن كان الشيخ حسن صادقًا فيما يقول: فالمهدي إما أن يكون قدمات ويحيه الله ثانيا ليقاتل الدجال، كما أخبرت الأحاديث الصادقة، وإما أن يكون لا يزال حيا قد بلغ من الكبر عتيا،

وحينئذ لم تبق له قدرة على القتال والجهاد، وكلا الاحتمالين بعيد، بل باطل. قد يقال: أنه اجتمع بروح المهدي، دون جسده الذي لم يخلق بعد، وهذا هو مراده، فقد قال الشَّعراني في "اليواقيت والجواهر": المهدي ولد الحسن العكسري ابن الحسين (۱)، ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين بعد الألف، وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى ابن مريم عليه السلام هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الريش المطل على بركة الرطلي، بمصر المحروسة، ووافقه على ذلك سيدي علي الخواص» . اهـ

ونقول: بينا آنفًا وجود الخلاف في الأرواح هل هي مخلوقة قبل الأجساد؟ ا فإذا نحن أخذنا بهذا القول هنا، فقد رجحناه على مخالفة لا لدليل، ولكن لنصدق الشيخ حسنًا فيها ادعى، وليس هذا الطريق العلمي في ترجيح قول على غيره. وقد لاحظت أنَّ بعض المشايخ يستغل ثقة الناس به، واعتقادهم فيه، فيرمي بطامة تحمل معتقديه أن يتلمسوا لها تأويلات بعيدة من غير أن يخطر

(۱) الذي تفيده الأحاديث الصحيحة أنَّ المهدي من ولد الحسن عليه السلام؛ والحكمة في ذلك: أنه لما تنازل عن الخلافة، وهي حَقٌّ له حقنًا لدماء المسلمين، عوضه الله بأن جعل الخليفة الحق الذي يظهر في آخر الزمان من ولده، ويزيد الصوفية على ذلك: أنَّ الله جعله أوّل الأقطاب في هذه الأمة.

۸۰

كتاب الإيمان

ببالهم إساءة الظن به، وهذا خطأ كبير، فالواجب أن ننظر في الكلام الذي صح عن صاحبه، وليا كان أو عالما، فإن كان يحتمل تأويلا قريبا معقولا أولناه، وإن كان يحتمل تأويلا بعيدًا غير معقول أو لا يحتمل تأويلا لكونه صريحًا حكمنا على صاحبه بما يقتضيه كلامه، فإن كان من قبيل الرأي خطأناه، وإن كان من قبيل الخبر كذبناه، ولهذا صرح أهل الحديث - رضي الله عنهم - بتكذيب رجال صالحين، يستسقى بهم الغيث؛ لأنّهم أمسكوا عليهم كذبًا في الرواية، وقال الإمام مالك: لقد أدركت في المدينة رجالًا لو ائتمن أحدهم على بيت المال

لكان عليه أمينًا، ولم أرو عنهم الحديث؛ لأنهم ليسوا أهلا للرواية.

إذا تقرر هذا، فخبر الشيخ حسن العراقي في مقابلة المهدي غير صادق، والحمل عليه فيه لا محالة، ونحن لا يمكننا أن نصدق أنَّ المهدي كان رجلًا موجودًا في القرن العاشر الهجري، ثُمَّ يظهر بعد ذلك بألف سنة أو أقل أو أكثر، إلَّا إذا كنا على مذهب الشيعة الذين يقولون: أنَّه موجود، غاب في السرداب أو في جبل رضوى (۱) وينتظر ظهوره، لكن الشيخ حسن ليس بشيعي،

(۱) الشيعة الإمامية يقولون عن محمد بن الحسن العسكري نسبة إلى العسكر وهي سُرَّ من رأى آخر الأئمة الاثني عشر أنَّه المهدي المنتظر. قال ابن الوردي في "تاريخه" : ولد محمد ابن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومائتين. وتزعم الشيعة أنه دخل السرداب في دار أبيه بسر من رأى ، وأمه تنظر إليه فلم يعد إليها، وكان عمره تسع

سنوات، وذلك في سنة خمس وستين ومائتين على خلاف فيه . اهـ

وفي " الفصول المهمة": «قيل: إنَّه غاب في السرداب سنة ست وستين ومائتين.

أولياء وكرامات

۸۱

وروح المهدي لا يمكن أن تظهر لأحدٍ على قول من يقول بتقدم خَلق الأرواح لأنَّ الرُّوح إنما يتشكل بعد وجود جسمه الطبيعي، فيظهر في أجسام مثالية تشبه جسمه. لكن قبل وجود الجسم لا تشكل ولا تطور، ثمَّ ما ذكره

الشيخ حسن العراقي من تاريخ مولد المهدي ناقضه بتاريخ آخر أبداه. فقد نقل عنه الشَّعراني أيضًا في "الأنوار القدسية في آداب العبودية" أنَّه سأل الإمام المهدي عن سنة مولده؟ فقال: يولد أواخر المائتين من الهجرة، قال

وقال ابن بطوطة في رحلته ثم وصلت إلى مدينة الحلة وهي مستطيلة مع الفرات، وأهلها كلهم إمامية اثنا عشريَّة، وبها مسجد على بابه ستر حرير، يقولون: إنَّ محمد بن الحسن العسكري دخل هذا المسجد وغاب فيه، وهو عندهم الإمام المهدي المنتظر، فهم كل يوم يلبس آلة الحرب مائة منهم، ويأتون باب المسجد، ومعهم دابة مسرجة ومعهم الطبول والبوقات ويقولون اخرج يا صاحب الزمان، فقد كثر الظلم والفساد، وهذا أوان خروجك ليفرق الله بك بين الحق والباطل، ويقفون إلى الليل ثم يعودون، كذلك دأبهم أبدا» . اهـ

ملجمة

وللشيخ أبي عبدالله محمد بن يوسف بن محمد الكجي - ويقال: الكشي كتاب " البيان في أخبار صاحب الزمان" قال فيه: من الأدلة على كون المهدي حيا باقيا بعد غيبته إلى الآن أنه لا امتناع في بقائه بقاء عيسى بن مريم والخضر وإلياس من أولياء الله تعالى، وبقاء الأعور الدَّجَّال وإبليس اللعين من أعداء الله تعالى» . اهـ ثم استدل لذلك، بما يراجع هنالك، أمَّا الشيعة الكيسانيَّة، فيرون أنَّ المهدي المنتظر هو محمد ابن الحنفية بن علي عليه السّلام، وأنه حي مقيم بجبل رضوى قرب المدينة، وهو بين أسدين يحفظانه، وعنده عينان تجريان بماء وعسل، وأنه سوف يعود بعد الغيبة،

ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جَوْرًا وظلما، وكان السيد الحميري على هذا المذهب.

۸۲

كتاب الإيمان

الشعراني: فسألت عن ذلك بعض الكُمَّل من شيوخنا(۱) فأجاب بالتاريخ

المذكور سواء بسواء فاعلم ذلك». اهـ

وهو

تناقض واضح، وقد وافقه عليه الشَّيخ علي الخواص إذ هو المراد بـ بعض الكُمَّل في كلام الشَّعراني، والعجيب في هذا الخبر أنَّ الإمام المهدي هو نفسه عينه أخبر الشيخ حسنًا بسنة مولده !!

حكاية اجتماع سهل التُسْتَري بشخص من أصحاب عيسى ابن مريم عليه

السلام

رضي

وحكى الشَّعراني أيضًا في ترجمة سهل بن عبدالله التستري فقال: «وكان الله عنه يقول: اجتمعت بشخص من أصحاب المسيح -عليه الصلاة والسلام- في ديار قوم عاد، فسلمت عليه فردَّ عليَّ السَّلام، فرأيت عليه جبَّة من صوف فيها طراوة، فقال لي : إنَّها عليَّ من أيام المسيح، فتعجبت من ذلك! فقال : يا سهل إنَّ الأبدان لا تُخْلِق الثياب، إنَّما يخلقها رائحة الذنوب -أي كرائحة الكذب ومطاعم الشُّحت. فقلت له: فكم لهذه الجبة عليك؟ قال: لها على سبعمائة سنة! فقلت له هل اجتمعت بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: نعم وآمنت به حين آمن به الجن الذين أوحي إليه في حقهم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرَ مِنَ الْحِنَ ﴾ [الجن: ١] قلت: هذه القصَّة شبيهة بقصة زُرَيْبٍ بن بَرْثَمَلا الذي ظهر لجيش سعد بن أبي وقاص بفارس، وزعم أنه وصي عيسى عليه السلام، وأنه أمره بانتظاره في

(۱) يعني: الشيخ عليا الخواص.

أولياء وكرامات

۸۳

ذلك المكان حتى ينزل في آخر الزمان.

وهي قصَّةٌ طويلة رواها الحاكم، وصرح بوضعها ابن تيمية وغيره. وذلك الشخص الذي ادعى أنه من أصحاب المسيح كذَّاب، كذب على سهل، وهذا تقبل كذبه بسلامة نيَّة وهو خطأ، ومن الأمثال التي رويت حديثا وليس بحديث، قولهم: «الثقة بكل أحدٍ عَجْز». وما كان ينبغي لسهل و هو صوفي نجله ونحترمه - أن يصدق كاذبًا من غير أن يعرف عنه ما يدل على صدقه، بل حكايته تنادي بكذبه

والعجيب أنَّ الشَّعراني علَّق عليها بقوله: «ومن هنا كان الخضر -عليه

السلام - لا تبلى له ثياب؛ لأنَّه لا يعصي الله تعالى ولا يأكل حراما».اهـ ولو كان عنده وعي أهل الحديث وبعد نظرهم، لعرف أنها مكذوبة (1) . وقال الشعراني أيضا: وقد كان سهل بن عبدالله التُسْتَريُّ رضي الله عنه يقول: أعرف تلامذتي من يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُم ؟ [الأعراف: ۱۷۲] وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني، ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب، لم يُحجبوا عنّي إلى وقتي هذا. نقله ابن العربي

(۱) وحكى أبو عبدالله محمد بن إسماعيل المغربي -وهو أستاذ إبراهيم الخواص- قال: اجتمعت بشخص من أصحاب أبينا إبراهيم عليه السَّلام، وقال: إنَّه ساكن في الهواء منذ رمي إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمنجنيق. فقلت له: ما حملك في الهواء، وأنت من بني آدم؟ فقال: توكُلي على الله عزّ وجلَّ. فقلت له: وما التوكل؟ فقال: النظر إلى الله تعالى دائما بلا عين تَطْرف، والذكر له بلسان لا يتحرك، والجولان في

مصنوعاته بلا روح تغفل. قلت: هذا – إن صح اجتماع روحي لا جسمي.

ΛΕ

كتاب الإيمان

رضي الله عنه في "الفتوحات المكيَّة".

قلت: نقل هذا الكلام تأييدًا لما ذكره من استطالة الأرواح وسعة إدراكها، وهذا الكلام إما أن يكون غير صحيح عن سهل، وإما أن يكون صدر عنه في حالة شطح، أما أن يكون قاله في وعيه وحال تمكنه في مقامه فلا؛ لأنه كلام غير مقبول ولا معقول، ذلك أنَّ روح النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أكمل الأرواح، وأعلاها علما وإدراكًا، ومع ذلك يقول الله تعالى له: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مَنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى: ٥٢]، ونحن لا نشك أنَّ روح النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كان يوم الستُ بِرَبِّكُم يعرف الإيمان والكتاب لكنه حين وجد جسمه الشريف نشأ معه الروح نشأة جديدة، قطعت الصلة بينه وبين حاله قبل وجود الجسم، وأصبح لا يعرف شيئًا إلا ما عرفه الله تعالى إيَّاه بالوحي. وإذا كان هذا حال الروح مع جسم طاهر معصوم من المعاصي والمخالفات، فكيف يكون حاله مع جسم ملطخ بالذنوب؟! لا بد أن يكون حجابه أشد كثافة وأكثر ظلاما.

ولما قال الكفَّار حين رأوا العذاب يوم القيامة : يَلَيْنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِايَتِ رَبَّنَا وَتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنعام: ۲۷]، قال الله تعالى يكذبهم: وَلَوْ رُدُّ والعَادُ والمَا نُهُوا عَنْهُوَ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ ﴾ [الأنعام: ۲۸] ، وما عادوا لما نهوا عنه من الكفر؛ إلا لأنهم نشأوا نشأة جديدة أنستهم ما شاهدوه من العذاب. إذن فليس من المعقول أن يعرف سهل أو غيره تلامذته من ذلك اليوم ولا

يحجبون عنه.

أولياء وكرامات

۸۵

كلام للشيخ إبراهيم الدسوقي غير مقبول

ومما لا يعقل ولا يقبل : قول الشيخ إبراهيم الدسوقي في كتاب "الجواهر" المنسوب له: «أشهدني الله تعالى ما في العُلا وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السَّماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفًا حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت الله على معرفته، و حرکت ما سكن وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى، وأنا ابن أربع عشرة سنة». قلت: إن لم يكن هذا الكلام صدر من صاحبه في حالة شطح قبل تمكنه فلا وجه له ولا يقبل بحال من الأحوال، وإذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يعلمه الله ما في العلا إلَّا قبيل وفاته، كما في حديث اختصام الملإ الأعلى الذي رواه ابن عباس، وصححه البخاري، يقول فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: رأيتُ ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد قلت: لبيك ربِّ وسَعْدَيك. قال: فيمَ يَخْتَصِمُ الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب. فوضع يده على كتفي حتَّى وجدتُ بردها في صدري، فعلمتُ ما في السماوات وما في الأرض».

وفي رواية، فتجلّى لي كل شيء وعرفت» الحديث.

فكيف يقول الشيخ إبراهيم، أو أبو العينين: إنَّ الله أشهده ما في العلا وهو ابن ست سنين؟ وهل يعقل أن تكون بدايته هي نهاية النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم؟! ثُمَّ إذا كان نال ما نال من العلوم والأسرار وهو ابن أربع عشرة سنة؟! فكيف خاف من القضاة الذين أتوا ليمتحنوه بأسئلتهم حيث بعث إليهم نقيبه دفعهم دفعة ) أوصلتهم خلف جبل قاف؟! يظهر أنه لما كبر نسي .

العلوم

(1) كنا نسمع حكاية مضمونها أنَّ رجلا قال لآخر لأضربنك برجلي ضربة توصلك إلى

٨٦

كتاب الإيمان

والأسرار ! (۱) ولهذا لم نجد له من الآثار العلمية ما يدل على صحة تلك الدعوى. أما قوله : أنا موسى عليه السَّلام في مناجاته، أنا علي -رضي الله عنه - في حملاته، أنَّا كُلُّ ولي في الأرض خِلْعَتُه ،بيدي، ألبس منهم من شئت، أنا في

وبيدي

جنَّة

السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته ، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس... فهذا ونحوه من الشطحات قرأناه لكثير من المجاذيب المهولين، ومما يدل على شطحية هذا الكلام وسطحيته أنَّ الأحاديث الواردة في الزيارة النبوية تقول: من زارني كنت له شهيدًا أو شفيعا يوم القيامة». والشيخ إبراهيم يقول: من زارني أسكنته جنة الفردوس ! مدد يا أبا العينين!

ومهما يكن من أمر، فلا يعنينا أن يكون الشيخ إبراهيم هو موسى أو عليا أو يُلبس الخلع لمن شاء من الأولياء، لكن يعنينا أن نقرأ له كلاما حل به آيةٌ مشكلة، أو حديثا عَسُر فهمه على غيره، أو حكمة مثل حكم ابن عطاء الله،

وذلك عزيز وجوده في آثار أبي العينين الدسوقي رضي الله عنه. وذكر الشعراني أيضًا عن شيخه الشيخ نور الدين المرصفي: أنه قرأ في يومٍ

وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة كل درجة ألف ختمة .

قلت: هذا غير معقول ولا مقبول، بل هو من قبيل طي الزمان الذي بينا استحالته فيما مرَّ ، فلو فرضنا أنه قرأ القرآن هَذْرَمةً، لما استطاع أن يقرأ ثلاث

مكة، فأجابه الآخر لعل الله يرزقني حجَّةً بضربتك، ويظهر أنَّ الرجل الضارب هو

نقيب الشيخ إبراهيم الدسوقي.

(۱) مع أنَّه لم يُعمر طويلا، بل توفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.

أولياء وكرامات

AV

مائة ختمة في اليوم والليلة. نعم، قد يبارك الله في وقت الولي فيتيسر له قراءة ختمة في زمن أقل من غيره، لكن لا تصل البركة إلى حد الاستحالة (۱). كرامة سخيفة لشخص يسمى الشيخ عبيد: وقال الشَّعراني أيضًا أخبرني بعض ا الثقات أنه كان مع الشيخ عبيد في مركب، فوحِلَتْ فلم يستطع أحد أن يزحزحها، فقال الشيخ عبيد اربطوها في بيضي بحبل وأنا أنزل أسحبها، ففعلوا فسحبها ببيضه حتى تخلصت من الوَحَل إلى البحر. ذكر هذه الحكاية في ترجمة أبي علي المعروف بأبي العُلا (۳) و وهي حكاية مكذوبة، وإن قال الشعراني: حدثه بعض الثّقات، فإنَّ هذا تعديل على الإيهام،

وهو غير مقبول، وبعض النقات الذي حدثه هو الذي صنع هذه الحكاية، ولو فرضنا صحتها، فما كان ينبغي التحدث بها لمنافاتها الذوق والأدب.

كرامة سخيفة لشخص يسمى الشيخ علي وحيش :

ونظيرها

تمع شدة فُحشها ما حكاه في ترجمة الشيخ علي وحيش

المجذوب: كان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة، ويقول له: أمسك رأسها حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع

(۱) نعم، من الممكن المعقول ما حكاه الإمام أبو بكر بن عياش عن نفسه حيث قال: ختمت ثمانية وعشرين ألف ختمة، وأود لو كانت سببًا للصَّفح عن زلةٍ واحدةٍ وقعت فيها، وقدمات عن ثلاث وتسعين سنة، فمن المعقول أن يقرأ هذا العدد من الختمات في عمره الطويل المبارك رضي الله عنه.

(۲) يعرف في مصر بالسلطان أبي العُلا . وعلى ضريحه جامع تقام فيه الجمعة بجهة بولاق

وكان مجذوبا صاحب أحوال ، ولا أدرى من أين أتى له لقب السلطان

۸۸

كتاب الإيمان

أن يمشي خطوة، وإن سمح حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه. فلا معنى لذكر هذه الحكاية ولا لذكر صاحبها بعد الاعتراف بأنه مجذوب؛ لأنَّ الغرض من ترجمة الولي وذكر بعض كراماته الاعتبار بما قدم من

أعمال صالحة والاقتداء به، والمجذوب ليس أهلا للقدوة.

بل نقل الشَّعراني عن شيخه علي البُرلُّسي الخواص أَنَّه كان يقول: «إِنَّ السوقة وأهل الصَّنائع والحِرَف أعظم درجة عند الله وأنفع من المجاذيب؛ لقيامهم في الأسباب». وكان أيضًا يقول: «المجاذيب والأطفال في الحالة سواء، إلا أنَّ الأطفال يتميزون عن المجاذيب بسريانهم في الجنة، كما ورد: أنهم دَعَامِيصُ الجنَّة». أي: غواصون فيها».

وإن ذكر مجذوب على سبيل الاسترواح والاعتبار بنعمة العقل، فلا يجوز

ذكر ما كان يفعله من أعمال قبيحة، مثل إتيان الحمارة على قارعة الطريق. الشيخ علي أبي خودة:

وذكر في ترجمة الشيخ علي أبي خودة: أنَّه كان يهوى العبيد السُّود والحبش، وأنه كان إذا رأى امرأة أو أمرد، راوده عن نفسه وحسّس على مقعدته سواء كان ابن أمير أو وزير ، ولو كان بحضرة والده أو غيره، ولا يلتفت إلى الناس. قلت: هل هذه منقبة تستحق أن تسجل مع مناقب الأولياء؟!! والشعراني مهد لذكر هذه القبائح بأنَّ الشَّيخ كان ملامتيا، يتعاطى أساب الإنكار عليه قاصدًا، فإذا أنكر عليه أحد أعطبه، ويظهر أنَّ الشيخ كان حاقدا على الناس، فيفعل ما يدعوهم إلى الإنكار عليه ليشفي حقده بإعطابهم، إن كان يقدر عليه. والذي نعرفه عن الملامتي: أنه يفعل ما يُلام عليه من غير

أولياء وكرامات

۸۹

مباشرة لمعصية، كأن يقف بباب خمارة، فيتوهم من يراه أنَّه كان داخلها أو هو يريد أن يدخلها، أو يقف بباب المسجد والنَّاس يصلُّون جماعة، فيلام على ترك الجماعة، مع أنه يكون قد صلَّى تلك الصلاة في مسجد آخر أو مع أهله في بيته جماعة، وهو نوع من السلوك أخذ به بعض الصوفية ليعلو مقام المريد ويكثر ثوابه بإنكار الناس عليه، ومعظم الصوفية لا يرضونه ولا يأخذون به لسببين: ١ - أنَّ الشَّرع يحضُّ على اجتناب مواضع التهم، ويجعلها من خوارم

-

المروءة المسقطة للعدالة، وعمر - رضي الله عنه - كان يقول: «من وقف مواقف التهم، فلا يلومن من أساء به الظَّن». ٢ - أنَّه لا يجوز للشخص أن يفعل شيئًا يحمل الناس على اغتيابهم له، ليثاب

بذلك الاغتياب، ولو فعل ذلك واغتابوه كان آنها؛ لأنه أوقعهم في إثم الغيبة. ومن هنا لا تجد في الشَّاذلية والقادرية ملامتيًّا، ولا صاحب أحوال؛ لأنَّ . فيا السلوك في هذين الطريقين، مبني على أساس شرعي مستقيم.

مناقشة أبي الفضل الأحمدي في كلامه على تلقين الذكر : ونقل الشعراني أيضًا عن شيخه أبي الفضل الأحمدي في كلامه على شروط تلقين الذكر أنه قال: فأمَّا تلقين ،الذكر، فشرطه عندي: أن يعطيه الله تعالى من القوة والتمكين وكمال الحال ما يمنح المريد، عند قوله: «قل: لا إله إلَّا الله»، جميع علوم الشَّرائع المنزلة، إذ هي كلها أحكام لا إله إلا الله، فلا يحتاج بعد ذلك المجلس إلى تعليم شيء من الشّرائع، كما حصل لعلي رضي الله عنه، حتى كان يقول: عندي من العلم الذي أسره إليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ما ليس عند جبريل ولا ميكائيل فيقول له ابن عباس: كيف؟ فيقول: إن

۹۰

كتاب الإيمان

جبريل عليه السَّلام تخلف عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء وقال : وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامُ مَعْلُومٌ ﴾ [الصافات: ١٦٤]، فلا يدري ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك.

قلت هذا الكلام ليس له إسناد عن علي عليه السَّلام، ولا : عنه، يصح والآية التي ذكرها لم يقلها جبريل عليه السَّلام - ليلة الإسراء، وإنما قالتها الملائكة ردا على المشركين الذين زعموا أنَّ الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا - اقرأ قبل الآية المذكورة، قول الله تعالى ردا عليهم: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَتِكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَيْكَةَ إِنَنَا وَهُمْ شهدون )))) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِيهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ ﴾ [الصافات: ١٤٩ - ١٥٢]، إلى آخر الآيات وفي آخرها يقول الملائكة: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامُ مَّعْلُومٌ ، أي: نحن عبيدٌ مُسَخَّرون، لكل واحد منا مقام معلوم لا يتعداه، ولسنا بينات الله تعالى ربُّنا عن ذلك. ولا علاقة للآية بليلة الإسراء كما يفهمه كثير من النَّاس غلطاً، لكن لا يصح نسبة الغلط إلى علي عليه السلام؛ فإنَّه أعلى من أن يقع في مثل هذا الغلط البين، ثم ما شرطه أبو الفضل في التلقين أمر عسير، لا يتحقق فيه نفسه، ولا في كثير من الأولياء فضلا عمن دونهم، ويمكن أن يكون قصد به سدَّ الباب على مدعي المشيخة في عصره، كما مح لذلك في أول كلامه (۱).

(۱) من الغلو الذي سهونا عن التنبيه عليه في المقدّمة: ما شاع عند كثير من الناس: أنّهم يبعثون خطابات في البريد إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه يطلبون منه قضاء حوائج

أولياء وكرامات

الباب الثالث

ذكر نماذج من كرامات معقولة

كرامة الحسن بن علي عليهما السّلام:

۹۱

نقل العلامة الشيخ عبدالرحمن الأجهوري المالكي في "مشارق الأنوار"، عن الحسن بن علي عليهما السلام أنّه قال: حبس عني عطائي معاوية في بعض السنين - وكان مائة ألف - فحصل لي ضيق شديد، فدعوت بدواة لأكتب إلى معاوية لأذكره نفسي، ثم أمسكت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في المنام فقال: «كيف أنت يا حسن؟ فقلت بخير، وشكوت إليه تأخير المال عني، فقال: «أدعوت بدواة لتكتب إلى مخلوق مثلك تُذكَّره؟» فقلت: يا رسول الله فكيف أصنع ؟ قال: قل: اللهم اقذف في قلبي رجاءك واقطع رجائي عمن سواك حتى لا أرجو أحدا غيرك، اللهم ما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه عملي ولم تنته إليه رغبتي ولم تبلغه مسألتي ولم يَجرِ على لساني مما أعطيت أحدًا من الأولين والآخرين من اليقين، فخُصَّني به يا أرحم الراحمين.

قال: فوالله ما ألححت به أسبوعا، حتى بعث إلي معاوية بألف ألف وخمسمائة ألف، فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، ولا يخيب من دعاه فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «يا حسن كيف أنت؟» فقلت:

وتوسلات وغير ذلك، ويسلّمها ساعي البريد إلى خَدَم المسجد، فيلقونها في الضريح، وقد زرت قبر الإمام الشافعي مرَّات، فرأيت خطابات منثورة على ضريحه ورأيت زُوَّارًا يلقون خطابات على الضّريح فيها مطالب لهم، وكل ذلك غُلُو منشأه الجهل بقواعد الدين الذي ينهى عن ذلك ولا يُقره.

۹۲

كتاب الإيمان

بخير يا رسول الله وحدثته بحديثي، فقال: يا بني هكذا من رجا الخالق ولم

يَرْجُ المخلوق».

عمر يُقيم الحد على ابنه:

روى الخطيب وغيره عن عمرو بن العاص، قال: بينا أنا بمنزلي بمصر، إذ قيل لى: هذا عبدالرحمن بن عمر وأبو سروعة يستأذنان عليك، فقلت: يدخلان، فدخلا وهما منكسران فقالا: أقم علينا حد الله، فإنَّا أصبنا البارحة

شرابا وسكرنا.

فزجرتهما وطردتهما، فقال عبدالرحمن: إن لم تفعل أخبرت والدي إذا

قدمت عليه. فعلمت أنّي إذا لم أقم عليهما الحد، غضب علي عمر وعزلني، فأخرجتهما إلى صحن الدار فضربتهما الحد، ودخل عبدالرحمن ناحية إلى بيت في الدار فحلق رأسه، وكانوا يحلقون مع الحدود.

والله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان ، حتى إذا كان بعد أيام وافاني كتابه يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عمرو بن العاص: عجبت لك وجراءتك عليَّ وخلافك عهدي، فما أراني إلا عازلك، تضرب

عبدالرحمن في بيتك، وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أنَّ هذا يخالفني؟! إنما عبدالرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ابن أمير المؤمنين، وعَرَفتَ أن لا هوادة لأحدٍ من الناس عندي في حد، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب، حتى يعرف سوء ما صنع». فبعث به كما قال أبوه، وكتب عمرو إلى عمر يعتذر إليه يقول: إنّي ضربته

أولياء وكرامات

۹۳

في صحن داري، وبالله الذي لا يُحلف بأعظم منه إنّي لأقيم الحدود في صحن داري على المسلم والدمي.

وبعث بالكتاب مع عبدالرحمن بن عمر فقدم به على أبيه، فدخل وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من سوء ،مركبه ، فقال : يا عبدالرحمن فَعَلتَ وفَعَلتَ

فكلمه عبدالرحمن بن عوف، وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد. فلم يلتفت إليه، فجعل عبدالرحمن يصيح ويقول: إنّي مريض وأنت قاتلي، فضربه الحد ثانية وحبسه، فمرض ثم مات.

وجه الكرامة في هذه القصَّة أنَّ . عمر -رضي الله عنه - . علم ما حصل من واليه في مصر وهو بالمدينة من غير أن يكتب إليه أحد بذلك، وليس هذا بكثير

على عمر الملهم. عمر أقام الحد على ابنه أبي شحمة حتى مات:

ووقعت قصة أخرى لعمر مع ابنه أبي شحمة عبدالرحمن نذكرها إتماما للفائدة - وإن كان سندها غير صحيح - روى الديلمي في "المنتقى" من طريق

مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد رأيت عمر وقد أقام الحد على

ولده فقتله فيه. فقيل له: كيف كان ذلك؟ فقال: كنت يوما في المسجد وعمر جالس والناس حوله، فأقبلت جارية. فقالت السَّلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: وعليك السلام ورحمة الله ألك حاجة ؟ قالت: نعم، خذ ولدك هذا مني. فقال عمر: إنّي لا أعرفه، فبكت الجارية، فقالت يا أمير المؤمنين إن لم يكن من ظهرك، فهو ولد ولدك. فقال: أي أولادي؟ قالت: أبو شحمة. فقال: بحلال

٩٤

كتاب الإيمان

أم بحرام؟ قالت: من قبلي بحلال، ومن جهته بحرام. قال عمر: وكيف ذلك؟ اتقي | الله ولا تقولي إلَّا حقا. قالت: يا أمير المؤمنين، كنت مارة في بعض الأيام فمررت بحائط بني النجار، إذ أتاني ولدك أبو شحمة يتمايل سكرًا، وكان شرب عند نسيكة اليهودي قالت ثمَّ راودني عن نفسي وجرني إلى الحائط، ونال مني ما ينال الرجل من المرأة، وقد أغمي علي، فكتمت أمري عن عمي وجيراني، حتى أحسست بالولادة، فخرجت إلى موضع كذا، فوضعت هذا

الغلام و هممت بقتله، ثمَّ ندمت على ذلك، فاحكم بيني وبينه بحكم الله. فأمر عمر مناديًا ينادي فأقبل النَّاس يهرعون إلى المسجد، فقال عمر : لا تفرقوا حتى آتيكم، ثُمَّ خرج، فقال: يا ابن عباس أسرع معي. فأسرع حتى وصل منزله، فقرع الباب، وقال: ها هنا ولدي أبو شحمة؟ فقيل له: إنَّه على الطعام، فدخل عليه وقال : كل يا بني فيوشك أن يكون آخر زادك من الدنيا. قال ابن عباس: فلقد رأيت الغلام وقد تغيَّر لونه، وارتعد وسقطت اللقمة من يده، فقال عمر : يا بني من أنا؟ قال: أنت أبي وأمير المؤمنين، قال: فلي حق طاعة أم لا؟ قال: لك طاعتان مفترضتان؛ لأنَّك والدي وأمير المؤمنين. قال عمر بحق نبيك، وبحق أبيك هل كنت ضيفًا لنسيكة اليهودي؟ فشربت الخمر عنده فسكرت؟ قال: قد كان ذلك، وقد تبت.

بني

قال: رأس مال المؤمنين التوبة، قال: أنشدك بالله هل دخلت حائط النجار فرأيت امرأة فواقعتها؟ فسكت وبكى. قال: لا بأس، اصدق يابني فإنَّ الله

يحب الصادقين، قال: قد كان ذلك، وأنا تائب نادم

فلما سمع عمر منه، قبض على يده ولببه وجره إلى المسجد، فقال: يا أبت لا

أولياء وكرامات

۹۵

تفضحني، وخذ السيف واقتلني، قال: أما سمعت قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: ۲]، ثمَّ جَرَّه إلى المسجد، وقال: صدقت المرأة، وأقر أبو شحمة بما قالت. وكان له مملوك يقال له أفلح، فقال: يا أفلح خذ ابني هذا

إليك، واجلده مائة سوط، ولا تقصر في ضربه، فقال: لا أفعل، وبكى. فقال: يا غلام إنَّ طاعتي طاعة الله ورسوله فافعل ما آمرك به، فنزع ثيابه

:

وجعل الغلام يقول لأبيه: ارحمني يا أبت فقال له عمر: إنَّما أفعل هذا كي يرحمك الله ويرحمني، ثمّ قال: يا أفلح ،اضرب، فضربه وهو يستغيث، حتى بلغ سبعين، فقال: يا أبت اسقني شربةً من ماء. فقال: يا بني إن كان ربك يطهرك، فيسقيك محمد صلَّى الله عليه وآله وسلّم شربة لا تظمأ بعدها أبدا، يا غلام اضربه، فضربه حتى بلغ ثمانين فقال : يا أبت السَّلام عليك، فقال: وعليك السَّلام إن رأيت محمَّدًا، فاقرئه منّي السَّلام، وقل له: خلَّفت . عمر يقرأ القرآن الحدود، يا غلام ،اضربه فضربه حتى بلغ تسعين، فانقطع كلامه

ويقيم

وضعف. فرأيت الصَّحابة قالوا: يا عمر انظر كم بقي فأخره إلى وقت آخر. فقال: كما لم تؤخّر المعصية لا تؤخّر العقوبة، وجاء الصريخ إلى أمه، فجاءت باكية صارخة، وقالت: أحج بكل سوط ماشية، وأتصدق بكذا وكذا درهما، فقال: إنَّ الحجّ والصَّدقة لا ينوبان عن الحد، فضربه فلما كان آخر

سوط، سقط الغلام ميتا فصاح عمر ، وقال : يا بني مخص الله عنك الخطايا. ثم جعل رأسه في حجره، وصار يبكي ويقول: بأبي من قتله الحق، بأبي من مات عند انقضاء الحد، بأبي من لم يرحمه أبوه وأقاربه، فضح النَّاس بالبكاء

٩٦

والنحيب.

يوم

كتاب الإيمان

فلما كان بعد أربعين يوما أقبل حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما - صبيحة الجمعة، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، وإذا الفتى معه، وعليه حلتان ،خضراوان وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقرئ عمر منّي السَّلام، وقل: هكذا أمرك الله أن تقرأ القرآن، وتقيم الحدود»، وقال الغلام أقرئ أبي منّي السَّلام ، وقل له: طهرك الله كما طهرتني. كرامة زين العابدين

وقال أبو حمزة الثمالي: أتيت باب علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام - فكرهت أن أنادي ، فقعدت على الباب إلى أن خرج ، فسلمت عليه ودعوت له فرد، ثم انتهى بي إلى حائط، فقال: يا أبا حمزة ألا ترى إلى هذا الحائط ؟ قلت: بلى ياسيدي قال : فإنّي متكئ عليه وأنا حزين مفكر، وإذا دخل على رجل حسن النّياب طيب الرائحة، ثمّ نظر في وجهي، وقال: يا علي بن الحسين أراك كثيبًا حزينا على الدُّنيا، فهو رزق حاضر يأكل منه البار والفاجر. فقلت: ما عليها أحزن، وإنّها كما تقول . قال : فعلام حزنك؟ قلت: أتخوّف

فتنة ابن الزبير، قال: فضحك ، ثمَّ قال: يا علي هل رأيت أحدا خاف الله فلم ینچه؟ قلت: لا. قال: يا علي هل رأيت أحدًا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا. ثم نظرت. فإذا ليس قدامي أحد، فعجبت من ذلك ! وإذا بقائل أسمع صوته، ولا أرى شخصه يقول : يا علي بن الحسين هذا الخضر ناجاك. نقل هذه القصة العلامة نور الدين علي بن محمد بن الصباغ المكي المالكي

في كتاب "الفصول المهمة".

أولياء وكرامات

۹۷

سبع

كرامة جعفر الصادق

وحدث عبدالله بن الفضل بن الربيع، عن أبيه، قال: لما حج المنصور سنة وأربعين ومائة، فقدم المدينة، فقال للربيع ابعث إلى جعفر بن محمد - الصادق من يأتينا به متعباً، قتلني الله إن لم أقتله، فتغافل الربيع عنه وتناساه، فأعاد عليه في اليوم الثَّاني، وأغلظ في القول، فأرسل إليه الربيع، فلما حضر قال له الربيع: يا أبا عبدالله اذكر الله تعالى، فإنَّه قد أرسل إليك من لا يدفع شره إلَّا الله، وإني أتخوّف عليك، فقال جعفر: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثمَّ إِنَّ الرَّبيع دخل به على المنصور، فلما رآه المنصور أغلظ له في القول وقال: يا عدو الله اتخذك أهل العراق إماما يجبون إليك زكاة أموالهم وتلحد في سلطاني، وتتبع لي الغوائل، قتلني الله إن لم أقتلك، فقال جعفر : يا أمير المؤمنين إنَّ سليمان أعطي فشكر، وإنَّ أيوب ابتلي فصبر، وإنَّ يوسف ظلم فغفر،

وهؤلاء أنبياء الله، وإليهم نسبك ولك فيهم أسوة حسنة.

فقال المنصور: أجل يا أبا عبدالله ارتفع إلى هنا عندي، ثم قال: يا أبا عبدالله إنَّ فلانًا أخبرني عنك بما قلت لك، فقال: أحضره يا أمير المؤمنين ليوافقني على ذلك. فأحضر الرجل الذي سعى به إلى المنصور، فقال له المنصور: أحقا ما حكيت لي عن جعفر؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين.

فقال جعفر: استحلفه يا أمير المؤمنين فبادر الرجل، وقال: والله العظيم الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشَّهادة الواحد الأحد، وأخذ يعدد في

صفات الله تعالى.

فقال :جعفر : يا أمير المؤمنين أحلفه بما نستحلفه. فقال: حلفه بما تختار .

۹۸

كتاب الإيمان

فقال جعفر: قل: برئت من حول الله وقوته إلى حولي وقوتي، لقد فعل جعفر كذا وكذا، فامتنع الرَّجل، فنظر إليه المنصور نظرة منكرة، فحلف بها، فما كان بأسرع من أن ضرب برجله الأرض وخرَّ ميتًا مكانه، فقال المنصور: جروا برجله وأخرجوه. ثم قال : لا عليك يا أبا عبدالله، أنت البريء الساحة، السليم الناحية المأمون الغائلة، علي بالطيب. فأتى بالغالية، فجعل يغلف بها لحيته، إلى أن تركها تقطر، وقال: في حفظ الله وكلاءته، وألحقه يا ربيع بجوائز حسنة، وكسوة حسنة، قال الربيع: فلحقته بذلك. ثم قلت له: يا أبا عبدالله رأيتك تحرّك شفتيك وكلما حركتهما سكن غضب المنصور، بأي شيءٍ كنت تحركهما ؟ قال : بدعاء جدي الحسين. قلت: وما هو يا سيدي؟ قال: اللهم يا عدَّتي عند شدتي، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي فلا أهلك وأنت رجائي، اللهم إنَّك أكبر وأجل وأقدر مما أخاف وأحذر، اللهم بك أدراً في نحره، وأستعيذ من شره، إنَّك على كل شيء قدير». قال الربيع : فما نزل لي شدَّة، ودعوت به إِلَّا فرج الله عني.

قال الربيع : وقلت له: منعت الساعي بك إلى المنصور من أن يحلف بيمينه، وأحلفته بيمينك فما كان إلا أن أخذ لوقته، ما السر فيه؟

قال: لأنَّ في يمينه توحيد الله وتمجيده وتنزيهه. فقلت: يحلم عليه ويؤخّر عنه العقوبة. وأحببت تعجيلها إليه، فاستحلفته بما سمعت، فأخذه الله لوقته. وقتل داود بن علي بن عبد الله بن عبّاس المعلى بن حسين - مولى كان الجعفر الصادق- وأخذ ماله، فبلغ ذلك جعفرًا فدخل داره ولم يزل قائما ليله كله إلى

أولياء وكرامات

۹۹

الصباح، فلما كان وقت السحر سمع منه في مناجاته: «يا ذا القوة القوية، يا ذا المحال الشديد يا ذا العزّة التي خلقك لها ذليل، اكفنا هذا الطاغية وانتقم منه».

فما كان إلا أن ارتفعت الأصوات، وقيل: مات داود بن علي فجأة.

ونقل الشيخ نور الدين بن الصباغ في الفصول المهمة" عن الشيخ نصر الله بن يحيى وكان من النقات الخيرين قال: رأيت في المنام عليا عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين تقولون يوم فتح مكة من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين بكربلاء منهم ما تم؟!

فقال لي كرم الله وجهه أتعرف أبيات ابن الصيفي التميمي في هذا المعنى؟

فقلت: لا. قال: اذهب إليه واسمعها منه .

بيص

فاستيقظت من نومي مفكرًا، ثم ذهبت إلى دار ابن الصيفي -وهو الحيص الشاعر المشهور - فطرقت عليه الباب فخرج إلي، فقصصت عليه الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله ما سمعها مني أحد، وما نظمتها إِلَّا في ليلتي هذه، ثم أنشد:

ملكنا فكان العَفْرُ مِنَّا سَجِيَّةٌ فلمَّا مَلَكْتُم سَـال بالدَّمِ أَبْطُحُ وحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الأَسَارَى وَطَالَما غَدَوْنَا عَلَى الْأَسْرَى نَمُنُّ وَنَصْفَحُ و حَسْبُكُم هذا التفاوتُ بَيْنَنَا وكل إناء بالذي فيه يَرْشَحُ قلت: هذه كرامة ظاهرة لعلي - عليه السَّلام - بعد وفاته .

كرامة موسى الكاظم

وروى الرَّامَهُرْ مُزي في كرامات الأولياء" والجنابذي في "معالم العترة النبوية"، وابن الجوزي في "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن"، عن

۱۰۰

كتاب الإيمان

حاتم بن علوان الأصم، قال: قال لي شقيق البلخي: خرجت حاجا سنة ست وأربعين ومائة فنزلت بالقادسية، فبينما أنا أنظر النَّاس في مخرجهم إلى الحج وزينتهم وكثرتهم، إذ نظرت إلى شاب حسن الوجه، شديد السمرة، نحيف فوق ثيابه ،صوف مشتمل بشملةٍ وفي رجليه ،نعلان، وقد جلس منفردًا،

فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية، ويريد أن يخرج مع الناس ويكون كلا عليهم في طريقهم، والله لأمضين إليه ولأو بخنَّه فدنوت منه، فلما رآني مقبلا نحوه قال: يا شقيق اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ إِنَّهُ ﴾ [الحجرات: ١٢]، ثم تركني وولى، فقلت في نفسي: إنَّ هذا لأمر عجيب! تكلم بما في خاطري ونطق باسمي؛ هذا عبد صالح لألحقنه ولأسألنَّه الدُّعاء، وأتحلله لما ظننت فيه. فغاب عني ولم أراه، فلما نزلنا وادي فضة فإذا هو قائم يصلي، فقلت: هذا صاحبي، أمضي إليه ،وأستحله، فصبرت حتى فرغ من صلاته، فالتفت إليَّ، وقال: يا شقيق اتل: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارُ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [ طه : ٨٢] ثم قام ومضى وتركني، فقلت: هذا فتى من الأبدال، فقد تكلم على سري مرتين، فلما نزلنا بالأبواء، إذا أنا بالفتى قائما على البير وأنا أنظر إليه، وبيده

ركوة فيها ماء، فسقطت من يده في البير فرمق السَّماء بطرفه، وسمعته يقول: أنتَ شُربي إذا ظمئت من الماء وقوتي إذا أردتُ طعاما ثم قال: إلهي وسيدي مالي سواك فلا تعدمنيها، فوالله لقد رأيت الماء قد ارتفع إلى رأس البير والرّكوة طافية عليه، فمد يده فأخذها فتوضأ منها وصلَّى أربع ركعات، ثم مال إلى كثيب ،رمل، فجعل يقبض بيديه ويجعل في الركوة،

أولياء وكرامات

۱۰۱

ويحركها ويشرب، فأقبلت نحوه، وسلمت عليه، فرد عليَّ السَّلام. فقلت: أطعمني ما أنعم الله به عليك، فقال: يا شقيق، لم تزل نعم الله عليَّ

ظاهرة وباطنة، فأحسن ظنك بربك، ثم ناولني الرّكوة فشربت منها، فإذا فيها سويق بسكر. فوالله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب، فشربت ورويت حتى شبعت فأقمت أياما لا أشتهي طعامًا ولا شرابا، ثم لم أره حتى نزلنا بمكة، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الشَّراب نصف الليل، وهو قائم يصلي بخشوع وأنين وبكاء فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثُمَّ قام إلى حاشية المطاف فركع ركعتي الفجر هناك ثمَّ صلَّى مع النَّاس، ثم دخل المطاف فطاف إلى بعد شروق الشَّمس، ثُمَّ صلَّى خلف المقام، ثُمَّ خرج يريد الذهاب، فخرجت خلفه أريد السلام عليه، وإذا بجماعة أحاطوا به يمينا وشمالا خلفه وخدم وحشم وأتباع خرجوا معه فقلت لأحدهم: من هذا الفتى؟ فقال: هذا موسى الكاظم بن جعفر بن علي بن الحسين رضي الله عنهم.

كرامة ابنه علي الرضا:

ومن

ومن

أمامه،

وروى الحاكم في "تاريخه"، عن محمد بن عيسى، عن أبي حبيب، قال: رأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام وكأنه قد وافى المسجد الذي كان ينزله الحجاج من بلدنا - نيسابور - في كل سنة، وكأني مضيت إليه وسلمت

عليه ووقفت بين يديه، فوجدته عنده طبق من خوص المدينة فيه تمر صيحاني، وكأنه قبض قبضة من ذلك التمر فناولنيها، فعددتها فوجدتها ثماني عشرة تمرة، فقلت: إنّي أعيش بكل تمرة سنة. فلما كان بعد عشرين يوما، وأنا في أرض لي تعمر للزراعة، إذ جاءني من أخبرني بقدوم أبي حسن علي الرضا بن موسى

۱۰۲

كتاب الإيمان

الكاظم ونزوله بذلك المسجد، ورأيت النَّاس يسعون له من كل جهة يسلمون عليه، فمضيت نحوه، فإذا هو جالس في الموضع الذي رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم جالسًا فيه، وتحته حصير مثل الحصير الذي كان تحته صلى الله عليه وآله وسلم، وبين يديه طبق من خوص المدينة وفيه تمر صيحاني، فسلمت عليه، فردَّ السَّلام واستدناني وناولني قبضة من ذلك التمر، فإذا هي بعدد ما ناولني النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في النوم، ثماني عشرة تمرة، فقلت: زدني،

فقال: لو زادك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزدتك. ونقل العلامة نور الدين علي بن محمد بن الصباغ المكي المالكي في "الفصول المهمة" ، عن أبي خالد قال: كنت بالعسكر - هي بلد سر بلد سر من رأى أو سامرا فبلغني أنَّ هناك رجلًا محبوسًا أتي به من الشام مكبلا بالحديد، وقالوا: إنَّه تنبأ، فأتيت باب السجن، ودفعت شيئًا للسجان، حتى دخلت عليه، فإذا رجل ذو فهم وعقل ولب فقلت يا هذا ما قصَّتك؟ فقال: إنّي كنت رجلًا بالشام أعبد الله تعالى في الموضع الذي يقال: إنَّه نصب فيه رأس الحسين، فبينما أنا ذات ليلةٍ في موضعي مقبلاً على المحراب أذكر الله تعالى، إذ رأيت شخصا بين يدي، فنظرت إليه، فقال لي: قم. فقمت معه فمشى قليلا، فإذا أنا في مسجد الكوفة. فقال لي: تعرف هذا المسجد؟ فقلت: نعم، مسجد الكوفة.

هذا

قال: فصل فصليت معه، ثم انصرف فانصرفت معه قليلا، فإذا نحن بمكة المشرفة، فطاف بالبيت فطفت معه، ثمَّ خرج فخرجت معه، فمشى قليلا فإذا أنا بموضعي الذي كنت فيه أعبد الله تعالى بالشّام، ثم غاب عنِّي، فبقيت

أولياء وكرامات

۱۰۳

متعجبا حولا مما رأيت فلما كان العام المقبل، إذ ذاك الشخص قد أقبل علي، فاستبشرت به، فدعاني فأجبته، ففعل معي كما فعل في العام الماضي، فلما أراد مفارقتي قلت له: بحقِّ الذي أقدرك على ما رأيت منك إلا ما أخبرتني من أنت؟ فقال: أنا محمد بن عليّ الرّضا بن موسى بن جعفر، فحدثت بعض من كان يجتمع بي في ذلك الموضع، رفع ذلك إلى محمد بن عبدالملك الزيات، فبعث إلي من أخذني من موضعي وكبَّلني بالحديد وحملني إلى العراق كما ترى، وادعى علي بالمحال ، فقلت :له فأرفع قصَّتك إلى محمد بن عبدالملك الزيات؟ قال: افعل. فكتبت عنه قصته وشرحت فيها أمره ورفعتها إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فوقع على ظهرها: قل للذي أخرجك من الشام إلى هذه المواضع التي

ذكرتها يخرجك من السجن . قال أبو خالد فاغتممت لذلك وسقط في يدي وقلت: إلى غد آتيه وآمره بالصبر وأعده من الله بالفرج وأخبره بمقالة هذا الرجل المتجبّر، فلما كان من الغد باكرت إلى السجن، فإذا أنا بالحرس والموكلين بالسجن في هرج، فسألت: ما الخبر؟ فقيل لي: أنَّ الرجل المتنبئ المحمول من الشام فقد البارحة من السجن وحده، وأصبحت قيوده والأغلال التي كانت في عنقه مرميَّة في السجن وطلب فلم يوجد له أثر، فتعجبت من ذلك! وقلت في نفسي: استخفاف ابن الزيات بأمره واستهزاؤه بقصته، خلصه

من السجن.

كرامة سفيان الثوري:

وبعث أبو جعفر المنصور الخشابين أمامه حين خرج إلى مكة، وقال: إذا رأيتم سفيان الثوري ،فاصلبوه، فوصلوا إلى مكة ونصبوا الخشب للصلب،

كتاب الإيمان

وجاؤوا إليه فوجدوه نائما، رأسه في حجر الفضيل بن عياض ورجلاه في حِجر سفيان بن عيينة، فقالوا: يا أبا عبدالله اتق الله، ولا تشمت بنا الأعداء، فتقدم إلى

أستار الكعبة، وقال : برئت منه إن دخلها أبو جعفر، فمات قبل أن يدخل مكة. قلت: سفيان بن سعيد الثوري، أمير المؤمنين في الحديث، وهو أحد الأئمة المتبوعين، قال النسائي : هو أجل من أن يقال فيه: ثقة. كان منقطع النظير في الزهد والعبادة، سُئل عن رجل يتكسب لعياله، ولو صلَّى في الجماعة لفاته القيام عليهم : ماذا يصنع ؟ قال: يكتسب لهم ويصلي وحده.

ومن كلامه: «إذا رأيتم شُرطيا نائما عن صلاة فلا توقظوه لها، فإنَّه يقوم

.

يؤذي النَّاس». وقال: «كثرة النِّساء ليست من الدُّنيا؛ لأنَّ عليَّا -رضي عنه - كان من أزهد الصَّحابة، وكان له أربع نسوة، وتسع عشرة سرية».

كرامة محمد الحنفي:

الله

كان شخص من التجار شديد الإنكار على القطب شمس الدين محمد الحنفي، وكان أحيانًا يأتي إلى باب الزاوية ويرفع صوته بالألفاظ القبيحة في حق الشيخ، فدار عليه الزمان وأفلس وركبته الديون، فجاء إلى الشَّيخ رضي ا عنه فتلقاه بالترحيب وجمع له من أصحابه مالا جزيلا، ولم يزل يعتقد الشيخ

إلى أن مات.

قلت: الشيخ شمس الدين محمد الحنفي من الأقطاب الكبار، له منزلة كبرى في الولاية، وكثيرًا ما كان يقول : لو كان عمر بن الفارض في زماننا ما وسعه إلا الوقوف ببابنا، وذكروا عنده السيد عبد القادر الجيلي، فقال: لو حضر عندنا عبدالقادر هنا لكان يتأدب معنا، وهذا من باب التحدث بالنعمة

أولياء وكرامات

1.0

والتعريف بنفسه، وقد وقع مثله لكثير من العلماء.

فالبخاري رضي الله عنه قال عن شيخه علي بن المديني: وددت لو أني كنت شعرة في صدره، ومع ذلك كنت أغرب عليه. يعني: أنَّ البخاري كان يأتي بأحاديث لا يعرفها شيخه علي بن المديني الذي كان يحفظ ألف ألف حديث (۱). وقال العلامة الشيخ أحمد بن المبارك اللَّمطي: لو أدركنا السعد أو السيد، لما وسعه إلا أن يأخذ عنا، وقد كان سعد الدين التفتازاني والسيد الشريف

الجرجاني إمامين في علم الأصول والبلاغة والمنطق. ومن الإشارات اللطيفة للشيخ محمد الحنفي: أنَّه سُئل: ما تقول الساقية في

غنائها؟ قال: تقول: لا يرى ملآن إلا طالعًا، ولا فارغ إِلَّا نازلا. وقال: خطر لي أن أباسط توتة كانت في خلوتي، فقلت: يا توتة حدثيني حدوتة، فقالت : نعم، إنَّهم لما زرعوني سقوني ، فلما سقوني أسست، فلما أسست فرعت، فلما فرعت أورقت، فلما أورقت أثمرت ، فلما أثمرت أطعمت، قال: فكان كلامها سلوكًا لي. قلت: هذا أصل ما شاع بين المصريين اليوم، حيث

يقولون: توتة توتة، خلصت الحدوتة.

كرامة لشريف من أشراف المدينة المنورة

نقل العلامة الشيخ عبدالرحمن الأجهوري المالكي في كتاب "مشارق الأنوار": أنَّ رجلا من المغرب عزم على التوجه إلى الحج، فأعطاه رجل آخر

(۱) هو أحد حفاظ ثلاثة كان كلُّ واحدٍ منهم يحفظ ألف ألف حديث، والثاني الإمام أحمد بن حنبل، والثالث يحيى بن معين وكانوا أقرانا متقاربين في السِّنِّ، وأئمة في الجرح والتعديل.

1.7

فرأيت

كتاب الإيمان

مائة دينار وقال: تعطيها بالمدينة لشريف صحيح النسب، فلما وصل سأل عن الأشراف، فقالوا له : إنّهم من الشّيعة يسبون | يسبون الشيخين رضي الله عنهما؛ فكَرِه الإعطاء، فجلس بجنبه رجل بالمدينة، فقال له: أأنت شريف؟ قال له: نعم، قال له: ما عقيدتك ؟ قال : شيعي، فكره الإعطاء له، قال: فنمت تلك الليلة، القيامة قامت والنَّاس يجوزون على الصراط، فأردت الجواز فمنعتني فاطمة عليها السَّلام، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فشكوت إليه. فقال لها : لِمَ منعتيه ؟ فقالت: قطع رزق ابني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إنَّه ما منعه إلَّا من كونه يسب الشيخين، قال: فالتفتت فاطمة عليها السَّلام إلى الشيخين رضي الله عنهما وقالت لهما: أتؤاخذان ابني بذلك؟ فقالا : لا، بل سامحناه، فالتفتت إليَّ وقالت: ما الذي أدخلك بين ولدي وبين الشَّيخين؟ فانتبهت فزعا، فأخذت المبلغ وجئت به إلى ذلك الشريف فدفعته إليه، فتعجب من ذلك فقصصت عليه الرؤيا، فقال: أشهدك على أني لا أسبهما.

قلت: أغلب الشيعة الموجودين في هذا العصر نوعان:

زيدية: أتباع زيد بن علي زين العابدين عليهما السلام، وهؤلاء يتولون الشيخين أبا بكر وعمر ويترضون عليهما، وإن كانوا يرون عليا -عليه السلام- أفضل وأحق بالخلافة منها، لكنَّهم يرون جواز إمامة المفضول مع وجود

الفاضل، وهم الموجودون باليمن اليوم.

وإمامية : وهم موجودون بالعراق وإيران وسوريا ولبنان وبعض بلاد الهند، وهؤلاء يبغضون الشَّيخين ويسبونهما كما يسبون عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

أولياء وكرامات

۱۰۷

كرامة مطرف بن عبدالله بن الشخير :

تعدى رجل على مُطرّف بن عبد الله بن الشّخّير وظلمه، فقال: أماتك الله على عَجَل، فمات في الحال، فطلبوه إلى زياد وهو وال على البصرة فقال: هل مسه؟ قالوا: لا قال: فهل هي إلا دعوة رجل صالح، وافقت قدرًا فأطلقوه. قلت: مطرف بضم الميم، وكسر الراء المشددة. والشخير: بكسر الشين والخاء المعجمتين المشدَّدتين، كان من فضلاء التابعين، وأبوه صحابي، سئل مطرف عن الرجل يتبع الجنازة حياء من أهلها هل له في ذلك أجر؟ فقال: ذهب ابن سيرين إلى أنَّ له أجرين أجر صلاته على أخيه، وأجر مشيه للحي. كرامة سعيد بن جبير :

لما قدم الحجّاج سعيد بن جبير للقتل، قال سعيد: اللهم لا تسلّط الحجاج على أحد بعدي، فعاش الحجّاج بعده نحو أسبوعين، ووقعت الأكلة في بطنه،

وكان ينادي بقيَّة أيامه: مالي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي. قلت: سعيد بن جبير أحد علماء التابعين، تلقى التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو من ا الثقات في التفسير والحديث، أخرج له الستة، كان مُجاب الدعوة، كان له ديك يقوم على صياحه للصَّلاة فلم يصح ليلة، فنام

سعيد عن ورده، فدعا عليه فمات لوقته، فعزم أن لا يدعو على شيء أبدا. كرامة ذي النون المصري

وقال ذو النون المصري رضي الله عنه: لما حملت من مصر في الحديد إلى بغداد، لقيتني امرأة زَمِنة فقالت: إذا دخلت على المتوكل، فلا تهبه ولا ترى أنَّه فوقك، ولا تحتج لنفسك محقا كنت أو متهما؛ لأنَّك إن هبته سلطه الله عليك،

۱۰۸

كتاب الإيمان

وإن حاججته عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالا؛ لأنك باهت الله فيما يعلمه، وإن كنت بريئًا فادع الله أن ينتصر لك ولا تنتصر لنفسك فيكلك إليها، فقلت لها: سمعا وطاعة، فلما دخلت على المتوكل سلَّمت عليه بالخلافة، فقال: ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة؟ فسكت، فقال وزيره: هو حقيقة عندي بما قيل فيه، ثمَّ قال لي: لم لا تتكلَّم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن قلت: لا كذَّبت المسلمين، وإن قلت نعم كذبت على نفسي بشيء لا يعلمه الله تعالى مني، فافعل أنت ما ترى، فإنّي غير منتصر لنفسي.

فقال المتوكل: هو بري مما قيل فيه، فخرجت إلى العجوز، فقلت لها: جزاك الله عني خيرًا فعلت ما أمرتني به، فمن أين لك هذا؟ فقال: من حيث ما خاطب به الهدهد سليمان عليه السلام.

وكان ذو النون بعد ذلك يقول : من أراد تجريد التوحيد، وخالص التوكل فعليه بالنساء الزمني ببغداد.

قلت: إلهام المتوكَّل الحكم ببراءة ذي النون كرامة أكرمه الله بها، حيث فوض الأمر إليه، ولم يحتج لنفسه، عملا بوصية العجوز الزمنة التي أخذت ما أوصته به من قصَّة الهدهد، حيث لم يحتج عند سليمان عن نفسه بل ترك الاحتجاج وأخذ يحدثه عن ملكة سبأ، فعفا عنه ) ملكة سبأ، فعفا عنه وأبرده بريدا إليها كما جاء في

القرآن الكريم. كرامة ابن الحارث الحافي:

قال بشر بن الحارث الحافي رضي الله عنه كتبت مرة كتابًا فعرض لي كلام، إن كتبته حسن الكتاب وكان كذبًا، وإن تركته سمج الكتاب وكان صدقا، فعزمت

أولياء وكرامات

۱۰۹

على ذكر الكلام السمج ،الصدق، فنادى هاتف من جانب البيت يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: ٢٧].

قلت: بشر كان من كبار الصوفية وأجلائهم، عالم ورع كبير

الشأن،

صَحِب الفضيل بن عياض وتأدب ،به كان يرى تفضيل الصدقة على الجهاد

والحج والعمرة، ويقول: لأنَّ هذا يركب ويجئ فيراه النَّاس، وذاك يعطي سِرا، فلا يراه إلَّا الله عزّ وجلَّ.

وسئل عن التصوف، فقال: «هو اسم لثلاثة معان: أن لا يغطي نور معرفة العارف نور ورعه، وأن لا يتكلم في علم باطن بكلام ينقضه عليه ظاهر

الكتاب والسُّنَّة، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله عزَّ وجلَّ». وقال: «دخلت داري مرَّة فرأيت فيها رجلًا طويلًا قائما يصلي، فراعني ذلك لأن المفتاح كان معي فسلَّم من صلاته، ثم قال: لا تفزع، أنا أخوك الخضر ، فقلت له: علمني شيئًا ينفعني الله به، فقال: قل: «أستغفر الله عزّ وجلَّ وأسأله التوبة من كل ذنب تبت منه ثم رجعت إليه، وأستغفر الله عزّ وجل وأسأله التوبة من كل عقد عقدته الله على نفسي ففسخته ولم أوف به، وأستغفر الله عزّ وجل وأتوب إليه من كل نعمة أنعم بها على طول عمري واستعنت بها على

معصية، وأسأله الحفظ والحمية من ذلك كله».

بحث في الخضر

كتاب الإيمان

قلت: ذكر كثير من الأولياء أنَّهم رأو الخضر، ويسألوه عن أشياء أجابهم عنها، وعلم بعضهم أدعية وأذكارًا، مثل هذا الدعاء المذكور هنا، ومثل المسبعات

المتلقاة عنه وتقرأ بعد صلاة العصر، والخلاف في حياته وتعميره معروف. وفي "صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً طويلًا عن الدجال، فكان فيما حدثنا : أن قال: «يأتي) وهو مُحرَّم عليه أن يدخل عتبات المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه رجل هو خير النَّاس أو من خير النَّاس فيقول الدَّجَّال: إن قتلتُ هذا ثُمَّ أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثمَّ يُجيبه، فيقول حين يُجيبه: والله ما كنتُ فيك قط أشدَّ بصيرةً مني الآن، فيريد الدجال أنْ يقتله فلا يستطيع أنْ يُسَلَّط عليه»، قال إبراهيم بن سعد: يقال: إنَّ

هذا الرجل هو الخضر.

:

هكذا في "صحيح مسلم ، وللحافظ ابن حجر كتاب "الزهر النضر في نبأ الخضر" ، ذكر فيه آثارًا عمَّن رأى الخضر، واجتمع به، قال: إنَّ الأثر عن عمر بن عبدالعزيز في اجتماعه بالخضر صحيح.

وكثير من الصوفية، بل معظمهم يقولون : إنَّ الخضر (۱) ولي، وهذا غير

(۱) قال بعض العارفين: «القول بولاية الخضر فتح لباب الزندقة». وهو صحيح؛ لأنه أدى إلى دعوى الجهلة أنّهم بلغوا في الولاية شأوا أدركوا فيه علوما لم يدركها بعض الأنبياء، ويحتجون بأنَّ الخضر وهو ولي علم موسى الرسول حقائق لم يكن يعرفها، ويقولون تعليلا لذلك يوجد في النهر مالا يوجد في البحر،

أولياء وكرامات

۱۱۱

صحيح، بل هو نبي بلا شك، والدليل على نبوته الكتاب والسنة، وقد بينت

ذلك في كتاب "خواطر دينية".

وقال الشيخ علي وفا في بعض كتبه: لكلِّ ولي خضر هو يمثل روح ولايته، كما لكل نبي صورة جبريل هي تمثل روح نبوّته وهذا يفيد أنَّ الخضر الذي يراه الأولياء غير الخضر المعهود وهذا هو المتجه لوجوه:

منها: أن كثيرًا من الأولياء ذكروا أنهم رأوا الخضر ولم يبلغوا في الولاية درجة تؤهلهم لرؤيته والاجتماع به، فلا وجه لصحة كلامهم إلا بحمله على ما قاله الشيخ علي وفا. ومنها: أن بعض الأولياء ذكر أنَّ الخضر ظهر له وطلب منه الصحبة في سفره فرفض الولي وليس من المعقول أن يرفض ولي صحبة نبي سعى إليه

موسى عليه السَّلام يطلب مرافقته والتعلم منه فلا بد أنَّه خَضِر آخر.

ومنها: أنَّ الشَّعراني ذكر أنَّ الخضر صوَّب له المذاهب الأربعة وبيَّن له أنَّ الخلاف بينها دائر بين تشديد هو عزيمة، أو تخفيف هو رخصة، أو توسط بينهما، وألف كتابا سماه "الميزان الخضرية". قرأته.

والنبي لا يصدر عنه هذا الكلام لسببين:

أحدهما: أنَّه لا يؤيد التقليد، ولا يتكلف لتوجيهه.

ثانيهما: لو سلمنا أنه أيد التقليد، فلا يمكن أن يحصره في المذاهب الأربعة،

وأنَّ المزيَّة لا تقتضي التفضيل. وهذا كلام باطل، أوضحنا بطلانه في كتابنا "خواطر دينية"، ويكفي أن تعلم أن علم النبي علم يقيني يفيضه عليه جبريل عليه السلام وأنَّ علم الولي إلهام ظن، يحتمل الخطأ والدخيل، فهل يستويان؟!

۱۱۲

كتاب الإيمان

ويدع مذهب الظاهرية والزيدية والإمامية والإباضية(۱)، وهؤلاء كلهم مسلمون، يصلُّون ويصومون ويحجون إلى البيت الحرام، ويقرؤن القرآن ويأخذون منه ومن السُّنَّة أحكام الدين.

فلا بد أنَّ الذي ظهر للشَّعراني خَضِره الخاص الذي يمثل روح ولايته، وصوب له تقليد الأربعة، وهي المذاهب المعروفة في مصر، ولم يلتفت إلى طرابلس وتونس والجزائر وعُمان بضم العين وتخفيف الميم - حيث يوجد مذهب الإباضية، ولا إلى اليمن حيث يوجد مذهب الزيدية، ولا إلى الشام والنجف وفارس وغيرها من البلاد التي يوجد فيها مذهب الإمامية، بل لم يلتفت إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي الحاتمي الذي كان ظاهري المذهب واختصر كتاب "المحلى" لابن حزم الظاهري، ولا إلى الإمام المقرئ المفسر أبي حيان الأندلسي الظاهري المدفون بمصر.

ولهذا كان قول الشَّيخ علي وفا رحمه الله تعالى: لكل ولي خَضِر في غاية الوجاهة، يؤيده قول أبي تراب النخشبي: رأيت رجلًا بالبادية، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا الخضر الموكل بالأولياء أرد قلوبهم إذا شردت عن الله عزّ

وجل. والخضر النبي ليست هذه وظيفته.

كرامة النوري :

وقال التفليسي: كان النوري إذا دخل مسجد الشونيزية ببغداد- انقطع ضوء السراج من ضياء وجهه، فلذلك سمّي بالنوري، قال: وكان إذا حضر

(۱) بكسر الهمزة، نسبة إلى عبد الله بن إباض بالكسر ، قرأت بعض كتبهم كـ "مسند الربيع بن حبيب"، و "قناطر الخيرات"، وبالله التوفيق.

أولياء وكرامات

۱۱۳

معنا لا تؤذينا البراغيث.

قلت: أحمد بن محمد النوري البغدادي يعرف بابن البغوي، صَحِب

السَّرِي السَّقَطي، فهو من أقران الجنيد.

ومن كلامه ليس التصوف رسوما ولا علومًا، وإنما هو أخلاق».

ساکت

وقال: وقفت على شيخ يُضرب بالسياط ، فعددت عليه ألفًا وهو م فاستحسنت صبره مع كبر سنه، فلما أُدخل الرجل الحبس، دخلت عليه فسألته ع سنه الكبيرة ؟ فقال : يا أخي إنَّما يحمل البلاء الهمم لا الأجسام.

عن صبره مع .

كرامة أبي الخير التيناتي:

وقال أبو الخير الأقطع التيناتي: أتيت قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا جائع، فقلت: أنا ضيفك يا رسول الله، وتنحيت ونمت خلف المنبر، فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقبلت ما بين عينيه، فدفع لي رغيفا، فأكلت نصفه وانتبهت وبيدي النصف الآخر.

قلت: أبو الخير أصله من المغرب، كان أوحد زمانه في مقام التوكل، وله فراسة حادة، من كلامه: إياك أن تطلب من الله أن يصبرك، ولكن اسأل الله

اللطف بك فهو أولى؛ لأنَّ تجرع مرارات الصبر شديدة على أمثالنا». قلت: يؤيد هذا الكلام، حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: فقد مرَّ

برجل يسأل الله الصبر، فقال له: «سألت الله البلاءَ فَسَلْهُ العَافِيةَ». وسبب قطع يده: أنه عقد مع الله عقدًا ألا يمد يده إلى شيء مما تنبت الأرض بشهوة، فنسي وتناول عنقودًا من شجرة البطم، فبينما هو يلوكه إذ تذكر العقد فرمى بالعنقود وبصق ما في فمه وجلس نادما، قال: فما استقر بي

١١٤

كتاب الإيمان

الجلوس، حتى دار بي فرسان ورجال، وقالوا: قم، فساقوني حتى أخرجوني إلى ساحل بحر الإسكندرية، فرأيت هناك أميرًا وبين يديه سودان قد قطعوا الطريق، فوجدوني أسود اللون، ومعي ترس وحربة وسيف، فقالوا: هذا منهم بلا شك، فقطع أيديهم وأرجلهم، إلى أن وصل إليَّ، فقال لي: قدم يدك، فمددتها فقطعها، فقال : مدَّ رجلك، فمددتها ، ثمَّ رفعت رأسي وقلت: إلهي وسيدي ومولاي يدي جنت فرجلي ماذا صنعت؟ فدخل عليه فارس، ورمى بنفسه على الأمير وقال: هذا رجل صالح، يعرف بأبي الخير التيناتي، فرمى الأمير نفسه إلى الأرض، وأخذ يدي المقطوعة من الأرض يقبلها، وتعلق بي يبكي، ويعتذر إليَّ، فقلت له: جعلتك في حلّ، من أول ما قطعتها، وقلت: يد جنت فقطعت، توفّي سنة نيف وأربعين وثلاثمائة هجرية بمصر، رحمه الله ورضي عنه. هذا آخر كتاب «النقد المبرم لرسالة الشرف المحم»، وكان الفراغ من تبييضه ظهر يوم الأربعاء السَّادس من شهر شعبان المبارك من شهور سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف ختمها الله بخير وختم لنا بالحسنى آمين، والحمد لله

رب العالمين.

٢ - إقَامَةُ البُرْهَانِ

على نُزُولِ عيسى عليه السلام آخرِ الزَّمَانِ

إقامة البرهان

۱۱۷

إهداء الكتاب

إليك سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، أهدي كتابي هذا الذي دافعت به عن سُنّتك، ونفيت عنها - بقدر استطاعتي- تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، لا أبتغي بذلك إلا أن تكون شفيعا لي يوم يقوم النَّاسُ لرب العالمين.

ولن يَضِيقَ رسول الله جَاهُكَ بِي إِذا الكَرِيمُ تَجَلَّى باسم مُنْتَقِمِ

خادم حديثك

عبدالله بن محمد بن الصديق

إقامة البرهان

كلمة فضيلة الأستاذ الكبير

الشيخ محمد زاهد الكوثري (1)

۱۱۹

فضيلة الأستاذ العلامة المحدث الناقد السيد عبد الله الصِّدِّيق الغماري - حفظه الله - له يَرَاعُةٌ فيّاضة تفيض تحقيقا كلما جَدَّ الجد ووجب الرد، فتوقف

المتهجمين على معتقد الجماعة عند حدهم.

ولم تزل مواقف فضيلته ضد المشبهة ونفاة التوسل والمغالين في استنكار المحاريب ماثلة أمامنا، تشهد له بنبل الرأي ودقة النظر وغزارة العلم والبراعة في الرواية والدراية، فيتوالى شكر أهل العلم والدين من أعماق القلوب على إجادته البالغة في الردّ عليهم، وقد أعد الله سبحانه له موهبة عظيمة بقدر ما له من الإخلاص في العمل والنجاح في الجهاد والإجادة في الدفاع عن حوزة

الدين. وها هو ذا قد وقف بالأمس الدابر وقفة الأسد في الرد على مشايع للرشيد القلموني في (٢) - الجاري وراء الدكتور صدقي المعروف – في إنكار نزول عيسى عليه السَّلام في آخر الزمان فقضى عليه بمقالاته الممتعة المنشورة حديثا في

(۱) كان بيني وبين الأستاذ الكوثري صلة وثيقة رغم سعي بعض الحاقدين لإفسادها، وكان يقدرني كثيرًا حتى أني لما استجزته قبيل وفاته بسنة استجازني، وكان يسألني عن الأحاديث التي يسأله عنها بعض الناس واستمرَّت صلتنا كما هي إلى وفاته، رحمه الله وأثابه رضاه. المؤلّف.

(۲) هو الشيخ رشید رضا صاحب "المنار"

۱۲۰

كتاب الإيمان

"مجلة الإسلام" الغراء.

فندعو الله سبحانه أن يرعاه ويكافئه على ذلك مكافأة المحسنين، ويكثر من

أمثاله في حراسة الدين والدفاع عن معتقد المسلمين.

ومما يؤسف له أن يوجد بين صفوف حُرَّاس الدين من تتغلب عليه شهوة الظهور بالتجرؤ على العقيدة المتوارثة جريًا وراء الاستبعاد العقلي المجرَّد فيما لا يحيله العقل، مع توارد الكتاب والسُّنَّة وإجماع علماء أهل السنة والجماعة على تحتم الأخذ بها، ولا يكون ذلك إلا تزندقا مكشوفا في سبيل التجديد وفي مثله يقول الشاعر العربي: تزَنْدَقَ مُعلنا ليقول قوم مِن الأَدَبَاءِ زِندِيقٌ ظريف

وَصْـا

فقد بقي التزنْدقُ فيه وصما وما قيل الظريف ولا الخفيف

وليس شيء أثقل من ذلك على نفوس الأباة الكرام ومحاولة المرء لوزن قدرة الله جل جلاله بمعياره الخاسر العيّار وعقله القاصر عن اكْتِنَاه جزء من

الكون فضلا عن اكْتِنَاه صفة من صفات مُكَوِّن الأكوان، تدل على أنه مصاب في عقله قبل أن يصاب في دينه، والرَّكض وراء ذلك الاستبعاد المجرد يدل على فقد الإيمان بالغيب والاقتصار على المحسوس شأن البهيم، فنعوذ بالله من

الخذلان .

وفي مسألة رفع عيسى عليه السَّلام حيًّا ونزوله في آخر الزمان تضافر الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة فقوله تعال : وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩] بمعنى ليس أحد من أهل الكتاب إلا

إقامة البرهان

رضي

۱۲۱

ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام. لأن عود ضمير قبل موته [النساء: ١٥٩] إلى عيسى هو مقتضى الرواية، حيث صح ذلك عن أبي هريرة الله عنه، واستفاض عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون أن يصح ما يناهض ذلك عن أحدٍ من الصحابة، ولأن عود ذلك الضمير إلى عيسى هو مقتضى الدراية أيضًا حيث يلزم من عوده إلى غير عيسى -وهو أحد من أهل الكتاب أن يؤمن كل كتابي من اليهود وغيرهم قبل موته بعيسى فإما أن لا يعتد بذلك الإيمان، فينافيه إقسام الله سبحانه عليه وإما أن يعتد به فلا يكون يهود ولا نصارى بل يكون الجميع مِلَّةً واحدةً، مع أنَّ الإجماع على عدم ردَّ اليهود والنصارى إلى غير أهل دينهم في المواريث وسائر الحقوق يدل على تمايز الملتين وعلى أنَّ اليهود يهود والنصارى نصارى، ما لم نعلم اهتداء أحد منهم إلى الإسلام فنحكم فيه أنه مسلم.

فلو كان يهودي يؤمن قبل موته بعيسى عليه السَّلام ما صح رد ورثته إلى اليهود وقال الزهري: مضت السُّنَّة على أن يرد أهل الكتاب في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم . إلا أن يأتوا راغبين في حكم الله فيحكم بينهم بكتاب الله. وحيث استحال عود ذلك الضمير إلى غير عيسى عليه السلام

للسبب المشروح، تعيَّن عوده إلى عيسى عليه السلام من جهة الدراية أيضًا. وهكذا تطابقت الرواية والدراية على أنَّ موت عيسى عليه السلام يكون

بعد نزوله في آخر الزمان، وإذ ذاك يكون الجميع أمةً واحدةً بإيمانهم كلهم بما يدعو إليه عيسى عليه السلام إذ ذاك وهو دين الإسلام.

۱۲۲

كتاب الإيمان

ثُمَّ الضمير في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ ﴾ [الزخرف: ٦١] يتعيَّن إرجاعه إلى عيسى عليه السَّلام أيضًا؛ لأنه هو المذكور في سياق الآية ولا ذكر للقرآن في السياق حتى يستساغ إرجاعه إليه دراية.

وأما من جهة الرواية فلم يصح عن أحدٍ من الصحابة خلاف ما استفاض عن ابن عباس من إرجاع الضمير إلى عيسى عليه السَّلام، فتطابقت هنا أيضًا الدراية والرواية على أنَّ عيسى عليه السلام سبب علم الساعة، حيث يعلم

بنزوله قيام الساعة كما تواترت السنة وتطابق الإجماع على ذلك. وأما ما وقع في تفسير (سورة المائدة) - في غير مظنته- من "صحيح -

البخاري" من قوله: «قال ابن عباس: متوفيك مميتك». فخلو عن السند فلا يصلح للاحتجاج به وكم له من هذا القبيل في كتاب التفسير بما لا يحتج به عند أهل الصنعة وهذه الرواية واردة بطريق عبد الله بن صالح عن معاوية الحضرمي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس عند ابن جرير

وغيره. فعلي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس اتفاقا ففي الرواية انقطاع ثُمَّ ابن أبي طلحة، والحضرمي، وعبد الله كاتب الليث مختلف فيهم، وليسوا من شرط البخاري فأنى تصح رواية هذا شأنها؟! حتى يتصور أن تناهض ما صح واستفاض عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما! على أن حملها على التقديم والتأخير -مثل واسجدي واركعي كما فعل الفراء وغيره يجعلها متفقة مع الرواية الصحيحة.

وليس ما في "العتبية " من عزو موته - وهو ابن ثلاث وثلاثين - إلى مالك

إقامة البرهان

۱۲۳

رضي الله عنه بصالح أن يكون عُذرًا لمن شد وقال بموته حيث لا مستند له من الكتاب والسنة والإجماع إزاء تلك الجبال الشواهق من الحجج، على أنَّ " العتبية" المعروفة بـ"المستخرجة " اشتهرت بين المالكية بأنها . مجمع الروايات المطروحة والمسائل الشادَّة، وأنَّ جامعها كان يؤتى بالمسألة الغريبة فإذا أعجبته قال : أدخلوها في "المستخرجة".

بل قال ابن عبد الحكم رأيت جلها كذبًا ومسائل لا أصول لها فالاغترار

بها اغترارُ في غير محله، إِلَّا أَنَّ حبَّ الشذوذ مرضٌ في بعض النفوس. وبعد هذا الاستطراد نعود فنقول: إنَّ فضيلة الأستاذ الغماري وفي بوعده وأتم تأليف كتابه البديع المسمَّى بـ"إقامة البرهان على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان" وأحسن كل الإحسان في إقامة الحجج من الكتاب والسنة والإجماع على المسألة، وقد سرد فيه من طرق حديث النزول ما يشهد له بالتوسع البالغ في الحديث، ويسجل له كل فخر على ناصية الدهر، فأبان بذلك قوة تواتر هذا الحديث عند كلّ منصف غير متعسّف، فيكون كتابه الخالد هذا حارسًا لقلوب الأجيال المقبلة من أن يتسرب إليها شكوك المشككين من القاديانيين وأذيال القاديانيين، حيث لم يدع ناحية من نواحي هذا الموضوع بدون أن يقتلها بحثاً، فيقتنع المطالع المتبصر بمجرَّد مطالعته بتواتر خبر نزوله عليه السّلام في آخر الزمان، وهذا قاض على الشق الأول من زعم المردود عليه بأن: «نزول عيسى عليه السَّلام إنما ورد بطريق الآحاد وخبر الآحاد لا يفيد

عقيدة».

وأما الشقُّ الثاني فلا يمشي إلا على النقل الشاذ من الأشعري المردود عند

١٢٤

كتاب الإيمان

المحققين؛ لأن العقد الجازم هو المعتمد شرعًا وهذا قد يحصل بخبر الآحاد وبالتقليد كما يحصل بالبراهين المفيدة للعلم، وفي قصر الاعتداد في العقد الجازم على إيمان أهل البرهان إكفار لدهماء الأمة وهذا يكون مجازفة شنيعة، بل إفادة خبر الآحاد العلم رأي كثير من علماء هذه الأمة، ولا سيما عند احتفافه بالقرائن، وخاصة فيما أخرجه الشيخان من غير منازع أو اتفقت الأمة على الأخذ به. بل لا يرد خبر الآحاد عند أهل العلم إلَّاء عند مخالفته لكتاب الله أو سنة رسوله المتواترة أو المشهورة أو عند ما عده العقل محالا فيما لا يحتمل التأويل؛ لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول لا بما تحيله كما في "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي وغيره. وصفوة القول أنَّ المؤلّف أجاد كل الإجادة في تأليفه هذا؛ فندعو الله سبحانه أن يكافئه على هذه الإجادة، وأن يوفقه لتأليف كثير من أمثاله في خير وعافية، وأن ينفع به المسلمين.

محمد زاهد الكوثري

إقامة البرهان

١٢٥

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، لك الحمد إنك على كل شيء قدير.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد المبشِّر النذير، والسراج المنير، الذي ختمت به الأنبياء، وفَضَّلته علي جميع الرسل والأصفياء، جعلته نبيا وآدم بين الرُّوح والجسد، وحكمت لشريعته بالبقاء إلى آخر الأبد، خلقته نورًا قبل خلق الأشياء، ثم بعثته مُشعًا بعد أن عمت هذا العالم ظلمات الشرك والجهل والجَوْرِ والشَّقاء، فعمَّ الأرض نوره وعلمه، ووسع الناس عدله وحلمه، فهو الفاتح الخاتم ورسول الله إلى جميع العوالم، لا نبي بعد نبوته، ولا شرع غير شرعته ومِلَّته، فأبلغه اللهمَّ مِنَّا أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، واجزه عنا بأجزل الخيرات وأجل المكرمات. وارضَ اللهم عن آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، وعمن تبعهم بإحسان من غير تحريف ولا تبديل إلى يوم الدين، ووفقنا اللهم فيما انتدبنا له من الدفاع عن سُنّته، وأدم هدايتنا بدوام اتباع هديه وطريقته، حتى نحشر يوم العَرْضِ فِي زُمرته ونكون مِن أسعد من يسعد بشفاعته، بفضلك وكرمك يا ذا الفضل العظيم ويا صاحب الكرم الواسع العميم.

أما بعد: فقد ظهر في هذه الأزمان المتأخّرة، طائفةٌ كافرة خاسرة، تدعي الإسلام وهو منها براء، وتنشر بلسانه - في زعمها - آراء كلها ضلال وإفك وافتراء، تزعم في شأن زعيمها غلام أحمد القادياني أنه نبي ظلي يوحى إليه،

١٢٦

كتاب الإيمان

ومعنى الظلية في كلامهم أنه لم يأتِ بشرع جديد، وإنما بعث ليصلح ما أفسدته يد الحدثان في شريعتنا الحنيفية السمحة، ويشبهون حالة نبوته وإصلاحه بحال عيسى عليه الصلاة والسَّلام، حيث بعث تابعًا للشريعة الموسوية، ومصلحا لما حرف من أحكامها وتعاليمها.

وتالله إن زعمهم ذاك الباطل، وإن تشبيههم . ذاك الباطل، وإن تشبيههم هذا لخال عن الجامع وعن حلية الحق والتحقيق عاطل.

ذلك أنَّ عيسى ابن مريم عليهما السّلام - رسول كريم بعثه الله في وقت لم تنقطع فيه النبوة والرسالة، لاحتياج الناس إذ ذاك إلى من يُزيل ما رَانَ على قلوبهم وعقولهم من الجهالة والضلالة، مع ما ثبت من تحريف اليهود للتوراة، وتبديلهم للأحكام التي أنزلها الله ، كما شهد به القرآن وأثبته التاريخ الصحيح، واعترف به علماء اليهود أنفسهم باللفظ الصريح. فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بدينه الذي أكمله وارتضاه، حيث قال جل علاه: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران:

١٩] وقال عزّ ذكره: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣] ولم يقبل دينا غيره حيث قال تبارك وتعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ ﴾ [آل عمران: ٨٥] وتولى حفظه بذاته حيث قال عزّ وجلَّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحفظون ﴾ [الحجر: ٩] لم يبق للناس بعد هذا حاجة إلى نبي أو رسول؛ لحصول كمال الكفاية في تمام الرشد والهداية بنبيهم الأكرم ورسولهم الأعظم،

إقامة البرهان

۱۲۷

إذ خلف فيهم الكتاب والسُّنَّة، فيهما بيان كل شيء مما يحتاج إليه العباد في دينهم ودنياهم، في معاشهم ومعادهم، وتركهم على المحجة البيضاء الواضحة المعالم والمسالك، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلهذا ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلم يكن بعده نبي كما قال الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠ ] . وفي "الصحيح" عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء كمثل رَجُلٍ بنى دارًا فأتمها وأكملها إِلَّا موضعَ لَبِنَةٍ، فجعل النَّاسُ يدخلونها ويتعجبون منها فيقولون: لولا مَوْضِعُ اللَّبِنَة»، قال رسول الله

الله عليه وآله وسلَّم: «فأنا مَوْضِعُ اللَّبِنَة جِئتُ فَخَتَمْتُ الأنبياء». وفي "الصحيح" أيضًا، عن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلَّم لعلي: «أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». وفي رواية في "الصحيح " أيضًا: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوَّة بعدي». والحديث متواتر، له أكثر من عشرين طريقا

استوعبها الحافظ ابن عساكر في كتاب خاص.

وفي "الصحيح" أيضًا من حديث ابن أبي أوفى: «ولو قضي أن يكون بعد

محمد نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده. وقال ابن حبان في صحيحه: أخبرنا عمر بن محمد الهمداني: ثنا عبدالملك بن سليمان القُرْقَسَاني: ثنا عيسى بن يونس: ثنا عمران بن سليمان القمي . الشعبي قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: صعد رسول الله

۱۲۸

كتاب الإيمان

صلَّى الله عليه وآله وسلّم المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أُنذركم الدجال، فإنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد أَنْذَرَهُ أَمَّته، وهو كائن فيكم أيتها الأمة، إنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم، إلَّا إن تميما الداري أخبرني...». وذكر حديث

الجساسة.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، وهي قطعية الثبوت والدلالة لتواترها وصراحة ألفاظها.

ولذا كان من مسائل الدين وقواعده الضرورية المجمع عليها أنَّ من اعتقد أو ادعى وجود نبيَّ ينباً في هذه الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، أو شك في متنبئ ادعى النبوة بحيث لم يجزم بكذبه، فهو كافر مرتد حلال الدم والمال، يُستتاب؛ فإن تاب قبل وإلا قتل، على هذا اتفق المسلمون قاطبة لا فرق

بين عالم وجاهل ولا بين سُنّي وغيره. قال ابن حزم الحافظ في كتاب مراتب" الإجماع": «باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع: اتفقوا أنَّ الله عزّ وجل وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلها كما شاء». إلى أن قال: «وأنَّ دين الإسلام هو الدين الذي لا دين الله في الأرض سواه، وأنه ناسخ الجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبدا، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبدا... وأنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبدا، واتفقوا أنه مذ مات النبي صلى الله عليه وسلم فقد انقطع الوحي وكمل الدين واستقر». اهـ

إقامة البرهان

۱۲۹

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره" عند الكلام على قوله تعالى: وَخَاتَم النبي [الأحزاب: ٤٠] ما نصه: وقد أخبر الله تعالى في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أنَّ كلَّ من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال مضل» . اهـ

وقال الألوسي في "تفسيره" ما نصه: وكونه صلَّى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب وصدعت به السُّنَّة وأجمعت عليه الأمة فيكفر مدعي خلافه» . اهـ فعلم مما ذكرناه أن ذلك الغلام القادياني ليس بنبي كما يزعم هو وطائفته، ولكنه أحد الدجالين الذين أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنهم يدعون

النبوة قبل الدجال الأعظم الذي يدعي الألوهية.

ففي "الصحيح " عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ بين يَدَيِ الساعةِ كذَّابِين».

وفي "الصحيح " أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « لا تقوم الساعةُ حتى يُبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلُّهم يزعم أنه رسول الله».

وروى ابن حبان في "صحيحه" : ثنا محمد بن عبدالله بن الجنيد: ثنا قتيبة بن سعيد: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله زَوَى لي الأرضَ فرأيت مشارقها ومغاربها وذكر الحديث بأطول مما في "صحيح مسلم"، وقال

۱۳۰

كتاب الإيمان

في آخره: «وإنه سيكون في أُمَّتي ثلاثون كذَّابًا كلهم يزعم أن أنه نبي، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولن تزال طائفةٌ مِن أُمَّتِي على الحقِّ ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله».

وروى الطبراني وغيره، عن نعيم بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله

وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتّى يخرج ثلاثون كذَّابًا كلُّهم يزعم أنه نبي». وروى أحمد، والطبراني، والضّياء، وغيرهم، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «في أمتي كذابون ودجالون سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي». وعزاه الحافظ الهيثمي للبزار أيضًا وقال: «رجاله رجال الصحيح . اهـ

وفي "المسند"، وغيره ، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: بين يَدَيِ السَّاعةِ كذَّابون منهم صاحب اليمامة، ومنهم صاحب صنعاء العَنْسِي، ومنهم صاحب حمير، ومنهم الدجال وهو أغلظهم فتنة». قال جابر: «وبعضهم يقول قريبا من ثلاثين كذَّابًا».

وعزاه الهيثمي للبزار أيضًا، وقال: «في إسناده عبدالرحمن بن مغراء، وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح». قال: «وفي سنده أحمد ابن لهيعة، وهو لين».اهـ

والأحاديث في هذا كثيرة، والعدد المذكور فيها للتقريب لا للتحديد وفيها معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث وقع الأمر

كما أخبر وظهر في الأمة كذَّابون متنبئون فيهم نساء كسجاح وغيرها.

ومن أحدث هؤلاء المتنبئين عهدًا هذا الغلام القادياني الذي انبعث في الهند

إقامة البرهان

۱۳۱

شيطانا من شياطين الإنس، فشقّ عصا المسلمين وفارق جماعتهم وفرق كلمتهم، وبشر بمذهبه في كثير من البلاد خارج الهند على أنه مذهب إسلامي صحيح، وهو والله مذهب الكفر الصريح، ومن اعتنقه خسر الدنيا والآخرة وباء بالضلال المبين، وكان يوم القيامة مع الكفرة الفجرة لا في زمرة المسلمين. وقد اتبعه ضعفاء العقول، من كل مختل جهول، لا يفهم ما يقال له ولا يفقه ما يقول، وهذا شأن الباطل لا يروج إلا على الطغاة والجهلة الذين هم

كالأنعام. ومع أن الحق واضح أبلج، وطريق الإسلام مستقيم غير ذي عوج، نجد من ينحرف ذات الشمال وذات اليمين ويترك الهدى والنور لقول كذاب مهين، فنعجب ولكن سرعان ما يذهب عجبنا حين نقرأ قول الله تعالى: ﴿وَلَا يزالُونَ مُختلفِينَ )) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: ۱۱۸ - ۱۱۹].

۱۳۲

كتاب الإيمان

فصل

دعاوى القاديانية

ثم إن هؤلاء القاديانية - أو الأحمدية كما يتسمون- ينحصر كلامهم في عِدَّة

دعاوى نلخصها فيما يلى :

أحدها: أنَّ عيسى عليه السلام مات وانتهى أمره، ولا سبيل إلى رجوعه في

آخر الزمان، وأنَّ رَفْعَه الوارد في القرآن رفع معنوي.

ثانيها: إنكار الدَّجَّال والدَّابَّة وغيرهما من أشراط الساعة الكبرى، التي تواترت بها الأحاديث واتفقت عليها الأمة.

ثالثها: ترك الاحتجاج بالسُّنَّة مطلقا لا فرق بين متواترها وآحادها إلَّا إذا وافقت القرآن بحسب فهمهم.

رابعها وهي مترتبة على التي قبلها أنه ليس في القرآن دليل يدل على انقطاع النبوة، وقوله تعالى: ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠] معناه الختم والطابع، أي أنّ محمَّدًا عليه الصَّلاة والسلام بالنسبة للأنبياء كالختم الذي يختم به على الشهادة مثلا، وليس في هذا ما يدل على أنه لا نبي بعده!! بل قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: ١٤٤] يدل عندهم على وجود نبي بعده !! وبناءا على ذلك تكون الأحاديث المصرحة بأنه لا نبي بعده مخالفة للقرآن فلا يُعمل بها!. خامسها أنَّ غلام أحمد نبي يوحى إليه، وأنه رسول العالم الموعود! وقد يتغالى

بعضهم فيحمل قوله تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحمدُ [الصف: ٦] على

إقامة البرهان

غلامهم القادياني.

۱۳۳

هذه أصول دعاواهم وأهمها وسائر كلامهم يتفرع منها أو يرجع إليها.

-

وهي دعاوى كما ترى كلها كفر وضلال، إذا اعتقد الشخص واحدة

منها خرج عن مِلَّة الإسلام، فكيف إذا اعتقد جميعها؟! بل كيف إذا كان يدافع عنها ويحاول تثبيتها في عقول المسلمين بكل حيلة؟! لا شك أن من فعل ذلك فكفره أشد، وعذابه أكثر وأقبح، نسأل الله العفو والعافية.

فصل

أساليب القاديانية في نشر دعاواهم

ثم إنهم دائبون على نشر دعاواهم المذكورة بمختلف الحيل والأساليب، فطورًا يتقدمون بها في صورة سؤال، مكتفين أن يرد في الجواب كلمة يكون فيها تأييدهم، وحينا يقدمونها أقوالا مسلمة لا تحتمل النزاع والجدال، وتارة يُغرون على اعتناقها بالنَّشَب (۱) والمال، إلى غير هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

وهم في كل ذلك جهلة لا يفهمون العلم، وإن فهموا شيئًا فلا يحسنون الفهم، ليس لهم قواعد وأصول يرجعون إليها عند البحث والمناظرة، وإن دعاهم مناظرهم إلى كتب الأصول الإسلامية وقواعدها المحكمة هربوا كأنهم حمر مستنفرةٌ ، فرَّت مِن قَسْوَرة، الكلام معهم مضيعة، وتعب في غير منفعة، لأنهم كما قلنا - لا يفهمون، فهم لأجل ذلك لا ينصفون، وليجرّب من شك في هذا، يلق من جهلهم وتعصبهم ما لا يصفه الواصفون.

(۱) النَّشَبُ : المال والعقار . انظر : "لسان العرب" لابن منظور (١/ ٧٥٥).

١٣٤

كتاب الإيمان

وكان من أحدث ما فعلوه لترويج أباطيلهم وإعادة ذكرها على الأسماع والأذهان، بعد إذ نسيت مدة من الزمان أن تقدَّم أحدهم بسؤال إلى مشيخة الأزهر جاء فيه: هل عيسى عليه السلام حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر أنه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فُرض أنه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟

وهذا ملخص ما جاء في ذلك السؤال ولم يكن مقدمه مستفيدا مستر شدّا؛ إذ لو أراد الاستفادة والاسترشاد لوجد في الكتب التي ألفها علماء الهند في هذه

المواضيع باللغتين العربية والأردية ما يشفي عِلَّته ويروي غُلَّته. إذ قد ألف العلامة المحدث الكبير محمد أنور الكشميري الديوبندي - رحمه الله وأثابه رضاه - ثلاث رسائل، الأولى: "عقيدة الإسلام في حياة عيسى عليه السّلام" وعمل عليها حاشية سماها "تحية الإسلام"، والثانية: "التصريح بتواتر نزول المسيح"، الثالثة اسمها : "خاتم النبيين"، وكلها مطبوعة. وللعلامة الكشميري المذكور منزلة كبيرة في نفوس المسلمين هناك، لم يكتسبها من مركزه الرسمي فحسب بل بما له من علوم و مواهب و بما لا الفه

من الكتب في الدفاع عن الدين والرد على الملحدين.

وقد

ألف ، غيره أيضًا من العلماء في هذه الأشياء بحيث لم يتركوا لقائل مقالا، هذا غير ما أُلقي من محاضرات، وما عُقد من اجتماعات تشتمل على

مناظرات ومجادلات، مما نُشر كله أو جُلُّه في الجرائد والمجلات.

إذن فذلك السائل لم يكن بسؤاله مستفيدا مسترشدا، ولكنه حاول أن ينتزع من هيئة دينية رسمية ما يجعله مُتَكَاً له يتوكأ عليه في دعاواه، فأفلحت

إقامة البرهان

۱۳۵

محاولته، ونجحت حيلته.

وصدر العدد الثاني والستون بعد الأربعمائة من "مجلة الرسالة" (يوم الاثنين، الخامس والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ١٣٦١ هـ / الموافق ١١ من مايو عام ١٩٤٢هـ يحمل فتوى عنوانها: «رفع عيسى» ومضمونها أنَّ عيسى عليه السلام مات موتا حقيقيا، وأنه لم يرفع بجسمه إلي السماء، وأنه لا ينزل في آخر الزمان، وأن الأحاديث الواردة في ذلك آحاد، وأنَّ الآحاد لا يعمل به في العقائد والمغيبات بالإجماع، وأنها مضطربة اضطرابا لا مجال معه للجمع بينها. وأنها فوق ذلك من رواية وَهْب بن مُنَبِّه وكعب الأحبار، وأن درجتهما عند أهل الحديث معروفة، أي أنهما غير مقبولين أو غير ثقتين.

إلى غير هذا مما جاء في تلك الفتوى التي صادمت الإجماع، وخالفت الأحاديث المتواترة، ونابذت ما تواطأت عليه كتب التفسير والعقائد، ودعت إلي إهدار الأحاديث النبوية الصحيحة في بعض مسائل الدين بدعوى أنها آحاد، وحادت بجملتها وتفصيلها عن الصراط السوي والطريق القويم.

فصل

وقد اتخذ القاديانية تلك الفتوى عُدَّةً لهم وسلاحًا، وأخذوا يطوفون بها على المسلمين الذين كانوا يسفّهون أحلامهم، ويُخطئون آراءهم، وهم فرحون مستبشرون، يقولون بلهجة الظافر المنتصر : ها هو ذا الأزهر يوافقنا ويخالفكم، فليس عيسى بحي، ولا هو مرفوع، ولا هو نازل كما تزعمون، فأين تذهبون؟!(۱)

(۱) ونشرت جريدة البشرى" "القاديانية التي تصدر في بيروت في عدديها (٥ و ٦) أن الأزهر يعترف بوفاة المسيح الناصري.

١٣٦

كتاب الإيمان

تحققنا هذا ولمسناه تارة بسماع صحيح الخبر، وأخرى بمشاهدة البصر، فرأيت أن أكشف من تلك الفتوى عَوَارها، وأمحو عن علماء الأزهر عارها؛ فألفت هذه الرسالة، واختطفت من بين أنياب العوائق هذه العجالة، وأعددتها على ضعف في الاستعداد وقلة من المواد وأجهدت نفسي في تنسيقها، رغم تراكم الأهوال وتفاقم الأحوال وتوالي البَلْبَال ()، وسميتها: "إقامة البرهان على نزول عيسى عليه السلام آخر "الزمان" أو "إبطال ما قيل من الخيالات والأوهام في حديث نزول عيسى عليه السلام". والله أسأل أن يجعلها عملاً مقبولاً مبرورًا، وأن يجعل سعينا لديه مشكورا وأن يدرج اسمنا في خدام سنة نبيه الأمين، وأن يتحفنا وجميع أهلنا وأحبابنا بشفاعته يوم الدين، إنه الجواد الكريم والرءوف الرحيم.

(۱) البَلْبَال: شدة الهمّ . انظر : "لسان العرب" لابن منظور (١١/ ٦٣).

المؤلّف

إقامة البرهان

نزاع

باب

إثبات نزول عيسى عليه السلام

۱۳۷

اعلم أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تواترا لا خلاف فيه ولا أنه أخبر بنزول عيسى عليه السَّلام في آخر الزمان، حاكما بهذه الشريعة المحمدية، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية، ويقتل الدجال، ولا يقبل إلا الإسلام، ويمكث في الأرض ما شاء الله أن يمكث، ثم يموت فيصلي

عليه المسلمون ويدفنونه

ونحن نورد بحول الله في هذا الباب ما يثبت ذلك من جهة الصناعة الحديثية، فنذكر طرق الأحاديث ونتكلم عليها، وبعد الفراغ من استيعابها حسب اجتهادنا وعلمنا تتبعها بسرد أقوال العلماء المصرحة بالتواتر وبوجوب اعتقاد مضمونه، حتى يظهر الحقُّ واضحًا لا غبار عليه ولا اشتباه فيه، والله يوفق من شاء هدايته لاتباعه.

فصل

في الصحابة والتابعين الذين رووا حديث نزول عيسى عليه السلام ورد نزول عيسى عليه السَّلام عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حديث أبي هريرة، وحذيفة بن أسيد، والنواس بن سمعان، وعبدالله بن عمرو، وجابر بن عبدالله ومجمع بن جارية وأبي أمامة، وعثمان بن أبي العاص، ووائلة بن الأسقع، وعبدالله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبدالله بن مُغَفَّل، وعائشة، وسَمُرَةَ بن جُندب، وأنس ، وأبي سعيد الخدري، وعمران بن حصين، وابن عباس، وأوس بن أوس، وثوبان، وعبدالرحمن بن سَمُرَةَ، ونافع بن

۱۳۸

كتاب الإيمان

كيسان الثقفي، وكيسان بن عبدالله بن طارق، ونافع بن عتبة، وأبي بَرزَةَ، وعمرو بن عوف، وبعض الصحابة، وأبي الدرداء.

ومن مرسل جُبير بن نفير الحضرمي، والحسن، وعُرْوَةَ بن رُويم التابعين. وهذا غير الموقوفات والمقطوعات، وهي في هذا الباب لها حكم الرفع كما

تقرر في علوم الحديث.

فصل

أحاديث أبي هريرة بلغت حد الاستفاضة

أما أبو هريرة فوردت عنه أحاديث كثيرة بلغت حد الاستفاضة والشهرة

ونحن نذكرها بحول الله :

الحديث الأول

قال البخاري في صحيحه : باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام»: حدثنا إسحاق: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم: حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَما عَدْلًا، فيكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويَضَعَ الجِزْيَةَ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا

.

وما فيها». ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا

ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ١٥٩].

وكذا رواه مسلم، عن الحسن الحلواني، وعبد بن حميد، كلاهما عن يعقوب به.

إقامة البرهان

۱۳۹

ورواه البخاري ومسلم أيضًا، من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب

الزهري، به وروياه أيضًا، من طريق الليث بن سعد، عن الزهري به.

ورواه مسلم، من طريق يونس، عن الزهري به.

ورواه ابن مردويه في تفسيره"، من طريق محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَما عَدْلًا، يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتكون السجدة واحدة الله رب العالمين». قال أبو هريرة: اقرؤا إِن شئتم: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩]، موت عيسى ابن مريم عليهما السلام،

ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات. ورواه الترمذي، وابن ماجه، وغيرهما. ورواه ابن أبي شيبة أيضًا ولفظه: «لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى ابن حَكَما مُقْسِطًا، وإمامًا عادلا فيكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويفيض

مریم

المال حتى لا يقبله أحد».

.

ورواه ابن سعد في "الطبقات" ولفظه ينزل عيسى ابن مريم قبل القيامة فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويجتمع الناس على دين واحد، ويضع الجزية».

الحديث الثاني

قال البخاري في "صحيحه" : حدثنا ابن بُكَير: ثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم

١٤٠

كتاب الإيمان

منكم؟». تابعه عقيل، والأوزاعي. اهـ

ورواه أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر. وعن عثمان بن عمر ، عن ابن أب

ذئب، كلاهما عن الزهري به.

ورواه مسلم، من طريق يونس، عن الزهري به.

ورواه أيضًا، من طريق ابن أخي الزهري، وابن أبي ذئب، كلاهما عن الزهري: أخبرني نافع مولى أبي قتادة عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلم قال: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمَّكُم منكم». وقال الوليد بن مسلم فقلت لابن أبي ذئب: إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري، عن نافع، عن أبي هريرة: «وإمامكم منكم»؟ قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت: تخبرني، قال: فأمَّكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسُنَّة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلَّم.

الحديث الثالث

قال مسلم في "صحيحه" حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله لينزلنَّ ابن مريم حَكَمًا عادلا، فليكسرنَّ الصَّليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركنَّ القِلَاصُ (۱) فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء و اء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحدٌ».

.

(1) القلاص: جمع قَلُوص، وهي النَّاقَةُ الشابة. أي لا يخرج ساع إلى زكاة؛ لقلة حاجة النَّاس إلى المال واستغنائهم عنه . انظر : "النهاية" لابن الأثير (٤ / ١٠٠).

إقامة البرهان

١٤١

ورواه أحمد عن حجاج، وعن هاشم، كلاهما عن الليث بن سعد به. ورواه ابن حبان في "صحيحه" قال: أخبرنا عبدالله بن محمد الأزدي: ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عمرو بن محمد العَنْقَزي: ثنا ليث بن سعد، عن

المقبري، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة به.

الحديث الرابع

قال الإمام أحمد: حدثنا رَوْحٌ ثنا محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم

قال: «ليهلن عيسى ابن مريم بفجّ الرَّوْحَاءِ بالحج أو العُمْرة، أو ليثنينهما جميعًا». وكذا رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة ، والليث بن سعد، ويونس بن

یزید، كلهم عن الزهري به

ورواه ابن حبان في صحيحه " من طريق عبيد الله بن عمر، عن الزهري به. ورواه أحمد أيضًا من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن حنظلة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتُجمع له الصَّلاة، ويُعطي المال حتى لا

يُقبل، ويضع الخراج، وينزل الرَّوْحاءَ فَيَحُجُ منها أو يعتمر أو يجمعهما». قال: وتلى أبو هريرة: ﴿وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى. فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو شيء قاله أبو

فزعم .

هريرة.

١٤٢

كتاب الإيمان

وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي موسى محمد بن المثنى، عن يزيد بن

هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري به

الحديث الخامس

قال أحمد: حدثنا عفان ثنا همام: أنبأنا قتادة، عن عبدالرحمن بن آدم، عن

لأنه لم يكن

أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الأنبياء إخوة لعَلَّات أمهاتهم شتّى ودينهم واحد، وإنّي أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجلٌ مَرْبُوعٌ إلى الحُمْرة والبياض عليه ثوبان لمصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهلك الله في زمانه الملل كلَّها إِلَّا الإسلام، ويُهلك في زمانه المسيح ) الدجال، ثم تقع ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيَّات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفّى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه». وهذا إسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".

ورواه أحمد أيضًا، عن يحيى، عن ابن أبي عروبة عن قتادة به.

ورواه أبو داود، عن هدبة بن خالد، عن همام بن يحيى، عن قتادة به نحوه. ورواه ابن جرير، عن بشر بن معاذ، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن عبدالرحمن بن آدم مولى أم بُرْتُن صاحب السقاية، عن أبي هريرة به نحوه.

إقامة البرهان

١٤٣

ورواه الحاكم، من طريق عفان بن مسلم عن همام عن قتادة به نحوه

وصححه، وسلَّمه الذهبي.

ورواه ابن حبان في "صحيحه"، من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن

قتادة، عن عبدالرحمن به نحوه.

ورواه أيضًا، من طريق هدبة بن خالد، عن همام، عن قتادة، عن عبدالرحمن به بلفظ أحمد.

الحديث السادس

أخرج الطبراني في "الأوسط"، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا ينزل الدَّجَّال المدينة، ولكنه بين الخَنْدَقِ، وعلى كلِّ نَقْبٍ منها ملائكة يحرسونها، فأول من يتبعه النِّساء فيؤذينه فيرجع غضبان حتى ينزل الخَنْدَق، فعند ذلك ينزل عيسى ابن مريم . قال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال

الصحيح غير عقبة بن مكرم بن عقبة الصبي، وهو ثقة».

قلت: وقوله: فعند ذلك ينزل عيسى أي عند نزول الدجال الخندق مع توجهه الحصار المسلمين وشروعه فيه كما جاء في الروايات الأخرى، والأحاديث يفسر بعضها بعضا.

الحديث السابع

أخرج الحاكم وصححه، وسلَّمه الذهبي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ليهبطنَّ ابن مريم حَكَما عادلا وإمامًا مُقْسِطًا، وليسلكن فجا حاجًا أو معتمرًا، أو بنيتهما، وليأتين قبري حتى يُسلم علي

١٤٤

كتاب الإيمان

ولأردن عليه».

يقول أبي هريرة: أي بني أخي إن رأيتموه فقولوا: أبو هريرة يقرئك

السَّلام".

الحديث الثامن

أخرج أحمد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إني لأرجو إن طال بي عُمُرُ أن ألقى عيسى ابن مريم عليه السلام، فإن عجل بي موت فمن لقيه منكم فليقرئه مِنّي السَّلام». قال الحافظ الهيثمي: «رجال إسناده رجال الصحيح.

الحديث التاسع

أخرج أحمد أيضًا، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يوشك المسيح عيسى ابن مريم أن ينزل حَكَما مُقْسِطًا وإمامًا عَدْلًا، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، وتكون الدعوة واحدة، فأقرئوه -أو أَقْرِتُه السلام من رسول الله، وأحدثه فيصدّقني». فلما حضرته الوفاة قال: «أقرئوه مني السلام».

قال الحافظ الهيثمي : في سنده كثير بن زيد، وثقه أحمد وجماعة، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات».

الحديث العاشر

أخرج الطبراني في "الأوسط" و"الصغير" قال: حدثنا عيسى بن محمد الصَّيْدَلَاتي البغدادي: ثنا محمد بن عقبة السَّدُوسِيُّ: ثنا محمد بن عثمان بن سيّار القرشي: ثنا كعب أبو عبدالله هو البصري، عن قتادة، عن سعيد بن

إقامة البرهان

بعدي،

١٤٥

المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا إِنَّ عيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول، ألا إنه خليفتي في أمتي من ، ألا إنه يقتل الدَّجَّال، ويكسر الصَّليب، ويضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها، ألا من أدركه منكم فليقرأ عليه السلام». قال الحافظ الهيثمي: «في سنده محمد بن عقبة السدوسي، وثقه ابن حِبَّان وضعفه أبو حاتم» . اهـ قلت ورواه الخطيب الحافظ في "التاريخ " فقال: أخبرنا محمد بن عبدالله بن شهريار الأصبهاني: أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني به.

الحديث الحادي عشر

أخرج أحمد ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: ينزل عيسى ابن مريم إمامًا عادلا وحَكَما مُقْسِطًا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويرجع السلم، وتُتّخذ السيوف مَناجِلَ، وتذهب محمة كلّ ذي محمة، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها، حتى يلعب الصبي بالثعبان ولا يضره، ويراعي الغنم الذئب ولا يضرها، ويراعي الأسد البقر ولا يضرها». الحديث الثاني عشر

قال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي النقاش في جزء له في "فوائد العراقيين": أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي الهجيمي: حدثنا جعفر الصائغ: ثنا عفان بن مسلم: ثنا سليم بن حيان حدثنا سعيد بن ميناء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «طُوبَى لعيش بعد المسيح - يعني بعد نزوله-

١٤٦

كتاب الإيمان

يُؤْذَنُ للسماء في القَطر، ويُؤْذَنُ للأرض في النبات حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض. قال أبو إسحاق: سمعه من جعفر الصائغ أبو داود السجستاني وعبدالله بن أحمد بن حنبل وأنا معهما». اهـ

قلت: قوله: ثنا سليم بن حيان كذا قرأته في نسختنا من الجزء المذكور، ولم أدر من هو، لكني قرأت في "تاريخ الخطيب" في ترجمة جعفر الصائغ حديثا آخر بهذا الإسناد جاء فيه: ثنا إبراهيم بن علي الهجيمي: ثنا جعفر الصائغ ثنا سعيد بن سليمان: ثنا يحيى بن سليم الطائفي. قال الخطيب: «كذا في حديث الهجيمي، وفي حديث ابن خزيمة: محمد بن مسلم وهو الصواب» . اهـ فظهر لي من هذا أن الصواب في الإسناد الذي أوردته هو يحيى بن سليم، وأن الناسخ كتبه سليم بن حيان خطأ لقرب الاشتباه بينهما، ومثل هذا يقع من الناسخين لعدم علمهم بالأسانيد والرجال ورجال هذا الإسناد ثقات وبعضهم من رجال الشيخين والحديث رواه أبو نعيم أيضًا.

الحديث الثالث عشر

أخرج الطبراني في "الأوسط"، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَنزِلُ عيسى ابن مريمَ فيمكُثُ فِي النَّاسِ أربعين سَنةٌ». قال الحافظ الهيثمي : «رجاله ثقات».

وروى هشام بن عروة، عن صالح مولى أبي هريرة، عنه، عن النبي صلى الله

إقامة البرهان

١٤٧

عليه وآله وسلّم في حديث نزول عيسى عليه السلام قال: «فيمكث في الأرض

أربعين سنة». ذكره الحافظ ابن كثير في "تاريخه " .

الحديث الرابع عشر

أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق"، عن أبي هريرة يرويه قال: «لا تزال عصابةٌ مِن أمتي على الحقِّ ظاهرين على الناس لا يبالون من خالفهم حتى ينزل

عیسی ابن مریم .

قال الأوزاعي: فحدثت قتادة بهذا الحديث، فقال: «لا أعلم أولئك إلَّا

أهل الشام».

قلت: هذا رأي قتادة في المراد بالعصابة في الحديث، وهو أحد الأقوال في

المسألة.

والقول الثاني: أن المراد بهم العرب حكاه القاضي عياض في "الإكمال" ا

عن ابن المديني.

الثالث: أن المراد بهم أهل الحِدَّة والشَّوكة وهم أهل الجهاد، حكاه ابن الأثير في "النهاية".

الرابع : أن المراد بهم الغزاة المرابطون بثغور الشام. قاله التوربشتي. الخامس: أنهم الأمة كلها، وهو ما يستفاد من كلام جماعة من العلماء، قال البيضاوي: «والمراد أُمَّة الإجابة».

السادس: أن المراد بهم الصوفية، حكاه المناوي في "فيض القدير" وحكاه غيره أيضًا.

١٤٨

كتاب الإيمان

السابع: أنهم أهل السنة والجماعة. قاله القاضي عياض في "الإكمال". الثامن: أنهم أهل الحديث نقله الترمذي عن البخاري، عن ابن المديني. وهو قول أحمد والبخاري، أيضًا.

التاسع: أنهم المجتهدون في الأحكام الشرعية، بناء على وجوب الاجتهاد

في كل عصر، وعدم خُلو الأرض من مجتهد. وهو قول جماعة. العاشر: أن هذه العصابة عامة، مفرقة بين أنواع المؤمنين، فمنهم علماء محدثون، ومنهم فقهاء، ومنهم زهاد، ومنهم مجاهدون مقاتلون، ومنهم قائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من أنواع الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلدٍ واحدٍ أو قطر واحد وهذا قاله النووي في "شرح مسلم " احتمالاً.

هذه جملة الأقوال في الحديث ذكرناها استطرادًا تتميما للفائدة، ومن أراد الوقوف على دليل كل منها وتمحيصها وبيان المعتمد منها فليرجع إلى رسالة أخينا وأستاذنا الحافظ السيد أحمد في الكلام على هذا الحديث، واسمها: "الأجوبة الصارفة عن إشكال حديث الطائفة" وهي مفيدة.

الحديث الخامس عشر

قال مسلم في "صحيحه" حدثني زهير بن حرب: ثنا يعلى بن منصور: ثنا سليمان بن بلال : ثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق - أو بدابق - فيخرج إليهم جيش من المدينة مِن خِيَارِ أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافُوا قالت

إقامة البرهان

١٤٩

الروم: خوا بيننا وبين الذين سَبَوْا مِنَّا نُقاتلهم، فيقول المسلمون: لا، والله لا

ويُقتل الثلث

هم

نُخَلّي بينكم و بين إخواننا فيقاتلونهم فيُهزم ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبدا، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يُفتنون أبدًا فيفتحون قُسْطَنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إنَّ المسيحَ قد خَلَفَكُم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشَّام خرج، فبينما هم يُعِدُّون للقتال يُسَرُّون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم فيؤمهم(1) فإذا رآه عدو الله ذابَ كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتَّى يَهْلِكَ، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمَهُ في حَرْبَتِهِ».

الحديث السادس عشر

أخرج أبو داود الطيالسي في "مسنده" قال: حدثنا موسى بن مطير، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لم يُسلَّط على قتل الدجال إلا عيسى ابن مريم».

الحديث السابع عشر

أخرج البزار، عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يخرج الأَعْورُ الدَّجَّال مسیح الضَّلالة قبل المشرق في زمن اختلافِ مِن النَّاس وفُرْقةٍ، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يوما الله أعلم ما مقدارها، فيلقى المؤمنون شِدَّةً شديدة، ثم ينزل

(1) أي يقصدهم.

۱۵۰

قال: سمع

كتاب الإيمان

عيسى ابن مريم عليه السَّلام من السماء فيؤمُ الناس، فإذا رفع رأسه من ركعته : سمع الله لمن حمده قتل الله المسيح الدجال وظهر المسلمون». فأحلف أن رسول الله أبا القاسم الصَّادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنه لحق وأما أنه قريب فكل ما هو آت قريب».

قال الحافظ الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير علي بن المنذر، وهو ثقة». ورواه ابن حبان في "صحيحه"، من طريق آخر فقال: أخبرنا أبو يعلى: ثنا أبو خيثمة : ثنا يونس بن محمد ثنا صالح بن عمر: ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول : أحدثكم ما سمعت من رسول الله الصادق المصدوق: حدثنا رسول الله أبو القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الأعورَ الدَّجَّال . الضلالة يخرج من قبل المشرق في زمان اختلاف من الناس وفُرْقَةٍ، فيبلغ ما يشاء الله من الأرض في أربعين يوما الله أعلم ما مقدارها، ويُنزل الله عيسى ابن مريم فيؤمهم، فإذا رفع رأسه من

مسیح

الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قتل الله الدجال وأظهر المؤمنين». قال أبو حاتم: قوله في هذا الخبر «فيؤمهم أراد به فيأمرهم بالإمامة إذ

العرب تنسب الفعل إلى الآمر كما تنسبه إلى الفاعل كما ذكرنا في غير موضع من

كتبنا . اهـ قلت: تأول ابن حِبَّان هذا التأويل ليجمع هذا الحديث والأحاديث الأخرى التي تصرح بأن عيسى عليه السَّلام يأتم بإمام المسلمين عقب نزوله

من السماء، وهو تأويل حسن تؤيده قواعد اللغة العربية.

لكن بقي في الحديث ما يحتاج إلى جواب ولم يتعرض له ابن حبان، ذلك

إقامة البرهان

١٥١

أن هذا الحديث يفيد أن قتل الدجال يحدث وعيسى ابن مريم في صلاة، مع أن الأحاديث الأخرى التي ذكرت أن عيسى يقتل الدجال بباب لد أو قريب منه

لم تذكر أن ذلك يكون أثناء الصَّلاة، فكيف الجمع بين هذه وذاك؟ والجواب على ذلك سهل بتسهيل الله غير أنه يتوقف على مقدمة، وهي أن الذي دلت عليه الأحاديث أن عيسى عليه السلام يُصلّي أول صلاة بعد نزوله من السماء -وهي صلاة الصبح - مؤتماً بإمام المسلمين إظهارا لكرامة هذه الأمة وفضلها. ثم بعد ذلك يتقلد عيسى عليه السلام مقاليد الأمور، ويصير خليفة المسلمين يحكم فيهم بشريعة نبيهم سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وتجمع له الصلاة، أي يصير هو الإمام فيها مع قيامه بأعباء الإمامة العظمى، ومن هنا تعلم أن قوله في هذا الحديث: «فيؤمهم هو على ظاهره؛ لأن هذه الصَّلاة ليست صلاة الصبح التي يكون عيسى عليه السلام مؤتماً فيها، بل هي صلاة غيرها، فهو إمام فيها، ولا شك أن تما شرعه الله لهذه الأمة في جهادها مع ا العدوّ صلاة الخوف، وهي ث ثابتة بالكتاب والسنة، ولها سبع عشرة صفة ذكرها الحافظ العراقي في شرح الترمذي" لكن أصولها ست صفات كما قال ابن القيم في "الهدى"، واعتمده الحافظ في "الفتح".

إذا تقرر هذا فالحديث محمول على أن عيسى عليه السلام يؤم المسلمين في صلاة خوف، وهم يقاتلون الدَّجَّال ومن معه، فإذا رفع عيسى عليه السلام

رأسه من الركوع أمكنته الفرصة من العدو فيحمل على الدجال فيقتله. ومباشرة الأعمال الواجبة الضرورية لا تمنع منها الصَّلاة كما هو معروف،

١٥٢

كتاب الإيمان

وهذا معنى قوله: وينزل الله عيسى ابن مريم فيؤمهم، فإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، قتل الله المسيح الدجال - أي على يد عيسى عليه السلام وإسناد القتل إلى الله من باب قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى [الأنفال: ١٧] فبهذا التأويل يتضح المعنى ويكون الحديث متفقا مع غيره من الأحاديث متمشيا مع قواعد الشريعة الغراء.

الحديث الثامن عشر

إمامًا

أخرج أبو يعلى، عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى ابن مريم ! مُقْسِطًا وحَكَما عَدْلًا، فليكسرنَّ الصَّليب، وليقتلنَّ الخنزير، وليصلحن ذات البين، وليذهبن الشحناء، وليعرضن المال فلا يقبله أحد، ثم لئن قام على قبري فقال: يا محمد لأجبته». قال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح».اهـ

الحديث التاسع عشر

أخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتاب "الفتن"، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال ويَمْكُتُ أربعين عاما يعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسُنَّتي، ويموت ويستخلفون بأمر عيسى رجلا من تميم يقال له المقعد لم يأتِ على الناس ثلاث سنين حتى يرفع القرآن من صدور الرجال ومصاحفهم ».

إقامة البرهان

١٥٣

فصل

حديث حذيفة بن أسيد الحديث العشرون

رواه أحمد ومسلم، وأصحاب السنن، من طريق فرات القزاز، عن أبي الطفيل - وهو صحابي - عن حذيفة بن أسيد الغفاري ويكنى أبا سريحة - بفتح المهملة- قال: اطَّلع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: «ما تذاكرون؟ قالوا نذكر الساعة، فقال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات» فذكر: «الدُّخَان، والدَّجَّال ، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السَّلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خُسُوفٍ خَسْفُ بالمشرق، وخَسْفُ بالمغرب، وخَسْفُ بجزيرة العرب. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد النَّاسَ إلى تَخشَرِهم».

رواه مسلم أيضًا من طريق عبدالعزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل، عن أبي

سريحة حذيفة بن أسيد به موقوفا، وهو لا يضر كما لا يخفى.

ورواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق سفيان بن عيينة، عن فُرات القزاز: أنه سمع أبا الطفيل يحدّث عن أبي سَريحة حذيفة بن أسيد قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ونحن نتذاكر فقال: «ما كنتم تتذاكرون؟ قلنا كنا نتذاكر الساعة. فقال: «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدجال والدخان، وعيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، والدابَّة، وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خُسُوفٍ خَسْفُ بالمشرق، وخَسْفُ بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب. وآخر ذلك نار تخرج من قعر عَدَنٍ، أو عَدَنٍ أو اليمن، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلى المَحْشَرِ».

كتاب الإيمان

فصل

حديث النواس بن سَمْعَان الحديث الحادي والعشرون

رواه أحمد، ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من طريق عبدالرحمن بن يزيد بن جابر: حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص: حدثني عبدالرحمن بن جبير، عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي: أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي يقول: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الدَّجَّال ذات غداة فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: «ما شأنكم؟» قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدَّجَّال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: «غير الدَّجَّال أخو فني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حَجِيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قَطَطٌ عينه طافئة، كأني أُشبهه بعبدالعزى بن قَطَنٍ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) إنه خارج خَلَّةً بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا».

قلنا يا رسول الله : وما لَبْتُهُ في الأرض؟ قال: «أربعون يوما، يوم كسَنَةٍ ويوم كشهر ويوم كجُمُعةٍ، وسائر أيامه كأيامكم». قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كَسَنَةٍ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: «لا، اقدروا له قدره». قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال : كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتُنبِتُ، فتروح عليهم سَارِحَتُهم أطول ما كانت ذُرًا، وأَسْبَعَه ضُروعًا وأَمَدَّه خواصر، ثم يأتي

إقامة البرهان

قد

١٥٥

القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيُصبحون تمحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويَمَرُّ بالخَرِبة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النَّحْل ، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جَزْلتين رَمْيَة الغَرَضْ ، ثُمَّ يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مَهْرُودَتين واضعًا كفَّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قَطَرَ، وإذا رفعه تحدر منه مُجمَانٌ كاللؤلؤ، فلا يَحِلُّ لكافر يجد ريح نَفْسِهِ إِلَّا مات، ونَفَسُهُ ينتهي حيث ينتهي طَرْفُه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثُمَّ يأتي عيسى ابن مريم قوم عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذا أوحى الله إلي عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يَدَانِ لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطُّور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلُّ حَدَبٍ ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طَبَرِيَّة فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، ويُحصَر نبي الله عيسى وأصحابه حتي يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم، فيصبحون فَرْسَى كموت نَفْسٍ واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زَهَمُهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرًا كأعناق البُخْتِ فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا لا يَكُنُّ منه بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمراتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة،

١٥٦

كتاب الإيمان

ويستظلون بقِحْفِها، ويبارك في الرِّسل حتى أنَّ اللقْحَة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللَّقْحَة مِن البَقَر لتكفي القبيلة من الناس، واللقْحَة مِن الغَنَم لتكفي الفَخْذَ مِن الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبةً فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يَتَهارَجُون فيها تَهارُجَ الحمر فعليهم تقوم الساعة.

فصل

حديث عبدالله بن عمرو

الحديث الثاني والعشرون

رواه مسلم في "صحيحه" من طريق معاذ العنبري، عن شعبة، عن النعمان بن سالم قال: سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول: سمعت عبدالله بن عمرو، وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به تقول : إنَّ الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟! فقال: سبحان الله -أو لا إله إلا الله، أو كلمة نحوهما - لقد هممت أن لا أُحدث أحدًا شيئًا أبدًا، إنما قلت: إنكم بعد قليل سترون أمرًا عظيمًا، يحرق البيت، ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يخرج الدجال في أمتي فيَمْكُثُ أربعين - لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرًا أو أربعين عاما- فيبعث الله عيسى ابن كأنه عُروة بن مسعود فيطلبه فيُهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين

مریم

سنين (۱)

(۱) اعتمد بعضهم ظاهر هذه الرواية فقال: إنَّ عيسى يمكث بعد نزوله سبع سنين ولكن الصحيح أنه يقعد أربعين سنة كما في أحاديث أخرى صحيحة، أما هذا الحديث

إقامة البرهان

١٥٧

ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحدٌ في قلبه مثقال ذرَّةٍ من خير أو إيمان إلَّا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه». قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «فیبقی شرار النَّاسِ في خِفَّة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دَار رزقهم، حَسَنٌ عَيْشُهِم، ثُمَّ يُنفخ في الصور فلا يسمعه أحدٌ إلَّا أصغى ليتا ورفع ليتا»، قال: «وأول من يسمعه رجلٌ يَلُوط حوض إبله»، قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله»، أو قال: «يُنزل الله مطرًا كأنه الطلُّ أو الظل - نعمان الشَّاكٌ - فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه

أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال : يا أيها الناس هلم إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، قال: ثم يقال : أخرجوا بَعْثَ النَّارِ، فيقال: مِن كم؟ فيقال: مِن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين»، قال: فذاك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يُكشَفُ عن ساقٍ». ورواه مسلم، والنسائي في "تفسيره"، عن : محمد بَشَّارٍ، عن غُنْدَرٍ، عن شعبة، عن النعمان بن سالم به.

بن

ورواه الحاكم من طريق محمد بن جعفر هو غُنْدَرٌ : ثنا شعبة، عن

النعمان بن سالم به نحوه. وقال: «صحيح على شرط الشيخين».

فيشير إلى أن السنين السبع الأولى عقب نزوله تكون أحسن مما بعدها – وإن كانت كل أيامه حسنة - بدليل قوله ليس بين اثنين عداوة، وليس قوله: «ثُمَّ يُرسل الله ريحا... إلخ. بمناف لما قلنا لأن «ثُمَّ» للترتيب مع التراخي.

١٥٨

كتاب الإيمان

الحديث الثالث والعشرون

أخرج الحاكم، وابن عساكر، عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها؟!».

فصل

حديث جابر بن عبدالله

الحديث الرابع والعشرون

قال مسلم في "صحيحه" : حدثنا الوليد بن شجاع وهارون بن عبدالله، وحجاج بن الشاعر :قالوا: ثنا حجاج -وهو ابن محمد عن ابن جريج قال:

-

أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت | جابر بن عبدالله يقول: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة»، قال: «فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول أميرهم: تعال صلّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه

الأمة».

ورواه ابن حبان في صحيحه " قال: أخبرنا محمد بن المنذر بن سعيد: ثنا يوسف بن سعيد بن مسلم: ثنا حجاج عن ابن جريج به.

الحديث الخامس والعشرون

وأخرج أبو يعلى، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لا تزال أمتي ظاهرين على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم، فيقول إمامهم: تقدم. فيقول : أنت أحق بعضكم أمراء على بعض، أمر أكرم به هذه الأمة».

إقامة البرهان

۱۵۹

الحديث السادس والعشرون

وأخرج أبو نعيم في "أخبار "المهدي" عن جابر أيضًا مرفوعا: «ينزل عيسى

ابن مريم فيقول أميرهم المهدي: تعال صلّ بنا. فيقول: ألا وإنَّ بعضكم على

بعض أمراء، تكرمة الله لهذه الأمة».

الحديث السابع والعشرون

وأخرج أبو عمرو الداني في "سننه" عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تزال طائفةٌ مِن أمتي تُقاتل على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم عند طلوع الفجر ببيت المقدس ينزل على المهدي فيقال: تقدم يا نبي الله فصل بنا. فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض».

الحديث الثامن والعشرون

وأخرج أحمد بإسنادين عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يخرج الدَّجَّال في خَفْقَةٍ من الدِّين وإدبار مِن العِلم، وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض، اليوم منها كالسَّنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثُمَّ سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه ......

وذكر الحديث في صفة الدَّجّال إلى أن قال: «فيفر الناسُ إلى جبل الدخان بالشام فيحاصرهم فيشتد حصارهم ويُجهِدُهم جَهْدًا شديدًا، ثُمَّ ينزل عيسى عليه السلام فينادي من السَّحَر ، فيقول : يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى هذا الكذاب الخبيث فيقولون: هذا رجلٌ جِنّي، فينطلقون فإذا هم بعيسى عليه السلام فتقام الصَّلاة فيقال له: تقدَّم يا روح الله. فيقول: ليتقدم إمامكم

17.

كتاب الإيمان

فيصلي بكم. فإذا صلى صلاة الصبح خرج إليه». قال: «فحين يراه الكذاب ينمات كما يَنْماتُ الملح في الماء، فيمشي إليه فيقتله حتى أَنَّ الشَّجَرَ والحَجَرَ

يُنادي: هذا يهودي. فلا يترك ممن كان يتبعه أحدٌ إِلَّا قتله».

قال

الحافظ الهيثمي : رجال أحد الإسنادين رجال الصحيح». قلت:

وصححه ابن خزيمة أيضًا.

الحديث التاسع والعشرون

وأخرج الإمام أحمد أيضًا، عن جابر قال: إنَّ امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلاما تمشوحة عينه طالعة ناتِنَةٌ ، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون هو الدَّجَّال ... وذكر حديث ابن صائد وتردد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في شأنه، وفي آخره: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذن لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد».

قال الحافظ الهيثمي : رجال إسناده رجال الصحيح.

قلت: هذا الحديث ونحوه محمول على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تردد في ابن صائد قبل أن يعلمه الله أنَّ الدَّجَّال لا يدخل المدينة ولا مكة كما ا جاء في أحاديث كثيرة، ولا شك أنَّ ابن صائد ولد بالمدينة وأسلم وذهب إلى مكة حاجا، صحبة أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة، وهذه أوصاف لا توجد في الدجال قطعا.

إقامة البرهان

١٦١

فصل

حديث مجمع بن جارية الحديث الثلاثون

أخرجه الإمام أحمد قال: أخبرنا عبدالرزاق: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن الزهري، عن عبدالله بن عبد الله بن ثعلبة الأنصاري، عن عبد الله بن يزيد، عن مجمع بن جارية قال: سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد أو إلى جانب لد». ورواه أحمد أيضًا عن سفيان، ومن حديث الليث، والأوزاعي، ثلاثتهم عن الزهري، عن عبدالله بن عبدالله بن ثعلبة عن عبدالرحمن بن يزيد، عن مجمع بن جارية، عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد».

ورواه الترمذي، عن قتيبة عن الليث، عن الزهري به، وقال: «هذا حديث صحيح». قال: وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة، وأبي برزة، وحذيفة بن أسيد، وأبي هريرة ، وكَيْسان، وعثمان بن أبي العاص، وجابر، وأبي أمامة، وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسَمُرَة بن جندب، والنواس بن

سمعان، وعمرو بن عوف، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم» . اهـ كلامه. قال الحافظ ابن كثير: ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال وقتل عيسى ابن مريم عليه السَّلام له، فأمَّا أحاديث ذكر الدجال فقط فكثيرة جدا أكثر من أن تُحصى؛ لانتشارها وكثرة رواتها في الصحاح والحسان

وهي

والمسانيد وغير ذلك . اهـ

١٦٢

كتاب الإيمان

فصل حديث أبي أمامة

الحديث الحادي والثلاثون

أخرجه ابن ماجه في "سننه" قال: حدثنا علي بن محمد ثنا عبدالرحمن المحاربي، عن إسماعيل بن رافع أبي رافع عن أبي زرعة السَّيِّبَاني يحيى بن أبي عمرو، عن أبي أمامة قال: خَطَبَنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أكثر خُطبته حديثا حدَّثَناه عن الدَّجّال وحذَرَناه، فكان من قوله أن قال: «إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال، وإِنَّ الله لم يبعث نبيًّا إِلَّا حَذَر أُمَّتَه الدَّجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأُمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حَجِيجُ لكل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكلّ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وإنَّ الله خليفتي على كلّ مسلم، إنه يخرج مِن خَلَّةٍ بين الشام والعراق، فيَعِيثُ يمينا ويعِيثُ شمالا، ألا يا عباد الله أيها الناس فاثبتوا، وإني سأصفه لكم صفةٌ لم يصفها إيَّاه نبي قبلي، إنه يبدأ فيقول: «أنا نبي»، فلا نبي بعدي، ثم يُثنّي فيقول: «أنا ربكم»، ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أَعْوَرُ وإِنَّ رَبَّكم عزَّ وجلَّ ليس بأَعْوَرَ، وإنه مكتوبٌ بين عينيه: «كافر» يقرأه كلُّ مؤمن كاتب أو غير كاتب، وإنَّ من فتنته أنَّ معه جنة ونارا، فناره جنَّةٌ وجنته نار».

وذكر حديثاً طويلًا في أحوال الدَّجَّال وأعماله جاء فيه: فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟! قال: «هم قليل، وجُلُّهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجلٌ صالح بينها إمامهم قد تقدَّم يُصلّي بهم الصبح إذ

إقامة البرهان

١٦٣

نزل عليهم عيسى ابن مريم عليه السَّلام فرجع ذلك الإمام يمشي القَهْقَرَى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول: «تقدم فَصَلَّ فإنها لك أُقيمت»، فيصلي بهم إمامهم فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب فيفتح الباب - ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيفٍ مُحلَّى وساح - فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هاربًا، فيقول عيسى: «إنَّ لي فيك ضربةً لن تسبقني بها»، فيدركه عند باب الله الشرقي فيقتله، و يهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إلَّا أنطق الله ذلك الشيء لا حَجَر ولا شَجَر ولا حائط ولا دابَّة - إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال: «يا عبدالله المسلم، هذا يهودي

فتعال اقتله».

-

وذكر بقية الحديث فيما يحصل في زمن عيسى عليه السلام من انتشار الأمن والسلم وظهور البركة في الأقوات والأرزاق على نحو ما جاء في الأحاديث

الأخرى. قال ابن ماجه بعد روايته: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: سمعت عبدالرحمن المحاربي يقول : ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يُعلَّمه الصبيان في الكتاب».

ورواه أبو داود في «الملاحم) من "سننه"، عن عيسى بن محمد، عن

ضمرة، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن عمرو بن عبدالله الحضرمي أبي عبد الجبار الشامي عن أبي أمامة به نحوه.

١٦٤

كتاب الإيمان

فصل

حديث عثمان بن أبي العاص الحديث الثاني والثلاثون

عليهم

أخرجه الإمام أحمد، والطبراني من طريق علي بن زيد، عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جُمعة لنعرض عليه مصحفاً لنا على مصحفه فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا، ثُمَّ أتينا بطيب فتطيبنا، ثُمَّ جئنا المسجد فجلسنا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يكون للمسلمين ثلاثة أمصار ، مضر بملتقى البحرين، ومضر بالحيرة، ومضر بالشام فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم من قبل المشرق فأول مِصْرِ يَرِدُ المِصْرَ الذي بملتقى البحرين فيصير أهله ثلاث فِرَقٍ فرقة تبقى تقول: نشامه وننظر ما هو وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم، ومع الدجال ألفا سبعون السيجان وأكثر تبعه اليهود والنساء، ثم يأتي المصر الذي يليهم، فيصير أهله ثلاث فرق، فرقة تقول: نُشَامه وننظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغربي الشام وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق فيبعثون سَرْحًا لهم فيُصاب سَرحُهُم، فيشتد ذلك عليهم وتُصيبهم مجاعة شديدةٌ وجَهْدٌ شديدٌ . أحدهم ليحرق وتر قوسه ،فيأكله، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السَّحَر : «يا أيها الناس، أتاكم الغوثُ - ثلاثًا - فيقول بعضهم لبعض: «إنَّ هذا لصوت رجل شبعان»، وينزل عيسى ابن مريم عليه السَّلام عند صلاة الفجر فيقول له أميرهم: «يا رُوح الله، تقدَّم فصل»، فيقول: «هذه الأمة أمراء بعضهم على

حتى

أنَّ

إقامة البرهان

170

بعض فيتقدَّم أميرهم فيصلي، فإذا صلّى به، أخذ عيسى عليه السَّلام حَرْبته فيذهب نحو الدجال، فإذا رآه الدَّجَّال ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حربته بين ثَنْدوَتِهِ فيقتله، وينهزم أصحابه فليس شيء يومئذٍ يُواري منهم أحدًا حتى أنَّ الشجرة لتقول: يا مؤمن هذا كافر».

قال الحافظ الهيثمي : علي بن زيد فيه ضعف وقد وثق، وبقية رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح . اهـ

ورواه الحاكم، من طريق سعيد بن هبيرة، عن حماد بن زيد، عن أيوب

السختياني وعلي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة به. وأعله الذهبي بأن ابن هبيرة رواه، ثم رواه الحاكم من طريق عفان بن مسلم، حماد بن زيد، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نَضْرَة به. فقال الذهبي: «هذا هو المحفوظ» . اهـ قلت: يعني الذهبي أنَّ المحفوظ رواية من روى الحديث من طريق علي بن زيد وحده ليس معه أيوب السختياني، فالحديث حسن.

فصل

حديث واثلة بن الأسقع

الحديث الثالث والثلاثون

أخرجه الحاكم قال: أخبرني أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري: حدثنا أبو عبدالله محمد بن إبراهيم العبدي: ثنا عمران بن أبي عمران الصوفي: ثنا صدقة بن المنتصر: ثنا يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن عمرو بن عبدالله الحضرمي: حدثني واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: خَسْفُ بالمشرق،

١٦٦

كتاب الإيمان

وخَسْفُ بالمغرب، وخَسْفُ في جزيرة العرب، والدَّجال، والدُّخَان، ونزول عیسی ابن مريم، ويَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ والدَّابَّة، وطلوع الشمس من مغربها، ونار

تخرج مِن قَعْرِ عَدَنٍ تسوق الناس إلى المَحْشر تحشر الناس تَسُوق الذرَّ والنَّمْل». قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد». وأقره الذهبي، وعزاه الحافظ

الهيثمي إلى الطبراني، وقال: في سنده عمران بن هارون وهو ضعيف . اهـ قلت: عمران بن هارون هو عمران بن أبي عمران الصوفي المقدسي الرملي يكنى أبا موسى، قال أبو زرعة: «صدوق»، وقال ابن يونس في "تاريخ الغرباء الذين دخلوا مصر " بعد إذ ذكر روايته عن الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم:

«في حديثه لين» . اهـ وذكره ابن حِبَّان في "الثقات" وقال: «يخطئ ويخالف» . اهـ وحديث حذيفة ابن أسيد في صحيح مسلم" يشهد لهذا الحديث في اللفظ والمعنى كما يعلم من الموازنة بينهما، ولذا أقر الذهبي الحاكم على تصحيحه، وليس عمران ضعيفًا كما أطلق الحافظ الهيثمي، بل هو صدوق فيه لين أي ضعف خفيف، إذ اللين في الاصطلاح معناه ذلك، وهذا هو شرط الحسن، والله أعلم.

فصل

حديث عبدالله بن مسعود

الحديث الرابع والثلاثون

أخرجه الإمام أحمد قال: حدثنا هُشَيمٌ، عن العوام بن حَوْشَبٍ، عن جَبَلَة بن سُحَيم، عن مؤثر بن عَفَازة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لقيتُ ليلة أُسري بي، إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا أمر السَّاعة فردُّوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: لا عِلْمَ لي

إقامة البرهان

١٦٧

بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا عِلْمَ لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أَمَا وَجْبَتُها فلا يعلم بها أحدٌ إِلَّا الله، وفيما عَهِدَ إِليَّ رَبِّ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الدَّجَّال خارج، ومعي قضيبان فإذا رآني ذابَ كما يذوبُ الرَّصَاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إنَّ الحَجَر والشَّجَر يقول: يا مسلم، إنَّ تحتي كافرًا فتعال فاقتله. قال: فيهلكهم الله، ثُمَّ يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وهم مِن كلّ حَدَبٍ يَنْسِلُون، فيطئون بلادهم فلا يأتون على إلا أهلكوه، ولا يمرُّون على ماءٍ إلا شربوه. قال: ثُمَّ يرجع الناس يشكونهم فأدعوا الله فيهلِكُهم ويُميتهم، حتى تجوى الأرض مِن نَتْنِ رِيحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عَهِدَ إلى ربِّي عز وجل أنَّ ذلك إذا كان كذلك أنَّ الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلًا أو نهارًا».

شيء

ورواه بن ماجه، عن محمد بن بشار، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن

حوشب به.

ورواه الحاكم، من طريق يزيد بن هارون أيضًا، عن العَوَّام بن حَوْشَبٍ: حدثني جَبَلَة بن سُحَيمٍ عن مُؤْثِر بن عَفَازة، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم به نحوه إلَّا أنه قال: «إنَّ الدَّجَّال خارج، فأهبط فأقتله...»

وذكر الحديث.

وهذه الرواية تُفسّر رواية أحمد التي فيها: «فيهلكه الله إذا رآني». والمعنى: أنَّ الله يهلك الدَّجَّال بيد عيسى عليه السَّلام، وهذا نحو قوله تعالى: قتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [التوبة: ١٤] غاية ما في هذا الأمر أنَّ

١٦٨

كتاب الإيمان

رواية أحمد عبرت بالحقيقة؛ لأن الذي يخلق الهلاك هو الله سبحانه وتعالى، ورواية الحاكم أسندت الأمر إلى سببه العادي؛ لأن الذي يُباشر قتل الدجال ويكون سببًا في هلاكه هو عيسى عليه السَّلام فلا تعارض بين الروايتين كما هو واضح، ثُمَّ إنَّ الحديث صححه الحاكم، وأقره الذهبي.

(تنبيه): في هذا الحديث من اللطائف رواية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عيسى عليه السَّلام، وتُسمى هذه الرواية ومثلها برواية الأكابر عن الأصاغر، وهي فن لطيف من فنون علم الحديث أفرد بالتأليف.

.

فصل

حديث حذيفة بن اليمان

الحديث الخامس والثلاثون

أخرجه الحاكم قال: حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه: ثنا محمد بن شاذان الجوهري : ثنا سعيد بن سليمان الواسطي: ثنا خَلَفُ بن خليفة الأشجعي: ثنا أبو مالك الأَشْجَعي، عن أبي حازم الأَشْجَعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أنا أعلم بما مع الدَّجَّال منه، معه تهران أحدهما نارٌ تَأَجَجُ في عين ا من رآه، والآخر ماءً أبيض، فإن أدركه منكم أحد فليغمض عينه، وليشرب من الذي يراه نارًا فإنه ماء بارد، وإياكم والآخر فإنه الفتنة، واعلموا أنه مكتوب بين عينيه: «كافر» يقرأه من يكتب ومَن لا يكتب، وإنَّ إحدى عينيه ممسوحة، عليها ظفرة. إنه يطلع من آخر أمره على بطن الأردن على ثنية أفيق، وكل واحد يؤمن بالله واليوم الآخر ببطن الأردن، وإنه يقتل من المسلمين ثلثا ) و يهزم ثلثا

إقامة البرهان

١٦٩

ويبقى ثلثا، ويَحِنُّ عليهم الليل فيقول بعض المؤمنين لبعض: «ما تنتظرون أن تلحقوا بإخوانكم في مرضاة ربَّكم، من كان عنده فضل طعام فليعد به علی أخيه، وصَلُّوا حين يَنْفِجَر الفَجْر ، وعجّلوا الصَّلاة، ثُمَّ أقبلوا على عدوكم». فلما قاموا يصلُّون نزل عيسى ابن مريم صلوات الله عليه أمامهم فصلى بهم، فلما انصرف قال: هكذا أفرجوا بيني وبين عدو الله».

قال أبو حازم قال أبو هريرة فيذوب كما تذوب الإهالة في الشمس». وقال عبدالله بن عمرو: «كما يذوب الملح في الماء».

وسلَّط الله عليهم المسلمين فيقتلونهم حتى أَنَّ الشَّجَر والحجر لينادي: «يا عبدالله یا عبدالرحمن، یا مسلم هذا يهودي فاقتله». فيفنيهم الله ويظهر المسلمون فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير، ويضعون الجزية، فبينما هم

كذلك أخرج الله يَأْجُوجَ ومَأْجُوج فيشرب أحدهم البحيرة -أي بحيرة طبرية كما في أحاديث أخرى ويجيء آخرهم وقد استقوه فما يدعون فيه قطرة فيقولون: «ظهرنا على أعدائنا قد كان ههنا أثر ماء». فيجيء نبي الله وأصحابه وراءه حتى يدخلوا مدينة من مدائن فلسطين يقال لها «لد» فيقولون: ظهرنا على من في الأرض فتعالوا نقاتل من في السماء»، فيدعو الله نبيه عند ذلك - أي عند قولهم هذا وتنفيذهم له بأن يوجهوا سهامهم إلى جهة السماء كما جاء في أحاديث أخرى فيبعث الله عليهم قُرْحَةٌ فِي حُلُوقهم فلا يبقى منهم

بشر، فتؤذي ريحهم المسلمين، فيدعو عيسى صلوات الله عليه، فيرسل الله عليهم ريحا - أي ومطرًا وطيرًا كما في أحاديث أخرى فتقذفهم في البحر

أجمعين». قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، وسلمه الذهبي.

۱۷۰

كتاب الإيمان

قلت: قوله انزل عیسی ابن مریم فصلی بهم» الباء هنا بمعنى: «مع» أي فصلى معهم، ومجئ الباء بمعنى «مع» كثيرة، نحو: اهْبِطُ بِسَلَهِ مِنًا ﴾ [هود: ٤٨] أي مع سلام، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ [طه: ۱۳۰] أي مع حمده، والمسألة مبسوطة في كتب النحو، وإنما أوّلناه ليتفق هذا الحديث مع الأحاديث الأخرى المصرحة بأنَّ عيسى يصلي خلف إمام المسلمين صلاة الصبح عقب نزوله، والقاعدة الأصولية: «أن الظاهر المحتمل كالباء في «بهم» هنا - يؤول لموافقة النص الصريح»، وقوله في يأجوج ومأجوج: «فيبعث الله عليهم قُرْحَةٌ فِي حُلُوقهم» يخالف حديث مسلم الذي يقول: «فيرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم»، وهو الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم، ويجمع بين الحديثين بأنَّ الله يُسلّط عليهم الدود في أعناقهم ورقابهم وهو يُحدث فيهم القرحة المذكورة.

الحديث السادس والثلاثون

أخرج نعيم بن - ، حماد، عن حذيفة قال: قلت يا رسول الله، الدجال قبل أو عيسى ابن مريم؟ قال: «الدَّجَّال ثُمَّ عيسى ابن مريم، ثُمَّ لو أنَّ رجلًا نتج فرسا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة».

الحديث السابع والثلاثون

أخرج أبو عمرو الداني في "سننه" عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يلتفتُ المهدي وقد نزل عيسى ابن مريم كأنها يَقْطُر الماء مِن شعره، فيقول المهدي: تقدَّم صلّ بالناس». فيقول عيسى: «إنما أقيمت الصلاة لك». فيصلّي خَلْفَ رجلٍ من وَلَدي...». الحديث.

إقامة البرهان

۱۷۱

الحديث الثامن والثلاثون

أخرج نعيم بن حماد في كتاب "الفتن" عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يخرج الدَّجّال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس معه جنة ونار، ورجال يقتلهم ثُمَّ يُحييهم، ومعه جبلٌ مِن ثَريد ونهر من ماء، وإني سأنعت لكم نَعْته، إنه يخرج تمسوح العين، في جبهته مكتوب: «كافر» يقرأه مَن كان يحسن الكتاب ومَن لا يحسن، فجنَّته نار وناره ، وهو المسيح الكذَّاب، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر ألف امرأة، فرحم الله رجلًا منع سفيهته أن يتبعه، والقوة عليه يومئذ بالقرآن فإنَّ شأنه بلاء شديد، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها فيقولون له: «استعن بنا على ما شئت.

جنة

فيقول: «نعم، انطلقوا فأخبروا الناس أني ربهم، وأني قد جئتهم بجنتي وناري، فينطلق الشياطين فيدخل على الرجل أكثر من مائة شيطان فيتمثلون له بصورة والده، وولده، وإخوته، ورفيقه، ومَوَاليه، فيقولون: «أتعرفنا؟» فيقول الرجل: «نعم» هذا ، أبي، وهذه أمي، وهذه أختي، وهذا أخي. فيقول الرجل: «ما نبأكم؟!» فيقولون: بل أنت فأخبرنا ما نبأك؟» فيقول الرجل: «إنا قد أخبرنا أنَّ عدو الله الدَّجَّال قد خرج فيقول له الشياطين: «مَهْلًا لا تقل هذا فإنه ربكم يريد القضاء فيكم هذه جنةٌ قد جاء بها ونار، ومعه الأنهار والطعام، فلا طعام إلا ما كان قبله إلَّا ما شاء الله». فيقول الرجل: «كذبتم، ما أنتم إلا شياطين، وهو الكذاب، وقد بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قد

۱۷۲

كتاب الإيمان

حدث حديثكم، وحذرنا وأبناءنا منه، فلا مرحبا بكم، أنتم الشياطين وهو عدو الله، وليسوقن الله عيسى ابن مريم حتى يقتله، فيخسئوا فينقلبوا خائبين». ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنما أحدثكم هذا لتَعْقِلوه وتَفْقَهوه، وتَفْهَموه ، وتَعُوه فاعملوا عليه ، وحدثوا به مَن خَلْفَكم، وليحدث الآخر الآخر فإنَّ فِتنته أشدُّ الفتن».

وقوله: ومعه رجال يقتلهم ثم يحييهم. هذا بظاهره يعارض ما جاء في الأحاديث الصحيحة، إنَّ الدجال يسلّط على رجل واحد يقتله ثم يحييه، ثم لا

يسلط على أحد غيره.

والجواب على ذلك سهل، وهو أن يقال : هؤلاء الرجال المذكورون في هذا الحديث هم أتباع الدَّجَّال الذين يقتلهم ويجيبهم في ظاهر الأمر كما يفعل الممخرقون أصحاب الجيل المعروفون في مصر بالحواة، فقد يأتي الواحد منهم بالخروف مثلا فيشقه نصفين فيما يبدو للعين ثُمَّ يرجع كما كان، ولهم في هذا الباب حِيل وأعاجيب كلها محاريق وأكاذيب.

وهذا بخلاف الرجل الذي يسلط عليه الدَّجَّال، فإنه رجل مؤمن يعارض الدجال ويُكذِّبه فيقتله الدَّجَّال ثُمَّ يُحييه على نحو ما يفعل بأصحابه الذين هم

معه، ثم لا يسلط على أحدٍ غيره من المؤمنين حِفْظًا مِن الله لهم وتثبيتا لإيمانهم. يؤيد ما ذكرناه ما رواه الطبراني، عن عبد الله بن معتم، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في حديث الدَّجّال قال: «ثُمَّ يدعو - أي الدجال - برجل فيما يرون فيؤمر به فيقتل، ثم يقطع أعضاءه كل عضو على حِدَةٍ، فيفرق بينها حتى يراه

إقامة البرهان

۱۷۳

الناس، ثُمَّ يجمع بينها ، ثُمَّ يضرب بعصاه فإذا هو قائم فيقول: «أنا الله أُحبي وأميت». وذلك كلُّه سِحْرٌ يَسْحَر به أعين الناس ليس يعمل من ذلك شيئًا».

فبهذا الجواب ظهر أن لا تعارض ولا تناقض فالحمد لله على ما ألهم وعلم.

الحديث التاسع والثلاثون

أخرج ابن أبي شيبة، وابن عساكر، عن حذيفة قال: إنَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كانوا يسألون عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه، وإني بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قلت: يا رسول الله أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله هل بعده مِن شَرِّ كما كان قبله شر ؟ قال: «نعم». قلت : فما العصمة منه؟ قال: «السَّيف». قلت: وهل للسيف من بقية؟ قال: «هُدْنَةٌ على دَخَنِ». قلت: يا رسول الله، ما بعد الهدنة؟ قال: دعاة للضَّلالة فإن لقيت الله يومئذٍ خليفةً في الأرض فالزمه وإن أخذ مالك وضرب ظهرك وإلا وفي لفظ فإن لم يكن خليفة فاهر بن في الأرض حد هربك أي منتهى هربك حتى يدركك الموت وأنت عاض على أصل شجرة». قلت: يا رسول الله، فما بعد دعاة الضلالة؟ قال: خروج) | الدجال» قلت: يا رسول الله، وما يجيء به الدَّجال ؟ قال : «يجيء بنارٍ ونهر، فمن وقع في ناره وجَبَ أجرُه وحُطَّ وِزْرُه» قلت يا رسول الله، فما بعد الدجال؟ قال:

«عیسی ابن مریم قلت فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أنَّ رجلًا نتج

فرسا لم يركب مُهْرَها حتى تقوم الساعة».

١٧٤

كتاب الإيمان

فصل: حديث عبدالله بن مُغَفِّلِ الحديث الأربعون

أخرجه الطبراني في معجميه "الكبير" و"الأوسط" عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنةً أعظم من فتنة الدَّجَّال، وقد قلت فيه قولا لم يقله أحد قبلي: إنه آدم جَعْدٌ تمسوحُ عين اليسار، على عينه ظَفَرةٌ غليظة، وإنه يبرئ الأَكْمَه والأبرص، ويقول: «أنا ربكم فمن قال ربي الله» فلا فتنة عليه – أي في دينه لا في دنياه ومن قال : أنت ربي فقد افتتن - أي كفر - يلبث فيكم ما شاء الله، ثُمَّ ينزل عيسى ابن مريم . مُصدِّقًا بمحمَّدٍ على مِلَّته إمامًا مهديًا، وحَكَما عَدْلًا فيقتل الدجال». فكان الحسن - يعني البصري- يقول: «ونرى أن ذلك عند الساعة». قال الحافظ الهيثمي: «رجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف لا يضر». اهـ قلت: ولذا قال الحافظ السيوطي في "الإعلام بحكم عيسى عليه السلام"

- وقد عزا الحديث إلى الطبراني، والبيهقي في "البعث " - إن سنده جيد. فصل: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الحديث الحادي والأربعون

أخرجه الإمام أحمد عنها، قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي فقال: «مايبكيك؟». قلت: يا رسول الله، ذكرتُ الدَّجال فبكيت». فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إن يخرج وأنا فيكم كَفَيْتُكُمُوه، وإن يخرج بعدي فإن ربَّكم عزَّ وجلَّ ليس بأعْوَرَ، إنه يخرج مِن

يهودية أصبهان - اسم مكان نسب إليه بعض العلماء كما في كتب الكنى

إقامة البرهان

۱۷۵

والأنساب - حتى يأتى المدينة فينزل ناحيتها، ولها يومئذٍ سبعة أبواب، على كلّ نَقْبٍ منها ملكان فيخرج إليه شرار أهلها حتى يأتي الشام مدينة فلسطين بباب لد قال أبو داود مرة حتى يأتي مدينة فلسطين باب لد» فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله، ويمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عَدْلًا، وحَكَما مُقْسِطًا . قال الحافظ الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير الحضرمي بن لاحق، وهو ثقة».

قلت: ورواه ابن حِبَّان في "صحيحه" قال: أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع السختياني: ثنا عثمان بن أبي شيبة: ثنا الحسن بن موسى الأشيب: ثنا شيبان بن عبدالرحمن، عن يحيى بن أبي كثير ، عن الحضرمي بن لاحق، عن أبي صالح، عن عائشة.

فصل: حديث سَمُرَةَ بن جندب

الحديث الثاني والأربعون

أخرجه الإمام أحمد، والطبراني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الدَّجَّال خارج، وهو أعور عين الشمال عليها ظَفَرةٌ غليظة، وإنه يُبْرئُ الأَكْمَة والأَبْرَصَ، ويُحيي الموتى – أي على الطريقة التي بيناها في الكلام على حديث حذيفة - ويقول للناس: «أنا ربكم». فمن قال: «أنت ربي» فقد فتن، ومن قال: «ربي الله حتى يموت على ذلك فقد عُصم من فتنة الدجال ولا فتنة عليه، فيلبث في الأرض ما شاء الله - أربعين يوما على ما صرح به في الأحاديث الأخرى - ثُمَّ يخرج عيسى ابن مريم قبل المغرب - أي جهة المغرب، وهي الشام - مصدقًا بمحمَّدٍ فيقتل الدَّجَّال ، وإنما هو قيام الساعة». كناية عن

١٧٦

كتاب الإيمان

شدة قرب وقوعها يومئذ.

قال الحافظ الهيثمي: رجال الحديث رجال الصحيح»، قال: ورواه

البزار بإسناد آخر ضعيف.

الحديث الثالث والأربعون

أخرج أحمد، والبزار ، وابن جرير، والطبراني، والطحاوي، وسعيد بن منصور، والبيهقي، عن سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ في حديث الكسوف قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فحمد الله وأثنى عليه، وشهد أنه عبدالله ورسوله، ثُمَّ قال: «أيها الناس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرتُ عن

شيء من تبليغ رسالات ربي لما أخبر تموني ذلك». قال: فقام رجال فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربِّك، ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك». ثُمَّ قال: «أما بعد، فإنَّ رجالا يزعمون أنَّ كُسُوفَ هذه الشمس وكشوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وإنهم قد كذبوا ، ولكنها آيات من آيات الله يختبر بها عباده فينظر مَن يُحدِثُ له منهم توبةً، وأيم الله لقد رأيت منذ قمتُ أصلي ما أنتم لاقوه في أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذَّابًا آخرهم الأعور الدجال، وإنه متى يخرج فسوف يزعم أنه الله -تعالى- فمن آمن به وصدقه واتبعه لم ينفعه عمل صالح من عمل سَلَفَ، ومَن كفر به وكذَّبه لم يعاقب بشيء من عمله سَلَف، وإنه سوف يظهر على الأرض كلها إلا الحرم

وبيت المقدس، وإنه يسوق الناس إلى بيت المقدس فيُحصَرُون حصرًا شديدًا»

إقامة البرهان

۱۷۷

قال: «فيصبح فيهم عيسى ابن مريم فيقتله وجنوده حتي أَنَّ جِذْمَ الحائط وأصل الشجرة لينادي: يا مسلم هذا كافر تعالى فاقتله»، ولن يكون ذلك حتى تروا أمورًا يتفاقم شأنها في أنفسكم فتتساءلون بينكم: هل كان نبيكم ذكر لكم منها شيئًا ؟ وحتى تزول جبال عن مراتبها، ثُمَّ على أثر ذلك الموت». قال الحافظ الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح غير ثعلبة بن عباد العبدي وثقة ابن حبان» . اهـ

ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين»، وأقره الذهبي،

وصححه ابن خزيمة وابن حبان أيضًا.

فصل

حديث أنس بن مالك

الحديث الرابع والأربعون

أخرجه الحاكم من طريق ريحان بن سعيد: حدثنا عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سيدرك رجالٌ مِن أمَّتي عيسى ابن مريم، ويشهدون قتال الدجال». قال الحافظ الذهبي : حديث منكر، وعباد ضعيف».

قلت: كذا قال، مع أن معنى الحديث متواتر كما هو معلوم، وقد صحح الذهبي نفسه أحاديث أبي هريرة وواثلة وابن مسعود، وحذيفة، وفيها الإخبار بخروج الدَّجَّال ونزول عيسى عليه السلام كما تقدم، وعباد بن منصور قال عنه القطَّان: «ثقة لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه»، يعني

القدر. وليَّنه أبو زرعة، وقال ابن معين: ليس حديثه بالقوي، ولكن يكتب

۱۷۸

كتاب الإيمان

ولم يذكر الذهبي هذا الحديث في "الميزان" من منكرات عباد، ووجدت الحافظ الهيثمي عزاه لأبي يعلى وضعفه بعباد أيضًا، ولعله تبع الذهبي في ذلك، وقد أخرجه الطبراني أيضًا بإسناد فيه معاوية بن واهب قال ا الحافظ الهيثمي: «لم أعرفه»، ولفظ رواية الطبراني: «أنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة وأشفع، وسيدرك رجال من أمتي... الحديث. وبمجموع الطريقين يكتسب قوة.

الحديث الخامس والأربعون

أخرج الحاكم أيضًا من طريق إسماعيل بن عياش، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أدرك

منكم عيسى ابن مريم فليقرئه مني السلام».

فصل: حديث أبي سعيد الخدري

الحديث السادس والأربعون

عن أبي سعيد الخدري : أخرجه أبو نعيم في "أخبار المهدي" عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مِنَّا الذي يصلي عيسى ابن مريم خَلْفَهُ».

فصل: حديث عمران بن حصين

الحديث السابع والأربعون

أخرجه الحافظ أبو عمرو الداني في "سننه" عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : « لا تزال طائفةٌ مِن أمتي تقاتل على الحق حتى ينزل عيسى ابن

مريم عليه السلام عند طلوع الفجر ببيت المقدس، ينزل على المهدي فيقال: تقدم يا نبي الله فصل بنا فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض».

إقامة البرهان

۱۷۹

قلت: كل من حديث لا تزال طائفة من أمتي وحديث المهدي متواتر،

أما الأول فقد صرّح بتواتره ابن تيمية في أول كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، وذكر طرقه شقيقنا الحافظ السيد أحمد في "الأجوبة الصارفة"، وأمَّا الثاني فصرح بتواتره جماعةٌ من الحفاظ، وأنكر ابن خلدون، فردَّ عليه شقيقنا المذكور في كتاب سماه: إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون" جمع فيه أطراف المسألة جمعًا متقناً وهو مطبوع بدمشق، وقد كنت كتبت نحو عشر مقالات في مجلة "الإسلام" بعنوان: «ظهور المهدي حَقٌّ» أوردت فيها أحاديث المهدي عن بضعة وثلاثين صحابيًا وثلاثة من التابعين وجمعتها في تأليف مستقل.

فصل: حديث ابن عباس

الحديث الثامن والأربعون

أخرجه أبو نعيم في "أخبار "المهدي" عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لن تهلك أمةٌ أنا في أولها، وعيسى ابن مريم في آخرها، والمهدي في

أوسطها».

ورواه الحاكم في تاريخ نيسابور"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، ولفظ روايتها: «كيف تهلك أمَّةٌ أنا في أوّلها، وعيسى ابن مريم في آخرها، والمهدي من أهل بيتي في وَسَطِها؟!». والمراد بالوسط ما قبل الآخر، قاله المناوي وغيره، وقال ابن حجر الهيثمي : المراد بالوسط قريب آخرها، حتى لا ينا في الروايات المصرحة بأنه في آخرها، ولتقدمه بيسير على عيسى عليه

السلام، وصفه بأنه وسط ووصف عيسى عليه السلام بأنه آخر». اهـ

۱۸۰

كتاب الإيمان

الحديث التاسع والأربعون

أخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر، عن ابن عباس قال: «الدَّجَّال أَوَّل من يتبعه سبعون ألفًا من اليهود عليهم التيجان - يعني الطيالسة- ومعه سَحَرة اليهود يعملون العجائب ويرونها الناس فيضلونهم بها، وهو أعور ممسوح العين اليمني، يُسلّطه الله على رجل من هذه الأمة فيقتله ثُمَّ يضربه فيُحييه، ثُمَّ لا يصل إلى قتله ولا يُسلّط على غيره، وتكون آية خروجه تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهاونا بالدماء، وضيّعوا الحكم، وأكلوا الربا، وشيَّدوا البناء، وشربوا الخمور، واتخذوا القيان ولبسوا الحرير، وأظهروا ترة آل فرعون، ونقضوا العهد، وتفقهوا لغير الدّين، وزيَّنوا المساجد، وخربوا القلوب، وقطعوا الأرحام، وكثرت القراء وقلت الفقهاء، وعُطّلت الحدود، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال فتكافأ الرجال بالرجال والنساء الدجال، فسلط عليهم حتى ينتقم منه وينحاز

عليهم

بالنساء، بعث الله

المؤمنون إلى بيت المقدس

قال ابن عباس : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «فعند ذلك ينزل أخي عيسى ابن مريم من السماء على جبل أفيق (۱) إمامًا هاديًا وحَكَمًا عَادِلًا عليه برنس له، مربوع الخلق ،أصلت، سبط الشعر، بيده حربة يقتل الدجال، فإذا قتل الدجال تضع الحرب أوزارها، فكان السلم، فيلقى الرجل الأسد فلا يهيجه، ويأخذ الحية فلا تضره، وتنبت الأرض كنباتها على عهد آدم، ويؤمن به

(۱) بفتح أوله وكسر ثانيه.

إقامة البرهان

۱۸۱

أهل الأرض، ويكون الناس أهل ملةٍ واحدةٍ».

قلت: هذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد، فالواقع يؤيده ويقويه، إذ أغلب ما أشار إليه الحديث أو كله موجود حاصل، والفساد في ازدياد نسأل الله

العفو والعافية.

فصل

حديث ثوبان

الحديث الخمسون

أخرجه الإمام أحمد والنسائي، والضّياء المقدسي في "المختارة" عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «عِصَابتان مِن أُمَّتِي أَحْرَزَهُمَا اللَّهُ مِن النَّارِ عِصابة تغزو الهند، وعِصابةٌ تكون مع عيسى ابن مريم». قال المناوي في

شرح "الجامع الصغير": «إسناده حسن». قلت: بل إخراج الضياء للحديث في "المختارة" يقتضي أنه صحيح، ثُمَّ رأيت الحافظ الهيثمي عزاه للطبراني في "الأوسط" وقال: «سقط تابعيه والظاهر أنه راشد بن سعد، وبقية رجاله ثقات».

قلت: ذهل عن عزوه إلى "المسند" مع أنَّ السَّند فيه تام، قال أحمد: ثنا أبو النضر : ثنا بقية: ثنا عبد الله بن سالم وأبو بكر بن الوليد الزبيدي بالضم - عن لقمان بن عامر الوصابي، عن عبد الأعلي بن عدي البَهْرَاني، عن ثوبان مولى رسول الله عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال... فذكر الحديث.

ورجاله ثقات، وبعضهم موثق.

۱۸۲

كتاب الإيمان

فصل: حديث عبدالرحمن بن سمرة

الحديث الحادي والخمسون

بن

أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قال: بعثني . خالد الوليد بشيرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم مؤتة، فلما دخلت

عليه قلت: يا رسول الله»، فقال: على رسلك يا عبد الرحمن، أخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل، رحم الله زيدًا. ثُمَّ أخذ اللواء جعفر فقاتل فقتل، رحم الله جعفرًا. ثُمَّ أخذ اللواء عبد الله بن رَوَاحَة فقاتل فقتل، رحم الله عبدالله. ثُمَّ أخذ اللواء خالد ففتح الله لخالد فخالد سيف من سيوف الله». فبكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهم ،حوله، فقال: «ما يُبكيكم؟». قالوا: وما لنا لا نبكي، وقد قتل خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا؟!». فقال: «لا تبكوا، فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فاجتت رواكيها وهياً مساكنها وحَلَقَ سَعَفَها فأطعمت عامًا فوجًا ثُمَّ عاما فوجا ثُمَّ عاما فوجًا، فلعل آخرها طعما يكون أجودها قنوانًا وأطولها شِمْراحًا والذي بعثني بالحق

ليجدن ابن مريم في أُمَّتِي خَلَفًا مِن حَوَارِيه».

فصل: حديث نافع بن كيسان الثقفي

الحديث الثاني والخمسون

أخرجه ابن عائذ، وتمام في فوائده"، وابن شاهين، وابن عساكر، كلهم من طريق عبدالرحمن بن أيوب بن نافع بن كيسان، عن أبيه، عن جده نافع بن گیسان صاحب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رفعه: «ينزل عيسى ابن مريم

عند باب دمشق عند المنارة البيضاء لست ساعات من النهار في ثوبين ممشقين

إقامة البرهان

كأنما يَنْحِدر من رأسه اللؤلؤ».

۱۸۳

قلت في إسناده ضعف واضطراب، وهذا الحديث يفيد أنَّ . عيسى عليه السلام ينزل بالنهار بعد مضي ست ساعات منه، والنهار في عرف الشرع من طلوع الفجر إلى المغرب، فيخالف الأحاديث الأخرى المصرحة بأنه ينزل سحرًا قرب طلوع الفجر بيت المقدس، وأنَّ إمام المسلمين يدعوه للصَّلاة بهم فيمتنع. ويجاب عن ذلك بأنَّ عيسى عليه السلام ينزل نهارًا في دمشق كما في هذا الحديث، ثم يتوجّه نحو بيت المقدس فيوافيه سَحَرًا كما في الأحاديث الأخرى،

والله أعلم.

فصل: حديث كيسان بن عبدالله بن طارق

الحديث الثالث والخمسون

من

أخرجه البخاري في "التاريخ" والطبراني، وابن السكن، وابن منده، م طريق ربيعة بن ربيعة، عن نافع بن كيسان، عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه

وآله وسلم يقول: ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق». ورواه الربعي في فضائل" الشام"، وتمام في فوائده" من طريق هشام بن خالد، عن الوليد بن مسلم، عن ربيعة به. قال الحافظ ابن حجر: «رجاله ثقات»،

قال: «وقيل في هذا عن نافع بن كيسان ليس عن أبيه، وسيأتي في النون».

يعني حديث نافع بن كيسان الذي ذكرناه آنفًا، ثم قال الحافظ : «ونقل ابن أبي حاتم ، عن أبيه : أن من قال في الحديث في نزول عيسى عليه السلام: «عن نافع بن گیسان، عن أبيه أخطأ، وإنما هو عن نافع بن كيسان، عن النبي صلى

١٨٤

كتاب الإيمان

الله عليه وآله وسلم».اهـ

قلت: كذا قال أبو حاتم، وفيه شيء؛ لأن كلا من نافع وكيسان صحابي، فما المانع أن يكون كلا منهما روى حديث نزول عيسى عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا سيما وقد روى البخاري هذا الحديث عن كيسان بإسناد رجاله ثقات كما رأيت، والبخاري أحفظ من أبي حاتم، وأعلم بعلل الأحاديث وأسانيدها منه، بل هو شيخ الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث، وأبو حاتم نفسه إنما استمد في كلامه على العلل والرجال من تاريخ البخاري كما صرح به أهل الفن، وكذلك أبو زرعة، ومسلم بن الحجاج، والترمذي، وغيرهم كلهم كانوا يستمدون من البخاري كما هو معلوم، والله أعلم.

فصل: حديث نافع بن عتبة وأبي برزة

الحديث الرابع والخمسون والخامس والخمسون

أشار إليهما الترمذي في "سننه" لما روى حديث مجمع بن جارية، وقد نقلنا

کلامه فيما سبق فليرجع إليه.

فصل: حديث عمرو بن عوف المزني

الحديث السادس والخمسون

أخرجه ابن عدي في " الكامل" قال: حدثنا بهلول بن إسحاق ومحمد بن جعفر الإمام قالا : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس: حدثني كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف بن زيد بن طلحة، عن أبيه، عن جده قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أول غزاة غزاها الأبواء حتى إذا كنَّا بالروحاء، نزل

إقامة البرهان

۱۸۵

بعرق الظبية فصلَّى، ثُمَّ قال: «اسم هذا الجبل رجمة، جبل من جبال الجنة، اللهم بارك فيه، وبارك لأهله فيه». ثُمَّ قال للروحاء: «هذه سَجَاسِج (۱) وإنها وادٍ من أودية الجنَّة، لقد صلَّى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيًّا، ولقد مرَّ بها موسى عليه عباءتان قَطوَانِيَّتان على ناقة وَرْقاء في سبعين ألفًا مِن بني إسرائيل حاجين البيت، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى عبد الله ورسوله حاجا أو معتمرًا». قلت: غزوة الأبواء هي غزوة ودَّان وهي أول مغازيه عليه الصلاة والسَّلام، كانت على رأس سنة مِن مَقْدَمِه للمدينة، رمى فيها سعد بن أبي وقاص سهما واحدًا، وهو أول سهم رمي في الإسلام، ولم يحصل فيها قتال بل وادع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بني ضمرة على ألا يغزوه ولا يُكثروا عليه جمعا ولا يعينوا عليه عدوّا، ثُمَّ انصرف إلى المدينة بعد إذ غاب عنها خمس

عشرة ليلة.

.

فصل: حديث بعض الصحابة

الحديث السابع والخمسون

أخرجه مَعْمَرٌ في "جامعه" عن الزهري: أخبرني عمرو بن سفيان الثقفي: أخبرني رجل من الأنصار، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ذکر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الدَّجَّال فقال: «يأتي سبَاخَ المدينة وهو مُحرَّم عليه أن يدخلها...». وذكر الحديث وحصار الدجال للمسلمين

(۱) سجاسج : جمع سَجْسَج، وهي الأرض التي تكون وسطا بين الصلابة والسهولة، وقوله قبل ذلك: «رجمة) بالجيم- هو الحجارة، ووقع في ميزان الذهبي: «رحمة» و شخاشيخ» و هما تصحيف.

17

كتاب الإيمان

ببيت المقدس إلى أن قال: «فيتبايعون أي المسلمون على القتال، بيعة يعلم الله أنها الصدق من أنفُسِهِم، ثُمَّ تأخذهم ظلمةٌ لا يُبصر أحدهم كفَّه، فينزل عيسى ابن مريم فيَحْسِر عن أبصارهم وبين أظهرهم رجلٌ عليه لأمة فيقول: «مَن أنتَ؟» فيقول: «أنا عبدالله ، وروحه وكلمته ،عیسى اختاروا إحدى ثلاث بين أن يبعث الله على الدَّجَّال وجنوده عذابًا جسيما، أو يخسف بهم الأرض، أو يرسل عليهم سلاحكم ويكف سلاحهم؟». فيقولون: «هذه يا رسول الله اشفى لصدورنا». فيومئذٍ ترى اليهودي العظيم الطويل الأكول الشروب لا تقل يده سيفه من الرعب، فينزلون إليهم فيُسلطون عليهم، ويذوب الدَّجَّال حتى يدر که عیسی فيقتله».

فصل: حديث أبي الدرداء

الحديث الثامن والخمسون

أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر" "الأصول" عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «خير أُمتي أولها وآخرها، وفي وسطها الكدر، ولن يخزي الله أُمَّةٌ أنا أولها والمسيح آخرها». إسناده ضعيف كما قال المناوي.

فصل من مرسل جبير بن نفير

الحديث التاسع والخمسون

أخرجه ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، والحاكم،

من طريق عبدالرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه قال: لما اشتدَّ جَزَعُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم على من قتل في يوم مؤتة، قال رسول الله

إقامة البرهان

۱۸۷

صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ليدركنَّ الدَّجَّال مِن هذه الأمة قومًا مثلكم أو خيرًا منكم - ثلاث مراتٍ ولن يُخزي الله أُمَّةً وأنا أوَّلها وعيسى ابن مريم آخِرُها». قال الذهبي: «مرسل، وهو خبر منكر». اهـ

قلت: أما الإرسال فمجبور بورود الحديث موصولاً من طريق عبدالرحمن بن سمرة كما تقدَّم، مع وجود شواهد لمعناه كحديث ابن عمرو، وابن عباس، وغيرهما.

الخير لا

وأما النكارة، فالذهبي قصد بها ما يفيده ظاهر الحديث من أفضلية غير الصحابة عليهم، وهو خلاف ما اقتضته الأدلة وانعقد عليه الإجماع من أفضلية الصحابة على سائر الأمة. ويجاب عن ذلك بأنَّ الحديث خرج مخرج التسرية والتسلية للصحابة عمن فقدوهم يوم مؤتة، وليس ظاهره مرادًا؛ ذلك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما رأى جَزَعَهم وحُزنهم أراد أن يسري عنهم. فأخبرهم أ أنَّ ينقطع عن هذه الأمة المحمدية على مدى الزمان، حتى أنَّ الدَّجَّال إذا خرج ا أدرك قوما هم في الفضل والخير مثل الصحابة إن لم يكونوا خيرا منهم، وذكرت بالخيرية هنا تأييدًا لحصول المثلية المذكورة قبلها، وأنها متحققة بحيث لم يبقَ شك إلا فيما زاد عليها من الخيرية -أي الأفضلية- ومثل هذا التعبير شائع معهود، والمراد بالمثلية في الحديث أنَّ هؤلاء القوم الذين يدركهم الدَّجَّال يماثلون الصحابة في التمسُّك بالحقِّ، وانفرادهم بالدفاع عنه في وقت يعم فيه الفساد ويجمع اليهود - وفي مقدمتهم الدَّجَّال - على محاربة المسلمين واستئصال شأفتهم، كما كان الحال في صدر الإسلام، وليس المراد أنهم مثل الصحابة في

۱۸۸

كتاب الإيمان

جميع ما لهم من المزايا والفضائل (۱).

والحاصل: أنَّ الحديث يدل على بقاء الخير في هذه الأمة وعدم انقطاعه، فهو بمعنى الحديث الآخر : «مثل أُمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره»، وفي رواية: «مثل أُمتي مثل المطر، يجعل الله في أوله خيرًا وفي آخره خيرًا». والحديث في "مسند أحمد"، و"سنن الترمذي"، وغيرهما من طرق، وهو

حدیث حسن

أما حديث: «الخير في وفي أُمتي إلى يوم القيامة». فلا أصل له، وسئل عنه الحافظ ابن حجر فقال: «لا أعرفه»، والله أعلم.

فصل

من مرسل الحسن البصري

الحديث الستون

أخرجه ابن جرير في "تفسيره" قال: حدثني المثنى: حدثنا إسحاق: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، في قول الله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [آل عمران: ٥٥] قال: «يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه». قال الحسن: قال رسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لليهود: «إنَّ عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».

(۱) ذكر ابن العربي في "الأحكام" في الكلام عن قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ الآية [المائدة: ۱۰۵]، حديث أبي ثعلبة: «إِنَّ مِن وَرَائِكُم أيام الصَّبِرِ للعامل فيها أَجْرُ خمسين منكم، فقالوا: بل منهم، فقال: بل منكم... الحديث. وأجاب عنه بجواب حَسَنٍ يراجع هناك.

إقامة البرهان

۱۸۹

فصل: من مرسل عروة بن رُويمٍ

الحديث الحادي والستون

أخرجه أبو نعيم في "الحلية" عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خير هذه الأُمَّة أوَّلها وآخِرُها، أوَّلها فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآخِرُها فيهم عيسى ابن مريم عليه السَّلام، وبين ذلك نَهْجُ أَعْوَج ليس منك ولست منهم . قلت: قوله : وبين ذلك نَهْجٌ أَعْوَجٌ هو بمعنى حديث أبي الدرداء: «وفي وَسَطِها الكَدَرُ». وكلاهما يشير إلى ما يحصل في الوسط من فتن ومعاصي، وعقائد زائغة، كما هو مشاهد في هذا الزمن، نسأل الله العفو والعافية.

فصل

فهذه إحدى وستون حديثًا يرويها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ثمانية وعشرون صحابيًا، وثلاثة تابعيين بألفاظ مختلفة وأسانيد متعددة، كلها

تصرح بنزول عيسى عليه السَّلام تصريحا لا يحتمل تأويلا ولا روغانا. فهل يجوز للمتعلم وقبله العالم أن يشطب على هذه الأحاديث بجرة قلم ويقول عنها ما قاله صاحب الفتوى حيث جاء فيها ( ص ٥١٥ و ٥١٦ من العدد ٤٦٢ من "مجلة الرسالة") ما نصه: «أما آية النساء فإنها تقول: بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: ١٥٨]، وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء ويقولون : إنَّ الله ألقى على غيره شَبَهَه، ورفعه بجسده إلى السماء فهو حي فيها،

وسينزل منها آخر الزمان، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويعتمدون في ذلك:

۱۹۰

كتاب الإيمان

أولا: على روايات تفيد نزول عيسى عليه السلام بعد الدجال، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال معه للجمع بينها، وقد نص على ذلك علماء الحديث، وهي فوق ذلك مِن رواية وهب بن مُنَبِّه، وكعب الأحبار، وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.

وثانيا: على حديث مروي عن أبي هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى عليه السلام، وإذا صح هذا الحديث فهو حديث آحاد، وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الأحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في ا

المغيبات». اهـ كلامه وهو مع إيجازه جامع لعدة أغلاط :

الأول: قوله في آية النساء: وقد فسَّرها بعض المفسرين بل جمهورهم- بالرفع إلى السماء» يفيد أنَّ مِن المفسرين مَن فسَّرها بغير الرفع، وهذا غير فإن المفسرين متفقون على القول برفع عيسى عليه السلام إلى السماء

صحيح

ووافقهم من قال بموته أيضًا وهما وهب بن منبه، وابن حزم، ودونك كتب

التفسير فإنك واجد فيها ما ذكرناه لا ما زعمه صاحب الفتوى.

الثاني: قوله: «على روايات تفيد نزول عيسى عليه السلام بعد الدَّجَّال». عبر بالروايات إشارة إلى أنها ليست عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا غير صحيح، بل ما عبّر عنه بالروايات كله أحاديث مرفوعة لا موقوفة ولا مقطوعة كما علم مما تقدَّم، ولم يكن العلماء ليجمعوا على اعتقاد نزول عيسى عليه السلام اعتمادًا على روايات لم تُرفع، وهم أنفسهم مجمعون على أنَّ

المغيبات لا يعمل فيها إلا بما صح عن المعصوم كما نبه عليه غير واحد مهم.

إقامة البرهان

۱۹۱

الثالث: قوله: «وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا

لا مجال معه للجمع بينها وهذا غير صحيح، فإن تلك الأحاديث أو الروايات على حد تعبيره - كلها متفقة على الإخبار بنزول عيسى عليه السلام، وأنه يقتل الدجال، والخنزير، ويكسر الصَّليب... إلخ ما جاء فيها، غاية ما في الأمر أنَّ بعضا منها يُفضّل وآخر يُجمل ، وبعضًا يوجز وآخر يُطنب، وهذا كما يفعل القرآن العظيم، إذ يورد القصة الواحدة في سور متعددة بأساليب مختلفة يزيد بعضها على بعض، بحيث لا يمكن جمع أطراف القصة إلا بقراءة السور التي

ذكرت فيها.

فلعل صاحب الفتوى ظن مثل هذا التخالف - الذي يقوي شأن الحديث ويدل على تعدد مخارجه- تعارضًا فأخطأ.

وأضعف خطأه حيث ادعى أنه لا مجال معه للجمع بينها، وذلك أنه على فرض وجود تعارض فالجمع ممكن لو أعمل فكره وأمعن نظره وأخلص في بحثه، لكنه أرسل قوله بتعذر الجمع دعوى تتعثّر في أذيال الخجل.

الرابع: قوله: «وقد نصَّ على ذلك علماء الحديث) - يعنى أنهم نصوا على الاضطراب وتعذر الجمع وهذا غير صحيح، فعلماء الحديث نصوا على التواتر لا الاضطراب، وعلى وجوب اعتقاد ما تضمنه لا على رده بدعوى

اضطراب وتعدر جمع موهومين، وستتلى عليك نصوصهم بعد بحول الله . الخامس: قوله: وهي فوق ذلك؛ من رواية وهب بن منبه وكعب الأحبار». وهذا غير صحيح، فلقد ذكرنا إحدى وستين حديثا من طرق إحدى وثلاثين شخصًا ليس فيهم وهب ولا كعب، أفليست هذه الدعوى

۱۹۲

كتاب الإيمان

وغيرها في كلامه دلائل على أنه ما أخلص في بحثه؟!

السادس: قوله: «وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام». يقصد

بهذا الكلام نقصهما وتقليل شأنهما كما هو ظاهر من دلالة السياق. وما قصده خطأ غير صواب؛ لأن كونهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام مما يمدحان به ويُغبطان عليه لما روى البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ا وسلم: «ثلاثة لهم أَجْران: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيه وأمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، والعبد المملوك إذا أدَّى حَقَّ الله وحَقَّ مواليه، ورجلٌ كانت له أمَةٌ فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، ثُمَّ أعتقها فتزوجها فله

أجران». فلكل من وهب وكعب أجران بنص الحديث، وهي مزيَّة لهما على صاحب الفتوى الذي يجرحهما بما هو مدح وثناء. ولهذه المناسبة يجب أن نقول إنَّ الطعن في الراوي بكونه من أهل الكتاب طريقة الشيخ رشيد رضا في ردّ الأحاديث التي تخالف هواه، وهي طريقة غير جيدة لأنها تفتح الباب على مصراعيه للمبتدعين الزائغين في تجريح كثير من الصحابة والتابعين.

ثُمَّ هي مخالفة لما عليه المحدثون، فإنَّ العبرة عندهم بثقة الراوي وعدالته لا بأصل دينه ونشأته، فقد يكون الرجل مجوسيا ولكنه ساعة رواية الحديث مسلم ثقة، فمن ذا يقول إن روايته تُرَدُّ الآن لمجوسيته بالأمس؟! لا أحد يقول ذلك، بل المحدثون كلهم يقولون العبرة بوقت الأداء لا بوقت التحمل، أي أنه

إقامة البرهان

۱۹۳

لو تحمل الحديث وهو كافر ثُمَّ أداه وهو مسلم قبل أداؤه بلا نزاع. وانظر تراجم الصحابة والتابعين تجد كثيرين منهم كانوا مجوسًا أو أهل كتاب فلم يضرهم ذلك عند الله وعند الناس شيئًا إذ أسلموا واتقوا وأحسنوا، بل كانوا هم خير القرون وأفضل الأمَّة بالنص والإجماع، فليطمئنَّ صاحب الفتوى وليعلم أنَّ ما سلكه في التجريح - تبعًا للشيخ رشيد- وحده لا يفيد عند المحدثين ولا عند غير المحدثين.

السابع: قوله: «وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل». يريد بهذا تضعيفهما وعدم قبول روايتهما، ونحن نقول بموجبه لكن على غير ما يريد.

نعم، قد عرفت درجتهما عند علماء الجرح والتعديل بالثناء عليهما وتعديلها، والجواب عما قيل في حقهما، فوهب بن منبه يقول عنه الذهبي في "الميزان": «من أخيار علماء التابعين حديثه عن أخيه همام في "الصحيحين"، وكان ثقة صادقًا كثير النقل من كتب الإسرائيليات، قال العجلي: «ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء»، وقال مثنى بن الصباح البث وهب عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوء». ضعفه الفلاس وحده، ووثقه جماعة. قال الجوزجاني: كتب كتابًا في القَدَرِ ثم ندم، وقال أحمد بن حنبل: «كان يتهم بشيء من القدر ثُمَّ رجع».اهـ

وكعب الحبر : أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، روى عنه من الصحابة أبو هريرة وابن عبّاس وغيرهما وجماعة من التابعين، وكان عمر يقول له: «خوفنا يا كعب». وكان يستشيره في أشياء ويعمل برأيه، وذكره أبو الدرداء

١٩٤

كتاب الإيمان

فقال: «إن عنده علمًا كثيرًا». وقال معاوية بن صالح، عن عبدالرحمن بن جبير قال: قال معاوية: «ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار وإن كنا فيه ، فيه المفرطين». وكان عبد الله بن الزبير يقرّبه ويسمع منه الشيء الكثير، وشهد له بالصدق فيما كان يحدثه به. قرأت في الجزء الثاني من أمالي عبدالرزاق: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن أيوب عن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن الزبير: «ما شيء كان يحدثنا به كعب إلا قد جاء على ما قال، إلَّا قوله: «إن فتى ثقيف يقتلني». وهذا رأسه بين يدي يعني المختار - قال : يقول ابن سيرين: ولا يشعر أنَّ أبا محمد - يعني الحجاج - قد خبئ له» . اهـ

وكذلك معاوية كان يأخذ عنه، ويسمع منه، ويقول: «كان من أصدق هؤلاء الذين يحدثوننا». يعني مسلمي أهل الكتاب، أما قوله: «وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. فمحمول عند العلماء على الإسرائيليات التي كان يحدث بها، فإن فيها الكذب، لا أنه يكذب لأنه ثقة كما في الجزء الثاني من تاريخ ابن كثير" وغيره، وقال النووي: اتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه . اهـ والمقصود أن كعبا ووهبا ثقتان من خيار التابعين.

الثامن: قوله: «وثانيا : على حديث مروي عن أبي هريرة اقتصر فيه على

الإخبار بنزول عيسى عليه السلام». هذا غلط من وجهين:

الأول: أنَّ المفسرين وغيرهم لم يستندوا في القول بنزول عيسى عليه

السلام إلى حديث أبي هريرة وحده، بل إلى الأحاديث الكثيرة المتعددة التي صرحوا بأنها متواترة.

إقامة البرهان

۱۹۵

الثاني، وهو التاسع في سلسلة الأغلاط أن حديث أبي هريرة لم يقتصر على الإخبار بنزول عيسى عليه السلام ، بل أخبر - مع ذلك بأنه يقتل الخنزير والدجال ويكسر الصَّليب ويدعو الملل كلها إلى الإسلام، ودونك أحاديث أبي هريرة التي أوردناها فهي ناطقة بكل ذلك.

العاشر: قوله: (وإذا صح هذا الحديث فهو حديث آحاد». هذا غلط من وجهين أيضًا:

الأول: أنَّ غرضه بقوله: (وإذا صح هذا الحديث». التشكيك في صحته كما يدل عليه سياق الكلام وروح ،الفتوى، وحينئذ فالصحيح - عربية - استعمال «إن» الشرطية لأنها تدل على الشك، أما استعمال «إذا» فغلط لأنها مختصة بالمتيقن

والمظنون كما صرح به النحويون في كتبهم وذكره الحافظ في "فتح الباري". الثاني، وهو الحادي عشر من الأغلاط قوله: «فهو حديث آحاد». وهذا

غلط لا يحتاج إلى بيان، لأنه واضح مما تقدم ومما يأتي إن شاء الله . الثاني عشر: قوله : وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة». وهذا غير صحيح، وبيان ذلك أنَّ العلماء اختلفوا في خبر الواحد هل يفيد الظنَّ أو العلم؟ على قولين:

الأول: أنه إنما يفيد الظن فقط، وإلى هذا ذهب الجمهور، ثُمَّ اختلفوا فذهب أكثرهم إلى أنه لا يفيد العلم سواء انضمت إليه قرائن أم لا، وذهب الآمدي وابن الحاجب وابن السبكي وغيرهم إلى أنه يفيد العلم بانضمام قرائن

11

إليه. قال السيد الشريف في حاشية الشرح العضدي": «هذا هو المختار»، وكذا قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة".

١٩٦

كتاب الإيمان

الثاني: أن خبر الواحد العدل يفيد بنفسه العلم اليقيني النظري من غير انضمام قرينة. وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، وحكاه ابن خويز منداد البغدادي المالكي عن مالك بن أنس واختاره وأطال في تقريره في كتاب له في أصول الفقه، وحكاه ابن حزم الحافظ في كتاب "الأحكام" عن الحارث بن أسد المحاسبي، وداود بن علي الأصبهاني إمام أهل الظاهر، والحسين بن علي الكرابيسي، قال: «وبه نقول».

.

ثم اختلفوا، فقال أحمد في أحد قوليه وابن حزم وغيرهما: «حصول العلم بخبر الواحد العدل مُطَّرِد»، وقال آخرون: «لا يَطَّرِد». فجملة الأقوال في خبر الواحد: أربعة (۱) وعلى القول الثاني المختار، فالخبر المحتف بالقرائن أنواع: حديث الشيخين، والحديث المستفيض - ويسمى المشهور - والحديث المسلسل بالحفاظ الأئمة كمالك وأضرابه، فكل واحد من هذه الأحاديث يفيد العلم كما يعلم من محله.

إذا تقرر هذا، فاعلم أنَّ الذين يرون خبر الواحد مفيدًا للعلم يقولون أنه يفيد العقيدة كما هو واضح، ولذا كان الإمام أحمد يستند في كثير من الصفات والعقائد السمعية إلى أحاديث آحاد ،صحيحة، وكذلك يفعل ابن حزم في كلامه على العقائد.

بل هذا هو مقتضى صنيع المحدثين كالبخاري، ومسلم، وابن خزيمة،

(1) الأول: يفيد الظن مطلقا. الثاني: يفيد العلم بقرينة وهو المختار الثالث: يفيد العلم من غير قرينة باطراد الرابع: يفيد العلم لا باطراد.

إقامة البرهان

۱۹۷

وأصحاب السنن، والحاكم ،وغيرهم، إذ يستدلون في «كتاب التوحيد» من مصنفاتهم بأحاديث صحيحة تتعلق بالله، أو برسله وملائكته، أو الحشر وما يتبعه، أو بالقضاء والقدر، أو غير ذلك من السَّمعيات، وللحافظ البيهقي کتاب "الأسماء والصفات" ، وكتاب "الاعتقاد" من رآهما أو غيرهما من كتبه وكتب غيره تيقن صحة ما قلناه والمسألة مبسوطة في كتب المصطلح المتداولة أثناء الكلام على العمل بالحديث الضعيف في الفضائل دون العقائد والأحكام. أما الذين يقولون أن خبر الواحد لا يفيد عقيدة فهم معظم الجمهور، إذ يرونه مفيدا للظنِّ مطلقا كما تقدَّم، ومما ذكرناه يتبيَّن لك أنَّ الإجماع الذي حكاه صاحب الفتوى غير صحيح.

الثالث عشر : قوله ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات». أي أنَّ العلماء أجمعوا على أنه لا يصح الاعتماد على أحاديث الآحاد في شأن المغيبات

كذا قال ! وهي دعوى أوسع من الغَبراء، وأكبر من أن تُظلها الخضراء، فكيف تحمل تبعتها صاحب الفتوى على ضعفه ؟! الميقل أحد من العلماء قبل هذا الوقت لا من المحدثين، ولا من الفقهاء، (۱) ولا من الأصوليين، ولا من المتكلمين، أنَّ

حديث الآحاد لا يُعتمد عليه في المغيَّبات، بل الإجماع منعقد على ضدّ ذلك. فانظر كتب السُّنَّة على اختلاف أنواعها من صحاح، وسنن، ومسانيد،

(۱) إلا ما حكاه ابن تيمية في رفع الملام" عن طوائف من الفقهاء فيما يختص بالوعيد، ثم رده انظر ص ۹۹ - ۱۰۲) من مجموعة الرسائل الكبرى له.

۱۹۸

كتاب الإيمان

ومعاجم، وأجزاء، وكتب التفسير، وكتب السير والمعجزات والخصائص، وكتب الملاحم وأشراط الساعة، وكتب الترغيب والترهيب، تجدها ملأى بأحاديث الآحاد في شأن المغيَّبات من ثواب وعقاب وأخبار عن أشياء ماضية وآتية وغير ذلك.

وشراح الحديث كالخطّابي، وابن بطال، والداودي، والمازري، وعياض، والنووي، والقرطبي، والكرماني، ومغلطاي وابن سيد الناس، والدميري، والعراقي، وابن حجر، والعيني، والطيبي، وزكريا الأنصاري، والسيوطي، والقسطلاني، والزرقاني، وغيرهم ممن لا يحصيهم العد، كلهم على اختلاف مذاهبهم متفقون على قبول هذه الأحاديث، والاستنباط منها وعدها .

من

أعلام النبوة، وتأويل ما أشكل ظاهره منها، والجمع بين متعارضها. ثُمَّ كتب المصطلح كلها تنصُّ على أنَّ الصحابي إذا قال قولا ليس للاجتهاد فيه مجال ولم يكن يأخذ عن الإسرائيليات فقوله مرفوع حكما، أي يحكم بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وما فائدة المرفوع سوى العمل به؟! وإذا نقلوا أشياء في المغيَّبات عن بعض الصحابة أو التابعين ممن عرف بالأخذ عن الإسرائيليات يعقبونها بقولهم: «مثل هذا لا يقبل فيه إلا ما صح عن المعصوم. تجد ذلك في مواضع من كتب البيهقي خصوصا "الأسماء والصفات"، وفي "تفسير ابن كثير" و "تاريخه " ، وغيرهما.

بل صرح ابن كثير في أول "تاريخه" بأنَّ العمدة والاستناد في المغيبات على كتاب الله وسنة رسوله مما صح نقله أو حسن، ونقل كلامه الحافظ السخاوي

إقامة البرهان

۱۹۹

في كتاب" الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التَّوريخ" ، وفي كتاب "الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوارة الإنجيل"، وأقره وأيده.

فصل

ولو سلمنا جدلًا أن حديث أبي هريرة آحاد كما تزعم الفتوى- فيجب الاعتماد عليه في هذه المسألة لأمور:

الأول: أن نزول عيسى عليه السَّلام من الأحداث الواقعة في الدنيا قبل انقراضها، فهو خبر كغيره من الأخبار التاريخية المتعلقة بحوادث هذا العالم، وما كان من هذا القبيل لا يشترط فيه التواتر بل يكفي فيه خبر الواحد العدل بإجماع المؤرخين والإخباريين، ووجوب التصديق بوقوع هذا الحادث من أجل أن الشارع أخبر به لا يجعله من قسم العقائد التي يُطلب فيها البرهان كالإلهيات والنبوات؛ ذلك لأن كل ما أخبر به الشارع يجب تصديقه حتى في الفروع الفقهية كما هو معلوم، ولذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وغيره: «إنَّ المباح مكلف به من حيث وجوب اعتقاد إباحته».

الثاني: أنا لو قلنا : «إنَّ نزول عيسى عليه السلام من قبيل العقائد» فنقول: المعتبر في العقيدة شرعًا هو العقد الجازم، وهذا قد يحصل بخبر الواحد وبالتقليد بناء على ما صححه ابن السبكي وغيره، والقول بأن: «إيمان المقلد لا يصح قصرا للإيمان على أهل البرهان منسوب إلى أبي الحسن الأشعري، وهو وإن صححه السنوسي في شرح الكبرى، مردود عند جماعة المحققين، وقد شنعوا على الأشعري بأنه يلزمه إكفار العوام وهم غالب المؤمنين.

وقال أبو القاسم القشيري في دفع التشنيع: «هذا القول مكذوب عليه».

۲۰۰

كتاب الإيمان

لكنه مشهورٌ عنه كما في "المقاصد" فلا سبيل إلى تكذيبه. فالأولى في دفع التشنيع ما سلكه التاج السبكي في "رفع الحاجب" حيث قال: «التقليد يطلق تارة بمعنى قبول قول الغير بغير حُجَّة، ويسمى اتباع العامي لإمامه «تقليدًا على هذا، وهو العرف. وتارة بمعنى الاعتقاد الجازم لا لموجب. والتقليد بالمعنى الأول قد يكون ظناً، وقد يكون وهما كما في تقليد إمام في فرع من الفروع، مع تجويز أن يكون الحق في خلافه، ولا شك أن هذا لا يكفي في الإيمان عند سائر الموحدين، ولعله مقصود الأشعري بقوله: لا يصح إيمان المقلد». قال: «وأما التقليد بالمعنى الثاني فكان أبي رحمه الله يقول: لم يقل أحد من علماء الإسلام أنه لا يكفي في الإيمان إلا أبو هاشم من المعتزلة، وأنا أقول: إن هذا لا يُتصوّر فإنَّ الإنسان إذا مضى عليه زمن لابد أن يحصل عنده دليل، وإن لم يكن على طريقة أهل الجدل، فإن فرض مصمم جازم لا دليل عنده فهو الذي يكفّره أبو هاشم، ولعله المنسوب إلى الأشعري والصحيح أنه ليس بكافر، وأنَّ الأشعري لم يقل ذلك. نعم اختلف أهل السنة في أنه: هل هو عاص ؟ والأصح عند أبي حنيفة –رحمه الله - أنه مطيع، وعند آخرين: أنه عاص، وهو الخلاف في وجوب النظر فاعرفه». اهـ الثالث: أن خبر الآحاد يفيد العلم عند القرينة على المختار، كما تقدم، وحديث أبي هريرة قد احتفت به قرائن منها كونه مخرجا في "الصحيحين". ومنها: وروده من طرق. ومنها: تسلسله في بعض الطرق بالأئمة الحفاظ المتقنين، فقد رواه

البخاري، عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن

إقامة البرهان

۲۰۱

المسيب، عن أبي هريرة. وهؤلاء بحور العلم وأطواد الرواية، الواحد منهم

يقوم مقام عدد كثير من غيرهم، وبالله التوفيق.

فصل

دلیل نزول عيسى عليه السلام من القرآن

وقد ثبت نزول عيسى عليه السلام بالقرآن أيضًا كما ثبت بالسنة المتواترة،

وذلك في بضع آيات:

الآية الأولى

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا

قول الله تعالى في البشارة بعيسى عليه السلام: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦] قال ابن جرير في تفسيره": حدثني يونس: أخبرنا ابن وهب قال سمعته يعني ابن زيد - يقول في قوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ) قال: قد كلّمهم عيسى عليه السلام في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذٍ كَهْل». وقال ابن جرير أيضًا: حدثني يونس: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله : مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى [آل عمران: ٥٥] قال: متوفيك: قابضك، قال: متوفيك ورافعك ،واحد قال ولم يمت بعد حتى يقتل الدجال

وسيموت، وتلا قول الله عزّ وجلَّ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ قَالَ: رفعه الله إليه قبل أن يكون هلا ، قال : وينزل هلا.

۲۰۲

كتاب الإيمان

وقال الحسين بن الفضل البجلي: إنَّ المراد بقوله: وَكَهْلًا أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناس ويقتل الدجال. قال الحسين بن الفضل: وفي هذه الآية نصّ في أنه عليه الصَّلاة والسَّلام سينزل إلى الأرض».اهـ

وقال ثعلب في قوله: وَكَهْلا ينزل عيسى عليه السلام إلى الأرض

كهلا» . اهـ

وقال العلامة الآلوسي في الكلام على هذه الآية ما نصه: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وعطف على الحال الأولى ،أيضًا، وعطف الفعل على الاسم لتأويله به سائغ شائع، وهو في القرآن كثير، والظرف حال من الضمير المستكن في الفعل، ولم يجعل ظرفًا لغوا متعلقا به مع صحته لعطف وَكَهْلًا عليه، والمراد: يكلمهم حال كونه طفلًا وكَهْلًا، والمقصود: التسوية بين الكلام في حال الطفولية، وحال الكهولة، وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه

السلام وليس فيه غرابة، وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال. وقيل: إن كلا منهما حال والثاني تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديدا لعمره، والمهد: مقر الصبي في رضاعه، وأصله مصدر سمي به. وكان كلامه في المهد ساعة واحدة بما قصَّ الله تعالى لنا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام، قاله ابن عباس. وقيل: كان يتكلم دائما، وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته وإرهاصا لها على ما ذهب إليه ابن الأخشيد، وعليه يكون قوله: (وَجَعَلَنِي نبيا ﴾ [مريم: ٣٠] إخبارًا عما يؤول إليه.

إقامة البرهان

۲۰۳

وقال الجبائي: إنه سبحانه أكمل عقله عليه السَّلام إذ ذاك، وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة، وجوّز أيضًا أن يكوذ ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها، والقول بأنه معجزة لها بعيد، وإن قلنا بنبوتها... والكهل ما بين الشاب والشيخ، ومنه اكتهل النبات إذا طال وقوي. وقد ذكر غير واحدٍ أن ابن آدم ما دام في الرَّحم فهو جَنِين، فإذا وُلِد فهو وليد، ثُمَّ ما دام يرضع فهو رَضِيع، ثُمَّ إذا قطع اللبن فهو في فطيم، ثم إذا دبَّ ونما فهو دارج، فإذا بلغ خمسة أشبار فهو خماسي، فإذا سقطت رواضعه فهو مَنْغُور، فإذا نبتت أسنانه فهو مُتَّغر بالتاء والثاء كما قال أبو عمرو، فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مُتَرعرع وناشئ ، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حَزَوَّر واسمه في جميع

هذه

الأحوال غلام. فإذا اخضر شاربه وأخذ عِذاره يسيل قيل قد بَقَل وجهه، فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ، فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مُجتمع، ثُمَّ ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثُمَّ كَهْل إلى أن يستوفي الستين، ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر، وخَطَه الشَّيْب. ثُمَّ يقال : شاب، ثُمَّ شَمِط، ثُمَّ شاخ، ثُمَّ كبر، ثم هَرِم، ثُمَّ دَلِف، ثُمَّ خَرِف، ثُمَّ أَهْتَر ومحا ظله إذا مات وهذا الترتيب إنما هو في الذكور...»، ثُمَّ ذكر الترتيب في الإناث، ثُمَّ قال: وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه السَّلام كَهلا تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه ذلك السنّ بناء على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما أنه عليه السَّلام رفع

٢٠٤

كتاب الإيمان

إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى فيها أربعا وعشرين سنة كما رواه ابن جریر بسند صحيح عن كعب الأحبار، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: قد كلّمهم عيسى عليه . السلام في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذٍ كَهْل».اهـ قلت: الصحيح أنَّ عيسى عليه السَّلام يمكث في الأرض بعد نزوله

أربعين سنة كما جاء في الحديث الصحيح.

أنَّ

عيسى عليه

هذا، وزعم ابن القيم في "زاد المعاد" أنَّ ما يذكر من السلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه. قال الشامي في "سيرته " : وهو كما قال فإن ذلك إنما يروى عن النصارى والمصرح به في الأحاديث أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة.اهـ ونقله الزرقاني في شرح المواهب مستشهدًا به على ما صححه مِن أنَّ عيسى ويحيى عليهما السَّلام إنما بعثهما الله بعد بلوغ أربعين سنة كسائر الرسل معللا ذلك بأن سِنَّ الأربعين هو سِنُّ الكمال.

قلت: هذا كله عن الصواب بمعزل، والعجب من ابن القيم كيف نفى وجود أثر في المسألة . مع

أنه ورد فيها حديث مرفوع، وآثار عن سعيد بن

المسيب وزيد بن أسلم وابن زيد وغيرهم من علماء التابعين.

قال الحافظ ابن كثير في "تاريخه " ما نصه: «قال الحسن البصري: كان عُمر

عيسى عليه السلام يوم رُفع أربعًا وثلاثين سنة، وفي الحديث: «أنَّ أهل الجنة

يدخلونها جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلين أبناء ثلاث وثلاثين.

وفي الحديث الآخر على ميلاد عيسى، وحُسْن يوسف». وكذا قال حماد

إقامة البرهان

٢٠٥

بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، أنه قال: رفع عيسى

عليه السلام وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . اهـ

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا هاشم بن القاسم: ثنا صفوان بن صالح: ثنا رواد بن الجراح العسقلاني: ثنا الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «يدخل أهل الجنَّة الجنَّة على طول آدم ستين ذراعًا بذراع الملك (1) على حُسْنِ يوسف، وعلى ميلاد

عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وعلى لسان محمَّدِ جُرْدُ مُرْدٌ مُكَحَلون. وأما ما رواه الحاكم في "المستدرك ، ويعقوب بن سفيان الفسوي في " التاريخ " : عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أنَّ أُمَّه فاطمة بنت الحسين حدثته أنَّ عائشة كانت تقول: أخبرتني فاطمة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله، وأن جبريل أخبرني أنَّ عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة

.

سنة، فلا أراني إلَّا ذاهبًا إلى رأس ستين (۲). فهو حديث غريب كما قال الحافظ ابن كثير في "تاريخه " . ونقل عن الحافظ ابن عساكر أنه قال: الصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا

العمر. اهـ

و ما رواه سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة قال : قالت

(۱) الملك - بكسر اللام وذراع الملك يكني به العرب عن الذراع الكامل غير المنقوص. (۲) مما يضعف هذا الحديث مخالفته لأصح الروايات وأشهرها في قَدْر عُمر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهو ثلاث وستون سنة. انظر شروح "الصححين" وكتب السير .

٢٠٦

كتاب الإيمان

فاطمة : قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّ عيسى ابن مريم مكث في

بني إسرائيل أربعين سنة». ضعيف أيضًا؛ لأنه منقطع كما قال الحافظ ابن كثير . وما جاء في "الحلية" عن زيد بن أرقم مرفوعا: «ما بعث الله نبيًّا إلا عاش نصف ما عاش النبيُّ الذي كان قبله إسناده واه كما قال المناوي في "شرح الجامح الصغير" ، وقول ابن الديبع: «إسناده حسن» غير حَسَنٍ. وحديث: «ما من نبي نبئ إلا بعد الأربعين». لا أصل له، وقد ذكره الزمخشري في تفسير سورة القصص من الكشاف"، فقال الحافظ الزيلعي في تخريج أحاديثه لم أجده، وكذا قال الحافظ ابن حجر في اختصاره لتخريج الزيلعي، بل ورد ما يعارضه. قال الطبراني في "الأوسط": حدثنا محمد بن عمر بن منصور البجلي: ثنا قتيبة بن سعيد: ثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: «ما بعث الله نبيًّا إِلَّا وهو شاب، ولا أوتي عالم علما إلَّا وهو شاب». والصحيح الذي اعتمده المحدثون والمؤرّخون كابن جرير وابن كثير وغيرهما أن . عيسى عليه السّلام أنزل عليه الوحي وهو ابن ثلاثين سنة، ومكث حتى رفع

إلي السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وهو الذي اعتمده أيضًا جمهور العلماء. قال الشهرستاني في "الملل والنحل": وجميع الأنبياء بلاغ وحيهم أربعون، وقد أوحى إليه انطاقًا في المهد وإبلاغا عند الثلاثين، وكانت مدة دعوته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام فلما رفع إلى السماء اختلف الحواريون وغيرهم فيه» . اهـ

إقامة البرهان

تنبيهان

۲۰۷

الأول: روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «من مات من أهل

الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاثين سنة في الجنة، لا يزيدون عليها أبدا، وكذلك أهل النار».

فهذا الحديث يخالف ما سبق، والجواب عنه من وجهين:

أحدهما: أنَّ إسناده ضعيف.

وثانيهما: ما ذكره ابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" وهو: «أن العرب إذا قدرت بعدد له نيف فإن لهم طريقين: تارة يذكرون النيف للتحرير كما في الأحاديث المتقدمة، وتارة يحذفونه كما في هذا الحديث. قال ابن

القيم: وهذا معروف في كلامهم وخطاب غيرهم من الأمم». اهـ الثاني: لعل أحدا يعترض ما نقلناه عن ابن زيد وغيره في تفسير الآية من أنَّ ، عيسى عليه السّلام إنما يكون كَهْلًا بعد نزوله إلى الأرض بما جاء في كتب اللغة: أنَّ الكهل من جاوز الثلاثين، وقيل من بلغ أربعا وثلاثين إلى إحدى

وخمسين.

وقد يؤيد اعتراضه بما جاء في البحر المحيط" لأبي حيان حيث قال في تفسير الآية ما نصه: «لم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلا. فقيل: كلامه قبل رفعه إلى السماء. كلمهم بالوحي والرسالة، وقيل: ينزل من السماء كهلا ابن ثلاث وثلاثين سنة. فيقول لهم إني عبدالله كما قال في المهد، وهذه فائدة قوله: وكهلا أخبر أنه ينزل عند قتله الدَّجَّال كهلا قاله ابن زيد» . اهـ

وعلى هذا يكون عيسى عليه السَّلام قد كلَّم الناس كهلا، وتحققت الآية

۲۰۸

الكريمة، ولم يكن فيها دلالة على نزوله إلى الأرض آخر الزمان.

كتاب الإيمان

والجواب : أنَّ الكهل حقيقة من بلغ أربعين سنة. مأخوذ من قولهم: اكتهل

النبت إذا تم طوله، وظهر نوره. قال الأعشى: يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ مُؤَذِّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهلُ أي منتهاه في الحسن والتمام، ولا شك أنّ سِنَّ الأربعين هو نهاية أشد

الإنسان ووقت استواء قوته وكمال عقله.

قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي

[الأحقاف: ١٥] الآية

وورد عن مجاهد تفسير الكهل بالحليم، وهو تفسير باللازم غالبا كما قال أبو حَيَّان، قال: «لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته فلا يكون في ذلك

كالشارخ». اهـ أما ما بين الثلاثين والأربعين فهو سِنُّ الشباب بدليل ما تقدَّم في كلام الآلوسي نقلا عن غير واحد وهو المنصوص عليه في "المخصص" وغيره، بل ورد الحديث به أيضًا.

روى أبو بكر بن أبي داود من طريق الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «يُبعث أهل الجنة على صورة آدم، في ميلاد ثلاث وثلاثين سنة، جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلين، ثُمَّ يذهب بهم إلى شجرة في الجنَّة فيُكسون منها لا تبلى ثيابهم، ولا يَفْنى شبابهم». فهذا الحديث نص في المسئلة كما ترى.

إقامة البرهان

۲۰۹

نعم، قد يطلق الكهل على من جاوز ثلاثين سنة كما جاء في كتب اللغة لكنه إطلاق مجازي؛ لأن الشخص إذا جاوز الثلاثين من عمره دخل في عقد الأربعين، ثم هو بحسب الغالب المعتاد في أعمار الناس واصل إلى نهاية العقد فصح تسميته كهلًا بهذا الاعتبار على سبيل المجاز المرسل، ويُسمى هذا النوع مجاز الأول.

فإن قيل: لا يتعيَّن ما ذكرته، بل يجوز أن يكون لفظ الكهل حقيقة فيمن جاوز الثلاثين، كما هو حقيقة فيمن بلغ الأربعين، ويكون من قبيل المشترك

اللفظي. فالجواب على هذا: أنَّ الاشتراك خلاف الأصل والمجاز - وإن كان مثله في ذلك فهو أولى منه، لأنه أكثر استعمالا في الكلام، حتى ادعى ابن جنِّي أَنَّ أغلب اللغات مجاز، ولهذا قال الأصوليون: إذا دار اللفظ بين أن يكون مجازا أو مشتركًا فالراجح حمله على المجاز لأنه أعم وأغلب، نص عليه الإمام الرازي في "المحصول"، وابن الحاجب في "المنتهى" ، وابن السبكي في "جمع الجوامع"

وغيرهم، قال الشوكاني في إرشاد الفحول": «وهو الحق». فما سلكناه هو المتعين من حيث القواعد اللغوية والأصولية، وبهذا يتبيَّن أنَّ مَن حَمَل قوله تعالى: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦] على أنه كلمهم بالوحي والرسالة قبل رفعه إلى السماء، حمله على معنى مجازي، والمجاز لابد له من قرينة، ولا قرينة تعين هذا المجاز في الآية.

فالواجب تفسيرها بما ذكره ابن زيد والحسين بن الفضل البجلي وغيرهما،

۲۱۰

كتاب الإيمان

واختاره الألوسي حيث لم يعرّج على غيره كما تقدم، وتكون الآية الكريمة دالة على نزول عيسى عليه السلام، ومُبَشِّرةً أيضًا بنجاته من الصلب؛ لأن اليهود تعرضوا له قبل سن الكهولة، وقد وعد الله ببلوغه إياه، فلابد من تحقق وعد الله، وذلك يقتضي أنه حي الآن كما هو ظاهر، وبالله التوفيق.

الآية الثانية

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ

قول الله تعالى في سورة المائدة: إذْ قَالَ اللَّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَذْكُرْ نِعْمَتِي عليكَ وَعَلَى وَلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا

[المائدة: ١١٠].

وهذه مثل الآية الأولى، والكلام فيها مثل الكلام فيها، ولذا قال الحافظ السيوطي في تكملة "تفسير الجلال المحلّي" عقب قوله: «وكهلا»، ما نصه: يفيد نزوله قبل الساعة لأنه رُفع قبل الكهولة كما سبق في آل عمران». اهـ وقال في (آل عمران) ما قررناه آنفًا.

(تنبيه): اشتملت هذه الآية والتي قبلها على نكتتين لطيفتين: (النكتة الأولى): الإخبار بأن عيسى عليه السَّلام يُكلِّم الناس كَهْلًا، وقد قال المفسرون: إنَّ هذا وعد من الله بأنه سيعيش إلى سن الكهولة، وهو معنى صحيح، لكن في الآية . مع هذا معنى آخر لم يُعرّجوا عليه فيهما علمت وهو الإشارة إلى أن كلامه كَهْلًا يأتي على خلاف المعتاد المعهود. فإن الناس يتكلمون كهولا وشبانًا ليس في ذلك ما يدعو إلى العجب، ولكن العجيب في

إقامة البرهان

۲۱۱

شأن عيسى عليه السَّلام أن يرفع شاباً ويغيب مئات السنين في عالم لا تجري عليه الأغيار الجسمانية، ثم ينزل ويكلّم الناس بعد ذلك كَهْلًا لا جرم أنَّ هذا أمر غريب !! استحق لغرابته أن ينوه الله به في آيتين من كتابه بطريق البشارة تارة والامتنان تارة أخرى؛ ولذا قابله في كلتا الآيتين بأمر لا يقل عنه غرابة وهو كلامه في المهد فاشتملتا بذلك على معجزتين عظيمتين، وإلى هذا أشار أحمد بن يحيى ثعلب بقوله: «ذكر الله لعيسى آيتين: تكليم الناس في المهد، فهذه معجزة، والأخرى نزوله إلى الأرض عند اقتراب الساعة كهلا ابن ثلاثين سنة يكلّم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهذه الآية الثانية» . اهـ وقوله: «ابن ثلاثين سنة لعله سبق لسان عن قوله أربعين؛ لأن عيسى رفع ابن ثلاث وثلاثين سنة.

(النكتة الثانية): التعبير بالناس حيث قال تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ ولم يقل: ويكلم بني إسرائيل، أو قومه، كما هو المعهود في كل رسول أنه يكلم قومه الذين أرسل إليهم خاصة للإشارة إلى أن الذين يكلمهم عيسى ليسوا قومه فحسب، بل هم وغيرهم ممن ينزل عليهم آخر الزمان، واقرأ قوله تعالى في سورة آل عمران في شأن البشارة بعيسى عليه السلام: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إسراءيل ﴾ [آل عمران: ٤٩].

وانظر كيف خص رسالته بقومه فقط لأنه لم يكن مرسلا إلى غيرهم، ثم قابله بقوله تعالى: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦] تجد ا تخالفا في الخصوص والعموم، مع أنهما في سياق البشارة والتنويه بعيسى

۲۱۲

كتاب الإيمان

عليه السلام، فما هذا التخالف والله أعلم إلا للنكتة التي أبديناها، وللإشارة إلى أن كلامه في حالتي طفولته وكهولته ليس بوصف كونه رسولا، فتأمل هذا جيدا واحفظه فإنه من أسرار الكتاب الكريم، وهو مما فتح الله به علي، فالحمد لله حمدًا كثيرًا.

الآية الثالثة

وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ الآية

قول الله تعالى في سورة النساء: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ١٥٩] معنى الآية: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الكتب أي ما من أحدٍ من أهل الكتاب إلا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ أي بعيسى عليه السلام، وذلك عند نزوله آخر الزمان حاكما بهذه الشريعة المحمدية داعيًا إليها، فلا يبقى يهودي ولا نصراني إذ ذاك إلَّا آمن به أنَّه عبدالله ورسوله، وتصير الملل كلها مِلَّة واحدة هي مِلَّة الإسلام، وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي على اليهود شَهِيدًا يشهد على مَنْ كَفر به منهم وكذَّبه وافترى عليه. : فالضميران في «به»، وفي «موته عائدان على عيسى عليه السلام وراجعان إليه كما تبين، وهذا التفسير الذي ذكرناه في الآية هو تفسير أبي هريرة وابن عباس وقتادة وابن زيد وأبي مالك والحسن وغيرهم. أما تفسير أبي هريرة، فقد ثبت عنه في صحيحي البخاري ومسلم

وغيرهما، وأوردناه بأسانيده في أول أحاديث النزول، فلا حاجة إلى إعادته.

إقامة البرهان

۲۱۳

وأما تفسير ابن عباس، فرواه الفريابي وعبد بن حميد الكشي والحاكم وغيرهم عنه في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، قال : خروج عيسى عليه السلام وصححه الحاكم، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق بعضها صحيح عن ابن عباس في قوله: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، قال : قبل موت عيسى». وروى ابن جرير عنه أيضًا في الآية نفسها قال: يعني أنه سيدرك أناس من أهل الكتاب حين يبعث

عیسی فیؤمنون به.

وأما تفسير قتادة فرواه ابن جرير عنه: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قبل موته قال : قبل موت عيسى إذا نزل آمنت به الأديان كلها، ورواه أيضًا من طريق آخر نحوه.

وأما تفسير ابن زيد، فرواه ابن جرير عنه في قوله: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوْتِهِ قال : إذا نزل عيسى فقتل الدجال لم يبقَ يهودي في الأرض إلَّا آمن به.

وأما تفسير أبي مالك، فرواه ابن جرير أيضًا عنه في قوله: ﴿ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ موته قال : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم لا يبقى أحدٌ مِن أهل الكتاب إِلَّا

ليؤمنن به.

وأما تفسير الحسن، فقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي: ثنا علي بن عثمان اللاحقي: ثنا جويرية بن بشير قال: سمعت رجلًا قال للحسن: يا أبا سعيد،

٢١٤

كتاب الإيمان

قول الله عزّ وجلَّ: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ؟ قال: «قبل موت عيسى، إنَّ الله رفع إليه عيسى وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر».

وروى ابن جرير عنه نحوه من طرق متعددة، وهذا هو المتعين الذي لا يجوز غيره ولا يصح سواه، والدليل عليه أمور:

أحدها: أنه قول أبي هريرة وابن عبّاس وهما صحابيان جليلان شاهَدَا التنزيل، وعرفا مقاصده بسليقتهما العربية وبتلقيهما عن الرسول صلى الله عليه

وآله وسلم. ثانيها: أنه موافق للأحاديث المتواترة التي صرَّحت بنزول عيسى عليه السلام وأنَّ جميع الكتابيين يؤمنون به بعد نزوله، وتصير الملل كلها مِلَّة واحدة، ولهذا كان أبو هريرة إذا روى حديث: والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَما عَدْلًا فيكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحدٌ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين». يقول عقبة واقرأوا إن شئتم وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾

للإشارة إلى أنَّ الحديث يُفسّر الآية ويُعيّن المراد منها فهما متطابقان متوافقان. ثالثها: أنَّ المتحدث عنه في الآيات قبل هذه الآية هو عيسى عليه السلام، اقرأ قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِشَايَتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حق ... [النساء: ١٥٥] الآيات. تجد الكلام مسوقا لتبرئة عيسى عليه السَّلام

إقامة البرهان

٢١٥

تما رُمي به، فوجب أن تكون الضمائر كلها راجعة إليه، أخذا بدلالة السياق، وعملا بما توجبه قواعد اللغة العربية التي نزل بها القرآن العظيم، ولا يجوز

العدول عن هذا إِلَّا لمقتض يقتضي ذلك، ولا مقتض للعدول هنا البتة. رابعها أنه لو أعيد الضمير في «به» أو في «موته» على غير عيسى عليه

السلام لوجب أن يكون مرجع أحد الضميرين غير مرجع الضمير الآخر، وفي ذلك تشتيت للضمائر من غير أن تكون قرينة في اللفظ تدل عليه، بخلاف ما لو عادا إلى عيسى عليه السَّلام، فإنَّ الكلام يستقيم على وتيرة واحدة من غير تشتيت ولا تعقيد.

أَمَّا مَن ادَّعى أنَّ الضمير في موته عائد إلى الكتابي، والمعنى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أي بعيسى عليه السلام قبل موت الكتابي، وذلك إذا عاين قبل أن تزهَقَ رُوحه، فتمسك بما جاء عن ابن عباس أنه فشره بذلك. فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال: لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال: وإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال: يتكلم بها في الهواء، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به وجاء عن مجاهد وعكرمة والضَّحَّاك وابن سيرين نحو ذلك. وبأن قراءة أبي ابن كعب في هذه الآية: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩] بضم النون من ليؤمنن»، وضمير الجمع في «موته»، وهي تعين عود الضمير على الكتابي، وإنما جمع الضمير باعتبار أن أحدًا المقدر في الآية في معنى الجمع.

والجواب: أنَّ الذي استفاض عن ابن عبّاسٍ وصح عن أبي هريرة وغيره،

٢١٦

كتاب الإيمان

هو القول الأول دون الثاني، ولو فرضنا صحة القولين عنه فيرجح الأول منهما بموافقته للحديث المتواتر ولقواعد اللغة العربية كما قدمناه آنفًا - فيتعين المصير إليه، وقراءة أبي شاذة لا يجوز الاحتجاج بها، كما لا تجوز تلاوتها بناءًا على ما صححه إمام الحرمين، وأبو نصر القشيري، وابن السمعاني، وابن الحاجب، وغيرهم، من عدم جواز الاحتجاج بالقراءة الشَّاذَّة . وهو مذهب مالك، وقال النووي: إنه مذهب الشافعي؛ لأنها نُقلت آحادًا فيما تتوفر الدواعي على نقله تواترا، ولأنها قد تكون مذهبًا لصاحبها كقراءة ابن مسعود،

فإن كثيرًا منها تفسيرات بحسب اجتهاده ولو جوزنا الاحتجاج بها بناءًا على ما صححه ابن الشبكي من إجرائها تجرى الآحاد، فذلك حيث لا يوجد ما هو أقوى منها، وفي هذا الموضع وُجد الحديث المتواتر الذي عين المراد من الآية كما

تقدم عن أبي هريرة وغيره، والمتواتر مقدم على الآحاد إجماعا. قال الحافظ ابن كثير في الكلام على هذه الآية ما نصه: «قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، ولا شك أنَّ هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى عليه السَّلام وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة - ذلك، فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، وانها شبه لهم فقتلوا الشَّبَه وهم لا يتبيَّنون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وأنه باق حي، وأنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها قريبا إن شاء الله، الضلالة، ويكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية يعني:

فيقتل مسيح

لا يقبلها من أحدٍ من أهل الأديان بل لا يقبل إلَّا الإسلام أو السيف. فأخبرت

إقامة البرهان

۲۱۷

عن

هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلّف . التصديق به واحد منهم ولهذا قال وإن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ ﴿

موته، أي قبل موت عيسى الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء، وبعد نزوله إلى الأرض. أمَّا مَن فسَّر هذه الآية بأنَّ المعنى أنَّ كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصَّلاة والسَّلام فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به، ولكن لا يكون إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْكَنَ * [النساء: ۱۸]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّارَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [غافر: ٨٤]

الآيتين. لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا، بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى وبقاء حياته في السماء، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم

القيامة ليُكذِّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى». اهـ كلامه.

وقال أيضًا - بعد أن نقل قول الحسن الذي ذكرناه بإسناده فيما تقدم قريبا ما لفظه وكذا قال قتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وهذا

القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله». اهـ

ويعني بالدليل القاطع الأحاديث المتواترة في نزول عيسى عليه السلام كما

۲۱۸

كتاب الإيمان

هو واضح.

وقال الإمام العلامة أبو حَيَّان في البحر المحيط " ما نصه: «والظاهر أنَّ الضميرين في «به» وفي «موته عائدان على عيسى عليه السلام، وهو سياق

الكلام، والمعنى: من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحدٌ مِن أهل الكتاب إِلَّا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة، وهي مِلَّة الإسلام، قاله ابن عباس والحسن

وأبو مالك». اهـ

وبهذا يرد قول العلامة الآلوسي: إن عود الضمير في موته على عيسى غير ظاهر» ذلك أنَّ أبا حَيَّان مع تقدمه في التفسير والحديث- إمام في اللغة العربية والنحو والقراءات غير مُنازع، بل لا يُعلم فيمن تكلم على تفسير القرآن أنحى منه، فهو حين استظهر عود الضميرين على عيسى عليه السلام

إنما استظهر ما اقتضته قواعد اللغة العربية التي بَرَّز فيها على غيره حتى

ألقت

إليه بالمقاليد. وأمَّا مَن ادعى عود الضمير في به على محمد عليه الصَّلاة والسَّلام وهو منقول عن عكرمة فقد أغرب في الدعوى، وأتى بما لا يستطيع أن يقيم عليه دليلًا، بل لو تأمل هذا القائل قليلا وأدرك ما يلزم على قوله هذا مِن الزَّكَاكة التي يتنزه عنها القرآن لعدل عن كلامه معترفاً ببطلانه، وقد قال ابن جرير في إبطاله ما نصه:

وأما الذي قال: عني بقوله: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوْتِهِ ليؤمنن بمحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلّم قبل موت الكتابي فمما لا وجه له مفهوم، لأنه لم يجر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم في الآيات التي قبل ذلك ذكر فيجوز صرف الهاء التي في

إقامة البرهان

۲۱۹

قوله: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ إلى أنها من ذكره، وإنما قوله: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ في سياق ذكر عيسى وأمه عليهما السلام، واليهود، فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلَّا بحُجَّةٍ يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول تقوم به حُجَّةٌ، فأما الدعاوى فلا تتعذر على أحد». (تنبيه): تبيَّن مما أوردناه من الأدلة أنَّ احتمال عود الضمير في «موته» على

الكتابي ضعيفة، واحتمال عوده في «به» على غير عيسى عليه السلام باطل، والاحتمالات الضعيفة والباطلة لا تنهض للحُجِّية، ولا تقوى للاستمساك فتكون الآية الكريمة نصاً في حياة عيسى عليه السلام ونزوله بمعونة ما ذُكر، واللفظ يكون نصا بنفسه تارة، وبما يضمُّ إليه من القرائن تارةً أخرى، وليس كل احتمال في اللفظ يؤثر في نصوصيَّته كما يتوهم كثير ممن لم يحكموا قواعد علم الأصول.

الآية الرابعة

وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَ بِهَا ﴾

قول الله تعالى في سورة الزخرف في الكلام على عيسى عليه السلام: وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرنَ بِهَا ﴾ [الزخرف: ٦١] أي وإنَّ عيسى عليه السلام لعلم للساعة تُعلّم بنزوله فلا تشكنَّ فيها بهذا فسَّرها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله

وسلم. قال ابن حِبَّان في "صحيحه": «ذِكْر البَيان بأن نزول عيسى ابن مريم من أعلام الساعة. أخبرنا محمد بن الحسن بن الخليل: حدثنا هشام بن عمار : ثنا

۲۲۰

كتاب الإيمان

الوليد بن مسلم ثنا شيبان بن عبدالرحمن، عن عاصم، عن أبي رزين، عن أبي يحيى مولى ابن عَفْراء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ قال: «انزول عيسى ابن مريمَ مِن قبل يوم القيامةِ». ، هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وعاصم من أئمة القراء المشهورين. وجاء عن ابن عباس وأبي مالك والحسن ومجاهد وقتادة والسُّدِّي والضَّحَّاك وابن زيد وغيرهم مثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وآثارهم مروية في تفسير ابن جرير بأسانيد مختلفة وطرق متعددة، كلها تصرح بأن المراد بالآية نزول عيسى عليه السلام قبل قيام الساعة، وهذا التفسير هو المتعيّن الذي لا يجوز في الآية غيره، والدليل عليه أمور:

أحدها: أنه الذي صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدَّم. ثانيها: أن سياق الكلام في عيسى عليه السَّلام اقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَمًا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَلِهَتُنَا خَيْرُ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَا بَلْ هُمْ قَوْمُ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدُ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَهُ مَثَلًا لبني إسراءيل ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَيْكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ

لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَ بِهَا وَأَتَّبِعُونَ هَذَا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمُ } [الزخرف: ٥٧ - ٦١] فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلَّا بحُجَّةٍ يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول تقوم به حُجَّة كما قال ابن

جرير فيما سبق.

ثالثها: أنه لو أعيد الضمير على غير عيسى عليه السلام كما قيل لأوجب

إقامة البرهان

ذلك رَكَّةٌ في اللفظ تتنزه عنها بلاغة الكتاب الحكيم. قال العلامة الآلوسي ما نصه: «وعن الحسن وقتادة وابن جبير أ

۲۲۱

أن ضمير

«إنه» للقرآن لما أنَّ فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضًا،

وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق.

وقالت فرقة يعود على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقد قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وفيه من البعد ما فيه، و كأن هؤلاء يجعلون ضمير: «أم هو،

وضمير: إن هو » له صلَّى الله عليه وآله وسلم أيضًا وهو كما ترى».اهـ وقال أيضًا أثناء تمحيص الأقوال ما نصه: (وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم في قوله تعالى: أم هو مع رجوعه إلى عيسى عليه السلام في قوله: إن هُوَ إِلَّا عَبْدُ - أي لا يجوز أيضًا - وفيه من فك النظم ما يجب أن يُصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولعل الرواية عن الخبر غير ثابتة» . اهـ قلت: قد تحقق ترجي الآلوسي، فإن الذي صح عن ابن عباس إعادة

الضمائر في «أم هو» ، و إن «هو» و «وإنه على عيسى عليه السَّلام، ولم يأتِ عنه خلاف هذا بإسناد ثابت، كما أنَّ قتادة لم يقل قط أنَّ الضمير في «وإنه» للقرآن،

وإنما حكاه عن غيره كما رواه عبدالرزاق وابن جرير وغيرهما فذكره مع القائلين به سهو وغفلة.

واليك نصوص المفسرين في تأييد ما ذهبنا إليه :

قال الإمام العلامة أبو حيان في "البحر" ما نصه: «والظاهر أنَّ الضمير في

۲۲۲

كتاب الإيمان

وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ : يعود على عيسى عليه السَّلام إذ الظاهر أنها عائدة عليه، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسُّدِّي والضَّحَّاك وابن زيد: أي خروجه لعلم للساعة يدل على قرب قيامها، إذ خروجه شرط من أشراطها، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان» . اهـ

وإِنَّ

وعلى هذا درج الزمخشري في "الكشاف"، والإمام الرازي في "التفسير الكبير"، ومحي السُّنَّة البغوي في "تفسيره"، والخازن، والجلال المحلّي، وغيرهم. وقال الحافظ ابن كثير . ما نصه: «قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ

جبير

لِلسَّاعَةِ تقدم تفسير ابن إسحاق أنَّ المراد من ذلك ما بعث به عيسى عليه الصلاة والسَّلام من إحياء للموتى وإبراء الأَكْمَه والأبرص وغير ذلك من الأسقام، وفي هذا نظر، وأبعد منه ما حكاه قتادة عن الحسن البصري وسعيد بن أنَّ الضمير في «وإنه عائد على القرآن بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصَّلاة والسلام؛ فإنَّ السّياق في ذكره ، ثُمَّ المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة كما قال تبارك وتعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أي قبل موت عيسى عليه السَّلام وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ١٥٩] ويؤيد هذا

المعنى القراءة الأخرى وإنَّهُ لَعَلَم أي أمارة ودليل على وقوع الساعة. قال مجاهد: «وإنه لعلم للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسَّلام قبل يوم القيامة». وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضَّحَّاك وغيرهم، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه أخبر بنزول عيسى قبل

إقامة البرهان

۲۲۳

يوم القيامة إمامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا» . اهـ

وقال العلامة الآلوسي في "روح المعاني": "وَإِنَّهُ أي عيسى لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ أي أنه بنزوله شرط من أشراطها أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما يُنكره الكفرة الواقعة في الساعة، والحصر إضافي باعتبار أنه أعظم العلامات...»، ثم قال: «وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السَّلام». وذكر شيئًا منها فأشار بذلك إلى تعين الاحتمال الأول الذي بدأ به. والواقع أنَّ الآية الكريمة نص فيه وتلك الاحتمالات وإن كانت جائزة بحسب الأصل فلا أثر لها هنا أصلا، إذ ليس كل احتمال يؤثر في نصوصية اللفظ كما نبهنا عليه قريبًا، وقد اختار الإمام الرازي في "المحصول" أنَّ الدليل اللفظي يفيد اليقين إذا انضمت إليه قرينة من مشاهدة أو تواتر، قال

التاج الشبكي: «وهذا هو الحق»، وصححه مُحققوا الأصوليين أيضًا. وأنت إذا رأيت الأحاديث المتواترة الناطقة بأن نزول عيسى من أشراط الساعة علمت علم اليقين أنَّ هذا المعنى هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ الساعة لا سيما وقد عينه في هذه الآية بخصوصها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأي أثر لاحتمال مظنون مع وجود هذا الدليل القاطع؟! وقد بلغنى أنَّ أزهريًا احتج على صاحب الفتيا الذي نرد عليه بهذه الآية وقال: إنها نص في الموضوع، فمنع ذلك بعض الحاضرين ممن له منصب كبير في الأزهر، وأسند منعه بأنه على فرض عود الضمير إلى عيسى يبقى الاحتمال فيه، هل ذلك من حيث نزوله، أو من حيث ولادته بغير أب؟ أو من حيث

٢٢٤

كتاب الإيمان

إحياؤه الموتى، فانقطع ذلك الأزهري ولم يحرر جوابًا. وهذه غفلة شديدة من المستدل والمانع منشأها عدم إحكام قواعد الأصول، والبعد عن علم الحديث الشريف الذي لا غنى للعالم عنه، بل لا يستحق الشخص أن يسمَّى عالما بدونه، وليت شعري إذا كان كل احتمال يمنع نصوصية اللفظ كما يتوهمون، فكيف أجمع علماء الإسلام على القطع بالوجوب

في نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَوَةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ ﴾ [البقرة: ٤٣] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: ۳۸] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جلْدَة [النور: ۲]؟!! مع أنَّ هذه الأوامر تحتمل غير الوجوب في حد ذاتها وإنما استفيد القطع بالوجوب فيها من قرائن خارجة عنها، فلتكن الآيات الدالة على نزول عيسى في القطع بمضمونها كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل

بعض ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار الدالة على نزول عيسى عليه السلام

جاء عن أبي هريرة وابن عباس آثار كثيرة تقدم بعضها ويأتي، وتركنا باقيها

اختصارًا.

وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: ينزل عيسى ابن مريم فإذا رآه الدجال ذاب كما تذوب الشحمة ، فيقتل الدَّجّال، وتَفرَّق عنه اليهود فيقتلون

حتى أنَّ الحجر ليقول : يا عبد الله - للمسلم - هذا يهودي فتعال فاقتله». وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: إن المسيح ابن مريم خارج قبل

يوم القيامة.

إقامة البرهان

٢٢٥

وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الطفيل -وهو صحابي- قال: «كنت بالكوفة فقيل: قد خرج الدَّجَّال، فأتينا حذيفة بن أسيد فقلت: هذا الدَّجَّال قد خرج فقال: اجلس فجلست فنُودي إنها كذبة صباغ، فقال حذيفة: إنَّ الدجال لو خرج زمانكم لرمته الصبيان بالخزف، ولكه يخرج في بُغْضِ مِن الناس، وخِفَّةٍ من الدّين، وسُوءِ ذات بَيْن، فيَرِدُ كُلَّ منهل، وتُطْوَى له الأرض طي فروة الكبش، حتى يأتى المدينة فيغلب على خارجها ويمنع داخلها، ثُمَّ جبل إيلياء فيحاصر عصابةً من المسلمين فيقول لهم الذي عليهم: ما تنتظرون بهذا الطاغية أن تقاتلوه، حتى تلحقوا بالله أو يفتح لكم؟ فيأتمرون أن يقاتلوه إذا أصبحوا، فيصبحون ومعهم عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال ويهزم أصحابه». وروى الترمذي من طريق عثمان بن الضَّحَّاك، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، وعيسى ابن مريم عليهما السّلام يدفن معه. قال أبو مودود:

وقد بقي من البيت موضع قبر». قال الترمذي: حديث حسن غريب». ورواه الطبراني من هذا الطريق أيضًا بلفظ : يدفن عيسى ابن مريم مع

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وصاحبيه، فيكون قبره رابعا». قال الحافظ الهيثمي : فيه عثمان بن الضَّحَّاك، وثقه ابن حِبَّان، وضعفه أبو داود، وقد ذكر المزي هذا في ترجمته وعزاه إلي الترمذي، وقال: «حسن»، ولم أجده في "الأطراف".اهـ

قلت: هو موجود في سنن الترمذي" في أوائل أبواب المناقب، وفي أبواب فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.

٢٢٦

كتاب الإيمان

وعثمان بن الضَّحَّاك الذي ضعفه أبو داود هو الحزامي، وهو غير عثمان بن

الضَّحَّاك المذكور في هذا السَّند كما يُعلم من "تهذيب التهذيب". وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن شهر بن حوشب عن محمد بن علي -

هو ابن الحنفية - في قوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: «ليس من أهل الكتاب أحدٌ إلَّا أنته الملائكة يضربون وجهه ودبره، ثُمَّ يقال له : يا عدو الله ، إنَّ عيسى رُوح الله وكلمته، كذبت على الله وزعمت أنه الله، إن عيسى لم يمت، وإنه رفع إلى السماء وهو نازل قبل أن تقوم الساعة فلا يبقى يهودي، ولا نصراني إلَّا آمن به».

وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حَوْشَبِ قال: «قال لي الحجاج : يا شَهْرُ، آيةٌ من كتاب الله ما قرأتها إلَّا اعترض في نفسي منها شيء، قال الله: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وإني أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئًا. فقلت : رُفعت إليك على غير وجهها، إِنَّ النصراني إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله ومِن دُبُره، وقالوا: أي خبيث إنَّ المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة؛ عبدالله وروحه وكلمته. فيؤمن به حين لا ينفعه إيمان، وإنَّ اليهوديَّ إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبدالله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه إيمان فإذا كان عند نزول عيسى آمنت

به

أحياؤهم كما آمنتُ به موتاهم فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن

:

علي. قال: لقد أخذتها مِن مَعْدِنها. قال شَهر وأيم الله ما حدثنيه إِلَّا أَمُّ سلمة،

إقامة البرهان

۲۲۷

ولكني أحببت أن أغيظه». اهـ

أي بذكر عليّ ؛ لأن الحَجّاج كان يبغض عليًّا وأولاده رضي الله عنهم بغضا

شديدا.

وأخرج نعيم في كتاب "الفتن" عن كعب الحبر التابعي الثقة باتفاق أهل الشأن، قال: «يحاصر الدَّجَّال المؤمنين ببيت المقدس فيصيبهم جوع شديد حتى يأكلوا أوتار قسيّهم من الجوع، فبينما هو على ذلك إذ سمعوا صوتا في الغَلَس، فيقولون: إن هذا الصوت رجل شبعان فينظرون فإذا بعيسى ابن مريم، وتقام الصلاة فيرجع إمام المسلمين المهدي فيقول عيسى: تقدَّم فلك أقيمت الصلاة،

فيصلي بهم تلك الليلة، ثم يكون عيسى إماما بعده».

وقال ابن أبي شيبة في "المصنف": ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: «المهدي من هذه الأُمَّة وهو الذي يؤم عيسى ابن مريم عليه السلام».

فصل

في ذكر نصوص فقهاء الأُمَّة وعلماء الإسلام

المصرحة بنزول عيسى عليه السلام.

جاء في "الموطأ" ما نصه: «ما جاء في صفة عيسى ابن مريم والدجال: مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: رأيتني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلًا آدم كأحسن ما أنت راءٍ مِن أُدم الرجال له لِمَّةٌ كأحسن ما أنت راءٍ مِن اللّمَم، قد رجلها فهي تقطر ماءً، متكنّا على رَجُلين أو على عواتق رَجُلين يطوف بالكعبة، فسألت: من هذا؟ قيل: هذا

۲۲۸

كتاب الإيمان

المسيح ابن مريم، ثُمَّ إذا أنا برجلٍ جَعْدِ قَطَطِ أَعْوَر العين اليمنى كأنها عِنَبَةٌ طافية، فسألت: من هذا؟ فقيل لي: هذا المسيح الدجال».

قال الإمام الفقيه الحافظ أبو الوليد الباجي في المنتقى أثناء كلامه على هذا الحديث ما نصه: وفي العتبية" عن مالك قال: بينما الناس قيام يستمعون

لإقامة الصلاة فتغشاهم غمامة فإذا عيسى ابن مريم قد نزل . اهـ ونقله العلامة الأبي أيضًا في "شرح مسلم"، وقال الإمام الفقيه الحافظ أبو جعفر الطحاوي في كتابه "اعتقاد أهل السنة والجماعة" على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن ما نصه: ونؤمن بخروج ا الدجال

الأعور اللعين، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء» . اهـ قال الأستاذ الكوثري: وقد تلقى الطحاوي علوم هؤلاء في الاعتقاد والعمل عن سليمان بن شعيب الكيساني وبكار ابن أبي قتيبة، وابن أبي عمران، وأبي خازم. فالأول عن أبيه، عن محمد، عن أبي يوسف وأبي حنيفة. والثاني عن هلال بن يحيى، عن زفر وأبي يوسف عن أبي حنيفة. والثالث عن ابن سماعة وبشر بن الوليد، فالأول عن محمد وأبي يوسف والثاني عن أبي يوسف. والرابع عن عيسى بن أبان، عن محمد» . اهـ

وروى ابن أبي يعلى في "الطبقات"، والخلال، وابن الجوزي في "المناقب" عن عبدوس بن مالك أبي محمد العطار قال: سمعت أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: «أصول السُّنَّة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة،

إقامة البرهان

۲۲۹

وترك المراء والجدال والخصومات في الدين، والسُّنَّة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم والسُّنَّةَ تُفسر القرآن - وهي دلائل القرآن- وليس في السُّنَّة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء، وإنما هو الاتباع وترك الهوى، ومن السُّنَّة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ولم يؤمن بها لم يكن من أهلها الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها، ولا يقال : لِمَ؟ ولا كيف ؟ إنما هو التصديق والإيمان، ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كُفي ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به والتسليم له مثل حديث الصادق المصدوق - يعنى حديث ابن مسعود- ومثل ما كان مثله في القضاء والقدر، ومثل أحاديث الرؤية كلها، وإن نبت عن الأسماع واستوحش منها المستمع فإنها عليه الإيمان بها، وأن لا يرد فيها حرفًا واحدًا وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث الصحاح، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قد رأى ربَّه؛ فإنه مأثور عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صحيح (۱) ) محيح رواه قتادة

عن عكرمة، عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس ورواه علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس. والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به على ظاهره

(۱) هذا أحمد يحتج في العقائد بحديث الآحاد وسيأتي مثل ذلك في كلام الأشعري منقولا عن أهل الحديث فتنبه.

۲۳۰

كتاب الإيمان

ولا نناظر فيه أحدا، والإيمان بالميزان يوم القيامة كما جاء: «يوزن العبد يوم القيامة فلا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وتوزن أعمال العباد كما جاء في الأثر، والتصديق به والإعراض عمن ردَّ ذلك وترك مجادلته...»، وذكر الإيمان بالحوض والشفاعة وعذاب القبر وسؤال منكر ونكير ثم قال ما نصه: والإيمان بأن المسيح الدَّجّال خارج مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأنَّ ذلك كائن وأنَّ عيسى ابن مريم عليه السّلام ينزل فيقتله بباب لد». هذا كلام الإمام أحمد رضي الله عنه.

وقال أيضًا في الرسالة التي كتبها إلى مُسدَّد في بيان سنة النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ما نصه: (والدَّجَّال خارج في هذه الأمة لا محالة، وينزل عيسى ابن مريم إلى

الأرض فيقتله بباب لد» . اهـ وانظر بقيتها في "مناقب أحمد" لابن الجوزي. وقال إمام أهل السُّنَّة أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " ما نص المراد منه جملة ما عليه أهل الحديث وأهل السنة:

الثقات

الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه ا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لا يردون من ذلك شيئًا، وأنَّ الله تعالى إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنَّ محمدا عبده ورسوله، وأنَّ الجنة حق، وأنَّ النَّار حقٌّ، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور، ويُقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأنَّ الحوض حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، والمحاسبة من الله لعباده حقٌّ، والوقوف بين يدي الله تعالى حق، ويؤمنون بأنَّ الله تعالى يُخرج قوما من الموحدين مِن النَّار على ما جاءت

إقامة البرهان

۲۳۱

به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وينكرون الجدال والمراء في الدين، والخصومة في القَدَر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلا . عن عَدْلٍ حتي ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقولون: «كيف»؟ ، ولا «لِـمَ»؟ لأن ذلك بدعة، ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويأخذون

:

بالكتاب والسُّنَّة كما قال تعالى: فَإِن نَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: ٥٩] ويرون اتباع مَن سَلَفَ مِن أئمة الدّين، وأن لا يتبعوا في دينهم ما لم يأذن الله به، ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال، وبعد ذلك يرون الدُّعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأن لا يخرج عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وأنَّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسَّلام يقتله، ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، وأنَّ الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم، ويُقرون أنَّ الجنَّة والنار مخلوقتان، وأنَّ الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، وأنَّ الصالحين قد يجوز أن يخصهم تعالى بآيات تظهر عليهم، وأنَّ السنة لا تنسخ بالقرآن، ويدينون بعبادة الله في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر، ويرون مجانبة كل داع إلي بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكفّ الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشارب.

الله

۲۳۲

كتاب الإيمان

فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ،ویرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم

نقول وإليه ذهب. انتهى ما أردنا نقله من كلام الأشعري بلفظه. وقد نقله بتمامه ابن القيم في أول كتابه "حادي الأرواح إلي بلاد الأفراح" مستشهدا به لما ذكره من إجماع أهل السُّنَّة على أنَّ الجنَّة و النَّار مخلوقتان اليوم، وقال عقبه ما نصه: «وسقنا جملة كلامه ليكون الكتاب مؤسسا على معرفة من

يستحق البشارة المذكورة - يعني البشارة بالجنَّة ورضوان الله - وأنَّ أهل هذه المقالة - يعنى العقيدة- هم أهلها». اهـ وقال الحافظ أبو الحسين الآبري في مناقب" الشافعي" في الكلام على إبطال حديث: «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم»، وإثبات أنَّ المهدي غير عيسى ما نصه: (وقد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم في المهدي أنه من أهل بيته وأنه يملأ الأرض عَدْلًا، وأنَّ عيسى عليه الصلاة والسَّلام يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى خلفه في طول مِن قِصَّته وأمره» . اهـ نقله الإمام القرطبي في " التذكرة" والحافظ ابن حجر في "الفتح" وسلَّماه.

ولما ذكر الإمام الحافظ ابن حزم في مسائل التوحيد من كتاب "المحلى" أنَّ شريعة الإسلام ناسخة لسائر الشرائع، وأنَّ نبينا خاتم النبيين لا نبي بعده قال ما نصه: «مسألة: إلَّا أنَّ عيسى ابن مريم سينزل واستدل بحديث جابر أسنده

من طريق مسلم. وقال في كتاب الأطعمة من "المحلى" أيضًا في الكلام على حرمة الخنزير وجواز قتله بعد أن ذكر حديثي أبي هريرة وجابر في نزول عيسى ما نصه: «فصح أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم صوّب قتل عيسى عليه

إقامة البرهان

السَّلام للخنازير، وأخبر أنه بحُكم الإسلام ينزل وبه يَحْكُم» . اهـ

۲۳۳

وقال القاضي عياض في شرح "مسلم" ما نصه: «نزول عيسى عليه السَّلام وقتله الدَّجَّال حقٌّ، وصحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في

ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته.

وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أنَّ هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠] وبقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا نبي بعدي» وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ. وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسي عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حَكَمًا مقسطا بحكم شرعنا، ويُحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس». اهـ نقله الإمام النووي في "شرح مسلم" ووافقه عليه.

وقد ورد عن المغيرة ابن شعبة في الجمع بين أحاديث النزول وآية خاتم النبيين غير ما سلكه هؤلاء المبتدعة، فروى الطبراني من طريق مجالد بن سعيد، عن الشعبي قال: قال رجل عند المغيرة بن شعبة: صلى الله على محمد خاتم الأنبياء لا نبي بعده. فقال المغيرة: حسبك أن تقول خاتم الأنبياء، فإنا كنا

تحدث أن عيسى ابن مريم خارج، فإن كان خارجا فقد كان قبله وبعده. وهذا الأثر ضعيف الإسناد لا يصح، وقد كان المغيرة ذكيا بالغا حد الدهاء؛ فلا يخفى عليه أن نزول عيسى تابعًا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم

٢٣٤

كتاب الإيمان

وعاملا بشريعته لا ينافي حديث: «لا نبي بعدي» كما مر في كلام عياض آنفًا، والقاديانية ينسبون الأثر المذكور إلى عائشة رضي الله عنها كذبا عليها، ويحذفون منه خروج عيسى عليه السَّلام؛ ليتسنى لهم أن يقولوا: إِنَّ قوله تعالى : وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠] - بفتح التاء- لا يدل على انقطاع النبوة،

ناسين قراءة خاتم بكسر التاء وهي تعين الآخرية كما لا يخفى. وقال الشهرستاني في "الملل والنحل" في الكلام على اختلاف النصارى في عيسى عليه السّلام ما نصه: ولهم في النزول خلاف فمنهم من يقول: ينزل يوم القيامة كما قال أهل الإسلام» . اهـ

وقال الإمام القرطبي في شرح" "مسلم" وهو شيخ القرطبي صاحب التفسير والتذكرة في الكلام على حديث جبريل الطويل عند قوله فأخبرني عن أماراتها ما نصه: وهي أي أَمَارات الساعة تنقسم إلى معتاد كالمذكورات، وكرفْعِ العِلْم وظهور الجهل، وكثرة الزنا وشرب الخمر، وغير معتاد كالدجال، ونزول عيسى عليه السَّلام، وخروج يَأْجُوج ومَأْجُوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها . اهـ نقله العلامة الأبي وقال عقبة ما نصه: قال ابن رشد - يعنى الجد - واتفقوا على أنه لابد من ظهور هذه الخمسة - يعني الدَّجَّال وما بعده واختلفوا في خمسة أخر: خَسْفُ بالمشرق وخسف بالمغرب، وخَسْفٌ بجزيرة العرب، والدُّخَان، ونار تخرج مِن قَعر

عَدَنٍ تروح معهم حيث راحوا وتقيل معهم حيث قالوا، زاد بعضهم وفتح قسطنطينية، وظهور المهدي».اهـ ونقل الأبي أيضا في "شرح مسلم" عن ابن رشد ما نصه: «وفي "العتبية"

إقامة البرهان

٢٣٥

كان أبو هريرة يلقى الفتى الشاب فيقول يا ابن أخي: إنك عسى أن تلقى عيسى ابن مريم فأقرئه منّي السَّلام، تحقيقا لنزوله، فما ذكر ابن حزم من الخلاف في نزوله لا يصح، وذكر الباجي حديثًا ضعيف السند أنه ينزل في عاشرة السبعين وتسعمائة» ثم قال الأبي: «ابن العربي) ويروى أنه يتزوج امرأة من بني ضبة اسمها راضية، ثُمَّ يموت ويصلّي المسلمون عليه، ويدفن في روضة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وفيها موضع قبر يقال إنما بقي له، وذكر ابن العربي الحاتمي المتأخّر أنَّ هذه المرأة ولدت في عاشرة السبعين. وولادة المرأة كذَّبها الوجود المحقق أن نزوله من الأشراط، وصح أنه الذي يقتل الدجال وبدعائه يهلك يأجوج ومأجوج... فإن قلت: بم يعرف الناس أنه عيسى؟ قلت: بصفاته التي تضمنتها الأحاديث - أي من كونه ينزل من السماء عليه ممصرتان، واضعًا يديه على أجنحة ملكين... إلخ ما تقدَّم، ويصح أن يُعرف بأن يتحدى على ذلك، لا بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأن تلك آيات إرساله وهو لا ينزل رسولا لأهل الأرض - يروي أنه يصلي وراء إمام المسلمين إبقاء الشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واتباعا له وإخزاءًا

للنصارى وإقامة للحجة عليهم» . اهـ ما أردنا نقله من شرح الإمام الأبي. وقال الإمام ابن عطية في تفسيره" ما نصه: «وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أنَّ عيسى في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير، ويكسر الصَّليب، ويقتل الدجال، ويفيض العدل، وتظهر به مِلَّة محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، ويحج البيت ويَعْتَمِر». اهـ نقله العلامة أبو حَيَّان في "البحر المحيط".

٢٣٦

كتاب الإيمان

وقال الحافظ أبو الفتح اليعمري المعروف بابن سيد الناس في "عيون

أن

الأثر" في الكلام على خبر إسلام سلمان الفارسي رضى الله عنه بعد أن ذكر سلمان اجتمع في الشام برجل يجتاز من غيضة إلى غيضة مرة في السنة، يعترضه في تلك المرة ذوو الأسقام ليدعو لهم فيشفون، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لسلمان عن هذا الرجل: إنه عيسى ابن مريم» – ما نصه: «قال .

السهيلي: وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه، فقد ذكر الطبري أن المسيح عليه السّلام نزل بعدما رُفع وأُمُّه وامرأة أخرى عند الجذع الذي فيه الصليب تبكيان، فكلمها وأخبرهما أنه لم يقتل، وأنَّ الله رفعه وأرسله إلى الحواريين، ووجههم إلى البلاد، وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا، ولكن لا يعلم به أنه هو حتى ينزل النزول الظاهر فيكسر الصَّليب ويقتل الخنزير كما جاء في الصحيح . اهـ

وقال الحافظ السيوطي في علم العقائد من كتاب "النقاية" ما نصه:

ونعتقد أنَّ نزول عيسى ابن مريم عليه السَّلام وقتله الدَّجَّالَ حَقٌّ». اهـ ثُمَّ استدل في شرحه "إتمام الدراية" ببعض الأحاديث الواردة في ذلك، وقال

العلامة السفاريني الحنبلي في منظومته "الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية" : وما أَتَى في النَّصِّ مِن أَشْرَاطِ فكلـــه حـــق بــــلا شَطَاطِ منها الإمامُ الخَاتَمُ الفَصِيحُ محمد المهدي والمسيح وقال في شرحها المسمَّى "الوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" ما نصه: «قد أجمعت الأمة على نزوله ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة،

وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة

إقامة البرهان

۲۳۷

على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس ينزل بشريعةٍ مستقلة

نزوله من السماء وان كانت نبوته قائمة به وهو متصف بها». اهـ

عند

وقال الشوكاني في كتاب التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدَّجَّال والمسيح": «إنَّ الأحاديث في نزوله عليه السَّلام كثيرة: منها تسعة وعشرون حديثا ما بين صحيح وحسن وضعيف مُنجَبِر، ومنها ما هو مذكور في أحاديث الدجال، ومنها ما هو مذكور في أحاديث المنتظر، وتنضم إلى ذلك أيضًا الآثار الواردة عن الصحابة فلها حكم الرفع؛ إذ لا مجال للاجتهاد في ذلك» . اهـ ثم ذكرها كلها وقال ما نصه: «وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على مَن له فضل اطلاع» . اهـ

ونحوه في "الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة" للقنوجي. وقال أستاذنا العلامة المحدث السيد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ما نصه: «وقد ذكروا أنَّ نزوله ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، والأحاديث في نزوله كثيرة».اهـ ثُمَّ ذكر كلام ابن رشد والشوكاني وغيرهما في التصريح بالتواتر.

وممن نص علي نزول عيسى عليه السَّلام من العلماء الحافظ عبدالغني المقدسي في كتاب أشراط الساعة ، والحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، والحافظ ابن كثير في تاريخه، والتقي السبكي في كتاب "التعظيم والمنة" والدميري في "حياة" "الحيوان وابن حجر الهيثمي في "فتاويه الحديثية والفقهية"، والبرزنجي في "الإشاعة لأشراط الساعة"، وابن الحاج في "حاشية المرشد المعين"، ناقلا فيه الاتفاق والكشميري في "إكفار الملحدين"،

۲۳۸

كتاب الإيمان

والعلامة عبد الحي اللكنوي في مقدمة "الفوائد" البهية"، وهو مجمع عليه كما تقدم في كلام غير واحد.

والخلاف الذي أشار إليه ابن حزم في مراتب" الإجماع" إنما هو خلاف بعض المعتزلة والجهمية كما يستفاد من كلام عياض السابق، وهو خلاف ساقط؛ لأنه حَدَثَ بعد انعقاد إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وأهل السُّنَّة والحديث، فلهذا لم يعتد العلماء به وحكوا الإجماع، وقال ابن رشد فيما نقلناه عنه: «إنَّ الخلاف الذي ذكره ابن حزم لا يصح - أي لا يُعتبر به ولا يُؤبه له - فلا راحة لصاحب الفتوى في هذا الخلاف ولا عذر له في اتباعه، وهو ملزم - إن أخذ به والتزمه - أن يكشف للناس عن دخيلة أمره، ويبين لهم أنه جهمي حتى يعلم المسلمون أنه من أتباع جهم بن صفوان الضال المبتدع الذي يقول عنه الذهبي: «ما علمته روى شيئًا لكنه زرع شرًا عظيمًا» . اهـ فهنيئا لمن يكون من أتباع هذا الإمام.

فصل

في كفر من أنكر نزول عيسى عليه السلام

واعلم أنَّ من أنكر نزول عيسى عليه السَّلام قبل يوم القيامة فهو كافر كما في كتاب "الإعلام بحكم عيسى عليه السَّلام" للحافظ السيوطي؛ لأنه أنكر ما تواتر عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ومنكر المتواتر كافر كما صرح به ابن دقيق العيد وابن حجر الهيثمي وأبو عبدالله محمد الطالب ابن الحاج وغيرهم، بل هو مقرر في كتب الأصول، وبهذا فارق المتواتر خبر الآحاد، وقد ورد في المسألة حديث مرفوع أحببنا أن نورده لننبه عليه.

إقامة البرهان

۲۳۹

أخرج الكلاباذي في معاني "الأخبار" عن محمد بن الحسن بن علي، عن محمد بن علي بن الحسن، عن الحسين بن محمد بن أحمد، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن ابن المنكدر ، عن جابر مرفوعا: «من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، ومن أنكر نزول عيسى فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، ومَن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم، فإِنَّ جبريل أخبرني أنَّ الله قال: مَن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فليتخذ ربا غيري». محمد بن الحسن بن علي قال الحافظ: أظنه» ابن راشد الأنصاري»، قال: وشيخه ما عرفته بعد البحث عنه . اهـ

قلت: وابن راشد ذكره الذهبي وقال: روى عن وراق الحميدي فذكر خبرا موضوعًا في الدعاء عند الملتزم». هذا كلام الذهبي. والحديث الذي ذكرناه باطل من حديث مالك، وليس له إسناد يثبت لا

(1)

من حديث مالك ولا من حديث غيره و آفته ابن راشد أو شيخه، وفيما تقرر

في كتب الأصول كفاية عنه وغناء والله أعلم.

فإن قيل: قد أنكر المعتزلة بعض السَّمعيات المتواترة ومع ذلك فالراجح عند أهل السنة عدم إكفارهم، فكيف يصح إكفار منكر نزول عيسى عليه

السلام؟!

فالجواب: أنَّ إنكار المتواتر كفر كما هو مقرَّرُ في الأصول، غير أنَّ ابن تيمية

قيد ذلك في بعض رسائله بأن يكون الإنكار بعد العلم بالتواتر؛ لقيام الحجة

(۱) وهو حديث موضوع.

٢٤٠

كتاب الإيمان

حينئذ، وقال ابن الحاج في حاشية "المرشد المعين": «إنَّ المتواتر غير المعلوم من الدين بالضرورة لا يكفر منكره إلَّا بعناد بعد التعليم». اهـ

والمعتزلة الذين أنكروا تلك المتواترات لم يكونوا يعرفون تواترها لأنهم جاهلون بالحديث الشريف، ما رووا منه شيئًا ولا عرفوه، فكان جهلهم عذرًا حائلا دون إكفارهم على أنَّ أهل السُّنَّة اتفقوا على تضليلهم؛ لإقدامهم على

مخالفة الله ورسوله بشبه فاسدة باطلة اعتقدوها أصولاً صحيحة ثابتة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

إقامة البرهان

باب

في مناقشة ألفاظ الفتوى

٢٤١

وهي منشورة في مجلة الرسالة، ويلاحظ أولا أنَّ السؤال المنشور في صدر الفتوى سأل صاحبه عن نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة في عيسى عليه السلام هل هو حي أو ميت ... إلخ.

والسائل -رغم كونه قاديانيا لا يؤمن بالسُّنَّة - طلبها في سؤاله سترا لموقفه وإتماما لحيلته، لكن صاحب الفتوى لم يحسب للسُّنَّة النبوية حسابا ولم يتعرض لها في فتواه إلا رادا ومُنكِرًا، وقصر كلامه في عيسى عليه السلام على ثلاث آيات من القرآن في ثلاث سور منه، بانيًا على ذلك ما اشتهاه من إنكار نزول عيسى وحياته ورفعه، فأخطأ من عدة وجوه:

أحدها: أنه لم يوف السؤال حقه، وذلك بعدم تعرضه للسُّنَّة. ثانيها: أنه ترك آيات من القرآن تعرضت لحياة عيسى ونزوله، وغض نظره عنها لأنها تخالف شهوته.

ثالثها: أنه أقدم على تفسير ما أورده من الآيات من غير أن يكون عنده علم بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها مما يخالف ما قال، مع أنه لا خلاف بين العلماء أنَّ أوّل ما يجب على المتكلّم في تفسير القرآن أن ينظر هل ورد عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو عن أصحابه شيء؟ فإن ورد لم يعدل عنه إلى غيره ؛ لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام مبلغ عن الله ومبين المراده، وأصحابه شاهدوا التنزيل وعرفوا أسبابه وعلموا معانيه بالقرائن والمشاهدة وصاحب الفتوى وإن لم يكن من أهل الحديث - ففرض عليه أن يرجع إلى

٢٤٢

كتاب الإيمان

كتب أهل الفن كـ تفسير ابن جرير وابن كثير"، و"القرطبي" وكـ"الصحيحين"، وشروحهما فإن الله تعالى يقول: فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ ان

كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: ٤٣]

رابعا: أنه تجرأ جرأة عظيمة حيث أعرض عن السُّنَّة النبوية إعراضا تاما ولم يذكرها إلا عند ذكر الطرف المقابل الذي لم يرتض هو قوله، وهذا مسلك لا يشرف المسلم؛ لأنه مخالفة صريحة لما اتفقت عليه أدلة النقل والعقل من وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتباع كلامه؛ لأن الله فرض ذلك وجعل رسوله حُجَّةٌ على عباده، والآيات كثيرة في إيجاب طاعة الرسول، والإخبار بأن طاعته طاعة الله من غير قيد ولا شرط، وقد روى أبو داود والبيهقي وغيرهما عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب قال : حرَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أشياء يوم خيبر من الحمار الأهلي وغيره، ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استَحْلَلْناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإنَّ ما حرَّم رسول الله مثل ما حرم الله». إسناده صحيح.

وروى أبو داود وغيره من حديث أبي رافع نحوه، قال البيهقي: «وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عما يكون بعده من رد المبتدعة

حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد.

وروى أبو يعلى وغيره عن جابر رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «عسى أن يكذِّبني رجلٌ منكم وهو متكى على أريكته، يبلغه

إقامة البرهان

٢٤٣

الحديث عني فيقول ما قال رسول الله هذا، دع هذا وهات ما في القرآن». وكأن هذا الحديث ما ورد إلا ليخبر عن هذه الفتوى الخاطئة التي تمسك صاحبها بالقرآن في زعمه، وعطف على السُّنَّة بالرد والإبطال، سالكا في ذلك سبيل الحيل من دعوى الأحادية والاضطراب والتعارض ... إلخ، والله يعلم ما يخفي وراء ذلك ومحاسبه عليه.

وقد قال مكحول والأوزاعي وغيرهما : القرآن أحوج إلى السُّنَّةَ مِن السُّنَّة إلى القرآن». وقال يحيى بن أبي كثير : السُّنَّة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب

قاضيًا على السُّنَّة». وقال ابن عبد البر: «إنها تقضي عليه وتبين المراد منه اهـ ولهذا كان عمر رضى الله عنه يقول: خذوا أهل الأهواء بالسنن فإن القرآن ذو وجوه».

والآثار عن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم أكثر من أن تحصى، ومن أراد أن يلم بشيء منها فليقرأ كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، و جامع بيان العلم وفضله للحافظ ابن عبدالبر، و"مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة" للحافظ السيوطي، وقد لخص فيه كلام من سبقه فأفاد

وأجاد.

وإنما ذكرنا هذه النصوص مع كون معناها بدهيا لكل مسلم لأننا رأينا صاحب الفتوى لا يبالي بالحديث في كتبه ومقالاته، فلا يستدل فيها إلا بالقرآن فقط، حاملا لآياته على الغرض الذي يشتهيه، محملا لها إياه إن لم تحتمله ، أمَّا السنة النبوية فلا يعرض لها إلَّا رادا ،بالتضعيف، أو منكرًا بالتأويل، أما أن يستدل بها كالقرآن فشي المنره في كتبه ولا خطر على باله فيما أحسب !! اللهم

٢٤٤

كتاب الإيمان

إلا أن يكون الحديث في شيء من الأخلاق والآداب وما إليها فيذكره حينئذ ولا يبالي أضعيف هو أم ،موضوع كأن الله وكل إليه أن يفسر القرآن بما شاء

حين يشاء، وأباح له أن يستدل بالسُّنَّة متى شاء في المعنى الذي يشاء. وبعد هذا ننتقل إلى الفتوى فنجد صاحبها يدعي أن «القرآن الكريم عرض لعيسى عليه السَّلام فيما يتصل بنهاية شأنه مع قومه في ثلاث سور». اهـ ونهاية شأن عيسى مع قومه هي التَّكَاة التي بني عليها صاحب الفتوى ما أراده، فهو يريد بها أن عيسى عليه السَّلام له مع قومه بدءً ونهاية كسائر الرسل، وقد عرض الله لنهايته مع قومه كما عرض لنهاية الرسل مع أقوامهم، وإذا فلا حياة له ولا رفع ولا نزول هذا مرمى كلامه كشفنا عنه وأوضحناه، لكن فاته أنَّ الذي أنزل عليه القرآن هو الذي أخبر بالحياة والرفع والنزول، كما أخبر بها منزل القرآن أيضًا، وفاته أن نهاية شأن عيسى مع قومه لا تحظر على الله أن يفعل ما هو جائز عليه من رفع عيسى حَيَّا وإنزاله في آخر الزمان، كما لم يحظر اعتياد ولادة الطفل من أبوين أن يخلق الله عيسى من غير أب، وربُّك على كل شيء قدير، وقد قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: ٥٠] فالتشبث بالسنن الكونية والحكم بها على خالقها قصور في العقل ونقص في الإدراك، وضلال في حكم الشرع.

ثُمَّ ذكر صاحب الفتوى قول الله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: ٥٥] وادعى أن كلمة «توفي وردت في القرآن كثيرا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب

إقامة البرهان

٢٤٥

عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلَّا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر . اهـ

ونهاية ما ادعاه - بعد تسليمه - يقتضي أن يكون التوفي ظاهرا في الموت ومما تقرر في الأصول وصار معروفًا لصغار الطلبة بله كبارهم أن اللفظ يصرف عن ظاهره لدليل، فالتوفي يجب صرفه عن الموت للنصوص الصريحة الدالة على حياة عيسى ونزوله، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة، ثم ذكر الآيات التي استعمل فيها التوفي بمعنى الموت حتى صار هو المعنى الغالب المتبادر فذكر قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَنَكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وَكَلَ بِكُمْ ﴾ [السجدة: ١١] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّهُمُ الْمَلَيْكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ﴾ [النساء: ٩٧] وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَيْكَةُ ﴾ [الأنفال: ٥٠] تَوَفَّتَهُ رُسُلُنَا ﴾ [الأنعام: ٦١] ومنكم من ينوف [الحج: 10 حَتَّى يَتَوَفَّهُنَّ الْمَوْتُ ﴾ [النساء: ١٥] تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَالْحِقْنِي بِالصَّلِحِينَ ﴾ [يوسف: ١٠١] اهـ وأقول: غفل عن أن هذه الآيات التي أوردها قد ذكر بجانبها ما يصرفها إلى الموت، ولولا ذلك لصرفت إلى معنى آخر من معاني التوفي المتواطئة، فالآية الأولى ذكر فيها ملك الموت صريحًا، والآية الثانية والثالثة ذكر فيهما الملائكة الذين يحضرون الميت لتبشيره أو تخويفه ويسمون أعوان ملك الموت، والآية الرابعة حذف صاحب الفتوى أولها الحاجة في نفسه، ونحن نذكرها، قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَتَهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } [الأنعام: ٦١] فقد ذكر فيها الموت صريحًا أيضًا كالآية السادسة والآية الخامسة حذف منها أيضًا

٢٤٦

كتاب الإيمان

قرينة الموت وأصلها هكذا هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثم يُخْرِجُكُمْ طِفَلَا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخَا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [غافر: ٦٧] فذكر التوفي من قبل بلوغ الأشد والشيخوخة، قرينة ظاهرة على أن المراد به الموت، والآية السابعة قرينتها أنها دعاء لأن من المعلوم لكل واحد أن الإنسان يدعو أن يموت علي الإسلام، إذ العبرة بالخاتمة كما جاء في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالخواتيم». وهكذا لا تجد في القرآن آية ذكر فيها التوفي مرادا به الموت إلا وتجد فيها قرينة تدل على ذلك.

وتحقيق المسألة علي وجه الإيجاز : أنَّ مادة التوفي» موضوعة في اللغة لمعنى واحد هو قبض الشيء واستيفاؤه، وهذا المعنى قدر مشترك بين قبض الروح بالنوم أو الموت، وقبض الدين، وقبض الأجر على عمل ما، وغير ذلك من المعاني التي يطلق عليها لفظ التوفي، فهو من قبيل المشترك المعنوي، والقاعدة فيه: «أنه إذا أريد فرد معين من أفراده قيد اللفظ بما يدل على ذلك الفرد»، وعلى هذا الأسلوب جاء القرآن الكريم فإنه تارة أراد بالتوفي خصوص الموت فقيد اللفظ بالقرينة الدالة عليه كالآيات السابقة وتارة أراد خصوص النوم فقيده

أيضا كقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ا [الأنعام: ٦٠] الآية، وقوله تعالى : اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ في منامها ﴾ [الزمر: ٤٢] الآية، وتارة أراد الأجر والجزاء كقوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ۲۸۱] وقوله تعالى: وَأَمَّا

إقامة البرهان

٢٤٧

به

الذين امنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ [آل عمران: ٥٧] فإذا جاء اللفظ مجردًا عن القرينة لم يجز أن يدعي أن هذا المعنى أظهر فيه من ذاك بل يحمل على أصل المعنى الذي هو القدر المشترك ويترك ما عداه إلى أن يقوم على تعيينه دليل، وبهذا البيان الوجيز ينهار ما ادعاه صاحب الفتوى في آيتي آل

عمران والمائدة ويتضح أنه غلط ليس له من التحقيق العلمي نصيب. والعجب العجاب في شأن هذا المفتي أن نجده يظهر بمظهر الحريص على التمسك بظاهر القرآن حيث يقول: ومن حق كلمة «توفيتني» في الآية أن تحمل على هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ويدركها من اللفظ ومن السياق الناطقون بالضاد . اهـ

ثم نجده في كلمة له في الشيطان يقول: إنه قوة الشر الكامنة في النفس». أي أنه عَرَض مخالفًا صريح القرآن والسُّنَّة في أنَّ الشيطان كائن حي يتكلم

.

ويوسوس ويجيء ويذهب إلى آخر أوصاف الأجسام الحية، فالذي يتمسك بظاهر القرآن في وفاة عيسى كيف يتأتى منه أن ينكر صريح القرآن والسنة في جسمية الشيطان؟!

ما هذا إلا تناقض قبيح وتلاعب بالنصوص منشأه الهوى والغرض، ثُمَّ ادعاؤه أنَّ الإماتة العادية يدركها من اللفظ ومن السياق الناطقون بالضاد فيه تعريض بالصحابة والتابعين وعلماء المسلمين الذين حملوا التوفي على قبض البدن حيا جمعا بين الأدلة كما هو الواجب، فهؤلاء كلهم لم يكونوا ينطقون بالضاد ولم يكونوا يعرفون السياق حتى جاء هو في منتصف القرن الرابع عشر فنطق ما لم ينطقوه وعرف ما لم يعرفوه، فسبحان الفتاح العليم!!

٢٤٨

كتاب الإيمان

ثم ادعى أنه لا سبيل إلى القول بأنَّ الوفاة مراد بها وفاة عيسى عليه السَّلام بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى أنه حي في السماء وأنه سينزل منها آخر الزمان. اهـ

وأقول: هذا أحد الأدلة من كلامه على أنه لا يحترم السُّنَّة ولا يقيم لها وزنًا، وإن ادعى خلاف ذلك بلسانه؛ لأن الآلوسي نقل عن قتادة في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى [آل عمران: ٥٥] قال: «هذا من المقدم والمؤخّر، أي: رافعك إلي ومتوفّيك». ثُمَّ قال الآلوسي: «وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى يعني : بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إليه [النساء: ١٥٨] وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» . اهـ

وصاحب الفتوى رأى هذا في "تفسير الآلوسي" ومنه نقل قول قتادة

بالمعنى، فماذا فعل؟

عمد إلى آية سورة النساء الصريحة كما قال الآلوسي فأولها لتوافق ظاهر آية سورة آل عمران مخالفا- ما أجمع عليه أهل الأصول أن الصريح لا يقبل التأويل وأنَّ الظاهر هو الذي يؤول ليوافق الصريح وسكت عن الحديث فلم يُعِره أذنا صاغية، بل سماه فيما بعد: «قصصا وروايات مضطربة لم يقم على الظن بها - فضلا عن اليقين - برهان، ولا شبه «برهان».

فبرهن على أنه يحترم الحديث النبوي احتراماً يتلاقى من بعض الوجوه مع احترام القاديانية له أيضًا! فليعذرنا القرَّاء إذا اشتددنا عليه في الكلام، وتلونا

٢٤٩

إقامة البرهان

عليه بعض ما يعرفه قدر سُنَّة نبينا عليه الصَّلاة والسَّلام.

الظاهري

وبعد هذا قد اتفق العلماء إلا وهب بن منبه الكتابي، وابن حزم (1) - على أنَّ قول الله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلى [آل عمران: ٥٥] مصروف عن الموت الحقيقي، ثُمَّ اختلفوا فقيل: معنى متوفيك قابضك، ومستوفي شخصك من الأرض، وقيل: معناه: منيمك ورافعك نائما رفقا بك، وقيل: جاعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه، وقيل: آخذك وافيًا بروحك وبدنك، فهو في معنى رافعك، والعطف حينئذ للتفسير وقيل: مميت قواك الشهوانية العائقة عن إيصالك بالملكوت، وقيل غير ذلك مما حكاه الآلوسي، ثم قال عقبه ما نصه: والصحيح كما قاله القرطبي أنَّ الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم وهو اختيار الطبري، والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أنَّ الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى، ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل، وحاشا الله، ما هو إلَّا افتراء وبهتان عظيم . اهـ وهذا على القول بأن الآية لا تقديم فيها ولا تأخير فإن قيل بذلك - وهو قول قتادة كما تقدم - فالتو في معناه الموت، ويكون ذلك بعد نزوله كما هو ظاهر وإنما صرف العلماء التوفي عن معنى الموت لوجود الأدلة الدالة على حياة عيسى عليه السلام، وأنه رفع إلى السماء حيًّا، فمن الأدلة قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦] ومنها قوله تعالى: وَإن

(۱) وقد قالا بنزوله أيضًا، وإنما خالفا في رفعه حيا.

٢٥٠

كتاب الإيمان

مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩] وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين.

ومنها قوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم لليهود: «إنَّ عيسى عليه السلام لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة». وقد ذكرناه من مرسل الحسن، وهو مؤيد بأحاديث وآثار ، وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم رأى في ليلة عيسى ابن مريم يطوف بالبيت، وثبت في حديث الإسراء أنهما اجتمعا في بيت المقدس، وفي السماء الثانية، ولذا عده أهل

الحديث صحابيا.

قال الحافظ الذهبي في "التجريد" : عيسى ابن مريم نبي وصحابي فإنه

رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو آخر الصحابة موتا» . اهـ وكذا الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح"، والحافظ ابن حجر في "الإصابة"، والحافظ السيوطي في "التدريب" وفي "الإعلام بحكم عيسى عليه السلام"، والصحابي عند المحدثين والأصوليين هو : من رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو اجتمع به في اليقظة لا في المنام، وفي الحياة لا بعد الممات. وحيث أن عيسى صحابي فهو أفضل من الخلفاء الأربعة بلا شك، وقد ألغز فيه التاج ابن الشبكي بقوله: من باتفاق جميعِ الخَلْقِ أَفضلُ مِــنْ خير الصِّحَابِ أبي بكرٍ ومِن عُمَر ومن علي ومن عثمان وهو فتى مِن أُمَّة المصطفى المختار من مضر قال العلامة أبو عبدالله محمد الطالب ابن الحاج في حاشية المرشد:

إقامة البرهان

وجوابه

٢٥١

ذاك ابنُ مريمَ رُوح الله حيث رأى نبينا المصطفى في أحسن الصُّورِ فوق السمواتِ ليلا عندما اجتمعا كذاك عنــد ظـراب البيت والحـجـر ومنها قوله تعالى: بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: ١٥٨] وهذه الآية نص في حياة عيسى ورفعه؛ لأن الله تعالى نفى عنه القتل والصلب، ثم عطف بـ«بل» مثبتا له الرفع، والمقرَّر في كتب اللغة العربية التي نزل بها القرآن العظيم أن «بل» إذا تلت نفيًا أو نهيًا كانت حرف إضراب واستدراك، تقرر حكم ما قبلها وتثبت نقيضه لما بعدها، وقد ذكر أهل المعاني العطف بـ«بل» وبـ(لا) من طريق القصر، وقالوا: إنه أقوى طرقه للتصريح فيه بالنفي والإثبات، فكلمة «بل» في الآية لقصر القلب ترد على اليهود والنصارى ما اعتقدوه من قتل عيسى وتُثبت نقيض ذلك، وهو حياته ورفعه، هذا هو ما تفيده الآية صراحة بحسب قواعد اللغة وأسلوب البلاغة . وهو الذي يفهمه كل عربي فصيح بذوقه السليم الصحيح، أمَّا حمل الآية على تقدير الإماتة العادية بأن يقال: بل أماته الله ورفعه إليه كما فعل صاحب الفتوى والقاديانية - فمن سقط الكلام الذي يجب أن يُنزّه عنه القرآن العظيم؛ لأن

الإماتة العادية تتفق مع القتل في الغاية، وهي إزهاق الروح كما قال الشاعر : ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد فلا تكون الإماتة نقيضا للقتل إلا من حيث الصورة، والقرآن أدق من أن يقصد الصورة الظاهرية، وأجل من أن يحمل عليها، هذا مع ما يلزم على ذلك

٢٥٢

كتاب الإيمان

التقدير من المفاسد.

أحدها: التجرؤ على تأويل الآية رغم صراحتها، وهذا شيء لم نعهده من أحد من أهل الاسلام حتى جاء القاديانية، فزلُّوا وضلُّوا حيث جعلوا

عقيدتهم الفاسدة أصلا يؤوّل ما خالفها نصا كان أو ظاهرًا.

ثانيها: تأويل الرفع وصرفه عن الحقيقة إلى المجاز من غير وجود قرينة تدل على ذلك.

ثالثها: عدم وجود فائدة لذكر الرفع؛ لأنه إما أن يُراد به رفع الرُّوح أو رفع المكانة وكلاهما عديم ا م الفائدة؛ لأن كل ميت ترفع روحه إلى بارئها مقتولا كان أو غير مقتول، والرسل عليهم الصَّلاة والسَّلام كلهم مرفوعو الرتبة والمكانة عند الله، فلا تظهر فائدة لتخصيص عيسى برفع روحه أو مكانته، لا سيما وفي الرسل من هو أفضل منه ، ومَن أوذي أكثر من إذايته كإبراهيم وموسى عليهما الصَّلاة والسلام، فإنهما أفضل من عيسى عليه الصلاة والسَّلام، وأوذيا من قومهما أبلع إذاية، ولم ينص على رفع روحهما أو مكانتهما، وقد كانا أولى بالتنصيص على ذلك.

رابعها: أنَّ الله تعالى اقتصر على ذكر الرفع وجعله مبطلا لما ادعاه اليهود من القتل والصلب، ولو كان معناه ما ذكر لم يكن مبطلا لدعوى اليهود، بل متفق معها؛ لأن رفع مكانة الرسول أو رفع روحه بعد موته لا ينافي وقوع الإذاية له من قومه بقتل أو غيره، بل ذلك يزيد في رفعته عند الله ولذا تجد تواريخ الرسل حافلة بما لاقوه من أنوع الإذايات التي يشيب لها الوليد من قتل

وغيره.

إقامة البرهان

٢٥٣

وقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا اشتد به إيذاء قومه يقول:

رحم الله أخي موسى لـ لقد أُوذِيَ بأكثر من هذا فصَبَرَ».

خامسًا: أنَّ رفع المكانة لا يستلزم الموت كما هو ظاهر، وكذلك رفع الروح؛ لأن النائم ترفع روحه وتسبح في عالم المثال، وحينئذ فقد كان يجب التصريح في الآية بذكر الموت بأن يقال: بل أماته الله» ولا يقتصر على الرفع الذي لا يستلزمه ولا يدل عليه.

سادسا: أنَّ الله تعالى مدح نفسه بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: ١٥٨] ولو كان في الآية إماتة عادية كما يزعم صاحب الفتوى لم يكن للمدح معنى؛ لأن ذلك أمر عادي مطّرد في جميع المخلوقات، ولأننا ما رأينا الله تعالى مدح نفسه على إماتة نبي أو رسول كيف والموت مصيبة بشهادة القرآن؟! قال تعالى: إِن أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ [المائدة: ١٠٦] وإنما رأيناه يمتدح بإهلاك الظلمة الكفرة انتقاما لأنبيائه ورسله، وما صح الامتداح بالإهلاك إلا لما انطوى عليه من الخوارق الدالة على كمال قدرته وشدة انتقامه. سابعا: أنَّ حمل الرفع على رفع المكانة أو الروح مخالف لما أطبق عليه علماء التفسير من الصحابة وغيرهم؛ فإنهم فسَّروه بالرفع الحقيقي الذي هو نقله الجسم من عالم الأرض إلى عالم السماء، وقالوا: إنَّ عيسى أعطي استعدادًا لذلك، وقطعت عنه علائق الشهوة وعوائق المادة، وليس في ذلك ما يُحيله العقل ولا ما يصادمه العلم، بل نجد في تطورات هذا الزمن ومخترعاته ما يؤيد ذلك ويقربه إلى العقول المريضة المحصورة في دائرة ضيقة من التفكير فلا يتسع

٢٥٤

كتاب الإيمان

أفقها للتصديق بما غاب عنها، ولو قامت الدلائل العلمية على وقوعه، وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: بَل كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ [يونس:

.[٣٩

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والنسائي، وابن أبي حاتم بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن ابن عباس قال: «لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا منهم من الحواريين، فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماءً فقال: إنَّ منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ثُمَّ قال: أيكم يُلقى عليه شَبَهي فيقتل مكاني فيكون معي في درجتي؟ فقام شاب مِن أَحْدَثهم سنًا فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: أنا. فقال: أنت هو ذاك. فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى مِن رَوْزَنَةٍ في البيت يعني كُوَّة - إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشَّبيه فقتلوه ثُمَّ صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فِرَقٍ...» وذكر بقية الأثر. قال ابن كثير في "تاريخه ": وهكذا قال غير واحد من السلف».

وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن كعب قال: «ما رأى عيسى قِلَّة مَن . اتبعه وكثرة من كذَّبه شكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلى [آل عمران: ٥٥] وإني سأبعثك على الأعور الدجال فتقتله، ثُمَّ تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة، ثُمَّ أميتك ميتة الحي».

إقامة البرهان

٢٥٥

قال كعب: وذلك تصديق حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حيث قال: «كيف تَهْلِكُ أَمَّةٌ أنا في أوَّلها وعيسى في آخرها».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإني

متوفيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى } قال: «رفعه الله إليه فهو عنده في السماء».

وتقدم في حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عيسى ينزل من السماء، وتقدَّم في حديث ابن مسعود أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بعيسي في السماء وأخبر أنه نازل ليقتل الدجال وتقدمت آثار بهذا المعنى، وتقدم قول ابن عطية: «أجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى في السماء حي».

فهذا إجماع يضاف إلى ما سبق فيكون رفع عيسى حيا ثابتا بالكتاب والسُّنَّة

والإجماع.

ووهب بن منبه قال: إن عيسى مات ثلاث ساعات، رفع خلالها إلى السماء ثم أرجعت إليه الحياة فلا يعد مخالفًا للإجماع، وابن حزم قال بموت عيسى ورفعه وقوفًا مع لفظ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى ) فلم يخالف في الرفع وإنما خالف في الحياة لجموده على ظاهر اللفظ كما هو شأن الظاهرية، ولم نجد أحد غير هذين القول بموت عيسى أو عدم رفعه بسند صحيح يعتمد

عن

عليه، وقوله تعالى : إني مُتَوَفِّيكَ معناه قابضك من الدنيا ببدنك وروحك حيا كما تقدم عن ابن عباس وغيره، وقوله: وَرَافِعُكَ إِلَى قرينة على ذلك إذام نجد في القرآن موتاً ذكر بجانبه الرفع أصلا؛ لأن الميت يدفن في الأرض ولا

٢٥٦

كتاب الإيمان

يرفع إلى السماء كما قال الله في شأن الإنسان: ثُمَّ أَمَانَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴾ [عبس: ٢١] وكذلك قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السَّلام: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرقيب عَلَيْهِمْ [المائدة: ۱۱۷] معناه : فلما قبضتني بالرفع إلى السماء كما قال أبو حيان وغيره من أئمة اللغة والتفسير.

وأما قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام - أيضًا: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ ولِدتُّ وَيَوْمَ أُمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: ٣٣] فليس فيه إلا الإخبار بأنه سيموت وهو حق لا شك فيه، ولكن موته لم يحصل كما أن البعث لم يحصل وسيحصلان فيما بعد ولابد، وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرِ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ الأنبياء: ٣٤] لا يدل على موت عيسى عليه السلام لأمرين:

أحدهما: أنه عام فيخص منه عيسى للأدلة الدالة على حياته عملا بما هو مقرر في الأصول.

والأمر الثاني: أن تبقى الآية على عمومها من غير أن تشمل عيسى أيضًا لأن المراد بـ «الخلد» في الآية البقاء الطويل في عالم الأرض؛ لأن المشركين كانوا يقدرون أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم سيموت فيشمتون بموته، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وعيسى لم يمكث في الأرض بل رفع إلى عالم السماء فهو كالميت بسبب انفصاله . من هذا العالم الأرضي إلى عالم لا تجري عليه الأغيار الجسمانية، ولا تعتوره التقلبات الزمانية، وأخبرني شخص كان قاديانيا ثُمَّ أسلم: أنَّ القاديانية يستدلون على موت عيسى بحديث هذا لفظه: «لو كان موسى وعيسى حيين ما وسعها إلا اتباعي». وهذا حديث مكذوب ما نطق به

إقامة البرهان رسول الله ولا رواه عنه أحد من أهل الحديث (1) .

٢٥٧

ثُمَّ أراد صاحب الفتوى بعد إذ حمل رفع عيسى على رفع المكانة كما فعل القاديانية -وهو باطل كما بينا - أن يؤيد ذلك فقال: «وظاهر أن الرفع الذي

.

يكون بعد التوفية رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصا وقد جاء بجانبه قوله: وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: ٥٥] مما يدل على أنَّ الأمر أمر تشريف وتكريم». اهـ

وأقول: القاديانية هم الذين حملوا الرفع في الآية على رفع المكانة، فقلنا لهم: هذا مجاز لابد له من قرينة قالوا ذكر التوفي قبله والتطهير بعده قرينتان، قلنا: أما التوفي فلا يصلح قرينة لأمرين:

الأول: أنه يطلق على الموت والنوم وقبض الدين والأجر... إلخ، فهو محتمل يحتاج في تعيين المراد منه إلى قرينة وما هو محتاج إلى قرينة في نفسه كيف يكون قرينة على تعيين المراد من غيره ؟!

الثاني: أنَّ رفع المكانة ثابت لكل رسول في الحياة وبعد الممات فكيف يعقل أن يكون التوفي قرينة على رفع مكانة عيسى مع أ أن ذلك ثابت له ؟! ما هذا إلا من لغو الكلام، وأما قوله تعالى: وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا * فهو قرينة على رفع الجسد لا رفع المكان؛ لأن الله تعالى وعد عيسى عليه السلام بأن

يطهره من الكفار فلا يجوز أن يحمل على التطهير المعنوي لأمرين: الأول: أنَّ هذا التطهير حاصل لكل رسول؛ لأن الله لم يختر لرسالته إلَّا

(۱) نعم: صح الحديث بلفظ «لو كان موسى حيا ما وسعه إِلَّا اتباعي».

٢٥٨

كتاب الإيمان

أطهر الناس نفسا وأزكاهم عملا ، فكيف يصح أن يَعِد الله عيسى عليه السَّلام

بالتطهير وهو حاصل له؟!

الثاني: أنَّ التطهير المعنوي لا يمنع إذاية الكفار وظلم الأشقياء؛ فكم لاقى رسل الله المطهرون من إذاية واضطهاد، ولهذا - والله أعلم - لما أراد الله أن

يضمن لرسوله الحفظ من القتل قال له: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة:

.

٦٧] أي يمنعك من الناس أن يقتلوك، ولم يقل له والله يرفع . مكانتك على الناس، ولا قال: والله يطهرك من الناس؛ لأن الرفع والتطهير المعنويين لا يدلان على الحفظ من القتل والإيذاء، ولا يستلزمانه بحكم العقل والعادة كما هو ظاهر.

وحيث تبين بطلان حمل التطهير في الآية على المعنوي تعين حمله علي التطهير الحسي، وهو رفع جسد عيسى حيا وتخليصه من أيدي الكفار الذين أرادوا قتله وصلبه، فالآية تفيد نقيض ما أراده القاديانية الجهلة الذين لا

يعرفون اللغة العربية ولا يفهمون أسرار القرآن العظيم. ثُمَّ قال صاحب الفتوى والقاديانية معه في هذا ما نصه: «وقد جاء الرفع في القرآن كثيرًا بهذا المعنى في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ﴾ [النور: ٣٦] ترْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَّشَاءُ ﴾ [الأنعام: ۸۳] وَرَفَعْنَالَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: ٤] وَرَفَعْنَهُ

مَكَانًا عَلِيًّا } [مريم: ٥٧] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ [المجادلة: ١١]... إلخ». اهـ وأقول: لنا الحق أن نسأل الشيخ عن ورود الرفع مجازا كثيرًا في القرآن هل هذه الكثرة جعلت لفظ الرفع ظاهرًا في المعنى المجازي بحيث إذا أطلق اللفظ

إقامة البرهان

٢٥٩

انصرف إليه كما جعلت الكثرة أيضًا لفظ التوفي ظاهرًا في الموت في زعمه؟ إن قال: نعم، أتى بالتناقض؛ لأن معنى قولنا: هذا المعنى ظاهر، أنه لا يحتاج إلى قرينة، ومعنى قولنا إنه مجاز، أنه لا يفهم إلا بقرينة تدل عليه، فكيف يتفق الأمران في كلمة وهما متباينان؟!

وإن قال : لم تجعله الكثرة ظاهرًا بل لا يزال معنى مجازيا يحتاج إلى علاقة وقرينة، قلنا له صدقت وحينئذ فقولك كثيرًا» لغو في الكلام ليس لذكره فائدة سوى التطويل والتهويل والآيات التي أوردها ظاهر فيها المجاز لوجود قرائن تدل عليه ) إلا قوله تعالى في إدريس عليه السَّلام: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا * فقيل: إنه رفع بجسده حقيقة إلى السماء قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والسُّدّي، والمسألة مبسوطة في غير هذا الموضع.

ثُمَّ قال صاحب الفتوى: وإذن فالتعبير بقوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَى بَل رَفَعَهُ الله إليه وكالتعبير في قولهم: الحق فلان بالرفيق الأعلى»، وفي: إن الله

معنا [التوبة: ٤٠] وفي عِندَ مَلِيكِ مُقْتَدِرٍ [القمر: ٥٥] وكلها لا يفهم منها سوى الرعاية... إلخ. وأقول: تجرأ هذا المفتي وأقدم على القول بأن مراد الله برفع عيسى عليه السلام الرفع المجازي، وبتوفّيه الإماتة العادية، وأهدر ما في الآيات المتعلقة بعيسى عليه السَّلام من نكت بلاغية وأسرار لغوية تقضي بحياته ورفعه، كما

(۱) ولأنه لم يذكر معها لفظ : «إلى» الذي ذكر بجانب رفع عيسى وهو يدل على الرفع الحسي دلالة صريحة.

٢٦٠

كتاب الإيمان

نبذ الأحاديث والأثار وأقوال العلماء وراءه ظهريًّا؛ لأنه يشتهي الظهور أمام المتشبعين بالعلم الحديث بمظهر العالم الذي لا يقبل عقله الخرافات، لكن فاته أن رفع عيسى حيا جائز في العقل، وارد في الشرع، وما كان كذلك فرده - لا قبوله - هو الخرافة، وقد قضت الضرورة العقلية بتنره الله سبحانه عن المكان

والزمان؛ لأنه خالقهما فلهذا أول العلماء قوله تعالى : إن اللهَ مَعَنا و

و

عِندَ مَلِيكِ مُّقْتَدِرٍ وقولهم : الحق فلان بالرفيق الأعلى إنما يقال في

الشخص الذي يموت فموته قرينة ملموسة محسّة، وأين هذا من آيات نزول

(1)

عيسى عليه السَّلام وحياته ورفعه التي بعضها صريح والظاهر منها بينته

السنة المتواترة. وقول صاحب الفتوى: فمن أين تؤخذ كلمة السماء» من كلمة «إليه»

تجاهل يزري بصاحبه ومع هذا نجيبه على قدر تجاهله فنقول: أخذت كلمة

.

السماء من كلمة إليه بدليلين قطعيين: أحدهما : أنَّ المكان في حق الله محال.

ثانيهما: أنَّ السماء مهبط الوحي ومسكن الملائكة، وقبلة الدعاء، ومتنزل الرزق، فأضيفت إلى الله تشريفا، كما يقال في الكعبة بيت الله، وفي ساكن مكة:

جار الله، وهذا أمر يدركه الطلبة.

قال النيسابوري في "تفسيره": «أما قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَى فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان الله وأنه في السماء، لكن الدلائل القاطعة دلّت على أنه

(۱) ولفظ: «إلى» صريح في الرفع الحسي.

إقامة البرهان

٢٦١

متعال عن الحيز والجهة، فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأنَّ المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، والمراد التفخيم والتعظيم، أو المراد إلى مكان لا يملك

الحكم عليه هناك غير الله، فإنَّ في الأرض ملوكًا مجازية».اهـ

والعجيب من الشيخ أن يتجاهل في كلمة إليه» الدليل القاطع الذي دل على وجوب تقدير كلمة السماء مع أنه أوجب ملاحظة كلمة «أماته الله» في كلمة بَل رَفَعَهُ اللهُ من غير أن يجيز هذه الملاحظة دليل ظني فضلا

قطعي.!

عن

ثم قال صاحب الفتوى: وبعد فما عيسى عليه السلام إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ناصبه قومه العداء فالتجأ إلى الله، فأنقذه بعزّته، وخيَّب مكر أعدائه، وهذا هو ما تضمنته الآيات فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أنصاري إلى الله ﴾ [آل عمران: ٥٢] إلخ.

فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم، وأنه سيستوفي أجله حتى يموت حتف أنفه، من غير قتل ولا صَلْبِ ثُمَّ يرفعه الله إليه، وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى عليه السلام مع قومه، متى وقف على سُنَّة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم، ومتى

خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم في القرآن».اهـ وأقول: كل ما أبداه باطل لا قيمة له، ويكفينا في بيان بطلانه أن نُعلمه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم هو الذي أخبر بحياة عيسى عليه السلام ونزوله، وهو الذي وكل الله إليه بيان القرآن وبيان الدين كله، وقد اشتمل

٢٦٢

-

كتاب الإيمان

هي

أشبه

كلام الشيخ مع مخالفته لكلام الله ورسوله على تعليلات بالأقاصيص والخرافات وهو يظنُّها أقصى ما تصل إليه العقول البشرية في هذا الوقت فقوله: (وبعد فما عيسى عليه السَّلام إلا رسول قد خلت من قبله الرسل تمهيد ليس له محل في هذا الموضع وإنما محله أن يقال في الرد على

.

النصارى الذين يزعمون ألوهية عيسي عليه السلام أو بنوته الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا، وقوله : وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه» يقال عليه : لا يفهم القارئ ما ذكرته إلَّا إذا كان متصفا

بوصفين:

أحدهما جهله بالبلاغة وأسرار اللغة العربية.

ثانيهما: جهله بالسُّنة.

فبهذين الوصفين يفهم القارئ من الآيات أنَّ . عيسى عليه السلام مات وأنه لم يرفع وأنه لا ينزل كما فهم القاديانية ذلك لجهلهم، ونهاية عيسى عليه السلام مع قومه ليست بواجب عقلي يلزم من فرض تخلفه محال، حتى نضطر إلى تأويل القرآن وردّ الأحاديث من أجلها فما بال الشيخ كررها بضع

مرات؟!

وقوله: «متى وقف على سنة الله مع أنبيائه». يقال عليه: سُنَّة الله مع أنبيائه عليه أعداؤه حتى قتلوه، ومنهم من أنجاه الله، ثُمَّ

تسلط .

مختلفة، فمنهم من طرق الإنجاء مختلفة، ولكنها متفقة في أنَّ النبيَّ يبقى بعد إنجائه - حيا لتقر عينه بهلاك أعدائه، وانظر إلى نوحٍ وإبراهيم وموسى وهودٍ وصالح ولوط ويونس وغيرهم عليهم صلوات الله كيف أبقاهم الله بعد إنجاءهم حتى

إقامة البرهان

٢٦٣

شاهدوا هلكة أعدائهم، فسُنَّة الله مع أنبيائه تقتضي أن يبقى عيسى عليه السلام بعد إنجائه حيا، ليشاهد مكر الله باليهود وتقرّ عينه بذلك، وهذا نقيض ما يدعيه الشيخ، فانظر كيف أتى بما هو دليل عليه وهو لا يشعر ؟!! وقوله: ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم في القرآن» ينطوي على أمر خطير جدا؛ لأنه يحضُّ على تجاهل السُّنَّة، ويحرّض على عدم الرجوع إليها في تفسير القرآن العظيم وليت شعري بماذا يُفسر كلام الله إذا لم يرجع في تفسيره إلى كلام رسول الله وكلام أصحابه ؟

يقول الله لنبيه : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل : ٤٤] ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن قال في القرآن بغير عِلْمٍ فليتبوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

ثُمَّ يجيء الشيخ في آخر الزمان فيقول: يكتفى في تفسير كلام الله بما يفهمه القارئ الخالي الذهن مِن السُّنَّة، أي: لا علم عنده بها ولا شعور، فيجعل الجهل شرطا في التفسير !!

وقد بقيت في كلامه أشياء واضحة البطلان ولا داعي إلى إضاعة الوقت بمناقشتها، ثم ذكر الشيخ خلاصة بحثه وفتواه وهي بالضرورة باطلة لبطلان ما بنيت عليه، فلا حاجة إلى الكلام عنها وليرجع القارئ إلى حكم منكر نزول

عيسى عليه السَّلام فقد بيناه أواخر الباب الأول من هذا الكتاب.

وإلى هنا ينتهي .

ما أردناه من إقامة البرهان وهو كاف شاف، والحمد لله

رب العالمين.

٣- عقيدة أهل الإسلام

في نزول عيسى عليه السلام

أو

إرغام المبتدعِ الْجَهُولِ بِاتِّباعِ سُنَّةِ الرَّسُولِ

قال عمر رضي الله عنه :

«خُذوا أهل الأهواء بالسُّنَن؛ فإِنَّ القرآن ذو وجوه».

عقيدة أهل الإسلام

٢٦٧

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

منذ بضع سنوات أصدرنا كتاب إقامة البرهان على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان" وكان سبب إصداره فتوى خاطئة كتبها عالم أزهري بمجلة "الرسالة" الملحدة - أيَّد فيها ما يزعمه القاديانية الكفرة في شأن عيسى عليه السلام وتحايل على إثبات دعواه في فتواه بتأويل الآيات القرآنية - الصريح منها والظاهر - تأويلا فاسدًا عليه آثار التكلُّف والتعشف ظاهرة، وتحامى الأحاديث المتواترة التي تقضي على تأويله وتهدمه من أساسه، كما تعامى عن أقوال العلماء والمفسّرين، وإجماع الفقهاء والمحدثين، بل تجاوز هذا إلى تحريف النقول وإرغام النصوص بالتهذيب والتشذيب لتوافق ما يقول، وصرح بالحثّ على تفسير القرآن بالرأي المجرَّد، ولوح بالحض على إهمال الأحاديث والآثار، وترك الرجوع إليها في هذا المضمار، وكان هذا كافيًا في إظهار نواياه وإبراز خفاياه، لكننا - مع ذلك أحسنًا به الظن، وحملنا موقفه الشاذ على محمل حسن.

حتى إذا قرأ كتابنا المذكور ورأى ما فيه من الأدلة الدامغة، كشف قناعه وأصْحَر بالرداءة، وكتب بضع مقالات يُجاحِش فيها عن رأيه الكاسد وتأويله الفاسد، فعالجناه بهذا الكتاب الذي قضينا فيه على ما أبداه في مقالاته تلك من أباطيل وتضليلات، وكشفنا ما فيها من تدليسات وتلبيسات، ونبهنا على غلطه في فهم بعض الاصطلاحات الكلامية المبنية على القواعد المنطقية، إلى غير

٢٦٨

كتاب الإيمان

ذلك مما يراه القراء في مواضعه مُبيَّنا بإيضاح وتفصيل.

فهذا الكتاب، و"إقامة البرهان صنوان لكنهما في الأسلوب وطريقة الاستدلال مختلفان.

هذا وقد جرت العادة بإهداء المؤلفات إلى بعض ذوي المقامات العالية، والمناصب السامية، لتحرز بالإهداء فخرًا وامتيازا، وتحوز إلى طريق الشهرة والظهور جوازا، وإني أهدي مؤلفي هذا إلى صفوة خلق الله وخيرته من عباده، أفضل موجود في عالم الوجود، سيّدنا محمد بن عبدالله عليه صلوات الله، عسى أن يشملني بشفاعته، ويعدني في جملة خَدَمته، فشفاعته غاية آمالي، وخدمته أوثق أعمالي، والله المسئول يصحح القصد وينيل المراد، وأن يحقق رجاءنا فيه ويعطينا ما نبتغيه، إنه الوهاب الكريم.

أبو الفضل

عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني

خادم الحديث عُفي عنه

عقيدة أهل الإسلام

٢٦٩

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، والصَّلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلي آله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته أجمعين، وعمن تبع هديهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق أن عيسى ابن مريم عليهما السَّلام سينزل في آخر الزمان مصدقا بسيدنا محمد على ملته فيقتل الدَّجَّال الأعور اللعين الذي يدعي الألوهية، وكذلك يقتل الخنزير أيضًا، ويكسر الصليب، ويقاتل الكفار على الإسلام، ولا يقبل منهم

الجزية، وينتشر في زمنه الأمن والعدل، ويكثر المال حتى لا يقبله الناس. وفي وقته يخرج يأجوج ومأجوج ويهلكهم الله بدعائه، ويمكث في الأرض

ما شاء الله أن يمكث، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه. تواتر هذا المعنى تواترا لا شك فيه بحيث لا يصح أن ينكره إلَّا الجهلة الأغبياء كالقاديانية ومن نحا نحوهم؛ لأنه نُقل بطريق جمع عن جمع حتى

استقر في كتب السُّنَّة التي وصلت إلينا تواترا بتلقي جيل عن جيل.

فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أبو هريرة، وأبو سريحة حذيفة بن أسيد، والنواس بن سَمْعَان وجابر بن عبدالله، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ووائلة بن الأسقع، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، ومُجمع ابن جارية، وعبد الله بن مُغَفَّل، وعائشة، وسمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وأبو

۲۷۰

كتاب الإيمان

أمامة، وعثمان بن أبي العاص وعمار بن ياسر وابن عباس، وثوبان، ونافع بن ،گیسان، وكَيْسان بن عبدالله بن طارق وعمرو بن عوف، ونافع بن عتبة، وأبو برزة، وعبد الرحمن بن سَمُرة، وأبو سعيد الخدري، وأم سلمة، وعمران بن حصين، وأبو الدرداء، وأوس بن أوس، وغيرهم من الصحابة

عنهم.

رضي

الله

ثُم رواه عن هؤلاء: سعيد بن المسيب، ونافع مولى أبي قتادة الأنصاري، وعطاء بن ميناء، وحنظلة بن علي الأسلمي، وعبدالرحمن بن آدم، وسعيد بن ميناء، وصالح مولى أبي هريرة، ومطير الهلالي، وكُليب الجرمي، وأبو الطفيل - وهو صحابي صغير ، والربيع بن عُمَيْلة، وجُبير بن نفير، ويعقوب بن عاصم الثقفي، وأبو الزبير، وعبد الله بن يزيد، وأبو نضرة، وعمرو بن عبدالله الحضرمي، ومؤثر بن عَفَازَة، وربعي بن حِراش، وأبو صالح، وأبو قلابة، وعلقمة، وأبو يحيي مولى ابن عَفْراء، وعبد الأعلى بن عدي البَهْرَانِيُّ، وأيوب بن نافع بن كيسان، ونافع بن كَيْسان بن عبد الله بن طارق، وعبدالله بن عمرو بن عوف، والحسن البصري، وعروة بن رُويم، وطاوس، وأبو عبدالرحمن الحبلي، وغيرهم من التابعين.

ثم رواه عن هؤلاء الزهري، والمقبري، وقتادة، وسليم بن حَيَّان، وهشام بن عروة، وموسى بن مطير ، وعاصم بن كُليب، وفُرات القزم، وعبدالرحمن بن جبير بن نفير ، والنعمان بن سالم، وابن جريج ، وابن أبي ليلي، وعبدالله بن ثعلبة الأنصاري، وعلي بن يزيد بن جدعان، ويحيي بن أبي عمرو السَّيْباني، وجَبَلَة بن شحيم، وأبو حازم الأشجعي، والحضرمي بن لاحق، وأيوب، وإبراهيم،

عقيدة أهل الإسلام

۲۷۱

وسعيد بن خشيم ومحمد بن علي بن عبدالله بن عباس، ولقمان بن عامر الوصابي، وعبد الرحمن بن أيوب وربيعة بن ربيعة، وكثير بن عبدالله، وعمرو بن سفيان الثقفي، والربيع وأبو رزين وعبدالعزيز بن رفيع، وعبدالرحمن بن زياد الإفريقي، وغيرهم. ثُم رواه عن هؤلاء صالح بن كَيْسان، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، ويونس، ومحمد بن أبي حفصة وابن أخي الزهري، وابن أبي ذئب، والأوزاعي، وعبيد الله بن عمر، وسفيان بن حسين، وهمام، ويحيي بن أبي عروبة، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وهشام الدَّسْتَوائِيُّ، وكعب أبو عبدالله البصري، وعفان بن مسلم، وأبو داود الطيالسي صاحب "المسند"، وصالح بن عمر،

ويحيي بن جابر الطائي قاضي حمص، وشعبة، وحجاج بن محمد، ومعمر صاحب كتاب "الجامع"، وأبو زرعة السيباني، وحماد بن يزيد، وصدقة ابن المنتصر، والعوام بن حَوْشَبٍ، وأبو مالك الأشجعي، ويحيي بن أبي كثير، ومغيرة والخليفة، وأبو جعفر المنصور، ومحمد بن الوليد الزبيدي، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن أبي أويس وأبو جعفر وعاصم أحد أئمة القراء،

وغيرهم.

ثُمَّ رواه عن هؤلاء جمع غفير لا يكاد يُحصى، منهم: إبراهيم بن السعدي الزهري، وعلي بن المديني، وقتيبة بن سعيد، وابن بكير، وعبدالرزاق صاحب "المصنف"، وعثمان بن عمر، وعمرو بن محمد العنقزي، وروح، ويزيد بن هارون، وهدبة بن خالد، وبشر بن معاذ، وجعفر الصائغ، ويونس بن محمد، ومعاذ العنبري، وغُندر، والوليد بن شجاع، وهارون بن عبدالله، وحجاج بن

۲۷۲

كتاب الإيمان

بشار

الشاعر، وعبد الرحمن المحاربي، وإسماعيل بن رافع، وسعيد بن هبيرة، ومحمد بن إبراهيم العبدي، وعمران بن أبي عمران الصوفي وهشيم ومحمد بن ! وخلف بن خليفة، وسعيد بن سليمان الواسطي، وشيبان بن عبدالرحمن، والحسن بن موسي الأشيب، وعباد بن منصور، وإسماعيل بن عياش، وعبيد الله بن عبدالصمد بن المهتدي، وبقيَّة بن الوليد، وأبو النضر، وهشام بن خالد، وبهلول بن إسحاق، ومحمد بن جعفر الإمام، والمثنى، وهشام بن عمار، ومحمد بن الحسن بن الخليل.

ثُمَّ تلقاه أصحاب الكتب المؤلفة في السنة ودونوه في مؤلفاتهم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، فرواه من أصحاب المسانيد: أبو داود الطيالسي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة، وأبو يعلى، والبزار، والديلمي، وغيرهم.

ورواه من أصحاب الصحاح البخاري، ومسلم، وابن خزيمة، وابن

حبان، والحاكم، وأبو عوانة، والإسماعيلي، والضياء المقدسي، وغيرهم. ورواه من أصحاب الجوامع والمصنفات : مَعْمَرٌ، وعبدالرزاق، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم.

ورواه من أصحاب السنن أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه،

وسعيد بن منصور، والبيهقي، وأبو عمرو الداني، وغيرهم. ورواه من أصحاب التفسير المأثور: عبد بن حميد، وابن أبي حاتم وابن

جرير، وابن المنذر وابن منده، وغيرهم.

ورواه من أصحاب المعاجم الطبراني وغيره.

۲۷۳

عقيدة أهل الإسلام ورواه من أصحاب الأجزاء والغرائب والمعجزات ومعاني الأخبار وطبقات الرجال والملاحم وغير ذلك: أبو سعيد النقاش، وابن أبي الدنيا، والدارقطني، وأبو الشيخ ابن حَيَّان والطحاوي، وأبو نعيم، وابن عدي، والثعلبي، والخطيب البغدادي وابن النجار، وابن عساكر، ونعيم بن . حماد والترمذي الحكيم، وغيرهم. ومما لا نزاع فيه أنَّ العادة قاطعة باستحالة أن يتواطأ هذا الجمع العظيم - من الصحابة والتابعين وأتباعهم وحملة الحديث النبوي - على الكذب والخطأ، أو أن يقع ذلك منهم اتفاقا من غير تواطؤ بل العادة تحيل الكذب والخطأ على جمع أقل من هذا الجمع، حتى أن جماعة من العلماء منهم ابن حزم- قرروا أنَّ الحديث إذا اجتمع على روايته خمسة من الصحابة كان متواترا. ونظرهم في ذلك قوي سديد؛ لأن الصحابة كانوا على أكمل حال من العدالة والضبط والإتقان، لا يدانيهم في ذلك أحد، هذا إلى ما ميزهم الله به من فصاحة اللسان وسيلان الأذهان وطهارة الجنان، مع ما فُطروا عليه من حب الصدق واستهجان الكذب والنفرة عن سَفَاسِف الأمور، وغير ذلك مما أهلهم لصحبة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ونصرة دينه وتبليغ شريعته إلى

أمته.

وقد أخرج أحمد في "السنة"، والبزار والطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: إنَّ الله عزّ وجلَّ نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالاته، ثُمَّ نظر في قلوب العباد فوجد قلوب

٢٧٤

كتاب الإيمان

أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه، فما رأه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيئ. ولما أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن حين استحرَّ القتل بالقُرَّاء

في وقعة اليمامة قال لعمر وزيد رضي الله عنهما من جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، قال زيد بن ثابت فتتبَّعت القرآن أجمعه من العُسُب واللحاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة

الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوكَ مِنْ

أَنفُسِكُمْ} [التوبة: ۱۲۸] إلى آخر السورة.

وأبو خزيمة الأنصاري هو خزيمة بن ثابت، جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهادته بشهادة رجلين فكان يُسمى ذو الشهادتين رضي الله عنه. فالصديق رضي الله عنه اكتفي بشهادة اثنين في القرآن – الذي هو أصل الدين وأساس اليقين ومنكر شيء منه يكفر بإجماع المسلمين- لعلمه بما كان عليه الصحابة من شدَّة التحرُّز والتيقظ والتثبت، بحيث إذا اجتمع اثنان على رواية شيء لم يبق للوهم والخطأ فيه احتمال، فما ظنك بحديث يرويه جمع من الصحابة يزيد عددهم على عشرين يتلقاه عنهم مثلهم من التابعين، ثُمَّ مثلهم من تابعي التابعين... وهلم؟! لا شك أنه يكون متواترا على جميع الاصطلاحات المقررة، ولا يمكن أن يحوم حوله قول من نفي التواتر أو ادعاء قلته؛ لأنه قول صدر عن قلة الاطلاع وعدم التروي، فكان نصيبه مخالفة الواقع ومجانبة الحقيقة، وكان حقيقا بالإهمال جديرا بعدم الاعتبار، والمستدل

عقيدة أهل الإسلام

۲۷۵

به على نفي تواتر حديث مخصوص كما فعل بعض جهلة المبتدعة اليوم في محاولته نفي تواتر نزول عيسى عليه السَّلام يكون بالغا حد المنتهى في الجهل والضلال؛ فإنه لا أجهل ولا أضل ممن يتعامي عن الحقيقة ماثلة بين يديه واضحة ملموسة، ويحاول نفيها بقول فلان وفلان ويرحم الله البوصيري حيث يقول:

قد تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِن رَمَدٍ ويُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِن سَقَمِ

فصل

في من صرَّح من العلماء بتواتر حديث نزول عيسى عليه السلام، وقد صرح جم غفير من العلماء بتواتر حديث نزول عيسى عليه السّلام، فمنهم الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، قال في الكلام على قول الله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى [آل عمران : ٥٥] بعد نقله روايات في التوفّي ما نصه: «وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك إني قابضك من الأرض ورافعك إليَّ؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه

وآله وسلم أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم . اهـ ثم روى أحاديث في النزول. ومنهم الحافظ أبو الحسين الأبري، قال في كتاب "مناقب الشافعي" أثناء الكلام على إبطال حديث لا مهدي إلا عيسى ابن مريم وإثبات أنَّ المهدي غير عيسى ما نصه: (وقد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم في المهدي أنه من أهل بيته وأنه يملأ الأرض عدلا، وأنَّ عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام يخرج فيساعده على قتل

٢٧٦

كتاب الإيمان

الدجال، وأنه يؤمُّ هذه الأمة وعيسى خلفه في طول مِن قِصَّته وأمره» . اهـ نقله الإمام القرطبي في "التذكرة" والحافظ ابن حجر في "فتح الباري"

وسلماه.

ومنهم الإمام الفقيه أبو الوليد ابن رشد، وسيأتي كلامه بحول الله. ومنهم الإمام ابن عطية، قال في "تفسيره" ما نصه: «وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أنَّ عيسى في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير، ويكسر الصَّليب، ويقتل الدَّجَّال ، ويفيض العدل، وتظهر به مِلَّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويحج البيت ويعتمر» . اهـ

نقله الإمام أبو حيان في "البحر المحيط" وسلّمه.

ومنهم

الحافظ ابن كثير، فقد صرح بالتواتر في مواضع من "تفسيره"،

منها عند الكلام على قوله تعالى في سورة النساء: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء: ١٥٩] وأورد جملة وافرة من أحاديث النزول.

ومنها عند الكلام على قوله تعالى في سورة الزخرف: وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فلا تترن بها [الزخرف: (٦١] ، وكذلك صرَّح بالتواتر في تاريخه "البداية والنهاية" وتوسع في إيراد الأحاديث، فليراجع، ولعلنا ننقل كلامه فيما بعد إن

شاء الله .

ومنهم

العلامة محمد بن على الشوكاني ألف كتابًا خاصا في هذا المعنى

سماه: "التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظَر والدجال والمسيح" وهو مطبوع

عقيدة أهل الإسلام

۲۷۷

بالهند، أورد فيه طرق كلا من حديث المهدي ونزول عيسى وخروج الدجال، وقال بعد إيرادها ما نصه: فتقرر أنَّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، والأحاديث الواردة في الدَّجَّال متواترة، والأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم متواترة . اهـ

ومنهم السيد صديق بن حسن القنوجي، صرح بالتواتر في كتابه "الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي "الساعة ناقلا كلام الشوكاني وغيره، وهو مطبوع

بالهند أيضًا.

ومنهم شيخنا وشيخ بعض شيوخنا العلامة المحدث السيد محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله، أورد نزول عيسى في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر"، وذكر جماعة من الصحابة الذين نقلوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: وقد ذكروا أن نزوله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والأحاديث في نزوله كثيرة» . اهـ وكتابه مطبوع بفاس، فليراجع. ومنهم العلامة المحدث الشيخ محمد أنور الكشميري الديوبندي رحمه الله، ألف كتابا خاصا سماه التصريح بتواتر نزول المسيح" وتوسع في إيراد الأحاديث بأسانيدها توسعا بالغا فأفاد وأجاد، وكتابه مطبوع بالهند يتعين

الوقوف عليه. وصرح بنزول عيسى أيضًا في كتابه "إكفار الملحدين في ضروريات الدين" وهو مطبوع بالهند أيضًا. وقال العلامة المحدث أبو الطيب محمد شمس الحق في "عون المعبود" ما نصه: «تواترت الأخبار عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في نزول عيسى ابن

مريم عليه السلام من السماء بجسده العنصري إلى الأرض عند قرب الساعة،

۲۷۸

كتاب الإيمان

وهذا هو مذهب أهل السُّنَّة» . اهـ ثُمَّ ذكر جملة . الأحاديث الصحيحة من

الصريحة.

فهؤلاء عشرة من العلماء أو يزيدون صرَّحوا بتواتر نزول عيسى عليه السلام، وهم بعض من كل، وقل من كُثر، ولو ذهبنا نتتبع أقوال العلماء واحدًا واحدا طال الحال وأدى إلى الملال، فاجتز أنا بهذا القدر الذي يكفي من جنبه الله داء البدع ورزقه العلم والورع.

فصل

في من قال بنزول عيسى عليه السلام من الصحابة والتابعين وغيرهم

وقد ثبت القول بنزول عيسى عليه السلام عن غير واحد من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء من سائر المذاهب على ممر الزمان إلى وقتنا هذا، ونحن نشير إلى شيء من كلامهم لما يكون فيه إرشاد إلى سائره ودلالة عليه، إذ إحصاء كلامهم جميعًا يحتاج إلى فراغ وقت وهدوء بال وذلك غير متيسر الآن.

فمن الصحابة: أبو هريرة رضي الله عنه، والأثر عنه بذلك مشهور مستفيض وهو في الصحيحين والسُّنن، وفي الكلام على عيسى من "تاريخ ابن كثير"، وفي الكلام على قوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ موته ﴾ [النساء: ١٥٩] وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَ بِهَا [الزخرف: ٦١] من تفسير ابن كثير" و "الدر المنثور" وغيرهما.

عقيدة أهل الإسلام

۲۷۹

ومنهم: ابن عباس -رضي الله عنهما - والآثار عنه كثيرة وهي في "تفسير

ابن جرير " و " ابن كثير" و"الدر المنثور" وغيرها.

ومنهم: أبو سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، أخرج الحاكم وصححه عن أبي الطفيل قال: كنت بالكوفة فقيل : قد خرج الدجال، فأتينا حذيفة بن أسيد فقلت: هذا الدَّجَّال قد خرج فقال : اجلس فجلست، فنُودي: إنها كذبة صباغ، فقال حذيفة: إنَّ الدَّجَّال لو خرج زمانكم لرمته الصبيان بالخزف، ولكه يخرج في بُغْضِ مِن الناس، وخِفَّةٍ من الدِّين، وسُوءِ ذات بَيْنِ، فَيَرِدُ كُلَّ منهل، وتُطْوَى له الأرض طي فروة الكبش، حتى يأتى المدينة فيغلب على خارجها ويمنع داخلها، ثُمَّ جبل إيلياء فيحاصر عصابة من المسلمين فيقول لهم الذي عليهم ما تنتظرون بهذا الطاغية أن تقاتلوه، حتى تلحقوا بالله أو يفتح لكم؟ فيأتمرون أن يقاتلوه إذا أصبحوا ، فيصبحون ومعهم عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال ويهزم أصحابه».

ومنهم عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أخرج ابن أبي شيبة عنه قال: ينزل عيسى ابن مريم فإذا رآه الدجال ذاب كما تذوب الشَّحْمَةُ فيقتل الدَّجَّال ويفرق عنه اليهود فيقتلون حتى أن الحجر ليقول: يا عبدالله للمسلم هذا يهودي فتعال فاقتله».

ومنهم: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أخرج ابن عساكر عنه ، قال: «إنَّ المسيح بن مريم خارج قبل يوم القيامة». ومنهم: أم سلمة رضي الله عنها، أخرج ابن المنذر عن شهر بن حَوْشَبٍ

قال: «قال لي الحجاج : يا شَهْرُ ، آيةٌ من كتاب الله ما قرأتها إلَّا اعترض في نفسي

۲۸۰

كتاب الإيمان

منها شيء، قال الله: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وإني أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئًا. فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إنَّ النصراني إذا خرجت رُوحه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي خبيث إنّ المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة؛ عبدالله وروحه وكلمته فيؤمن به حين لا ينفعه إيمان، وإنَّ اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا أي خبيث إنَّ المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبدالله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه إيمان فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم. فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن عليّ. قال: لقد أخذتها مِن مَعْدِنها. قال شَهر: وأيم الله ما حدثنيه إلَّا أمُّ سلمة، ولكني أحببت أن أغيظه». اهـ

أي بذكر علي عليه السَّلام؛ لأنَّ الحَجاج كان يكرهه.

ومنهم عبد الله بن سلام الذي قال عنه سعد بن أبي وقاص: ما سمعت صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: «إنه من أهل الجنة» إلا لعبد الله بن سلام. رواه الشيخان.

النبي

أخرج الترمذي من طريق عثمان بن الضَّحَّاك، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعيسى ابن مريم عليهما السلام يدفن معه».

قال أبو مودود: وقد بقي من البيت موضع قبر، قال الترمذي: «حديث

حسن غريب».

ورواه الطبراني من هذا الطريق أيضًا بلفظ : يدفن عيسى ابن مريم مع

عقيدة أهل الإسلام

۲۸۱

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه فيكون قبره رابعا». ومنهم: عمر بن الخطاب رضي ! الخطاب رضي الله عنه ، أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح

طالعة

عن جابر قال: إنَّ امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا تَمَسُوحةٌ عينه . ناتية، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون هو الدجال....

وذكر حديث ابن صائد وتردُّد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم في شأنه، وفي آخره: فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : ائذن لي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: إن يكن هو فلستَ صاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن

اعتقاد

مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد». قلت: نحن نقطع بأن ما أفاده هذا الحديث من قتل عيسى للدجال هو عمر رضي الله عنه ؛ لأنه لم يكن ليترك شيئًا سمعه من رسول الله ويعتقد خلافه، وكذلك نقطع بأن الصحابة الذين رووا نزول عيسى عليه السلام كانوا يعتقدونه حقًا واقعا لا يخالجهم فيه شك ولا يداخلهم فيه تردُّد، ومن لم يقطع بهذا فهو جاهل بالصحابة، غير عارف مقدار حرصهم على التمسك بكلام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم. وأما التابعون وتابعوهم فأكثر من أن يحصيهم عاد حاسب، منهم سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وزيد بن أسلم، وقتادة، ومجاهد، ومحمد بن الحنفية، وشهر بن حوشب ، والسُّدِّي، والضَّحَّاك ، وأبو مالك، وابن زيد، وأبو العالية، وابن سيرين، وأرطأة، وكعب الحبر.

والآثار عنهم كثيرة يطول تتبعها فلينظرها من أرادها في تفسير قوله

۲۸۲

كتاب الإيمان

تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦] وقوله تعالى: إنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى [آل عمران: ٥٥] وقوله تعالى: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩] وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرنَ بِهَا ﴾ [الزخرف: ٦١]

من الكتب الآتية: تفسير ابن "جرير وابن كثير" و"القرطبي" و"أبي حيان" و"الدر المنثور" و"الآلوسي وغيرها، وانظر (ص٢١٨ جـ ٢) من

"أحكام القرآن" لأبي بكر بن العربي الحافظ.

وأما الأئمة وغيرهم من العلماء فكثيرون جدا:

منهم: الإمام مالك قال في "العتبية": «بينما الناس قيام يستمعون لإقامة الصلاة، فتغشاهم غمامة فإذا عيسى ابن مريم نزل» . اهـ نقله الإمام الباجي في "شرح الموطأ"، والعلامة الأبي في "شرح مسلم".

وهذه الرواية هي الصحيحة عن مالك لموافقتها للأحاديث والآثار، ولهذا قبلها كبار أهل المذهب ،كالباجي، ولم يؤولوها بشيء، بخلاف رواية موت عيسى فإنها باطلة لمخالفتها للأحاديث والآثار، ولهذا أولها أبو الوليد بن رشد

كما سيأتي.

ومنهم: الإمام أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه "اعتقاد أهل السنة والجماعة" على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن ما نصه: «ونؤمن بخروج الدجال

الأعور العين، ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام من السماء» . اهـ

عقيدة أهل الإسلام

۲۸۳

ومنهم: الإمام أحمد، أخرج ابن أبي يعلى في "الطبقات"، والخلال، وابن الجوزي في "المناقب"، عن عبدوس بن مالك أبي محمد العطار قال: سمعت أبا عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: «أصول السُّنَّة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة». ثم ذكر جملة من عقيدة أهل السُّنَّة ثم قال ما نصه: والإيمان بأن المسيح الدَّجَّال خارج مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التي جاءت فيه والإيمان بأنَّ ذلك كائن وأنَّ عيسى ابن مريم عليه السلام ينزل فيقتله بباب لد» . اهـ

وصرح بهذا أيضا في الرسالة التي كتبها إلى مُسَدَّد في بيان سنَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، انظر "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي.

ومنهم: أبو الحسن الأشعري إمام أهل السُّنَّة، قال في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" ما نصه: جملة ما عليه أهل الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يَردُّون من ذلك شيئًا ...... وذكر طائفة من عقائدهم إلى أن قال: ويصدقون بخروج الدجال، وأنَّ عيسى ابن مريم عليه الصَّلاة والسَّلام يقتله وقال في آخر العقيدة: «وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب . اهـ ومن أراد الوقوف على بقية كلامه فلينظر كتابه المذكور وهو مطبوع بالآستانة، ولينظر كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" لابن القيم فقد

نقل في أوله كلام الأشعري بتمامه مستدلا به لما حكاه من إجماع أهل السُّنَّة ع

على

٢٨٤

كتاب الإيمان

أن الجنة والنار مخلوقتان اليوم. ومنهم الإمام أبو محمد بن حزم ا الحافظ، صرح بنزول عيسى في غير

موضع من كتبه انظر ( ص ٢٤٩ جـ ٣ من "الفصل " ) و ( ص ٩ جـا ، وص ٢٩٦، وص ۲۹۱ جـ من "المحلى"). وقال أيضا في كتابه إبطال" "التقليد ما نصه أيضًا: «فما الذي خص أبا حنيفة ومالكا والشافعي بأن يُقلدوا دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن

مسعود وابن عمر وعائشة ودون سعيد بن المسيب والزهري والنخعي والشعبي وعطاء وطاووس والحسن البصري رحمة الله على جميعهم، وأيضًا فإن هذه الطوائف كلها مُقِرَّة بأنَّ عيسى ابن مريم عليه السلام- سينزل ويحكم في أهل الأرض، فهل يحكم إذا نزل برأي أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي ؟! معاذ الله بل يحكم بما أوحى الله إلى أخيه صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذا هو الذي ندعو

إليه والذي لا يحل لأحد أن يحكم ولا أن يفتي ولا يدين بسواه».اهـ نقله الحافظ السيوطي في كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض" (ص - طبع الجزائر).

-00

ومنهم: الإمام ضياء الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي، قال في كتاب "المفهم شرح صحيح مسلم" في الكلام على قوله في حديث جبريل الطويل فأخبرني عن أمارتها ما نصه: «وهي -اي أمارات الساعة - تنقسم إلى معتاد كالمذكورات وكرفع العلم وظهور الجهل وكثرة الزنا وشرب الخمر، وغير معتاد: كالدَّجال، ونزول عيسى عليه السَّلام،

وخروج يأجوج ومأجوج، والدابَّة، وطلوع الشمس من مغربها».اهـ

عقيدة أهل الإسلام

٢٨٥

نقله العلامة الأبي في "شرح مسلم"، وقال عقبه ما نصه: «قلت: قال ابن رشد: واتفقوا على أنه لابد من ظهور هذه الخمسة- يعني الدجال وما بعده- واختلفوا في خمسة أخر خَسْفُ بالمشرق، وخَسْفُ بالمغرب، وخَسْفُ بجزيرة العرب، والدُّخَان، ونارٌ تخرج مِن قَعْر عَدَن تروح معهم حيث راحوا وتقيل

معهم حيث قالوا زاد بعضهم وفتح قسطنطينية، وظهور المهدي».اهـ ومنهم: الإمام القاضي أبو بكر ابن العربي المعافري، صرح بنزول عيسى في "أحكام القرآن" ( ص ٤٤ جـ (ا) وفي شرحه على الترمذي المسمي "عارضة الأحوذي" وسنذكر بعض كلامه فيما بعد بحول الله . ومنهم: الإمام الشهرستاني، قال في "الملل والنحل" أثناء الكلام على اختلاف النصارى في عيسى عليه السَّلام ما نصه: «ولهم في النزول خلاف،

فمنهم من يقول ينزل قبل يوم القيامة كما قال أهل الإسلام» . اهـ

ومنهم: الإمام أبو القاسم الشهيلي الحافظ، صرّح بنزول عيسى في كتابه "الروض الأنف" وهو مطبوع ، وقد نقل كلامه مع الموافقة عليه الإمام أبو الفتح محمد بن محمد بن عبد الله اليعمري الأندلسي الإشبيليا الحافظ المعروف بابن سيد الناس في سيرته المسماة "عيون الأثر" لما تكلم على خبر سلمان الفارسي رضي الله عنه (ص ٦٥ - ٦٦ جـ ١).

ومنهم القاضي أبو الفضل عياض، قال في "شرح صحيح مسلم" ما نصه: «نزول عيسى وقتله الدَّجَال حَقٌّ وصحيح . عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في تلك وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله فوجب إثباته، وأنكر

٢٨٦

كتاب الإيمان

ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أنَّ هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠]، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا نبي بعدي»، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ.

وهذا استدلال فاسد ؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سيق في كتاب الإيمان وغيرها- أنه ينزل حَكَما مُقْسِطًا بحكم شرعنا، ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس». اهـ نقله

الإمام النووي في "شرح مسلم" ووافقه عليه.

وقد ورد عن المغيرة بن شعبة في الجمع بين آية خاتم النبيين وأحاديث النزول غير ما سلكه هؤلاء المبتدعة، فروى الطبراني من طريق مجالد بن سعيد الشعبي قال: قال رجل عند المغيرة بن شعبة: صلَّى الله على محمد خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فقال المغيرة: حسبك أن تقول خاتم الأنبياء فإنا كنَّا نُحَدَّث أن

عيسى ابن مريم خارج فإن كان خارجا فقد كان قبله وبعده. وهذا الأثر ضعيف الإسناد لا يصح، وقد كان المغيرة ذكيا بالغا حد الدهاء، فلا يخفي عليه أنَّ نزول عيسى تابعًا لنبينا وعاملا بشريعته لا ينافي

حديث لا نبي بعدي» كما مر في كلام عياض آنفًا. وقد قال القاضي أبو بكر ابن العربي: يروى أنه يصلي وراء إمام المسلمين إبقاء لشريعة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم واتباعا له، وإخزاء للنصارى

عقيدة أهل الإسلام

۲۸۷

وإقامة للحجة عليهم».اهـ

بل قال المحقق الدواني في شرح العقائد العضدية" ما نصه: «وأما نزول

عيسى عليه السَّلام ومتابعته لشريعته فهو مما يؤكد كونه خاتم النبيين». اهـ والقاديانية - خذلهم الله - ينسبون أثر المغيرة إلى عائشة كذبًا عليها،

ويحذفون منه خروج عيسى عليه السَّلام؛ ليتسني لهم أن يقولوا

أنَّ

خاتم

النبيين بفتح التاء لا يدل على انقطاع النبوة ناسين قراءة خاتم- بكسر

التاء وهي تعين الأخرية كما لا يخفى.

ومنهم: العلامة :

العلامة نجم

الدين النسفي ، قال في "العقائد النسفية" ما نصه:

وما أخبر به النبي عليه الصَّلاة والسَّلام مِن أشراط الساعة من خروج الدجال، ودابَّة الأرض، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى عليه السَّلام من

السماء، وطلوع الشمس من مغربها فهو حَقٌّ» . اهـ

قال شارحه العلامة سعد الدين التفتازاني ما نصه: «لأنها أمور ممكنه أخبر بها الصادق»، ثم ذكر حديث حذيفة بن أسيد - وهو في "صحيح مسلم"- ثم قال: والأحاديث الصحاح في هذه الأشراط كثيرة جدا، فقد روي أحاديث وآثار في

تفاصيلها وكيفياتها فلتطلب من كتب التفسير والتواريخ . اهـ

وقال السعد أيضًا في شرح المقاصد" ما نصه: «وطريقة أهل السُّنَّة أَنَّ العالم حادث والصَّانِع قديم متَّصِفٌ بصفات قديمة، لا شبيه له ولا ضد ولا ند ولا نهاية له ولا صورة»، إلى أن قال: وأنَّ أشراط الساعة من خروج الدجال، ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج

دابة

۲۸۸

كتاب الإيمان

الأرض حَقٌّ» . اهـ

ومنهم الحافظ ابن حجر، صرح بنزول عيسى في غير موضع من كتبه من ذلك قوله في باب نزول عيسى» من فتح الباري" ما نصه: «قال العلماء: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء: الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبين الله تعالى كذبهم وأنه الذي يقتلهم أول نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها. وقيل: أنه دعا الله لما رأى صفة محمد وأمته أن يجعله منهم، فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان مجدّدًا لأمر الإسلام، ليوافق خروج الدجال فيقتله، والأول أوجه». وذكر أحاديث في مدة إقامته بعد نزوله ثم قال: «وروى أحمد وأبو داود

بإسناد صحيح من طريق عبدالرحمن بن آدم عن أبي هريرة مرفوعا: ينزل عيسى عليه ثوبان لمصران فيدق الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام». وذكر الحديث، وقال في آخره «ثُمَّ يتوفَّى ويُصلِّي

عليه المسلمون» . اهـ

وهذا الحديث أحد الأدلة على حياة عيسى

الآن، وكلام

المحافظ يفيدها

أيضًا، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله .

ومنهم:

الحافظ السيوطي، صرح بنزول عيسى في علم العقائد من

"النقابة" وهو مطبوع بهامش مفتاح العلوم، وفي تكملة "تفسير الجلال المحلي" وفي "العرف الوردي في أخبار "المهدي" بل ألف كتابًا خاصا سماه "الإعلام بحكم عيسى عليه السَّلام صرَّح فيه بكفر منكر نزول عيسى عليه

عقيدة أهل الإسلام

۲۸۹

السلام، وهذا الكتاب والذي قبله مطبوعان في ضمن كتاب "الحاوي للفتاوي". ومنهم الإمام الكمال ابن الهمام: قال في "المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة": «وأشراط الساعة من خروج الدَّجَّال ، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء، وخروج يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها حق» . اهـ

قال شارحه الكمال ابن أبي شريف ما نصه: «وردت به النصوص الصريحة

الصحيحة».اهـ

ومنهم سراج الدين أبو حفص عمر بن الوردي: قال في "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" في الكلام على أشراط الساعة ما نصه: «المسلمون لا يختلفون في نزول عيسى ابن مريم عليهما السَّلام آخر الزمان، وقد قيل في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرنَ بِهَا ﴾ [الزخرف: ٦١] أنه نزول عيسى» . اهـ ـ . ثُمَّ ذكر بعض الأحاديث.

ومنهم العلامة السفاريني: قال في "الدرة المضية في عقيدة الفرقة

المرضية" :

وما أتى في النَّصَّ مِن أَشْرَاطِ فكلَّه حَق بلا شَطَاطِ منها الإمام الخَاتَمُ الفَصِيحُ محمـ محمد المهدي والمسيح وقال في شرحها المسمَّى لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية" : قد أجمعت الأمة على نزوله ولم يخالف فيه أحد من علماء الشريعة، وإنما أنكر

ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه

۲۹۰

كتاب الإيمان

ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس ينزل بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء، وإن كانت نبوته قائمة به وهو متصف بها» . اهـ

ومنهم خير الدين السيد نعمان الآلوسي ابن صاحب التفسير، قال في "غالية المواعظ" في «المجلس السادس عشر في أمارات الساعة من حديث

جبريل عليه السلام ما نصه: (ومنها العلامة الثالثة وهي نزول عيسى عليه

.

السلام من السماء، وذلك ثابت بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة». ثُمَّ ذكرها فلتنظر هناك.

وقال الحافظ السيوطي في "تحفة المجتهدين بأسماء المجددين": وآخــر المــــن فـيــــه يـاتـــــي عيسى نبي الله ذو الآيـــــــات يُجدد الدين لهذي الأُمَّه وفي الصلاة بعضُـنـا قـد أمـــه مُقَرِّرُ الشَرعِنا ويَحْكُمُ بحُكْمِنا إذ في السماء يعلمُ

وقال العلامة الشيخ عبدالله ابن الحاج إبراهيم الشنقيطي في "روضة

النسرين":

نُزُولُهُ للأرضِ مثل الشَّمس لأَنَّهُ سَمَا مَقَامَ الحَدْسِ خمسا وأربعون في "المنتظم"() وغيره يمكث نجـــل مـــريم أو مُكْتُه سبع كما في مسلـ أو أربعــــون والصَّحيحَ قَدمِ

(۱) يعني يمكث خمسا وأربعين سنة كما ذكره ابن الجوزي في كتاب "المنتظم" من حديث

عبدالله بن عمر.

عقيدة أهل الإسلام

۲۹۱

وقال أبو عبدالله الغافقي الأندلسي:

يا بيت عائشة المكنّ ثلاثة نُظموا به نَظْمَ الطَّرَازِ الأَوحَدِ مثوى النَّبيِّ وصاحِبَيه وفُسْحَة عيسى ابن مريم نالها بالموعد بوركت من بيت يضُمُّ رِسالةٌ ونُبُوَّةً وخِلَافَةٌ في مَلْحَدِ وممن صرح بنزول عيسى عليه السلام أصحاب التفسير في الكلام على الآيات التي أشرنا إليها فيما تقدَّم كابن جرير ، والبغوي، وابن عطية، والفخر الرازي، والزمخشري وهو من كبار المعتزلة ، والقرطبي، وابن كثير، والخازن، وأبي حَيَّان، والآلوسي، وغيرهم. كما صرح به أيضًا الحافظ عبد الغني المقدسي في كتاب "أشراط الساعة"، والحافظ ابن عساكر في تاريخ "الشام" وهو من محفوظات المكتبة التيمورية بدار الكتب المصرية، والتقي السبكي في رسالة "التعظيم والمنة" وغيرها، والدميري في مبحث الخنزير من حياة الحيوان"، والحافظ السخاوي في كتابه في أشرط الساعة، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن المرتضى في كتابه "البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار" وهو من أمتع الكتب وأنفسها، ومحي الدين ابن العربي الحاتمي في "الفتوحات المكية"، وصدر الدين القونوي في كتاب "إعجاز البيان في تفسير أم "القرآن" وهو مطبوع بالآستانة، وابن حجر الهيثمي الفقيه في فتاواه الحديثية والفقهية" وفي "الصواعق المحرقة" وغيرها، والنفراوي في شرح الرسالة ، والبرزنجي في كتابه "الإشاعة لأشراط الساعة"، والعارف الشعراني في غير موضع من كتبه، ونور الدين

۲۹۲

كتاب الإيمان

الحلبي في السيرة، والشيخ عبدالله الشرقاوي في "شرح التجريد الصريح" وفي "شرح ورد البكري"، والعلامة ابن الحاج في حاشيته على "المرشد المعين" ناقلا فيه الاتفاق، وصفي الدين القشاشي المدني في أرجوزته في العقيدة، وتلميذ تلميذه العلامة الشيخ على بن أحمد الدمياطي في كتابه "الذخائر المهمات في ذكر ما يجب على المكلف الإيمان به من المسموعات" وهو كتاب خاص بأشراط الساعة الصغرى والكبرى وبما يقع بعد الساعة وبعد الموت، وقد عقد فيه بابا لإثبات نزول عيسى عليه السَّلام، كما عقد لكل شرط من الأشراط الكبرى بابا، وفرغ من تأليفه سنة (١١٩۰هـ) كما رأيته مكتوبًا في آخر النسخة التي وقفت عليها من هذا الكتاب، والشيخ الصبان في كتابه "إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وآل بيته الطاهرين"، والشيخ حسن العدوي الحمزاوي في كتابه مشارق الأنوار في فوز أهل الاعتبار"، والشيخ عبدالحكيم في حاشيته على "العقائد النسفية"، والشيخ عبدالحي اللكنوي في مقدمة " الفوائد البهية ، وغيرهم ممن لا يُحصون، وفيهم سنيون وشيعيون

ومعتزليون.

وبالجملة فنزول عيسى عليه السَّلام مُجمع عليه كما تقدَّم في كلام الأشعري، وابن رشد، وابن عطية والشهرستاني، وابن الوردي، والسفاريني،

وابن الحاج. والخلاف الذي أشار إليه ابن حزم وعياض خلاف شاذ عن شخص مجهول فلا يعتد به ولا يكون في نفسه صحيحًا، ونحن نطالب هذا المبتدع الجاهل الذي فارق الإجماع بإنكار نزول عيسى في فتواه الخاطئة أن يذكر لنا

عقيدة أهل الإسلام

۲۹۳

شخصا معينًا وافقه على ما قال ونمهله سنةٌ كاملة فإنه لا يستطيعولن يستطيع - إلى ذلك سبيلا.

ثم استدركنا فوجدنا له سلفًا في بدعته وجهالته وهم ثلاثة معينون: أولهم: محمد عبده - المصلح الديني العظيم - الذي كان من ثمرات إصلاحه

أن أباح الرّبا القليل، ولبس البرنيطة، وورق اليانصيب، وأكل الموقوذة. وثانيهم: تلميذه ذو المبادئ المتعددة والأهواء المختلعة رشيد رضا

صاحب "المنار".

وثالثهم الدكتور صدقي، الذي كان يدعو معلنا على صفحات "المنار"

وغيرها إلى ترك السُّنَّة النبوية وإسقاطها عن درجة الحجية والاعتبار. هؤلاء الثلاثة الفرسان هم سلفه فيما قال وأئمته، وأما الشيخ الزنكلوني والشيخ عبد الوهاب النجار فهما مثله مقلدان في الإنكار، وإن كانوا جميعا قد اشتركوا في الجهل بالسُّنَّة النبوية والبعد عن معرفة علومها وما يتصل بها، إلا صاحب "المنار" فإنه كانت له خبرة بالحديث، لكنه كان يجاري شيخه وصديقه في أهوائهما مداهنة ونفاقًا، ويتكلف في رد الأحاديث التي تصادمها بالتضعيف أو التأويل أو يجعلها إسرائيلية وإن كانت هي في الواقع نبوية محمدية، فانحط بذلك قدره وسقط من أعين العلماء الذين انخدعوا به أول الأمر وكانوا يعدونه شيئًا فإذا هو شيء لا يُعبأ به، ومن الحكم المأثورة عن أرسطو قوله في حق أستاذه ومعلّمه: «أحبُّ الحقَّ وأحب أفلاطون ما اجتمعا، فإذا اختلفا كان الحق أحب إليَّ».

٢٩٤

كتاب الإيمان

فصل

في حياة سيدنا عيسى عليه السلام وأنه في السماء

ثم إن الأحاديث التي دلت بالتصريح على نزول عيسى عليه السلام تدل بالاقتضاء على حياته وأنه في السماء؛ لأنه لو كان ميتا لكان لابد من إحيائه وخروجه ليقتل الدجال واليهود ثُمَّ يموت أيضًا، فيكون قد مات وأحيي أكثر من مرتين، وذلك مخالف لقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: ۲۸] ولقوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَنَا اثْنَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَأَعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر: ١١] الآية، ولو دلّ نص على موته لقلنا به وخصصناه من هذا العموم، لكن النصوص دالة على حياته كما سيأتي، وأما كونه في السماء فلأن لفظ النزول والهبوط يقتضيانه، ولأنه لو كان في الأرض لعُرِف محله، ولوجب عليه أن يسعى إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حين بعثه، ويؤمن به ويجاهد معه تنفيذا للميثاق الذي أخذه الله عليه وعلي جميع الأنبياء.

وقد قال صاحب "عون المعبود" بعد أن ذكر جملة من أحاديث النزول ما نصه: «فلا يخفي على كل منصف أنَّ نزول عيسى ابن مريم عليه السلام إلى الأرض حَكَما مُقْسِطًا بذاته الشريفة ثابت بالأحاديث الصحيحة والسُّنَّة المطهرة واتفاق أهل السُّنَّة، وأنه الآن حيٌّ في السماء لم يمت بيقين» . اهـ ثم ذكر

الآيات المتعلقة بذلك.

هذا، وفي المسألة أدلة غير ما ذكرنا منها قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي

عقيدة أهل الإسلام

۲۹۵

الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦] قال الحسين بن الفضل البجلي: «إن المراد بقوله: وَكَهْلًا أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس ويقتل الدَّجَّال». قال: «و في هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض» . اهـ

وقال الآلوسي بعد أن بيّن معني الكهل ما نصه: «وعلى ما ذكر في سنّ الكهولة، يراد بتكليمه عليه السلام كهلا تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه السن، بناء على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما، أنه عليه السَّلام رُفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وأنه سينزل إلى الأرض ويبقي حيا فيها أربعًا وعشرين سنة كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: «قد كلَّمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ

كهل» . اهـ

والصحيح أن عيسى يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة كما دل

عليه الحديث الصحيح، وفي الآية نكتتان لطيفتان: الأولى: الإخبار بأنَّ عيسى عليه السَّلام يكلم الناس كهلا، وقد قال المفسرون إنَّ هذا وعد من الله بأنه سيعيش إلى سن الكهولة، وهو معني

صحيح، وفي الآية مع هذا معني آخر لم يعرّجوا عليه وهو الإشارة إلى أن كلامه كهلا يأتي على خلاف المعهود فإن الناس يتكلمون كهولا وشبانًا ليس في ذلك ما يدعو إلى العجب، ولكن العجيب في شأن عيسى عليه السلام أن يرفع

٢٩٦

كتاب الإيمان

شابا ويغيب مئات السنين في عالم لا تجري عليه الأغيار الجسمانية، ثم ينزل ويكلم الناس بعد ذلك كهلا، لا جرم أنَّ هذا أمر غريب استحق لغرابته أن ينوه الله به في آيتين من كتابه بطريق البشارة والامتنان، ولذا قابله بأمر لا يقل عنه غرابة وهو كلامه في المهد، فاشتملت الآية على معجزتين عظيمتين. وإلي هذا أشار أحمد بن يحيى ثعلب - إمام الكوفيين في النحو واللغة حيث قال: «ذكر الله لعيسى :آيتين تكليم الناس في المهد فهذه معجزة، والأخرى نزوله إلى الأرض عند اقتراب الساعة كهلا ابن ثلاثين سنة يكلّم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهذه الآية الثانية. اهـ

وقوله: «ابن ثلاثين سنة سبق لسان عن قوله أربعين لأنه عيسى عليه السلام نبى ابن ثلاثين ورفع ابن ثلاث وثلاثين وبضعة أشهر كما هو معلوم. الثانية: التعبير بالناس حيث قال تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ ولم يقل بني إسرائيل أو قومه مع أنَّ المعهود في كل رسول أنه يكلم قومه الذين أرسل إليهم خاصة، للإشارة إلى أن الذين يكلمهم عيسى ليسوا قومه فحسب بل هم وغيرهم ممن ينزل عليهم آخر الزمان واقرأ قوله تعالى في البشارة بعيسى: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ ﴾ [آل عمران: ٤٩]

وانظر كيف خصّ رسالته بقومه ثم قابله بقوله تعالى في البشارة به أيضًا: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا تجد بينهما تخالفا بالخصوص والعموم مع أنهما في سياق واحد فليس هذا التخالف للتفنن في التعبير كما يتوهم من لا تحصيل عنده، بل للنكتة التي أبديناها، وللإشارة إلى أن كلامه في المهد وكهلا

عقيدة أهل الإسلام

۲۹۷

ليس بوصف كونه رسولًا، فتأمَّل هذا جيدًا فإنه من أسرار الكتاب الكريم،

وهو مما فتح الله به علي، فله الحمد حمدًا كثيرًا.

ومنها قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمُطَهَرُكَ

من الذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: ٥٥] أخرج عبدالرزاق، وابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحسن قال: «متوفيك من الأرض».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق آخر، عن الحسن في قوله: اني متوفيك : يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه» قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لليهود: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم يوم القيامة».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن مطر الوراق في الآية قال: «متوفّيك

من الدنيا وليس بوفاة موت».

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ثالث، عن الحسن في الآية

قال: «رفعه الله إليه فهو عنده في السماء».

وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن كعب قال: «لما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذبه شكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه: إني متوفيك ورافعك إلى وإني سأبعثك على الأعور الدَّجَّال فتقتله، ثُمَّ تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثُمَّ أميتك ميتة الحي قال كعب: وذلك تصديق حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حيث قال: «كيف تهلك أُمَّةٌ أنا في أولها

۲۹۸

كتاب الإيمان

وعيسى في آخرها». وأخرج ابن جرير عن الربيع مثل قول الحسن الثاني. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قوله: إنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعُكَ إِلَى وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: ٥٥] قال: «فرفعه إياه إليه : توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا .

وأخرج ابن جرير، عن محمد بن جعفر بن الزبير : يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) أي : قابضك».

وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في قوله إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى ) قال : متوفيك: قابضك»، قال: «متوفيك ورافعك واحد»، قال: ولم يمت بعد حتى يقتل الدجال وسيموت، وتلا قول الله عزّ وجلَّ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ

وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: ٤٦] قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا»، قال: وينزل كهلا».

وأخرج ابن المنذر، عن الحسن في قوله: وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: ٥٥] الآية، قال: «عيسى مرفوع عند الله ثُمَّ ينزل قبل يوم القيامة، فمن صدق عيسى ومحمَّدًا صلَّى الله عليهما وسلَّم وكانوا على دينهما لم

يزالوا ظاهرين على من فارقهم إلى يوم القيامة».

فمعنى الآية علي ما أفادته هذه الآثار - أنَّ الله قبض عيسى ورفعه إليه وطهره بنقله إلى السماء حتى لا يلحقه أذى، وهذا المعنى هو المؤيد بالنظر الصحيح؛ لأن التوفّي معناه في اللغة قبض الشيء وافيا، فيشمل قبض الدين

عقيدة أهل الإسلام

۲۹۹

والأجرة والنوم والموت وغيرها، وادعاء ذلك المفتي الجاهل أنَّ التوفي ظاهر في

الموت جهل باللغة، وكذب على الله في معني الآية الكريمة.

كيف والقرآن قيد التوفي تارة بالنوم وتارة بالموت وتارة بالكسب؟! وهو هنا في غير الموت أظهر ، بدليل الرفع المذكور بجانبه، إذ ليس في القرآن موت معه الرفع؛ لأن الميت يدفن ولا يرفع ألا ترى إلى قول الله تعالى في شأن

ذُكر مع

-

الإنسان : ثُمَّ أَمَانَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴾ [عبس: ٢١] ولذا قال الآلوسي في تفسيره ما نصه : والصحيح كما قاله القرطبي - أنَّ الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم وهو اختيار الطبري، والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أنَّ الله تعالى توفاه سبع ساعات؛ ذكر ابن إسحاق أنها من زعم النصارى، ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل، وحاشا لله ما هو إلا افتراء وبهتان . اهـ

والرفع حقيقته اللغوية: النقلة من سفل إلى علو» كما قال أبو حَيَّان وغيره من أئمة اللغة والتفسير، وحمله على رفع المكانة كما زعم ذلك المفتي الجاهل-

يبطله أمور: أولها: أنه معنى مجازي لا داعي إليه ولا قرينة تدور عليه.

ثانيها: أنَّ كلمة إلى تدل على أنَّ الرفع انتهى إلى مكان محسوس وهو

السماء، قال النيسابوري في تفسيره: «أما قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَى ) فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان الله وأنه في السماء، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل، بأن

۳۰۰

كتاب الإيمان

المراد: إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، والمراد التفخيم والتعظيم، أو المراد: إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله، فإنَّ في الأرض ملوكًا مجازية».اهـ ورفعة المكانة ليس لها مكان تنتهي إليه فلا يذكر معها لفظ إلى اقرأ قوله تعالى: وَرَفَعْنَالَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: ٤] ، * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ﴾ [النور: ٣٦] يرفع اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ ﴾ [المجادلة: ١١] وَالْعَمَلُ الصَّلِحُ يَرْفَعُهُ

[فاطر: ۱۰]، نرفعُ دَرَجَتٍ مَّن نَّشَاءُ ﴾ [الأنعام: ۸۳] ولم يتنبه ذلك المفتي الجاهل إلى هذا المعنى لغباوته- فساق الآيات الواردة في الرفع الحسي والمعنوي مساقا واحدا. ثالثها: أنَّ رِفعة المكانة حاصلة لعيسى على أكمل وجه، فلا معنى ! يعطى شيئًا حاصلا له، وليس هو بأفضل الرسل حتى يقال يجوز أن يعطى من

لأن

الرفعة قدرًا لا يشاركه فيه بقيتهم عليه وعليهم صلوات الله، وكذلك رفع

يعم

الروح لا معني له لأنه سمع كونه مجازا سائر المؤمنين، فلا يظهر لتخصيص عيسى عليه السلام به فائدة. والتطهير المعنوي - مع كونه مجازًا أيضًا - لا يمنع إذاية المؤذين ولا عسف الظالمين، فكم لاقى رسل الله المطهرون من عسف وإذاية، وقال رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلَّم: «رَحِمَ اللهُ أخي موسي لقد . أُوذِيَ بأكثر من هذا

فصبر». ولما أراد الله أن يضمن لنبيه الحفظ من القتل، خاطبه بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: ٦٧] ولم يقل: والله يرفع مكانتك على

عقيدة أهل الإسلام

۳۰۱

الناس، ولا قال : والله يطهرك، لما سبق بيانه فافهم، وبالله التوفيق. (تنبيه): أخرج ابن حاتم عن قتادة إني مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى ﴾ [آل عمران:

o] قال: «هذا من المقدم والمؤخر، أي رافعك إلي ومتوفيك».

وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر ، من طريق جويبر ابن الضَّحَّاك، عن ابن عباس في قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى [آل عمران: ٥٥]: «يعني رافعك

ثُمَّ متوفيك في آخر الزمان». هذا إسناد ضعيف جدا.

والآية على هذا التأويل تفيد أيضًا حياة عيسى عليه السلام كما هو ظاهر. ومنها قوله تعالى: بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: ١٥٨] وهذه الآية نص صريح في حياة عيسى ورفعه؛ لأن الله تعالى نفى عنه القتل والصلب ثُمَّ عطف بـ «بل» مُثبتا له الرفع، والمقرَّر في كتب اللغة العربية التي بها نزل القرآن أن كلمة «بل» إذا تلت نفيًا أو نهيًا كانت للإضراب والاستدراك، تقرر حكم ما قبلها وتُثبت نقضه لما بعدها، ولذا ذكر أهل المعاني العطف بـ«بل» وبـ «لا» من طرق القصر وقالوا إنه أقوى طرقه للتصريح فيه بالنفي والإثبات، فهي في الآية لقصر القلب ترد على اليهود والنصارى ما اعتقدوه من قتل عيسى وصلبه، وتُثبت نقيضه وهو حياته ورفعه.

هذا هو ما تفيده الآية صراحة بحسب قواعد اللغة وأسلوب البلاغة وهو ما يفهمه العربي الفصيح بذوقه السليم الصحيح، أما حمل الآية على تقدير الإماتة العادية بأن يقال: بل أماته الله ورفعه إليه، كما قال صاحب الفتوى لعاميته، والقاديانية لعجمتهم فهو مع كونه من سقط الكلام الذي يجب تنزيه

۳۰۲

كتاب الإيمان

القرآن عنه يبطله أمور: -

أحدها: أنَّ هذا يلزم منه المجاز في موضعين من الآية والمجاز خلاف

الأصل، لا حاجة إليه ولا دليل عليه.

ثانيها: أنَّ الإماتة العادية تتفق مع القتل في الغاية وهي إزهاق الرُّوح كما

قال الشاعر:

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموتُ واحِدُ فلا تكون الإماتة نقيض القتل إلا من حيث الصورة، والقرآن أدقُ مِن أن يقصد الصور الظاهرية، وأجل من أن يُحمل عليها.

ثالثها: أن تخليص عيسى عليه السَّلام من القتل بالإماتة مع كونه محصلا لغرض اليهود يستلزم العجز - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا - لأن الإماتة حيلة الضعيف، ألا ترى إلى الزباء لما رأت حيلة عمرو تمت عليها وأيقنت بالهلاك قالت: بيدي لا بيد عمرو». وقتلت نفسها. رابعها: أنَّ كلمة «إليه» الدالة على الانتهاء توجب أن يكون الرفع حسّيا لا معنويا على ما سبق بيانه.

خامسها أن حمل الرفع على رفع المكانة أو الروح مع كونه مجازا لا

الصلاة

تظهر له فائدة في هذا الموطن؛ لأن الرسل وعيسى منهم عليهم والسلام - كلهم مرفوعوا الرتبة والمكانة عند الله ، لا يشك في هذا مسلم عامي فضلًا عن متعلّم، وأرواح المؤمنين كلها ترفع بعد الموت مقتولا كان الميت أو غير مقتول، فأي فائدة في تخصيص عيسى بالتنصيص على هذا؟! لاسيما إذا

عقيدة أهل الإسلام

۳۰۳

وجدنا غيره من الرسل أوذي أكثر منه وأنجاه الله من غير أن يذكر رفع مكانته

کونه

أو روحه لكونه معلوما، كإبراهيم عليه الصلاة والسَّلام، فإنه مع أفضل الأنبياء - أوذي أبلغ إذاية وحسبك إلقاؤه في النار حيا فإن هذا شر أنواع

القتل، ولم يزد الله على أن أخبر عن إنجائه بقوله: ﴿ قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْدَا وَسَلَامًا عَلَى

إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء: ٦٩ - ٧٠] ويتخرج

من هذا وجه آخر وهو:

-

سادسها: أنَّ الله تعالى قص علينا ما لاقاه الرسل والأنبياء من الإذاية والعشف، وذكر إنجاءه تعالى لهم مما أريد بهم، وسنته مع كل واحد منهم في إنقاذه، ولم يذكر الرفع طريقًا للإنقاذ إلا في عيسى عليه السلام، فلا جائز أن يكون رفع المكانة لأنه مشترك بينهم، ولا رفع الروح لأنه يعم جميع المؤمنين، هذا مع أنهما - أعني رفع المكانة ورفع الروح ليسا من طريق الإنقاذ في شيء، فتعين أن يكون رفع عيسى حقيقيًّا، ويكون الله قد أنجاه بهذا الطريق كما أنجى غيره بطرق أخرى إِنَّ رَبَّكَ فَعَالُ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود : ۱۰۷]

سابعها: أن الله تعالى اقتصر على ذكر الرفع وجعله مبطلا لما ادعته اليهود من القتل والصلب، وذلك يوجب أن يكون الرفع حقيقيا، إذ لو كان مجازيا لم يكن مبطلا لدعوى اليهود بل متفق معها؛ لأن رفع المكانة أو الروح لا يمنع

القتل والإيذاء كما سبق بيانه.

ثامنها: أن رفع

المكانة لا يستلزم الموت كما هو ظاهر، وكذلك رفع

الروح؛ لأن النائم ترفع روحه وتسبح في عالم المثال، وحينئذ كان يتعين

٣٠٤

كتاب الإيمان

التصريح في الآية بالموت بأن يقال: بل أماته الله، ولا يقتصر على ذكر الرفع

الذي لا يستلزمه ولا يدل عليه.

ولا يقال قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى [آل عمران: ٥٥] قرينة على التقدير هنا لأنَّا نقول: هذا على ما فيه إنما يفيد تقدير التوني، وليس

التوفي بإماتة، فمن أين أتى التعيين؟، وأي دليل عليه؟!

بل نحن نقول لما اقتصر الله في هذه الآية على الرفع وجعله مبطلا لدعوى اليهود كان ذلك دليلا على أنَّ التوفّي في الآية السابقة يراد به قبض البدن من

الأرض حيًّا، وليس المراد به الموت جزمًا.

تاسعها: أن الله مدح نفسه بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: ١٥٨] ولو كان في الآية إماته عادية لم يكن للمدح معنى؛ لأنها أمر عادي مُطَّرد في جميع المخلوقات، بل ربما لم يحسن المدح؛ لأن الإماتة في هذا الموطن تحصيل لغرض الأعداء ومُشعرة بمعنى المثل العربي: بيدي لا بيد عمرو»، تعالى الله عن ذلك وعما يقول الجاهلون في كتابه علوا كبيرًا.

عاشرها: أن الله مدح

نفسه كما مر آنفا ولم نره -سبحانه وتعالى- مدح

نفسه على إماتة نبي أو رسول كيف والموت مصيبة بشهادة القرآن؟! قال تعالى : إِن أَنتُمْ ضَرَيْكُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ [المائدة: ١٠٦] وإنما رأيناه يمتدح بإهلاك الظلمة الكَفَرة انتقاما لأنبيائه ورسله، وما صح الامتداح بالإهلاك إلا لما انطوى عليه من الخوارق الدالة على كمال قدرته وشدة انتقامه سبحانه وتعالى.

عقيدة أهل الإسلام

٣٠٥

حادي عشرها: أنَّ الآية نص في الرفع، وحملها على تقدير أو تأويل مخالف لما أطبق عليه علماء الأصول مِن أنَّ النصَّ لا يؤول وإنما يؤول الظاهر»، وتأويل النصوص لم يجرؤ عليه أحد ممن شم رائحة العلم إلا الباطنية والبهائية والقاديانية - وكلهم كفرة جهلة - وتبعهم ذلك المفتي الجاهل حيث ادعى أنَّ الآية مؤوّلة وتعامى عن صراحتها لهوى في نفسه.

ثاني عشرها: أنَّ حمل الآية على المجاز مع كونه خلاف الأصل- مخالف لما أطبق عليه علماء التفسير من إبقائها على حقيقتها، وأن الرفع فيها مراد به معناه الحقيقي الذي هو نقله الجرم من سفل إلى علو، وقالوا أنَّ عيسى رفع حيا إلى السماء بعد أن أعطي استعدادًا لذلك، وقُطعت عنه علائق الشهوة وعوائق المادة، وليس في ذلك ما يُجيله العقل ولا ما يصدمه العلم، بل نجد في تطورات هذا الزمن ومخترعاته ما يؤيد ذلك ويقربه إلى العقول المريضة المحصورة في دائرة ضيقة من التفكير، فلا يتسع أفقها للتصديق بما غاب عنها ولو قامت الدلائل العلمية على وقوعه وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: بَل كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ [يونس : ٣٩] وستأتي الآثار في الرفع إن

شاء الله .

ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وذلك عند نزوله آخر الزمان حاكما بهذه الشريعة المحمدية داعيا إليها، فلا يبقى يهودي ولا نصراني إذ ذاك إِلَّا آمن به أنه عبدالله ورسوله، وتصير الملل كلها مِلَّة واحدة هي مِلَّة الإسلام، ويوم

٣٠٦

كتاب الإيمان

القيامة يكون عليهم شهيدًا، أي على اليهود والنصارى يشهد على من آمن منهم ومن كفر قبل رفعه وبعد نزوله فالضميران في «به» وفي «موته» عائدان على عيسى عليه السلام كما تبين.

وهذا التفسير الذي ذكرناه هو تفسير أبي هريرة وابن عباس وقتادة والحسن

وابن زيد وأبي زيد وأبي مالك وغيرهم.

أما تفسير أبي هريرة ففي الصحيحين وغيرهما، من طرقٍ.

وأما تفسير من عداه ففي تفسير ابن جرير" و"ابن كثير" و"الدر المنثور وغيرها، وهو المتعيّن الذي لا يجوز غيره لوجوه

11

الأول: أنه تفسير أبي هريرة وابن عباس، وهما صحابيان جليلان شاهَدَا التنزيل وعرفا معانيه بسليقتهما العربية، وتلقيهما عن الرسول صلى الله عليه

وآله وسلّم. الثاني: أنه موافق للأحاديث المتواترة التي أخبرت بنزول عيسى ودعائه إلى الإسلام وإيمان اليهود والنصارى به، ولذا كان أبو هريرة حين يروي حديث النزول يتلو عقبه هذه الآية للإشارة إلى أنَّ الحديث يفسر الآية ويعين

المراد منها فهما متطابقان متوافقان.

الثالث: أن المتحدث عنه في الآيات قبل هذه الآية هو عيسى عليه السلام اقرأ قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِشَايَتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حق [النساء: ١٥٥] الآيات تجد الكلام مَسُوقًا لتبرئة عيسى عليه السَّلام تما يُرمى به، فوجب أن تكون الضمائر كلها راجعة إليه أخذا بدلالة السياق،

عقيدة أهل الإسلام

۳۰۷

وعملا بما توجبه قواعد اللغة العربية التي بها نزل القرآن العظيم، ولا يجوز

العدول عن ذلك إلا لمقتض يقتضيه، ولا مقتض هنا البتة.

ولذا قال الإمام أبو حَيَّان في "البحر المحيط" ما نصه: «والظاهر أنَّ الضميرين في «به وفي موته» عائدان على عيسى، وهو سياق الكلام،

والمعنى: من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله.

روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقي أحدٌ مِن أهل الكتاب إلَّا يؤمن به، حتى تكون الملة الواحدة وهي مِلَّة الإسلام. قاله ابن عباس والحسن

وأبو مالك» . اهـ

وأبو حَيَّان إمامٌ مُقدَّم في النحو واللغة والقراءات، وصحح هذا القول ابن جرير أيضًا، وقال ابن كثير : هو القول الحق البين بالدليل القاطع». يعني الحديث المتواتر. وبما ذكر يبطل قول العلامة الآلوسي إنَّ عود الضمير في «موته» على عيسى غير ظاهر، وأما القول بأن الضمير في «به» عائد على عيسى عليه السلام وفي «موته» عائد على الكتابي، وأنَّ المعنى لا يموت الكتابي حتى يؤمن بعيسى

وذلك عند المعاينة قبيل زهوق الروح، فقد نُقل عن ابن عباس ولم يُصَحَّح عنه، بل الذي استفيد عنه القول السابق. ومما يبطل هذا القول زيادة على ما تقدَّم ما يلزم عليه من تشتيت الضمائر باختلاف مرجعها، وأقل ما يقال في هذا أنه خلاف الظاهر، لا داعي إلى ارتكابه وأمَّا من استدل له بقراءة أُيّ: وإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ إِلَّا لَيَؤْمِنُنَّ بِه

بضم النون قبل موتهم فلم يصب لأمرين:

۳۰۸

كتاب الإيمان

الأول: أنَّ هذه القراءة شاذة لا يجوز الاستدلال بها كما لا تجوز تلاوتها، بناء على ما صحح إمام الحرمين وأبو نصر القشيري وابن الحاجب وغيرهم، من عدم جواز الاحتجاج بالقراءة الشاذة، وهو مذهب مالك، وقال النووي إنه مذهب الشافعي؛ لأنها نقلت آحادًا فيما تتوفر الدواعي على نقله تواترا، ولأنها قد تكون مذهبًا لصاحبها كقراءة ابن مسعود فإن كثيرًا منها تفسيرات بحسب اجتهاده.

الثاني: أنَّ مَن أجاز الاحتجاج بالقراءة الشادة أجراها مجرى خبر الآحاد في ذلك وقاسها عليه، لكنه لا يقدّمها على المتواتر كما لا يتقدم خبر الآحاد عليه، وقد دلّ الحديث المتواتر على تعين المراد من الآية وبينه بيانا شافيا بلا حاجة إلى شواذ القراءات، ولا التمسك بالضعيف من الأقوال والروايات، بل لا يجوز ذلك جزمًا، ولذا ردَّ ابن جرير وابن كثير كل قول قيل في الآية غير القول الأول.

ومنها ما رواه أحمد وأبو داود وابن جرير وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وغيرهم من طرق عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتّى ودينهم واحد، وإنّي أولى الناس

بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجلٌ مَرْبُوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدق الصَّليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهلك الله في زمانه الملل كلَّها إِلَّا الإسلام، ويُهلك في زمانه المسيح

الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار

عقيدة أهل الإسلام

۳۰۹

البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفَّى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه». صححه الحاكم، وسلَّمه الذهبي، وصححه أيضًا الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وهو واضح في الدلالة على حياة عيسى عليه السلام ولينظر القارئ شروح "سنن أبي داود" وغيرها.

ومنها ما رواه ابن جرير في تفسيره": حدثنا المثنى: ثني إسحاق: ثنا عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قول الله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: ٥٥] قال: يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه، قال الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لليهود: «إنَّ عيسى لم يَمُتُ وإنه راجع

إليكم قبل يوم القيامة». وهو صريح كما ترى. ومنها ما رواه البزار في معجمه " عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يخرج الأَعُورُ الدَّجَّال مسيح الضلالة قبل المشرق في زمن اختلافِ مِن النَّاسِ وفُرْقةٍ، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يوما الله أعلم ما مقدارها، فيلقى المؤمنون شِدَّةً شديدة، ثم ينزل عيسى ابن مريم عليه السَّلام من السماء فيؤم الناس، فإذا رفع رأسه من ركعته قال: الله لمن حمده قتل سمع الله المسيح الدجال وظهر المسلمون» فأحلف أنَّ رسول الله أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه

وآله وسلم قال: «إنه لحق وأما أنه قريب فكل ما هو آت قريب».

صححه ابن حِبَّان، وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد": «رجاله

رجال الصحيح غير علي بن المنذر وهو ثقة». اهـ

۳۱۰

كتاب الإيمان

وقال البيهقي في "الأسماء والصفات : باب قول الله عزّ وجلَّ لعيسى عليه السلام: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى [آل عمران: ٥٥]، وقوله تعالى: بل رفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: ١٥٨]

ثُمَّ أخرج بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم من السماء

فيكم وإمامكم منكم». قال البيهقي: وإنما أراد نزوله من السماء بعد الرفع

إليه». اهـ.

فهذان الحديثان صريحان في أن عيسى ينزل من السماء وذلك يقتضي

موجود فيها الآن.

أنه

وجاء التصريح بنزوله من السماء أيضًا في حديث ابن عباس مرفوعًا، رواه إسحاق بن بشر وابن عساكر في "تاريخه".

وصح في حديث الإسراء من طرق أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم اجتمع بعيسى عليه السَّلام في السماء الثانية.

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير وابن أبي حاتم، والنسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال الحافظ ابن كثير - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلًا منهم من الحواريين ، وذكر الأثر إلى أن قال: «ورفع

عيسى مِن رَوْزَنَةٍ في البيت يعني كُوَّة إلى السماء».

قال ابن كثير وقد أورد الأثر بتمامه في "تاريخه " ما نصه: «وهكذا ذكر

عقيدة أهل الإسلام

غير واحد من السلف وممن ذكر ذلك مطولاً محمد بن إسحاق بن يسار».

۳۱۱

ثم نقل عن وهب بن منبه ويحيى بن حبيب أثرين طويلين في كيفية رفع عيسى إلى السماء ثُمَّ قال: «ويروى عن علي عليه السَّلام: أن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان، وفي مثل تلك الليلة توفّي علي عليه السَّلام بعد طعنه بخمسة أيام».

وأخرج إسحاق بن بشر : أنبانا سعيد بن بشر بن أبي عروبة، عن قتادة ومقاتل، عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال: أوحى الله عزّ وجل إلى عيسى ابن مريم: يا عيسى جد في أمري ولا تهن، وأسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول، إنك من غير فَحْل وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد وعلي فتوكل، خذ الكتاب بقوة، فسر لأهل السريانية، بلغ من بين يديك أني أنا الحق الحي الدائم الذي لا أزول صدقوا النبي الأمي العربي صاحب الجمل والتاج والمدرعة والفعلين والهراوة، الأنجل العينين، الصلت الجبين، الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكنَّ اللحية المقرون الحاجبين الأقني الأنف المفلج الثنايا البادي العَنْفَقة، الذي كأن عنقه إبريق فِضَّة، وكأنَّ الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبَّته إلى سرته تجري كالقضيب ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شن الكفّ والقدم، إذا التفت التفت جميعا، وإذا مشى فكأنما يتقلع من صخر وينحدر من صَبَب، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، وريح المسك تنفح منه، لمير قبله ولا بعده مثله، الحسن القامة الطيب الريح نكاح النساء ذا النسل القليل، إنما نسله من مباركة لها بيت من قَصَبٍ لا نَصَبَ فيه ولا صحب، تكفله يا عيسى في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك، له منها

۳۱۲

كتاب الإيمان

فرخان مستشهدان وله عندي منزلة ليست لأحد من البشر، كلامه القرآن ودينه الإسلام وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه. قال عيسى يا رب وما طوبى ؟ قال : غرس شجرة أنا غرستها بيدي فهي للجنان كلها، أصلها من رضوان، وماؤها من تسنيم، وبردها برد الكافور، وطعمها طعم الزنجبيل، وريحها ريح المسك من شرب منه شربة لم يظمأ

.

بعدها أبدًا. قال عيسى يا رب اسقني منها. قال: حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبيُّ ، وحرام على الأمم أن يشربوا منها حتى يشرب منها

أمة ذلك النبي. قال: يا عيسى أرفعك إليَّ، قال: يا رب ولم ترفعني؟، قال: أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب، ولتعينهم على قتل اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلي بهم لأنها أمة مرحومة ولا نبي بعد نبيهم». أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" من هذا الطريق. وأخرج ابن أبي حاتم، عن جويرية بن بشير قال: سمعت رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد قول الله عزّ وجلَّ: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ

موته [النساء: ١٥٩]

قال: «قبل موت عيسى، إنَّ الله رفع إليه عيسى وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر

وأخرج ابن سعد، وأحمد في "الزهد"، والحاكم، عن سعيد بن المسيب

عقيدة أهل الإسلام

قال: «رفع عيسى ابن ثلاث وثلاثين سنة، ومات لها معاذ».

۳۱۳

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح [النساء: ١٥٧] الآية قال: «أولئك اليهود أعداء الله افتخروا بقتل عيسى وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه، وذكر لنا أنه قال لأصحابه: أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول. فقال رجل من أصحابه أنا يا نبي الله. فقتل ذلك الرجل ومنع الله نبيه ورفعه إليه».

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد في قوله تعالى: سبة لهم ﴾ [النساء: ١٥٧] قال: صلبوا رجلًا غير عيسى، شبهوه بعيسى،

يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى حيا».

وأخرج عبدالرزاق، وأحمد في الزهد، وابن عساكر، من طريق ثابت البناني، عن أبي رافع قال: رفع عيسى ابن مريم وعليه مدرعة وخفاراع وخذافة يخذف بها الطير».

وأخرج أحمد في الزهد ، وأبو نعيم، وابن عساكر، من طريق ثابت البناني، عن أبي العالية مثل قول أبي رافع.

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن شهر بن حوشب في قوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوته قال: قال محمد بن على - هو ابن الحنفية ليس من أهل الكتاب أحدٌ إلا أتته الملائكة يضربون وجهه ودبره، ثُمَّ يقال يا عدو الله إنَّ عيسى روح الله وكلمته، كذبت على الله وزعمت أنه الله، إن عيسى لم يمت وإنه رفع إلى السماء وهو نازل قبل أن تقوم الساعة،

٣١٤

كتاب الإيمان

فلا

ا يبقي يهودي ولا نصراني إلَّا آمن به».

وأخرج ابن جرير عن السُّدِّي أنَّ عيسى قال لأصحابه من يأخذ صورتي ويقتل فله الجنّة فأخذها رجلٌ منهم وصعد بعيسى إلى السماء فذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرينَ [آل عمران: ٥٤] وذكر بقية الأثر. وأخرج البيهقي في "الأسماء والصفات" عن الفراء في قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ } قال: نزلت في شأن عيسى عليه السلام، إذ أرادوا قتله فدخل بيتا فيه كُوَّة وقد أيده الله عزّ وجل بجبريل عليه السَّلام، فرفعه إلى السماء من الكُوَّة، فدخل عليه رجلٌ منهم ليقتله فألقى الله على ذلك الرجل شبه عيسى ابن مريم فلما دخل البيت ولم يجد فيه عيسى خرج إليهم وهو يقول ما في البيت أحد، فقتلوه وهم يرون أنه عيسى فذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ المكر من الله : الاستدراج، لا على معني مكر

المخلوقين. وأخرج ابن عساكر عن عبد الجبار بن عبدالله بن سليمان قال: أقبل عيسى ابن مريم على أصحابه ليلة رفع فقال: «لا تأكلوا بكتاب الله أجرًا فإنكم إن لم تفعلوا أقعدكم الله على منابر الحجر منها خير من الدنيا وما فيها». قال

عبدالجبار وهي

المقاعد التي ذكر الله في القرآن: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكِ

مُقْتَدِر [القمر: ٥٥] ورفع عليه السلام.

وأخرج ابن جرير عن الضَّحَّاك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ

[الزخرف: ٦١] قال: خروج عيسى ابن مريم ونزوله من السماء قبل يوم القيامة.

عقيدة أهل الإسلام

٣١٥

وتقدمت آثار عن ابن جريج وابن زيد وغيرهما، وذكر ابن جرير في "تاريخه " أن عيسى أنزل عليه وهو ابن ثلاثين سنة ومكث حتى رفع إلى السماء

وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . اهـ ونحوه للشهرستاني في "الملل والنحل". وقال ابن كثير في تاريخه : ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء» وأورد آيات وآثارا نحو ما ذكرنا ثُمَّ قال: وقال الحسن البصري كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعًا وثلاثين سنة، وفي الحديث: «إنَّ أهل الجنة يدخلونها جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَلين أبناء ثلاث وثلاثين»، وفي الحديث الآخر: «على میلاد عيسى وحسن يوسف.

وكذا قال . حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : لرفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . اهـ

والحديث الذي أشار إليه رواه ابن أبي الدنيا قال: حدثنا بن القاسم: ثنا صفوان بن صالح: ثنا رواد ابن الجراح العسقلاني: ثنا الأوزاعي، عن هارون بن رئاب، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: يدخل أهل الجنَّة الجنَّة على طولِ آدمَ ستين ذراعًا بذراع الملك على حُسْنِ يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وعلى لسان محمَّدٍ جُرْدُ مُرْدُ مُكَحلون » ورواه الترمذي وغيره.

وقال العلامة السعد في "شرح المقاصد": «ذهب العظماء من العلماء إلى أنَّ أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء الخضر وإلياس في الأرض، وعيسى

وإدريس في السماء، عليهم الصَّلاة والسَّلام . اهـ

واستدل الرافعي في باب الطلاق من الشرح الكبير" على إمكان

٣١٦

كتاب الإيمان

الصعود إلى السماء عقلا بأنه: «قد أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم،

ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء». اهـ

قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديثه المسمي "بالتلخيص الحبير" ما نصه: (وأما رفع عيسى فاتفق أصحاب الأخبار والتفسير على أنه رفع ببدنه

حيا وإنما اختلفوا: هل مات قبل أن يرفع أو نام فرفع؟». اهـ.

الحفاظ

ومن . هذا الاتفاق الذي حكاه شيخ ا تعلم أنَّ الذين قالوا بموت

عيسى متفقون على رفع بدنه إلى السماء، فالقول بأنه دفن في الأرض من مخترعات القاديانية وتبعهم ذلك المفتي الجاهل. ثُمَّ إني لم أجد عن أحد بسند صحيح يُعتمد عليه القول بموت عيسى عليه السَّلام إلا عن وهب بن منبه وابن حزم، وهما قائلان برفع بدنه أيضا وبأنه نازل حسبما ورد به الحديث المتواتر.

ووهب انخدع بما رآه في كتب الإسرائيليات من قول النصارى بموت

عيسى عليه السلام، والرواية عن الإمام مالك في ذلك ساقطة لأنها تخالف ما صحت به الأحاديث والآثار الدالة على حياة عيسى عليه السَّلام، وشدة تمسك مالك بالآثار معروفة، بل مبنى مذهبه عليها كما يقول ابن خلدون في مقدمة "تاريخه " ، ثُمَّ هي على فرض صحتها أولها أصحاب مذهبه العارفون

بأقواله.

ففي "شرح مسلم" للإمام الأُبي ما نصه: «الأكثر على أنه لم يمت بل رفع

وفي " العتبية" قال مالك: مات عيسى ابن ثلاث وثلاثين سنة.

ابن رشد - هو الجد - يعني بموته خروجه من عالم الأرض إلى عالم السماء

عقيدة أهل الإسلام

۳۱۷

قال: ويحتمل أنه مات حقيقة ويحيى في آخر الزمان إذ لا بد من نزوله لتواتر الأحاديث بذلك. وفي العتبية" : كان أبو هريرة يلقى الفتى الشاب فيقول: «يا ابن أخي إنك عسى أن تلقى عيسى ابن مريم فاقرئه مني السَّلام». تحقيقا لنزوله، فما ذكر ابن حزم من الخلاف في نزوله لا يصح . اهـ

وقوله: ويحتمل أنه مات حقيقة ويحيى في آخر الزمان» يشير إلى مسألة مهمة، وهي أنَّ موت عيسى على فرض تسليمه لا ينافي نزوله الذي تواتر به الحديث، بل يحييه الله الذي يحيي الموتى والذي أوجده من غير أب وينزله خليفة في هذه الأمة عن نبيها والقاديانية - خذلهم الله - يجهدون في إثبات موت عيسى ليدعوا أنه لا ينزل ولا يرجع؛ لأن الميت لا يحيى قبل يوم القيامة. وهم كاذبون في دعواهم جاهلون بالله لا يعرفونه، ومخالفون للقرآن فقد أخبر الله تعالى أنه أحيا الموتى اقرأ قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوقُ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَهُمْ ﴾ [البقرة: ٢٤٣] وقوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةُ عَلَى عُرُوشِهَا إلى قوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: ٢٥٩] وقوله جل شأنه: ﴿وَإِذْ قَالَ

إِبْرَاهِمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } [البقرة: ٢٦٠] إلى آخر الآية.

وقوله عز ذكره في شأن عيسى: ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَاءِ يلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِنَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُم مِن الطِينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بإذن الله ﴾ [آل عمران: ٤٩] وقوله عزّ وجل- مخاطبًا لعيسى عليه السلام: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْلَى بِإِذْنِي ﴾ [المائدة: ١١٠]

۳۱۸

كتاب الإيمان

وللحافظ ابن أبي الدنيا كتاب" من عاش بعد الموت" وهو جزء صغير

مطبوع بمصر ينبغي الوقوف عليه.

فلو سلم موت عيسى لكان إحياؤه ونزوله لابد منهما كما قال ابن رشد، لكنه حي مرفوع كما دلّت عليه الآثار السابقة من غير أن يوجد ما يعارضها. وقوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [المائدة: ١١٧] معناه:

قبضتني بالرفع إلى السماء كما قال أبو حيان وغيره من أئمة اللغة والتفسير. وقال القرطبي: قيل: هذا يدل على أن الله -عز وجل- توفاه قبل أن

يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي» . اهـ وقد نبهنا أنَّ التوفّي ليس معناه الموت لا مطابقة ولا التزاما، ومن الطريف أن القاديانية يستدلون على موت عيسى بحديث هذا لفظه: «لو كان موسي وعيسى حيَّين ما وسعهما إلَّا إتباعي» وهذا حديث مكذوب لا أصل له وما أكثر استدلالهم بالأكاذيب والمفتريات (۱).

(تنبيه): سبق أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم اجتمع بعيسى عليه الصَّلاة والسلام ليلة الإسراء، وهو اجتماع حقيقي؛ لأن الإسراء كان بالجسد

والروح كما هو مذهب طوائف الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والمحدثين. قال الحافظ في "الفتح": وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة فلا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يُجيله حتى يحتاج إلى تأويل» . اهـ

(۱) نعم صح أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال لعمر: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسي حيا ما وسعه إلَّا أتباعي».

۳۱۹

عقيدة أهل الإسلام وعلى هذا يكون عيسى صحابياً لانطباق تعريف الصحابي عليه، ولذا ذكره الذهبي في الصحابة فقال في "التجريد": «عيسى ابن مريم نبي وصحابي؛ فإنه رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فهو آخر الصحابة موتا.اهـ

وكذا قال الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح"، والحافظ ابن حجرٍ في "الإصابة" والحافظ السيوطي في "التدريب" وفي "الإعلام بحكم عيسى عليه السلام".

وألغز فيه التاج ابن السبكي بقوله:

من باتفاق جميع الخَلْقِ أفضلُ مِنْ خير الصِّحَابِ أبي بكرٍ ومِن عُمر ومن علي ومن عثمان وهو فتى مِن أُمَّة المصطفى المختارِ مِن مُضَر قال العلامة أبو عبدالله محمد الطالب ابن الحاج في "حاشية على شرح

المرشد المعين": وجوابه

ذاك ابنُ مريمَ رُوح الله حيثُ رأى نبينا المصطفى في أحسن الصُّورِ فوق السمواتِ ليلًا عندما اجتمعا كذاك عند ظراب البيت والحجر وقد ألف العلامة الفاضل الشيخ محمد بشير السهسواني رسالة جيدة سماها "الحق الصريح في إثبات حياة المسيح" ردَّ بها على الغلام القادياني، كما ألف من قبل أبو المنذر بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي العلامة النسابة

المتوفى سنة ( ٢٠٤ هـ) كتاب "رفع عيسى عليه السلام".

۳۲۰

كتاب الإيمان

فصل

فتوى في نزول عيسى عليه السلام

كتب قادياني اسمه عبدالكريم خان في القيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط خطابًا إلى مشيخة الأزهر جاء فيه: هل عيسى حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر أنه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض أنه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟

فأحالت المشيخة السؤال على أحد أعضاء الهيئة؛ لا لفضل علم عنده بل لأنه أجرأهم على القول في دين الله بغير علم، وأجلدهم على تحمل صفعات البرهان التي تنهال عليه من كل حدب وصوب، فتحمل التبعة وأدَّى المهمة التي عهد بها إليه، وأجاب بجواب يتفق وأغراض القاديانية ويتمشّي مع أهوائهم حيث زعم كما زعموا أن عيسى عليه السَّلام مات ودفن وأنَّ رفعه الوارد في القرآن رفع مجازي، وأنَّ الأحاديث الواردة في نزوله آحاد لا يُعمل بها في العقائد والمغيبات بالإجماع وأنها سمع اضطرابها- يرويها كعب الأحبار ووهب بن منبه وهو من أهل الكتاب. وختم فتواه بالشهادة على الله كأنه نبي يوحى إليه - أنَّ مَن أنكر نزول عيسى فهو مؤمن لا شية في إيمانه عند الله فتقبلها القاديانية بقبول حسن

ونشروها في مجلتهم "البشرى" شاكرين ومُطّرين صاحبها، وحق لهم ذلك،

فقد وجدوا فيه بغيتهم ورأوا من فتواه أكثر مما كانوا يشتهون.

رأوا جرأة في دفع الحقِّ وتدعيم الباطل تقطعت دون الوصول إليها أعناق

عقيدة أهل الإسلام

۳۲۱

مطاياهم، وهل أجراً ممن يَرُدُّ الحديث المتواتر بأسباب مختلفة لا وجود لها إلا في

مخيلته؟!

لمس العلماء أهل الحق خطر تلك الفتوى الخاطئة ورأوا من كتب جناية صاحبها على العلم والدين فقاموا يردون فريته ويدحضون نحلته امتثالاً ظاهرين

لأوامر الدين وتحقيقا لقول الصادق الأمين: «لا تزال طائفةٌ مِن أُمَّتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». وفي رواية «حتى ينزل عیسی ابن مریم . وكنت ممن تشرف بالانتظام في عقد هؤلاء المجاهدين الأبرار فكتبت في "مجلة الإسلام" ثلاث مقالات تحوّلت بعد إلى كتاب مستقل سميته: "إقامة

البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان"، أُعجب به كل من رآه والحمد الله. ولما رأى صاحب الفتوى ضربات الحقِّ تتوالى وتنهال عليه، ووجد وقعها شديدا ليس في طاقته تحمله، قام يحاول الدفاع عن نفسه، لكنه دفاع المنهزم المندحر، يحمل في أثنائه الاعتراف بضعف الحيلة وخسران القضية مع

الاستمرار في العناد جريًا على المثل المعروف معزة ولو طارت». كتب ثلاث مقالات أو أربعًا كشف فيها شريكه في جريمته وبيَّن صنوه في نحلته ليتقهقر بعض منا - فَرَقًا مِن سَطُوته، لكن أحدا منا لم يتقهقر بل ضاعفنا القوة وواصلنا الجهاد وتيقنا أنَّ هذا المفتي المبتدع لا يفهم العلم إلا على أنه صنعة لأكل العيش، وأن الترقي فيه يكون بمقدار التقرب من رئيس

المصنع».

۳۲۲

كتاب الإيمان

وحيث أنَّ معلّمه الذي أدخله عضوا في الهيئة، ورقاه إلى الدرجة الفلانية، وانتخبه عضوا في مؤتمر الأديان بلاهاي، وآواه بعد أن كان طريدًا شريدا - أنكر رفع عيسى وحياته ونزوله؛ فلابد أن ينكر هو ذلك أيضا لأن أكل العيش والانسجام في العمل يقتضيانه.

وأظنك بعد هذا تدرك سر اتهامه خصومه بأنهم مرتزقة باسم الدين فقديما قيل: « ما فيك يظهر على فيك»، ويقول المثل العربي: «رمتني بدائها وانسَلَّت». ثُمَّ ماذا؟ ثُمَّ ركب الصعب والذُّلُول، وتاه في مفاوز ومجاهل عسى أن يجد طريقا ينفذ منه أو يعثر على من ينقذه مما هو فيه، فضل وزل وصاحبته الخيبة

حيثما حل.

كذب في النقل عن بعض العلماء، وحرَّف في النقل عن بعض آخر منهم،

ودلس في التعبير، وغشّ نفسه وقراءه، فكان مثالا للغاشين الخائنين. نقل في "مجلة "الرسالة" (عدد ٥١٤ - ص ١٦٦) أنَّ سفيان الثوري قال: «إنَّ الجهاد ليس مطلوبًا مِنَّا بسبب كفر الكفَّار بل بسبب محاربتهم واعتدائهم». الحافظ في

-

وسفيان لم يقل هذا بل قال قولا آخر نقله ابن العربي " الأحكام" (ج أ ص ٢٤). ونقل في "مجلة الرسالة ( عدد ٥١٩ - ص ٤٦٤) أنَّ الإمام أحمد قال: «مَن ادعى وجود الإجماع فهو كاذب». وكلمة «وجود» كذب على الإمام أحمد لم ينطق بها ولا أراد معناها، لأنه لم يستبعد وجود الإجماع وإنما كان كلامه في قول الأكثر

إذا لم يعلم فيه خلاف، انظر (ج ۱ - ص ۱۱ ) من "أعلام الموقعين" طبع الهند.

عقيدة أهل الإسلام

۳۲۳

ونقل في الكلام على قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى ﴾ [آل عمران: ٥٥] ( مجلة الرسالة عدد ٥١٦ - ص (٤٠٨ كلامًا للإمام الرازي ناقصا مبتورا ليفيد ما يشتهيه، مع أنَّ الرازي صرح في تفسير هذه الآية نفسها أن عيسى حي مرفوع، وأنه سينزل كما قال أهل السنة أجمعون.

وسلك مثل هذا التدليس في نقله عن الآلوسي في تفسير هذه الآية أيضًا "مجلة الرسالة" (ص ٥١٦ عدد ٤٦٢).

وهكذا كانت طريقته في النقل عن كتب الأصول أيضًا بحيث لم يكن فيها

كتب نقل سالم من تحريف أو تعديل.

أما تناقضاته فحدّث عنها ولا حرج، نقل في فتواه (ص ٥٦ عدد ٤٦٢ "الرسالة") إجماع العلماء على أن حديث الآحاد لا يفيد عقيدة ولا يعتمد عليه

في المغيبات.

فلما ألزمناه بالإجماع على نزول عيسى كتب مقالا (عدد ٥١٩) كله تشكيك في الإجماع من حيث إمكانه ووقوعه وحُجَّتيه وطريقة نقله واستشهد بقول الإمام أحمد: «من ادعي الإجماع فهو كاذب وزاد فيه لفظ «وجود» لتدل على المعنى المقصود، وهذا تناقض

وتكلم في فتواه على أساس أن نزول عيسى عقيدة (ص ٥١٦ – ٥١٧ عدد

-

٤٦٢) ولم يكن عنده غير ذلك، ثُمَّ رأى في كتابي "إقامة البرهان" (ص ۹۲ – ٩٣) أن نزول عيسى من الأحداث الواقعة في الدنيا قبل انقراضها وأنَّ وجوب التصديق بوقوعه لإخبار الشارع به لا يجعله من العقائد التي يطلب فيها البرهان.

٣٢٤

كتاب الإيمان

فأخذ هذا وكتب يقول : إن نزول عيسى ليس من العقائد وأن ذكره فيها قول من لم يفهم معنى العقيدة» (ص ٤٠٦ - ٤٠٧ - عدد ٥١٦ "رسالة"). فتناقض وأقر على نفسه أنه لا يفهم معنى العقيدة.

وذكر أن العلميات التي لم ترد بطريق قطعي أو وردت ولابسها احتمال، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين. (ص ٤٠٦ عدد ٥١٦). وهذا تهافت ظاهر؛ لأنه لا معنى لكون الشيء عقيدة عند الشرعيين إلَّا أنَّ الدين كلف به، وحيث أقرّ على نفسه بعدم فهم معني العقيدة فلا . يريد بها ما هو متعارف بين عوام الناس من قولهم: عقيدة الحزب الوطني كذا،

يمتنع

أن

وعقيدة الوفد كذا يريدون المبدأ السياسي الذي يمشي عليه الحزب. ومن تهافته الدال على تلاعبه أنه سمع نفيه أن يكون نزول عيسى من العقائد التي يكلفنا بها الدين ينفي وقوعه أيضًا لأنه ليس في القرآن والسُّنَّة ما يفيد ذلك يقينا من غير احتمال.

وهذا تلاعب لأن اليقين إنما يطلب في العقائد التي يكلفنا بها الدين – على حد فهمه وتعبيره - أما العقائد التي لا يكلفنا بها الدين كنزول عيسى والدَّجال - عنده - فيكفي فيها ما يحصل الظن، واشتراط اليقين تعنت وتلاعب وهرب من الاعتراف بالحقِّ، هذا إن ماشيناه على قدر عقله وفهمه.

وأما إن ذهبنا على ما قرره العلماء وهو مركوز في فطر عوام المسلمين فكل ما ورد عن الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبرًا كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، لقوله تعالى: وَمَا يَنطِقُ

عقيدة أهل الإسلام

٣٢٥

عن الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّاوَحَى يُوحَى ﴾ [النجم: ٣ - ٤] وقوله تعالى: وَمَاء النكُمُ الرَّسُولُ

فَخُذُوهُ ﴾ [الحشر: ٧]

وللآيات الكثيرة الآمرة بطاعة الرسول إطلاقًا من غير تقييد، ولأن خبر

الرسول صدق فيجب التصديق به.

نعم، تختلف الأحاديث الواردة من حيث نقلها بالتواتر وغيره، ومن حيث متونها بالنص وغيره، فيختلف حكم منكر ما جاءت به تبعا لذلك، فيكفر منكر ما تواتر، ويفسق منكر غيره وبهذا البيان الوجيز تدرك أنَّ هذا المفتي انحط فهمه وإدراكه عن درجة

.

العوام، ولا عجب في ذلك فقد كشفت لنا فتواه وردوده على أنه في مستوى العامة - إن لم ينحط عنهم في بعض الأحيان بنقص في الإدراك كما هنا - لم يزد عليهم بفضل اطلاع وسعة معلومات.

ومن عجيب تلاعباته أنه ينكر حديث النزول المخرج في الكتب الستة التي نُقلت إلينا نقل استفاضة بل تواتر في بعضها، وهي مفزع العلماء من جميع الطبقات بحيث لا يخلو من العزو إليها كتاب من كتبهم في مختلف المواضع، بل

"صحيح البخاري" بلغ في الشهرة إلى حد أن العوام يحلفون به. ثُمَّ نجده يعتمد في إنكاره المذكور وغيره على كتب لم تُنقل نقل الكتب الستة ولا اشتهر مؤلفوها بالعلم والثقة اشتهار الأئمة الستة بل لو رجع ه المفتي الخاطئ إلى نفسه لوجدها أعرف بالبخاري ومسلم وأبي داود منها بالغزالي والعضد والسَّعد، ولو أراد الوقوف على تاريخ ولادة الترمذي

٣٢٦

كتاب الإيمان

والنسائي ووفاتها لكان أيسر عليه من معرفة ولادة البزدوي والبهاري

ووفاتهما.

ولا شك أنَّ الاطمئنان إلى قول العالم أو نقله مبني على معرفة علمه وعدالته واشتهار مؤلفاته عنه اشتهارًا يفيد صحة نسبتها إليه ويمنع تطرق

.

احتمال عبث يلحقها بزيادة أو نقص أو تصحيف.

والكتب الستة بلغت من العناية في نقلها مبلغا لم يحظ به كثير من كتب المتقدمين فضلا عن المتأخرين، فتجد رواتها ينصُّون على اختلاف النسخ بزيادة لفظ باب مثلا في رواية فلان ونقصه في غيره كما يعلم بالوقوف على شرح ابن الحافظ، والقسطلاني للـ"بخاري ، وشرح عياض لـ"مسلم"، وغيره

حجر

من الشروح.

ومن تضليلات هذا المفتي وجهالاته أنه حاول أن يرد ما نقلناه عن أحمد بن حنبل، وداود بن على الظاهري إمام الظاهرية، والحارث بن أسد المحاسبي شيخ الصوفية، والحسين بن علي الكرابيسي، وابن حزم، من أن خبر الواحد يفيد العلم اليقيني.

ونقله ابن خويز منداد عن مالك بن أنس واختاره، وأطال في تقريره وتأييده في كتاب له في أصول الفقه، وحكاه ابن الصباغ عن قوم من أهل

الحديث.

فلم يرده بطرق الرد العلمية، بل عمد إلى نقل عبارة للغزالي لا تفيده شيئًا وبنى عليها صحة ما زعمه أولا من انعقاد الإجماع على أن حديث الآحاد لا

عقيدة أهل الإسلام

۳۲۷

يفيد عقيدة، فكان عمله هذا جهلا؛ لأنه لم يقف على كلام من قالوا: خبر

الواحد يفيد العلم حتى يدرك منافاته لكلام الغزالي.

وتضليلا ؛ لأنه خدع قراءه وأوهمهم أنه أثبت مدعاه، وهو لم يفعل شيئًا. ونحن ننقل عبارة الغزالي ونبين ما فيها جاء في "المستصفى" (ج ۱ - ص ١٤٥) المطبعة الأميرية ما نصه: خبر الواحد لا يفيد العلم وهو معلوم بالضرورة، فإنا لا نصدق بكل ما نسمع ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين؟ وما حكي عن المحدثين من أنَّ ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمَّى الظنُّ علما ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن» . اهـ والذي قال: «إنه يوجب العلم الظاهر»، أبو بكر القفال وهو فقيه شافعي ليس من أهل الحديث، والغزالي على ما يظهر من كلامه - لم يقف على كلام المحدثين وإنما ترجى أن يكون مرادهم ما أبداه من التأويل، لكن ترجيه لم

يتحقق، فقد صرحوا بمرادهم تصريحا لا يحتمل تأويلا.

قال ابن حزم في "النبذ " (ص (۲۱) بعد تمهيد: «فإذا جاء خبر الراوي الثقة عن مثله مسنَدًا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو مقطوع على أنه حق عند الله عزّ وجلَّ، موجب صحة الحكم به إذا كان جميع رواته متفقا على عدالتهم، أو ممن ثبت عدالتهم وإن اعترض معترض في بعضهم ممن لم يصح

اعتراضه أو اعترض بما لا يصح الاعتراض به . اهـ

ثم ذكر برهان قوله وقال في "الأحكام" (ج ۱ ص ١٢٤) بعد تمهيد أيضا:

۳۲۸

كتاب الإيمان

«وإذا صح هذا، فقد ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلَّم حقٌّ مقطوع به موجب للعلم والعمل معا» . اهـ ثم نقل هذا القول عن الإمام أحمد ، وداود الظاهري، والحارث المحاسبي، والحسين الكرابيسي، واستدل له بما يراجع هناك.

وقال العلامة عبدالعزيز البخاري في "شرح أصول البزدوي": «ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أنَّ الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجب

علم اليقين بالضرورة، وهو مذهب أحمد بن حنبل».اهـ

فهذه عبارات صريحة تنافي ما قاله الغزالي كما هو ظاهر، وقد صرح بنحو ما قلناه الإمام ابن الهمام حيث قال في "التحرير": «المختار أن خبر الواحد قد يفيد العلم بقرائن غير اللازمة لما تقدَّم، ولو كان غير عدل لا مجردًا، وقيل إن كان عدلا جاز مع التجرد، وعن أحمد يطرد، وأول بعلم وجوب العمل لكن

تصريح ابن الصلاح في مرويهما بأنه مقطوع بصحته ينفيه» . اهـ ثم ما اختاره من أن خبر الواحد المحتف بالقرائن يفيد علم اليقين اختاره أيضًا إمام الحرمين، والغزالي، والإمام الرازي، والآمدي، وابن الحاجب، وابن السبكي، والبيضاوي، والعَضُد والسيد الجرجاني، والحافظ ابن حجر، وغيرهم من المحققين، وهو الصحيح، ودلائله مبسوطة في مواضعها. ولم يأت من خالف في ذلك بما يصلح للتمسك والاستدلال، بل تعد المخالفة من باب المكابرة إذ لا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الرجال كما قال الحافظ أنَّ مالكًا أو الشافعي أو البخاري مثلا لو أخبر بشيء

عقيدة أهل الإسلام

۳۲۹

أنه صادق فيه، ولا يخطر بذهن السامع غير ذلك، وهذا مشاهد ملموس ولذا قال يحيي بن بكير لأبي زرعة الرازي - فيما رواه الخطيب في الكفاية-: «يا أبا زرعة ليس ذا زعزعة عن زوبعة، إنما ترفع الستر فتنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر».اهـ

ومن هذا القبيل حديث الصحيحين فقد احتفت به قرائن كما قال الحافظ، منها: إمامة الشيخين في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، قال الحافظ : «وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرَّد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر»، قال: إلَّا أنَّ هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه حيث لا لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح

ترجیح، لأحدهما»، قال: وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته» . اهـ وممن قال بإفادة خبر الصحيحين العلم: أبو إسحاق وأبو حامد الأسفرايينيان، وأبو الطيب الطبري وأبو إسحاق الشيرازي الشافعيون، والقاضي عبدالوهاب المالكي، والسرخسي الحنفي، وأبو يعلى وأبو الخطاب وابن الزاغوني الحنبليون، وابن فورك من المتكلمين، ومحمد بن طاهر المقدم وأبو نصر عبدالرحيم بن عبد الخالق بن يوسف وابن تيمية وابن القيم من

الحفاظ.

وهو رأي ابن الصلاح أيضًا قال في علوم الحديث" بعد أن ذكر أقسام الحديث الصحيح: وأعلاها الأول، وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرًا:

۳۳۰

كتاب الإيمان

صحيح متفق عليه يعنون به اتفاق البخاري ومسلم لا اتفاق الأمة، لكنه لازم من ذلك وحاصل معه؛ لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفق عليه بالقبول،

خلافا

وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، لقول من نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويَّا، ثم بان لي أنَّ المذهب الذي اخترناه أولا هو الصحيح؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حُجَّة مقطوع بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نافعة ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به أحد الشيخين مندرج فيما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول سوى أحرف يسيرة تكلّم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره

وهي معروفة عند أهل هذا الشأن» . اهـ

ووافقه ابن كثير، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم.

واعتراض النووي وابن عبد السَّلام عليه بَحَث فيه البلقيني في " محاسن الاصطلاح" وبيَّن أنَّ ما قاله ابن الصلاح سبقه إليه جماعة من العلماء ونقله بعض الحفاظ المتأخرين مذهباً لأكثر أهل الكلام من الأشعرية، ولأهل الحديث والسلف عامة... إلخ كلامه.

وكذا بحث في كلام النووي الحافظ ابن حجر في "نكته على ابن الصلاح" وغيرها مما يستخلص من مجموعه أنَّ ما اختاره ابن الصلاح صحيح لا غبار عليه.

عقيدة أهل الإسلام

۳۳۱

كما يستخلص مما ذكرناه في هذا البحث كله أنَّ ما ادعاه ذلك المفتي مِن أَنَّ حديث الآحاد لا يفيد عقيدة بالإجماع كذب محض ()، وأن ما تشبث به من

كلام الغزالي لا متمسك له فيه.

والعجب ممن لا يعرف معنى العقيدة كيف ساغ له أن يتكلم على ما يفيد

عقيدة وما لا يفيدها ؟!

.

أما دعواه بالإجماع على أن حديث الآحاد يعتمد عليه في المغيبات فأوضح كذبًا وأظهر بطلانا من سابقتها، وإذا استثنينا طائفة من الفقهاء قالوا بذلك في الوعيد خاصة، فإنه لا يوجد في الدنيا عالم رأى هذا الرأي فضلا عن أن يكون إجماعا، بل قرر العلماء أنَّ الاعتماد في المغيَّبات على الكتاب والسُّنَّة مما صح نقله أو حسن كما في كتاب غير واحد منهم كـ" الأسماء والصفات" للبيهقي، و"الشفا" للقاضي عياض والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير، وكذا "تفسيره"، و"الإعلان" بالتوبيخ لمن ذم التوريخ" للحافظ السخاوي، وكذا كتابه الذي ردَّ به على البرهان البقاعي وسماه " الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل"، وغيرها.

ثُم ذكر ذلك المفتي الخاطئ: «أنَّ الأدلة النقلية لا تفيد اليقين، ولا تحصل الإيمان المطلوب، ولا تثبت بها وحدها عقيدة عند كثير من العلماء، والذين ذهبوا إلى أنها تفيد اليقين وتثبت العقيدة شرطوا في الدليل النقلي أن يكون

(۱) ذكر العلامة الأبي في مواضع من "شرح مسلم: «أن العلميات التي لا ترجع إلى الذات والصفات يصح التمسك فيها بالآحاد». انظر (ص) ۱۰۳ ج ١ ، وص ١٨٨ ج ٦ ).

۳۳۲

كتاب الإيمان

قَطْعِيَّ الورود قَطْعِيُّ الدلالة». اهـ

وهو يقصد بهذا الكلام المموّه تمهيد الطريق لوضع قاعدته الجديدة وهي عدم العمل بالقرآن العظيم في الاعتقاديات بعد أن مهد لترك السُّنَّة بمقاله الخاطئ "شخصيات الرسول" حيث قسَّم فيه السنة إلى أقسام ليس للوحي دخل في معظمها، وجوَّز مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم فيها تبعا للمصلحة، وبذلك سقط الكتاب والسُّنَّة عن درجة الاحتجاج في كثير من مسائل الدين عند هذا المفتي المبتدع.

وقوله: «ولا بد أن يعم العلم بالعقائد جميع الناس ولا يختص بطائفة دون أخرى، ومن مقتضيات هذا العلم أن لا يقع خلاف بين العلماء في ثبوتها أو

نفيها، والعلميات المختلف فيها ليست من العقائد» . اهـ

تمهيد آخر لإنكاره جمهرة كبيرة من عقائد أهل السُّنَّة من عصر الصحابة وهلم، وفيه مع هذا تجهيل لهم حيث أدرجوا في العقائد ما ليس منها، فإذا ضم هذا التمهيد إلى ذاك نشأ عنهما جميع السمعيات وجانب من الإلهيات كوجوب اتصاف الله تعالى بأنه سميع بصير متكلم، وغير ذلك مما يتوقف على الدليل النقلي، فبناء على ما سبق لا يكون إنكار البعث الجسماني والجنة والنار كفرًا وخروجا عن الدين؛ لأن هذه الأشياء إنما تثبت بدليل نقلي، وهو لا يفيد اليقين ولا يحصل الإيمان المطلوب؛ ولأن العلم بها لم يعم جميع الناس لإنكار علماء الفلاسفة البعث وما بعده، وكذلك القول بقدم العالم، أو بأنَّ الله تعالى فاعل بالطبع أو العِلَّة لا يكون خروجًا عن الدين أيضًا؛ لأنه لم يعم العلم به الناس على ما هو معروف من الخلاف فيه بين علماء المسلمين وعلماء

جميع

عقيدة أهل الإسلام

۳۳۳

الفلاسفة، وقس على هذا ما أشبهه من المفاسد والضلالات التي فتح بابها هذا

المبتدع الجاهل بما استقعده ومهده.

وقد سبق المعتزلة إلى القول بأنَّ الدليل النقلي لا يفيد اليقين مطلقا، وانخدع بكلامهم طائفة من الأشعرية غير مدركين ما يلزم على هذا القول من الخطر العظيم، وتفطّن الحشوية لذلك فقالوا: «إنَّ الدليل النقلي يفيد اليقين مطلقا على النقيض مما ادعاه أولئك».

والقولان وإن كانا باطلين فأولهما أشد بطلانا وأعظم على الدين ضررًا، والحق أن الدليل النقلي يفيد اليقين بانضمام ،قرائن، هذا مذهب الماتريدية وهو الذي حققه الإمام الرازي في "المحصول"، والآمدي في" الأبكار"، والقاضي ناصر الدين البيضاوي في "الطوالع"، والأصفهاني في "شرحها"، والتاج السبكي في "جمع الجوامع"، والسعد في "شرح المقاصد"، و"التلويح"، والسيد في "شرح المواقف" و"حواشي الطوالع " وغيرهم.

ودلائله مستوفاة في مظانّها من الكتب المذكورة وغيرها، مع التوسع في إبطال دعوى التوسع المعتزلة، لكن لا بأس أن نشير إلى ذلك بشيء من الإيجاز. فالمعتزلة يقولون: «إنَّ إفادة الدليل النقلي لليقين تتوقف على العلم بوضع الألفاظ وبإرادة معانيها منها، والعلم بالوضع يتوقف على نقل العربية لغة ونحوا وصرفًا، وهذه الثلاثة إنما تثبت بنقل الآحاد كالأصمعي والخليل وسيبويه، وهو محتمل للخطأ والكذب، وعلى تقدير صحة الرواية يجوز الخطأ على العرب فقد خُطَّئ امرؤ القيس في مواضع وهو من أكابر شعراء الجاهلية.

٣٣٤

كتاب الإيمان

والعلم بإرادة تلك المعاني يتوقف على عدم نقل الألفاظ عن معانيها المخصوصة التي كانت موضوعة بإزائها زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى معان أخرى، وعدم الاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والنسخ،

وعدم هذه الأمور ظني فلا يحصل العلم بالوضع والإرادة. ولو حصل فإفادة اليقين تتوقف على العلم بعدم المعارض العقلي المحوج

إلى تأويل الدليل النقلي وعدم المعارض غير مجزوم به .

هذا كل ما أبدوه لتأييد زعمهم لكنه لم يفدهم شيئًا، أما اللغة العربية فالحق كما قال الشوكاني إنها كلها منقولة بطريق التواتر؛ لأن المشتغلين بنقلها في كل عصر - عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب والخطأ، كما لا يخفى على من له إلمام بأحوال علماء اللغة العربية، وتوهم اقتصار نقلها على الأصمعي والخليل وسيبيويه قصور ممن تو همه

وما أورده صاحب "المحصول" من الإشكالات على نقل اللغة بالتواتر -

مع كونه أجاب عنه من قبيل التشكيك في الضروريات، وقد اختار بعد أن أورد إشكالا على نقل الآحاد أيضًا أنَّ اللغة والنحو والتصريف ينقسم إلى قسمين: متواتر يفيد العلم الضروري بأن هذا اللفظ موضع هذا المعنى، وأحاد يفيد الظن.

قال: «وأكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول، والثاني فيه

قليل جدا فلا يتمسك به في القطعيات ويتمسك به في الظنيات» . اهـ وتجويز الخطأ على العرب مبالغة في المكابرة، وهو مع هذا يستلزم وقوع

عقيدة أهل الإسلام

٣٣٥

الخطأ في القرآن تبعا لخطأ العرب في لغتهم وفي هذا من الكفر والتهافت ما لا

يخفى

والأمور المذكورة وتعرف بالاحتمالات العشر - لا يتأتى دخولها في كل دليل نقلي كما هو ظاهر، إذ من الأدلة ما لا يقبل التخصيص أو النسخ قطعًا لكونه خاصا أو خبرًا محضًا، على أنَّ القرينة إذا انضمت إلى الدليل تفيد اليقين بنفي كل احتمال.

.

(تنبيه): ومما يجب التنبيه عليه أنَّ التوسع في الاحتمالات العشر على النحو الموجود في كتب المتأخرين بدعةٌ قُصد بها صرف النصوص عن معانيها المعروفة حتى لا يبقى منها نص سالم من تحريف أو تلاعب يسمى تأويلا، كما نرى اليوم هذا المفتي وأمثاله من الجهلة المبتدعين يتخلصون من نصوص الكتاب والسنة بدعوى الاحتمالات والتأويلات والأئمة المتقدمون لم يعرفوا شيئًا من هذا بل قرّروا أنَّ الخاص وما في معناه يدل على معناه دلالة قطعية؛ لأنه الغرض من الوضع الدلالة عند الإطلاق، وإلا لم يكن للوضع فائدة، قالوا واحتمال المجاز ونحوه لا يؤثر في قطعية الدلالة بشيء؛ لأنه ليس احتمالا ناشئا عن دليل فلا اعتداد به

والمعارض العقلي لا يتصوّر هنا؛ إذ لا طريق للعقل في المسائل الشرعية، على أنَّ الحقِّ كما قال السعد في "شرح المقاصد": «إن إفادة النقلية لليقين تتوقف على عدم العلم بالمعارض لا على العلم بعدمه، إذ كثيرًا ما يحصل اليقين من الدليل ولا يخطر المعارض بالبال إثباتًا أو نفيا فضلا عن العلم بعدمه،

٣٣٦

كتاب الإيمان

فالمراد بقولهم: إنَّ إفادتها اليقين تتوقف على العلم بعدمه أنها تكون بحيث لو لاحظ العقل المعارض جزم بعدمه . اهـ

وفرض وجود معارض عقلي من الافتراضات الوهمية التي لا يمكن تحققها أبدًا؛ لأن الأمور الشرعية البحتة لا دخل للعقل فيها بأكثر من أنها ممكنة جائزة، ولأن ما أتى في الكتاب والسُّنَّة لا يخلو من أحد وجهين، إما أمور اقتضى العقل وجوبها كوحدانية الله وتنزهه عن جميع النقائص واتصافه بجميع الكمالات، وصدق الرسل وعصمتهم من الخطأ في التبليغ وما إلى ذلك، وإما أمور حكم العقل بجوازها كالسمعيات.

ومن المحال أن يوجد معارض عقلي لأمر دل العقل على وجوبه أو جوازه. ويجب لهذه المناسبة أن نبين انتفاء الأمور المذكورة في مسألتنا فنقول: تقدم في أول الكتاب تواتر نزول عيسى عليه السَّلام، وبيان الجمع الكثير الذين خلفا . رووه عن سلف وطبقة بعد طبقة، والعلم حاصل بأن لفظ عيسى ابن مريم علم على الرسول الذي بعثه الله إلى بني إسرائيل وأنزل عليه الإنجيل إلى آخر ما جاء عنه في القرآن مما يفيد القطع اليقين بأن هذا الاسم لم يدخله نقل ولا اشتراك، كالحال في أسماء الأنبياء والرسل الموجودة في القرآن العظيم، ولا يتصور دخول النسخ هنا أبدًا.

قال الزركشي في البحر": إن كان مدلول الخبر مما لا يمكن تغيره، بأن لا يقع إلا على وجه واحد، كصفات الله تعالى، وخبر ما كان من الأنبياء

والأمم، وما يكون من الساعة وآياتها كخروج الدجال، فلا يجوز نسخه

عقيدة أهل الإسلام

۳۳۷

بالاتفاق كما قاله أبو إسحاق المروزي وابن برهان" في "الأوسط" لأنه يفضي إلى

الكذب» . اهـ

والتخصيص منتفٍ يقينًا أيضًا إذ ليس في اللفظ عموم يحتمله، وأما المجاز والإضمار فيبطل احتمالهما ألفاظ الحديث الكثيرة المصرحة بأن عيسى ابن مريم ينزل من السماء بين ملكين، وأنه يصلّي مؤتماً بإمام المسلمين، وإنه يحج ويعتمر ويزور القبر النبوي، ويقتل الدَّجَّال ، ويجاهد الكفَّار، ويتولى الخلافة العظمى، وينزل عليه جبريل عليه السَّلام.

النبي

ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يقتل ابن صياد لظنه أنه الدجال، قال له ، صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إن يكن هو فلست صاحبه، إنها صاحبه

عیسی ابن مریم .

أفبعد هذه الصراحة يزعم أنَّ في اللفظ مجازا؟! تالله إنَّ هذا الزعم لهو

منتهى الوقاحة.

أما المعارض العقلي فلا يتصور هنا كما بينا آنفا، كيف والعقل قاض بجواز

هذا الأمر جازم بإمكانه ؟!

فتبيَّن أنَّ

خبر نزول عيسى عليه السَّلام يقيني من جميع جهاته: يقيني

الورود يقيني الدلالة يقيني الإرادة. ومن هنا تدرك أن تصريح الحافظ السيوطي بكفر منكر نزول عيسى عليه السلام لم يكن تساهلا أو إسرافًا كما ظنَّ المتساهلون، ولكنه مبني على أساس من العلم متين، وإن عُذر الجاهل بعدم علمه، فما عذر هذا المبتدع المتعنت بعد

۳۳۸

كتاب الإيمان

أن أقيم عليه الدليل، ووضحت له السبيل؟!

ومن يدري فلعل عذره أن قلبه المريض لم يطمئن ونفسه الخبيثة لم تُذعن وهو إنما يستمد العقيدة من قلبه وهواه. أمَّا زعمه أنَّ العلميات المختلف فيها ليست من العقائد فزعم مستحدث اضطره إلى استحداثه حبُّ الإصرار على إنكار نزول عيسى والدجال وسائر ما لا يوافق المزاج، ولم يسبق إلى هذا الزعم أحد من علماء الكلام وغيرهم، كيف والكتب المؤلفة في العقائد من جميع الفرق- إنما وُضعت للرد على

المخالفين ؟! ثُمَّ تكلّم على الآيات المتعلّقة بعيسى عليه السلام ونفى أن تكون نصا في

نزوله، لكنه لم يفهم معنى النصّ ولا فَهم كلامنا فخبط خَبْطَ عَشْوَاء كعادته. وقد تقرر في الأصول أنَّ الظاهر إذا انضمت إليه قرائن صار نصا، كما تقرر أنَّ الاحتمال الضعيف أو الباطل الذي لم يعضده دليل لا يؤثر في نصوصيَّة اللفظ. فعلى أساس هذا تكلَّمتُ على الآيات وبيّنت دلالتها على نزول عيسى

نصا، وأوردت كلام ابن جرير وأبي حَيَّان وابن كثير وغيرهم استئناسا لا استدلالا، وأبطلت قول من خالفهم. فما زاد في رده على أن كرّر الاحتمال الباطل وأيده بالقول الضعيف فلم شيئًا، وطريقة الردّ العلمي في هذه المسألة تكون بأحد أمرين: إما بأن يبطل ما تقرر في الأصول تما بنيت عليه كلامي، وإما أن يسلّمه ويبطل القرائن

يصنع

التي ذكرتها معينة للمراد من الآيات وغير هذا عبث لا يعنينا تتبعه.

عقيدة أهل الإسلام

۳۳۹

ثُمَّ الذين استدل بكلامهم مصرحون بنزول عيسى مؤمنون به فما الذي

جعل كلامهم حُجَّةً في شيء دون شيء؟!

وثبوت العقيدة فأعاد ما ذكره من قبل: أن حديث

السنة ثُمَّ تكلم عن ا الآحاد يفيد الظن، وأنه لا يفيد عقيدة بالإجماع، وغير ذلك مما سبق أن دللنا على بطلانه. ونجده ينقل كلام الحافظ في "النخبة" بواسطة "مُسلَّم الثبوت"

وذلك دليل على اطلاعه وتحيله في النقل !

ثم ذكر التواتر وصعب شروطه ما شاء، وذكر أنَّ المتأخرين أسرفوا في

وصف الأحاديث بالتواتر ، إلى آخر ما قال مما يعذر بجهله له.

لكن يلام أشد لوم على التهجم فيه لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ

علم } [الإسراء: ٣٦]

ولا يعنينا مما هذر به من كلام ابن الصلاح، وهو لا يرد علينا لأمور: أحدها: أنه غير مسلَّم فقد رده الحافظ العراقي في نكته عليه وذكر أمثلة

كثيرة للمتواتر ، وكذا رده الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" وقال: «إنه نشأ عن قلة الاطلاع على الطرق ومعرفة أحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذب أو يحصل منهم اتفاقا». قال: «ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودًا وجود كثرة في الأحاديث: أن الكتب المشهورة المتدوالة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً، المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها، إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددًا تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في

٣٤٠

كتاب الإيمان

الكتب المشهورة كثير» . اهـ

وقال الحافظ السيوطي في مبحث المتواتر من "ألفيته " : وبَعضُهُم قد ادعى فيه العَدَمُ وَبَعضُهُم عِزَّتَهُ وَهُوَ وَهَمْ بل الصواب أَنَّهُ كَثِيرُ وفيه لي مُؤلَّف نَضِيرُ والمؤلف الذي أشار إليه اسمه "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" ذكر

فيه عشرة أحاديث ومائة حديث.

وألف العلامة النشابة ختام المحدثين بمصر السيد محمد مرتضى الزَّبيدي رسالة سماها "القط اللآلي المتناثرة" ذكر فيها سبعين حديثا لخصها من

"الأزهار". وألف العلامة المحدث السيد محمد بن جعفر الكتاني كتاب "نظم المتناثر

من الحديث المتواتر" ذكر فيه نحو ثلاثمائة حديث. ولشقيقنا العلامة المحدث السيد أحمد كتاب "الإلمام بما تواتر من حديثه عليه السلام"، وهو أوسع كتاب في هذا الباب رتبه على أربعة أقسام، قسم منها للكلام على الأحاديث التي ادعى بعض الناس أنها متواترة مع أنها لم

تستكمل شروط التواتر.

والمقصود أن دعوى قلة التواتر أو عدمه غير مسلمة.

ثانيها: ولو سلمنا أنَّ كلام ابن الصلاح صحيح فهو إنما أراد به التواتر اللفظي بدليل تمثيله بحديث من كذب علي ولأنه المفهوم عند الإطلاق، ولم يُرد بكلامه المتواتر المعنوي، وحديث نزول عيسى منه اللفظي.

عقيدة أهل الإسلام

٣٤١

ثالثها: ولو سلمنا أنه أراد اللفظي والمعنوي معا فهو إنما ادعى القِلَّة، فليكن حديث نزول عيسى عليه السَّلام من القليل الذي أقر بوجوده، إلَّا أن يثبت عنه أنه نفى تواتر هذا الحديث بخصوصه، ودون ثبوت هذا عنه . ، خَرْطُ

القتاد.

ولو سلمنا ذلك فيكون كلام الحفَّاظ الذين اثبتوا تواتره مقدما على نفيه وجوبًا لأمرين:

فالأول: أن المثبت مقدَّم على النافي كما تقرر في علم الأصول، لأن المثبت معه زيادة علم، ولهذا يقول ابن تيمية: «إنَّ أكثر الجهل إنما يقع في النفي لا في الإثبات؛ لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه». انظر "اقتضاء الصراط المستقيم".

والثاني: أنَّ الواحد أقرب إلى الخطأ والغلط من الجمع؛ لأن في تضافر

الآراء وتوافق الأقوال من القوة ما ليس في الرأى الواحد المنفرد.

هذا أمر واضح لا يحتاج إلى استدلال، ولهذا مع ما ورد من قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِنَّ الله لا يَجمَعُ أُمَّتي على ضَلَالَةٍ». وفي حديث آخر: «يَدُ الله على الجماعة فاتَّبِعُوا السَّوادَ الأَعْظَمَ، فإنَّه مَن شَدَّ شَدَّ فِي النَّارِ». عدَّ اتفاق مجتهدي الأمة في أي عصر حُجَّةً شرعيَّة يجب اتباعها ولا تجوز مخالفتها كما بين في محله، وستأتي الإشارة إلى شيء منه بحول الله . أما دعوى ذلك المبتدع أنَّ المتأخرين أسرفوا في وصف الأحاديث بالتواتر

فيسأل عنها، ماذا يريد بالمتأخرين؟

إن أراد المتأخرين من غير أهل الحديث فلا عبرة بكلامهم، وإن أراد

٣٤٢

كتاب الإيمان

المحدثين فهو كذب لا يحتاج إلى بيان؛ فأهل الحديث أشد الناس احتياطا في

الأحاديث كما هو معلوم

قال ابن دقيق العيد في "الاقتراح : إنهم زادوا في حد الصحيح شرط السلامة من الشُّذُوذ والعِلَّة وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإنَّ كثيرًا من

العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء».اهـ

فهم كما ترى أكثر تحرّيّا، وما أجدرهم بذلك لأنهم يتحملون مسئولية الرواية عن صاحب الشرع وهو أمرٌ خطير جدا، ولو ذهبنا نعد الأحاديث التي صرحوا بضعفها أو بحسنها فقط مع تعدد طرقها ورواتها بحيث تبلغ العشرين وتزيد لطال الحال واقرأ طرق أحاديث: مَن حَفِظ على أُمَّتِي أربعين حديثا»، طلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كلِّ مُسْلِمٍ»، وتخليل اللحية في الوضوء، ثُمَّ انظر ماذا قال عنها أهل الحديث؟

وهو

على أن الذين صرَّحوا بتواتر حديث نزول عيسى عليه السلام متقدمو أئمة الحديث كابن جرير والآبري، كما صرح بالتواتر أيضًا مِن المتأخرين من يعز وجود مثله بين كثير من المتقدمين في سعة الاطلاع وشدة البحث والتحري الحافظ ابن حجر الذي يقول في "التلخيص الحبير" متعقبا قول أبي إسماعيل الهروي أنه كتب حديث: «إنما الأعمال بالنيات» عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيي بن سعيد ما نصه: تتبعته يعني الحديث من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا» . اهـ

وذكر في "الفتح": أنه ما من حديث ذكر المتقدمون له طرقًا إلا زاد عليها

عقيدة أهل الإسلام

٣٤٣

طريقا أو أكثر إلَّا هذا الحديث يعني حديث «الأعمال بالنيات». فمثل هذا الحافظ إذا حكم بصحة حديث أو تواتره لم يكن مسرفًا بل المسرف من يصفه بذلك. ثُمَّ ذكر المبتدع : « أنَّ القائمين بالترغيب والترهيب ونقل الملاحم والفتن وغرائب الأخبار لهم أثر عظيم في خلع أوصاف الشهرة والتواتر على أنواع خاصة من الأحاديث التي ليست بمشهورة ولا متواترة، بل ربما كانت غير

!

صحيحة» . اهـ

وهذا كذب يتبيَّن بوجوه:

الأول: أن علماء الحديث قرَّروا جواز التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع في باب المواعظ والقصص وما إليها، كما نقل المبتدع نفسه، فلم يكن للقائمين بالترغيب والترهيب حاجة والحالة هذه إلى وصف الأحاديث بالشهرة أو التواتر؛ لأن لهم في الضعيف - بل الحسن والصحيح - مجالا واسعا. الثاني: أن القائمين بالترغيب والترهيب غرضهم ترقيق قلوب العامة وذلك لا يتوقف على صحة الحديث فضلا عن شهرته أو تواتره؛ لأن العامة لا تعرف ألقاب الحديث الاصطلاحية، ولا تهمها معرفتها.

الثالث: أن أغلب القائمين بالترغيب والترهيب جاهلون بعلوم الحديث

وقواعده، والعالم منهم لا يعتني بذلك في مجالس وعظه وترغيبه لما مرَّ آنفًا. وهذا أبو الفرج ابن الجوزي حافظ بغداد وواعظها الفذ تجده لا يعني في كتبه الوعظية بتصحيح حديث أو تحسينه بل يكتفي بقوله: روي كذا أو ورد في الأثر أو جاء في الخبر، ونحو ذلك على حين تجده في كتبه العلمية كـ"الموضوعات"

٣٤٤

كتاب الإيمان

بسند الحديث ويحقق الكلام عليه ويوفّيه حقه من البحث حتى ليخيل إليك أنَّ

المتكلم شخصان.

والحاصل أن أحدًا من القائمين بالترغيب لم ينص على صحة حديث فضلا عن استفاضته أو تواتره، ولو سُلَّم أنَّ أحدًا منهم نص على ذلك فالحفاظ لا يقلدونه في قوله، كيف وهم يحذرون من أكاذيب القصاص والوعاظ كما يعلم من كتاب "تلبيس إبليس" لابن الجوزي ، و "الباعث على الخلاص من أكاذيب القصاص" للحافظ العراقي، وتحذير الخواص من أكاذيب القصاص" للحافظ السيوطي، حتى أنَّ مما يثير الدهش عندهم أن يكون القاص يتقن

حفظ الحديث. فقد ثبت عن حماد بن سلمة أنه قال: كنت أسمع أنَّ القُصَّاص لا يحفظون الحديث فكنت أقلب على ثابت الأحاديث أجعل أنسًا لابن أبي ليلي، وأجعل

ابن أبي ليلي لأنس أشوشها عليه فيجئ بها على الاستواء. ولو سلم أنَّ أحدًا من الحفاظ قلد واعظا في تصحيح حديث - إن صححه - فحديث نزول عيسى عليه السَّلام خاصَّة لم ينص على تواتره واعظ ولا قلده فيه حافظ، فظهر أنَّ ما زعمه المبتدع من أسباب وصف الأحاديث بالتواتر فرية ما فيها مرية. والعجيب منه أنه ذيَّل كلامه السابق بحاشية صغيرة قال فيها ما نصه: وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال أربعة أحاديث تدور بين الناس في الأسواق ولا أصل لها ... إلخ» . اهـ ولم يذكر بقية الكلام ونحن نذكرها وهي: «مَن بَشَّري بخروج آذار بشرته

عقيدة أهل الإسلام

٣٤٥

بالجنة»، ومن آذى ذِمَّيًّا فأنا خَصْمُهُ يوم القيامة»، و«يومَ نَحْرِكم يوم

صومكم»، و«للسَّائِلِ حَقٌّ وإِن جاء على فَرَسٍ».

هذا تتمة ما روى الإمام أحمد، ولا علاقة له بموضوعنا كما هو ظاهر، فلا أدري لم ذكره المبتدع ! (۱).

ثُمَّ إِنَّ هذا كلامٌ لا يصح عن الإمام أحمد كما قال الحافظ العراقي؛ لأن حديث: «للسائل حَقٌّ وإن جاء على فرس». رواه الإمام أحمد نفسه في "مسنده" عن الحسين بن علي رضي الله عنهما مرفوعا بإسناد جيد، وله طرق عن علي وابن عباس والهرماس بن زياد.

وحديث: «من آذى ذمّيًا ...» رواه الخطيب في "التاريخ" عن ابن مسعود وقال: «منكر والحمل فيه عندي على العباس بن أحمد المذكور لأنه غير ثقة، لكن روى أبو داود والبيهقي، عن صفوان عن مسلم، عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن آبائهم دنية عن رسول الله

(1) يظهر لي أنه أراد قول الميموني سمعت أحمد بن حنبل يقول: «ثلاثة كتب ليس لها أصل المغازي والملاحم والتفاسير».

هذا ما قصده المبتدع ولكن العبارة تصحفت عليه، مع ذلك فليست هذه الكلمة على إطلاقها، قال الخطيب الحافظ : هذا محمول على كتب مخصوصة في هذه المعاني

الثلاثة غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها وزيادات القصاص فيها». اهـ وانظر بقية كلامه في كتاب "الجامع"، ونزول عيسى ليس مرادا هنا جزمًا لأنه متواتر ومخرجا في الصحاح، ومذكور في جملة عقائد السَّلَف كما سبق في كلام الإمام أحمد نفسه وأبي الحسن الأشعري وغيرهما.

٣٤٦

كتاب الإيمان

صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «أَلَا مَن ظَلَم مُعَاهِدًا أو انتقصه أو كلَّفَه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير

طيبِ نَفْسٍ فأنا حَجِيجُهُ يوم القيامة». سكت عليه أبو داود.

أما حديث: «مَن بشرني بخروج آذار... فلا أصل له، نبه عليه ابن الجوزي في "الموضوعات".

وكذلك حديث: يوم صومكم يوم نحركم»، قال محمد بن عبدالله بن

عبد الحكم إمام المالكية في وقته: «هو من حديث الكذابين».

ثُمَّ قال المبتدع: «بقي بعد هذا أمر لا بد من تقريره وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطعية،

فقد تناولتها أفهام العلماء قديمًا وحديثًا ولم يجدوا مانعا من تأويلها». اهـ وأقول هذا آخر سهم في جَعبَته وهو أشد ضربة وجهها الباطنية والملاحدة إلى الإسلام للقضاء عليه لكن لن ينالوا مرادهم منه بحول الله - ما دام للإسلام عِرْقُ يَنبض وحماةٌ يذبون عنه، يدفعون عنه غائلة العاقين له والخارجين عليه.

وأكثر الناس استعمالا لسلاح التأويل طائفتا البهائية والقاديانية، ثُمَّ شرذمة من دعاة الإصلاح مثل الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد، ثُمَّ يأتي المبتدع في مؤخّرة القطار يردّد الصَّدَى ويُعيد النغمة، ويوقظ الفتنة بعد

نومها.!

أما البهائية فهي وليدة من ولائد الباطنية تغذت من ديانات وآراء فلسفية ونزعات سياسية ثُمَّ اخترع لها مؤسسوها صورًا من الباطل وصاروا يزعمون

عقيدة أهل الإسلام أنها وحي سماوي.

٣٤٧

ودعوى الباطنية تقوم على إبطال الشريعة الإسلامية بتأويل نصوصها وأحكامها، وصرفها عن معانيها المعروفة في اللغة والشرع إلى معانٍ فاسدة يدعون أنها المقصودة، وقد بيّن السيد في "شرح المواقف" أصل نشأة هذه الدعوة.

وسببها أن طائفة من المجوس هم الذين أنشأوها، ولأبي بكر ابن العربي مع بعض زعماء الباطنية مناظرات ذكرها في كتاب "العواصم من القواصم". كما أن أبا العباس ابن تيمية ردَّ عليهم في كثير من مؤلفاته منها رسالة خاصة سماها "بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد".

ومن رأى كتب البهائية أو البابية وقرأ ما تسلكه من تحريف النصوص

وجدها كما قلنا وليدة الباطنية ودسيسة متفرعة عنها.

وفي كتاب "الدرر البهية لأحد دعاتهم أبي الفضل الجرفادقاني من هذا التحريف العجب العجاب يطول بي الكلام إن نقلته لكني آثرت أن أنقل القاعدة الكلية التي هي أساس نحلتهم.

أورد الجرفادقاني في كتابه المذكور قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَما يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ [يونس: ٣٩] وقوله تعالى : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي

تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبَّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: ٥٣] ثم قال: «ليس المراد من تأويل آيات القرآن معانيها الظاهرية ومفاهيمها

٣٤٨

كتاب الإيمان

اللغوية بل المراد المعاني الخفية التي أطلق عليها الألفاظ على سبيل الكناية والتشبيه والاستعارة».

وقال بعد هذيان من هذا القبيل وفي نفس الكتب السماوية تصريحات بأن تأويل آياتها إلى معانيها الأصلية المقصودة لا تظهر إلَّا في اليوم الآخر يعني

يوم القيامة ومجئ مظهر أمر الله وإشراق آفاق الأرض ببهاء وجه الله».

قال: ولذلك جاءت تفاسير العلماء من لدن نزول التوراة إلى نزول البيان - هو كتاب وضعه ميرزا على محمد الملقب بالباب - تافهة باردة عقيمة جامدة بل مضلة مبعدة محرفة مفسدة».!

هذا هو الأساس الخطير الذي وضعوه لهدم الشريعة، وهو أخطر مكيدة دبرت للإسلام؛ لأنهم يقولون نحن نؤمن بالقرآن وبأنه حقٌّ، لكنه مؤوّل فليس المراد بالصَّلاة والصيام والزكاة والبعث والجنة والنار وغيرها المعاني الظاهرية التي يفهمها العامة بل المراد معاني خفية رمز إليها بهذه الألفاظ على سبيل الكناية، ثُمَّ يذكرونها بما يتفق وأهواءهم.

وأما القاديانية فهي تتفق مع البهائية في تأويل النصوص وتحريفها وإن كانت تختلف معها في مسائل كثيرة كما يعلم من مراجعة كتبها، ومؤسسها أحمد القادياني كان يدَّعي أنه نبي ورسول ويؤول قوله تعالى: ﴿وَخَاتَم

غلام

النبي [الأحزاب: ٤٠] ويدعي أنه أفضل من عيسى عليه الصلاة والسَّلام، ويزعم خرافات وأكاذيب يطول تتبعها.

وقد قام علماء الهند - جزاهم الله خيرًا وأكثر أمثالهم - ضدّ هذا الدَّعِي

عقيدة أهل الإسلام

٣٤٩

الكذاب وردُّوا عليه وبالغوا في تفنيد كذبه رغم مضايقة السلطة البريطانية لهم وتأييدها له، بحيث كانت تبعث معه رجالًا من الشرطة يحمونه من المسلمين

إذا ذهب لمحاضرة أو مناظرة كما هو معلوم من ترجمته.

وليس غرضنا أن نفيض في بيان هاتين الطائفتين وفساد طريقتهما فقد ألفت في ذلك كتب خاصة وإنما غرضنا أن نقول: أنَّ كل فُسُوق ومروق وكفر وضلال وزندقة وإلحاد منشؤها التأويل فاستعرض أحوال الدعاة من متألهين ومتنبئين ومتمهدين، ثُمَّ انظر أرباب الفرق من معتزلة ومرجئة وقرامطة وباطنية وغيرهم تجد الباب الذي دخلوا منه جميعًا التأويل وإن اختلفوا في النزعات والأهواء والأغراض والميول.

ولذا كان أهل السُّنَّة موفقين كل التوفيق حين ضيقوا دائرة التأويل وجعلوه مقصورًا على حالة الضرورة لا يتعداها؛ لأنه بمثابة الرخصة، وقرّروا أنَّ كل ما جاز في العقل وورد بوقوعه السمع، وجب حمله على ظاهره كما نص عليه الإمام ابن المنير في الكلام على (سورة الحديد) من "الانتصاف"، والعلامة السنوسي في "شرح الكبرى" وهي قاعدة إجماعية مسلمة بين أهل

الحق. كما يؤخذ من كلام القاضي أبي بكر ابن العربي في "الأحكام" والقاضي عياض في مواضع من "الشفا" و "شرح مسلم" والنووي في "شرح مسلم" وابن حجر في "فتح الباري وغيرهم، ولولا هذه القاعدة لما صح الإيمان بالمعجزات ولا بشيء من السمعيات.

وقول المبتدع وقد جاء في "شرح المقاصد" بعد أن قرر مؤلفها أن جميع

٣٥٠

كتاب الإيمان

أحاديث أشراط الساعة أحادية ما نصه: ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند

أهل الشريعة». اهـ يشتمل على خطأ وخيانة وجهل.

أما الخطأ: فاعتماده على تقرير صاحب "المقاصد" أحادية أحاديث أشراط الساعة، مع أنَّ إثبات التواتر والآحاد والصحة والضعف يرجع فيه إلى أهل الحديث أرباب الشأن كما قال الحافظ العراقي:

فاعن به ولا تَخضُ بالظن ولا تُقلّد غير أهل الفن وأكثر الأغلاط إنما تأتي من قبل تكلم الشخص في غير فنه، وشواهد ذلك كثيرة، وما بالعهد من قِدَم فهذا المبتدع لما تسوّر على ما لا يحسنه وتكلم فيما لا يعلمه أتى بما يضحك الشَّكلى وهو لا يشعر. وأما الخيانة فحذفه من الكلام المنقول جملة هي محل الفائدة وعليها ينبني الكلام، وذلك أنَّ السعد قال في "شرح المقاصد": «وبالجملة فالأحاديث في هذا الباب كثيرة، رواها العُدُول الثقات وصححها المحدثون الأثبات، ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة؛ لأن المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا، وزعمت الفلاسفة أنَّ طلوع الشمس من مغربها مما يجب تأويله بانعكاس الأمور... إلخ ما ذكره السعد، فإذا قابلته بما نقله عنه المبتدع وجدته يشتمل على عدة خيانات:

إحداها : حذف صدر كلام السعد الذي يقول فيه: «إنَّ أحاديث الأشراط كثيرة رواها العدول الثقات وصححها المحدّثون الأثبات ولا شك أن لفظ «كثيرة» يصدق بأنها متواترة أو مشهورة على الأقل، يضم إلى هذا تصريحه بأنها

عقيدة أهل الإسلام

٣٥١

صحيحة ومعنى هذا أنَّ دعوي المبتدع ضعفها واضطرابها كذب بنص من

يحتج بكلامه.

ثانيها: حذف قول السعد: «لأن المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا» مع أنَّ هذه الجملة هي محل الفائدة؛ لأن السعد أشار بها إلى القاعدة السابقة التي بني عليها الإيمان بسائر السمعيات كما تقدم.

ثالثها: حذف قول السعد: وزعمت الفلاسفة...» إلخ لإيهام القراء أنَّ المؤولين علماء من المسلمين وأنَّ السعد راض عن التأويل مجوز له، مع أنَّ الأمر بالعكس، ولو أنَّ المبتدع كان مُحقًا لم يكن في حاجة إلى استعمال هذه الخيانات المزرية وفي الحديث الصحيح: كلُّ خُلَّةٍ يُطبع عليها المؤمن ليس الخيانة

والكذب.

ذلك نرى

ان

وأما الجهل: ففهمُه من قول السعد ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند علماء الشريعة الامتناع الشرعي وتفريعه عليه بقوله: ومن السعد لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله، وإنما يقرر بصريح العبارة أنه لا مانع من حملها على ظواهرها، فيعطي بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل».اهـ وهو فَهُمْ مُضحك وصاحبه في حاجة شديدة إلى تعلم مبادئ من علم المنطق وعلم الكلام ومعرفة اصطلاحات أهلهما حتى يستعد لفهم كلام السعد وأمثاله من العلماء. وما أشبه فهمه هذا بفهم شيخ سأله تلميذه عن قول المناطقة: «كلما كان

٣٥٢

كتاب الإيمان

الإنسان ناطقا فالحمار ناهق: إنها شرطية اتفاقية، لم سموها كذلك؟ فأجابه

الشيخ: لأنه اتفق أنَّ إنسانا نطق وحمارًا بالقرب منه نهق !!

وبعد فإنَّ السعد وغيره من العلماء يقصدون بالعبارة المذكورة عدم الامتناع العقلي ويبنون عليه وجوب اعتقاد ما دل عليه الدليل السمعي فقول السعد: «لا يمتنع حملها على ظواهرها أي عقلا، بدليل قوله: «لأن المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا وتارة يقول هو أو غيره: هذه أمور جائزة أي عقلا فيجب اعتقادها شرعًا لورود السمع بها، وهذه التعبيرات معروفة لعلماء الكلام متداولة بينهم لا تخفي على من عرف مرامي كلامهم وخبر

اصطلاحاتهم.

ومن الدليل على أن السعد لم يرد الامتناع الشرعي تعليله بالإمكان العقلي ولا شك أنَّ عدم الامتناع الشرعي لا يعلَّل إلا بتجويز شرعي إذ هو المناسب،

أما الإمكان العقلي فلا يناسبه لأمرين:

الأول: أنَّ الشرعي هو ما استفيد من الشرع لا من غيره. الثاني: أن الإمكان العقليَّ لا يستلزم الجواز الشرعي؛ لأنه أعم منه فكم

من أمر ممكن عقلا ممتنع شرعًا.

ولم يكن يدور بخلدنا أن نقف من المبتدع موقف المعلم نصلح له أخطاء يترفع عن الوقوع فيها من عرف شيئًا من "إيساغوجي" و"صغرى السنوسية"

لكن من ادعى ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان.

وقوله: «ولا شك أنَّ هذا منه لم يكن إلا لأنه يعتقد كما يعتقد سائر العلماء

٣٥٣

عقيدة أهل الإسلام الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله أن تدل عليه ألفاظ الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها، فمن أداه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها

فله ذلك ومن أداه نظره إلى تأويلها فله ذلك شأن كل ظني في دلالته». اهـ جهل مبني على جهل، وإراءة للسعد ما لمير وتقويل له ما لم يقل، فعبارة السعد التي دلَّس فيها المبتدع صريحة وأنَّ الإيمان بأشراط الساعة واجب لورودها في الأحاديث الكثيرة التي رواها العدول الثقات وصححها المحدثون الأثبات مع أنَّ الأشراط أمور ممكنة عقلا لا يمتنع حملها على

ظواهرها أي لا يلزم منه محال عقلي حتى تحتاج إلى التأويل.

وكذلك عبارته في شرح العقائد النسفية" وعبارة غيره من العلماء في

كتب العقائد وقد ذكرنا منها في هذا الكتاب ما فيه كفاية.

ومما اشتمل عليه كلام المبتدع من الجهل غير ما سبق تخييره في العقيدة بين الإيمان بها وعدمه، وبين تأويلها ، وعدمه، وسبق منه محاولة جعل الخلاف في العقائد كالخلاف في الفروع لا إثم فيه ولا فسوق، وكل هذا جهل وضلال ومروق كما يعلم من مراجعة كتب العقائد وغيرها. ثم ننتقل إلى الكلام على تأويل نزول عيسى عليه السلام ونبين ما فيه بعد أن نمهد لذلك بقواعد تنير السبيل وتهدي الحائر:

القاعدة الأولى التمسك بظاهر الكتاب والسُّنَّة فرض لازم لا مفر منه ولا

محيص؛ لأن الله تعبدنا بهما وألزمنا اتباعهما، وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان لأنه معلوم من الدين بالضرورة.

٣٥٤

كتاب الإيمان

القاعدة الثانية: يصح العُدُول عن ظاهرهما وارتكاب التأويل إذا وجد المانع وتحقق الشرط، والمانع أحد أمور ثلاثة:

الأول: معارض عقلي، ونعني به أن يخالف ظاهر اللفظ قضية عقلية مسلمة لا تختلف فيها العقول، أما أن يقصر إدراك الشخص عن فهم اللفظ

فيحكم بمخالفته للعقل فهذا لا يجوز بل الواجب على الشخص في هذه الحالة أن يتهم عقله وإدراكه.

يقول الإمام الغزالي في "قانون التأويل": «وليعلم أنَّ العالم الذي يدعي الاطلاع على مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع ذلك أي الظواهر المشكلة فدعواه لقصور عقله لا لوفوره» . اهـ

وأكثر أخطاء الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد في تأويل الآيات ورد الأحاديث كانت من هذا القبيل؛ لأنهما كانا واثقين بعقلهما مزكيين له تمام التزكية، ولم يخطر على بالهما قط أن عقلهما لابد أن يقصر عن فهم مراد الله

ورسوله في كثير من المسائل كما هو شأن العقل البشري.

الثاني: وجود معارض نقلي أقوى من الظاهر أو مسألة في القوة. الثالث: وجود قرينة تمنع إرادة الظاهر، كأن يكون في الكلام قرينة على إرادة المجاز، وأما الشرط فهو أن يتعذر الجمع إذا وجد التعارض، فإن أمكن

الجمع بوجه من الوجوه وجب المصير إليه. القاعدة الثالثة: التأويل صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يحتمله بدليل

إن شئت قلت حمل الظاهر على المحتمل المصرح بدليل يصيره راجحًا، وهذا

عقيدة أهل الإسلام

٣٥٥

هو التأويل الصحيح ، ثم لابد أن يكون الدليل أرجح من الظاهر فإن كان دونه

أو مساويًا فالتأويل فاسد، أما إذا لم يكن دليل فهو حينئذ لَعِبٌ لا تأويل. قال ابن برهان: باب التأويل أنفع كتب الأصول وأجلها ولم يزل الزال إلا بالتأويل الفاسد» . اهـ

.

ومحل الفائدة من هذه القاعدة أنَّ التأويل لا يُقدم الشخص عليه إلَّا بدليل أرجح كما علم. القاعدة الرابعة: النص لا يقبل التأويل؛ لأنه قطعي في معناه وكذلك الظواهر إذا تعددت وتواردت على إفادة معنى صارت قطعية فيه، فلا تقبل التأويل؛ لأنه في اجتماعها وتضافرها من القوة ما ليس في انفراد واحد منها.

ألا ترى أن خبر "

الآحاد يفيد الظن فإذا انضمت إليه قرائن أو تعددت

طرقه حتى تواتر أفاد اليقين. القاعدة الخامسة : قال أبو العباس ابن تيمية: «إن كلا من الدليل النقلي

والعقلي إما قطعي وإمَّا غير قطعي، فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجح أحدهما على الآخر، وإذا تعارض ظنّي مِن كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقا وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول؛ لأن ما ندركه بغلبة الظنِّ مع كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما

ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا» . اهـ إذا تمهدت هذه القواعد فنقول: نزول عيسى عليه السَّلام مُجمع عليه علماء السُّنَّة كما تقدم، والذين أوّلوه هم سمع كونهم مبتدعين وفيهم كفرة

٣٥٦

كتاب الإيمان

متلاعبون مبطلون؛ لأن نزول عيسى عليه السَّلام أمر جائز في القدرة لم يدع أحد ولن يدعي أنه محالٌ إِلَّا مَن لا عقل له، وبهذا بطل أن يكون له معارض

عقلي.

وأما المعارض النقلي فربما يتوهّم إنه موجود وهو النصوص الدالة على انقطاع النبوة، وأنه لا نبي بعد نبينا عليه الصَّلاة والسلام، لكن الجمع ممكن، ذكره القاضي عياض في كلامه المنقول صدر الكتاب كما ذكره غيره، وحاصل الجمع أن عيسى عليه السَّلام لا ينزل بصفة كونه نبيًّا أو رسولا، إذ أنَّ رسالته أداها إلى قومه وإنما ينزل بصفة كونه تابعًا للنبي عليه الصَّلاة والسَّلام وخليفة من خلفائه، يقاتل الناس على الإسلام ويحكم في الأمة بالقرآن والسُّنَّة كما نطقت الأحاديث بذلك.

ففي "المعجم الأوسط"، و"الصغير" وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا: «ألا إنَّ عيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول ألا إنه خليفتي في أُمَّتِي مِن

بعدي» الحديث.

وفي كتاب "الفتن" لأبي ،الشيخ، عن أبي هريرة مرفوعا: «ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدَّجَّال ويمكث أربعين عاما يعمل فيهم بكتاب الله وسنتي، ثُمَّ

يموت» الحديث.

على أنَّ التعارض مدفوع من أصله؛ فإنَّ المقصود من النصوص الدالة على انقطاع النبوة قطع دابر الكذابين المتنبئين من هذه الأمة، كمسيلمة والأسود العنسي وسَجَاح وإسحاق الأخرس وكذَّاب قاديان، والأحاديث ترشد إلى ذلك.

عقيدة أهل الإسلام

٣٥٧

ففي الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلُّهم يزعم أنه رسول الله».

وفي الصحيح أيضًا عن ثوبان مرفوعًا من حديث طويل: «وأنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابًا كلهم يزعم أنه نبي وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي» الحديث. وفي المسند وغيره بإسناد صحيح عن حذيفة مرفوعا: «في أمتي كذَّابون

ودجالون سبعة وعشرون منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي». وعيسى عليه السلام معلوم ضرورة أنه أدَّى رسالته إلى قومه، وأن نزوله لقتل الدجال لا يمس الأحاديث المذكورة وما في معناها من قرب ولا بعد، ولهذا لما أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بنزوله وصفه لنا لئلا يشتبه علينا أمره

بكذاب يزعم أنه، أو أنَّ روحه ومبادئه ظهرت فيه وأمرنا أن نبلغه سلامه. ولا بأس أن نشير إلى ما أبداه المؤوّلون من سخافات؛ لتعلم أنَّ من الجهل ما يسمى علما، وتتحقق صدق من قال: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، والمؤولون طوائف:

عنهم

إحداها الفلاسفة ومَن حذا حذوهم زعموا كما حكى السعد وغيره هم أنَّ طلوع الشمس من مغربها مؤوّل بانعكاس الأمور وجريانها على غير ما ينبغي، والنار الخارجة من الحجاز مؤوّلة بالعلم والهداية، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك، وظهور الدَّجَّال بظهور الشر والفساد، ونزول عيسى باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح... إلخ الأشراط.

وهؤلاء لم يقفوا عند هذا الحد بل تناولوا أيضا نصوص الحشر والنشر

٣٥٨

كتاب الإيمان

والجنة والنار بتأويلات فاسدة من هذا القبيل لا دليل عليها من عقل ولا نقل

فالاشتغال برد كلامهم وهذيانهم تعب؛ لأنه تحصيل للحاصل.

ثانية الطوائف: ابن هود الدمشقي وأصحابه وهؤلاء كفانا مؤونة الرد عليهم أبو العباس ابن تيمية حيث قال في رسالة "بغية المرتاد": «وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال ابن هود، وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهدا ومعرفة ورياضة، وأكثر الناس من الكبار والصغار كانوا يطيعون أمره، وكان أصحابه الخواص به يعتقدون فيه أنه أي ابن هود المسيح ابن مريم، ويقولون أنَّ أمه اسمها مريم وكانت نصرانية، ويعتقدون أنَّ قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ينزل فيكم ابن مريم» هو هذا، وأنَّ روحانية عيسى تنزل عليه، وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس عندهم في معرفته بالعلوم الفلسفية وغيرها مع دخوله في الزهد والتصوف، وجرت بيني وبينهم مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها حتى بينت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى المسيح، وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا الرجل، وبيَّنتُ لهم فساد ما دخلوا فيه من القرمطة حتى أظهرت مباهلتهم وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذا الرجل لا يكون ولا يتم، وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ فأبر الله تلك الأقسام والحمد لله ربِّ العالمين، هذا مع تعظيمهم لي وبمعرفتي عندهم، وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون بحال حقيقتهم وغوامضهم، وأن الناس عندهم كالبهائم». اهـ ثالثة الطوائف القاديانية : يزعمون أن أحاديث نزول عيسى محمولة على

عقيدة أهل الإسلام

٣٥٩

زعيمهم ميرزا غلام أحمد القادياني المتنبئ الكذَّاب، ويزعمون أنَّ عيسى ابن مريم عليه السّلام ،مات، وأنه لا سبيل إلى نزوله ولا معنى له، وهؤلاء جهلة لا يفرقون بين ما يجوز وما لا يجوز، ولا يميزون ما يقبل التأويل مما لا يقبله وإن هم إلا كا لأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الفرقان: ٤٤]

رابعة الطوائف: طائفة المصلحين المجددين الذين أرادوا أن يهذبوا الدين، تكلم الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى: مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى ﴾ [آل عمران: ٥٥] الآية وادَّعى أنَّ المراد بالتوفّي الإماتة العادية، وأنَّ الرفع بعد ذلك هو رفع الروح، ثم قال: ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخریجان أحدهما: أنه حديث آحاد متعلّق بأمر اعتقادي؛ لأنه من أمور الغيب والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلَّا بالقطعي لأن المطلوب فيها اليقين وليس في الباب حديث متواتر.

وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس، وما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السَّلام لم يأتِ اليهود بشريعة جديدة ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى عليه السلام، ويوقفهم على فقهها والمراد منها ويأمرهم بمراعاتها وبما يجذبهم إلى عالم

الأرواح بتحري كمال «الآداب». انظر "تفسير "المنار" (ص ٣١٦ - ٢١٧ ج ٣).

٣٦٠

كتاب الإيمان

وفي الصفحة نفسها ذكر صاحب "المنار" أنَّ الأستاذ الإمام سُئِل عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: إنَّ الدَّجَّال رمز للخرافات والدَّجَل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، وإنَّ القرآن أعظم هادٍ إلى هذه الحكم والأسرار، وسُنَّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبينة لذلك، فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك» . اهـ كلام المصلح العظيم !

وهو كما ترى غير خال من القذى والكدر ، أما دعواه الأحادية وعدم التواتر فمردودة ولا كرامة؛ لأنه ليس من أهل السنة ولا من فرسان ميدانها، وأما ما أبداه من التأويل ففاسد، ويؤلمني أن أقول أنه تلاعب لا يليق أن يصدر

من مصلح وبيان ذلك من وجوه

الأول: أنه لا دليل عليه.

والثاني: أنه لو صح لكانت الأحاديث حينئذ مبشّرة بانتشار روح المسيحية وذيوع تعاليمها، وهو نقيض ما صرحت به من انتشار الإسلام عند نزوله وتعميم تعاليم الكتاب والسُّنَّة كما تقدم ويأتي.

الثالث: أنَّ الرحمة والمحبة والسلم هي أصل تعاليم الإسلام، ولا يعرف دين حافظ على هذه المعاني وحضّ عليها وأكد حقها مثل دين الإسلام، ونصوصه في ذلك كثيرة جدًّا حتى أنها أوجبت الرحمة للحيوان الأعجم

وتوعدت من قسا عليه أو عذَّبه باللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وهل خوطب عيسى أو غيره بمثل ما خوطب به نبي الإسلام حيث قيل

عقيدة أهل الإسلام

له: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]؟

٣٦١

وهل أمر أحد بمثل ما أمر به أهل الإسلام حيث قيل لهم: يَأَيُّهَا

الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السَاءِ كَافَة ﴾ [البقرة: ٢٠٨]؟

فليس من المعقول والحالة هذه أن تكني الأحاديث عن انتشار المحبة والرحمة والسلم بنزول عيسى؛ لأن حِصّة الإسلام في هذه المعاني أكثر وأثرها

فيه أظهر.

الرابع: أنَّ أئمة الإسلام وعلماءه من الصحابة وغيرهم عرفوا مقاصد الشريعة ولبابها ، واجتهدوا قدر استطاعتهم وخلفوا لنا ثروة علمية هائلة لم توجد في دين من الأديان، ولا ظفرت بها أُمَّةٌ من الأمم، ومن المحال شرعًا وعادة أن يأتي في الأمة من يفوق الصحابة والتابعين وتابعيهم في فهم الشريعة وأسرارها أو يساويهم حتى يقال أن الأحاديث كنت عنه بنزول عيسى، ثُمَّ أي علاقة بين فهم شيء وبين نزول شخص ؟! ولم لم يعبر عن هذا الفهم بنزول الخضر مثلا؟

الخامس: أنَّ اشتهار دعوة عيسى بالرحمة والمحبة والسلم إنما أتى في هذه العصور المتأخرة لما اتصل الغرب بالشرق ودرس المستشرقون كتب الإسلام وصاروا يتهمون الإسلام بأنه دين القسوة وأنه انتشر بالسيف ويفضلون دينهم بأنه دين الرحمة والمحبة والسلم، فلما ترددت في كتبهم ومحاضراتهم هذه المطاعن وأبدوها بفقرات من أناجيلهم رسخ في أذهان مسلمة اليوم أن دين عيسى ما يقوله هؤلاء المستشرقون، حتى صار اسم عيسى عندهم عنوانًا على

٣٦٢

كتاب الإيمان

المعاني المذكورة من غير أن يرد شيء من ذلك في الدين، ومن الجهل القبيح أن

تؤول ألفاظ الكتاب والسُّنَّة بمعاني دخيلة مستحدثة بعد مئات القرون. نعم أديان الله كلها أتت بالرحمة والمحبة والسلم لكن دين الإسلام أكثر

فإنه

لما

خاص

وأبرز وأظهر كما سبق، ولم يؤمر عيسى بالجهاد لأنه بعث إلى شعب . بدین خاص به، ولم يكلف إبلاغ دينه إلى سائر الناس، وهذا بخلاف الإسلام كان دين العالم كله كان لابد بمقتضى تباين استعدادات أفراد الإنسان أن تقف في طريقه عقول مريضة ونفوس خبيثة لا تصغي لمنطق البرهان، ولا تستجيب لدعوة الحق كان فرض الجهاد أمرًا حتما لامعدل عنه في سبيل إبلاغ الدين إلى بعض العقول وبعض النفوس، والعقلاء متفقون على استساغة الدواء المر لاستئصال شأفة الداء، وقد يقتضي الحال قطع بعض

الأعضاء في سبيل سلامة باقيها، ولتمام هذا البحث موضع غير هذا. السادس: أنَّ دعوى جمود اليهود على ظواهر ألفاظ التوراة دعوى تفتقر إلى دليل ودون إثباته خَرْطُ القَتاد، بل يمكننا أن نقول مطمئنين عكس ذلك وهو أن اليهود خرجوا على ظواهر ألفاظ التوراة وتحايلوا في التخلص منها،

عن

وذلك كان سبب كفرهم وضلالهم، فقد أخبر الله عنهم أنهم يحرفون الكَلِم ع مواضعه، وذكر أشياء من تحريفاتهم وتحايلاتهم في مواضع من كتابه الكريم. السابع: أنَّ الأحاديث أخبرت أنَّ عيسى يقتل الدجال، ويقاتل الناس على

الإسلام وروح عيسى و سر رسالته وتعاليمه ليس فيها قتل ولا قتال. الثامن: أنَّ النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام أمرنا أن نبلغ سلامه إلى عيسى

عقيدة أهل الإسلام

٣٦٣

عليه الصلاة والسَّلام حين نزوله، ومحالٌ عقلا تبليغ السَّلام إلى روح عيسى

وسر رسالته وتعاليمه.

التاسع: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أخبر أنه اجتمع بعيسى عليه السلام ليلة الإسراء، وأخبره أنه نازل ليقتل الدجال، ومن المحال العقلي أن تكون روح عيسى وسرُّ رسالته و تعالیمه اجتمعت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرته أنها ستنتشر في آخر الزمان وتقضي على الخرافات والدَّجَل كما يقول حضرة المصلح العظيم.

العاشر: أنَّ الأحاديث أخبرت أنَّ عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعا يديه على أجنحة ملكين، وأنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، وأنَّ عليه ممصرتين، وأنه يصلي خلف إمام المسلمين، ويقتل الدجال ويرى المسلمين دمه في حربته، ويحج البيت ويعتمر ، ويقف على القبر النبوي الشريف ويسلم فيرد عليه... إلخ ما يأتي، ويستحيل عقلا أن يقوم شيء من هذه الصفات بروح عيسى وسر رسالته وتعاليمه. الحادي عشر : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم تردَّد أول الأمر في ابن صيَّاد أن يكون هو الدَّجَّال واستأذنه عمر في قتله فلم يأذن له وقال: «إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد». ولو كان المراد دَجَلًا وخرافات تندفع بانتشار روح عيسى و سر رسالته وتعاليمه، لكان هذا موطن بيان ذلك المراد لكنه لم يبين بل صرح أن المراد بعيسى والدَّجَّال جسمان لا عَرَضان.

٣٦٤

كتاب الإيمان

الثاني عشر : إنَّ تردُّد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في ابن صَيَّاد واستئذان عمر له ورده عليه قاطع في نفي كل تلاعب مستور باسم التأويل. الثالث عشر : إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم أفصح من نطق بالضاد وهو - في فصاحته المنقطعة النظير - غير محتاج إلى استعمال الرموز والألغاز في أحاديثه، بل لا يليق به استعمالها لأنه مبلغ عن الله ومبين لمراده، ونحن لا ننكر في اللغة والقرآن والسُّنَّة كنايات واستعارات تمثيلية ومجازات عقلية

أنَّ

وغيرها، لكن لها حد تقف عنده ودلائل تدل عليها وقرائن ترشد إليها، فإذا خرجت عن حدها المقرر لها في كلام العرب صارت ألغازا وأحاجي تورث الكلام قبحا واختلالا لا حُسْنًا ورَوْنقًا، وأين الدليل في أحاديث نزول عيسى على أنه أريد بها غير معناها الصريح ؟

الرابع عشر: أنه لو صح هذا التأويل لصح تأويل بقية الأشراط بل سائر السمعيات لأنها متماثلة، فما جاز في بعضها جاز في الجميع، والتفريق تحكم

وحينئذ لا يكفر من أوّل الملائكة والجن والحشر والنشر والجنة والنار بغير معانيها المعروفة كما فعل الفلاسفة، وكذا لا يكفر البهائية والقاديانية المحرفون للنصوص باسم التأويل، ولا شك أنَّ كفر هؤلاء معلوم قطعا لا يتردد فيه

مسلم.

والعجب أنَّ صاحب "المنار" علق على هذيان شيخه بأن ظواهر الأحاديث تخالفه ، ثُمَّ نَكَص على عقبيه فقال: «إلا أن يقال إنها مروية بالمعنى وأنَّ كل راو روى بحسب ما فهم. ولو أنصف وترك المداهنة قليلا لقال أنَّ

عقيدة أهل الإسلام

٣٦٥

صرائح الأحاديث تخالفه؛ لأن الأحاديث في هذا الباب صريحة لا تقبل التأويل

أما احتمال الرواية بالمعني فهو لعمر الله - أخفى من الشهى بل لا يخطر على بال الشيطان الرجيم

وهل يخطر على باله أنَّ أحدًا وثلاثين صحابيا فيهم ة من حفاظهم المشهورين وهم أبو هريرة وابن عبّاس، وأنس، وجابر، وعائشة، وأبو سعيد

الخدري.

وفيهم عبدالله بن عمرو الذي كان يكتب كل ما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في جده ومزاحه، وفيهم عبد الله بن مسعود الذي كان إذا روى حديثا شك في حفظه اغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه ثم قال: «أو مثله أو نحوه أو شبيه به كلهم يتواطؤون على رواية الحديث بالمعني من غير أن يبينوا ذلك؟ فأين حِفْظُ حُفَّاظهم؟ وأين كتابة من كان يكتب منهم! وأين حرصهم

على تأدية اللفظ الذي سمعوه رجاء حصول النضرة وجزيل الثواب؟! ثُمَّ لا يخفى أنَّ نزول عيسى وما يحيط به من الأحداث أمر غيبي يتوقف على موقف ولا يدرك باستنباط فلا تتأتى روايته بالمعني حسب فهم الراوي؛ لأنه لا يمكنه أن يدرك باستنباطه أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويقتل الدَّجَّال بباب لد، ويقاتل الناس على الإسلام، ولا يقبل

الجزية... إلى آخر ما ذكر من أوصافه والأحداث الواقعة عند نزوله وبعده. فلولا أنهم سمعوها بصريح العبارة ما أدركوها بمجرد الإشارة، إلا أن يقال أخذوا بعضها عن الإسرائيليات وضمُّوه إلى ما سمعوه من الرسول،

٣٦٦

كتاب الإيمان

لكن هذا القول لا يجوز ولا يصح؛ لأنه ينطوي على اتهام الصحابة بعدم العدالة أو بالغفلة والاختلاط، وذلك باطل لأن الله عدلهم ورسوله، فهم مبرؤون مِن كل ما يشين رضي الله عنهم.

ثُمَّ ما الذي دعاهم إلى رواية هذا الحديث بالمعنى؟ أعجزوا عن حفظ

ألفاظه ؟ مع أنهم حفظوا القرآن وآلاف الأحاديث.

أم تركوا فهم المراد إلى ذكاء السامع ؟ لكن هذا أمر غيبي نقلي بحت. أم أرادوا تضليلنا عن مراد الرسول؟ وهذا لا يليق بعامي فضلا عمن أثنى عليهم الله ورسوله!

أم جهلوا مراد الرسول وأدركه المصلح العظيم؟! أم ماذا؟! ثُمَّ إن رواية الحديث بالمعنى على القول بجوازها لا تدخل في جميع

الأحاديث بل بعضها، وهذا مما لا يتأتي فيه كما مر آنفًا. والحاصل : أنَّ التلميذ لم يرشد في إصلاح موقف شيخه بل زاده تورطًا

وتوريطًا فهو على رأي المثل: «جاء يكحلها عماها».

وأعجب مما قاله صاحب "المنار" ما فعله الشيخ عبدالوهاب النجار، فإنه عرض في كتب قصص الأنبياء" لمسألة رفع عيسى ونزوله وقال: «إنَّ الأخبار الواردة في هذا بعضها مرفوع إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وبعضها آراء للمفسّرين وبعضها عن مسلمة اليهود ككعب ووهب، ومهما كان من شأنها وصراحة عبارتها فهي أحاديث وآراء آحاد، ولا تبلغ أن تكون لها قوة و القرآن، ولا يمكن أن تكون في النفس اعتقادا يقينيا جازما تطوع به

صريح

عقيدة أهل الإسلام

٣٦٧

النفس لصاحبها أن يشهد على الله أنه نقل المسيح حيا إلى السماوات، ويشهد على الله مطمئنا بتلك الشهادة أنه سوف ينزل عيسى من السماء إلى الأرض، وأنه سوف يتولى قتل رجل ينبز بالمسيح الدجال، سيخلقه الله تعالى ولا يدري متي : يكون زمانه، إذ كل تلك الأخبار لا يمكن أن تنهض بإنشاء عقيدة إذا خالفها إنسان وحاد عن الاعتقاد بها برئ من الإسلام وبرئ الإسلام منه . اهـ ثُمَّ أحال من أرادها على مراجعة كتب الحديث والتفسير، وهذا الكلام رغم ما فيه من جهل ومخالفة للحقيقة يدل على أن صاحبه ورع شديد الاحتياط، وهي ظاهرة طيبة سبق له مثلها حيث ذكر في قصصه أيضًا (ص ۲۰۳ - ۲۰٤ طبعة ثانية) أنه راود نفسه على أن تقول أن شعيبا هو صهر

موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فتمثل له المعري يقول : لا تَظْلِمُوا المَوْتَى وَإِنْ طَالَ المَدَى إنِّي أَخافُ عليكمو أن تَلْتَقُوا وخشي أن يلقاه شعيب عليه السَّلام في عرصات القيامة فيلبيه إلى الله عزّ وجل ويقول: أي ربِّ سَل عبدك هذا لم جعلني صاحب موسى الذي استأجره، ولم أكن صاحبه ولا وجدت في زمنه... إلخ كلامه. وهذا وَرَعٌ كبير جدا!! يذكّرنا بورع الأئمة الكبار أمثال الإمام أحمد رضي الله عنه ! لكن ما بال هذا التورُّع تحوّل إلى تجرُّؤ في البدعة غريب؛ فقد نقل عن الأستاذ الإمام كلامه الذي أبطلناه آنفًا مؤيدا به رأيه، لكنه عقب على قوله: «إن الدجال رمز الخرافات والدَّجَل والقبائح... إلخ» بما نصه: «أقول: إني كنت ممن يطمئنون إلى هذا التأويل ولكني الآن أميل كل الميل إلى أن المسيح

٣٦٨

كتاب الإيمان

الدجال إنما هو رجل يقوم من اليهود ويدعي أنه المسيح أي الملك الذي وُعِدوا به وهم ينتظرونه إلى اليوم، ذلك أني نظرت إلى اليهود فوجدتهم ينتظرون مسيحا يعيد إليهم الملك والسلطان في الأرض ويعتزون به»، إلى أن قال: وهذا رأيي وما أميل إليه في مسألة المسيح الدجال، وقد حذر المسيح أصحابه منه فقال سيقوم بعدي أنبياء كذبة ومسحاء كذبة» . اهـ

وهذا شيء عجيب جدا!! يعمد حضرة المتورّع إلى مسألة رفع عيسى ونزوله فينكرها؛ لأن الأحاديث فيها آحاد لم تبلغ قوة صريح القرآن، ويميل كل الميل إلى إثبات الدَّجَّال ، لا لأن الأحاديث أخبرت به بل لأن اليهود ينتظرونه والمسيح حذر أصحابه منه، فانتظار اليهود في اصطلاح هذا المتورّع أقوى في إفادة الطمأنينة وطواعية النفس بالشيء من خبر الآحاد الذي يرويه

عدول مسلمون مسلسلًا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم. أرأيت كيف يكون العلم والورع والتحري !! وما هذه بأول طاماته بل له

في قصصه كثير مثلها، قبيح ضررها عظیم خطرها.

فليعذرنا القارئ الكريم إذا قلنا أنَّ هؤلاء المبتدعة لهم نية مبيتة ضدَّ السُّنَّة النبوية، ينفثونها بين حين وآخر في أساليب وقوانين تُغري وتَغُر. وليعذرنا أيضًا إذا رآنا نتحامل عليهم ونشتد في ردّ زيغهم فإننا ما فعلنا إلَّا

بعض ما يوجبه الشرع إزاء كل مبتدع زائغ والله ولي التوفيق. (تنبيه): إذا راجعت كلام الأستاذ الهمام وتلميذه البار، والشيخ عبدالوهاب النجار وجدت فتوى المبتدع الذي نرد عليه واستدلاله وتأويلاته منقولة من

عقيدة أهل الإسلام

٣٦٩

كلام هؤلاء نقل مسطرة، حتى أنَّ الوَرَع الذي ذكروه في كلامهم ذكره هو أيضًا، وهذا هو ما يسمى عند المتعلمين بالتقليد الأعمى ! نسأل الله العافية.

فصل

في الرد على إنكار الإجماع

ثُمَّ تكلَّم المبتدع على الإجماع كلام من لم يعرف علم أصول الفقه ولا قرأ كتابا من كتبه، وأكثر جهله آتٍ مِن قِلَّة اطلاعه وضيق باعه، فحاول أن يشكك في الإجماع من حيث إمكانه ووقوعه وكيفية نقله وحُجَّيته وهذه تشكيكات ابتدعها النظام، وبعض الإمامية، والخوارج وتولى الرد عليها وإبطالها أئمة أهل السنة كالقاضي الباقلاني، وإمام الحرمين والغزالي، وغيرهم ممن يطول عدهم ويتعيَّر تتبع كلامهم. لكن لا بأس أن ننقل عبارة إمام الحرمين لعظم فائدتها، قال في "البرهان" ما نصه: «ذهب طوائف من الناس إلى أنَّ الإجماع لا يتصوّر وقوعه واشتدَّ كلام القاضي - رضي الله عنه - ونكيره على هؤلاء وتعدى حد الإنصاف قليلا، ونحن نسلك مسلكا في استيعاب ما لكل فريق حتى إذا لاحت نهاية النفي والإثبات وضح منها درك الحق إن شاء الله تعالى.

)

فأما الذين منعوا تصور الإجماع فإنهم قالوا: قد اتسعت خطة الإسلام ورقعتها، وعلماء الشريعة متباعدون في الأمصار ومعظم البلاد المتباينة لا تتواصل الأخبار فيها، وإنما يتدرّج المتدرج من طرف إلى طرف بسفرات و تربصات ولا يتفق انتهاض رفقة واحدة ومدتها مدة واحدة من المشرق إلى

۳۷۰

كتاب الإيمان

المغرب، فكيف يتصوّر والحالة هذه رفع مسألة إلى جميع علماء العالم ثُمَّ كيف يفرض اتفاق آرائهم فيها مع تفاوت الفطن والقرائح وتباين المذاهب والمطالب، وأخذ كل جيل صوبًا في أساليب الظنون، فتصوير اجتماعهم في الحكم المظنون بمثابة تصوير اجتماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود، أو أكل مأكول، ومثل ذلك غير ممكن في اطراد العادة، نعم إن انخرقت لنبي أو اطراد

ولي على رأي من يثبت الكرامات، وبالجملة لا يتصور الاجتماع مع العادة فهذا قول هؤلاء. ثُمَّ زادوا إبهاما آخر فقالوا: فرض الإجماع كيف يتصور النقل عنهم على التواتر والحكم في المسألة الواحدة ليس مما تتوفّر الدواعي على نقله، فقد

أسندوا كلامهم إلى ثلاث جهات مترتبة في العسر :

أولها: تعدر عرض مسألة واحدة على الكافة.

والأخرى: عُسر اتفاقهم والحكم مظنون.

والثالثة: تعذَّر النقل تواترا عنهم واختتموا هذا بأن قالوا: لو ذهب ذاهب من العلماء إلى مذهب فما الذي يؤمن من بقائه عليه وإصراره على مذهبه إلى أن يطبق النقل طبق الأرض.

فهذه عيون كلام هؤلاء، قال القاضي - رحمه الله - معترضا عليهم متبعا مسالكهم: نحن نرى إطباق جيل من الكفَّار يربو عددهم على عدد المسلمين وهم متفقون على ضلالة يدرك بأدنى فكر بطلانها، فإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع إجماع أهل الدين على الإحاطة بذلك منهم، وإن أردنا فرض ذلك في الفروع

عقيدة أهل الإسلام

۳۷۱

فنحن نعلم إجماع علماء أصحاب الشافعي -رضي ا الله عنه - على مذهبه في المسألة مع تباعد الديار وتنائي المزار وانقطاع الأسفار؛ فبطل ما زخرفه هؤلاء. ثُمَّ قال القاضي: لا يمتنع تصور ملك تنفذ عزائمه في أهل خطة الإسلام

إما باحتوائه على البيضة أو بعلو قدره واستمكانه من إحضار سائر المماليك بجوازم أمره المنفذة إلى ملوك الأطراف، وإذا كان ذلك ممكنا فلا أن يمتنع يجمع مثل هذا الملك العظيم علماء العالم في مجلس واحدٍ ثُمَّ يلقي عليهم ما عَنَّ له من المسائل ويقف على وفاقهم وخلافهم. فهذا وجه في الصورتين لا يتوقف تصوره على فرض خرق العادة فهذا منتهى كلامه رحمه الله .

ونحن نفصل الآن القول في ذلك قائلين: لا يمتنع الإجماع عند ظهور دواع مستحثة عليه داعية إليه، ومن هذا القبيل كل أمر كلّي يتعلق بقواعد العقائد في المكل، فإن على القلوب روابط في أمثالها ا حتى كأن نواصي العقلاء تحت ربقة الأمور العظيمة الدينية، ومن هذا القبيل ما استشهد به القاضي رحمه الله من إجماع جميع الكفار على أديانهم، ومنه اجتماع أتباع الإمام على مذهبه؛ فإنَّ كل من رأسه الزمان تُصرف إليه قلوب الأتباع، وبذلك يتصل النظام وهو متبين في الخفي والجلي، وما صوّره القاضي رحمه الله من إحضار جميع العلماء ليس منكرا؛ فقد تكون أطراف المماليك في حق الملك العظيم كأنها بمرأى منه ومسمع فلا يبعد ما قاله على ما صوَّره، وأما فرض اجتماع على حكم مظنون في مسألة فردة ليست من كليات الدين مع تفرُّق العلماء واستقرارهم في أماكنهم، وانتفاء داعية تقتضي اجتماعهم فهذا لا يتصوّر مع اطراد العادة، فإذا مَن أطلق

۳۷۲

كتاب الإيمان

التصور وعدم التصور فهو زال، والكلام المفصّل إذا أطلق نفيه أو إثباته كان خلفًا، ومَن ظنَّ أنَّ تصوّر الإجماع وقوعًا في زماننا هذا في آحاد المسائل المظنونة

انتفاء الدواعي الجامعة هين فليس على بصيرة من أمره.

نعم، معظم مسائل الإجماع جرت من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأكرمين وهم مجتمعون أو متقاربون، فهذا منتهى الغرض في تصوير الإجماع». اهـ

وقد بسط هو وغيره الكلام على حُرِّيَّة الإجماع وأتوا بما يطول نقله فلينظر في محاله، إلا أن إمام الحرمين ذكر حديث: «لا تجتمع أُمتي على ضلالة». من جملة أدلة حُجَّيَّة الإجماع وقال إنه حديث آحاد. والصواب إنه متواتر معنوي، إذ قد ورد معناه عنه صلَّى الله عليه وآله وسلم من حديث عمر، وابنه، وابن عباس، وأبي هريرة ،وأنس وأبي مالك الأشعري، وأبي بصرة الغفاري، وحذيفة، وأبي ذر، ومعاذ، وعرفجة وابن مسعود، وأبي سعيد، ومعاوية، ورجل من الصحابة وأسامة بن شريك والحرث الأشعري، وسمرة بن جندب، وأبي قِرْصَافة.

وعن أبي مسعود موقوفًا وله حكم الرفع، ورواه عن عمر: سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن الزبير وغير واحد من الصحابة والتابعين ممن حضروا خطبته بالجابية.

ورواه عن أبي هريرة: عبد الله بن السائب، وعبيد الله التيمي، وغيرهما. وهكذا رواه عن كل صحابي واحد أو أكثر وهلم، وقد استوفيت طرقه وألفاظه في كتابي " الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج".

عقيدة أهل الإسلام

۳۷۳

والمقصود أنَّ أحدا لمينفِ الإجماع غير النظام، وقد ذكر القاضي عياض في

أواخر "الشفا" أنَّ العلماء اختلفوا في إكفاره بسبب ذلك.

أما قول الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فهو كاذب فلم يقصد به نفي الإجماع ومعاذ الله أن يقصد ذلك، كيف وهو قد حكى الإجماع في عدة مسائل

ذكر بعضها ابن القيم في مواضع من "أعلام الموقعين "؟!

وروى البيهقي عنه قال: «أجمع الناس على أنَّ هذه الآية في الصلاة يعني وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] الآية) وليس من المعقول أن يناقض نفسه، فلا جرم أن قال أصحابه إنما قال ما سبق في حقٌّ مَن ليس له معرفة بخلاف السلف.

وقال ابن تيمية والأصفهاني: أراد غير إجماع الصحابة أمَّا إجماعهم فحُجَّة

معلوم تصوره لكون المجمعين ثمة في قِلَّة، والآن في كثرة وانتشار.

وقال ابن رجب : إنما قاله إنكارًا على فقهاء المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا من أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين» قال: «وأحمد لا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد التابعين أو

بعد القرون الثلاثة» . اهـ

وقيل بل قاله على جهة الوَرَع لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغ الناقل. وقال الكمال بن الهمام: كلامه» محمول على استبعاد انفراد اطلاع ناقل

(۱) وكذا نقل عنه ابن تيمية في "فتاويه" ( ص ١٤٣ ج ۲)، و(ص ٤١٢ ج ٢) وفي "المغني" لابن قدامة: «قال أحمد في رواية أبي داود: وأجمع الناس على أنَّ هذه الآية في الصَّلاة».

٣٧٤

كتاب الإيمان

الإجماع عليه. قال ابن أمير الحاج إذ لو لم يكن كاذبا لنقله غيره أيضًا كما يشهد به لفظه في رواية ابنه عبد الله، وهو : مَن ادَّعى الإجماع فقد كذب لعل الناس قد اختلفوا، ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم يبلغه» . اهـ فلا متمسك للمبتدع في كلام الإمام أحمد رضي الله عنه كما لا متمسك له في كلام ابن حزم في مراتب الإجماع " ، والقاضي عياض في "شرح مسلم " مما يفيد وجود خلاف في نزول عيسى عليه السَّلام؛ لأنه خلاف مبهم مجهول لم يعرف صاحبه حتى تعرف منزلته العلمية والدينية، وما كان من هذا القبيل فلا

عبرة به.

على أن القاضي عياضًا حكاه عن بعض المعتزلة والجهمية، وهؤلاء معروفون بمخالفة السُّنَّة؛ لأنهم من أجهل الناس بالحديث وأقوال الصحابة والتابعين، وكلامهم في العقائد ينادي بجهلهم الفاضح، فليتهم سكتوا عما لم يحسنوه، ولهذا قال ابن رشد إن الخلاف الذي حكاه ابن حزم لا يصح، وقد

نقلناه فيما سبق.

فالمبتدع إن أراد أن يبطل الإجماع الذي نقلناه عن الأشعري وابن عطية وابن رشد وغيرهم فطريقة إبطاله أن يثبت بإسناد صحيح يطمئن إلى صحته القلب أنَّ الصحابي الفلاني أو التابعي الفلاني أو مالكًا أو أبا حنيفة مثلا صرَّح بإنكار نزول عيسى عليه السَّلام، تصريحا لا يتطرّق إليه شيء من الاحتمالات العشر، حتى لا يكون عرضة للتأويل، وبدون هذا لا يبطل الإجماع. مع أن المبتدع لا يستطيع أن يثبت ذلك إلى أن ينزل عيسى عليه السلام؛ لأنه لا يجد صحابيًا ولا تابعيًا ولا إمامًا سبقه إلى بدعته والحمد الله.

۳۷۵

عقيدة أهل الإسلام أما إيراده كلام الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد والشيخ المراغي دليلا على وجود الخلاف في المسألة فمغالطة باردة مكشوفة؛ لأن من له أدنى مساس بعلم الأصول يعلم أنَّ المعتبر في الإجماع كلام المجتهدين الذين تقوم بهما. الحجة وهم ورثة الأنبياء كما ورد في الحديث، أما العوام فلا عبرة بخلافهم ولا وفاقهم وإن كانوا يحملون ورقة تسمى شهادة العالمية، بل يكون الإجماع حُجَّةً عليهم يعصون بمخالفته كما هو مقرر في محله.

وكلام الشيخ رشيد في الجزء العاشر من المجلد الثامن والعشرين لـ"منار"

ليس خارقا للإجماع فحسب، بل فيه مساس بالرسول عليه الصلاة والسّلام. هذا وأرى لزاما عليَّ بعد أن أوضحت تواتر نزول عيسى عليه السلام، وبينت بطلان ما هَدَى به المبتدع ورؤساؤه وقرناؤه أن أذكر جملة من الأحاديث الصحيحة الصريحة؛ ليَهْلِك مَن هَلَك عن بينةٍ ويحيى من حَيَّ عن بينة، والله ولي التوفيق.

٣٧٦

كتاب الإيمان

جملة من الأحاديث الصحيحة في إثبات نزول عيسى عليه السلام

الحديث الأول

عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَما عَدْلًا، فيكسِرَ الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويَضَعَ الجِزْيَةَ، ويفيض المالُ حَتَّى

لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها». ثُم يقول أبو هريرة واقرأوا إن شئتم وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ

قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ١٥٩] رواه الشيخان، والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة، وابن مردويه،

وغيرهم.

الحديث الثاني

عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: كيف أنتم إذا نَزَلَ ابنُ مريم فيكم وإمامكم منكم؟». رواه

عبدالرازق وأحمد والشيخان

وفي رواية لمسلم : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم منكم؟».

قال ابن أبي ذئب رواية: يعني فأمَّكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى، وسُنَّة

نبيكم صلى الله عليه وآله وسلَّم.

عطاء عن

الحديث الثالث

بن ميناء عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم: «والله لينزلنَّ ابن مريم حَكَما عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن

عقيدة أهل الإسلام

۳۷۷

الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركنَّ القِلَاصُ فلا يُسعى عليها، ولتذهبنَّ الشَّحْناء

والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحدٌ».

رواه أحمد، ومسلم، وابن حبان في "صحيحه".

الحديث الرابع

عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتُجمع لـ له الصَّلاة، ويُعطي المال حتى لا يُقبل، ويضع الخراج، وينزل الرَّوْحاءَ فيَحُجُ منها أو يعتمر أو يجمعها ».

قال: وتلا أبو هريرة: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: ١٥٩] الآية، قال: فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: «يؤمن به قبل موت

عيسى». رواه أحمد وابن أبي حاتم بإسناد على شرط الصحيح.

و روی مسلم، وابن حِبَّان منه قصة الحج ولفظها: «ليهلن عيسى ابن مريم بفج الرَّوْحَاءِ بالحج أو العُمْرة، أو ليثنينهما جميعا». وهي رواية للإمام أحمد

أيضًا.

الحديث الخامس

عن عبدالرحمن بن آدم، عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتّى ودينهم واحد، وإنّي أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجلٌ مَرْبُوعٌ إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم

۳۷۸

كتاب الإيمان

يصبه بلل، فيدق الصَّليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهلك الله في زمانه الملل كلَّها إِلَّا الإسلام، ويُهلك في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع

البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيَّات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفَّى ويصلّي عليه المسلمون ويدفنونه». رواه أحمد، وأبو داود، وابن جرير، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه، وسلمه الذهبي، وصححه أيضًا الحافظ ابن حجر.

الحديث السادس

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا ينزل الدجال المدينة، ولكنه بين الخَنْدَقِ، وعلى كلُّ نَقْبٍ منها ملائكة يحرسونها، فأول من يتبعه النساء فيؤذينه فيرجع غضبان حتى ينزل الخندق، فعند ذلك ينزل عیسی ابن مریم . رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" قال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال

الصحيح غير عقبة بن مكرم الضبي وهو ثقة».

الحديث السابع

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ليهبطنَّ ابن مريم حكما عادِلاً وإمامًا مُقْسِطًا، وليسلكنَّ فجا - يعني فجَّ الرَّوحاء - حاجًا أو معتمرا، و ليأتين قبري حتى يسلم علي ولأردن عليه».

يقول أبو هريرة: أي بني أخي إن رأيتموه فقولوا: أبو هريرة يقرئك

عقيدة أهل الإسلام

۳۷۹

السلام». رواه الحاكم وصححه، وسلَّمه الذهبي.

الحديث الثامن

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إني لأرجو إن طال بي عُمر أن ألقى عيسى ابن مريم عليه السَّلام، فإن عجل بي موت فمن لقيه منكم فليقرئه مِنّي السَّلام . رواه أحمد، وقال الحافظ الهيثمي: «رجال إسناده رجال الصحيح.

الحديث التاسع

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «يوشك المسيح عیسی ابن مریم أن ينزل حَكَمًا مُقْسِطًا وإمامًا عَدْلًا، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، وتكون الدعوة واحدة، فأَقْرِئوه أو أَقْرِتْه السَّلام من رسول الله، وأحدثه فيصدقني». فلما حضرته الوفاة قال أقرئوه منه - يعني رسول الله -

السلام. رواه أحمد، وإسناده حسن.

الحديث العاشر

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا إِنَّ عيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي ولا رسول، ألا إنه خليفتي في أمتي من ألا إنه يقتل الدجال، ويكسر الصَّليب، ويضع الجزية، وتضع الحرب

بعدي،

أوزارها، ألا من أدركه منكم فليقرأ عليه السلام».

رواه الطبراني في "الصغير"، والخطيب في "التاريخ" بإسناد حسن أيضًا.

۳۸۰

كتاب الإيمان

الحديث الحادي عشر

عن سعيد بن ميناء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: طُوبَى لعيش بعد المسيح - يعني بعد نزوله- يُؤْذَنُ للسماء في القطر، ويُؤْذَنُ للأرض في النبات حتى لو بذرت حبَّك على الصفا (۱) لنبت وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحيَّة فلا تضره ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض». رواه الحافظ أبو سعيد محمد بن على النقاش في جزء له في فوائد

العراقيين ورجال إسناده ثقات، وبعضهم من رجال الشيخين.

الحديث الثاني عشر

عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ينزل عيسى ابن مريم فيمكتُ في النَّاسِ أربعين سنة».

رواه الطبراني في "الأوسط" وقال الحافظ الهيثمي: «رجاله ثقات»، وذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه" من طريق هشام بن عروة، عن صالح مولى أبي

هريرة، عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.

الحديث الثالث عشر

عن أبي هريرة يرويه قال: «لا تزال عصابةٌ مِن أمتي على الحق ظاهرين على الناس لا يبالون من خالفهم حتى ينزل عيسى ابن مريم .

رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق" وهو حديث صحيح بل متواتر، صرح بتواتره أبو العباس ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة

(۱) الصفا: صخرة ملساء لا تنبت شيئًا.

عقيدة أهل الإسلام

۳۸۱

أصحاب الجحيم"، وتتبع طرقه شقيقنا الحافظ السيد أحمد في رسالة سماها

" الأجوبة الصارفة عن إشكال حديث الطائفة".

الحديث الرابع عشر

عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لا تقوم ا الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق - أو بدابق- فيخرج إليهم جيش من المدينة مِن خِيَارِ أهل الأرض يومئذ...» وذكر الحديث إلى أن قال: «فإذا جاءوا الشام خرج يعني الدَّجَّال - فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصَّلاة، فينزل عيسى ابن مريم فيؤمهم -أي يقصدهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته». رواه مسلم في "صحيحه"

الحديث الخامس عشر

عن مطير الهلالي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: «لم يسلَّط على قَتْلِ الدَّجَّالِ إِلَّا عيسى ابن مريم». رواه أبو داود

الطيالسي، وهو حديث صحيح.

الحديث السادس عشر

عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى ابن مريم إمامًا مُقْسِطًا وحَكَمًا عَدْلًا، فليكسرنَّ الصَّليب، ويقتلنَّ الخنزير، وليصلحن ذات البين، وليُذهبنَّ

الشحناء، وليعرضن المال فلا يقبله أحدٌ ، ثم لئن قام على قبري فقال: يا محمد

۳۸۲

كتاب الإيمان

لأجبته». رواه أبو يعلى، وقال الحافظ الهيثمي: «رجال الصحيح».

الحديث السابع عشر

عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد الغفاري ويكني أبا سريحة بفتح السين المهملة - قال : اطَّلع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم علينا ونحن نتذاكر فقال: «ما تذاكرون؟ قالوا نذكر الساعة، فقال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات» فذكر: «الدُّخَان، والدَّجَّال ، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عیسی ابن عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خُسُوفٍ خَسْفُ بالمشرق، وخَسْفُ بالمغرب، وخَسْفُ بجزيرة العرب. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد النَّاسَ إلى تَخشَرِهم». رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، والترمذي،

مریم .

والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه".

الحديث الثامن عشر

عن جبير بن نفير الحضرمي: أنه سمع النواس بن سَمْعَان الكلابي يقول: ذكر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الدَّجَّال ذات غداة فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: «ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدَّجَّال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: «غير الدَّجَّال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حَجِيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافئة، كأني أُشبهه بعبدالعزى بن قَطَنٍ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)...». وذكر الحديث إلى

عقيدة أهل الإسلام

۳۸۳

أن قال: «فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مَهْرُودَتين واضعًا كفَّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مُجمَانٌ كاللؤلؤ، فلا يَحِلُّ لكافر يجد ريح نَفْسِهِ إِلَّا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طَرْفُه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله...» وذكر بقية الحديث رواه أحمد، ومسلم، والأربعة.

الحديث التاسع عشر

عن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يخرج الدجال في أمتي فيَمْكُثُ أربعين - لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرًا أو أربعين عاما- فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عُروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرةٍ من خير أو إيمان إلَّا قبضته». الحديث. رواه مسلم في "صحيحه"، والنسائي في "التفسير" والحاكم وقال: الصحيح على شرط الشيخين.

الحديث الموفي عشرين

عن أبي الزبير: أنه جابر بن عبدالله يقول: سمعت النبي صلى الله سمع عليه وآله وسلم يقول: «لا تزال طائفةٌ مِن أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة»، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول أميرهم: تعال صلّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه

٣٨٤

كتاب الإيمان

الأمة». رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما.

وله طرق عند أبي يعلى وأبي نعيم في "أخبار المهدي"، وأبي عمرو الداني في "سننه"، ووقع في رواية الأخيرين التصريح بأن أمير الطائفة هو المهدي،

وحديث المهدي متواتر كما صرح به غير واحد.

الحديث الحادي والعشرون

عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يخرج الدجال في خَفْقَة من الدين وإدبارٍ مِن العِلْم وله أربعون ليلة يسيحها في الأرض، اليوم منها كالسنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثُمَّ سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه ...... وذكر الحديث في صفة الدَّجَّال إلى أن قال: «فيفر الناسُ إلى جبل الدُّخَان بالشام فيحاصرهم فيشتد حصارهم ويُجهِدُهم جَهْدًا شديدًا، ثُمَّ ينزل عيسى عليه السلام فينادي من السَّحَر ، فيقول : يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى هذا الكذاب الخبيث فيقولون: هذا رجلٌ جِنّي، فينطلقون فإذا هم بعيسى عليه السّلام فتقام الصَّلاة فيقال له : تقدَّم يا روح الله. فيقول: ليتقدم إمامكم فيصلي بكم. فإذا صلى صلاة الصبح خرج إليه». قال: «فحين يراه الكذاب ينمات كما يَنْهاتُ الملح في الماء، فيمشي إليه فيقتله حتى أَنَّ الشَّجَرَ والحَجَرَ يُنادي: هذا يهودي. فلا يترك ممن كان يتبعه أحدٌ إِلَّا قتله». رواه أحمد بإسنادين، وابن خزيمة في "صحيحه" ، وقال الحافظ الهيثمي: «رجال إسنادي أحمد رجال الصحيح".

عقيدة أهل الإسلام

٣٨٥

الحديث الثاني والعشرون

عن جابر أيضًا قال: إنَّ امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا ممسوحة عينه طالعة ناتئة، فأشفق رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يكون هو الدجال ... وذكر حديث ابن صائد وتردُّد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في شأنه، وفي آخره: فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ائذن لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد». رواه الإمام أحمد، وقال الحافظ الهيثمي: «رجال إسناده رجال

الصحيح».

الحديث الثالث والعشرون

عن عبدالله بن يزيد بن مجمع بن جارية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد» أو «إلى جانب لد». رواه عبدالرزاق، وأحمد والترمذي وقال: «هذا حديث صحيح»، قال:

وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عتبة، وأبي برزة، وحذيفة بن أسيد، وأبي هريرة، وكيسان، وعثمان بن أبي العاص، وجابر، وأبي أمامة، وابن مسعود، وعبدالله بن عمرو، وسمرة بن جندب، والنواس بن سمعان، وعمرو بن عوف، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم . اهـ كلامه . قال الحافظ ابن كثير: ومراده) برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدَّجَّال وقتل عيسى ابن مريم عليه السلام له، فأمَّا أحاديث ذكر الدجال فقط فهي كثيرة

٣٨٦

كتاب الإيمان

جدا وهي أكثر من أن تحصى لانتشارها وكثرة رواتها في الصحاح والحسان

والمسانيد وغير ذلك . اهـ

الحديث الرابع والعشرون

عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض عليه مصحفا لنا على مصحفه، فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا، ثُمَّ أتينا بطيب فتطيبنا، ثُمَّ جئنا المسجد فجلسنا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يكون للمسلمين ثلاثة أمصار، مضر بملتقى البحرين، ومضر بالحيرة، ومضر بالشام، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس فيهزم من قبل المشرق فأول مِصْرِ يَرِدُ المِصْرَ الذي بملتقى البحرين...» وذكر حصار الدَّجَّال للمسلمين وما يصيبهم من جَهْدٍ ومَجاعة إلى أن قال: فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ مِن السَّحَر: «يا أيها الناس، أتاكم الغوث» -ثلاثا - فيقول بعضهم لبعض: «إنَّ هذا لصوت رجلٍ شبعان»،

وينزل عيسى ابن مريم عليه السَّلام عند صلاة الفجر فيقول له أميرهم: «يا روح الله، تقدَّم فصل»، فيقول: «هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض» فيتقدم أميرهم فيصلي، فإذا صلّى به أخذ عيسى عليه السَّلام حَرْبته فيذهب نحو الدجال، فإذا رآه الدَّجَّال ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حربته بين تَنْدُوَتِهِ فيقتله، وينهزم أصحابه فليس شيء يومئذٍ يُواري منهم أحدًا حتى أ أنَّ الشجرة

لتقول: يا مؤمن هذا كافر.

رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن.

عقيدة أهل الإسلام

۳۸۷

الحديث الخامس والعشرون

عن عمرو بن عبدالله الحضرمي قال: حدثني واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تقوم الساعة

-

حتى تكون عشر آياتٍ خَسْفٌ بالمشرق، وخَسْفُ بالمغرب، وخَسْفُ في جزيرة العرب، والدجال، والدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ويَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، والدابَّة، وطلوع الشمس من مغربها ، ونار تخرج مِن قَعْرِ عَدَنِ تسوق الناس إلى المحشر تحشر الناس تَسُوق الذرّ والنَّمْل رواه الطبراني، والحاكم وصححه،

وسلمه الذهبي.

الحديث السادس والعشرون

عن عن مؤثر بن عَفَازة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله

صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لَقيتُ ليلة أُسري بي، إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا أمر السَّاعة فردُّوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: لا عِلْمَ لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا عِلْمَ لي بها، فردُّوا أمرهم إلى عيسى فقال: أمَّا وَجْبَتُها فلا يعلم بها أحدٌ إِلَّا الله، وفيما عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وجلَّ أَنَّ الدَّجَّال خارج، ومعي قضيبان فإذا رآني ذابَ كما يذوبُ الرَّصَاص، قال: فيهلِكُه الله إذا رآني». وفي رواية و معي قضيبان فأهبط فأقتله حتى أ قضيبان فأهبط فأقتله حتى أَنَّ الحَجَر والشَّجَر يقول: يا مسلم إنَّ تحتي كافرًا فتعال فاقتله» قال: «فيهلكهم الله ثُمَّ يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم...» الحديث.

رواه أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وسلمه الذهبي.

۳۸۸

كتاب الإيمان

الحديث السابع والعشرون

عن ربعي بن حِرَاشٍ، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أنا أعلم بما مع الدجال منه، معه تهران أحدهما نارُ تَأَجَجُ في عين مَن رآه، والآخر ماء أبيض، فإن أدركه منكم أ

أحد

فليغمض عينه، وليشرب من الذي يراه نارًا فإنه ماء بارد، وإياكم والآخر فإنه الفتنة، واعلموا أنه مكتوب بين عينيه: «كافر يقرأه من يكتب ومَن لا يكتب وإن إحدى عينيه ،ممسوحة عليها ظَفَرةٌ ...» وذكر الحديث في حصاره للمسلمين إلى أن قال: «فلما قاموا يصلُّون نزل عيسى ابن مريم صلوات الله عليه أمامهم فصلى بهم - أي معهم - فلما انصرف قال: هكذا أفرجوا بيني وبين عدو الله ...» وذكر الحديث رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم، وسلَّمه الذهبي.

الحديث الثامن والعشرون

عن حذيفة أيضًا قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أدركه، وإني بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم قلت: يا رسول الله أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله هل بعده من شر كما كان قبله شر؟ قال: «نعم» قلت: فما العصمة منه؟ قال: «السَّيف قلت وهل للسيف من بقية؟ قال: دَخَنِ قلت: يا رسول الله ما بعد الهدنة؟ قال: «دعاة للضلالة فان لقيت الله يومئذ خليفة في الأرض فالزمه وإن أخذ مالك وضرب ظهرك وإلا - وفي رواية

الهدنة.

على

عقيدة أهل الإسلام

۳۸۹

فإن لم يكن خليفة - فاهربن في الأرض حدَّ هربك -أي منتهى هربك- حتى يدركك الموت وأنت عاضّ على أصل شجرةٍ». قلت: يا رسول الله فما بعد دعاة الضلالة؟ قال: «خروج الدَّجَّال قلت: يا رسول الله وما يجئ به الدَّجال، قال: يجئ بنارٍ ونهر فمَن وقع في ناره وَجَب أجره وحُطَّ وِزْره». قلت: يا رسول الله فما بعد الدجال ؟ قال : عیسی ابن مریم قلت : فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أنَّ رجلا نتج فرسًا لم يركب مُهرها حتى تقوم الساعة». رواه ابن أبي شيبة، وابن عساكر، وهو حديث صحيح.

الحديث التاسع والعشرون

عن عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال، وقد قلت فيه قولا لم يقله أحد قبلي: إنه آدم جَعْدٌ تمسوح عين اليسار، على عينه ظَفَرةٌ غليظة، وإنه يبرئ الأَكْمَه والأبرص،

ويقول: «أنا ربكم فمن قال: «ربي الله فلا فتنة عليه – أي في دينه لا في دنياه ومن قال: أنت ربي فقد افتتن - أي كفر - يلبث فيكم ما شاء الله، ثُمَّ ينزل عیسی ابن مریم مُصدِّقًا بمحمَّدٍ على مِلَّته إمامًا مهديًّا، وحَكَما عَدْلًا فيقتل

الدجال».

فكان الحسن - يعني البصري - يقول: «ونرى أنَّ ذلك عند الساعة». رواه الطبراني، والبيهقي في "البعث"، وسنده جيد كما قال الحافظ

السيوطي.

۳۹۰

.

الحديث الموفي ثلاثين

كتاب الإيمان

رضي الله عنها قالت دخل على

عن أبي صالح، عن أم المؤمنين عائشة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأنا أبكي فقال: «مايبكيك؟». قلت: «يا رسول الله، ذكرتُ الدَّجَّال فبكيت». فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إن يخرج وأنا فيكم كَفَيْتُكُمُوه، وإن يخرج بعدي فإن ربَّكم عزَّ وجلَّ

ليس بأغور، إنه يخرج من يهودية أصبهان - اسم مكان نسب إليه بعض العلماء كما في كتب الكنى والأنساب حتى يأتى المدينة فينزل ناحيتها، ولها يومئذ سبعة أبواب، على كلِّ نَقْبٍ منها ملكان فيخرج إليه شرار أهلها حتى يأتي الشام مدينة فلسطين بباب لد قال أبو داود مرة حتى يأتي مدينة فلسطين باب لد» فينزل عيسى ابن مريم عليه السَّلام فيقتله، ويمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عَدْلًا، وحَكَما مُقْسِطًا. رواه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، وقال الحافظ الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح».

الحديث الحادي والثلاثون

عن سمرة بن جندب رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إِنَّ الدَّجَّال خارج، وهو أعور عين الشمال عليها ظَفَرةٌ غليظة، وإنه يُبْرئُ الأَكْمَة والأَبْرَصَ، ويُحيي الموتى، ويقول للناس: «أنا ربكم». فمن قال: «أنت ربي» فقد فتن، ومن قال: ربي الله» حتى يموت على ذلك فقد عُصم من فتنة الدجال ولا فتنة عليه، فيلبث في الأرض ما شاء الله - أربعين يوما على ما صرح به في الأحاديث الأخرى - ثُمَّ يخرج عيسى ابن مريم قبل

عقيدة أهل الإسلام

۳۹۱

المغرب - أي جهة المغرب، وهي الشام - مصدقًا بمحمَّدٍ فيقتل الدجال، وإنما هو قيام الساعة». رواه أحمد والطبراني، وقال الحافظ الهيثمي: «رجال الحديث

رجال الصحيح».

الحديث الثاني والثلاثون

عن سمرة أيضًا قال: خطب النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فحمد الله وأثنى عليه، وشهد أنه عبد الله ورسوله، ثُمَّ قال: «أيها الناس، أُنشدكم بالله إن

كنتم تعلمون أني قصرتُ عن شيءٍ مِن تبليغ رسالات ربي لما أخبر تموني ذلك». قال: فقام رجال فقالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك». ثُمَّ قال: «أما بعد، فإنَّ رجالا يزعمون أنَّ كُسُوفَ هذه الشمس وكُسُوفَ هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وإنهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله يختبر بها عباده فينظر مَن يُحدِثُ له منهم توبةً، وأيم الله لقد رأيت منذ قمتُ أصلي - يعني صلاة الكسوف - ما أنتم لاقوه في أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذَّابًا آخرهم الأعور الدجال، وإنه متى يخرج فسوف يزعم أنه الله تعالى- فمن آمن به وصدقه واتبعه لم ينفعه عمل صالح من عمل سَلَفَ، ومَن كفر به وكذَّبه لم يعاقب بشيء من عمله سَلَف، وإنه سوف يظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس، وإنه يسوق الناس إلى بيت المقدس فيُحصَرُون حصرًا شديدًا»، قال: «فيصبح فيهم عيسى ابن مريم فيقتله وجنوده حتي أنَّ جِذْمَ الحائط وأصل الشجرة لينادي: «يا مسلم

۳۹۲

كتاب الإيمان

هذا كافر تعال فاقتله، ولن يكون ذلك حتى تروا أمورًا يتفاقم شأنها في أنفسكم فتتساءلون بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها شيئا؟ وحتى تزول جبال عن مراتبها، ثُمَّ على أثر ذلك الموت». رواه أحمد، وسعيد بن منصور، وابن خزيمة، وابن جرير، والطحاوي، والبزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي. وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط الشيخين»، وسلَّمه الذهبي.

الحديث الثالث والثلاثون

عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن أدرك منكم عيسى ابن مريم فليقرئه مني السلام». رواه

الحاكم، وهو حديث حسن.

الحديث الرابع والثلاثون

مریم

عن أنس أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أنا أَوَّل مَن يدخل الجنَّة يوم القيامة وأشفع، وسيُدرك رجالٌ مِن أُمَّتي عيسى ابن . ويشهدون قتال الدَّجَّال» رواه الطبراني وهذا لفظه، وأبو يعلى والحاكم بإسناد مجموعهما حسن

الحديث الخامس والثلاثون

عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال طائفةٌ مِن أمتي تقاتل على الحق حتى ينزل عيسى ابن

مريم عليه السلام عند طلوع الفجر ببيت المقدس، ينزل على المهدي فيقال: تقدم يا نبي الله فصل بنا فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض». رواه

عقيدة أهل الإسلام

۳۹۳

أبو عمرو الداني في "سننه" وهو حديث صحيح.

الحديث السادس والثلاثون

عن عبد الأعلى بن عدي البهراني، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه قال: «عِصَابتان مِن أُمَّتِي أَحْرَزَهُمَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ عِصَابَةٌ تغزو الهند، وعِصابة تكون مع عيسى ابن مريم». رواه أحمد، والنسائي، والطبراني، والضياء المقدسي في "المختارة" ، وقال المناوي في "شرح الجامع الصغير": «إسناده حسن».

الحديث السابع والثلاثون

عند

عن عبدالرحمن بن أيوب بن نافع بن كيسان، عن أبيه، عن جده نافع صاحب النبي -صلَّى الله عليه وآله وسلّم يرفعه: ينزل عيسى ابن مريم باب دمشق عند المنارة البيضاء لست ساعات من النهار في ثوبين ممشقين كأنها يَنْحِدر من رأسه اللؤلؤ». رواه ابن عائذ، وتمام في "فوائده"، وابن شاهين في "الصحابة"، وابن عساكر في "التاريخ"، وهو حسن لغيره.

الحديث الثامن والثلاثون

عن نافع بن كيسان بن عبد الله بن طارق عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق». رواه البخاري في "التاريخ" ، والطبراني، وابن السكن، وابن منده، وتمام في "فوائده"، والربعي في فضائل الشام ، ورجال الحديث ثقات كما قال الحافظ ابن حجر

٣٩٤

كتاب الإيمان

الحديث التاسع والثلاثون

عن أبي يحيي مولى ابن عَفْراء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِسَاعَةِ ﴾ [الزخرف: ٦١] قال: «نزول عيسى ابن مريم من قبل يوم القيامة. رواه ابن حبان في "صحيحه".

الحديث الموفي أربعين

روی محمد بن شعيب بن شابور، عن يزيد بن عبيدة - بفتح العين - ابن أبي المهاجر الكوني الدمشقي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: ينزل المسيح عيسى ابن مريم عند

المنارة البيضاء شرقي دمشق ، رواه ابن أبي حاتم، ورجال إسناده ثقات. فهذه أربعون حديثًا إذا ضُمَّت إلى ما سبق أول الكتاب من الأحاديث المرفوعة والآثار التي لها حكم الرفع بلغ مجموعها نحو خمسين حديثا كلها بين

صحيح وحسن.

ومن هنا يُعلم أنَّ ما قلناه في "إقامة البرهان" من أنَّ الأحاديث الضعيفة مجبورة بالأحاديث الصحيحة صحيح لا غبار عليه، وأن ما قلناه هناك من أنَّ

التواتر لا تشترط في رواته العدالة موافق لما قرَّره الأصوليون والمحدثون. ولذا قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" إنَّ المتواتر ليس من مباحث علم الإسناد قال: «إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث

عن رجاله بل يجب العمل به من غير بحث . اهـ

٣٩٥

عقيدة أهل الإسلام وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول" بعد إذ عرَّف المتواتر وذكر شروطه ما نصه: «وقد اشترط عدالة النقلة لخبر التواتر فلا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير عدول، وعلى هذا لابد ألا يكونوا كفَّارًا ولا فُسّاقا، ولا وجه لهذا الاشتراط فإن حصول العلم الضروري بالخبر المتواتر لا يتوقف على ذلك بل يحصل بخبر الكفار والفساق، والصغار المميّزين، والأحرار والعبيد، وذلك هو المعتبر» . اهـ بل سبق عن ابن الهمام أن خبر الواحد المحتف بالقرائن يفيد العلم ولو كان راويه غير عدل، فبطل ما زعمه المبتدع أننا خلعنا على الأحاديث الضعيفة ثوبا مهلهلا من القداسة لا رغبة في العلم ولكن ليقول العامة وأشباه العامة عنا أننا محدثون وحُفَّاظ. هذا زعمه الكاذب ودعواه الباطلة، فنحن ما ألفنا كتابنا "إقامة البرهان" إلا للدفاع عن ا السُّنَّة النبوية التي دأب المبتدع على محاربتها وردّها بوسائل شيطانية خبيثة، حيث يدعي تارة أنها آحاد والآحاد يفيد الظن، وأخرى أنها روایات مضطربة، وطورًا يجعلها من الإسرائيليات ويلصقها بكعب ووهب ظلما وعدوانًا، وحينًا يزعم أنَّ القرآن لم يشر إلى ما أتت به، كأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يجب اتباعه إلَّا في القرآن!! إلى غير هذا من الحيل والخدع. فليس إنكار نزول عيسى عليه السَّلام مقصودًا لذاته عند هذا المبتدع، ولكنه حلقة من حلقات خطة دبَّرها لهدم السُّنَّة ونقضها من أساسها، وآية ذلك أنه لا ينزع في مقالاته وغيرها إلَّا بالقرآن وهذا في الظاهر حسن، لكنه لا

يرجع في تفسيره إلى الحديث بل يعتمد على رأيه ورأي رؤسائه.

٣٩٦

كتاب الإيمان

وقد يعرض له الحديث الصحيح في تفسير آية فيرده برأيه ولا يبالي، وصرح لي بإنكار الدَّجَّال مدعيًا أنَّ أحاديثه مضطربة متناقضة، وأنكر الميزان في محاضرة ألقاها من محطة الإذاعة، وكتب في "مجلة الرسالة" مقالا بعنوان "شخصيات "الرسول" ذكر فيه الشخصيات الأربع التي سرقها من القرافي(1) وزاد عليها أنَّ الرسول ليس معصوما في فتواه وقضائه، وأنه لا يجب اتباعه إلَّا فيما كان طريقه الوحي المحض كالعبادات، أما ما عدا ذلك فتجوز مخالفته فيما أفتى أو قضى به إذا اقتضت المصلحة المخالفة.

إلى غير هذا ما أتى به في ذلك المقال الآثم الذي أراد به أن يطعن السُّنَّة في مصدرها وينبوعها، فلم يسعنا السكوت على هذه الاعتداءات المتكررة، والجهالات المتوالية، وانتدبنا للدفاع والحجاج، وقاومنا الداء بالعلاج، ووطنا أنفسنا على سماع ما تفوه به في حقنا من تهم وشتائم، لعلمنا أن الجاهل إذا أفحم شنّع، وأنَّ السفيه إذا غُلب أقذع، والشتم حيلة العاجز، والحجة شيمة

القوي المبارز. ألا فليعلم هذا المبتدع أننا عزمنا على موالاة دحض ترهاته ومتابعة محو مفترياته، نرجو بذلك ثواب الله ومغفرته، ونأمل القرب من نبيه وشفاعته، لا يردنا عن عزمنا سفاهة سفيه أو جهالة جاهل، وعلى الله اعتمادنا وبه ثقتنا، وإليه التجاؤنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة لا بالله العلي العظيم.

(۱) بواسطة سرقتها من شخص معاصر سرقها من القرافي فهي سرقة مكررة !!

عقيدة أهل الإسلام

۳۹۷

فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعي

في نزول عيسى عليه السلام

العلامة

هذه فتوى في إثبات نزول عيسى عليه السَّلام لشيخنا المرحوم ا الإمام الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية وشيخ علمائها بدون

منازع، كتبها بعد عودته من الحجاز سنة ( ١٣٥٠ هجرية)، جوابًا عن سؤال

أحد علماء ناصرية المتفق المسمى داود الراوي، وهذا نصها:

الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده.

اطلعنا على هذا السؤال فيما يتعلق بحياة عيسى وعدم موته وفي رفعه

ونزوله وقتله الدجال ونقول : أما قول السائل هل هو حي أم ميت؟ وإذا قلت إنه حي فأين هو وبماذا تستدل فضيلتكم؟

فنقول : أنه حي لم يمت أخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره" قال : [ حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩] قال: «قبل

موت عيسى، والله إنه الآن لحي عند الله ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون». وعن ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة عن عوف، عن الحسن: الا

ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩] قال: «عيسى، ولم يمت بعد».

وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لليهود: «إنَّ عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة. فأنت ترى أن الحسن رفعه للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فهو وإن كان مرسلا لكنه في حكم الموصول المسند،

۳۹۸

كتاب الإيمان

وقد صرح الأصوليون بأنَّ مرسل الحسن مقدم على المسانيد قال في "فواتح الرحموت": «ولا بعد فيه ويحتمل أن يكون قولهم: «مقدم على المسانيد» مبالغة في تصحيح مرسله». انتهى.

و يؤيد هذا أنَّ الحسن نفسه جزم بحياة عيسى مؤكدًا هذا الجزم بالقسم حيث قال: «والله إنه الآن لحي عند الله».

وهذا الحديث وإن كان خبر آحاد لكنه وقع بيانا للإجمال الواقع في الآية لوجود الاحتمالات في أهل الكتاب وضمير «به» و«موته» في قوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فعين هذا الحديث أنَّ المراد بأهل الكتاب اليهود، وعيّن أنَّ المراد بالضميرين عيسى عليه السّلام.

والآحاد يصلح تفسيرًا للمُجُمَل ، ومتى وقع تفسيرًا للمُجُمَل القطعي كما هنا كان الدليل هو المجمَل القطعي المبيَّن بذلك الخبر، لا الخبر الذي وقع بيانا له كما حققه في فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت" بعد مناقشة طويلة حيث قال ردا على ما استدل به المخالف ولا يظهر لهذا وجه فإن إفادة الخبر الظن مما أجمع عليه ومنع المقدمة الاجتماعية لا يجوز.

فبعد ملاحظة هذا الإجماع لا يمكن منع إفادة الخبر الظن، وبعد التنزل للمستدل أن يقول الخبر مفيد للظن ما دام الخبر باقيا قطعا، فارتفع المانع حين وجود الخبر قطعا، فلزم القطع بالحكم في تلك الحال قطعا وهو المطلوب،

فإنهم لا يدعون بعد ظهور عدم وجود البيان كذب الخبر فتدبر. فإذن الحق في الجواب ما أفاده والذي قدس سره منع ارتفاع المانع من القطع الإجمال وجواز الطرف المقابل مرجوحًا، وهنا وإن ارتفع المانع الأول

عقيدة أهل الإسلام

۳۹۹

لكن قام الثاني مقامه، فإنَّ الظنَّ بالشيء يوجب تجويز الطرف المقابل. هذا تم لهم أن يقرروا بأنَّ الخبر مفيد للظن بالوضع والاستعمال قطعا، وهذا

الظن يوجب التبادر ،قطعا، وتبادر المراد من القطعي رافع للمانع قطعاً لوجود المقتضي، وبالجملة هذا الظن موجب للتبادر وهو يوجب القطع وكيف لا يوجد التبادر فإنه متى علم أنَّ الصلاة في الشرع ما هو؟ ولو بخبر الواحد، والربا ما هو ؟ يتسارع الذهن عند سماع اللفظين إلى معناهما الشرعي وإنكاره مكابرة. وليس هذا إلَّا كما إذا أخبر الخليل والأصمعي أنَّ لفظا وضع في لغة العرب لهذا المعنى يتسارع الذهن عند السماع إليه البتة، وهذا أولى منه فإنَّ هذا الظن قوي معاضد بالإجماع. وهذا هو الذي يرسم في الاستدلال المشهور بأنَّ الحكم بعد تبين الخبر مضاف إلى الدليل يكون مقطوعا، ، يعني أنَّ الحكم بعد تبين الخبر يستفاد منه لأجل التبادر ليفيد الوضع؛ لأن المراد المعنى الأعم وهو الذي لا يحتمل المقابل احتمالا ناشئًا عن دليل، وبعد التبادر فاحتمال عدم الإرادة كاحتمال التأويل في النص فلا اعتداد به هذا بخلاف ترجيح أحد معنيي المشترك بالرأي فإنه لا يوجب التبادر فتأمل فيه فإنه موضع تأمل». انتهى. وأقول: تأملنا فوجدنا أنَّ الأصوليين استدلوا على وجوب التعبد بخبر الواحد باحتجاج الصحابة على وجوب العمل بخبر العدل، وأنه تواتر عنهم الاحتجاج والعمل بخبر الواحد، وكما أجمعوا على ذلك فقد أجمعوا على إفادة خبر الواحد العدل الظن، فكان خبر الآحاد مفيدًا للظن بالإجماع، والعمل به واجبًا بالإجماع، ولا اعتداد بالاحتمال المرجوح الذي هو في مقابلة الظن بدليل تواتر العمل به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وقد أطال

٤٠٠

كتاب الإيمان

الأصوليون في الاستدلال على وجوب العمل بخبر الواحد وعلي تواتره بما يطول شرحه، فإن أردته فعليك بـ"مسلم الثبوت" و"التحرير" وشرحه من

كتب الأصول.

خبر

الآحاد

وعلى كل حال فالحق أن الخلاف لفظي، فمن نظر إلى أنَّ الصحيح ظني نظر إلى الاحتمال في ذاته، ومن نظر إلى أنَّ هذا الاحتمال لا اعتداد به قال إنه قطعي، فإذا فسَّر المجمَل كان العمل بهذا التفسير واجبًا بالإجماع سواء قلنا أن خبر الآحاد يفيد القطع أو الظن.

وأما مقره وأين هو فنقول: إنه عند الله، وفي علم الله مكانه، ولا نعلم في أي مكان مستقره؛ ألا ترى أنَّ الجنَّة والنار في اعتقاد أهل السنة موجودتان يقينا ولكنا لا نعلم أين هما .

وأما ما ورد في قصة المعراج أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم لقيه في السماء الثانية فهذا لا يدل على أنَّ السماء الثانية مكان له؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كما لقيه كذلك لقي إبراهيم وموسي وغيرهما من الأنبياء في

السماوات، ومعلوم أنهم ماتوا، ومن مات لا تعود له الحياة إلى يوم القيامة. ولكن الذي وقع ليلة المعراج من لقياه الأنبياء هو من باب التمثيل فإن الله تعالى شكل أرواحهم على هيأة أجسامهم كما ذكره ابن عقيل، وكذا ذكره ابن التين وقال: وإنما تعود الأرواح إلى الأجسام يوم البعث كما قدمنا إلا عيسى عليه السلام فإنه حتي لم يمت وينزل إلى الأرض فيقتل الدجال، ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلّم رأى الجنة والنار ليلة الإسراء في السماء، ومن المعلوم

أنه لم يعلم بطريق قطعي مكانهما.

عقيدة أهل الإسلام

٤٠١

وقولهم: «إنَّ الأنبياء أحياء في قبورهم فهذا لا ينافي ما قاله ابن التين من أنَّ الأرواح إنها تعود إلى الأجساد يوم البعث؛ لأن عودة الأرواح إلى الأجساد يوم البعث هو الذي يقتضي أن تعود الأجساد إلى الحياة المشاهدة التي يترتب

عليها جميع الأفعال الاختيارية بأقوى مما كانت عليه في الدنيا.

وأما حياة الأنبياء في قبورهم فهي حياة ملكوتية بها يقدرون على أفعال ملكوتية لا يشهدها ولا يراها إلا من يشاهد عالم الملكوت مثل نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم الذي رأى موسى في قبره يصلي. إلا عيسى عليه السلام فإنه وإن أخذه الله إلى عالم الملكوت فإنه موجود فيه كما كان موجودًا في الأرض عالم الملك؛ لأنه لم يمت بعد، فهو حي بحياته الدنيوية التي وُلد عليها لم تفارق روحه جسده، وإن كان في عالم الملكوت فهو في حراسة الله إلى أن يرجعه الله إلى عالم الملك - أي الأرض ويقتل الدَّجَّال، ثُمَّ يموت كما مات إخوانه الأنبياء، ويدفن في الأرض.

وهذا هو معني نزول عيسى الذي جاءت به الأخبار الصحيحة وليس

معناه الانتقال من مكان عال إلى مكان سافل كما فهم السائل.

وأما قوله فما معنى قوله تعالى: وإنِّي مُتَوَفِّيك وقد قال تعالى: و الله يَتَوَفي الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [الزمر: ٤٢] ولم يقل بنوم عيسى إلى يومنا هذا أحد... إلخ.

فنقول: إن السائل باستشهاده بالآية كأنه قصر تفسير التوفي على شيئين فقط، التوفّي بمعنى الموت، والتوفّي بمعنى النوم، وإنما فعل ذلك ليتسنى له

٤٠٢

كتاب الإيمان

إيراد إشكال على التوفّي بمعنى النوم وهو قوله: «لم يقل أحد بنوم عيسى إلى يومنا هذا». فنفيده أنَّ معنى التوفّي ليس قاصرًا على هذين المعنين فإنَّ المفسرين ذكروا أوجها كثيرة في معني التوفّي، والصحيح قول القرطبي أنَّ الله رفعه من غير وفاة أي موت ولا نوم وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس، ومعنى الوفاة يحتمل على اختيار الطبري أربعة أوجه: الأول: بمعنى الإماتة في المستقبل، وهو قول الفراء: إنَّ في الكلام تقديما

وتأخيرا، تقديره : رافعك ومطهرك ومتوفيك بعد إنزالك من السماء. الثاني: بمعنى القبض وهو قول ابن زيد: متوفيك» قابضك من الأرض. الثالث: أنه بمعنى إبقائه للأجل المقدَّر له والإماتة بعده. وهو قول الزمخشري في "الكشاف"، أي إني متوفّيك أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخّر أجلك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا

قتلا بأيديهم. الرابع: أنه بمعنى الإماتة في المستقبل وأنَّ الواو في قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَى لا تفيد الترتيب؛ لأنها لمطلق الجمع فلا فرق بين التقديم والتأخير، وهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأول أي إلى قول الفراء بقي الوجهان اللذان اقتصر عليهما

السائل.

أحدهما: الوفاة على ظاهرها وأنها وقعت قبل رفعه، توفاه الله ثلاث ساعات ثُمَّ أحياه الله ورفعه إليه، وقد ورد ذلك في رواية

ساعات وقيل سبع .

ضعيفة عن ابن عباس، وذكر ابن إسحاق أنها من زعم النصارى.

عقيدة أهل الإسلام

٤٠٣

الثاني: أن المراد بالوفاة هنا النوم مثله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّكُم بِالَّيْلِ [الأنعام: ٦٠] أي ينيمكم قال في "فتح" "البيان": وبه قال كثيرون، قال الآلوسي: روي عن الربيع أنَّ الله تعالى رفع عيسى إلى السماء وهو نائم رفقا به، ولم يذكروا لأصحاب هذا القول أنَّ عيسى عليه السلام هل استيقظ من النوم بعد رفعه أم يستمر نائما إلى أن ينزل ؟ وعلى فرض أنه يستمر نائما فإن الله يحفظه في المحل الذي رفع إليه ويصونه عن الموت في هذه المدة الطويلة، كما صان أهل الكهف فيه لمدة ثلاثمائة سنة وتسع عن الموت والهلاك بلطفه وكرمه، بأن حفظ أجسادهم من أن تأكلها الأرض، والله على كل شيء قدير. فأصحاب هذا الوجه على تقدير الفرض كأنهم قائلون بنوم عيسى إلى الآن

والله أعلم فبطل قول السائل: لم يقل بنوم عيسى إلى يومنا هذا أحد. وأما قوله : مع أنَّ صيغة متوفّيك وأخواتها تخصصت للاستقبال بقوله: :

إلَى يَوْمِ الْقِيَكمة ﴾ [آل عمران: ٥٥] ويريد السائل أن يجعل إلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ

يعني

متعلقا بجميع ما قبله الذي منه متوفيك ) بمعني: منيمك إلى يوم القيامة. فنقول: أنَّ الجار والمجرور كما قال المفسرون متعلق بالجعل . جاعل المتبعين لك إلى يوم القيامة فوق الذين كفروا، أو متعلق بالاستقرار المقدر في الظرف يعني استقر وثبت علو متبعيك إلى يوم القيامة، وعلى كل حال فالجار وقع في جملة فهو المرتبط بها وأخذ له متعلقا منها وقضي الأمر، فلا يمكن بعد ذلك أن يبحث له عن متعلق من الجمل التي قبل الجملة التي هو جزء منها لأنه لا ارتباط بينه وبينها.

٤٠٤

كتاب الإيمان

نعم، إنَّ المراد من «متوفّيك» أنه متوفيه في المستقبل وهذا لا يقتضي إلا أنه تقع الوفاة في دار الدنيا في المستقبل، ولا يقتضي وقوعه في الحال ولا في الماضي، ولا شك أن عيسى عليه السَّلام وإن كان الآن حيا لكنه سيموت في المستقبل كما تقدم، ألا ترى إلى قوله تعالى في خطابه لسيد الخلق: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مستونَ [الزمر: ٣٠] فإن المراد من هذه الآية الموت في المستقبل وهذا لا يقتضي أنه بمعني ميت الآن بل يفيد أنه سيموت وهذا مما لا شك فيه. وأما قوله : وأمَّا الرفع بقوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَى } [آل عمران: ٥٥] فرفع تعظيم وتكريم لعيسى لا رفع جهة، فإنه ممنوع عند عامة المسلمين، فهو مسلم بالنظر إلى الله تعالى، وأما بالنظر إلى عيسى فغير مسلم، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام إنّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وإنما ذهب إبراهيم من العراق إلى الشام أو يكون قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَى : معناه أنه يرفع إلى

مكان لا يملك الحكم فيه غير الله والله أعلم بذلك المكان (١) كما قدمنا. وأما قوله : فإن قلنا إنَّ عيسى مات ثُمَّ أحبي ثُمَّ رفع فتلك مسألة تلزمنا ثلاث موتات وثلاث إحياءات، وقد قال تعالى على لسان أهل النار: أمتنا اثنينِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: ۱۱] وقال تعالى يحصر الموتى في الموتتين والإحياء ين: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَا بِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَى و ﴾ [الروم: ٤٠] إلخ .

(۱) بل ذلك المكان هو السماء كما في الأحاديث والآثار التي لم يقف عليها شيخنا رحمه الله.

عقيدة أهل الإسلام

فنقول أنَّ ذكر الإماتة والإحياء تكرر مجيئه في آيات من القرآن:

٤٠٥

الآية الأولى: قوله تعالى حكاية عن الكافرين : أَمَتَنَا اثْنَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين وقد اختلف في المراد منها، فقيل أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا، وبالثانية إماتتهم المعهودة عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءة الأولى نفخ الروح فيهم وهم في الأرحام، وبالثانية البعث، وهذا مروي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة، وجعلوا هذا نظير آية البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ

وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [البقرة: ۲۸] الآية. والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر، وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم ففي إطلاقها على ما عدا إماتة أولى خفاء ووُجه بأن ذلك من باب المجاز، وفي تشخيص هذا المجاز كلام للمفسرين ولعلماء البلاغة أعرضنا عنه لطوله ولكونه ليس مقصودا من هذا السؤال.

وقال السدي: «المراد بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءة الأولى إحياءتهم في القبر للسؤال، وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة، وبالإحياءة الثانية إحياءتهم للبعث»، أقول وسيأتي أنه أبعد الأقوال. وقال ابن زيد: «أريد إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم، ثُمَّ إحياؤهم في الدنيا ثُمَّ إما تتهم ثُمَّ إحياؤهم». وهذا صريح في أنَّ الإحياءات

ثلاث.

الآية الثانية: قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا

٤٠٦

كتاب الإيمان

فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [البقرة: ٢٨] وهذه الآية مسوقة للامتنان

وفي المراد منها أقوال.

فالمروي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد هو: أنَّ المراد بالموت الأول العدم السابق، والإحياء الأول ،الخلق، والموت الثاني المعهود في الدنيا والحياة الثانية البعث.

واختار آخرون أنَّ الموتة الأولى هي و وقت استقرارهم نُطَفًا في الأرحام، والحياة الأولى نفخ الروح فيهم وهم في الأرحام، والإماتة هي المعهودة

والإحياء هو البعث.

قال الآلوسي: «ولعل الثاني أقرب من الأول وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فُسّر الموت بعد الحياة عمن اتصف به، وحقيقة أن فُسر بعدم الحياة عما من شأنه قال السيالكوتي: القول الثالث: - وهو أبعدها – حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر. الآية الثالثة: أنه تعالى بعد وصف أهل الجنة بما هم فيه من الخيرات

والراحات بين أن حياتهم دائمة فقال: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأولى [الدخان: ٥٦] جملة مستأنفة أو خيالية كأنه أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوضع الموتة الأولى موضع ذلك؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها.

عقيدة أهل الإسلام

٤٠٧

ونظيره قول القائل لمن يستسقيه: «إلَّا الجمر» وقد علم أنَّ الجمر لا يُسقَى فالاستثناء متصل، وقيل الاستثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في

الدنيا والأصل اتصال المستثنى.

أقول: وكون المراد أنهم لا يذوقون فيها الموت البتة يتفرع على كل من

الاتصال والانقطاع.

وقال الطبري: «إلا بمعنى بعد» والجمهور لم يثبتوا هذا المعنى لها. وقال ابن عطية: ذهب قوم إلى أنَّ إلا بمعني سوى»، وضعفه الطبري. الآية الرابعة : أنه تعالى بعد ما تممَّ كلام بعض أهل الجنة مع قرينه من أهل النار أخبر أنه عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّينَ ﴾ [الصافات: ٥٨] الهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام أي: أنحن مخلدون فما نحن بميتين؟ أي ممن شأنه الموت، إِلَّا مَوْنَتَنَا الأُولَى [الصافات: ٥٩] التي كانت في الدنيا، قاله تصديقا لقوله تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) يعني دائمة، والاستثناء مفرغ من مصدر مقدّر، كأنه قيل: أفما نحن بميتين موتة إلا موتتنا الأولى؟ . وجوز أن يكون منقطعًا، أي: لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا. أقول وعلى القولين، المراد نفي موتهم في الجنة البتة.

أن حياتهم

الآية الخامسة : يخبر تعالى عن كفار مكة المنكرين للبعث فقال : إِنَّ هَؤُلاء لَيَقُولُونَ أي كفار قريش إنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى ﴾ أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية : وَمَانَحْنُ بِمُنشَرِينَ } [الدخان: ٣٤ - ٣٥] أي

٤٠٨

كتاب الإيمان

بمبعوثين بعدها، وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية، قال أبو علي: ليس من شرط كونه أولا أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه

غيره».

وقيل إنه قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عز وجل: ﴿ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ

يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [البقرة: ۲۸] فقالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة وهذا ما ارتضاه جار الله.

قال الآلوسي والإنصاف أنَّ حمل الموتة الأولى هنا على التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من العدم، بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق، المعروفة بينهم وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولا، فالآيات التي جاء فيها ذكر الإماتة والإحياء لا تدل واحدة منها على ما ذكره السائل من حصر الموت في موتتين؛ لعدم وجود ما يدل على الحصر فيها فضلا عن اختلاف المفسرين كما سمعت. فالحق أن الموت لم ينحصر في موتتين ألا ترى إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى

مي

الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ الاستفهام هنا للتقرير والرؤية المذكورة هنا . رؤية القلب لا رؤية البصر، والمعنى عند سيبويه : تنبه إلى أمر الذين أخرجوا.

ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين، ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية أي

عقيدة أهل الإسلام

٤٠٩

ألم تنظر إلى الذين خرجوا وَهُمْ أُلُوفُ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ أي مخافة الطاعون فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا : أمر تكوين وتحويل، وهو عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة، أو تمثيل لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة، كأنهم أُمروا فأطاعوا فماتوا ثُمَّ أَحْيَهُمْ ﴾ [البقرة: ٢٤٣] عطف على مقدر يستدعيه المقام أي فماتوا ثُمَّ أحياهم.

ولا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى: لَا يَذُوقُون فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [الدخان: ٥٦]؛ لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجالهم كما قال مجاهد، وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت وأيضًا هو من خوارق العادات فلا يَرِد نقضًا، ومن الناس من قال إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور، وإنما هو انقطاع تعلق الروح عن

الجسد. قال الآلوسي: «هذا القول في القلب منه شيء بل أشياء» . اهـ.

أقول على أنك قد علمت أنَّ المراد من قوله تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت الدخان: ٥٦] الآية، وقوله تعالى: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾ [الصافات: ٥٨] الآية، نفي الموت فيها البتة فلا دلالة في واحدة منهما على حصر الموت في

موتتين حتى يحتاج إلى جواب عن ذلك.

وألا ترى أيضا قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرية عطف على سابقه، أي: المتر إليه كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان والشهود؟ قيل

هو عزير أو أرمياء من سبط هارون، وهو الخضر بعينه أو حزقيل.

كتاب الإيمان

ومقصود القصة تعريف منكري البعث قدرة الله على إحياء خلقه بعد

إما تتهم لا تعريف ذلك المار وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ أي ساقطة على سقوفها، يعني سقط السقف أولا ثم سقطت الحيطان عليه قال } أي ذلك

المار في نفسه أو بلسانه قَالَ أَنَّى يُحْي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي متى يحيي،

أو

كيف يحيي؟ وهو استبعاد لإحيائها وهي على تلك الحالة، فالمشار إليه هو نفس القرية فالإحياء والإماتة مجازان. وقيل المشار إليه أصحاب القرية فالإحياء والإماتة على حقيقتها، وقيل عظام أهل القرية البالية وجثثهم المتفرقة فالإحياء والإماتة على حقيقتهما أيضًا، والراجح القول الأول لأنه لم تتعلق إرادة الله بإحيائهم كما تعلقت إرادته بعمارتها، ولما قال المار هذه المقالة مستبعدا لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه فقال: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ أي فالبثه ميتا مائة سنة وتم بعَثَهُ ﴾ [البقرة: ٢٥٩] أي أحياه ليريه كيفية ذلك وإيثار البعث على الإحياء للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري سبحانه وتعالى وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال، وكان ذلك بعد عمارة

القرية.

وهاتان الآيتان صريحتان في أنَّ الموت لا ينحصر في موتتين. وأما قول السائل: «هو الذي خلقكم ثُمَّ رزقكم... إلخ» فالآية هكذا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ﴾ إلخ، لا كما قال من أنها: «هو الذي خلقكم ثم رزقكم....

إلخ» فليس هذا السياق من القرآن، ونقول بعد تصحيح مطلعها: اللَّهُ الَّذِي

عقيدة أهل الإسلام

٤١١

خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ نُوَيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَا بِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم من شَيْءٍ [الروم: ٤٠] إنها ليست ممن نحن فيه بل المراد منها كما قال الآلوسي: إنها وقعت خبرًا معني فكأنه قيل: الله الخالق الرازق المميت المحيي لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه، وبعضهم جعلها خبرًا بتقدير القول فكأنه قيل الله الموصوف بكونه خالقا ورازقا ومميتًا ومحييا مقول في حقه: هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به . اهـ

وعلى كلّ فالمقصود الاحتجاج على المشركين وبيان بطلان ما زعموه من

وجود شريك له تعالى عما يقول المشركون علوا كبيرًا.

وأما قوله: وإن قلنا بخلوده فقد ترون الآية وهي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قبلك إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْتَهُمْ جَسَدَ الَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَلِدِينَ ﴾ [الأنبياء: ۷ - ۸] فقد نص الله

كان

على عدم خلودهم وأنهم أجساد يأكلون الطعام وعيسى ابن مريم منهم وأمه أجسادًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وكذلك قوله تعالى:

هو

أَفَإِيْن مِتَ فَهُمُ الْخَلِدُونَ ﴾ [الأنبياء: ٣٤]

فنقول: الخلود هو دوام البقاء في دار لا يخرج منها ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها، وعلى هذا بقاءه عليه السَّلام حيًّا إلى قرب الساعة لا يقال له خلود، لأن عاقبته أن ينزل ويقتل الدَّجَّال ثُمَّ يموت ويدفن في الأرض، فحينئذ يكون خرج من دار الدنيا وأما قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرِ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدُ أَفَ إِيْن مِتَ فَهُمُ الْخَلِدُونَ فمعناه أنَّ الله قضى أن لا يخلد في الدنيا بشرًا فلا أنت وهم إلا

٤١٢

كتاب الإيمان

عرضة للموت فعيسى عليه السَّلام لا يقال فيه أنه خالد؛ لأنه أيضًا مع كونه حيا الآن عرضة للموت وسيموت بعد نزوله.

وأما قوله ولا يخفى على فضيلتكم ما رواه البخاري عن ابن عمر حين خطبهم النبي بعد العشاء الأخيرة بخصوص عدم بقاء أحد من أهل الأرض على رأس المائة، ولعل امرأ يجيب أنَّ عيسى ليس من أهل الأرض فهذا أمر ثان

يستدل عليه من تمسك بحديث المعراج الذي رواه البخاري أيضًا. فهذا حديث مضطرب فيه، أولًا: اختلفت طرقه وصيغته وموضعه ولو سلمنا صحته فما أظنه إلَّا رادا على المستدل؛ لأن حديث المعراج يروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم حين عرج به رأى آدم في الأولى، ويحيي وعيسى في

الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة... إلى آخره.

فنقول: أمَّا الحديث الذي رواه البخاري في انصرام القرن فقد أخرجه في «كتاب العلم وفي كتاب الصلاة عن ابن عمر قال: صلَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: «أَرَأيتكم ليلتكم

هذه، فإنَّ رأسَ مائةِ سنةٍ منها لا يبقى ممن هو على ظَهْرِ الأرض أحدٌ». قال العيني في كتاب الصلاة»: ولا يعترض على الحديث بعيسى؛ لأنه ليس على وجه الأرض ولا بالخضر ؛ لأنه في البحر، ولا بهاروت وماروت؛ لأنهما ليسا ببشر، وكذا الجواب في إبليس. ويقال معنى الحديث: لا يبقى ممن ترونه وتعرفونه. فالحديث عام أريد به الخصوص.

والجواب الأوجه في هذا أن نقول: إنَّ المراد من هو على ظهر الأرض: أمته. وكل من هو على ظهر الأرض أمته المسلمون أُمَّة إجابة، والكفَّار أُمَّة دعوة،

٤١٣

عقيدة أهل الإسلام وعيسى والخضر ليسا داخلين في الأمة والشيطان ليس من بني آدم». اهـ أقول: على أنك قد علمت أن عيسى لم يكن على وجه الأرض بل كان في مكان يعلمه الله تعالى.

وأما عدم تسليمه لمن استدل بحديث المعراج بأن عيسى في السماء للاضطراب في تعين مكانه ففي رواية أنه في الثانية وفي رواية أنه في الثالثة وكأن السائل يريد أنَّ الاضطراب على الوجه الذي قاله في الحديث يسقط الاحتجاج به؛ فنقول: إنَّ المعراج مما أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الملحدون، ودعوى أنه وقع اضطراب في حديثه يمنع الاحتجاج به غير مُسَلَّم، غاية الأمر أنه ورد بطرق متعدّدة منها الرواية التي في سندها شريك انفرد فيها عن الجماعة بأشياء عدوها شاذة منكرة ونبهوا عليها وأجابوا عنها بأن شريكا واهم فيها، وبعد هذا لا يسوغ لأحد أن يستشكل أو يتشكك، فإن رفع عيسى ثابت بالنص القاطع. على أننا قد بينا أنَّ كل ما رآه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج فهو من قبيل التمثيل، فليس في الحديث دليل على مكان عيسى خصوصا، وإنه خبر آحاد إلى آخر ما ذكرنا. بل الذي يدل على رفع عيسى هو النص القاطع وهو قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إلى وقوله : بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: ۱٥۸] فلا يؤثر في ذلك عدم تعيين مكانه. والأحاديث الواردة في نزوله كثيرة ومتواترة وسنذكر ما عثرنا عليه منها قريبا وقد بينا فيما سبق أنَّ رفعه كناية أخذه من عالم الملك -أي عن

٤١٤

كتاب الإيمان

الأرض - إلى عالم الملكوت، وأنه موجود فيه كما كان موجودًا في عالم الملك فهو حي بحياته الدنيوية التي وُلد عليها لم تفارق روحه جسده، وإن كان في عالم الملكوت.

وأما قوله: فإذا أخذ دليلًا، فهل هم فيما وراء البرزخ أم كلهم أحياء في السماء؟ وما الذي امتاز به عيسى بالنزول دونهم؟ وإذا كانوا فيما وراء البرزخ ومن جملتهم عيسى فهل يجوز لعيسى أن يرجع إلى الدنيا، وقد قال تعالى : لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ﴾ [الدخان: ٥٦] فنقول: يريد السائل بهذا الترديد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لما أخبر عن ليلة المعراج أنه رأى جماعة من الأنبياء في السموات ومن جملتهم عيسى فهل رؤيته لهم كما يرى الشخص مِنَّا أناسًا سبق موتهم أم رؤيته لهم كما يرى الشخص مِنًا أناسا هم على قيد الحياة؟ فنجيب أن كلا الترديدين باطل؛ لأنه يبني على كون الرؤية برزخية أن المعراج كان في المنام وأن عيسى مات قبل الرفع واستمر ميتا، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم رآه ليلة المعراج مع من رأى من الأنبياء، وينبني على كون الرؤية كما يرى الشخص مِنَّا أناسًا على قيد الحياة أن المعراج حصل يقظة وأنَّ عيسى لم يمت قبل الرفع وأنَّ الأنبياء الذين ثبت موتهم عادت أرواحهم إلى أجسادهم وعودة أرواح الأنبياء إلى أجسادهم قبل يوم البعث باطل. ثُمَّ إِنَّ السائل رتَّب على الشق الأول من الترديد قوله:

وما الذي امتاز به عيسى بالنزول دونهم وقوله تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْنَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى

810

فقد

عقيدة أهل الإسلام إذا تبين لك مقاله وما يرمي إليه فنقول: أما بطلانه بالنظر إلى عيسى كان المعراج يقظة وعيسى لم يمت، وأما بالنظر إلى الأنبياء فلا نسلم عود الأرواح إلى أجسادهم على الوجه الذي كان في الدنيا قبل يوم البعث، وقد علمت بطلانه، والحق الذي يقتضيه الدليل أنَّ رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة، وأنَّ المعراج كان يقظة، وأنَّ مَن عدا عيسى من الأنبياء أموات إلَّا أَنَّ الله تعالى شكّل أرواحهم على هيأة أجسامهم، وإنما تعود الأرواح إلى الأجسام يوم البعث إلا عيسى فإنه حتي لم يمت وسينزل إلى الأرض، ثُمَّ بعد

قتله الدجال يموت كإخوانه الأنبياء بهذا وردت الأخبار الصحيحة. وأما امتياز عيسى بالنزول دونهم فقد نقل الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء أنه قال: «والحكمة في نزوله دون غيره من الأنبياء: الردُّ على اليهود في زعمهم بأنهم قتلوه فبيَّن الله تعالى ،كذبهم وأنه الذي يقتلهم، أو نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها». اهـ. وعلي ذلك لا يقال أنَّ عيسى كان في البرزخ ثُمَّ رجع إلى الدنيا، ولا أنَّ

الأنبياء الذين ماتوا عادت أرواحهم إلى أجسادهم قبل يوم البعث. وأما قوله : وأما من استدل بحديث البخاري وغايته - إن صح - فهو لا ينص على أنَّ عيسى ابن مريم النبيَّ؛ لأن لفظه: «ليوشكن أن ينزل فيكم ابن یكسر الصَّليب، ويَقْتُل الخنزير، ويَفْيضُ المال». والرواية

مریم

حَكَما عَدْلًا،

الأخرى: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم». فغاية ما فيه أنه سيتولى الأمر ابن مريم، ولعله من أفراد الأمة يقوم بالأمر ويعمل بالشرع

٤١٦

كتاب الإيمان

فيُجري هذه الأعمال، لا ينص على أنه النبيُّ الذي أرسله الله إلى بني إسرائيل. فنقول الذي عهد وعرف من الشارع أنه في تخاطبه إذا ذكر ابن مريم يقصد به عيسى عليه السَّلام، ففي الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مثلا ﴾ [الزخرف: ٥٧] وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: ٥٠] وستأتي أحاديث كثيرة مَصرَّح فيها بلفظ عيسى عليه السلام، وفي هاتين الروايتين اكتفى بقوله: ابن مريم اعتمادًا على ما صرح باسمه في روايات أخرى، على أنه سيأتي في أكثر الأحاديث والآثار المروية عن الصحابة والتابعين التصريح باسم عيسى عليه السلام.

وأما قوله : ولنا شيء آخر أدهى وأمر في المسألة، وهو أنَّ أهل التفسير بينوا أنَّ عيسى توفّي ساعات، وقالت النصارى كذلك، واختلفوا في مقدار الساعات عمدا لا غير لترويج الدسيسة كيف يحيا عيسى ويصعد إلى السماء وسينزل أيكون الحشر حشرين أم تكون الإماتة ثلاثا سبحانك هذا بهتان عظيم دسه النصارى في

الإسلام. أقول: ذكرنا فيما سبق أنَّ القول بأن عيسى مات رواية ضعيفة عن ابن عباس مخالفة للقول الصحيح الذي عليه الأكثر، وأنَّ ابن إسحاق قال: إنها من

زعم النصارى. فلا نتكلف الرد على هذا القول لظهور بطلانه.

وأما قوله: وقد التبس على بعض الناس في لفظ النزول أنه سينزل وما المراد من النزول؟ أنه في السماء وسينزل فقد قال تعالى: وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بأْسُ شَدِيدٌ [الحديد: ٢٥] المراد من النزول الحصول، وقالت العرب: نزل

عقيدة أهل الإسلام

٤١٧

علينا أو بنا ضيف، أفتونا مأجورين.

ونقول: النزول كالهبوط لا يقتضي الانحدار من علو إلى سفل وقد جاء بمعنى الجعل والإنشاء قال تعالى: وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسُ شَدِيدٌ وقال تعالى: وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَنِيَةَ أَزْوَاجِ ﴾ [الزمر: ٦] قال الحسن: وَأَنزَلْنَا الحديد أي خلقناه كقوله: وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَنِيَةَ أَزْوَاجِ وهو تفسير يلازم الشيء فإنَّ كل مخلوقِ منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ثبت فيه وقال :قطرب هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف ولم يقل أحد أنَّ نزول عيسى بمعني الانحدار بل المراد بنزول عيسى هو إتيانه من المكان الذي رفعه الله إليه وهذا المكان هو كما قلنا سابقا- من عالم الملكوت، ولا يعلم تعيينه إلا الله تعالى؛ لأنه هو الذي حفظه فيه وهو الذي ينزل منه عند قرب الساعة أي ينتقل.

وبالجملة فكل ما قاله السائل ليس إلا تشكيكا في القطعيات الثابتة

بالتواتر؛ فإن نزول عيسى عليه السَّلام كما قال بعض المحققين ثابت بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة.

أما الكتاب فقد قال تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ

[النساء: ١٥٩] وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان وهذا . إلى أن

يرجع

الضمير في هو في مويه يعود إلى عيسى عليه السلام، ويشهد له الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء»، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل

٤١٨

كتاب الإيمان

فيكم ابن مريم حَكَما عَدْلًا، فيكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الحرب» خ الجزية) ويفيضُ المال حتى لا يقبله أحدٌ، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها». ثُمَّ يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ

الْكِتَبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ١٥٩] قال الحافظ : وهذا مصير من أبي هريرة إلى أن الضمير في قوله: لَيُؤْمِنَنَّ به وكذلك في قوله: قَبلَ مَوْتِهِ يعود على عيسى، أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وبهذا جزم ابن عباس فيما رواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عنه بإسناد صحيح. ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قال : قبل موت عيسى، والله إنه الآن لحي ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون»، ونقله عن أكثر أهل العلم ورجحه ابن جرير وغيره، ونقل أهل التفسير في ذلك أقوالا أخر.

وقال الآلوسي في تفسيره: وَإِنَّهُ أي عيسى عليه السَّلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي إنه بنزوله شرط من أشراطها أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وأيا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به المبالغة وقرأ أي: «لذكر» وهو مجاز كذلك، وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وزيد بن علي وقتادة ومجاهد والضَّحَّاك ومالك بن دينار والأعمش والكلبي - قال ابن عطية وأبو نضرة - «العَلَم) بفتح العين واللام، أي لعلامة. وقرأ عكرمة قال ابن خالويه وأبو نضرة «اللعَلَم» معرفًا بفتحتين، والحصر

عقيدة أهل الإسلام

إضافي وقيل باعتبار أنه أعظم العلامات.

وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام:

٤١٩

۱ - فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لينزلنَّ ابن مريم حَكَما عَادِلًا (خ) عَدْلًا فليكسرنَّ الصَّليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص (۱) فلا يُسعى عليها، ولتذهبن الشحْنَاءُ والتباغُضُ والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحدٌ». وفيه رواية: «وإنه نازل فإذا

(۲)

رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجلٌ مَربوع إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتين (٢) كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فليقاتلن الناس على الإسلام»(۳) وفيه ويهلك المسيح الدَّجَّال وفي أخرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله | وسلّم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم». وفي رواية: «فأمَّكم منكم فقلت لابن أبي ذئب - القائل الوليد بن مسلم - :

(۱) جمع قلوص: الناقة الشابة.

(۲) الممصّرتان حلتان مصفرتان غير مشبعتين. اهـ. قال في "التعليق المحمود": الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة.

(۳) عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ليس بيني وبينه - يعني عيسى عليه السلام نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثُمَّ يتوفَّى فيصلي عليه المسلمون» . اهـ لفظ أبي داود.

٤٢٠

كتاب الإيمان

إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري، عن نافع، عن أبي هريرة: «وإمامكم منكم»؟ قال ابن أبي ذئب هل تدري ما أمكم منكم؟ قلت: تخبرني. قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم». اهـ لفظ مسلم: قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمَّكم منكم؟ قال تخبرني. قال:

فأمكم بكتاب ربكم عزَّ وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلَّم». والمشهور نزوله عليه السَّلام بدمشق والناس في صلاة الصبح، فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السَّلام ويصلي خلفه ويقول: «إنما أقيمت لك». وقيل بل يتقدَّم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعًا لتوهم نزوله ناسخًا، وأمَّا في غيرها فيؤم هو الناس؛ لأنه الأفضل، والشيعة تأبى ذلك. وفي بعض الروايات أنه عليه السَّلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير - وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه، ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة، وفي رواية سبع سنين. قيل والأربعون إنما هي مُدَّة مكثه قبل الرفع وبعده، ثُمَّ يموت ويدفن في

الحجرة الشريفة النبوية، وتمام الكلام في "البحور الزاخرة" للسفاريني. وأما السنة فالحديث المذكور آنفا عن أبي هريرة أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ممن ذكرنا .

- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كيف

أنتم إذا نزل عيسى ابن مريم فيكم وإمامكم منكم». أخرجه مسلم. - وعن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم

٤٢١

عقيدة أهل الإسلام الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق...» إلى أن قال: «فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم.... إلخ. أخرجه مسلم. - وعن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ روح الله عیسی ابن مریم نازل فيكم فإذا رأيتموه فاعرفوه.... إلخ. أخرجه الحاكم

وقال صحيح. ه - وعن أبي هريرة ، عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «ليهبطنَّ عيسى

ابن مريم حَكَما وإمامًا مُقْسِطًا.... إلخ. أخرجه الحاكم. ٦ - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم الساعة

حتى ينزل عيسى ابن مريم». أخرجه ابن أبي شيبة. - وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «ينزل عيسى ابن

مريم قبل يوم القيامة». أخرجه ابن سعد.

- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا تزال عصابةٌ مِن

أُمتي على الحقِّ ظاهرين حتى ينزل عيسى ابن مريم». أخرجه ابن عساكر. - وعن جابر قال سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أُمتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة» قال: «فينزل عيسى ابن مريم فيقول أميرهم صلّ لنا.... إلخ. أخرجه مسلم

١٠ - وعن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يخرج الدَّجَّالُ في خفقة من الدين، وإدْبارِ من العِلْم...» إلى أن قال: «ثُمَّ ينزل عيسى..» إلخ.

أخرجه ابن خزيمة.

١١- وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فلما قاموا يصلُّون

٤٢٢

كتاب الإيمان

نزل عيسى ابن مريم أمامهم.... إلخ. أخرجه ابن عساكر . ١٢ - وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم علينا ونحن نتذاكر فقال: «ما تذاكرون؟» قالوا نذكر الساعة قال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدُّخَان، والدجال، والدابَّة، وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم..... إلخ أخرجه مسلم، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه.

١٣ - وعن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: خَسْفُ بالمشرق، وخَسْفُ بالمغرب، وخَسْفُ في جزيرة العرب، والدَّجّال، والدخان، ونزول عيسى ابن

مريم...» إلخ. أخرجه الحاكم في "المستدرك" وقال صحيح الإسناد. ١٤ - وعن النواس بن سَمْعَان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدجال ذات غداة إلى أن قال: فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق... إلخ. أخرجه مسلم، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه.

١٥ - وعن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ينزل

عیسی ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق». أخرجه الطبراني. ١٦- وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يخرج الدَّجَّال في أُمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرًا أو أربعين عاما فبعثَ الله تعالى عيسى ابن مريم... إلخ. أخرجه مسلم.

٤٢٣

عقيدة أهل الإسلام ۱۷- وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له.... إلخ. قال في "المشكاة" رواه ابن الجوزي في كتابه "الوفا"(1).

۱۸ - وعن مُجمّع بن جارية الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يقتل ابن مريم الدَّجَّال بباب لد». أخرجه الترمذي. ١٩ - وعن أبي أمامة الباهلي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدَّجال، وحذرناه إلى أن قال: «فبينما إمامهم

قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عيسى ابن مريم.... إلخ. أخرجه ابن ماجه. ٢٠ - وعن عثمان بن أبي العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول... إلى أن قال: «فيخرج الدجال فينزل عيسى ابن مريم.... إلخ.

أخرجه الحاكم وقال: «صحيح».

۲۱ - وعن عبد الله بن مُغَفَّل ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم... وذكر الدَّجال ثُمَّ قال: ينزل عيسى ابن مريم مُصدِّقًا بمحمَّدٍ على مِلَّته إمامًا مهديًّا وحَكَما عَدْلًا فيقتل الدجال». أخرجه الطبراني.

۲۲ - وعن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم... وذكر الدَّجَّال ثُمَّ قال: «فيصبح فيهم عيسى ابن مريم... إلخ. أخرجه الطحاوي وابن جرير. ٢٣ - وعن نافع بن كيسان عن أبيه : سمعت النبي صلى الله عليه وآله

(۱) کتاب "الوفا بفضائل المصطفى" للحافظ ابن الجوزي صاحب كتاب "الموضوعات"، وهو غير ابن قيم الجوزية.

٤٢٤

كتاب الإيمان

وسلم يقول: «ينزل عيسى...». أخرجه البخاري في "تاريخه". ٢٤- وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم

الساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم على ذروة أفيق بيده حَربة يقتل الدَّجَّال». أخرجه ابن عساكر .

.

٢٥ - وعن عبد الله بن عمرو، عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ينزل عيسى ابن مريم فإذا رآه الدَّجَّال ذاب كما تذوب الشحمة، فيقتل الدجال». أخرجه ابن أبي شيبة.

فهاك خمسة وعشرين حديثا عثرنا عليها في بطون كتب السُّنَّة. وقال صاحب "الإذاعة": «والأحاديث في نزوله كثيرة ذكر الشوكاني منها تسعة وعشرين حديثا ما بين صحيح وحسن وضعيف مَنجَبِر»، ثُمَّ قال: «منها ما هو مذكور في أحاديث الدَّجَّال ومنها ما هو مذكور في أحاديث المنتظر، وينضم إلى ذلك الآثار الواردة عن الصحابة فلها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في ذلك». ثُمَّ ساقها ثُمَّ قال: «وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل ،اطلاع، فتقرر أنَّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، والأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم متواترة. اهـ قال العلامة المحقق أبو عبدالله محمد بن أبي الفيض جعفر الحسني الإدريسي الشهير بالكتاني في كتابه "نظم" المتناثر " ما نصه: «وللقاضي العلامة محمد بن على الشوكاني اليمني رسالة سماها "التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدَّجَّال والمسيح"»، وتكلّم أولا على المهدي، ثُمَّ ساق ما قدمناه آنفا

عن "الإذاعة" في نزول عيسى ابن مريم عليه السّلام.

٤٢٥

عقيدة أهل الإسلام ولنورد لك شيئًا من تفاسير التابعين ممن صرَّحوا بنزول عيسى ابن مريم

على طريق الاستئناس والتقوية لما مر من الأحاديث، ولأن أقوال التابعين في مثل ذلك تسمي أثرًا على الصحيح.

١ - فعن قتادة في قوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ ﴾ [النساء: ١٥٩] إلخ، قال: قبل موت عيسى إذا نزل آمنت الأديان كلها». وعنه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ

لِلسَّاعَةِ ﴾ [الزخرف: ٦١] قال: «نزول عيسى ابن مريم علم الساعة». ٢- وعن مجاهد في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ ﴾ [الزخرف: ٦١] قال: آية الساعة خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة».

- وعن السُّدِّي في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ قال: «خروج

عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة».

- وعن

الضَّحَّاك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ قال: «خروج عيسى ابن مريم ونزوله من السماء قبل يوم القيامة». ه - وعن ابن زيد في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ } قال: «نزول عيسى ابن مريم علم للساعة حين ينزل، وعنه في قوله تعالى: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الكتاب [النساء: ١٥٩] إلخ، قال: «إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال لم يبقى يهودي في الأرض إِلَّا آمن».

- وعن أبي مالك في قوله تعالى: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩]

قال: «ذلك عند نزول عیسی ابن مریم

٤٢٦

كتاب الإيمان

- وعن الحسن في قوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قال : قبل موت

عيسى، والله إنه الآن لحي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون». وعنه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ » قال: «نزول عيسى ابن مريم». وعن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ : «نزول عيسى ابن مريم». وهذا القدر كفاية.

أمني

وبه علم أنَّ نزول عيسى ابن مريم ثابت بالكتاب كما أسلفنا، وبالسنة المتواترة كما مرَّ ،آنفًا، خصوصًا وإنَّ من جملتها الحديث: «لا تزال طائفة من فقد عده العلامة الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "نظم المتناثر " من الحديث المتواتر، وقال: نصَّ على تواتره بعينه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" في أوائله أثناء كلام، ونصه: بل قد تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا تزال من أُمتي طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم بالساعة». اهـ والله أعلم.

وأما الإجماع فقال السفاريني في "اللوامع": «قد أجمعت الأمة على نزوله ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس ينزل بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء، وإن كانت النبوة قائمة به وهو متصف بها» . اهـ والله أعلم.

عقيدة أهل الإسلام .

تقدير

الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ

يس يوسف الشيشيني من علماء الوعظ والإمامة بوزارة الأوقاف فضيلة المحدّث الكبير السيد عبد الله الصديق الغماري

٤٢٧

أحمد إليك الله جل ثناؤه وهو المحمود في السماوات وفي الأرض، وأشكره

شكرًا تزكو به الهمم ويصدق به اليقين، وتسمو به العقيدة.

وأسألك اللهم وأنت خير مأمول وأكرم مسئول، أن تصلي وتسلّم على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلي آله وصحبه، صلاةً تشرح بها

صدري وتيسر بها أمري ويثبت بها على الحق الجنان، وأجد بها حلاوة الإيمان وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:

فكم لقلمك في خدمة الحقيقة من موقف يتضاءل عنه الثناء، وتَرْنُو له في دارتها الجوزاء، وكم تُطالع المسلمين من لدنك حُجَج بينات، وآيات واضحات تدحض تخاريف المبطلين، وزيغ المكابرين المعاندين، ولكم تشوقتُ بفارغ الصبر إلى كتابك هذا الذي نحن بصدد تقديره، والكتابة عن بعض ما توحيته فيه من منهج في الأدلة لا يبقى معه إنكار لمنكر ولا شبهة لمشتبه، في مبحث ما كان لأحد أن يتقدَّم أو يتأخر فيه، وما كان لمتكلّم أن يُحدِث رايا بخصوصه، بعد أن أبان صباح السُّنة المطهرة حقيقة أمره.

ثُم وبعد أن توالت القرون منذ عهد النبوة حافلة بإجماع العلماء عصرا بعد عصر، وقبيلا بعد قبيل على أنَّ شمس الحقيقة فيه مسفرة لا يغشى سماءها غمام

٤٢٨

كتاب الإيمان

من الشك، ولا يحول دون أضوائها ضباب من الباطل، ذلكم هو مبحث نزول السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة وأتم السَّلام - على مقربة مِن الساعة وعلى نار من الفتن تَسْتَعِر بالعالم حين ذلك.

تلك الفتن التي من أكبرها خروج الدَّجَّال بخدعه وتهاويله؛ ليضل الناس

عن سبيل الله، وليعدل بهم عن الإيمان إلى الكفر، وأنا لا أرى إلَّا أنَّ منكر

نزول روح

قد الله عيسى ابن مريم بنى

مدعاه

على

أنه قد مات كما يموت

الناس، فلا حياة له بعد ذلك إلا كما يحيا الناس في النشأة الآخرة، مستندا في مدعاه إلى النص الكريم من قول الله سبحانه: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: ٥٥] ثُمَّ إلى قوله جل

وعلا في سورة المائدة: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: ۱۱۷]

وكم

كنا نود أن يقف أولئك المنكرون من هذه النصوص القرآنية موقف

المتفهم للغته الكاشف عن كنه حقيقتها ، وإذا كان القرآن يفسر بعضه بعضا فإنَّا نرى في غير موضع أنَّ كلمة التوفّي في القرآن قد وضعت للنوم كما وضعت للموت، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِأَلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: ٦٠] فالوفاة كما هي حقيقة في الموت حقيقة أيضًا في النوم، ولا قرينة هنا تعين المجاز إذا ما قال قائل: إن المراد من إطلاق الوفاة على النوم معني مجازي. استمع إلى ذلك في قول الله عَزَّ وجلَّ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ

عقيدة أهل الإسلام.

الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [الزمر: ٤٢]

وإلى قول الشاعر العربي:

٤٢٩

تبَارَكَ مَنْ تَوفَّاكُمْ بلَيلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهارِ وإذا كان علماء اللغة قد أجمعوا على أنَّ العطف بالواو إنما هو لمطلق الجمع دون نظر إلى ترتيب أو تعقيب فلا دليل على مرادهم في قول الله سبحانه: إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى ﴾ [آل عمران: ٥٥] إذ الواو لمطلق الجمع ليس غير، فيكون المعنى أن السيد المسيح - عليه وعلي نبينا أفضل الصلاة والتسليم- قد رفع إلى السماء وهو على حالة النائم. وفي "إنجيل لوقا " ما يؤيد ذلك ويجليه فقد جاء في هذا "الإنجيل": «أنَّ السيد المسيح عليه السَّلام صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا، فبينما هو يصلّي إذ تغيّر منظره عما كان عليه، وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق، وإذا بموسى بن عمران وإيليا قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم، فوقع النوم على الذين معه. ثُمَّ انتبهوا فلم يجدوا المسيح بينهم». فهل لدى المنكرين من دليل أو حتى قرينة تمنع من أن رفع المسيح على هذه الحال وهي حال النائم كان في اليوم الذي طلبته فيه اليهود؟

ثُمَّ نسائلهم بعد ذلك، ما المراد بالرفع في قوله سبحانه: بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إليه (النساء: ١٥٨] بعد أن نفى قتل المسيح في تنديد لاذع وتهكم قارع باليهود جاء به محكم التنزيل في قول الحق جل ثناؤه: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مريم رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا

٤٣٠

كتاب الإيمان

هم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا الْبَاعَ الظَّنَّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: ١٥٧ - ١٥٨] استمع إلى الآية الكريمة تبين لك في وضوح أن قول

اليهود بأنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله جُرم كبير وافتراء مريع. ثُمَّ تنفي بعد ذلك القتل وتنفي . معه الصَّلب وتثبت أنهم اشتبهوا في أمر المصلوب فلم يقطعوا بأنه المسيح، كما أنَّ الآية الكريمة تثبت أيضا اختلافهم فيه، وأنهم قتلوه غير مستيقنين بأنه عيسى أو غيره، وهذا ما تؤيده الأناجيل ولولا الإطالة لأتينا على نصوصها.

ثُمَّ ختمت الآية هذا القصص الكريم بنبأ رفع المسيح إليه دون أدنى إشارة إلى الموت، هذا ما ينبغي أن يفهم عليه القرآن الكريم من أن السيد المسيح قد رفع إلى السماء حيا، وفي روحانية تستأهل المكان الذي هو مرفوع إليه، وتلائم معشر الملائكة الذين سيعيش فيهم، حتى يشاء فاطر السموات والأرض نزوله في آخر الزمان.

أي أنه رفع على حال ليس فيها نائمًا كالنائم ولا مستيقظا كالمستيقظ كما صعد إلى السماء ليلة الإسراء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم : قد صعد إلى السماء ببشريته ومستلزماتها وذلك مما هو خاص بسيد الأنبياء دون سواه، أما المسيح عليه السلام فقد رفع ببشريته دون مقتضياتها وصار روحانيا لتناسب حياته مع حياة أهل الملأ الأعلى الذي سيقيم فيهم ما شاء الله أن يقيم والله على كل شيء قدير. وهنا لا يجوز على حال أن يؤوّل الرفع برفع الروح أو برفعة المقدار، امتنان الله على المسيح بالرفع لا تكون له قيمة إلا إذا كان مرفوعًا وهو حي، وهذا ما

عقيدة أهل الإسلام

٤٣١

يفيده الإضراب الانتقالي بعد نفي اليهود قتلوه وأما ما جنح إليه من يؤول الرفع برفعة المقدار فذلك أمرٌ مقرَّر بنص الآية كما تنص على أن بعضهم أرفع درجة من البعض الآخر : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: ٢٥٣] بل هو أمر تفضّل الله به على عباده الصالحين الذين اخلصوا له النيات والأعمال، وعلى هذا فليس سائغا أن يراد هذا التأويل إلا مع قرينه صارفة عن غيره إليه. أما مسألة نزول السيد المسيح فإنها كرفعه - من المسائل التي يرجع فيها إلى الأدلة السمعية كسائر السمعيات، ولا يسع مؤمنا أن ينكر شيئًا متى ثبت

بالدليل، وقد جاءت النصوص تؤيد ذلك وتثبته لما لا يحتمل إنكارًا أو تلبيسا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابنُ مريم حَكَما عَدْلًا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها». ثُمَّ قال أبو هريرة واقرأوا إِن شئتم: ﴿ وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ١٥٩]

-

فلقد قطع أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه - على كل ذي قول مقالته بهذا النص القاطع الذي لا شك معه المتحيّر ولا شبهة فيه لمتردد، إذ الآية صريحة في أنه ليس من أحد من أهل الكتاب الموجودين إبان نزول المسيح إلا سيؤمن به قبل أن يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب قبر أخيه محمد صلى الله عليه وآله

وسلم.

٤٣٢

كتاب الإيمان

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟». يشير صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى الإمام المهدي المنتظر رضي الله تعالى عنه، إلى غير ذلك مما وصل إلينا بتواتر جمع عن جمع، ورواية جيل عن جيل لا يتأتى مع هذا التواتر وذاك الإجماع رأي لراء أو منزع لنازع في غير الكتاب أو السُّنَّة منذ عهد النبوة الأولى حتى دونه أئمة الحديث، كالشيخين وأحمد والترمذي ومن إليهم من أصحاب السنن رضي الله عنهم. أي استاذنا الأجل ومحدثنا الكبير ، لقد أبنت في كتابك الحجة وكشفت العُمَّة، فذكرت نصوص | الحفاظ على تواتر نزول المسيح، وكذلك ذكرت من صرح بنزوله من أجلاء الصحابة وأفاضل التابعين وسادة الأئمة والعلماء حتى هذا العهد الذي نعيش فيه هذا إلى مناقشة كلام المنكرين وبيان ما اشتمل عليه مما لا تقوم له قائمة مع ما وضح من الأدلة الساطعة، ثم دعمت ذلك بسرد أربعين حديثا تصرح كلها بنزول عيسى عليه السلام. بينت كل هذا جاريًا على سَنَنك في نهج استدلالك بنواح حتى من قواعد الأصول والمنطق إلى غير ذلك مما أفاء الله عليك وأفاض، إنَّ في ذلك لبلاغا وذكرى لمن كان على بصيرة تهديه أو عقل يرشده، وإنَّ فيه لثروة طائلة لمن ينقب عن كنوز الحقيقة ليكون من المستبصرين، وليفوز بالهداية من أحكم الحاكمين، ولقد أبيت مع كل هذا إلا أن تختم سفرك الجليل بفتوى في هذا الباب للمرحوم الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية السابق رحمه الله، وهذا وايم الحق لأجل ما يخدم به العلم وتبتغيه الحقيقة الواضحة.

فإليكم أيها الناس هذا السفر وغيره مما دبَّجته يراعة الصديق الغماري

عقيدة أهل الإسلام

٤٣٣

مستمداً من وِرد الشريعة المورود، ورحيقها العذب الصافي. أما أنت يا محدث العصر وعلم المحدثين في مصر فليس في مستطاعي ولا في مستطاع أحد أن يوفيك حقك أو بعض حقك، فذلك مُرْجَةٌ إلى من يعلم السر في السموات والأرض، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وإنما قصارى وسعنا أن نبتهل إلى الله بارئ النسم أن ينسى في أجلك، وأن ينفع بعلمك.

٤ - المَهْدِيُّ المُنتظر

المهدي المنتظر لام

٤٣٧

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد النبي الأمين، ورضي الله عن آله الطاهرين وصحابته من الأنصار والمهاجرين.

أما بعد: فإني كنت كتبت كتابين:

أحدهما : إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان". والآخر: "عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام". أبطلت فيهما زعم مَن أنكر نزوله من بعض المبتدعة، ونفد الكتابان، وتُرجم الأول منهما إلى اللغة الأردية بالهند.

وهذا كتاب أبطلتُ فيه زعم من أنكر أحاديث المهدي المنتظر وبينت أنها متواترة، ومنكرها يعتبر مُبتدِعا ضالًا من جملة الفرق المبتدعة الضالة، وسميته: " المهدي المنتظر"، والله المسئول أن ينفع به كما نفع بأخَويْه إنه قريب مجيب.

عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري

المهدي المنتظر السلام

مقدمة

في تواتر احاديث المهدي

٤٣٩

يعتقد كثير من الناس - فيهم علماء وأفاضل- أن لا مهدي، جاهلين بما ورد من الأحاديث القاضية بظهوره في آخر الزمان، ولقد أُخبرت عن بعض العلماء المدرسين بالأزهر أنه جرى بمجلسه ذكر المهدي عليه السلام فأنكره وقال: إن أحاديثه ضعيفة.

فقلت لمن أخبرني : هلا سألته عن سبب ضعفها وعمن ضعفها من الحفاظ ؟

:

مع أنه لو سئل عن ذلك لما استطاع -وايم الله - جوابا، وكيف يستطيع

وأحاديث المهدي متفق على تواترها بين حفاظ الحديث ونُقَادِه؟! فقد قال الحافظ أبو الحسين الآبري في مناقب الإمام الشافعي" ما نصه: تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بمجيء المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملأ الأرض عَدْلًا، وأنَّ عيسى عليه الصلاة والسَّلام يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأُمَّة

وعيسى عليه الصَّلاة والسلام خلفه... في طول من قِصَّته وأمره» . اهـ ونقله القرطبي في "التذكرة"، والحافظ ابن حجر في "الفتح"، والحافظ السخاوي في "فتح المغيث"، والحافظ السيوطي في "العرف الوردي"، والمحدث الشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني في "شرح المواهب"، وشارح " الاكتفاء"، وغيرهم، وأقروه عليه. وقال المحدث الناقد أبو العلاء السيد إدريس بن محمد بن إدريس العراقي الحسيني في تأليف له في المهدي ما نصه: «أحاديث المهدي متواترة أو كادت

٤٤٠

كتاب الإيمان

وجزم بالأول غير واحد من الحفاظ النقاد» . اهـ

وقال الشوكاني في تأليف له سماه "التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح ما نصه: (والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثًا فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجير، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على الاصطلاحات المحرّرة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة كثيرة أيضًا لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل

جميع

بالمهدي فهي ذلك» . اهـ

وقال المحدّث أبو الطيب صديق بن حسن الحسيني البخاري القنوجي ملك «بهوبال» في كتاب "الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة" ما نصه: والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد». وقال أيضًا بعد كلام له ما نصه وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيفٌ، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار».

وقال العلامة أبو عبدالله محمد جَسُّوس في "شرح رسالة ابن أبي زيد" ما نصه: «ورد خبر المهدي في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر» . اهـ

وقال العلامة الشيخ محمد العربي الفاسي في "المراصد " :

ومَا مِن الأَشْرَاطِ قَدْ صَحَ الخَبَر به عن النبي حَقٌّ يُنتظر

المهدي المنتظر السلام

٤٤١

ثم ذكر جملة منها إلى أن قال:

وخبر المهدي أيضًا وَرَدَا ذا كثرة في نَقْلِهِ فَاعْتَضِدَا قال شارحه المحقق أبو زيد عبدالرحمن بن عبدالقادر الفاسي في "مبهج المقاصد" هذا أيضًا مما تكاثرت الأخبار به ، وهو المهدي المبعوث في آخر

الزمان، ورد في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر» . اهـ وقال السفاريني في عقيدته المسماة بـ"الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية " :

وما أتى في النَّصَّ مِن أَشْرَاطِ فكلَّه حَـــق بـلا شَطَاطِ منها الإمامُ الخَاتَمُ الفَصِيحُ محمد المهدي والمسيح وقال أيضًا في شرحها: كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل: لا مهدي إلا عيسى، والصواب الذي عليه أهل الحقِّ: أنَّ المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السَّلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد

التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السُّنَّة حتى عُدَّ مِن مُعتقداتهم». ثُمَّ ذكر بعض الأحاديث الواردة فيه من طريق جماعة من الصحابة ثُمَّ قال: وقد روي عمَّن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم مما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم ومُدَوَّنٌ في عقائد أهل السنة والجماعة». اهـ وممن نصَّ على تواتر حديث المهدي شيخ بعض شيوخنا الإمام العلامة خاتمة المحدثين بفاس قطب الدين السيد محمد بن جعفر الكتاني، إذ أورده في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" من طريق عشرين صحابيا، ونقل من

٤٤٢

كتاب الإيمان

نصوص العلماء نحو ما نقلناه آنفًا ثم قال ما نصه: وتتبع ابن خلدون في مقدمته طرق أحاديث خروجه مستوعبا لها بحسب وسعه، فلم تسلم له من عِلَّة، لكن رَدُّوا عليه بأنَّ الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر، وهي عند أحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه والحاكم والطبراني وأبي يعلى والبزار وغيرهم، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة، فإنكارها مع ذلك مما لا ينبغي، والأحاديث يشد بعضها بعضا، ويتقوى أمرها بالشواهد والمتابعات،

وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف». اهـ ونصوص العلماء في هذا كثيرة جدًّا، وليس غرضنا استقصاءها ولا التعرض لرد كلام ابن خلدون، إذ قد تصدى لذلك شقيقنا العلامة المحدث السيد أحمد في كتاب خاص سماه "إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون" نقض فيه كل ما أبداه ابن خلدون من المطاعن، وتتبع كلامه جملة جملة بحيث لم يترك بعده لقائل مقالا، وإنما غرضنا أن نذكر أحاديث المهدي معزوة لمن خرجها من أئمة الحديث، ونتكلَّم على أسانيدها تصحيحا وتحسينا وتضعيفًا بمقتضى القواعد المحرَّرة في عِلْمَي الحديث والأصول حتى يصير تواترها ملموسا لكل أحد فنقول :

ورد ذكر المهدي من حديث أبي سعيد الخدري، وعبدالله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأمّ سلمة، وثوبان، وعبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي، عفان،

وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وعثمان بن . وحذيفة بن اليمان، وجابر بن ماجد الصدفي وأبي أيوب الأنصاري، وقرة المزني، وابن عباس، وأم حبيبة، وأبي أمامة الباهلي، وعبدالله بن عمرو بن

المهدي المنتظر ايلام

٤٤٣

العاص، وعمار بن ياسر والعبّاس بن عبد المطلب، والحسين بن علي، وتميم الداري، وعائشة وعبدالرحمن بن عوف، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله وعلي الهلالي وعمران بن حصين، وعمرو بن مرة الجهني، وعوف بن مالك، وأبي الطفيل، ورجل من الصحابة، وقيس بن جابر عن أبيه عن جده رضي الله عنهم.

ومن مرسل سعيد بن المسيب، والحسن، وقتادة، وشَهر بن حَوْشَبٍ، وَمَعْمَرٍ. هذا في المرفوعات دون الموقوفات والمقطوعات، وهي كثيرة أيضًا لها حُكْمُ الرفع؛ لأن الإخبار بالمغيبات كالمهدي مما لا مجال فيه للاجتهاد فيُحمل على الرفع. قال الحافظ العراقي في "الألفية" :

وما أتى عن صَاحِبِ بحيثُ لا يُقال رأيَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ على ما قال في المحصول نحو مَنْ أتى (1) فالحاكمُ الرَّفْعَ لهذا أَثْبَتَــا وقال الحافظ أبو عمرو الداني: «قد يحكي الصحابي قولا يوقفه على نفسه فيخرجه أهل الحديث في المسند؛ لامتناع أن يكون الصحابي قاله إلا بتوقيف، كحديث أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: «نِسَاءٌ كَاسِياتٌ عَارِيَاتٌ مائلات مميلات». فمثل هذا لا يقال مِن قِبل الرأي فيكون من جملة المسند». اهـ قال ابن العربي المعافري في "القبس" : إذا قال الصحابي قولا لا يقتضيه

(۱) يعني حديث: «مَن أَتَى سَاحِرًا أو عَرَّافًا فقد كَفَر بما أُنزِلَ على محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم. فإنَّ الحاكم رواه عن ابن مسعود موقوفا وحكم له بالرفع ونوزع في ذلك،

على أنه ورد مرفوعًا من طرق أخرى صحيحة. اهـ كاتبه.

٤٤٤

كتاب الإيمان

القياس فإنه محمول على المسند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه كالمسند وهو ظاهر كلام الشافعي في الجديد كما قال الحافظ السخاوي.

وقال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة": «ومثال المرفوع حكما لا تصريحا أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات ما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء عليهم السلام، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص؛ وإنما كان له حكم المرفوع لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفًا للقائل به، ولا موقف للصحابة إِلَّا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو بعض مَن يُخبر عن الكتب القديمة، فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني، وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، فهو مرفوع سواء كان ممن سمعه منه أو عنه بواسطة».اهـ ونص ابن العربي على أنَّ ما جاء عن التابعين مما لا مجال فيه للاجتهاد، له

حكم الرفع أيضًا، ونقله عن مذهب مالك. قلت: وعلى هذا يكون مرسلًا، فيُحتج به عند مالك وأبي حنيفة مطلقا، وعند غيرهما إذا عضده موصول ضعيف، أو مرسل آخر يروي مرسله عن غير رجال الأول، وإنما أتينا بهذه النصوص ليعلم القارئ حكم الآثار التي سنوردها بعد الانتهاء من ذكر الأحاديث المرفوعة في المهدي.

المهدي المنتظر السلام

٤٤٥

فصل

في الأحاديث التي ورد فيها ذكر المهدي

سردنا أسماء من روى حديث المهدي عليه السَّلام ، فكان .

عددهم (۳۸)

نفسا . (۳۳) صحابة و (٥) تابعيون، ونريد الآن أن نثبت ألفاظ رواياتهم

فنقول:

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

أما حديث أبي سعيد الخدري، فخرجه أبو داود قال: حدثنا سهل بن تمام بن بزيع: ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «المهديٌّ مِنِّي، أَجْلَى الجَبْهَةِ، أَقْنَى الأَنفِ، يملأ الأرضَ قِسْطًا وعَدْلًا كما مُلِنتْ جَوْرًا وظُلْمًا، يملك سبع سنين».

وخرجه الحاكم عن أبي العباس محمد بن يعقوب: ثنا محمد بن إسحاق الصغاني: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي : ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: المهدي مِنَّا أهل البيتِ، أَشَمُّ الأنفِ، أَقْنَى ، أَجْلَى، يملأ الأرض قِسْطًا وعَدْلًا كما مُلِئَتْ جَوْرًا وظَلْمًا، يعيش هكذا». وبسط يساره وإصبعين من يمينه السبابة والإبهام، وعقد ثلاثة، يعني سبع سنين. قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» . اهـ وهو كما قال: فإن رجاله ثقات، وعمران القطَّان وإن كان فيه ضعف إم ينفرد بالحديث، بل تابعه عليه جماعة كما يأتي.

٤٤٦

كتاب الإيمان

وقال الترمذي: ثنا محمد بن بشار: ثنا محمد بن جعفر نا شعبة قال: سمعت زيدًا العَمِّي قال: سمعت أبا الصِّدِّيق النَّاجِي يُحدِّث عن أبي سعيد الخدري قال: خشينا أن يكون بعد نبينا حَدَتْ، فسألنا نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: «إنَّ في أُمتي المهدي يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا» - الشَّاءُ - قال : قلنا وما ذاك ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «سنين»، قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فيجيء إليه رجل فيقول يا مهدي: أعطني

زید

أعطني»، قال: «فيخثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله».

قال الترمذي : هذا حديثٌ حسن، وقد رُوي من غير وجه عن أبي سعيد،

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم » . اهـ

وخرجه أحمد قال : ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة.

(ح) وقال أيضًا: ثنا ابن نمير : ثنا موسى الجهني.

(ح) وقال ابن ماجه ثنا نصر بن علي الجهضَمِيُّ: ثنا محمد بن مروان العقيلي: ثنا عمارة بن أبي حفص.

(ح) وقال الحاكم: ثنا عبد الله بن سعد الحافظ : ثنا إبراهيم بن أبي طالب، وإبراهيم بن إسحاق، وجعفر بن محمد الحافظ قالوا: ثنا نصر بن علي الجَهْضَمِيُّ : ثنا حفص بن أبي عمارة، قال هو وشعبة وموسى الجهني: ثنا زيد

العمي قال : سمعت أبا الصَّدِّيق النَّاجِي يُحدِّث عن أبي سعيد الخدري. فذكر الحديث بلفظ الترمذي، وهو حديث حسن وإن كان زيد العمي

ضعيفًا؛ لأن للحديث طُرُقًا كما نقلنا عن الترمذي آنفًا.

وقال الحاكم: ثنا أبو بكر بن إسحاق، وعلي بن حمشاذ العدل، وأبو بكر محمد

المهدي المنتظر السلام

٤٤٧

بن أحمد بن بالويه قالوا: ثنا بشر بن موسى الأسدي: ثنا هاوون بن خليفة. (ح) وقال أيضًا: ثنا الحسين بن علي الدارمي: ثنا محمد بن إسحاق الإمام: ثنا محمد بن بشار : ثنا ابن أبي عدي قال : ثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جَوْرًا وعُدوانًا، ثُمَّ يُخرجُ رجلٌ من أهل بيتي يملؤها قِسْطاً وعَدْلًا كما ملئت ظلما وعدوانًا». قال الحاكم: «هذا حدیث صحيح على شرط الشيخين». وأقره الحافظ الذهبي في "التلخيص". ورواه ابن حبان في "صحيحه" قال: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى - هو أبو يعلى: ثنا أبو خيثمة: ثنا يحيى بن سعيد ثنا عوف الأعرابي: ثنا أبو الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم به. وهذا إسناد صحيح أيضًا. وقال الحاكم: ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي: ثنا سعيد بن مسعود: ثنا النضر بن شميل : ثنا سليمان بن عبيد : ثنا أبو الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «يخرج في آخر أُمتي المهدي يَسْقِيه الله ،الغيثَ، وتُخرج الأرضُ نَباتها، ويُعطِي المال صحاحًا، وتَكْثُر الماشية، وتعظم الأُمة، يعيش سبعًا أو ثمانيا». يعني حِجَجا، قال الحاكم: «هذا

حديث صحيح الإسناد»، وأقره الحافظ الذهبي في "التلخيص". وقال الحاكم: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا حجاج بن الربيع بن سليمان: ثنا أسد بن موسى: ثنا حماد بن سلمة، عن مَطَر الوراق، وأبي هارون العبدي، عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي، عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله صلَّى الله

٤٤٨

كتاب الإيمان

عليه وآله وسلَّم قال: «تُملأ الأرضُ جَوْرًا وظُلما، فيخرج رجلٌ مِن عِثرتي فيملك سبعًا أو تسعًا، فيملأ الأرضَ عَدْلًا وقِسْطًا كما ملئتْ جَوْرًا وظُلْها». قال

الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم». وهو كما قال. وخرجه أحمد بإسناد صحيح أيضًا في "مسنده" قال: قال الحسن بن موسى: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي هارون العبدي ومَطَر الوراق، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم به. وقال ابن حِبَّان في "صحيحه" : أخبرنا محمد بن علي بن العباس المروَزِيُّ بالبصرة: ثنا الحسن بن عرفة : ثنا هاشم بن القاسم: ثنا شيبان بن عبدالرحمن، عن مَطَر الوراق عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تقومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِن

أهل بيتي ، أَقْنَى ، يملأ الأرضَ عَدْلًا كما مُلِئَتْ قَبْلَه ظُلْمًا، يَمْلِك سَبْعِ سِنين». وقال الحاكم في "المستدرك " : أخبرني الحسين بن علي بن محمد بن يحيى:

أنبأ أبو محمد بن الحسن بن إبراهيم بن حيدر الحميري بالكوفة: ثنا القاسم بن خليفة: ثنا أبو يحيى عبد الحميد بن عبدالرحمن الحماني: ثنا عمر بن عبيد الله العدوي، عن معاوية بن قُرَّة، عن أبي الصَّدِّيق النَّاجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديدٌ مِن سُلْطَانهم لم يُسْمع بلاءً أشدُّ منه، حتّى تضيق عنهم الأرضُ الرَّحْبَة، وحتَّى تُملأ الأرضُ جَوْرًا وظُلْها، ولا يجد المؤمن مَلْجاً يلتجئ إليه مِن الظُّلم، فيبعث الله عزّ وجلَّ رجلًا مِن عِترتي فيملأ الأرضَ قِسْطًا وعَدْلًا كما ملئت جَوْرًا وظُلْمًا، يرضى عنه ساكن السَّماءِ وساكن الأرض، لا تدَّخِرُ الأَرضُ مِن

المهدي المنتظر للام

٤٤٩

بَرِها شيئًا إلا أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئًا إِلَّا صِبَّه الله عليهم مِدْرَارًا، يعيش فيهم سبع سنين أو ثمان أو تسع، تتمنى الأحياء الأمواتَ لَمَّا صَنَعَ الله عزَّ وجلَّ بأهل الأرضِ مِن خَيْره». قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد». قلت: كذا قال، مع أنَّ إسناده ضعيفٌ، ولكن الحاكم صححه بالنظر إلى كثرة الطرق، وهو كذلك.

وقال مسلم في صحيحه ": ثنا أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله

عليه وآله وسلم قال: «يكون في آخرِ الزَّمانِ خَلِيفَةٌ يَقْسِمُ المالَ ولا يَعُدُّهُ». وخرج الطبراني في "المعجم الأوسط" من طريق أبي الواصل عبدالحميد بن واصل، عن أبي الصَّدِّيق الناجي، عن الحسن بن يزيد السعدي - أحد بني بهدلة - عن أبي سعيد الخدري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يخرج رجلٌ مِن أُمَّتِي يقول بسُنَّتِي، يُنَزِّلُ اللهُ عزَّ وجلَّ له القَطْرَ مِنَ السَّماء، وتُخرج الأرضُ مِن بَرَكَتها، وتُملأ الأرضُ منه قِسْطاً وعَدْلًا كما مُلِئَتْ جَوْرًا وظُلْمًا، يعمل

على هذه الأمة سبع سنين، وينزل بيت المقدس». رجاله ثقات. وخرج أحمد بأسانيد صحيحة، وأبو يعلى بإسناد صحيح أيضًا -كما قال الحافظ الهيثمي - عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أُبشركم بالمهدي، يُبعث على اختلافٍ مِن النَّاسِ وزَلَازِلَ، فيملأ الأرض قِسْطاً وعَدْلًا كما مُلِئتْ جَوْرًا وظُلْمًا، يَرْضَى عنه ساكنُ السَّماءِ وساكنُ الأرضِ، يَقْسِمُ المالَ صِحَاحًا». قال له رجلٌ : ما صحاحًا؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (بالسَّويَّة بين النَّاسِ ، ويملأ الله قلوبَ أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله

٤٥٠

كتاب الإيمان

وسلم غناء، ويسعهم . عدله حتّى يأمر مناديًا فينادي فيقول: مَن له في مال حاجة؟ فما يقوم مِن النَّاس إِلَّا رجل واحد، فيقول: أنا، فيقول: أنت السدان - يعني الخازن- فقل له: إنَّ المهدي يأمرك أن تُعطيني مالا، فيقول له: احث حتى إذا جعله في حِجْره وانتزره نَدِم، فيقول: كنتُ أَجْشَعَ أُمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم ، أو عَجِزَ عنِّي ما وَسِعَهم؟!» قال صلى الله عليه وآله وسلّم: فيرده، فلا يُقبل منه فيقال له: إنَّا لا نأخذ شيئًا أعطيناه، فيكون كذلك .

سبع

سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثُمَّ لا خير في العَيْشِ بعده». أو قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ثُمَّ لا خير في الحياة بعده». وخرجه البارودي في "المعرفة"، وأبو نعيم في "الأربعين" التي جمعها في المهدي، ولحديث أبي سعيد الخدري طرق أخرى أعرضنا عنها لحصول الكفاية بما ذكرناه.

حديث ابن مسعود رضي الله عنه

وأما حديث ابن مسعود فخرَّجه أبو داود قال : ثنا مُسدَّد: أنَّ عمر بن

عبيد حدثهم.

(ح) ثنا محمد بن العلاء: ثنا أبو بكر – يعني ابن عياش.

(ح) وثنا مسدد: ثنا يحيى، عن سفيان.

(ح) وثنا أحمد بن إبراهيم : ثنا عبيد الله بن موسى: أخبرنا زائدة.

(ح) وثنا أحمد بن إبراهيم: ثنا عبيد الله، عن فطر - المعنى واحد- كُلهم عن عاصم، عن زر ، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لو لم يَبْقَ مِن الدُّنيا إلا يوم - قال زائدة في حديثه - لطول الله ذلك اليوم ثم اتفقوا - حتّى يبعث الله فيه رجلٌ مِنِّي أو مِن أهل بيتي، يُواطئ اسمُهُ

المهدي المنتظر السلام

لفظ

٤٥١

اسمي، واسم أبيه اسم أبي . زاد في حديث فطر: يملأ الأرضَ قِسْطًا وعَدْلًا كما ملئت ظُلْمًا وجَوْرًا». وقال في حديث سفيان «لا تذهب، أو لا تنقضي الدنيا حتى يَمْلِك العرب رجلٌ مِن أهل بيتي، يُواطئ اسمه اسمي». قال أبو داود: . عمر وأبي بكر بمعنى سفيان. وخرجه أحمد، عن عمر بن عبيد ، عن عاصم بلفظ : «لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهر حتى يَمْلِكَ العرب رجلٌ مِن أهل بيتي، اسمه يواطئ اسمي». ورواه عن يحيى بن سعيد عن سفيان، عن عاصم بلفظ: «لا تذهب الدنيا أو لا تَنْقَضِي الدُّنيا حتى يَمْلِكَ العرب رجلٌ مِن أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي». وخرجه الترمذي، عن عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، عن سفيان الثوري، عن عاصم بلفظ: «لا تذهب الدنيا حتى يَمْلِكَ العرب رجلٌ مِن أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي». ثم قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وخرج