بسم الله الرحمن الرحيم
موسوعة الحافظ عبد الله في 133 لغة

(١٣٢٨ - ١٤١٣هـ ) رحمه الله تعالی

المجلد الخامس: القرآن الكريم وعلومه

ويحتوي على: ١ - بدع التفاسير

وتحتوي على:

قصص الأنبياء عليهم السلام

۱ - قصة آدم عليه السلام. ۲ - قِصَّة إدريس عليه السَّلام.

- قِصَّة داود عليه السَّلام. - قِصَّة سُليمان عليه السَّلام. ه - قِصَّة هَارُوتَ وَمَارُوتَ .

۱ - بِدَعُ التَّفاسِير

هذا كِتابٌ ما سُبِقْتُ بِمِثْلِهِ جَمُ الفَوائدِ نَاضِحُ الثَّمَرَاتِ مهدت فيه مَسائِلًا وقَوَاعِدًا تَنْفِي عن التَّفْسِيرِ بَعْضَ هَنَاتِ جَلَّيتُ فيه حقائقًا لا يَنْبَغِي جَهل بها المفسرِ الآياتِ سميته "بدع التفاسير" التي جاءت من الأقوامِ بالعَثَراتِ أرجو من الله الكريم نَوَالَهُ وَ الذُّنوبِ وَمَنْحَ فَضْلِ هِبَاتِ

بدع التفاسير

۱۱

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

حمدًا لمن أنزل الكتاب تذكرة لأُولي الألباب، ووفّق لفهم ما أَوْدَعَ فيه من دقائق الخطاب، وأبقاه برهانا على صحة دينه إلى يوم الحساب. أحمده وأشهد أن لا إله إلا هو، شهادة عبد مُخلِص أوَّابِ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقِّ، مؤيَّدًا بالدلائل القاطعة للشَّكِّ والارتياب، صلَّى الله عليه وآله وسلّم ما طلع نجم وغاب، ورضي الله عن آله

الكرام، وصحابته العظام، ومن تبع هديهم إلى يوم المآب. أما بعد: فهذا مؤلّف عجيب، ليس له في بابه ضريب، تضمن التنبيه على بعض التفاسير المخطئة، وقد تكون أحيانًا خاطئة (١) يجب اجتنابها في فهم كلام الله تعالى، والبعد به عن أن تكون من جملة معانيه، لنبو لفظه عنها، أو مخالفتها لما تقتضيه القواعد المأخوذة من الكتاب والسُّنَّة، أو نحو ذلك، وسميته: "بدع التفاسير". وهي عبارة الزمخشري في "كشّافه " يقولها حين يحكي بعض تلك التفاسير، وإن كان هو نفسه قد وقع في بعضها بسبب عقيدته الاعتزالية التي كان صلبًا

(۱) أي آثمة، والمراد أصحابها، أي أنهم آئمون قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا كانو اخطين ﴾ [القصص: ۸] وفي الحديث: «لا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِي»، وأغلب كتاب مصر وأدبائها يستعملون لفظ : «خاطئ". بمعنى: «مخطئ فيقولون: أفكار خاطئة يقصدون مخطئة. وهذا من جملة الأغلاط التي زل بها لسانهم ومرن عليها قلمهم.

۱۲

القرآن الكريم

فيها، متمسكًا بها إلى حد التعصب والاعتساف، جريئًا في القول بمقتضاها، حتى صدرت عنه عبارات غير لائقة (۱) ، أو بسبب غلطه في الإعراب، أو مخالفته لسبب النزول

ولم أقصد بهذا المؤلف استيعاب التفاسير المخطئة والخاطئة، و والخاطئة، فإنَّ ذلك غير متيسر لي الآن. وإنَّما قصدت ذكر مثل تكون نموذجا لما لم يذكر، وعنوانًا عليه. ويمكن أن أُحيل القارئ على نوعين من كتب التفسير :

أحدهما: تفاسير المعتزلة، كتفسير أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني، وتفسير أبي الحسن علي بن عيسى الرماني، وتفسير أبي علي محمد بن

عبدالوهاب الجبائي، وغيرها من التفاسير التي تكثر فيها البدع، لسببين: الأول: أنَّ أصحابها جُرَاءُ على القول في التفسير بالرأي، لا تردعهم هيبة القرآن، ولا خشية من منزله ، وإذا عُورضوا بحديث صرح في آية بخلاف ما فسروه بها، سارعوا إلى الطعن فيه وإنكار صحته، كحديث صهيب في "صحيح مسلم ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: وَلِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: ٢٦] أنَّ الزِّيادة: النظر إلى الله تعالى، فقد طعنوا فيه، ونسبوه إلى المشبهة والمجبرة (٢) يعنون أهل السنة؛ لأنه خالف تفسيرهم

(۱) وسماه العلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي في مبحث «التكذيب بالقدر» من "الزواجر : حامل راية المعتزلة إلى النَّار. وما يقال عن توبته من الاعتزال ورجوعه عنه غير صحيح. (۲) قال الزمخشري في "الكشاف": وزعمت المجبرة: أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله

بدع التفاسير

۱۳

الزيادة بالتفضّل الزائد على النواب، مع أنَّ النَّظر تفضل بل هو أعلى أنواعه. فكم من حديث متفق على صحته أو مستفيض أومتواتر، كان نصيبه عندهم الرفض المطلق لمجيئه بخلاف ما رأوه وقرروه.

والثاني: أنَّهم جعلوا قواعد مذهبهم في العدل وخَلْقِ القرآن، وخَلْقِ المكلف أفعاله ونفي الكلام النفسي، ونفي تعلق المشيئة الإلهية بالمعاصي

والمباحات، واستحالة رؤية الله تعالى، وخلود العاصي في النار مثل الكافر أصولا مُسَلَّمة، أوّلوا لها ظواهر الآيات، وخصصوا بها عمومات القرآن، وقيَّدوا مطلقه، وبالجملة جعلوا قواعدهم حاكمة على آي القرآن الكريم بحيث لا تفيد إلَّا مذهبهم وتفسير "الكشاف"، شاهد صدق على ما نقول.

ثانيهما: تفاسير بعض المعاصرين. وهي:

۱ - "المصحف المفسر" لمحمد فريد وجدي.

۲ - أوضح التفاسير " لمحمد عبد اللطيف الخطيب.

- تفسير أبي زيد الدمنهوري.

- "تيسير القرآن الكريم للقراءة والفهم المستقيم" لعبد الجليل عيسى. فإنَّ فيها كثيرًا من بدع التفاسير، وأكثرها بِدَعا، وأشدُّها وقاحة: الثاني (1)

تعالى، وجاءوا بحديث مرفوع». قال الطيبي في "حاشيته": «قوله: «مرقوع» هو عنده بالقاف أي: مرقّع معدل، وهو عند أهل السنة بالفاء».اهـ والمجبرة بضم الميم وسكون الجيم وكسر الباء، نسبة إلى القول بالجبر، وهذا الاسم يُطلقه المعتزلة على أهل السنة.

(1) على أنَّه وُفِّقَ في كتابه في بحثين اثنين هما الدفاع عن تعدد الزوجات في الإسلام،

١٤

القرآن الكريم

والثالث، ولا يقل عنها ما كتبه محمود شلتوت في "التفسير"، وعبدالوهاب

النَّجَّار في "قصص الأنبياء".

ولقد بلغ من جراءة الأخير في بدعته، أنَّه يذكر الحديث عازيا له إلى "الصحيحين" أو أحدهما، ويكون مخالفًا لرأيه، فيعلق عليه بالرد، وقد يصحب ردَّه بالطنز والسُّخرية، كما فعل بحديث فرار الحجر بثوب موسى عليه السلام (۱) ولاحظت على عبد الجليل عيسى في "تفسيره" أنه إذا كان في

والدفاع عن تعدد أزواج النبي عليه الصَّلاة والسَّلام.

(۱) كان اليهود يغتسلون عُراة، وكان موسى - عليه السَّلام- يغتسل وحده لئلا ترى عورته فاتهموه بالأدرة - وهي انتفاخ الخصية - وأراد الله أن يُبرئه نما رموه به، فذهب يغتسل منفردًا على عادته، ووضع ثيابه على حجر، ولا اغتسل وأراد لبس ثيابه جرى الحجر بها وموسى يجري خَلْفَه ، حتى مرَّ على ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عاريا ليس به داء، وتحققوا من كذبهم فيها رموه به ثبت هذا الحديث في "الصحيحين" عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم.

-

وقد ذكره النجار في "قصصه" وعلق عليه بعبارة فيها سخرية، حيث تعجب كيف تحصل المعجزة بغير إرادة النبي، بل بالرغم منه ؟!! لكنه جهل الفرق بين المعجزة والآية في عرف العلماء، فإنَّهما - وإن اتفقا في كونهما خارقين للعادة تنفرد المعجزة بأنه يقصد بها التحدي، فلا تكون إلا بطلب من النبي، والآية لا يقصد بها ذلك، فلا يلزم أن تكون بطلبه ولا بإرادته. فانقلاب العصا ثعبانًا آية ومعجزة؛ لأنَّه قصد به التحدي، وانفلاق البحر آية؛ لأنَّه قصد به انجاء موسى ومن معه، وليس بمعجزة لأنه لم يقصد به التحدي، وفرار الحجر بثوب موسى آية قصد به تبرئته، وليس بمعجزة لعدم التحدي.

بدع التفاسير

10

الآية رأيان، يختار منهما الذي لا يكون فيه فضل للنبي صلى الله عليه وآله

وسلم وتنويه ع عنه، ولنذكر لذلك مثلين حضراني:

۱- قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِشَقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَبٍ وَحِكْمَة [آل عمران: ۸۱] الآية. جمهور المفسّرين على أنها تختص بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنَّ الله أخذ الميثاق على النبيين إن ظهر في زمنهم أن يؤمنوا به وينصروه؛ لعموم دعوته، ولأنَّ الله أخبر بأنَّ إبراهيم وإسماعيل، وهما يبنيان البيت، بشرا به في صورة دعاء، كما جاءت البشارة به وبصفاته في التوراة والإنجيل، بل جاءت فيهما صفات صحابته أيضًا (۱).

وذهب بعض المفسرين إلى أنَّ المراد: أنَّ الله أخذ الميثاق على كل نبي في النَّبي الذي يأتي بعده.

وانشقاق القمر آيةٌ ومعجزة أيضًا؛ لأنه وقع بطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تحديا للمشركين، ونبع الماء من الأصابع الشريفة آيةٌ؛ لأنه وقع إسعافا للصحابة بالماء في وقت لم يجدوه فيه، وليس بمعجزة لعدم التحدّي. وحمل مريم كان آية قصد به إظهار قدرة الله في إيلاد البنت من غير مسيس ذكر، وقد

حصل كرها عنها، حتى قالت قَالَتْ يَلَيتَنِي مِتُ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسيا منسيا [مريم: ٢٣] لكنه ليس بمعجزة، لعدم نبوة مريم وكلام عيسى في المهد آية، حصل لتبرئة مريم وليس بمعجزة لعدم التحدّي. وقد قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأَمَّهُ آية ﴾ [المؤمنون: ٥٠] فكل معجزة آية، وليست كل آية معجزة.

(۱) اقرأ قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: ٢٩]

الآية إلى آخر السورة، وليس في القرآن آية جمعت حروف المعجم غير هذه الآية.

١٦

القرآن الكريم

واختاره عبد الجليل عيسى مع أنه ضعيفٌ؛ لأنَّه لم يثبت أنَّ نبيا بشر بنبي بعده، ولا يعقل ذلك؛ لأنَّ كلَّ نبي إنَّما يبعث لقومه خاصة، وإنما جاءت

البشارة بعيسى في كتب اليهود؛ لأنَّه بعث مصدقا بالتّوراة، متمما لشريعتها. ۲- قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَهِم يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: ۷۲]. قال ابن عباس: «أقسم الله بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم». وهذا هو الراجح في

الآية، لوجوه منها: سلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل.

وقيل: قسم من الملائكة بحياة لوط عليه السَّلام، والتقدير : قالت الملائكة

تخاطب لوطا : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكَرَئِهِمْ يَعْمَهُونَ .

وهذا الرأي مع ضعفه من وجوه، اختاره عبدالجليل عيسى.

وأغلب البدع الموجودة في تفاسير المعاصرين منشأها الجهل بأصول علم التفسير وقواعده، أو الحرص على الظهور بمظهر المستنير الرأي، النابذ للتقليد، ومن هنا كانوا خاطئين؛ لأنهم أقدموا على التفسير بجهل أو بسوء نية، وسيلقون جزاء ما كتبوه عند الله تعالى وهو المسئول أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا إلى التمسك بالسُّنَّة، ويحشرنا في زمرة أهلها، إنَّه قريب مجيب.

بدع التفاسير

۱۷

مقدمة

تشتمل على مسائل هامة تنفع النَّاظِر في هذا الكتاب خاصةً وفي كُتب

التفسير والحديث عامة.

المسألة الأولى

ألفاظ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة لها حالتان: الحالة الأولى: أن يمتنع حملها على المجاز، وهي نوعان:

أحدهما: أن تكون متعلّقة بالتوحيد والإيمان، مثل سورة (الإخلاص)

و(الكافرون) و(النصر) وآية المواريث وسائر آيات الأحكام. فهذه تُحمل على حقائقها الشرعية كالإيمان والإسلام والصَّلاة والزَّكاة والصيام والحج، فإن لم يكن لها حقيقة شرعيَّةٌ، حملت على الحقيقة اللغوية، كالنكاح والطلاق والظهار والقُرُوء في العِدَّة، والبعث بعد الموت، والعذاب والنعيم، فدخول المجاز في هذا النوع ممتنع؛ لأنه ينافي الغرض من التكليف،

ويؤدي إلى مفاسد عظيمة، أعظمها: تعطيل الشريعة.

ثانيهما: أن تكون في سياق الحديث عن الأمم السابقة، مثل ما يحكيه الله تعالى عن قوم نوح، وقوم فرعون، وبني إسرائيل، فهذه تُحمل على حقيقتها، ويمتنع فيها المجاز ، لما سيأتي بيانه في سورة هود بحول الله تعالى.

الحالة الثانية: أن يمتنع حملها على الحقيقة نحو الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ استوى اطه : ]، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: ٦٤]، مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ [ص: ٧٥]، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: ٤٨] وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَا صَفَا [الفجر: ۲۲] .

بدع التفاسير

۱۹

سترا لذلك المحل الذي مسته يد الله !!!

ويكفي دليلا على بدعيّة هذه الفائدة شهادة ابن القيم بأنه لم يرها لغير شيخه، أي: أنه تفرد بها؛ لأنَّه يميل إلى التجسيم، والعجيب إبداء تلك الفائدة

المبتدعة، من غير استناد إلى حديث يؤيدها، أو رواية تاريخيَّة تعضّدُها ! بل الذي أثبته التاريخ : أنَّ الذؤابة عادة عربية، كان العرب يتقون بها حرَّ الشمس في أقفيتهم وأكتافهم، ولذلك لم يواظب عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، ولا صح في فضلها حديث.

ووجدت أيضًا ابن عبدالهادي المقدسي الحنبلي وهو من تلاميذ ابن تيمية - ذكر في "الصارم المنكي" حديث: ينزل ربنا كل ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا» الحديث، وحكى خلاف المتقدمين - يعني من مُجسّمي الحنابلة- هل يخلو منه العرش إذا نزل؟ فقال قوم منهم : نعم يخلو منه؛ لأنه إذا نزل فقد بارحه! ولا يُعقل أن يكون في مكانين في وقت واحد!! وقال آخرون: لا يخلو منه؛ لأنَّه لو خلا منه لزم أن يكون العرش وبعض السَّماوات أعلى منه حين نزوله إلى السماء الدُّنيا، مع أنه العلي على مخلوقاته !!

فهذا هو العلم الذي يصف ابن القيم من يُنكره بأنهم جُهَّال، ونحن نحمد الله على هذا الجهل، ونسأله الثبات عليه حتى نلقاه.

المسألة الثانية

يجب على المتصدي لتفسير القرآن الكريم أن يتجرد من الآراء المذهبية، ويوطن نفسه على تقبل ما تفيده الآية وتدلُّ عليه، ويرجع عما كان يراه أو يعتقده بخلافها؛ لأنَّ القرآن حُجَّة الله على خَلْقه وعَهْدُه إلى عباده، إليه

۲۰

القرآن الكريم

يتحاكمون وعن حكمه يصدرون، ولا يجوز له أن يتمحل في تأويل الآية، ويتطلب الوجوه البعيدة في الإعراب، أويحملها على المعاني التي لا تتفق مع سياقها، أوسبب نزولها، لتفيد رأي فلان أو عقيدة فلان، فإنَّ هذا تحريف لكلام الله تعالى وتغيير لمعانيه، وهو منشأ بدَع التفاسير وسبب هام لكثرة وقوعها في تفاسير المعتزلة كما مرَّت الإشارة إليه.

ويرتكب هذا من أهل الحديث الحافظ الطحاوي الحنفي، فإنَّه يتعسّف في تأويل الأحاديث ويُسرف في التعسُّف لتوافق مذهب أبي حنيفة، وقد يرتكب البيهقي مثل هذا بالنسبة لمذهب الشافعية، لكن على قلة، ورأيت الباجي في شرح "الموطأ" حين تكلم على حديث: «كل ذي ناب من السباع

ويجلب من الطَّير حرام»، قال: يحتمل أن يريد بقوله: «حرام» إنَّه مكروه. قلت: هذا تعسُّفُ في شرح الحديث، ليوافق مذهب المالكية في كراهة أكل

السباع، ولم أقف له على غير هذا الموضع.

المسألة الثالثة

يجب على المفسر في تفسيره أمور: أحدها: ألَّا يُخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير

آية، كتفسيره الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: ٧] باليهود، والضالين ﴾ [الفاتحة: بالنصارى، وهو قليل، وفي عزمي أن أجمعه في كتاب خاص، وفق الله إلى ذلك وأعان عليه.

أما تفسير الصحابي أو التابعي، إن كان يستند إلى ذكر سبب النزول فيجب

بدع التفاسير

۲۱

اتباعه؛ لأنه في حكم المرفوع ، كقول جابر: «كانت اليهود تقول: من أتى امرأته في قبلها من جهَةِ دُبُرِها، جاء الولد أَحْوَلَ، فأنزل الله تعالى ردًّا عليهم:

نِسَاؤُكُمْ حَرْتُ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ [البقرة: ٢٢٣].

وهذا . ذا يعني أنَّ معنى «أَنَّى»: «كيف»، لا «أين»، ويكون تفسيرها بـ«أين» من بدع التفاسير.

وإن لم يستند إلى ذلك فينبني على الخلاف في حُرِّيَّة قول الصحابي (١). ثانيها: أن يفسر الآيات بالمعاني التي كانت معروفة للعرب وقت نزوله، حقائق كانت أو مجازات، لقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْتَهُ قُرْهَنَا عَرَبِيَّا﴾ [يوسف: ٢] فيجب فهمه في حدود قواعد اللغة العربية وأساليبها المعهودة لهم، ولا يجوز تفسيره بمعان مستجدة حدثت بعد التنزيل، ومن فسره بها فقد زعم أنَّ القرآن خاطب العرب بما لم يفهموه، ولا عرفوه، وكان تفسيره من بدع التفاسير، وثمن يسلك هذا: محمد عبده في تفسيره"، وعبدالوهاب النجار في "قصص

الأنبياء".

ثالثها: أن يجتنب تفسير ألفاظه باللغات الغريبة، أو تخريج إعرابه على الوجوه الضعيفة أو الشَّاذة ، ة بحسب القواعد النحوية؛ لأنَّ ذلك ينافي فصاحة

القرآن التي هي خلوص كلماته من الغرابة والتنافر والتعقيد.

(1) على أنَّ معظم الأصوليين والمفسرين أوجبوا اتباع تفسير الصحابي مطلقا؛ لأنه شاهد التنزيل، وعرف من القرائن الدالة على تعيين المعنى المراد ما لم نعرفه، وانظر أوائل

"تفسير ابن كثير".

.

۲۲

القرآن الكريم

ولا شك أن حمل الكلمة على لغة غريبة، أو تخريج الكلام على إعراب

ضعيف أو شاذ، يورث تنافرًا في الكلمات، وضعفًا في التركيب. وكثيرًا ما يحمل

بعض المعتزلة ألفاظا .

بعضها بحول الله تعالى.

من القرآن على لغاتٍ غريبة نادرة، سيأتي التنبيه على

بدع التفاسير

۲۳

من سورة البقرة

۱ - قوله تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [البقرة: 7]: ذكر الزمخشري في هذه الآية وجوها من التأويل، تتضمَّن جميعها نفي إسناد الختم إلى الله حقيقةً، وإِنَّما هو على سبيل التمثيل أو المجاز، وأنَّ الخاتم في الحقيقة هو الشيطان أو الكافر، وليس الله تعالى فعل في تجافي قلوبهم عن الحق، ونُبُوها عن قبوله.

وهو تفسير اعتزالي فيه اعتساف وانحراف عن مدلول اللفظ، وأدلة الكتاب والسنة متضافرة على إسناد الختم والطبع إلى الله تعالى، والأصل في الإسناد: الحقيقة، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «بعثتُ داعيًا وليس

إليَّ من الهداية شيء، وجُعِل الشَّيطانُ مُزيَّنًا وليس له من الضَّلالة شيء». والشيطان نفسه يقول يوم القيامة: ﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ﴾ [إبراهيم: ۲۲] وفسَّر الزمخشري دعوته بمجرد الوسوسة والتزيين، وما أورده لتأييد تأويلاته مُعارَض بمثله، وليس غرضنا أن نفيض في بيان المعارضة ووجوه الاحتجاج، ولكن غرضنا أن نقول: تفسيره هذا من بدع التفاسير؛ لأنه تغيير لمعنى الآية وعُدُولٌ عما يقتضيه ظاهرها، لتتمشى مع مذهبه وعقيدته.

۲- قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ﴾ [البقرة: ٢٦]: قال الزمخشري أيضًا: وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب؛ لأنه لما ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به ،قوم، تسبب لضلالهم وهداهم،

٢٤

القرآن الكريم

وعن مالك بن دينار رحمه الله تعالى: أنه دخل على محبوس قد أخذ بمال عليه، وقيد فقال: يا أبا يحيى، أما ترى ما نحن فيه من القيود؟ فرفع مالك رأسه، فرأي سلة فقال : لمن هذه السَّلَّة؟ فقال: لي. فأمر بها تنزل فإذا دجاج وأخبصة، فقال مالك: هذه وضعت القيود في رجلك». اهـ

قلت: هذا التفسير على نمط ،سابقه، وهو مبني على مذهب المعتزلة، أنَّ العبد يخلق أفعاله. وقد أساء بذكره قصة السَّلَّة تنظيرًا الله تعالى، وله من هذه التفاسير البدعية كثير ليس غرضنا استقصاءها، وإنما ذكرنا هذين المثالين ليستدل بهما على غيرهما.

قوله تعالى: وَعَلَمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَبِكَةِ فَقَالَ أَنْبِتُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ [البقرة: ٣١] (۱): معنى الآية: إنَّ الله تعالى علم آدم أسماء المُسمَّيات كلها مثل جبل، وشجر، وبيت، وإنسان،

وقصعة ... إلى آخرها من أجناس وأنواع.

ومن بدع التفاسير : علمه أسماء النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأسماء من ولده، نقله الشريف المرتضى في "أماليه" وقال: وفيه أحاديث

الأئمة.

مروية.

(۱) هذه الآية من أدلة القائلين بأنَّ اللغة توقيفية، كما يدلُّ لهم أيضًا حديث أبي داود والترمذي، قال الله عزّ وجلَّ: «أنا الله وأنا الرَّحمنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وشَقَقْتُ لها اسما من اسمي» الحديث، ولهذا البحث بقيَّة تُنظر في "المزهر" للسيوطي، و"إرشاد

الفحول" للشوكاني.

بدع التفاسير

٢٥

قلت: المرتضى شيعي إمامي، والإمامية يقولون بإمامة اثني عشر من أهل البيت، فكأن الله تعالى علم آدم أسماء ثلاثة عشر رجلا!! ويقال على هذا: ما فائدة التأكيد بلفظ: «كلها»؟ ، والأحاديث التي أشار إليها المرتضى ساقطة لا تقوم بها حُجَّةٌ.

-

- قوله تعالى: وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ﴾ [البقرة: ٥٣] أي: الجامع بين كونه كتابًا منزلا وفرقانًا يفرق بين الحق والباطل، وهي التوراة. ونحوه قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاهُ وَذِكْرًا ﴾

[الأنبياء: ٤٨]، أي: الكتاب الجامع بين كونه فرقانًا وضياء وذكرًا. فالنسق في الآيتين لجمع الصفات، كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد

الرجل الجامع بين الجود والجراءة.

وقيل: الكتاب التوراة، والفرقان انفراق البحر الموسى عليه السَّلام. وقيل: الفرقان: الفرق بين الحلال والحرام أو: الفرق بين موسى وأصحابه

المؤمنين، وبين فرعون وأصحابه الكافرين، بإغراق هؤلاء وإنجاء أولئك.

وقيل: البرهان الفارق بين الإيمان والكفر، من العصا واليد وغيرهما. ومن بدع التفاسير أن المراد بالفرقان القرآن، والتقدير: وإذ آتينا موسى التوراة والإيمان بالقرآن؛ لأنَّ موسى عليه السَّلام كان مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ومُبَشِّرًا ببعثته. وفي هذا الوجه حذف لفظ الإيمان، من غير دليل يدل عليه، وحذف حرف الجر من الفرقان، ونصبه بنزع الخافض، وهو شاء لا يقاس إِلَّا فِي أَنَّ وأَنْ.

٢٦

القرآن الكريم

أو المراد: القرآن أيضًا، والتقدير: وإذ آتينا موسى الكتاب، وآتينا محمدًا الفرقان، فهو كقول الشاعر:

عَلَفْتُها تبنــا ومــاء بـاردا حتَّى غَدَتْ هَمَّالَةٌ عَيْنَاهَا أي: وسقيتها ماء باردًا، فدل علفت على سقيت كما دلّ في الآية: اتينا مُوسَى على «آتينا محمدًا».

وهذا ضعيف مردودٌ ؛ لأن علقتها في معنى غذيتها، فصح عطف «ماء» على «تبنا»؛ لأنَّه مما يتغذى به، والآية لا يصح فيها ذلك بحال.

وضعفه أبو بكر ابن الأنباري من جهةٍ أخرى فقال: إن الاستشهاد بالبيت لا يجوز على هذا الوجه؛ لأنَّ البيت اكتفي فيه بذكر فعل عن ذكر فعل غيره،

والآية اكتفي فيها باسم دون اسم. وتوضيح كلامه أنَّ موضوع الكلام في البيت متحد، وهو الناقة. فجاز حذف الفعل؛ لأنَّ وحدة الموضوع دلّت عليه، والآية ليست كذلك، إذ موضوع الكلام فيها متعدد فموسى المخبر عنه بإيتائه الكتاب، غير محمد صلى الله عليه وآله وسلّم المخبر عنه بإيتائه الفرقان، فلذا لم يجز حذفه.

ه - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ الذين عَبدوا العِجْلَ يَنقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) إما فَتُوبُوا إِلَى بَارِيكُم الله خالقكم من عبادته. واختير لفظ باريكُم تنبيها على غباوتهم، حيث تركوا عبادة الخالق إلى مخلوق فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: ٥٤] أي: ليقتل البريء منكم المجرم، فأرسل الله عليهم سحابة سوداء لئلا ينظر بعضهم بعضا فيرحمه. فقتل

بدع التفاسير

۲۷

منهم نحو سبعين ألفا، فتاب الله عليهم، كما في بقية الآية. وليس بكثير عليهم القتل؛ لأنَّهم ارتدوا بعد إيمانهم) وكفروا بعد ما

شاهدوا من الآيات ما يخشع لها قلب الجاحد العنيد.

ومن بدع التفاسير قول المرتضى فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ * معناه: «اجتهدوا في التوبة مما أقدمتم عليه والندم على ما فات وإدخال المشاق عليكم في ذلك حتى تكادوا أن تقتلوا أنفسكم، وقد يُسمَّى من فعل ما يقارب الشيء باسم فاعله، ومذهب أهل اللغة في ذلك معروف مشهور، يقولون: ضرب فلان عبده حتى قتله، وفلان قتله العشق، وأخرج نفسه، وأبطل روحه».

قلت: هذا معنى تجازي، والمجاز لا يدخل فيما يحكيه القرآن عن الأمم السابقة، لما بيناه في (سورة هود).

٦- قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا أي اليهود والمعنى: نبذوا كتاب الله واتبعوا

(۱) وفي شريعتنا الإسلامية يُقتل المرتد، لحديث البخاري: «مَن بدل دينه فاقتلوه»، لكن بعد إمهاله ثلاثة أيام واستتابته فيها من غير تضييق عليه ولا اضطهاد له. وليس قتل المرتد من الإكراه في الدين كما يقول مُبتدعة العصر ومَلاحِدَتُه، لكن من اعتنق الإسلام واقتنع بأدلته - خصوصا القرآن الكريم - ثم رجع عنه، يكون متلاعباً أو قاصدًا إفساد عقيدة بعض المسلمين الذين تصلهم به قرابة أوصداقة أو معاملة، فكان القتل عقابه كما عوقب الزَّانِي المحصن بالرَّجم. وبعض الدول الكبيرة في هذا العصر تقتل السارق أو المتلاعب في التموين حماية للشعب، فكيف يُعاب على الإسلام أن يسن تشريعا يحمي عقيدة المسلمين ممن

يتلاعب بها ؟!! والعقيدة أهم من القوت وأسمى من المال.

۲۸

القرآن الكريم

مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ أي: على عهد ملكه وفي زمانه، وذلك أنَّ الشياطين كانوا يَستَرِقُون السَّمْع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفّقونها ثم يلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤنها ويعلمونها النَّاس، وفشا ذلك في زمان سليمان عليه السَّلام، حتى قالوا: إنَّ الجنَّ تعلم الغيب. وكانوا يقولون: هذا عِلم سليمان، وما تمَّ لسليمان ملكه إلَّا بهذا العِلم، فاتبعوا كتب السحر، ورفضوا كتب أنبيائهم، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَنُ بعمل السحر، تكذيب للشياطين واليهود وتبرئة لسليمان مما رموه، وَلَكِنَّ الشَّيَنطِين الذين كَفَرُوا باستعمال السِّحْر وتدوينه حال كونهم يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ يقصدون به إغواءهم وإضلالهم و يعلمونهم ما أي:

هم

السِّحْر الذي أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الكائنين بابل بلد بالعراق. وهذا البلد ومصر. كانا أكثر البلاد استعمالا للسِّحر، وأكثرها ترويجا له، فبعث الله موسى إلى أهل مصر، أبطل سحرهم بعصاه، حتى صار من الأمثال السائرة، قول الشاعر: إذا جَاءَ موسى والقَى العَصا فقَدْ بَطَلَ السَّحْرُ والسَّاحِرُ وبعث في بابل هَرُوتَ وَمَرُوتَ يعلمان النَّاس السحر، ليعلَمُوا الفرق بينه وبين المعجزة، وليعلموا أنَّ السَّاحر صنو الشَّيطان، وأنَّ النبيَّ مؤيَّد من الرحمن، ويؤخذ منه أن تعلم السحر لمثل هذه المصلحة جائز.

وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى ينصحاه، ويَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ابتلاء من الله

بدع التفاسير

۲۹

و امتحان فَلَا تَكْفُرْ فلا تتعلمه معتقدا أنه حق فتكفر فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا فيتعلم النَّاس من الملكين مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي: علم السحر الذي يكون سببًا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه، كالنفث في العقد ونحوه مما يحدث الله عنده الفرك (۱) والنشوز والخلاف وَمَاهُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ﴾ [البقرة: ١٠٢] بإرادته.

هذا تفسير هذه الآية تفسيرًا يلائم سياقها ويقتضيه نظمها من غير تكلف. وقيل

فيها: وجوه من التأويل تعتبر من بدع التفاسير، ونحن ننبه عليها بحول الله تعالى. فقيل في: ﴿وَمَا أُنزِلَ إِنَّه في محل جر، معطوف على مُلْكِ سُلَيْمَنَ ﴾ والمعنى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين - وهما جبريل وميكائيل - ولكنَّ الشَّياطين كفروا، يعلمون النَّاس السحر ببابل، هاروت وماروت وهما رجلان لا ملكان، ذُكِرا بعد النَّاس تبيينا وتمييزا لهما.

وهذا التأويل فساده ظاهر؛ لأنَّ فيه تفكيكا لنظم الآية، وتعقيدا لمعناها وإلحاقا لها بالألغاز والمعمَّيات.

وقيل: يجوز أن يكون هاروت وماروت بدلا من الشَّياطين، والمعنى: ولكن

الشَّياطين هاروت وماروت كفروا، وهذا فاسد كسابقه.

وقيل: أنَّ ما في قوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ نافية، والمعنى: أنهما لا يعلمان ماء

(۱) البغض، يقال: فركت المرأة زوجها أبغضته.

۳۰

القرآن الكريم

أحدا، بل ينهيان عنه، ويبلغ من نهيهما في صدهما عنه أن يقولا: إِنَّمَا نَحْنُ فتْنَةٌ فَلا تكفر باستعمال السِّحْر. وهذا باطل أيضًا؛ لأنَّ حَتَّى يَقُولَا

تقتضى أنهما يعلمانه بعد تحذيره ونُصحه، فهي غايةٌ لامتناع التعليم. وإذا كانا لا يعلمانه أصلا، فلِمَ كانا فتنةً؟! وهل يعقل أن يكون مجرد

وجودهما فتنة؟!

وقيل - تفريعا على هذا التأويل الباطل: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا أَي: من الكفر والسحر المفهومين مما سبق مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) وهذا واضح البطلان، لا يحتاج إلى بيان وكيف يتعلم الإنسان من الكفر أن يفرق بين المرء وزوجه ؟!!.

قيل أيضًا: ويجوز أن يكون معنى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا : فيتعلمون بدلا مما علمهم الملكان أي: يعدلون عما علمهم ووقفهم عليه الملكان في النهي عن

السحر إلى تعلمه. ويكفي في ردّ هذا التأويل ما فيه من التكلُّف الزائد. على أن من تكون بمعنى: بدل ، إذا وقعت بين شيئين تصح فيهما

المعاوضة نحو أرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَة [التوبة: ۳۸] فالحياة الدنيا والآخرة، يصح التبادل والتعاوض بينهما، ولكن لا يصح التبادل بين الملكين وعلم السِّحر ، ثمَّ يجب أن يكون الفعل مؤذنا بمعنى البدلية، مثل فعل رضيتم فإنَّه يؤذن بأنَّهم رضوا بشيء بدلا عن آخر. لكن فعل يتعلمون» لا يؤذن بذلك.

بدع التفاسير

۳۱

وقيل : يجوز أن يكون قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا رَاجعًا إلى هاروت وماروت، على أنّهما من الشَّياطين كما مر، أو رجلان كما مرَّ أيضًا، ومعنى قولها: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ يكون على سبيل الاستهزاء كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحًا: هذا فعل من لا يفلح، لا يقصد النصح، لكن على وجه المجون والاستهزاء. ويردُّه أن هاروت وماروت ملكان لا يجوز في حقهما الاستهزاء، والقول بأنهما شيطانان ساقط لا دليل عليه، ومن قال رجلان استند إلى قراءة

الْمَلَكَيْنِ ) بكسر اللام، وهي قراءة شاذة، وهي هنا مردودة؛ لأنَّ القراءة المتواترة تعارضها.

وقيل تفريعا على جعل وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾ للنفي: يكون الضمير في قوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ يعود على قبيلتين من الجن، أو إلى شياطين

الجن والإنس وفيه تشتيت الكلام، وعود الضمائر إلى ما لم يذكر.

وقيل : معنى مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ إنَّهم يُغوون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشّرك بالله تعالى، فيكون بذلك قد فارق

زوجه الآخر المقيم على دينه، فيفرق بينهما اختلاف الملة.

وهذا باطل لوجهين:

أحدهما : أنَّ الملكين لم يكونا يعلّمان كيفية إغواء النَّاس وحملهم على الشرك،

وإنما كانا يعلمان السِّحْر ، ليفرق بينه وبين المعجزة، وليُعرَف شره فيتقى. ثانيهما: أن التفريق بين الزوجين لاختلاف الدين، لم يثبت أنه كان معمولاً

۳۲

القرآن الكريم

به في بابل حين كانا يعلمان السحر.

وقيل معناه: يسعون بين الزوجين بالنميمة والوشاية، حتى يؤول أمرهما

إلى الفرقة.

وهذا باطل أيضًا؛ لأنَّ الملكين لم يعلَّما النميمة والوشاية، ولا جاء ما يدلُّ

على ذلك، على أنَّ النميمة ليست علما له قواعد كعلم السحر. وقيل: كلمة وإلا زائدة، والمعنى: وماهم بضارين به من أحد بإذن الله . وهذا باطل لوجهين : أحدهما: أن دعوى زيادة كلمة في القرآن تخريج له على وجه ضعيف، وهو

لا يجوز.

ثانيهما: أنَّ المعنى على إثباتها؛ لأنَّ مما علم بالضرورة والمشاهدة أنَّ المسحور قد يحصل له ضررٌ في جسمه أو عقله، فأخبرت الآية أن ما يحصل من ذلك الضرر لا يكون إلا بإذن الله تعالى.

وقيل في وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ : أن يكون الضرر هو ما يلحق المسحور من الأدوية والأغذية التي يطعمه إياها السحرة، ويدعون أنها موجبة لما يقصدونه فيه من الأمور. وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ السَّحرة لا يطعمون المسحور أدوية ولا غيرها، وإنما يعملون عملهم من نفث في العقد ونحوه، فيحصل الضرر بإذن الله، وربما لا يحصل ضرر إذا كان المسحور قويّ الرُّوح، أو يتحصن بسورتي المعوذتين، ونحوهما.

بدع التفاسير

۳۳

(تنبيه): تكلَّمتُ على قصَّة هاروت وماروت في كتاب "قصّة إدريس"

فليراجعها من أرادها هناك.

-

قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْوَانُ جملةً واحدةً إلى السماء الدُّنيا، ثُمَّ نزل بعد ذلك مفرَّقا حسب الأسباب والمقتضيات هدى للنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: ١٨٥] ثناء على القرآن، ومدح لرمضان بإنزاله فيه، وهذا التفسير هو المشهور.

وقيل معنى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ : أَنَّه أنزل في فرضه وإيجاب صومه، فيكون فيه للسبيَّة، كما يُقال: أنزل الله في الصَّلاة كذا، أي: لأجل

الصلاة.

وهو مردود بوجهين:

أحدهما: أنَّه بعيد من مدلول لفظ الآية، منافٍ لسياقها.

ثانيهما: أنَّ القرآن أُنزل في إيجاب الصَّلاة والزَّكاة والحج والجهاد، فما

الحكمة في تخصيص رمضان بأنَّ القرآن أنزل في إيجابه.

ووجه ثالث: ذكره الشَّريف المرتضى، فقال: «هذا التأويل إنَّما هرب متكلفه من شيء، وظن أنه قد اعتصم بتأويله عنه، وهو بعد ثابت على ما كان عليه؛ لأن قوله: الْقُرْهَانُ إذا كان ظاهره يقتضي إنزال جميع القرآن، فيجب على هذا التأويل أن يكون قد أنزل في فرض رمضان

جميع

القرآن

ونحن نعلم أن قليلا من القرآن يتضمن إيجاب صوم رمضان، وأنَّ أكثره خالي

من ذلك.

٣٤

القرآن الكريم

فإن قيل: المراد بذلك أنَّه أنزل في فرضه شيء من القرآن وبعض منه. قيل: فهلا اقتصر على هذا وحمل الكلام على أنَّه أُنزل فيه شيء من القرآن

في شهر رمضان، ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة وفيه بمعنى في فرضه وإيجاب صومه» . اهـ وبالجملة هو من بدع التفاسير.

قوله تعالى: فَالْتَنَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ﴾ [البقرة: ۱۸۷] أي: وابتغوا بمباشرتهنَّ ما كتب الله لكم من الولد، ولا تقصدوا قضاء الشهوة وحده، أو: وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله، وهو الفرج دون ما لم يكتب

لكم حِلُّه وهو الدبر . أو: وابتغوا ما كتب الله لكم من الإباحة بعد الحظر. وقيل: واطلبوا ليلة القدر، وما كتب الله لكم من النواب إن أصبتموها

وقمتموها. قال الزمخشري: وهو قريب من بدع التفاسير. قلت: لم يجعله منها؛ لأنَّ صدر الآية مفتتح بإباحة الجماع ليلة الصيام في

رمضان، كما أن سياق الآيات قبله في رمضان أيضًا، ومع هذا فهو . مدلول اللفظ ومن السياق الذي يقتضي إباحة بعد حظر.

بعيد من

۹- قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة : ۱۸۹]: كان العرب في الجاهلية إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، ودخلوا من ظهورها بنقب يحدثونه في الجدار، إلا قريشا لأنهم سكان الحرم وجيران البيت، فنزلت الآية تبين بطلان هذا العمل، وأنه لا ير فيه. هذا ما صح في سبب نزول الآية، وهو يتمشى مع سياقها، فإنهم لما سألوا عن

بدع التفاسير

۳۵

الهلال واختلاف أحواله أنزل الله تعالى: يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنَّاسِ وَالْحَجَّ وأعقبه بقوله: وَلَيْسَ الْبِرُّيان تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا )

:

حين إحرامكم بالحج وَلَكِنَّ البر بر مَنِ اتَّقَى اللَّهِ وَأتُوا البيوت

إذا أحرمتم بحج أو عمرة من أبوابها ﴾ [البقرة: ١٨٩] وهذا المعنى واضح. وقال أبو عبيدة : معنى الآية: ليس البر بأن تطلبوا الخير من غير أهله،

وتلتمسوه من غير بابه وَأتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أبوابها واطلبوا الخير من

أهله.

عند وجهه، ومن وقال أبو علي الجبائي: خرج هذا الكلام مخرج ضرب المثل، والمعنى: ليس البر أن يأتي الرجل الشيء من خلاف جهته؛ لأنَّ إتيانه من خلاف جهته يُخرج الفعل عن حد الصواب والبرَّ إلى الإثم والخطأ، وبين البر والتقوى، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها، وجعل تعالى ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلا؛

لأنَّ العادل في الأمر عن وجهه، كالعادل في البيت عن بابه.

حكى هذين التأويلين المرتضى في "أماليه" ، وحكى بعدهما تأويلا ثالثا وهو: أن تكون البيوت كناية عن النِّساء، ويكون المعنى: وأتوا النساء من حيث

أمركم الله، والعرب تسمي المرأة بيتا. قال الشاعر: مالي إذا أَنْزِعُها (۱) صَأَيتُ؟ أَكِبَرٌ غَيَّرني أَمْ بَيْتُ؟

(۱) الضمير في أنزعها للدلو، أي مالي إذا نزعت الدلو من البئر صايت - أي: خرج من صدري صوت كأني أنزع شيئًا شديدًا فوق طاقتي فهل أضعفني كبر السن؟ أو قربان الزوجة؟

٣٦

القرآن الكريم

أراد بالبيت المرأة.

قلت: الوجه الذي ذكرناه أولًا هو الصحيح، والوجهان بعده لا يناسبان

سياق الآية، فهما قريبان من بدع التفاسير.

أما الوجه الأخير فمردود، لوجهين

أحدهما: أنَّه لا يوافق سبب النزول، ولا يتمشى مع سياق الآية ونَظْمِها. ثانيهما: أن معناه جاء مصرحًا به في قوله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حيْثُ أَمَرَكُمُ الله فلا فائدة في استنباطه من هذه الآية بطريق الكناية، إلا مجرد التكرار الخالي عن أي نكتة بيانية أو حِكْمَةٍ تشريعيّة، وهذا مما يجب تنزيه القرآن عنه، فالوجه المذكور من بدع التفاسير. ۱۰ - قوله تعالى: أُولَيكَ الداعون بالحسنتين ولَهُمْ نَصِيبٌ ثواب مِمَّا كَسَبُوا من أعمال الحج وغيرها من ال الطَّاعات وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: ٢٠٢ ] يوشك أن يقيم القيامة، ويحاسب العباد، فبادروا إكثار الذكر، وطلب الآخرة، فالمراد بهذا الإخبار بقرب يوم القيامة الذي يكون فيه الحساب، لينال المؤمنون ثواب أعمالهم.

وقيل: المراد وصفه تعالى بسرعة محاسبة الخلائق على كثرة عددهم، وكثرة أعمالهم وتنوعها، ليدل على كمال قدرته، ووجوب الحذر منه، والرغبة في ثوابه، فقد ثبت أنه يحاسب الخلق في مقدار فواق ناقة.

ومن بدع التفاسير : قول بعضهم : المراد: أنه سريع العلم بكل محسوب، وأنه لما كانت عادة النَّاس أن يستعملوا الحساب والإحصاء في أكثر أمورهم،

بدع التفاسير

۳۷

أخبرهم تعالى أنه يعلم ما يحسبون بغير حساب، وسمَّى العِلم حسابًا على

سبيل المجاز، من إطلاق اسم المعلوم على العلم، وهو مردود بوجوه: أحدها: أنَّ العلم بالحساب أو المحسوب، لا يُسمى حسابًا في اللُّغة حقيقةً،

ولا مجازا.

ثانيها: لو فرض تسميته حسابًا، لم يجز أن يقال: سريع العلم بالحساب؛ لأنَّ علمه تعالى بالأشياء مما لا يتجدد فيوصف بالسرعة.

السياق،

ثالثها: أنه لا يناسب سياق الآية، وكثير من المفسّرين يغفل عن ملاحظة ملاحظة واجبه الاعتبار؛ لأنَّ الآيات إنما تترابط وتأتلف وهي بسياقاتها المتناسبة، ولولا ذلك لكانت متفككة غير مترابطة. ومن البدع أيضًا: أنَّ المراد: أنَّ الله سريع القبول لدعاء عباده، مع كثرتهم واختلاف دعواتهم، فيعطي لكل داع ما ينفعه بحد ومقدار. وهذا التأويل –

وإن كان مناسباً لنظم الآية - مردودٌ؛ لأنَّ قبول الدُّعاء لا يسمى حسابًا. ۱۱- قوله تعالى: ﴿ يَسْتَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ [البقرة: ۲۱۷] بدل اشتمال، والمعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام قُلْ قِتَالُ فِيهِ إِثم كبير فهو صفة للمحذوف المقدَّر وَصَدُّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ : مبتدأ، والخبر

اكبر عِندَ اللهِ ، وَكُفْرُ بِهِ معطوف على المبتدأ : صد

عن

المَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ فالمسجد الحرام معطوف على سبيل الله؛ لأنَّ المشركين كانوا يصدُّون النَّاس عن دين الله، ويصدون المؤمنين عن دخول المسجد الحرام والطواف به.

۳۸

القرآن الكريم

وقال المرتضى: المسجد معطوف على الشهر الحرام، والمعنى: يسألونك عن

الشهر الحرام، وعن المسجد الحرام.

وهذا من بدع التفاسير، وهو مردود بوجهين.

أحدهما: الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي.

ثانيهما: أنَّ السؤال عن المسجد، ليس له جواب في الآية. ۱۲- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفُ حَذَرَ

الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَهُمْ ﴾ [البقرة: ٢٤٣] .

ألوف : جمع ألف، وهو يفيد كثرتهم.

وقيل: «ألوف» متآلفون، من الألفة جمع آلف، كقاعد وقُعُود.

وهو من بدع التفاسير، كما قال الزمخشري، وإن حكاه البيضاوي ولم يعترضه وهو بعيد من سياق الكلام لأنه لا معنى لذكر الألفة هنا ولا مناسبه تقتضيها. ومن بدع التفاسير في الآية أيضًا أن معنى الموت الاحتلال، والإحياء الاستقلال. فيكون المعنى: أنَّ الله سلّط على أولئك الألوف قوما استعبدوهم لهم أسباب الدفاع عن بلادهم

واحتلوا : بلادهم، فذلك موتهم، ثُمَّ هيا

وديارهم حتى استقلوا، فذلك إحياؤهم. قرأت هذا التأويل منسوبًا لمحمد عبده (۱) ، لكن لم يأتِ في القرآن موت

(1) كأنه نحا منحى بعض المعتزلة الذين يقولون : إحياء الموتى أمر خارق للعادة، لا يجوز وقوعه إلا معجزة لنبي. ويقولون أيضًا: إنَّ المعارف تصير ضرورية عند معاينة الموت

وأهواله، فيجب إذا عاش أولئك القوم أن يبقوا ذاكرين ذلك؛ لأن الأشياء العظيمة

بدع التفاسير

۳۹

وإحياء بهذا المعنى، ولا كان معروفًا عند العرب وقت نزول القرآن وقبله، ولا يستطيع أحد أن يأتي بشاهد من كلامهم عليه.

والشيخ غفر الله له كثيرًا ما يُفسر آيات القرآن بمعانٍ مُستحدثة لم تكن معروفة وقت التنزيل.

وقد عاب الزمخشري مثل هذا على بعض المفسرين، فقال في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ [البقرة: ۱۷۸]: (فإن قلت: فقد ثبت قولهم: عفا أثره إذا محاه وأزاله فهلا جعلت معناه فمن محي له من أخيه شيء؟ قلت:

لا تنسى مع كمال العقل، وإذا بقيت عندهم تلك العلوم الضرورية امتنع تكليفهم كالحال في الآخرة. وهذا كلام باطل؛ لأنَّ الممتنع هو ظهور الخارق على يد مدعي النُّبوَّة كذبًا كمسيلمة مثلا، أما أن يُظهر الله في ملكه خارقًا من الخوارق تحذيرًا لعباده أو تنبيها لهم - لا على يد أحد - فلم يقم على امتناعه دليل، بل هو جائز. وقد أمات الله الرجل الذي مرَّ على قرية خاوية فتعجب كيف يُجيبها الله بعد موتها ؟!! ثُمَّ أحياه بعد مائة عام فوجد طعامه لم يتغير، وأراه كيف أحيا حماره فهذا الخارق ليس بمعجزة؛ لأنَّه لم يتحدَّ بـ أحد، بل صرح الله أنه جعله آيةٌ للنَّاس على البَعْثِ. ودعواهم . أن الأشياء العظيمة لا تُنسى مردودة بأنّ ظاهر الآية يقتضي أنهم ماتوا فجأة، فلم يعاينوا هولا ولا شدَّةً، ولو سُلّم أنَّهم عاينوا فلا مانع أن ينسوا ما عاينوه بعد إحيائهم؛ لأنهم خُلِقوا خَلْقًا جديدًا. بدليل قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا لَيْلَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِبَ بِنَايَتِ رَبَّنَا وَتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَل بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لعَادُ والمَا نُهُوا عَنْهُوَ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ ﴾ [الأنعام: ۲۷ - ۲۸] ولم يعودوا لما نهوا عنه إلا لأنهم نسوا ما عاينوه.

-

بدع التفاسير

٤١

أنَّ

عدو أو غيره، ذكر قصة هؤلاء القوم الذين هربوا من الموت، ليبين لهم قضاء الله نافذ لا يردُّه حَذَر حاذرٍ ولا حِرْص حريص، وحيث ثبت ذلك

"المسند"

فإقامة الصلاة في حالة الخوف والشدة أوجب على أهل الإيمان وأليق بهم؛ لدلالتها على وثوقهم بالله واطمئنانهم إلى أحكامه واستسلامهم لقضائه. (تنبيه): ثبت في السُّنَّة إطلاق الذلّ كناية عن الاحتلال، ففي و"سنن أبي داود"، و " ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا ضنَّ النَّاس بالدينار والدرهم واتبعوا أذناب البقر (۱) وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم ذلا فلم يرفعه حتى يراجعوا دينهم».

ولا شك أنَّ الذل الذي يترتب على ترك الجهاد، هو احتلال العدو لبلاد المسلمين، وتحكمه في شئونهم. وهذا من الكنايات الواضحة التي لا تحتاج إلى

كبير تأمل. ۱۳- قوله تعالى: إِنَّ عَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [البقرة: ٢٤٨] سكينة: سكون وطمأنينة. والمعنى: أنهم إذا رأوا التابوت سكنت قلوبهم واطمأنت.

ومن بدع التفاسير ما حكاه الزمخشري ولم يتعقبه: أنَّ السَّكينة صورة من زبرجد أو ياقوت، كانت في التابوت لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه، وجناحان فتين فيزف التابوت نحو العدو، وهم يمضون معه، فإذا استقر،

(۱) اتباع أذناب البقر كناية عن الاشتغال بحراثة الأرض وزراعتها.

٤٢

القرآن الكريم

ثبتوا وسكنوا، ونزل النصر.

وحكى أيضًا عن علي رضي الله عنه: أنَّ السَّكينة لها وجه كوجه الإنسان، وفيها ريح هقافة.

قلت: لكن لم يصح عنه، فإن قيل : فما تفعل بحديث "الصحيحين": أنَّ أسيد بن حضير كان يقرأ في ليلة سورة البقرة، فرأى مثل الظُّلَّة، فيها أمثال الشرج تغشاه في مكانه، حتى أضاء المكان ونفرت الفرس، فسكت مخافة أن تصيب الفرس ابنه الذي كان قريبا منها وذهبت، فلما أصبح أخبر النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «تلك السَّكينةُ تَنزَّلَت بقراءتك، ولو قرأت لأصبحت يراها النَّاسُ لا تَسْتَتِرُ منهم». فهذا يفيد أنَّ السَّكينة جسم يُرى؟ قلت: حقيقة السَّكينة ما قدَّمناه في تفسير الآية، أما الحديث فهو من باب مجاز الحذف والتقدير تلك أثر السَّكينة وبيان ذلك: أنَّ قارئ القرآن تنزل

الله عنه -

عليه السكينة، كما ثبت في "صحيح مسلم"، فحيث تلا أُسيد -رضي ا (سورة البقرة) نزلت السَّكينة عليه في قلبه وكان من أثر نزولها عليه، وتحققه بها إكرام الله له بهذه الكرامة التي أنارت له المكان وما فيه(۱)، وفيها إشارة إلى أنَّ القرآن يفتح الأبصار والبصائر، وينور البواطن والظواهر.

١٤- قوله تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: ٢٥٥] حرف بعض المتصوفة هذه الآية إلى من ذلَّ ذي -يعني نَفْسَه - يشفع عنده،

(۱) وثبت في رواية في الصحيحين" أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لأسيد: «تلك الملائكة تنزلت لقراءة سورة البقرة، ولو قرأت لأصبحت يراها النَّاس ما تَسْتَيّر منهم.

بدع التفاسير

٤٣

يقصد أنَّ من أذل نفسه يشفع عند الله، وغفل عن الاستثناء الذي يصفعه، كما غفل لجهله - عن أنَّ فعل ذل لازم.

ونظير هذا شرح متصوّف آخر ، قوله عليه الصلاة والسلام - في حديث جبريل الطويل -: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك» على معنى : فإن لم تكن أي: تصر بأن فنيت عن نفسك تراه. ونسي أن «تراه» يجب أن يكون مجزوما ؛ لأنَّه جواب الشرط، وهو مرفوع في الحديث، كما نسي أن قوله : « فإنَّه يراك» يكون على شرحه زائدا لا معنى له.

١٥ - قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [البقرة: ٢٥٥] الكرسي مخلوق عظیم، نسبة السموات والأرض إليه كحلقة في فلاة من الأرض، وهو بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاةٍ من الأرض، والآية تبين عظم قدرة الله تعالى؛ لأن الكرسي وهو بعض مخلوقاته، يسع الدُّنيا بسمواتها وأرضها ومن

فيها وما فيها.

ومن بدع التفاسير ، قول المعتزلة : الكرسي هو العلم والمعنى: وسع علمه السموات والأرض، لجأوا إلى هذا التفسير لإنكارهم الكرسي والعرش ونحوهما مما ثبت به النَّص.

وقد نعى عليهم ابن قتيبة ذلك، فقال في "تأويل مختلف الحديث " : وفسروا القرآن بأعجب تفسير ، يريدون أن يردُّوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريقٌ منهم في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) أي : علمه . وجاؤا على ذلك بشاهد لا يعرف و هو قول الشاعر: * ولا يكرسئ عِلْمَ الله مخلوق

٤٤

كأنه

القرآن الكريم

عندهم ولا يعلم علم الله مخلوق، والكرسي غير مهموز، ويكرسئ مهموز، يستوحشون أن يجعلوا الله كرسيا » . اهـ

قلت: لا شكّ أنَّ الشَّطر المذكور مصنوع، وماذا يضيرهم أن يكون من مخلوقات الله عرش وكرسي؟ إلَّا أن يكونوا توهموا أنهما موضع استواء الله تعالى ووضع قدمه كما قال به بعض المجسمة، وهو توهم يقضي العقل ببطلانه لاستحالته في حق الله تعالى.

وفي " الكشاف" في قوله: وَسِعَ كُرْسِيه أربعة أوجه: أحدها: أن كرسيه لم يَضِق عن السَّموات والأرض، لبسطه وسعته وما هو

إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد. قلت: هذا من بدع التفاسير أيضًا، وهو مبني على توهم أنَّ الكرسي موضع القُعُود، وهو توهم باطل كما مرَّ، وإطلاق التخييل في جانب الله تعالى لا يجوز؛ لأنَّه منزّه عنه. عاد كلامه.

والثاني: وسع علمه، وسُمِّيَ العلم كرسيا، تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.

قلت: لا يوجد إطلاق الكرسي على العِلم في اللغة العربية، إذا استثنينا ذلك الشطر المصنوع، وحاول بما ذكره أن يجعله مجازا مرسلًا من إطلاق المحل وإرادة الحال، ولكنها محاولة فاشلة.

إذ الكرسي ليس مكانًا للعالم، بل هو مكان لمن يجلس عليه من عالم وجاهل وبليد وذكي، فإن صح تسمية العِلم كرسيا لكونه مكان العالم، صح

بدع التفاسير

٤٥

تسمية الجهل والبلادة والذكاء كرسيا لعلاقة المكانية أيضًا!! وكذلك يصح إطلاق الشرير على العلم والجهل للعلاقة نفسها !! وما أظنُّ الزمخشري أخفق في تقرير مجاز مثل إخفاقه هنا، والعجيب أنه حين تكلم على قوله تعالى : إذ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ﴾ [الأنفال: ٤٣] وفسر منامك برؤياك، قال: وعن الحسن في منامك: في عينك؛ لأنّها مكان النوم، كما يقال للقطيفة: المنامة؛ لأنه ينام فيها. وأعقبه بقوله : وهذا تفسير فيه تعسُّف وما أحسب الرواية عنه

صحيحة، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته !!

ولولا تقديسه للحسن؛ لأنَّه يعتبره شيخ المعتزلة (1) ورئيسهم، لعد كلامه هنا من بدع التفاسير، وما قاله عن هذا التفسير، يقال عن تفسير الكرسي بالعلم، على أنَّ العين مكان للنوم حقيقةً، أما الكرس فلا علاقة له بالعلم. عاد كلامه.

والثالث: وسع ملكه، تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.

قلت: جعل الكرسي هنا مجازًا عن الملك، وهو من بدع التفاسير أيضًا؛ لأنَّ العلاقة يجب أن يكون لها مزيد اختصاص بالمعنى الذي تجوز له، وعلى هذا فالذي يصح أن يتجوز به عن الملك هو العرش أو التاج أو المقاليد؛ لأنَّ هذه الأشياء لا

(۱) لأنَّ الحسن البصري شيخ واصل بن عطاء الغزال البصري رئيس المعتزلة وإمامهم، لكن الحسن برئ من مذهبهم، رغم نقلهم عنه أشياء توافقهم، وهي إما غير صحيحة عنه، وإما مؤولة. وقد قيل في سبب تسميتهم معتزلة: أنَّ الحسن لما سمع كلام واصل في القدر وخَلْقِ الأفعال وغير ذلك من مسائلهم التي تخالف ما كان عليه الصحابة، قال له: اعتزل مجلسنا .

٤٦

القرآن الكريم

توجد إلا عند الملوك، وهي مظاهر ملكهم، أما الكرسي فلا اختصاص له بالملوك، ولا مظهر فيه من مظاهر الملك وأبهته، وهو موجود عند . جميع الرعايا فقرائها وأغنيائها، فلا يصح جعله كناية عن الملك. ولو قرأت قوله تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الشورى: ۱۲] أو وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: ١٢٩]

لوجدت الكناية عن الملك فيه واضحة، بخلاف وَسِعَ كُرْسِيُّهُ . والرابع: ما رُوي أنَّه خلق كرسيا هو بين يدي العرش، دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء.

قلت: ذكر هذا الوجه بصيغه التضعيف؛ لأنه يخالف رأي المعتزلة، مع أنه هو الصحيح كما مرَّ، وذكر عن الحسن أنَّ الكرسي هو العرش، وهذا غير صحيح. والعجب أنَّ مَنْ بعده كالبيضاوي وأبي السعود والسيوطي قلدوه، فذكروا في معنى الكرسي هنا العِلْم ،والملك، غير مدركين أنَّ هذا المعنى من اختراع

المعتزلة، هربا من الاعتراف بحقيقة الكرسي كما ثبت في السنة (۱) !!

(۱) قوله تعالى : الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُشْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنَّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: ٢٦٢]: مَا أَنفَقُوا مفعول أول لا يُشْبِعُونَ ،

ومنا مفعول ثاني، وأذى } معطوف عليه.

و من بدع التفاسير: جعل أذى اسم لا والخبر محذوف، والمعنى: ولا أذى حاصل منهم نقله ابن حجر في "الزواجر " عن بعضهم واستبعده.

قلت: بل هو باطل، يخالف .

وأذى في الآية منصوب.

رسم

المصحف؛ لأنَّ اسم «لا» يبنى معها على الفتح،

بدع التفاسير

٤٧

١٦ - قوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَتْهُمَا فَتُذَكَرَ إِحْدَانَهُمَا الأُخرى ﴾ [البقرة: ۲۸۲] معنى الآية: أنه إن لم يوجد رجلان يشهدان فليشهد رجل وامرأتان، لأجل أن تذكر إحدى المرأتين الأخرى إذا نسيت، فلفظ «تُذكَّر من التذكير ضد النسيان، وهو واضح. ومن بدع التفاسير كما يقول الزمخشري : فتذكر، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذَّكر، وهذا لا يتلاقى مع قوله:

أن تَضِلَّ إِحْدَبُهُمَا ﴾ [البقرة: ۲۸۲] .

ومن سورة آل عمران

۱ - قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُرغ تُمِل قُلُوبَنَا عن الحَقِّ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا

إليه وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحْمَةً تثبيتاً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: ۸] . هذا دعاء الراسخين في العلم يدعون الله ألا يزيغ قلوبهم عن الحق وأن يثبتهم عليه ، حكى الله دعاءهم في معرض الثَّناء عليهم وهو دعاء واضح ليس

فيه غموض. ولكن المعتزلة الذين يرون أنَّ الله لا يزيغ القلوب، وإنَّما يزيغها أصحابها، رأوا هذا الدعاء غامضًا يحتاج إلى تأويل.

فقال أبو علي الجبائي: المراد بالآية: ربنا لا تزغ قلوبنا عن ثوابك ورحمتك، ومعنى هذا السؤال : أنهم سألوا الله تعالى أن يلطف بهم في فعل الإيمان، حتى يقيموا عليه، ولا يتركوه في مستقبل عمرهم فيستحقوا بترك الإيمان أن تزيغ

بدع التفاسير

٤٩

التواء، فكان يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وسألته أم سلمة - رضي الله عنها - عن هذا الدعاء الذي كان يكثر منه، فقال لها: «إنَّ قلوبَ بني آدم كلَّها، بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب

واحد، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغَه».

وقال المرتضى: «المراد بالآية: ربنا لا تشدّد علينا المحنة في التكليف، ولا تشق علينا فيه، فيفضي بنا ذلك إلى زيغ القلوب منا بعد الهداية، وليس يمتنع أن يضيفوا ما يقع من زيغ قلوبهم عند تشديده تعالى عليهم المحنة إليه، كما قال عز وجل: إنَّها يعني الآية - رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ [التوبة: ١٢٥] وكما قال

مخبرا عن نوح عليه السلام: فَلَمْ يَزِدْ هُوَ دُعَاءِ وَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ [نوح: 1]. فإن قيل: كيف يشدّد عليهم في المحنة؟ قلنا: بأن يُقوي شهواتهم لما قبَّحه في عقولهم، ونفورهم عن الواجب عليهم، فيكون التكليف عليهم بذلك شاقا، والنواب المستحق عليه عظيما متضاعفًا، وإنما يحسن أن يجعله شاقًا، تعريضًا لهذه المنزلة. قال: ويجوز أن يكون ذلك دعاء بالتثبيت لهم على الهداية، وإمدادهم بالألطاف التي معها يستمرون على الإيمان. فإن قيل: وكيف يكون مزيفًا لقلوبهم بألا يفعل اللطف؟ قلنا: من حيث كان المعلوم أنه متى قطع إمدادهم بألطافه وتوفيقاته، زاغوا وانصرفوا عن الإيمان، ويجري هذا مجرى قولهم: «اللهم لا تسلّط علينا من لا يرحمنا». معناه: لا تخل بيننا وبين من لا يرحمنا، فيتسلط علينا، ومنه قول الشاعر: أناني ورحيلي بالمدينة وقعة لآل تميم أقعدت كل قائم

القرآن الكريم

أراد: قعد لها كل قائم فكأنّهم قالوا لا تخل بيننا وبين نفوسنا، وتمنعنا ألطافك، فنزيغ ونضل» . اهـ

وقال الزمخشري : رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا بعد

العالم

إِذْ هَدَيْتَنَا وأرشدتنا لدينك. أو : لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا» . اهـ قلت: ليس ببعيد أن يكون هذان التأويلان ملخصين مما سبق، والمرتضى - وإن كان إماميًا - فالإمامية يوافقون المعتزلة في مسائل؛ منها هذه، ومسألة العدل، وامتناع رؤية الله تعالى.

وهذان التأويلان من بدع التفاسير رغم إطالة المرتضى في توضيحها

ودعمهما بالاستشهاد والتنظير ، وبيان ذلك من وجوه. الأول: أنَّ الدُّعاء مما لا يدخله مجاز ولا كناية؛ لأنه توجه إلى الله تعالى،

ورغبة إليه، والمتوجّه الرّاغب أشغل من أن يلاحظ العلاقة المصححة للمجاز، والقرينة المانعة من الحقيقة، أو يطلق اللفظ ويريد لازم معناه، أو ينوي مضافًا محذوفا، إلى غير ذلك مما يحسن استعماله في مقامات أخرى كالخطب مثلا، وانظر إلى الدعوات الواردة في القرآن في (سورة البقرة) و(آل عمران) و(غافر) و (نوح) وغيرها، تجدها خالية من المجاز، وهذا مما يغفل عنه المفسرون فيقعون في خطأ كبير كما حصل هنا. أنَّ الدُّعاء يحسن فيه الإطناب، تلذذا بخطاب الله تعالى ومناجاته،

الثاني: :

وبسطا لمطالب العبد بين يدي خالقه، وعلى هذا لو صح ما قدره المعتزلة في الآية، لكان الواجب أن يصرح به فيها بأن يقال: ربنا لا تشدّد علينا المحنة في

بدع التفاسير

۵۱

التكليف، ولا تبلنا ببلايا تزيغ بها قلوبنا، ولا تقطع إمدادنا بتوفيقاتك، ولا تمنعنا ألطافك حتى نستمر على الإيمان بك.

لأنَّ المقام كما قلنا مقام إطناب، وهكذا دعوات القرآن، فيها إطناب وفيها

تكرار لكلمة رَبَّنَا ، وهو نوع من الإطناب.

الثالث: إذا كان الباعث لهم على تأويل الإزاغة بما ذكروه، أنَّ الإزاغة قبيحة والله لا يفعل القبيح، فقد وقعوا فيما هربوا منه حيث أولوا: لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا ، بمعنى: لا تمنعنا ألطافك فتزيغ قلوبنا، ومنع الألطاف قبيح أيضًا؛ لأنه بُخل، والله منزه عنه؛ ولأنه يؤدي إلى الإزاغة حتما، وما أدى إلى القبيح قبيح؛ ولأنَّه لا يؤدي إلى استحقاق ثواب وتضعيفه، فلم تكن فيه جهة حسن أصلا، وكذلك التخلية بينهم وبين نفوسهم قبيحة أيضًا؛ لأنَّ نتيجتها المحتمة الإزاغة والضلال، فحالهم في تأويلاتهم التي وقعوا بها فيما فروا منه أشبه بالقائل :

كأننا والماءُ مِنْ حَوْلِنا قوم جُلُوسٌ حَولهم ماءُ ۲ - قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَن يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر ﴾ [آل عمران: ٤٧] لما بشرت الملائكة مريم بعيسى عليهما السّلام قالت متعجبةً، تخاطب الله تعالى: رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَوْ يَمْسَسْنِي بَ

ومن بدع التفاسير كما يقول الزمخشري : أن قولها: ربِّ. نداء الجبريل عليه السلام بمعنى يا سيدي. قلت: هذا نداء الله تعالى حصل منها على سبيل التعجب والدهشة، حين سمعت ما لم يخطر لها على بال ، أمَّا مخاطبتها الجبريل فهي مذكورة في (سورة مريم).

۵۲

القرآن الكريم

۳- قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِي أَن يَغُلَّ [آل عمران: ١٦١] ذكر فيه الزمخشري وتبعه البيضاوي وجهين:

أحدهما: أنَّه تبرئة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من الغُلُول، وتنزيه له وتنبيه على عصمته بأنَّ النبوة والغُلُول متنافيان. وهذا الوجه هو الصحيح، وهو الموافق لسبب النزول فقد صح أن قطيفة حمراء فُقدت يوم بدرٍ من المغنم. فقال بعض المنافقين:

لعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها، فنزلت الآية.

وتؤيده أيضًا قراءة ورش يغل بالبناء للمجهول، وهي أبلغ في التبرئة والتنزيه؛ لأن معناها وما كان لنبي أن يُنسب إلى الغُلُول، فهو نهي عن نسبته للغُلُول، في صورة نفي وهو أقوى كما لا يخفى.

والثاني: أن يكون مبالغة في النَّهي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه على ما روي بعث طلائع فغنمت غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع، فنزلت. يعني: وما كان لنبي أن يعطي قومًا ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم

بالسويَّة، وسمَّى حرمان بعض الغُزَاة غُلُولًا، تغليظا وتقبيحًا لصورة الأمر. قلت: هذا من بدع التفاسير، ورواية بعث طلائع وعدم قسمته لها لا (١) ، وحمل الغُلُول على الحرمان بعيد من مدلول اللفظ، وتأييده بالتغليظ

تصح

والتقبيح إساءة في حق الجناب النَّبوي الكريم، مع مخالفتها لأسلوب القرآن؛ إذ ليس فيه آية تشتمل على تغليظ في مخاطبته أو تقبيح لشيء فعله، بل فيه من

(۱) رواها ابن أبي شيبة عن الضَّحَّاك مرسلًا، فهي مرسلة ضعيفة.

بدع التفاسير

۵۳

دلائل تكريمه في الخطاب ما يطول تتبعه. وانظر كتابنا "دلالة القرآن المبين على أنَّ النبيَّ أفضل العالمين".

(تنبيه): صح أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم آثر في قسمة الفيء في بعض المغازي، لكنه إيثار لمصلحة الدَّعوة، ولتأليف ضعفاء الإسلام؛ لذا لم يعنفه الله عليه ولا لامه، ففي غزوة حنين حين أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل،

وأعطى عُيِّينَة بن حِصْنٍ مثله، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم. فقال رجل: والله إنَّ هذه قسمةٌ ما عُدِل فيها، وما أريد فيها وجه الله. فأخبره ابن مسعود رضي الله عنه، فتغيّر وجهه صلَّى الله عليه وآله وسلّم حتى كان كالصرف - بكسر الصاد: صبغ أحمر - ثم قال: «يرحم الله موسى قد أُوذي بأكثر من هذا فصبر» والحديث في "الصحيحين". وأخشى أن يكون الزمخشري قد آذاه صلَّى الله عليه وآله وسلم بتفسيره

المذكور.

ومن سورة النساء

۱- قوله تعالى: وَالَّنِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي

المَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } [النساء: ٣٤].

أمر الله تعالى في النَّاشِزات بوعظهنَّ ، ثمَّ بهجرهنَّ في المضاجع، ثمَّ بضر بهنَّ

ضربا غير مبرح، إن لم ينفع فيهنَّ وعظ ولا هجر.

وقيل في معنى وَاهْجُرُوهُنَّ : أكرهوهُنَّ على الجماع، واربطوهنَّ

٥٤

بالهجار من هجر البعير إذا ربطه بالهجار )

(۱)

القرآن الكريم

قال الزمخشري: وهذا من تفسير الثَّقلاء»، وصدق فيما قال، فإنّها إذا كانت ناشزة عاصية لزوجها، فكيف يليق به أن يكرهها على الجماع ويربطها لأجله، إلَّا إذا كان سمجاً ثقيلاً ؟! وهو أيضًا من بِدَع التفاسير؛ لأنَّه عُدُولٌ عن

اللغة المشهورة والمناسبة للسّياق إلى لغة غير مشهورة ولا مناسبة.

۲- قوله تعالى: وَإِن تُصِبْهُمْ ﴾ أي: اليهود حَسَنَةٌ نعمة كخصب وسَعَة يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ محنةٌ كجدب وضيقٍ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عندك يا محمد ، أي: بشؤمك قل لهم كل من الحسنة والسيئة مِنْ عِندِ ا من قبله فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ لا يقاربون أن يفهموا

حَدِيثًا يُلقى لنبيهم، والقصد بالاستفهام التعجب من فرط جهلهم. ما أَصَابَكَ الخطاب للنبي ، والمراد أفراد أمته مِنْ حَسَنَقوم من نعمة ين الله ما أتتك فضلا منه وَمَا أَصَابَكَ مِن سَنة بلية فمن نَفْسِكَ أنتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذُّنوب وَأَرْسَلْنَكَ يا محمد لِلنَّاسِ رَسُولاً

(1) الهجار - بكسر الهاء حبل يُشدُّ به البعير والعجيب أن ابن جرير الطبري اختار هذا التأويل مع بعده وشدوده!!

ولذا قال أبو بكر ابن العربي المعافري : يا لها من هفوة عالم بالكتاب والسُّنَّة». لكن الحامل له على اختيار هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب، عن مالك، عن أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير بن العوام وانظر كتاب "أحكام القرآن" لابن العربي و"تفسير القرطبي".

٥٦

القرآن الكريم

ينسبون النعم إلى الله، والمحن إلى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله ذلك مخبرًا بمقالتهم الفاسدة ، ثم ردَّها بقوله: قُلْ كُل مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ [النساء: ۷۸] مبينا لمصدرها الأصلي ثمَّ السبب فخاطبه صلَّى الله عليه وآله وسلم، والمراد غيره بقوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة [النساء: ٧٩] أي: نعمة، كخصب ونصر فمن الله، أي من محض فضله، إذ لا يستحق أحد عليه تعالى شيئًا، وما أصابك من سيئة أي محنة كجدب وهزيمة، فمن نفسك أي: من أجل عصيانها، فهي من الله لكن بسبب ذنب النفس عقوبة لها، كما قال تعالى: وَمَا أَصَبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [الشورى: ٣٠].

وقال إبراهيم عليه السَّلام وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: ۸۰] فأضاف المرض لنفسه، والشفاء إلى الله تعالى رعايةً للأدب؛ لأنَّه تعالى إنَّما يضاف إليه على الخصوص الشَّريف دون الخسيس، فيقال: يا خالق الخلق، ولا يقال يا خالق القردة والخنازير، ويقال : يا مدبّر السموات والأرض، ولا يقال: يا مدبر العمل والخنافس، فكذا هنا. وأما ما شنّع به على من قرأ أفمن نفسك؟ بالاستفهام، فهو من جملة افترائه كشيعته، إذ أهل السُّنَّة لم يعوّلوا على هذه القراءة، ولا جعلوها حُجَّةً، وإنما الحق في ذلك: أنَّه إن صح أنه قرأ بها أحدٌ من الصحابة والتابعين وجب قبولها، وتكون حينئذ دليلًا عليهم؛ لأنَّ القراءة الشاذة إذا صح سندها كالخبر الصحيح في الحُجَّيَّة على الأصح، وإن لم يصح ذلك لم يلتفت إليها، وليست الحجية مفتقرة إليها» . اهـ ملخصا.

بدع التفاسير

OV

ومن أراد الوقوف عليه بتمامه فليقرأه في مبحث التكذيب بالقدر من "الزواجر". والاستفهام المشار إليه في القراءة الشاذة، وجه كونه دليلا على المعتزلة أنه استفهام انكاري قطعًا ينكر على من يجعل الحسنة من الله والسيئة من العبد، والمقصود أنَّ الجبائي أخطأ في الكلام على هذه الآية خطأ فاحشا لا

يقع من صغار المبتدئين، بسبب حرصه الشديد على نصرة مذهبه.

قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: ١٦٤] معنى الآية: أنَّ الله تعالى أسمع موسى كلامه، وأكد بالمصدر لينفي عنه احتمال المجاز، ولذا

سُمي موسى كليم الله.

ومن بِدَع التفاسير كما قال الزمخشري : أنَّ كلَّم من الكلم، بسكون اللَّام

وأنَّ المعنى: وجرح موسى بأظفار المحن، ومخالب الفتن. قلت: هذا تفسير خاطى؛ لأن صاحبه تعمَّد تحريف معنى الآية، حتى لا

يضطر إلى الاعتراف بنسبة الكلام إلى الله تعالى.

ومن سورة المائد

:

قوله تعالى: إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوا بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: ۲۹] استشكل المعتزلة هذه الآية، فقالوا: كيف يجوز أن يخبر الله عن هابيل - وقد وصفه بالتقوى - أنه يريد أن يبوء أخوه بالإثم وهو قبيح؟ وإرادة القبيح قبيحة؟ وأجاب المرتضى وهو من الإمامية الذين يوافقون المعتزلة في هذه

۵۸

القرآن الكريم

المسألة - بأنَّ في الكلام مضافًا محذوفًا، وأنَّ المعنى: إني أريد أن تبوء بعقوبة

إثمي وعقوبة إثمك، والدليل على هذا المضاف المحذوف، قوله: وَذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ ) قال : وليس بقبيح أن يريد نزول العقاب المستحق بمستحقه. قلت: والأشعريَّة :يقولون: كان لا بد لهابيل من أحد أمرين: إما أن يدافع

عن نفسه فيأثم بقتل أخيه، وإما أن يستسلم فيأثم أخوه بقتله، ولم يُرد الأول فاضطر إلى الثاني، فلم يُرد إثم أخيه إلَّا من حيث اختياره الاستسلام على المقاومة. وهذا كما يتمنى المسلم الشَّهادة، ومعناها: أن يبوء الكافر بإثم قتله، مضموما إلى إثم كُفّره. فالمسلم لم يقصد هذا المعنى الذي هو لازم لتمنيه الاستشهاد في سبيل الله.

وظهر لي وجه آخر، وهو أن يكون غرض هابيل وعظ أخيه وتذكيره بمصيره عند الله إن قتله، حتى يرتدع وينزجر، فلم يُرد بكلامه إلا تهديد أخيه

وزجره

ومن بدع التفاسير ما حكاه المرتضى بقوله: «وقد ذكر قوم في الآية وجها آخر، وهو أن يكون المراد: إنّي أريد زوال أن تبوء بإثمي وإثمك؛ لأنه لم يرد له

إلَّا الخير والرشد. فحذف زوال، وأقام أن وما اتصل بها مقامه.

كما قال: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [البقرة: ٩٣]. أي: حبَّ العجل، حَذَفَ حب، وأقام العِجْل مقامه، وكما قال تعالى:

وَثَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: ۸۲] أي: أهلها».

قال: «وهذا قول بعيد؛ لأنه لا دلالة في الكلام على محذوف، وإنما

بدع التفاسير

۰۹

تستحسن العرب الحذف في بعض المواضع، لاقتضاء الكلام المحذوف،

ودلالته عليه» . اهـ

أي: كالآيتين المذكورتين، فإنَّ الحذف فيهما اقتضاه الكلام ودلّ عليه؛ لأنَّ العجل لا يشرب في القلوب ولكن حبه يشرب فيها. ولا تُسأل القرية ولكن يُسأل أهلها. ومما يبعد ذلك التأويل أيضًا، قوله تعالى: وَذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ . (تنبيه): قوله : وبِإثْمِي وَإِثْمِكَ معناه : بإثم قتلي، وإثمك الذي لم يقبل قربانك لأجله، فإضافة إثم الأوّل إلى مفعوله وهي . سائغة شائعة في اللغة العربية، وإضافة الثاني إلى فاعله.

ومن سورة الأنعام

۱- قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللهِ رَبْنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أَنظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: ٢٢ - ٢٤].

معنى الآية: أنَّ المشركين حين يجمعهم الله يوم القيامة، ويسألهم عن شركائهم الذين كانوا يزعمونهم آلهة في الدُّنيا، يتنصلون منهم، و ويحلفون أنهم ما كانوا مشركين، هذا وهم يعلمون أنهم كاذبون في حَلِفهم وتنصلهم، لكنهم كالغريق يتمسك بما يتوهم أنَّه يُنجيه، وإن كان لا ينفعه.

قال الزمخشري : وقول من قال : معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا، وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله : أَنظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ يعني: في الدنيا، تمحل وتعسُّفُ وتحريفٌ لأفصح الكلام إلى ما هو عي،

٦٢

القرآن الكريم يُنسينك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين؛ لأنها مما تُنكره العقول فلا تقعد بعد الذِّكْرَى، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم.

قلت: هذا تعسف كبير، وقَسْرُ لألفاظ الآية على أن تفيد مذهبه الاعتزالي

في التحسين والتقبيح العقليين.

ومن سورة الأعراف

۱ - قوله تعالى: قَالَ فَمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الأعراف: ١٦] أي: فبسبب إغوائك إيَّاي، لأقعدن لهم.

ومن بدع التفاسير: قول من جعل «ما» استفهامية، أي: فبأي شيء أغويتني؟ ثم ابتدأ الأقعُدَنَ . قال الزمخشري: «وإثبات الألف إذا أُدخل حرف الجرّ على ما الاستفهامية قليل شاذ» اهـ أي: لا يصح تخريج القرآن

عليه. ثم الاستفهام لا معنى له هنا.

۲- قوله تعالى : وقال إبليس لآدم وحواء عليهما السَّلام مَا نَهَنكُمَا رَبُّكُمَا

عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا : كراهة أن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ [الأعراف: ۲۰]. استدل المعتزلة وبعض الأشعريَّة بهذه الآية على أنَّ الملائكة أفضل من الأنبياء، وأجاب عنها ابن المنير في "الانتصاف"، والبيضاوي في "تفسيره"(۱)

(۱) عقيدتي في هذا: أنَّ الملائكة أفضل من الأنبياء، إلا نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم وإبراهيم وموسى عليهما السلام؛ فهم أفضل وبيان ذلك ينظر في كتابي "دلالة القرآن المبين على أنَّ النبيَّ أفضل العالمين"، وهو مطبوع.

٦٤

القرآن الكريم

ويقولون بتلازم المشيئة والمحبة والأمر. فالآية على رأيهم مشكلة وقد أجابوا عنها بتأويلات، ذكرها المرتضى في "أماليه " ، وهو من الإمامية وهم يوافقون المعتزلة في هذه المسألة.

وأنا أذكر منها ما هو داخل في بدَع التفاسير، مع بيان وجه دخوله:

قال المرتضى: «في هذه الآية وجوه: الأول: أن تكون الملة التي عناها الله إنَّما هي العبادات الشرعيات التي كان قوم شعیب متمسكين بها، وهي منسوخة عنهم، ولم يعن ما يرجع إلى الاعتقادات في الله وصفاته مما لا يجوز أن تختلف العبادة فيه فكأنه قال: إن ملتكم لا نعود فيها، مع علمنا بأنَّ الله تعالى قد نسخها وأزال حكمها، إلا أن يشاء الله أن يتعبدنا بمثلها فنعود إليها .

قلت: هذا باطل لوجوه: أحدها: أن شعيبا - عليه السَّلام - دعا قومه إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، وإلى إيفاء الكيل والميزان بالعدل، ولا شك أنَّ التوحيد والعدل لا

يدخلهما نسخ؛ لأنها مما لا يجوز فيه الاختلاف لقبح نقيضهما قبحا ذاتيا. ثانيها: أنه لم يأتِ في القرآن ولا ثبت في التاريخ أن قوم شعيب كانوا متمسكين بشريعة جاءهم شعيب بنسخها فكيف يحمل الآية على معنى لا يستطيع لإثباته دليلا؟

ثالثها: أنَّ ما قدَّره في الآية لم يثبت في نفسه كما سبق في الوجه قبله، ولم يقم

على تقديره فيها دليل، ومن ثَمَّ كان من بدع التفاسير.

قال: وثانيها : أنه أراد أنَّ ذلك لا يكون أبدًا من حيث علقه بمشيئة الله

بدع التفاسير

70

تعالى، لما كان معلومًا أنَّه لا يشاؤه. وكلُّ أمرٍ عُلق بما لا يكون فقد نُفي كونه على أبعد الوجوه وتجري الآية مجرى قوله تعالى: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجملُ فِي سَةِ الْحَيَاطِ} [الأعراف: ٤٠]. قلت: هذا الوجه شبيه بما يسمى بالمصادرة، فقد جعل مذهبه في عدم تعلق المشيئة بالكفر قرينة في الآية على استحالة عودة شعيب إلى ملة قومه، وما يؤمنه أن يجعل مخالفوه تعليق العودة على المشيئة دليلا على إمكانها؛ لأنَّ المشيئة لا تتعلق بالمستحيل، بدليل قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: ١٠٨] والآية التي نظر بها تشير إلى غلطه من حيث لا يشعر، ذلك أنَّ استحالة ولوج الجمل في سمّ الخياط مما وقع عليه اتفاق العقلاء، بخلاف تعلق المشيئة

بالكفر، فقد قال بوقوعه معظم فرق المسلمين. فهذا الوجه باطل أيضًا. قال: ورابعها ما ذكره قُطّرب بن المستنير، من أنَّ في الكلام تقديما وتأخيرا، وأن الاستثناء من الكفَّار وقع لا من شعيب، فكأنه تعالى قال حاكيا الكفَّارِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا

[الأعراف: ۱۸۸ ثمَّ قال تعالى حاكيًا عن شعيب : وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا ﴾ [الأعراف: ۸۹] على كل حال.

قلت: يكفي دليلا على بطلانه ما فيه من تفكيك نظم الآية، وإخراجها من حد الفصاحة والإعجاز إلى الرَّكاكة والألغاز، فهي على تقديره أشبه بقول

الفرزدق:

وما مِثْلُهُ في النَّاسِ إِلَّا مُمَلَّكًا أبو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُـه

٦٦

القرآن الكريم اللام

أصل البيت وما مثله في النَّاس حي يُقاربه إِلَّا ملكًا - بفتح المشدّدة - أبو أمه -أي: الملك - أبوه أي أبو الممدوح، وهو مدح لخال أحد ملوك بني أمية. فالبيت في غاية الركة بما حصل فيه من تقديم وتأخير، ولا يجوز حمل الآية على تأويل يورثها تعقيدا وركاكة، فهذا الوجه من بدع التفاسير، وهو من الأدلة على ضعف قطرب في النحو، كما قيل عنه.

قال: وخامسها أن تعود الهاء في قوله : فيها إلى القرية لا إلى الملة؛ لأنَّ

ذكر القرية قد تقدم، كما تقدم ذكر الملة.

قلت: أقرب مذكور هو الملة في قوله تعالى : قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّيْكُم بَعْدَ إِذْ نَجَيْنَا اللهُ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: ۸۹] فيتعين عود الضمير إليها، لا

سيما وهي المقصود من المراجعة بين شعيب وقومه، فالعدول عنها إلى القرية من بدع التفاسير. قال: وسادسها: أن يكون المعنى إلا أن يشاء الله أن يمكنكم من إكراهنا فنعود إلى إظهارها مُكْرَهين ، ويُقوّي هذا الوجه قوله تعالى: أَوَلَوْ كُنَّا كَرِهِينَ

[الأعراف: ۸۸].

قلت: هذا وجه باطل، وتقدير الإكراه بعيد من سياق الآية ونظمها، يضاف إليه أنه ينا في الحكمة من إرسال الرسل؛ لأنَّه إن جاز أن يُمكِّن الله قوم شعيب من إكراهه وإكراه من آمن به على إظهار الكفر، فلم بعثه إليهم؟! وأي

مصلحة في أن يظهر شعيب - عليه السَّلام - كفر قومه ويعلنه مكرها. ومثله في البطلان الوجه الذي ذكره بعده، وهو أن يكون المعنى: إلَّا أن

بدع التفاسير

٦٧

يشاء الله أن يتعبدنا بإظهار مِلتكم مع الإكراه؛ لأنَّ كلمة الكفر قد تحسن في

بعض الأحوال إذا تعبد الله تعالى بإظهارها.

قال: وقوله : أَوَلَوْ كُنَّا كَرِهِينَ * يؤيد هذا الوجه أيضًا.

قلت: يبطل بما تقدَّم في الوجه ،قبله ويزيده بطلانا زيادة تقدير التعبد بإظهار كلمة الكفر مع الإكراه، ودعوى حسن إظهار كلمة الكفر إذا تعبد الله بإظهارها باطلة، ولا يجوز أن يتعبد الله بإظهار كلمة الكفر لقبحها، وغاية ما في الباب أنه رخص في النطق بها عند الإكراه، كما رخص في أكل الميتة عند الاضطرار، أما أن يتعبد بإظهارها ويصير بالتعبد حسنًا، فمما تأباه العقول. - قوله تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۱۸] أي:

فثبت الحق وظهر ، وبطل ما كانوا يعملون من السحر، أي: ظهر بطلانه. ومن بدع التفاسير : كما قال الزمخشري: فوقع الحق قلوبهم، أي: أثر فيها من قولهم: فأس وقيع . اهـ وهو بعيد من سياق الكلام.

ه قوله تعالى: وَقَالُوا مَهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ وَايَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ

يمُؤمِنين الأعراف: ۱۳۲] مهما: أصلها ما الشرطية، ضُمَّت إليها ما المزيدة للتأكيد، وقلبت الألف هاء استثقالا لتكرير المتجانسين. وقيل: مه اسم فعل للكف، ضُم إليه ما الشَّرطيَّة، والمعنى على هذا كف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها، فما نحن لك بمؤمنين، أي: أيُّ شيءٍ تأتنا به. والضمير في يه، يعود على مهما باعتبار اللفظ. وفي بيها باعتبار المعنى؛ لأنه في معنى الآية.

ومن بدع التفاسير : قول من جعل «مهما» بمعنى: متى ما .

۶۸

مهما جئتني

القرآن الكريم

قال الزمخشري : وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها، ويحسب «مهما» بمعنى متى ما. ويقول: أعطيتك وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء، ثُمَّ يذهب فيفسر : مَهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَة بمعنى الوقت، فيُلْحِد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في "كتاب سيبويه".اهـ

وصدق فيما قال بالنسبة لأهل عصره، أمَّا بالنسبة لأهل عصرنا فقد تجراً على التفسير منهم. طائفةٌ، دلّ كلامهم فيه على أنه يجب عليهم الجثو بين يدي

.

مدرّس "الكفراوي". ٦- قوله تعالى: وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ، يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: ١٥٩] هم طائفةٌ من بني إسرائيل لم يُغيّروا دينهم، ولم يُحرِّفوا كُتبَ أنبيائهم، مثل عبدالله بن سلام ومن بدع التفاسير : ما حكاه الزمخشري، فقال: «وقيل: إنَّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبيائهم وكفروا، وكانوا اثني عشر ،سبطا، تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم الأرض، فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا، وذُكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: أنَّ . جبريل - عليه السَّلام ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم، فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تُكلّمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد النبي الأمي،

نفقا

في

بدع التفاسير

٦٩

فآمنوا به، وقالوا: يا رسول الله إنَّ موسى أوصانا: من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام، فردَّ محمَّدٌ على موسى السَّلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصَّلاة والزَّكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يستون، فأمرهم أن يُجمعوا ويتركوا السبت. وعن مسروق: قرئ بين يدي عبدالله - يعني هذا الحديث - فقال رجل: إني منهم. فقال عبد الله لمن كان

في مجلسه: وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئا؟ من يهدي بالحق وبه يعدل». قلت: هذه قصة واضحة البطلان والعجب من الزمخشري كيف خفي

عليه بطلانها !!

ونظيرها: ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم مرَّ ليلة الإسراء على يَأْجُوج ومَأْجُوج ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا. قال: فهم في النَّارِ مع كَفَرة الجن والإنس. وهذا حديث باطل، في سنده نوح ابن أبي مريم المتهم بالكذب (۱).

قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم يا بني آدم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ هي نفس آدم عليه السَّلام وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وهي حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا * ليطمئنَّ إليها ويأنس بها فَلَمَّا تَغَشَّهَا : فلما جامع الذكر منكم امرأته حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ) أي : حبلت منه، وكان الحبل في أوله خفيفًا فَمَرَّتْ به فقامت وقعدت وتصرفت به لخفته عليها فلما انقلت كبر الولد في

(١) كان يقال له: نوح الجامع، قال بعض الحفاظ : الجمعه فنونًا من العلم إلَّا الصدق.

۷۰

القرآن الكريم

بطنها، وأثقل حركتها دَعَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَبِنْ آتَيْتَنَا ولدًا أو نسلًا صَالِحًا لَتَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ )) فَلَمَّا انَهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَانَهُمَا حيث سموا أولادهم عبدالعُزَّى، وعبد شمس، وعبد مناف، وعبد المسيح فعلى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۸۹ - ۱۹۰]، وقد دلَّ الجمع في خَلَقَكُم وفي يُشركون على أنَّ التثنية في دعوا ، و جعلان مراد بها نوعا الذكر والأنثى من بني آدم. وقد تكلمت على هذه الآية في قصة آدم عليه السلام- وبينت نكارة الحديث الوارد عن سمرة، في أنَّ الشَّيطان قال لحواء -وهي حامل - سمي و

ولدك

عبد الحارث ليعيش، وكان لا يعيش لها ولد، فسمته بذلك الاسم فعاش. ومن بدع التفاسير قول الزمخشري: ووجه آخر، وهو أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم آل قصي. ويراد: هو الذي خلقكم من نفس قُصي، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشيّة، ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي، جعلا له شركاء فيهما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار ، وجعل الضمير في يشركون لهما ولأعقابها الذين اقتدوا بهما في الشرك. وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه».

قلت: بل هو بعيد، وتخصيص للآية بدون دليل.

وما حكاه أبو مسلم الأصفهاني في "تفسيره" بقوله: وقال قوم: معنى جَعَلا لَهُ شُرَكا ) أي : طلبا من الله أمثالا للولد الصالح، فشركا بين الطلبتين

بدع التفاسير

۷۱

وتكون الهاء في قوله: له راجعة إلى الصالح لا إلى الله تعالى، ويجري مجرى قول القائل: طلبت مني ردهما، فلما أعطيتك أشركته بآخر أي طلبت آخر

:

مضافًا إليه. وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن يكون قوله: جَعَلا والخطاب كله متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام.

قلت: لكنه وجه بعيد جدا يرده قوله: فَتَعَلَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .

ومن سورة الأنفال

۱- قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بالطاعة

سبب

الحياة

إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحييكُم ﴾ [الأنفال: ٢٤] من أمر الدين؛ لأنَّه الأبدية. وقيل: لما يُحييكم من علوم الدين والشرائع؛ لأنَّ العلم حياة، كما أنَّ الجهل موت قال بعضهم: لا تُعجِبَنَّ الجهولَ حُلَّتُه فذاك مَيِّتٌ وثَوْبُه كَفَنُ قال المرتضى ويمكن في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد بالكلام الحياة بالحكم لا بالفعل؛ لأنَّا قد علمنا أنه عليه السلام كان مكلفا بجهاد المشركين المخالفين لملته وقتلهم، وإن كان فيما بعد كُلّف ذلك فيمن عدا أهل الذمة على شرطها، فكأنه تعالى قال: استجيبوا للرسول ولا تخالفوه فإنكم إذا خالفتم كنتم في الحكم غير أحياء من حيث تعبده عليه السلام بقتالكم وقتلكم، فإذا أطعتم كنتم في الحكم أحياء.

ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ عَامِنَا ﴾ [آل عمران: ٩٧]

۷۲

القرآن الكريم

وإنما أراد تعالى أنه يجب أن يكون آمنا وهذا حكمه، ولم يخبر بأنَّ ذلك لا محالة

واقع.

قلت: في هذا الوجه بعد وتكلُّف في التقدير، ثمَّ الخطاب موجه إلى المؤمنين مور (١) أن يخالفوا جميعًا بالكفر، حتى يجب قتالهم وقتلهم. فهذا الوجه

ولا يتصور جدير بأن يكون من بدع التفاسير وتنظيره بقوله تعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ امنا غلط؛ لأنَّ هذه الجملة من جملة الآيات البينات، وهي في المعنى معطوفة على مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: ۹۷] والتقدير: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله من غضب الله وعذابه. ۲- قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ [الأنفال: ٢٤] يفصل بينهما بتصاريفه وأحكامه، وهو كناية - بطريق الإستعارة التصريحية التبعية - عن كونه تعالى أقرب للشَّخص من قلبه ، وأقرب من قلبه لذاته، فلا يستطيع طاعة ولا معصية إلا بإرادته.

روى أبو نعيم عن سفيان الثوري، أن شاباً سأله بمكة، فقال: هل عرفت الله ؟ قلت: نعم. قال: كيف عرفته؟ قلت بأنه يولج الليل في النَّهار، ويولج النهار في الليل، ويصور الولد في الرحم. قال : ياسفيان ما عرفت الله حق معرفته. قلت: كيف تعرفه أنت؟ قال: بفسخ الهم، ونقض العزم. هممت ففسخ همي،

(۱) لأنه يستحيل شرعًا أن تجتمع الأمة كلها على الكفر، لحديث: «لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا من خصائص الأمة المحمديَّة، ومن هنا كان إجماع العلماء حُجَّةً، كما هو مبين في كتب الأصول.

بدع التفاسير

۷۳

وعزمت فنقض عزمي، فعرفت أنَّ لي ربا يُدبِّرني.

قلت: هذه القصة تبيَّن بوضوح كيف يحول الله بين المرء وقلبه، بفسخ همه،

ونقض عزمه، وانظر ما تقدَّم في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا } [آل عمران: ۸]. وقيل: يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله، وإبطال تمييزه؛ لأنه يقال لمن فقد

عقله: إنه بغير قلب قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبُ [ق: ٣٧] أي: عقل. وهذا من بدع التفاسير؛ لأنَّ من فقد عقله سقط عنه التكليف، وأي فائدة في أن يأمر الله عباده بأن يعلموا أنه يزيل عقل المكلف ويذهب عنه التكليف؟! ثم كيف ترتبط هذه الجملة بقوله: ﴿وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال : ٢٤]؟ وهل يكون المعنى واعلموا أنكم إليه تحشرون فاقدي العقول؟ ساقطي

التمييز. وقيل: المعنى أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من المعاصي، بالأمر والنهي، والوعد والوعيد؛ لأنَّه لو لم يكلف الشَّخص مع ما فيه من الشهوات لم يكن له عن القبيح مانع، فكأن التكليف حائل بينه وبينه، بما فيه من زجر ومنع، وليس يجب في الحائل أن يكون في كل موضع مما يمتنع معه الفعل؛ لأنَّا نعلم أنَّ المشير منا على غيره - في أمر كان قد هم به - أن يجتنبه، يصح أن يقال: حال بينه وبين فعله.

قلت: هذا من بدع التفاسير أيضًا، وبيان ذلك من وجوه:

أحدها: أنَّ النَّفس هي الداعية إلى القبيح، قال يوسف عليه السَّلام: وَمَا

٧٤

القرآن الكريم

أُبَرِى نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: ٥٣] ولم يقل: وما أبرئ قلبي إنَّ القلب لأمَّارٌ بالسُّوء.

.

ثانيها: أنَّ حمل يَحُولُ على يمنع بالأمر والنهي والوعد والوعيد مجاز، وهو خلاف الأصل، والمعنى الحقيقي المتبادر من اللفظ ما تقدم، أنه يفصل بين المرء وقلبه بتصاريفه وأحكامه، وهذا المعنى هو المراد هنا من جهة أخرى وهي: ثالثها: إفادة أنَّ الله تعالى يملك القلوب ويتصرف فيها، وأنهم إن لم يستجيبوا للرسول حال بينهم وبين قلوبهم، فلا تجد قبولا للطاعة ولا تتذوّق حلاوتها، وأنهم إليه يحشرون فيجازيهم على ما فرط منهم.

حث

على

وقيل: يحول بين المرء وقلبه ،بالموت، فلا ينتفع بقلبه، وهذا . الطاعات والمبادرة بها قبل الفوت وانقطاع التكليف، كأنه تعالى قال: بادروا إلى الاستجابة الله وللرسول من قبل أن يأتيكم الموت، فيحول بينكم وبين الانتفاع

بقلوبكم، ويتعذر عليكم ما تسوفون به نفوسكم من التوبة بقلوبكم.

قال المرتضى: ويقوي ذلك قوله تعالى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . قلت: هذا من بدع التفاسير أيضًا؛ لأنَّ المكلف إذا مات حيل بينه وبين حياته والانتفاع بجوارحه كلها، ولا خصوصيَّة للقلب في هذا، ثم هو معنى مجازي والمعنى الحقيقي ما قرَّرناه وأوضحناه. وهذه التفاسير الثلاثة للمعتزلة ومن وافقهم من الإمامية الذين لا يعترفون بأنَّ الله تعالى يصرف قلب المكلّف عن الإيمان أو الطَّاعة إن شاء؛ لأنَّ ذلك قبيح عندهم والله لا يفعل القبيح ، لكنهم لا يقدرون أن ينكروا ما يحسه

بدع التفاسير

Vo

الشخص أحيانًا من عزمه على الطاعة أو المعصية، وتصميمه على تنفيذها، ثُمَّ عند التنفيذ ينصرف قلبه، وينفسخ عزمه وتصميمه، مع وجود الداعي، وفقدان المانع، ولا تعليل لذلك إلا بأنه من فعل الخالق سبحانه وتعالى.

ومن سورة التوبة

۱- قوله تعالى: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلَّا وَلَا

ذِمَّةً ﴾ [التوبة: ].

قرابة. وقيل: عهدًا. وقيل: جؤارًا، وهو رفع الصوت عند

المحالفة؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند المحالفة إعلانًا لها، وتأكيدًا

لعقدها، وجمع «إل»، إلال كقداح.

ومن بدع التفاسير : إلا أي الله تعالى. ومن لغات جبريل: جبريل بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام، على أنَّ «جبر»: عبد، و«إل»: الله. وفي المختار: «الإل» بالكسر، هو الله عز وجل. قلت: لعلّه معرَّب عن اللُّغة السريانية أو العبرانية، وهو في الآية منكر، فلا يصح أن يكون معناه إلها أو ربا، ثُمَّ بعد هذا فأسماء الله توقيفية، أي: لا يصح أن يسمى الله باسم إلا إذا جاء صريحًا في آية، مثل الأسماء المذكورة في خواتيم سورة الحشر، أو جاء في حديث صحيح، مثل: «مقلب القلوب». (تنبيه): يقع في كتب الروحانيات مثل "شمس المعارف" أسماء غريبة يقول عنها أصحاب تلك الكتب: إنها أسماء الله تعالى باللغة السريانية، غافلين

٧٦

القرآن الكريم

عما قرره علماء الشريعة أن تسمية الله بها لا تجوز، كما لا تجوز تلاوتها ولا كتابتها في جدول بقصد الاستشفاء أو التبرُّك؛ لأنها لم تأتِ في آية قرآنية، ولا حديث نبوي صحيح. كذلك يذكر جماعة من الصوفية باسم «آه» مستندين إلى ما رواه الديلمي

في "مسند الفردوس" والرافعي في تاريخ "قزوين" عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم دخل على مريض يعوده – وكان يئن- فقال له أهله: اسكت، فقد حضر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم. فقال: «دعوه يئن فإنَّ الأنين اسم من أسماء الله تعالى، يستريح إليه العليل» وهذا حديث واه، لا يجوز العمل به، ففي سند سند الديلمي محمد بن أيوب بن سويد الرملي، وهو وضاع، وسند الرافعي فيه ثلاث علل:

إحداها: أنه وجادَة.

ثانيتها: أنه فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف مختلط، رفاع للموقوفات. ثالثتها: أنَّ فيه رواة مجهولين.

۲- قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أذنتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: ٤٣]. قال الزمخشري: عفا الله عنك، كناية عن الجناية؛ لأنَّ العفو رادف لها. ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت.

قلت: هذا من بدع التفاسير والحقيقة أنه لا جناية ولا خطأ، لسبب

الله

واضح. هو: إنَّ الجناية أو الذنب أو المعصية مخالفة النهي، ولم يسبق من ا نهي عن الإذن للمنافقين، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أذن لهم اجتهادًا منه، فكيف تنسب إليه جناية ؟! بل لو فُرض أنه أخطأ، لكان مثابًا على

بدع التفاسير

VV

اجتهاده (۱) غير مؤاخذ بخطئه، وهو صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يخطى؛ لأنَّه سلك ما هو أوفق بخُلُقه من التيسير على أصحابه والميل إلى ستر حالهم وتفويض أمرهم إلى الله تعالى، لكنَّ الله أراد منه أن يكون شديدًا على المنافقين

فهو كقوله تعالى: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: ٧٣] فالإذن للمنافقين كان جائزا بحسب الأصل، ثُمَّ نسخ بهذه الآية، كما كان الاستغفار لهم والصَّلاة عليهم ،جائزين، ثم نسخا بقوله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا نَقُم عَلَى قَبْرِهِ ﴾ [التوبة: ٨٤] وفاعل الحكم المنسوخ قبل نسخه لا يكون عاصيا، بل هو مثاب مبرور .

وقوله تعالى: عفا الله عنك استفتاح كلام على عادة العرب في استفتاح مخاطباتهم بهذه الجملة، أو بقولهم: غفر الله لك، أو أطال الله بقاءك ونحو ذلك، لا يقصدون المدلول اللفظي للكلام، وإنما يريدون تكريم

المخاطب إذا كان عظيم ،القدر، فهذه الجملة تفيد تكريم النبي لا تجريمه. وقد عقد المرتضى في "أماليه" مسألةً أجاب فيها عن الآيات التي يفيد ظاهرها عتاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، وقال عن هذه الآية: فأما قوله تعالى: عفا الله عنك فليس يقتضي معصية، وذاك أنَّ المقصد في الغالب بمثل هذا الخطاب التعظيم للمخاطب، واستيضاح ما عنده فيما يفعله، ألا ترى

أنَّ الواحد منا يقول لغيره : لم كان كذا وكذا؟ رحمك الله وغفر لك !

(۱) لحديث "الصحيحين : إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ فَأَصابَ فَلَهُ أَجْرانِ وإِذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ فَأَخْطَا فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ».

القرآن الكريم يقصد إلا الملاطفة له وحسن المحاورة، ولا يقصد الاستيضاح له عن زلة، وإنما الغرض الإجمال في الخطاب.

وقد صار ذلك عُرفًا بين النَّاس، والمقصد به التوقير والإجلال فأما قوله تعالى : ولم أذنتَ لَهُمْ فليس يجب حمله على العتاب؛ لأنَّ هذه اللفظة ليست موضوعة لذلك خاصة، بل قد تطلق ويراد بها الاستفهام، وتارة يراد بها

التقرير، وتارة العتاب، وهي : محتملة لجميع المذكور، فلِمَ نحملها في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على العتاب دون بقية الأقسام؟ وغاية ما في ذلك

حمله على ترك الأولى حسب ما تقدَّم في الآيات.

1

ومن سورة يونس )

۱- قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَكُمْ خَلَكَيفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: ١٤] قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟ قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجودًا، شُبه بنظر الناظر، وعيان المعاين في تحققه». قلت حاصل كلامه نفي النظر عن الله تعالى، بدعوى استلزامه المقابلة، وهي في حقه ممتنعة، وهذا من بدع التفاسير، ومن غلطاته الشنيعة التي يردُّها

النَّص الصّريح، فمن أسمائه تعالى الثابتة في القرآن والسُّنَّة: «البصير». وقال تعالى : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء [البقرة: ١٤٤] والرؤية والنظر واحد، ودعوى استلزامها للمقابلة باطلة؛ لأنَّ الله تعالى منزّه عن

بدع التفاسير

۷۹

الجسمية ولوازمها، فكما أنه تعالى موجود لا في مكان ولا في جهة، كذلك يرى وينظر من غير جارحةٍ ولا مقابلةٍ، ونفي النظر عنه ينافي كماله المطلق سبحانه وتعالى، لكن جاء في عبارة له ما يفيد أنه يفرق بين النظر والرؤية، بأنها لا تستدعي المقابلة، فإنه قال في الكلام على قوله تعالى: كَلَّا فَاذْهَبَا بِشَايَتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ﴾ [الشعراء: ١٥] وقوله: مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ من مجاز الكلام، يريد: أنا لكما ولعدوّكما كالنَّاصر الظهير لكما عليه إذا حضر، وأستمع ما يجري بينكما وبينه، فأظهر كما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه، فإن قلت: لم جعلت مُسْتَمِعُونَ قرينة معكم في كونه من باب المجاز، والله يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع ؟ قلت: ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة؛ لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النَّظر من

الرؤية» . اهـ

وتوضيح ما أشار إليه: أنَّ الاستماع إلى الشيء، معناه: الإصغاء والإمالة إليه، والله سبحانه منزّه عن ذلك، بل يتعلّق . سمعه بجميع المسموعات من غير إصغاء وإمالة، وكذلك النظر ، معناه : تأمل الشيء بالعين والناظر في المقلة السواد الأصغر الذي فيه إنسان العين فمن هنا كان النظر مستلزما للمقابلة والله تعالى أعلم.

ومن هنا جاء التعبير بالنظر عن المقابلة، في قوله تعالى: ﴿وَتَرَنهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۹۸] وتراهم :أي: الأصنام يقابلونك بعيون

كأنها حقيقية، وهم لا يبصرون حقيقة؛ لأن عيونهم مصنوعة.

۸۰

القرآن الكريم

۲- قوله تعالى: ﴿ فَأَلْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَ عَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ

قَالَ ءَامَنتُ أَنَّه بفتح الهمزة :أي: بأنه وبكسرها على الاستئناف لَا إِلَهَ إِلَّا

الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: ٩٠].

قال الزمخشري: كرَّر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات، في ثلاث عبارات (۱) حرصًا على القبول ، ثُمَّ لم يقبل منه حيث أخطأ وقته، وقاله حين لم يبق له اختيار قطُّ، وكانت المرة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء

التكليف. السن أتؤمن السَّاعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق، وأيست من نفسك وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: ٩١] الضالين المضلين عن الإيمان فاليَوْمَ نُنَحِيكَ نبعدك مما وقع فيه قومك من

قعر البحر حال كونك يبدي : أي : جسما لا روح فيه التَكُونَ لِمَنْ خلفك من بعدك اية ) [يونس: ۹۲] عبرة فيعرفوا عبوديتك ومهانتك، وليتيقن بنو إسرائيل هلاكه؛ لأنّهم كانوا في شك منه حتى رأوه مطروحًا على الساحل. ففرعون مات كافرًا عدوا الله ورسوله، وأجمع العلماء على ذلك منذ الصحابة والتابعين وهلم لكن القاضي عبد الصمد الحنفي - وكان موجودًا سنة ثلاثين وأربعمائة - حكى في تفسيره" عن مذهب الصُّوفيَّة: إِنَّ الإيمان

(۱) هي: آمَنْتُ إِنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل وأنا من المسلمين . هذا على قراءة كسر همزة «إنه»، باعتبارها جملة مستأنفة، وعلى فتحها تكون مفعولا لأمنت في قوة المفرد.

بدع التفاسير

۸۱

ينتفع به ولو عند معاينة العذاب».

قلت: ومن هنا قال الشيخ محيي الدين بن العربي الحاتمي في "الفتوحات المكية"، بصحة إيمان فرعون ونجاته من العذاب. وإليك حاصل كلامه في هذا المعنى: «لما حال الغرق بين فرعون وبين أطماعه لجأ إلى الله تعالى، وإلى ما أعطاه باطنه مما كان عليه من الذلة والافتقار ، فقال : ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بنوا إسراويل لرفع الإشكال، كما قالت السَّحَرة لما آمنت : ﴿ ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَرُونَ ﴾ [الشعراء: ٤٧ - ٤٨] لرفع الارتياب وإزاحة الإشكال، ثُمَّ قال: وانا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فخاطبه بلسان العتب : الن أظهرت ما كنت قبل قد علمته وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في أتباعك فاليوم ننجيك ) فبشره قبل قبض روحه التَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أَي: لتكون النَّجاة علامة له إذا قال ما قلته كانت له النَّجاة مثل ما كانت لك، إذ العذاب ما يتعلّق إلا بظاهرك وقد أريت الخلق نجاتك من العذاب، فكان ابتداء الغرق عذابًا، وصار الموت فيه شهادة خالصة، كل ذلك حتى لا ييأس من رحمة الله تعالى فإنَّهُ لَا يَايْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ ﴾ [يوسف: ۸۷] والأعمال بالخواتيم. وأمَّا قوله تعالى: ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَسَنَا فكلام محقق في غاية الوضوح فإنَّ النَّافع هو الله، فما نفعهم إلَّا الله وقوله تعالى: ﴿سُنَتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ [غافر : ٨٥] يعني الإيمان عند رؤية البأس، وإنَّما قُبض فرعون ولم يؤخّر

أحد

۸۲

القرآن الكريم

في أجله في حال إيمانه لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى. وأما قوله تعالى: ﴿ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار ﴾ [هود: ٩٨] فما فيه نص أنه يدخلها

معهم، بل قال الله تعالى: أَدْخِلُواءَ الَ فِرْعَوْنَ ﴾ [غافر: ٤٦] ولم يقل: أدخلوا فرعون، ورحمة الله أوسع من حيث أن لا يقبل إيمان فرعون المضطر، وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغَرَق؟ والله تعالى يقول: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: ٦٢] فقرر للمضطر إذا دعاه الإجابة وكشف السُّوء عنه: فلم يكن عذابه أكثر من الغرق في الماء» . اهـ قلت: الذي يدل عليه القرآن والحديث: إنَّ الإيمان عند المعاينة لا يُقبل، فإن قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَ تهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةً ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَنْهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَعْتَهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: ٩٦ - ٩٨] يفيد أن الإيمان عند المعاينة لا ينفع أصحابه إلا قوم يونس فقط نفعهم إيمانهم عند المعاينة، ولو كان ينفع كما نقل عن الصوفية لم يكن لاستثناء قوم يونس معنى. وفي "مسند أحمد" و "سنن الترمذي" و " ابن ماجه" و "صحیح ابن حبان" و "مستدرك الحاكم" من حديث ابن عمر: «إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرُ». وهذا الحديث مثل قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْقَيْنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّار ﴾ [النساء: ١٨].

بدع التفاسير

۸۳

وفرعون إنَّما آمن عند الغَرْغَرة ومُعاينة العذاب، فكان إيمانه غير مقبول

لهذا؛ ولأنه لم يؤمن بموسى، وقياسه على السحرة غلط، فإنَّهم صرَّحوا بأنهم آمنوا برب العالمين، ثُمَّ صرَّحوا بخصوص ربوبيته لموسى وهارون، وفي ذلك تصريح بإيمانهم بهما، ولكن فرعون لم يذكر موسى تصريحا ولا إشارةً؛ لأنه كان يراه ربيب نعمته وقوله تعالى: الْكَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: ۹۱] خطاب تقريع وتوبيخ، بدليل تذكيره بعصيانه وإفساده، وذلك يدل على غضب الله عليه وبغضه له، كما قال تعالى في آية أخرى: فَلَمَّاءَ اسَفُونَا أَننَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: ٥٥] ولو قبل إيمانه لما عيّره بعصيانه ،وإفساده بل كان يقول له: الآن نقبلك ونكرمك، جريًا على عادة الله مع عباده حين يتوبون إليه ويقبل توبتهم، يعرض عن ذكر ما مضى من كفرهم وعصيانهم.

فإنَّه

ومن حكم الصوفية: ذكر الجفاء وقت الصَّفاء من الجفاء». والعتاب إنَّما يكون بين الأحباب إبقاء على المودة التي بينهم، كما قال الشاعر : ويَبْقَى الوُدُّ ما بَقِيَ العِتابُ .

وفرعون كان عدو الله إلى آخر لحظة من حياته، فكيف يعاتبه الله الذي إنَّما يعاتب أصفياءه؟! ثُمَّ ما سمعنا عتابا يذكر فيه لفظ العصيان والإفساد، وفي الآية نكتة تفيد القطع بأنها ليست خطاب عتاب، وهي أنَّ الله تعالى لم يقل له: وكنت مفسدا، بل قال: وكنت من المفسدين، وهذه الجملة أبلغ؛ لأنها تفيد أنَّ فرعون عريق في الإفساد بحيث أنه صار لعراقته فيه من جملة المفسدين الذين

ΛΕ

القرآن الكريم

صار الفساد والإفساد دأبا لهم وعادة وإنجاؤه ببدنه الخالي من الروح، ليكون آية على فساد دعواه الألوهية، فالضمير في لتكون لفرعون؛ لأنَّ الخطاب موجه إليه، وجعله عائدًا على النَّجاة المأخوذة من لفظ ننجيك يردُّه أمران:

١ - أنه تشتيت للضمائر من غير ضرورة تدعو إليه.

من

- أنَّه إن أريد النَّجاة من الغرق فهو لم ينج منه، وإن أريد النّجاة . عذاب يوم القيامة، فرمي جسمه على الساحل لا يدل عليها ولا يقتضيها؛ لأنَّ جسم الميت لا يظهر عليه أثر عذاب ولا نعيم.

فالخلق لم يروا نجاة فرعون، وإنّما رأوا جسمه خاليا من الروح مطروحًا على الشاطئ، كما نرى نحن جسم الكافر الميت سليمًا ليس فيه شيء، وروحه تعذَّب عند الله تعالى. وكذلك فرعون وقومه تُعذَّب أرواحهم عند الله كما قال تعالى: وَحَاقَ الِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواء ال فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: ٤٥ - ٤٦] فروح فرعون معذَّبَة الآن

بعرضها على النار صباحًا ومساءً وعبرت الآية بِتَالِ فِرْعَوْنَ لأمرين : ۱ - الإشارة إلى أنَّ آلَهُ إِذا عُذِّبُوا أَشدَّ العذاب كان هو أولى بذلك منهم؛

لأنهم إنما كفروا بإضلاله وحملهم على عبادته، وقوله لهم: أنا ربكم الأعلى. ٢ - الاستهزاء به والطَّنز عليه، وذلك أغيظ له وأشدُّ لعذابه، وهذا كما يُقال لأبي جهل يوم القيامة وهو في أشد العذاب: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ

بدع التفاسير

٨٥

الكريم ﴾ [الدخان: ٤٩] استهزاء به وسخرية منه.

وقوله تعالى: ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَهُمْ لَمَّا رَأَوْابَأْسَنَا [غافر: ٨٥] يدلُّ أيضًا على أنَّ الإيمان عند معاينة العذاب لا ينفع صاحبه، وسياق الآية يقتضي ذلك فَلَمَّا جَاءَ تَهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَافَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ )) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَنْتُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ في الأمم التي لا ينفعهم الإيمان عند معاينة العذاب وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَفِرُونَ ﴾ [غافر: ٨٣ - ٨٥] فهؤلاء الأقوام آمنوا عند معاينة البأس وهو العذاب كما آمن فرعون فلم يقبل منهم وخسروا. ولما كان الإيمان المقبول سببا لنجاة صاحبه من العذاب نسب النفع إليه على عادة القرآن والسُّنَّة في نسبة الأمور إلى أسبابها الشَّرعيّة أو العادية، وإن كان النافع في الحقيقة هو الله في كلّ شيءٍ لا في الإيمان وحده، فالتمسك به في هذه الآية مخالف لنظمها وسياقها، كما هو مخالف لعادة القرآن والسُّنَّة على ما مر .

وقوله تعالى: ﴿ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار نص في دخولها، وذلك أنَّ الله تعالى

يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِثَايَتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ [هود: ٩٦ - ٩٧] بمحمود العاقبة، ثُمَّ بين عدم رشاده بقوله: يقدم يتقدم قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وهم يتبعونه كما كانوا يتبعونه في الدنيا فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ﴾ [هود: ٩٨] وهو سابقهم إليها وهم وراءه، ولا أحد يفهم من هذه العبارة أنه أدخلهم النار وعاد؛ لأنَّ إدخال

٨٦

طائفة

القرآن الكريم

الملائكة من الكفَّار والعصاة للنار يوم القيامة وظيفة الزبانية، وهم . خصهم الله بهذا العمل لا يتولاه غيرهم، حتى إنَّ الرسل المكرمين لا يقدرون أن يدخلوا مكذبيهم النَّار؛ لأنّهم غير مأذون لهم في ذلك، فكيف يتأتى لفرعون أن يورد قومه النَّار ثُمَّ يرجع ؟!! أأعطي في ذلك اليوم ما لم يعط الرسل؟ أم جعل مساعدًا للزبانية؟ أم ماذا؟ والله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ولو كان كافرا، لكن لا يقبل إيمان الكافر إذا آمن عند معاينة العذاب،

ولا توبة العاصي إذا غَرْغَر (۱) ، فمقام الإيمان غير مقام الدعاء، وخَلْطُ أحدهما بالآخر غلط واضح. وبعد: فالدليل على موت فرعون كافرًا - سوى ما مر - قوله تعالى يخاطب

أم موسى عليهما السَّلام أَنِ اقْذِفِيهِ فِي النَّابُوتِ فَأَقْدِفِيهِ فِي الْبَةِ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوُّلِي وَعَدُولَهُ ﴾ [طه: ۳۹] تخبر هذه الآية بأنَّ فرعون عدو الله وعدو لرسوله موسى، وخبر الله تعالى لا يدخله نسخ ولا تغيير، وهذا الدليل لم

(۱) شرط قبول إيمان الكافر أو توبة العاصي أمران: أن يكون مختارًا غير مضطر، وأنَّ يكون غائبا عنه العذاب المتوعد به على الكفر أو المعصية، فإذا عاين العذاب كحال فرعون عند الغرق، أو المحتضر عند الغَرْغَرة كان إيمانه أو توبته حينئذ عن اضطرار، فلم يُقبل منه لفقد الشرطين. أما الدعاء فإجابته منوطة بالاضطرار، فكلما كان الداعي أشد ضرورة، وأكثر مصائب كان أقرب إلى الإجابة، ولوكان كافرا؛ لأنَّه خاص بالدنيا ولا علاقة له بالآخرة. ولو أنَّ فرعون دعا الله عند الغرق لأنجاه، وأعطاه فرصة الحياة مرة أخرى، كما أنجى غيره من المشركين عند اضطرارهم، لكنه

لم يوفّق للدعاء ولجأ إلى الإيمان مضطرًا، فلم يُقبل منه، ولم ينج من الغرق.

بدع التفاسير

۸۷

يتفطن له جميع من تكلم في إيمان فرعون وكفره(۱)، وانظر تتمة هذا البحث في

كتابنا "خواطر دينية".

قوله تعالى: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ على سبيل الفرض والتقدير فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ ﴾ [يونس: ٩٤] وهم علماء اليهود؛

لأنَّ أمرك مكتوب عندهم في كتبهم، وهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم. والآية لا تقتضي وقوع الشك منه صلى الله عليه وآله وسلَّم؛ لأنَّ حرف «إن» لا يفيد حصول شرطه، بل يفيد الشكَّ في حصوله، ولهذا يدخل على المستحيل كما في هذه الآية. وهي مثل قوله تعالى: لن أشركت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [الزمر: ٦٥] ومن المعلوم بالضرورة أن وقوع الشكّ أو الشرك منه صلَّى الله عليه وآله وسلّم محال. وقيل: الخطاب في الآية موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم والمراد أمته مثل: تَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاء ﴾ [الطلاق: ١] والمعنى على هذا، فإن كنتم في

شكٍّ مما أنزلنا إليكم كقوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴾ [النساء: ١٧٤]. وقيل: الخطاب لأي سامع ممن يجوز عليه الشك، وهذا كقول العرب: «إذا عَزَّ أخوك فَهُنْ».

ومن بدع التفاسير : قول من قال: (إن) نافية بمعنى «ما» وتقديرًا لكلامه على هذا: فما كنت في شكٍّ مما أنزلنا إليك. لكنَّه لا يتلاقى مع قوله : فَسْتَل . ووجهه الزمخشري بأنَّ المعنى: فما كنت في شك فاسأل، يعني: لا نأمرك

(1) ألف العلامة الجلال الدواني الصديقي رسالة إيمان فرعون" أيد فيها رأي ابن العربي الحاتمي، طبعت أخيرًا. وألف ابن سلطان القاري رسالة في كفر فرعون، لم تطبع بعد.

۸۸

القرآن الكريم

بالسؤال لأنك شاكٌ، ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السَّلام بمعاينة

إحياء الموتى، وفي هذا الوجه تكلُّف لا يخفى.

ووجهه المرتضى بأنه تعالى لو أمره بسؤال أهل الكتاب من غير أن ينفي شكه، لأوهم أمره بالسؤال أنه شالكٌ في صِدقه، وصحة ما أنزل عليه. فقدم

نفي !

الشكّ عنه، ليعلم أنَّ أمره بالسؤال ليزول الشك عن غيره لا عنه. قلت: الإيهام المشار إليه باطل لما مرّ، وغفل المرتضى والزمخشري عن أنَّ تعقيب النفي بالأمر لا يحسن في اللغة العربيَّة؛ لأنه يورث ركاكة لا يجوز تخريج القرآن عليها، وإنّما يحسن تعقيب النَّفي بالفعل المضارع كما هو معلوم.

ومن سورة هود

۱ - قوله تعالى: أَوْلَتَيْكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ) أي: ما كانوا يعجزون الله في الدنيا لو أراد أن يعاقبهم فيها وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أولياء أنصار ينصرونهم منه ، ويمنعون عنهم عقابه، لكنه أراد تأخيرهم إلى هذا اليوم يُضَعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ؛ لأنهم أضلُّوا غيرهم؛ ولأنهم مَا كَانُوا و يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴾ [هود : ٢٠] أي: أنهم لفرط تصامهم عن استماع الحق، وشدة كراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع والإبصار (۱)، وفي

(1) يؤيد هذا التأويل قوله تعالى في سورة الكهف: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَيدِ لِلْكَفِرِينَ عَرَضَا الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُتُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمعا ) [الكهف: ١٠٠ - ١٠١] فهذه الآية تفيد أنهم لكراهتهم الحق وبغضهم -له كانت أعينهم مغطاة عنه، لا تراه

بدع التفاسير

الآية وجوه أخرى.

۸۹

ومن بدع التفاسير : جعل «ما» مصدريَّة، والمعنى: يضاعف لهم العذاب في الآخرة مدة كونهم يستطيعون السمع والأبصار، أي: ما داموا أحياء، فجعل استطاعة الشمع والإبصار كناية عن حياتهم، ذكر هذا الوجه المرتضى في " أماليه"، وهو ضعيف لا يفيده سياق الآية.

۲- قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ [هود: ٤٠] المراد بالتَّنُّور: الذي يختبز فيه. وهو تنور كان بدار نوح عليه السلام، جعل فوران الماء منه علامة على الطوفان الذي أغرق قومه وهذا القول هو الراجح؛ لأنَّه الحقيقة الأصل؛ ولأنه قول ابن عباس والحسن ومجاهد؛ ولأنَّ فوران الماء من مكان النار أقوى في المعجزة، وأبلغ في الدَّلالة على ما أعقبه من طوفان لم يحصل مثله في العالم.

وهي

وقيل: التنور وجه الأرض، وأنَّ الماء نبع وفار على وجه الأرض وهذا قول

عكرمة، ويروى عن ابن عباس أيضًا، قال المرتضى والعرب تسمي ) الأرض تنورًا.

وجه

وقيل: أعالي الأرض روي عن قتادة في قوله تعالى: وَفَارَ التَّنُّورُ } قال: ذكر لنا أنه أرفع الأرض وأشرفها.

وقيل : معنى وَفَارَ التَّنُّورُ : برز النور وظهر الضوء، وتكاثفت حرارة

دخول النَّهار، وتقضى الليل.

وكانوا لا يستطيعون سماعه.

۹۰

القرآن الكريم

وقيل : معنى وَفَارَ التَّنُّورُ : اشتد غضب الله عليهم وحل وقوع نقمته

بهم. فذكر تعالى التَّنُّورُ مثلا الحضور العذاب، كما قال النبي صلى الله عليه

وآله وسلَّم: «الآن حَمِيَ الوَطِيسُ» حين اشتدَّت الحرب يوم بدر.

وهذا التأويل والذي قبله من بدع التفاسير ؛ لأنهما مجازان بعيدان؛ ولأننا لا نجزم بأنَّ اللغة التي خاطب الله بها نوحًا، كان فيها مثل هذه المجازات

المعروفة في لغة العرب.

تنبيه إلى قاعدة هامة

ولهذه المناسبة تنبه إلى قاعدة هامة غفل عنها المفسرون قاطبةً فيما أعلم، إذ لم أجد منهم مَن فَطَن لها أو نبَّه إليها، وبسبب غفلتهم عنها وقع كثير منهم في تفسيرات مخطئة، مثل التفسيرين المذكورين؛ الجنوحهم إلى المجاز أو الاستعارة

أنَّ

أو الكناية في معظم الآيات التي يفسرونها، غير مفرّقين بين موضوعاتها . الآيات التي يكون موضوعها الحديث عن الأمم التي لا تتكلم العربية، مثل

قوم نوح وإبراهيم وبني إسرائيل، وحكاية ما حصل بين رسلهم وبينهم من مجادلات، وما توجه إليهم من خطاباتٍ تكليفية وغيرها، لا يجوز حملها على المجاز كما مر في المقدمة، بل يجب حملها على الحقيقة؛ لأنها مجزوم بإرادتها رغم اختلاف اللغات، ورغم تباين التقاليد والعادات، فنحن حين نحمل التثور على تنور الخبز، نجزم بأنه كان عند نوح وقومه تنانير يخبزون فيها وإن كانوا قد يسمونها باسم آخر، فنكون قد أصبنا المعنى المراد حتما، ولكن حين نحمل التنور على: «برز النُّور»، أو: «اشتد غضب الله»، أو نحو هذا من المعانى المجازية نكون

بدع التفاسير

۹۱

مخطئين أشد الخطأ؛ لأنَّنا لا نعرف هل كان في لغة نوح وقومه مجاز وكنايةٌ؟ وليس لدينا ما يدلنا على أصول لغتهم وكيفية تخاطبهم، والمعروف على وجه العموم أن اللغة العربية انفردت من بين اللغات بما فيها من كثرة التجوز والاتساع، حتى ادَّعى ابن جنّي أنَّ أغلب اللغة مجاز، وذلك لسيلان أذهان العرب وسلامة ،فطرتهم، وسرعة لمحتهم للمعاني التي يصوغونها في قالب تشبيه

أو مجاز أو كناية، وهم أنفسهم ما توصلوا إلى هذا الرُّقِي اللغوي حتى : تهذبت طباعهم ورقّ إحساسهم، واكتسبوا برحلاتهم إلى الشام واليمن والبحرين

وأطراف الجزيرة العربية معارف وحضارات نقلوها إلى لغتهم، وأضافوها إلى كلامهم، وتعريبهم لكلمات فارسية وروميَّة وحبشية ونبطية شاهد صدق على ذلك، ولهذا لا تجد في لغة العرب القدماء - هم العرب العاربة وهي البائدة - ما تجده في لغة العرب المستعربة، من الثروة اللسانية التي بلغت ذروتها زمن البعثة المحمدية، بحيث يكاد يجزم الباحث في لغاتهم أن العرب جنسان مختلفان. وإذا كان الفرق بين متقدّمي العرب ومتأخريهم بهذه المنزلة من البعد، فالفرق بينهم وبين من لا يتكلم بلغتهم أشدُّ بعدًا وأبعد منزلةٌ، إذن فمن ا البين حمل ما يحكيه القرآن من كلام الإسرائيليين وغيرهم على مذاهب العرب في التجوز والاتساع لما قرّرناه وأوضحناه، فشد يدك على هذه القاعدة التي لا تجدها في غير هذا الكتاب.

الخطأ

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ [هود: ٤٦] وعد الله تعالى

نوحًا عليه السَّلام بإنجاء أهله من الطوفان، فلما هَلَك ابنه مع الهالكين فيه، قال

۹۲

القرآن الكريم

نوح يخاطب ربه رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي الذين وعدتني بإنجائهم، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ } [هود: ٤٥]، لا يدخله خلف، فكيف هلك ابني؟! فقال الله تعالى:

إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ [هود: ٤٦] الموعود بنجاتهم؛ لأنه كافر، ولا نجاة لكافر.

ومن بدع التفاسير : قول بعض الجهلة ممن تسوّروا علم التفسير بغير علم: ليس من أهلك، أي: هو ابن زنا. وهذا قول شنيع يدل على الجهل بمقام النُّبوَّة، ثُمَّ هو مردودٌ بنص القرآن (۱)، فإنَّ الله تعالى قال قبل هذه الآية: وَنَادَى نُوح ابنه ﴾ [هود : ٤٢] فنسب الابن إليه، وهذا دليل قاطع على أنه ابنه لصلبه، إذ من المستحيل أن يكون ابن زنا وينسبه الله إليه وأما قوله: لَيْسَ مِنْ

أهْلِك فهو من حذف الصفة للعلم بها كما تقدم.

أهل

٤ - قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ هداية الخلق لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةٌ

1

دين

واحد ، وهو دين الإسلام وَلَا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ [هود: ۱۱۸] على أديان شتّى إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ فهداهم للاتفاق على دين الحق وَلِذَلِكَ المذكور من الاختلاف والرحمة خَلَقَهُمْ خلق أهل الاختلاف لتكون عاقبتهم الاختلاف، وأهل الرحمة لتكون عاقبتهم الرَّحمة، فاللام للعاقبة وَتَمَّتْ كَلِمَةُ

(1) في الآية نكتة ترد هذا القول الشنيع، لم أر من تعرَّض لها، وهي أن نوحا قال: ﴿رَبَ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ، فاشتمل كلامه على أمرين: نسبة الإبن إليه، وأنه من أهله، ورد الله عليه قال: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ، فأقرَّ ببنوته، ونفي أنَّه من أهله الناجين، ولو لم يكن ابنه لقال له: ليس ابنك ولا من أهلك.

بدع التفاسير

۹۳

رَبِّكَ وهي: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: ١١٩]. ومن بدع التفاسير : قول أبي مسلم الأصفهاني: معنى مختلفين : أنَّ خلف هؤلاء الكفَّار يخلف سلفهم في الكفر؛ لأنه سواء قولك: خلف بعضهم بعضا، وقولك: اختلفوا. وسواء قولك قتل بعضهم بعضًا، وقولك: اقتتلوا. ومنه قولهم: لا أفعل كذا ما اختلف الجديدان.

قلت: إن صح أن «اختلفوا» بمعنى . خلف بعضهم بعضا، فالسياق لا يساعد عليه ولا يناسبه، وإنَّما يناسب الاختلاف بالمعنى السابق، وهو المشهور والمتعارف.

ومن سورة يوسف *

۱ - قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ : أي: همت بمخالطته وَهَمَّ بِهَا هم بمخالطتها لَوْلَا أَن رَّمَا بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: ٢٤] لخالطها، والمراد: أن نفسه مالت إليها بحكم الطبيعة البشرية، كما يميل الصَّائم للماء البارد مثلا، لكنَّه لا يعزم، بل امتنع عن قربانها خوفًا من الله تعالى، ورعاية لزوجها الذي تركه معها مؤتمنا له، فلم يكن ليخونه، فقد تبيَّن أنَّ همَّ يوسف على حقيقته، وأنَّ جواب لولا محذوف تقديره ما ذكرناه وأنَّ البرهان الذي رآه خشية الله

المطلع على سره ونجواه، وقبح خيانة سيدها الذي أكرم مثواه.

ومن بدع التفاسير: جعل وهَمَّ بها جواب لولا مقدما عليها، والتقدير : ولولا أن رأى برهان ربِّه لهم بها، امتنع همه بها لرؤية برهان ربه، فلم يقع هم أصلا وهو مردود بوجهين.

٩٤

القرآن الكريم

أحدهما: أنَّ جواب لَوْلَا ) لا يتقدم عليها؛ لأنها في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام؛ ولأنها مع ما في حيّزها من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض ، أمَّا حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليل فجائز. ثانيهما: أنه لو لم يقع منه أصلا لما كان ممدوحا عند الله تعالى، ولا كان له ثواب؛ لأن استعظام الصَّبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء، وكذلك النواب على قدر المشقة، ولا مشقة في عدم الهم، ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنَّه من عباده المخلصين.

.

وقيل : وَهَمَّ بِهَا أي: همَّ بضربها، لولا أن رأى أنَّ ضربها يؤدي إلى اتهامه بأنه أراد بها سوءًا فامتنعت منه ، وهذا من بدع التفاسير أيضًا، وهو قول سخيف. وكيف يضربها وهو خادمٌ عندها؟ غريب في بيتها؟ بل قوله لها: مَعَادَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّ أَحْسَنَ مَنْوَاى إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ ﴾ [يوسف: ٢٣] يدل على أنه كان يخاطبها بأسلوب مؤدَّب مهذب، وهذا هو اللائق بمقامه والمناسب لموقفه منها.

قال الزمخشري: «وقد فُسِّر هم يوسف بأنه حل الحميان، وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع، وهي مستلقية على قفاها. وفسر البرهان بأنه سمع صوتا: إيَّاك وإيَّاها. فلم يكترث له، فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثًا: أعرض عنها. فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضًا على أنملته، وقيل: ضرب بيده في صدره، فخرجت شهوته من

أنامله. وقيل:

صیح به: يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له.

بدع التفاسير

१०

وقيل: بدت كفّ فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَفِظِينَ كِرَامًا كَئِبِينَ } [الانفطار : ۱۰ - ۱۱] فلم ينصرف، فرأى فيها: وَلَا تَقْرَبُوا الزِنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: ٣٢)، فلم ينتبه، ثُمَّ رأى فيها: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: ٢٨١] فلم ينجع فيه. فقال الله الجبريل عليه السَّلام: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط جبريل وهو

يقول: يا يوسف أتعمل عمل السُّفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟! :وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأة إلى صنم لها كان هناك، فسترته. وقالت: أستحي منه أن يرانا. فقال يوسف: استحييت ممن لا يسمع

ولا يبصر ، ولا أستحي من السميع البصير العليم بذوات الصدور». قلت: هذه الأقاويل من بدع التفاسير، وقد أحسن ردها الزمخشري حيث قال: «ولو وجدت من يوسف عليه السَّلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكرت توبته و استغفاره، كما نُعيت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب، وعلى ذي النون، وذكرت توبتهم واستغفارهم كيف وقد أثني عليه وسُمِّي مُخلَصا فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدَّحض ، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوة والعزم، ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين، ثُمَّ في القرآن الذي هو حُجَّةٌ على سائر كتبه، ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها (۱) ليجعل له لسان

(۱) ولم يضرب سورة لأيوب عليه السَّلام مع عظيم ما أصابه من الضُّر حتى أثنى الله عليه بقوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْتَهُ صَابِر أَنِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَابُ ﴾ [ص: ٤٤] ويؤخذ من هذا أَنَّ

47

القرآن الكريم

صدق في الآخرين، كما جعله لجده إبراهيم عليه السَّلام، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العِفَّة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار». قلت: ويعجبني قول الإمام الرازي في هذا المقام: إنَّ يوسف عليه السَّلام برأه الله تعالى بقوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: ٢٤] وبرأته النسوة قُلْنَ حَشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سوء [يوسف: (٥١) وبرأته إمرأة العزيز، قالت: وَالْعَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَوَدتُهُ عَن نَّفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّدِقِينَ ﴾ [يوسف: ٥١] وبرأه الشيطان: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أغْوَيْنَنِي لَأُزَتِنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُم لا الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : ٣٩ - ٤٠] فمن يتهمه بعد ذلك ؟!

۲- قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف: ٣١] الآية، أي: فلما رأين يوسف أعظمنه وهِبْنَ حُسنه الرائع.

ومن بدع التفاسير : ما حكاه الزمخشري فقال: وقيل: «أَكْبَرن» بمعنى: حصن، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت. وحقيقته: دخلت في

الكبر؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصِّغَر إلى حد الكبر. وكأنَّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:

خَفِ اللَّهَ وَاسْتُر ذَا الجَمالَ بُرقع فَإِنْ تُحْتَ حَاضَتْ فِي الخُدُورِ العَوَاتِقُ بُيُرْقُعِ

الصبر عن المعصية مع قوة الشَّهوة الداعية إليها أعظم عند الله من الصبر على البلية في أو مال أو ولد. وجاء في حديث ضعيف: «إنَّ الصبر على فعل الطاعة بثلاثمائة

حسنة، والصّبر على المصيبة بستمائة، والصبر عن المعصية بتسعمائة».

بدع التفاسير

۹۷

قلت: هذ التفسير - وإن لم يتعقبه هو ولا البيضاوي- بعيد من السياق، بل

هو من غريب اللغة الذي يجب اجتنابه في تفسير القرآن الكريم. قوله تعالى: وَقَالَ يوسف اللَّذِي ظَنَّ أَيمَن أَنَّسُنَاجٍ مِنْهُمَا وهو الساقي اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّك سيدك فقل له: إنَّ في السجن غلاما محبوسا ظلما، فخرج فَأَنسَهُ ) أي : السَّاقِي الشَّيْطَنُ ذِكْرَ يوسف

عند رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السَجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: ٤٢].

فمعنى الآية: أنسى الشَّيطانُ السَّاقي أن يذكر يوسف عند الملك؛ فمكث يوسف في السجن بضع سنين، ونسب الإنساء للشَّيطان؛ لأنَّ ما ترتب عليه من مكث يوسف في السجن مظلومًا يُحِبُّه الشَّيطان.

ومن بدع التفاسير : أنَّ الضمير في «أنساه» يعود على يوسف، والمعنى أنسى الشَّيطان يوسف ذكر ربه عزّ وجلَّ حين استغاث بمخلوق، فعوتب ببقائه في

السجن بضع سنين.

وهذا باطل؛ لأنَّ الله تعالى أخبر عن يوسف في أول السورة بأنه من عباده المخلصين، فكيف يخبر عنه هنا بأنَّ الشيطان تمكّن منه وأنساه ذكر ربه تعالى؟! هذا تناقض يتنزه عنه القرآن، وقوله للسَّاقي اذكرني عند الملك ليس استغاثة بمخلوق، لكنَّه سعي مشروع لبيان حاله عند الملك، حتى يتخلص من الظلم الواقع عليه، وكيف ينسى الله أو يستغيث بسواه وهو الذي يدعو في السجن إلى توحيده وعبادته؟!

قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ وَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا

۹۸

القرآن الكريم

مصْرَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ ﴾ [يوسف: ۹۹] أي: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله، فالمشيئة تعلقت بالدخول مكيفا بالأمن، وهذا نحو قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ عَامِنِينَ ﴾ [الفتح: ٢٧].

قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير : أنَّ قول : إن شَاءَ اللهُ ) من باب

التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف: ٩٨] في كلام يعقوب أي سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله - ولا أدري ما أقول فيه وفي نظائره؟».

قلت: ومن بدع التفاسير أيضًا استنباط بعض الجهلة من الآية أنَّ كل من دخل مصر آمن، وهي لا تدل على ذلك؛ لأنها خطاب من يوسف لأهله، وإنَّما يستفاد الأمان من قوله تعالى عن البيت الحرام: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ عَامِنَا [آل عمران: ٩٧] فهذه الآية تعم كل داخل للبيت الحرام كما هو ظاهر.

ومن سورة الرعد

۱- قوله تعالى: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَيْكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [الرعد: ١٣] تسبيح الرعد إمَّا أن يراد به تسبيح سامعيه، فيكون من مجاز الحذف. أو يراد به: دلالته على قدرة الله تعالى متلبسة بدلالته على نعمة المطر التي

يُحمد عليها، فيكون من قبيل الاستعارة.

أو : أنه يسبح حقيقةً، وإن كنا لا نفقه تسبيحه.

أو : هو اسم مَلَك موكَّل بالسَّحاب كما جاء في حديث ابن عباس عند أحمد

بدع التفاسير

۹۹

والترمذي والنسائي، ولفظه عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى النبي صلى الله

من

عليه وآله وسلم، فقالوا: أخبرنا يا أبا القاسم عن الرَّعد؟ قال: «مَلَكٌ . الملائكة مُوَكَّلٌ بالسَّحابِ، معه تجاديف من نار يسوقُ بها السحاب» قالوا: فما هذا الصوت؟ قال: «زَجْرُه للسَّحاب» قالوا: صدقت.

وروى الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي عمران الكوفي، عن ابن جريج وعطاء، عن جابر: أنَّ خزيمة بن ثابت - وليس بالأنصاري - سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن الرَّعْد؟ فقال: «هو مَلَكٌ بيده مِخْرَاقٌ إِذا رفع بَرَقَتْ، وإذا زَجَر رَعَدَتْ وإِذا ضرب صَعِقَتْ» والحديث ضعيفٌ.

قال الزمخشري: ومن بِدَع المتصوفة، الرَّعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم.

ومن سورة إبراهيم

١ - قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ [إبراهيم: ٩] أي: هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطًا لهم من التصديق بهم، وهذا التأويل واضح قوي، يتفق مع سياق الآية ونظمها.

وقد أبدى الشريف المرتضى وجوها من التأويل تعتبر من بدع التفاسير. منها: أن المعنى : فرَدُّوا أيديهم في أفواههم عاضين عليها غيظًا وحنقًا على

الأنبياء.

القرآن الكريم ومنها: فرَدُّوا أيديهم في أفواههم مشيرين إلى رسلهم بأن يكفوا عن

الكلام، ويمسكوا عنه، وهذه عادة من يريد أن يُسكت غيره. وسياق الآية لا يناسب هذين الوجهين، وإنَّما يناسب إقناط الرسل من الإيمان كما قدمنا.

ومنها: أن يكون الضمير في أَفْوَاهِهِمْ ﴾ يعود على الرسل، والمعنى: أنَّ الكفَّار رَدُّوا أيديهم في أفواه الرُّسل مانعين لهم من الكلام، كما يفعل المسكت منا لصاحبه الراد لقوله، وهذا ينافي سياق الآية كما سبق، وينافي نظمها الذي

يقتضي عود الضمير في أَيْدِيَهُمْ وَأَفْوَاهِهِمْ ﴾ على الكفار. ومنها: أن الضميرين يعودان على الرُّسل، والمعنى: أنَّ الكفَّار ردُّوا أيدي الرسل في أفواههم، ليُسكتوهم ويقطعوا كلامهم، وهذا مع بعده- ينافي سياق الآية ونظمها.

ومنها: أنَّ الضمير في أَفْوَاهِهِمْ يعود على الرسل، والمعنى: أنَّ الكفار ردُّوا أيديهم في أفواه الرُّسل مكذِّبين لهم، وليست الأيدي على حقيقتها، وإنما ذكرت كناية عن التكذيب وعدم الإصغاء إلى قول الرسل، وفي هذا الوجه

تعسف ومخالفة لنظم الآية. أنَّ المراد بالأيدي النعم، والضمير المضافة هي إليه يعود على

ومنها:

الرسل، وفي بمعنى الباء، والضمير في أَفْوَاهِهِمْ * يعود على الكفار، والمعنى: فردُّوا نِعم الرسل بأفواههم، أي: ردُّوا وعظهم وإنذارهم. وفي هذا

الوجه تعسف كبير وخروج على نظم الآية.

بدع التفاسير

۱۰۱

ومنها: أن تكون الأيدي بمعنى النّعم أيضًا، والضمير فيها يعود على الكفار. والمعنى : فرَدُّوا بأفواههم نعمهم التي جاء بها الرسل وأضيفت النعم إليهم؛ لأنها من نعم الله تعالى عليهم، وهذا الوجه أكثر تعشفًا من سابقه وكيف تضاف النعم إليهم وهم منسلخون منها، بل رافضون لها كل الرفض. ومنها: وجه نقله عن أبي مسلم الأصفهاني في "تفسيره" وهو: عود

الضميرين في أيديهم وأَفْوَاهِهِمْ : على الرسل.

والمراد بالأيدي ما نطق به الرُّسل من البينات والحجج التي جاءوا بها قومهم؛ لأنها من نعم الله تعالى. ولما كان ما يعظ به الأنبياء قومهم وينذرونهم به إنَّما يخرج من أفواههم، فرَدُّوه وكذَّبُوه . قيل: إنهم ردُّوا أيديهم في أفواههم، أي: أنهم ردُّوا القول من حيث جاء، قال: ولا يجوز أن يكون الضمير في ذلك للمرسل إليهم، كما تأوّله بعض المفسرين. وذكر أنَّ معناه: أنَّهم عَضُوا عليهم أناملهم غيظا؛ لأنَّ رافع يده إلى فيه والعاضّ عليها لا يُسمَّى رادا ليده إلى فيه، إلا إذا كانت يده في فيه فيخرجها ثم يردُّها. قلت: هذا الوجه بعيد متكلّف، وهو ينافي نظم الآية أيضًا، وما اعترض به، أجاب عنه المرتضى بأنه قد يُقال: ردَّ يده إلى فيه وإلى وجهه، وعاد فلان

هذا

يقول كذا، ورجع يفعل كذا، وإن لم يتقدَّم ذلك الفعل منه، ولو لم يسغ . القول تحقيقا لساغ تجوزًا واتساعا على أنه يمكن أن يكون المراد بذلك أنهم فعلوا الفعل شيئًا بعد شيء، وتكرّر منهم، فلهذا جاز أن يقول: ردُّوا أيديهم في

أفواههم؛ لأنَّه قد تقدَّم مثل هذا الفعل، فلما تكرر جازت العبارة عنه بالرد. قلت: يؤيد جوابه الأوّل قوله تعالى حكايةً عن شعيب عليه السلام: قَدِ

۱۰۲

القرآن الكريم

افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَيْكُم بَعْدَ إِذْ نَجَيْنَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ [الأعراف: ۸۹] وشعيب

لم يكن في ملتهم قط.

ومن سورة النحل

۱- قوله تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ ﴾ [النحل: ٦٢] قال الفراء: لا جرم هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد، ولا محاله، فجرت على ذلك وكثرت، حتى تحوّلت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقا، فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب بها عن القسم ألا تراهم يقولون لا جرم لآتينك! وليس قول من قال: جرمت حققت بشيء.

قلت: ومعنى الآية على هذا واضح، فبعد أن حكى الله تعالى قولهم: ان لَهُمُ الْحُسْنَى [النحل: ٦٢] ردَّ عليهم بصيغة تفيد التأكيد فقال: لا جرم أي: حقا أنَّ لهم النَّار، فلا نافية للجنس، وجرم مبني على الفتح في محل نصب اسمها ، وأَنَّهُمُ النَّارَ في موضع خبرها، وقيل في لا جرم و جهان آخران:

أحدهما : أن لا نفي لكلام الكفَّار السابق، وجرم فعل ماضي

بمعنى: حق وثبت. وأَنَّهُمُ النَّارَ في موضع رفع فاعل، وتقدم قول الفراء:

أن من جعل جرم معنى حق، ليس كلامه بشيء.

والثاني: أن لا نفي

نفي لكلام الكفار أيضًا، ولا جرم فعل ماض

بدع التفاسير

۱۰۳

معناه كسب و أَنَّهُمُ النَّارَ في موضع نصب مفعول، والفاعل محذوف

يفهم من السياق.

والتقدير على الوجهين: لا رد لكلام الكفَّار. ثُمَّ ابتدأ: حق أَنَّ لَهُمُ

النار، أو كسب قولهم : وَأَنَّهُمُ النَّارَ .

والتقدير فيه تكلف ظاهر، وهو يقتضي الوقف على : لا . وليس أحد

من القراء وقف عليها، فالوجهان جديران بأن يكونا من بدع التفاسير. (تنبيه) : في لَا جَرَمَ :لغات: بفتح الجيم والراء وهي المشهورة. وبضم الجيم وسكون الراء. ولاجر، بحذف الميم. ولا ذا جرم، قال الشاعر: إِنَّ كلابا والـ دي لا ذا جـــــــــــرم لأهــــــدرن اليوم هدرا في النعم

هَدْرَ المُعَنَّى ذي الشَّعَاشِقِ اللَّهِم (۱)

والتصرف فيها على هذا الوجه يؤيد قول الفراء، ولو كان جرم فعلا

ماضيّا، ما تصرفوا فيه بحذف آخره، وتغير بنيته.

۲- قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى الفَحْلِ ﴾ [النحل: ٦٨] الآية. النحل معروف،

(۱) لأهدرن: لأصوتنَّ، من الهدير ، وهو تردد صوت البعير في حنجرته. والمعنى - بصيغة اسم المفعول - الفحل من الإبل يُحبس في الحظيرة إذا هاج حتى لا يضرب في النُّوق. والشَّقَاشِق جمع شِقْشِقة وهي كالرئة تخرج من فم البعير عند هيجانه، واللهم بكسر الهاء الذي يلتهم أي يبتلع ما يعرض له.

١٠٤

القرآن الكريم

والشراب الذي يخرج من بطنه معروف أيضًا، وهما المرادان بهذه الآية عند جميع المفسرين.

قال الزمخشري: ومن بدع تأويلات الرافضة أنَّ المراد بالنحل: علي وقومه. وعن بعضهم: أنَّه قال عند المهدي الخليفة: إنَّما النَّحل بنو هاشم، يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك ما يخرج من بطونهم. فضحك المهدي، وحدَّث به المنصور فاتخذوه أضحوكة». قلت لهم كثير من مثل هذه التأويلات المضحكة.

ومن سورة الإسراء

١- قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناس باسمهم [الإسراء: ۷۱] معنى الآية: أنَّ الناس ينادون يوم القيامة بإمامهم الذين اقتدوا به في الدنيا. فيقال: يا أتباع القرآن، يا أتباع إبراهيم، ومن هنا كان في هذه الآية فضيلة كبيرة لأهل الحديث جعلنا الله منهم؛ لأنّهم أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم تبعية

خاصة.

قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير : أنَّ الإمام جمع أُم، وأَنَّ النَّاسِ يُدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأنَّ الحكمة في الدُّعاء بالأمهات دون الآباء، رعاية حق عيسى عليه السّلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا (۱) وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه، أم بهاء حكمته؟!»

(۱) روى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس مرفوعا: «أنَّ الله يدعو النَّاس يوم القيامة

بدع التفاسير

1+0

قلت: قد وفَّاه حقه من التهكم؛ لأنَّ جمع الأم أُمَّات وأُمهات، وولادة عيسى من غير أب جعلها الله شرفا له وآية، ولم يذكره الله في القرآن إلا منسوبًا لأمه تنبيها لعابديه على أنه مخلوق، وشرف الحسن والحسين لا يحتاج إلى هذه الحكمة المخترعة، وأولاد الزّنا إن كانوا صالحين لا يضيرهم أن يُدعوا بأمهاتهم، بل بركة صلاحهم تنفعهم في ذلك الموقف فلا يفضحهم الله تعالى. والعجيب أن البيضاوي وهو مُلَخَّص "للكشاف"- اعتمد هذا التفسير! ووجّهَهُ بأنَّ الأم تجمع على إمام، كخُفٌ وخفاف، وإن صح له هذا

بأمهاتهم سترًا منه على عباده في إسناده وضَاع. وورد نحوه من حديث عائشة وأنس بأسانيد ضعيفة، ولذا ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات". وهو معارض بحديث أبي الدرداء مرفوعا: «إنَّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم». رواه أبو داود بإسناد جيد، وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر مرفوعا: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان

فهذا الحديثان الصحيحان يفيدان أنَّ النَّاس يُدعون يوم القيامة بأسماء آبائهم، وهم في ذلك اليوم مشغولون بأنفسهم، يفر أحدهم من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، فكيف يتفرّغ للبحث في أنَّ هذا ابن زنا أو ابن

حلال ؟!!

وإنما يكون هذا في الدنيا حيث يتفرغ النَّاس للطعن في الأنساب، والبحث في العورات، ولهذا جاء في حديث تلقين الميت أن يقال له: يا فلان بن فلانة... فإن لم يعرف اسمها فليقل يا فلان ابن حواء والحكمة في هذا ستر الميت من قالة النَّاس

وعيبهم له.

١٠٦

القرآن الكريم

فكيف يفعل بقراءة الحسن بكتابهم»؟ وهي وإن كانت شاذة، تجري مجرى الآحاد، في تعيين المعنى المراد حسبما تقرّر في علم الأصول، وأيضًا فإنَّ الآية تفيد دعاء كل أناس باعتبارهم جماعة يتبعون داعيًا من الدعاة، أو كتابا من الكتب، وحكمة الدُّعاء على هذا الوجه إظهار فضل أهل الحق وفوزهم، وهم أتباع القرآن ودين الإسلام، وإظهار خسران غيرهم، وهم أتباع أي دين غير دين الإسلام، والحديث الصحيح يؤيد هذا أيضًا.

۲ - قوله تعالى: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنيا أَعْمَى عن الحقِّ لا يبصر رشده فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى عن طريق النَّجاة وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: ۷۲] أبعد طريقًا عنه، والعمى كناية عن عمى قلوب الكفَّار، وعدم اهتدائهم لطريق الحق، وهذه الآية في معنى ومن أوتي كتابه بشماله فهو لا يهتدى لقراءة كتابه قراءة تسره وتُنجيه؛ لأنّها ذُكرت في مقابلة قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَبَه

بِيَمِينِهِ فَأُولَبِكَ يَقْرَءُونَ كِتَبَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [الإسراء: ٧١]. ومن بدع التفاسير : جعل الآية مرتبطة بقوله تعالى : الله رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ﴾ [الإسراء: ٦٦] إلى قوله: وَلَقَدْ كَرَمْنَا بَنِي عَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْتَهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَى

كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: ۷۰] ثم قال : وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ ٧٠]

ا

يعني: عن هذه النعم وعن هذه العبر أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ * يعني فهو عَمَّا

يغيب عنه من أمر الآخرة أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ونُسب هذا التفسير إلى ابن

بدع التفاسير

عباس ولا يصح عنه، وهو تأويل ركيك.

۱۰۷

قوله تعالى: وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ

الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: ٨٥]. ذكر المرتضى في هذه الآية وجهين، ثُمَّ قال: وثالثها: أنهم سألوا عن الرُّوح الذي هو القرآن، وقد سمى الله القرآن روحًا في مواضع من الكتاب، وإذا كان السؤال عن القرآن فقد وقع الجواب موقعه؛ لأنه قال لهم: الرُّوح الذي هو القرآن من أمر ربي، ومما أنزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم، ليجعله دلالةً وعَلَمًا على صدقه، وليس من فعل

المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم، وهذا جواب الحسن البصري.

ويقويه قوله تعالى: وَلَيِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ به علينا وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: ٨٦] فكأنه تعالى قال: إنَّ القرآن من أمري وفعلي، وكما أنزلته عَلَمًا على نبوة رسولي، ولو شئت لرفعته وأزلته وتصرفت فيه كما يتصرف الفاعل فيما يفعله».

قلت: ليس في الآية دلالة بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالإشارة على أنَّ القرآن من فعل الله، وأنَّه يتصرف فيه تصرُّف الفاعل فيما يفعله. وتسميته في غير هذه الآية روحًا مجاز؛ لأنَّ النَّاس يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح. فما ذكره في هذا الوجه من بِدَع التفاسير؛ لأنه حمل الآية مالا تحتمله واستخرج منها بطريق التعمد الخاطيء - الإفادة بخلق القرآن، وهو القول الذي خالف به المعتزلة ومن وافقهم من الإماميَّة إجماع علماء المسلمين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والرُّوح الذي سألت عنه قريش -بإشارة

۱۰۸

القرآن الكريم

اليهود كما في "سيرة ابن هشام هو الرُّوح الذي به قوام الجسم وحياته، كما تقدم للمرتضى في الوجهين السابقين، أما القرآن فلا معنى لسؤالهم عنه؛ لأنهم إما أن يؤمنوا به فيعلموا أنه وحي من الله تعالى، وإما أن لا يؤمنوا به فيقولوا: سحر، أو شعر، أو كهانة، كما حكى الله قولهم في غير آيةٍ ورد عليهم.

من سورة الكهف (1)

۱- قوله تعالى: وَلَا نَقُولَنَّ لِشَاء إِنِّي فَاعِلُ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ الله ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤] نزلت الآية تأديبا من الله لنبيه، حين قالت قريش- بإشارة اليهود : أخبرنا عن الرُّوح وذي القرنين وأصحاب الكهف، فقال: ائتوني غدًا أخبركم ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يوما حتى شقّ عليه، وكذبته قريش والاستثناء من النهي أي: ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه: إنّي فاعله فيما يستقبل، إلا أن يشاء الله، أي: إلَّا متلبسًا بمشيئته قائلا: إن شاء الله، أو: ولا تقولنّ ذلك إلَّا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه، وفيه لفظ «وقت» محذوف للعلم به، تقديره: إلَّا وقت أن يشاء الله أن تقوله. حكى الزمخشري هذين الوجهين، وقال:

وفيه وجة ثالث: وهو أن يكون إن شاء الله في معنى كلمة تأييد كأنه قيل: ولا تقولنه أبدا، ونحوه قوله: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ

(۱) من بدع التفاسير في كلب أهل الكهف: إنَّه كان أسدا، وقيل: كان رجلا، سُمّي بالكلب الملازمته للحراسة حكاهما الحلبي في "سيرته"، والصواب أنه كان كلبًا حقيقةً.

بدع التفاسير

1.9

ربنا ﴾ [الأعراف: ۸۹].

قلت: هذا من بِدَع التفاسير؛ لأنَّه صرفٌ للآية عن ظاهرها، إذ معناها الظاهر والمناسب لسبب نزولها، هو ما تقدم؛ ولأنَّ جعل المشيئة لتأييد النهي، مبني على مذهبه الاعتزالي في أنَّ مشيئة الله لا تتعلق بجميع أفعال المكلفين، كما سبق في خطبة الكتاب، بل ببعضها.

وحكى المرتضى وجهًا آخر عن الفراء، وهو جعل الاستثناء متصلا بفاعل والتقدير: ولا تقولن إنَّك فاعل إلا ما يشاء الله. قال: وما رأيته أي هذا التأويل - إلا له، ومن العجب تغلغله إلى مثل هذا!! مع أنه لم يكن متظاهرًا

بالقول بالعدل.

قلت: هذا التأويل اعتزالي ،محض ، إذ معناه أنَّ الله تعالى ينهى أن يقول أحدٌ: إنِّي أفعل ذلك إلَّا أن يشاء الله، معلقا فعله على مشيئة الله؛ لأنه تعالى لا يشاء جميع ما يفعله الناس.

وهذا من بدع التفاسير؛ لأنه ينا في مدلول الآية، ولا يتفق مع سبب نزولها، ويظهر أن الفراء كان معتزليًّا يُخفي ،مذهبه كما كان أبو عبيدة خارجيا يُخفي مذهبه، إلا عن أصدقائه الخاصين به، وكان يغضب من أحدهم إذا لم يقل عن قطري بن الفجاءة: أمير المؤمنين.

وقال أبو علي الجبائي في "تفسيره": «إنَّما عني بذلك أنَّ من كان لا يعلم أنَّه يبقى إلى غد حيا، فلا يجوز أن يقول : إني سأفعل غدًا كذا وكذا. فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدري لعله سيموت ولا يفعل ما أخبر به؛ لأنَّ هذا الخبر إذا لم

۱۱۰

القرآن الكريم

يوجد

يوجد مخبره على ما أخبر به فهو كذب، وإذا كان المخبر لا يأمن أن لا . مخبره لحدوث أمر من فعل الله نحو الموت أو العجز أو بعض الأمراض، أو لا

يحدث ذلك بأن يبدو له هو في ذلك، فلا يأمن أن يكون خبره كذبًا في معلوم الله عز وجل. وإذا لم يأمن ذلك لم يجز أن يخبر به. ولا يعد خبره هذا من الكذب إلَّا بالاستثناء الذي ذكره الله تعالى، فإذا قال: إني صائر غدًا إلى المسجد إن شاء الله، فاستثنى في مصيره مشيئة الله أمن أن يكون خبره في هذا كذبًا؛ لأنَّ الله إن شاء أن يُلجئه إلى المصير إلى المسجد غدًا ألجأه إلى ذلك، وكان المصير منه لا محالة، فإذ كان ذلك على ما وصفنا لم یکن خبره هذا كذبًا وإن لم يوجد منه المصير إلى المسجد؛ لأنه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى - يعني مشيئة الإلجاء.

أَلَّا

قال: وينبغي مشيئة الله لمصيره إلى المسجد على وجه التعبد فهو لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأنَّ الإنسان قد يترك كثيرًا مما يشاؤه الله تعالى منه ويتعبده به، ولو كان استثناء مشيئة الله لأن يبقيه ويقدره ويرفع عنه الموانع ما كان أيضًا لا يأمن أن يكون خبره كذبًا؛ لأنه قد يجوز ألا يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرًا مختارا، فلا يأمن من الكذب في هذا الخبر دون أن يستثني المشيئة العامة التي ذكرناها، فإذا دخلت هذه المشيئة في الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا، إذ كانت

يستثني مشيئته دون مشيئة؛ لأنه إن استثنى في ذلك

هذه المشيئة متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة». قلت: هذا التأويل رغم ما أطال صاحبه في تقديره باطل لأربعة أمور: أحدها: تخصيص لفظ «شيء» وهو أعم ألفاظ العموم بعمل الطاعة.

بدع التفاسير

۱۱۱

ثانيها: جعل مذهبه الاعتزالي وهو أنَّ مشيئة الله لا تتعلق بأفعال المكلف

المحرَّمة والمكروهة والمباحة - دليلا على التخصيص المذكور.

ثالثها: تقييد المشيئة بمشيئة الإلجاء.

رابعها اتخاذ مذهبه في أنَّ العبد يفعل باختياره ما لا يشاؤه الله منه دليلًا على التقييد المذكور.

ومن بدع التفاسير أن يجعل المفسّر مذهبه دليلا على تخصيص لفظ في الآية،

أو تقييده، مضافاً إلى غفلته عما يفيده سياق الآية، وسبب نزولها.

۲- قوله تعالى: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ [الكهف: ٦٠] هو المكان الذي وعد موسى لقاء الخضر عنده، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق وقيل: طنجة، وقيل: إفريقيا.

قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنَّ البحرين موسى والخضر؛ لأنهما كانا بحرين في العلم.

قلت: حكاه البيضاوي مصرحًا بأنَّ موسى بحر في علم «الظاهر» والخضر بحر في علم الباطن» وقد قدَّمنا أنَّ ما يحكيه القرآن عن السابقين من الأنبياء وغيرهم يجب حمله على الحقيقة كما هنا، فإنَّنا لا ندري هل كان في لغة موسى التي خاطب بها فتاه إطلاق البحر على العالم مجازا أو كناية كما في لغة العرب؟ وعلى هذا فالمتيقن في المَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ هو المعنى الحقيقي الذي ذكره

المفسرون جميعهم، وما عداه من بدع التفاسير حتما (۱).

(۱) نعم يصح أن يكون تفسيرًا إشاريًا، وهو نوع من التفسير بينته في الخاتمة.

۱۱۲

القرآن الكريم

من سورة مريم

۱- قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } [مريم: ١٧] معنى الآية: أنَّ الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام- إلى مريم، فظهر لها في صورة بشير، إلى آخر القصة.

وروى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي بن كعب، في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّهُمْ ﴾ [الأعراف: ۱۷۲] الآية. وذكر حديثاً طويلًا في استنطاق الأرواح وهي في عالم الذر، وفيه: وكان روح عيسى - عليه السلام - من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم. فأرسل ذلك الرُّوح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيًّا، فأرسله الله في صورة بشر، فتمثل لها بشرًا سويا، فحملت الذي يخاطبها، فدخل من فيها !! قال ابن تيمية هذا غلط، فإنَّ الذي أُرسل إليها: الملك الذي

قال لها: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ عَلَمَا زَكِيا [مريم: ١٩] ولم يكن الذي خاطبها بهذا عيسى ابن مريم، هذا محال.

قلت: أبو جعفر الرازي ضعيفٌ ، ضعفه أحمد وغيره، وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير وهذا من مناكيره الواصلة إلى حد الاستحالة وعدم الإمكان، فهو من بدع التفاسير (۱).

(1) من بدع التفاسير في مسألة مريم رأي أبداه لي طبيب في كلية الطب وكان يُعنى بالمسائل الدينية، وحاصل ذلك الرأي: أنَّ . كانت خُنثى، عندها عضو الذكر

مریم

بدع التفاسير

۱۱۳

۲ - قوله تعالى: أَسْمعَ بِهِمْ وَأَبْصِرَ يَوْمَ يَأْتُونَنَا يعني: يوم القيامة ولكن

الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ ) يعني: في حياتهم الدنيا و في ضَلَالٍ مُّبِينِ ﴾ [مريم: ۳۸] في ذهاب عن العلم بالله ودينه.

وصيغة أسمع ووأبصر تفيد التعجب، والمراد: أنَّ أسماع الكفار وأبصارهم جديرٌ بأن يُتعجب منها يوم القيامة، لعلمها بما كانت عنه صما وعميا في الدنيا.

من وضعت

وعضو الأنثى، والدليل على هذا: أنَّ أم مريم لما وضعتها قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أنثى ﴾ [آل عمران: ٣٦] ، فردَّ الله كلامها بقوله: ﴿ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ [آل عمران: ٣٦] أي: ليست أنثى كما فهمت، بل خُنثى فلما بعث الله لها جبريل في صورة بشر، علمها الاستمناء فخرج المني من عضو الذكر ودخل في عضو الأنثى فحملت. وهذا معنى قوله : لأَهَبَ لَكِ عَلَمَا زَكِيَّا بتعليمك طريق التناسل بين العضوين، وبسببه جاء الغلام، وهو أيضًا معنى النفخ في فرجها على سبيل الكناية فأوردت عليه قراءة حمزة: «والله أعلم بما وضعت» التاء بضم والقراءات يفسر بعضها بعضا فالجملة على القراءتين المتواترتين تفيد توجع أم مريم وتأسفها على فوات مطلوبها حيث نذرت الخدمة بيت المقدس ذكرًا فجاء المولود أنثى، ولهذا حصل التعقيب بجملة وَلَيْسَ الذكر كالأُنثى ﴾ [آل عمران: ٣٦] أي: ليس الذكر المطلوب كالأنثى المعطاة. فلم يجد مخلصا من هذا الإيراد. والحقيقة أنه رأي باطل جدًّا، ويكفي في بطلانه قول الملائكة لمريم: لا يَمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ أَصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَنَكِ عَلَى نِسَاء الْعَلَمِينَ [آل عمران: ٤٢]. وقوله تعالى: ومنهم ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرَجَهَا ﴾ [التحريم: ١٢].

١١٤

القرآن الكريم

قال المرتضى: «أما قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبصر فهو على مذهب العرب في التعجب ويجري مجرى قولهم ما أسمعه! وما أبصره! والمراد بذلك الإخبار عن قوة علومهم بالله في تلك الحال، وأنهم عارفون به على وجه لا اعتراض للشبهة عليه، وهذا يدل على أنَّ أهل الآخرة عارفون بالله تعالى ضرورة، ولا تنافي بين هذه الآية وبين الآيات التي أخبر عنهم فيها بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون، وبأنَّ على أبصارهم غِشَاوَةٌ؛ لأنَّ تلك الآيات تناولت أحوال التكليف، وهي الأحوال التي كان الكفَّار فيها ضلالا .

جاهلين بالله وصفاته.

عن الدين،

وهذه الآية تناولت يوم القيامة وهو المعني بقوله: يَوْمَ يَأْتُونَنَا وأحوال يوم القيامة لا بد فيها من المعرفة الضرورية، وتجري هذه الآية مجرى قوله

تعالى: فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَ كَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: ۲۲] .

فأما قوله تعالى: وَلَكِنِ الظَّلِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِين فيحتمل أن يريد تعالى

بقوله: اليوم الدنيا وأحوال التكليف، ويكون الضَّلال المذكور إنَّما هو الذهاب عن الدين والعدول عن الحقِّ . فأراد تعالى أنهم في الدنيا جاهلون، وفي الآخرة عارفون، بحيث لا تنفعهم المعرفة.

ويحتمل أن يريد تعالى بـ اليوم يوم القيامة، ويعني تعالى بالـ«ضلال» العدول عن طريق الجنَّة ودار الثّواب إلى دار العقاب، فكأنه تعالى قال: أسمع بهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ، غير أنَّهم مع معرفتهم هذه وعلمهم يصيرون في هذا

بدع التفاسير

اليوم إلى العقاب، ويعدل بهم عن طريق النواب».

قلت في هذا الوجه بعد لا يخفى

110

وقال الزمخشري : معناه - أي أسمع بهم وأبصر : التهديد بما سيسمعون

ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم.

-8

ومن بدع التفاسير : ما ذكره أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي في تفسيره، فقال: أسمع بهم وَأَبْصِرَ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ) أي: أسمعهم وبصرهم وبين لهم أنهم إذا أتوا مع النَّاس إلى موضع الجزاء، يكونون في ضلال عن الجنَّة وعن الثَّواب الذي يناله المؤمنون، والظالمون الذين ذكرهم الله هم هؤلاء الذين توعدهم الله بالعذاب في ذلك اليوم.

ويجوز أيضًا أن يكون عَنَى بقوله: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: أسمع النَّاس بهؤلاء الأنبياء وأبصرهم بهم ليعرفوهم ويعرفوا خبرهم، فيؤمنوا بهم ويقتدوا بأعمالهم، وأراد بقوله تعالى: لَكِنِ الظَّالِمُونَ لكن من كفر بهم من ا

الظالمين

اليوم وهو يعني يوم القيامة - في ضلال عن الجنَّة وعن نيل الثواب المبين». قلت: هذان الوجهان باطلان، تولى ردّهما الشريف المرتضى، فقال في الوجه الأول: أنَّ الكلام - وإن كان محتملا لما ذكره بعض الاحتمال من بعد فإنَّ الأولى والأظهر ما تقدَّم ذكره من المبالغة في وصفهم -يعني بإفادة التعجب وقوله : ولَكِنِ الظَّلِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَلٍ مُّبِين بعد ما تقدَّم لا يليق إِلَّا بالمعنى المذكور، لا سيما إذا حمل اليوم على أنَّ المراد به يوم القيامة، على أنَّ أبا على جعل قوله تعالى: وَلَكِنِ الظَّلِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينِ صلة ومتعلقا بقوله

117

القرآن الكريم

تعالى: أسمع بهم وأبصر والمعنى: أعلمهم وبصرهم بأنهم يوم القيامة في ضلال عن الجنَّة، والكلام يشهد بأنَّ ذلك لا يكون من صلة الأول، وأن قوله تعالى : لكن استئناف لكلام ثان.

قال: فأمَّا الوجه الثَّاني الذي ذكره فباطل؛ لأنَّ قوله تعالى: أَسمع بهم وأبصر إذا تعلق بالأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى، بقي قوله: يَوْمَ يَأْتُونَنَا بلا عامل، ومحال أن يكون ظرف لا عامل له فالأقرب والأولى أن يكون على الوجه الأول مفعولاً.

ومن سورة طه م

۱- قوله تعالى: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ وَانِيَةً أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ [طه: ١٥] أي: أريد أخفيها فأكاد بمعنى أريد. كما جاء يريد بمعنى يكاد في قوله تعالى: جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَ ﴾ [الكهف: ۷۷] وهذا من لطائف اللغة العربية: أن تُستعمل كلمةٌ مكان أخرى لتناسب بينهما، فإن كاد» تدل على قرب وقوع الفعل، وكذلك من أراد شيئًا فقد قرب فعله له.

وروي عن سعيد بن جبير، أنه كان يقرأ: أكاد أُخْفِيها بفتح الهمزة، أي: أظهرها يقال: خفي الشَّيء يخفيه إذا أظهره، وهذه قراءة شاذة تردُّها

القراءة المتواترة.

وفي أكاد زائدة، والمعنى: أنَّ الساعة آتية أخفيها.

قال المرتضى في "الأمالي": «وقد قيل فيه وجه آخر، وهو: أن يتم الكلام

بدع التفاسير

۱۱۷

عند قوله تعالى: وائية أكاد ويكون المعنى: أكاد آتي بها. ويقع الابتداء بقوله: أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ومما يشهد لهذا الوجه، قول ضابئ

البرجمي: هَمَمْتُ ولم أَفْعَلُ وعِدْتُ ولَيتَني تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكِي حَلَائِلُهُ

أراد وكدت أقتله، فحذف الفعل لبيان معناه .

قلت: هذا الوجه بعيد؛ ولو كان صحيحا لكان نظم الآية: أكاد وأخفيها كما جاء في البيت كدت، وليتني؛ لأنَّ وجود الواو يبين أنَّ الخبر محذوف، ودعوى زيادة أكاد ضعيفة وإن ارتضاها المرتضى، فالوجهان من

بدع التفاسير.

وأرى أن ادعاء زيادة حرف أو كلمة في آية من القرآن كادعاء زيادة الكاف في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى [الشورى: ١١] وأكاد هنا يدل على ضعف صاحب الادّعاء، وعدم إدراكه لما في تلك الحروف والكلمات المدعى

زيادتها من نكات لطيفة يدركها مَنْ تعمَّق في فهم أسرار القرآن الكريم. وقال الزمخشري: «أكاد أخفيها فلا أقول: هي آتية، لفرط إرادتي إخفاءها،

ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به». ومن بدع التفاسير : ما حكاه الزمخشري فقال: «وقيل : معناه: «أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرَّهم منه: أنَّ في مصحف أُبي: «أكاد أخفيها من نفسي». وفي

بعض المصاحف: «أكاد أخفيها من نفسي»، فكيف أظهركم عليها؟!»

۱۱۸

القرآن الكريم

قلت: قد اعتمد هذا التفسير في سورة الأعراف، حيث قال ثمَّة: «إِنَّمَا

علمها ﴾ [الأعراف: ۱۸۷] أي: علم وقت إرسائها عنده، قد استأثر به لم يخبر به

أحد من ملك مقرب، ولا نبي مرسل، يكاد يخفيها من نفسه». وهذا غلط قبيح، وكيف خفي عليه . فطنته وذكائه أن خفاء علم مع الساعة عن الله تعالى مُحال؟! وأنه لا يجوز أن يقال: يكاد يخفيها عن نفسه، ثُمَّ من أكبر عيوب الزمخشري حشد شواذ القراءات، والنقل عن شواذ المصحف، وتكلُّف توجيه تلك الشواذ بغرائب الإعراب ونوادر اللغة، بل لا يعيب كثيرًا

من التفاسير غير هذا، وغير الاعتماد على الإسرائيليات.

۲- قوله تعالى: فَغَشِيهُم مِّنَ اليَم ) أي : البحر مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [طه: ۷۸] أي: البعض الذي غشيهم والمعنى أن الذي أغرق فرعون وقومه بعض ماء البحر لا جميعه. وهذا تأويل الفراء، واعتمده أبو بكر بن الأنباري

وقيل : معنى مَا غَشِيَهُمْ تعظيم الأمر وتفخيمه، المعنى: فغشيهم من اليم ما لا يُدرك لعظمه، ومثله قوله تعالى: وَفَعَلْتَ فَعَلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء: ١٩]. ومنه قول أبي النجم:

أنا أبو النَّجْمِ وشعري شعري لله دَرِّي ما يُحِنُّ صَدْرِي قال الزمخشري : مَا غَشِيَهُمْ من باب الاختصار، ومن جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة، أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله». وقيل : فَغَشِيَهُم مِّنَ جهة اليَمَ مَا غَشِيَهُمْ لا من العطب والهلاك.

بدع التفاسير

ومن بدع التفاسير فَغَشِيَهم أي : فرعون وقومه مِنَ الْيَمَ مَا غَشِيَهُمْ

أي: موسى وقومه. وهو مردود بوجهين:

۱۱۹

الأول: تشتيت الضمائر، حيث إنَّ الضمير في فَغَشِيهم الأولى يعود على

فرعون وقومه وفي غَشِيَهم الثانية يعود على موسى وقومه، وتشتيت الضمائر، يورث في الكلام ضعفا وركاكة.

الثاني: أنَّ البحر لم يغش موسى وقومه، بل انفرق لهم فسلكوا فيه طريقا يبسا. قال تعالى في الآية قبل هذه وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَأَضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَسًا لَا تَخَلَفُ دَرَكَا وَلَا تَخْشَى ﴾ [طه: ۷۷]

- قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [طه: ١١٤ ] كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا نزل عليه القرآن، وسمعه من جبريل عليه السَّلام قرأ معه ما يوحى به إليه أولا فأولا قبل انتهاء الوحي، حرصا على ضبطه وحفظه وخوفًا من نسيان بعضه، فأمره الله تعالى في هذه الآية بانتظار ما يوحى إليه حتى ينتهي إلى غايته.

وقال له في آية اخرى: وَلَا تُحَرَكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ، وَقُرْهَانَهُ فَإِذَا قَرَأْتَهُ فَاتَّبِعْ قُرْهَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: ١٦ – ١٩] فضمن تعالى تحفيظ القرآن له وتثبيته في صدره، وهذا خرج مخرج الإشفاق عليه والترفيه عنه، كما أشرت إليه في كتاب "دلالة القرآن المبين على أن النبيَّ أفضل

العالمين".

۱۲۰

القرآن الكريم

ومن بدع التفاسير : أنَّ المراد نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن تلاوة القرآن على أمته وإبلاغ ما يسمعه منه يسمعه منه إليهم قبل أن يوحى إليه ببيانه، والإفصاح عن معناه وتأويله؛ لأنَّ تلاوته على من لا يفهم معناه لا تحسن، ومعنى مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ من قبل أن يقضى إليك وحي بيانه، وهذا تفسير اعتزالي يخالف سبب النزول، ولا يتلاقى مع سياق الآية ولفظها، هذا مردود بقوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ

وهو مع

إليهم } [النحل : ٤٤]. ومن البدع أيضًا: قول المرتضى: غير ممتنع أن يريد: لا تعجل بأن تستدعي من القرآن ما لم يوح إليك به، فإنَّ الله تعالى إذا علم مصلحة في إنزال القرآن عليك أمر بإنزاله ولم يدخره عنك؛ لأنَّه لا يدَّخر عن عباده الاطلاع لهم على مصالحهم».

قلت: هذا تفسير اعتزالي كسابقه، يخالف نظم الآية وسبب نزولها.

1

قوله تعالى : وعَصَى ءَادَمَ رَبِّه فغوى :[ طه : ١٢١] من الغي ضد الرشد. وكان أكله من الشَّجرة نسيانًا، بدليل الآية السَّابقة : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: ١١٥].

ومن بدع التفاسير قول بعضهم: فغوى: فبشم من كثرة الأكل. قال الزمخشري : وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها

ألف، فيقول في فني وبقي: فنا وبقا وهم بنو طي، تفسير خبيث». قلت: لنسبة آدم عليه السَّلام إلى الشَّرَةِ، وهو دال على الدناءة، والأنبياء

معصومون من الدَّناءة ومن كلِّ خُلُقٍ رديء كعصمتهم من المعاصي.

بدع التفاسير

۱۲۱

ومن سورة الأنبياء

۱- قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنسَنُ مِنْ عَجَل [الأنبياء: ٣٧] كأنه خلق منه، لفرط استعجاله، وقلة تأنيه. كقولك: خُلق حاتم من الكرم، جعل ما طبع عليه كالمطبوع هو منه، ففي الآية استعارة بالكناية.

ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: وَكَانَ الْإِنسَنُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: ۱۱] وقال أبو عبيدة وقطرب بن المستنير: إنَّ في الكلام قلبا، والمعنى: خلق العجل من الإنسان، وهو مثل قوله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾ [آل عمران: ٤٠] أي: قد بلغت الكبر، وقوله تعالى: مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَسَنُوا بِالْعُصْبَةِ ﴾ [القصص: ٧٦] أي: أنَّ العصبة تنوء بها. وتقول العرب عرضت الناقة على الحوض والأصل: عرضت الحوض

على الناقة،

وهو كثير في كلامهم واختار أبو القاسم البلخي المعتزلي هذا التأويل في "تفسيره"، وأيده بما ذكر له من الشَّواهد، ثُمَّ أورد على نفسه سؤالا حاصله كيف جاز أن يقول: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [الأنبياء: ٣٧] وهو خلق العجلة فيهم؟! وأجاب بأنه قد أعطاهم قدرة على مغالبة طباعهم وكفها، وقد يكون الإنسان مطبوعا عليها وهو مع ذلك مأمور بالتثبت، قادر على أن يجانب العجلة، وذلك كخَلْقه في البشر شهوة النكاح، وأمره في كثير من الأوقات بالامتناع عنها.

قلت: السؤال والجواب مبنيان على قاعدة المذهب الاعتزالي: أنَّ التكليف

۱۲۲

القرآن الكريم

لا يتعلق إلا بفعل المكلّف المخلوق بقدرته التي خلقها الله فيه، ولكن التأويل الذي اختاره يضعف من جهة أنَّ القلب خلاف الأصل، وإذا كان القصد منه إفادة كثرة وقوع العَجَل من الإنسان فالتأويل الأول أفاد هذا المعنى بطريق

الاستعارة التي هي أولى من القلب؛ لأنّها مجاز قريب، وهو مجاز بعيد. ومن التفاسير: قول بعضهم: العَجَل الطين بلغة حمير، والمعنى خُلق

الإنسان من طين. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قول الشاعر: والنَّبِعُ يَنْبُتُ بين الصَّخْرِ ضَاحِيةَ والنَّخْلُ يَنْبُتُ بين الماءِ والعَجَـلِ قال الشريف المرتضى: وقد حكى صاحب كتاب "العين" عن بعضهم أنَّ العجل الحمأة ولم يستشهد عليه لكن البيت الذي رواه ثعلب عن ابن

الأعرابي يمكن أن يكون شاهدا له، وذكر البيت السابق.

قال: وإذا صح هذا فوجه المطابقة بينه وبين قوله تعالى: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ أنَّ من خلق الإنسان مع الحكم الظاهرة فيه من الطين، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات، أو يكون المعنى: أنَّه لا يحب لمن خُلق من الطين المهين أن يهزأ برسل الله وآياته وشرائعه؛ لأنه قال تعالى: وَإِذَا رَوَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوا ﴾ [الأنبياء: ٣٦]. قلت: فيما أبداه من وَجْهِي المطابقة تكلُّف، والذي يفيده السياق ويقتضيه نظم الكلام: أنَّ الله وصف الإنسان بكثرة العجلة، توبيخا للمشركين وتقريعًا

.

لهم، وهددهم بأنه سيريهم آياته، ونهاهم عن الاستعجال باستدعاء الآيات إبقاء عليهم وإفساحًا لهم في الأمر ليرجعوا، حتى إذا جاءت الآيات التي

بدع التفاسير

۱۲۳

استعجلوها، هلكوا ولم يبق لهم عُذْرٌ .

وقيل : المراد بالإنسان آدم عليه السَّلام، ومعنى مِنْ عَجَل : أي: في

سرعة من خلقه؛ لأنَّه لم يخلقه من نطفة ثُمَّ من عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ كما خَلَقٍ غيره، وإنما ابتدأه الله ابتداء، وأنشأه إنشاء.

وقال مجاهد: المراد آدم عليه السَّلام، وأنَّ الله خَلَقه بعد خَلْق كلّ شـ

آخر نهار الجمعة، على سرعة معاجلًا به غروب الشمس».

شيء

وهذان التفسيران من بدع التفاسير أيضًا؛ لأنّهما لا يناسبان سياق الآية؛ ولأنه لا يجوز أن يقال: خلق الله آدم على سرعة معاجلا به غروب الشمس؛ لأن معاجلة الشَّيء مخافة فوته من صفات المخلوقات، والله تعالى لا يفوته شيء وهو خالق الزمان والمكان.

۲- قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَي السجل لِلْكُتُبِ ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] هو الجلد الذي يضم الكتاب والآية تبين عظم قدرة الله تعالى، وأنَّ السماء مع كبرها وسعتها يطويها يوم القيامة ويضمها، كما يضم السجل أوراق

الكتاب. ومن بدع التفاسير : ما حكاه الزمخشري وتبعه مختصروا كلامه كالبيضاوي والنَّسَفي: أنَّ السجل اسم ملك يكتب صحائف بني آدم، وقيل: اسم صحابي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وليس في الملائكة ولا في الصحابة من اسمه السجل. !

قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا

١٢٤

القرآن الكريم

عبادي الصلِحُونَ [الأنبياء: ۱۰۵] معنى الآية: أنَّ الله تعالى كتب في الكتب المنزلة بعد الكتابة في اللوح المحفوظ: أنَّ أرض الجنَّة يرثها عباده الصالحون المتقون، وحكى عنهم قولهم حين دخلوها : وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾ [الزمر: ٧٤]. ومن بدع التفاسير قول بعض المعاصرين : أنَّ الأرض يعني: أرض الدنيا يرثها عبادي الصالحون لعمارتها، والغرض بهذا التأويل تأييد الاستعمار الأوروبي والحضُّ على عدم مقاومته، حيث إنَّ القرآن أخبر بأنَّ لهم وراثة أرض الدنيا، وهذا إلحاد في القرآن وكذب على الله وخروج على دينه وحضّ على ترك فريضة الجهاد، وإنّي أبرأ إلى الله من هذا التأويل ومن صاحبه.

ومن سورة الحج

۱ - قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِي إِلَّا إِذَا تَمَنَّى إِيمان الناس لينجوا من العذاب، ويعظم لهم عند الله الثواب، بدليل قوله تعالى: لَعَلكَ بعَ نَفْسَكَ قاتلها عما من أجل ألَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: ٣] فتمنَّى على حقيقته كما تبين الْقَى الشَّيْطَنُ في طريق أمنيته الشبه والشكوك في عقول النَّاس حتى لا يؤمنوا فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ﴾ أي: يبطله بما يبديه الرسول من المعجزات والدلائل ثُمَّ يُحْكُمُ اللَّهُ ايَتِهِ يثبتها في قلوب الناس وعقولهم وَاللَّهُ عَليم بما يلقي الشيطان حكيم ﴾ [الحج: ٥٢] في تمكينه من ذلك، ليختبر عباده.

بدع التفاسير

١٢٥

وتفسير الآية بهذا المعنى واضح معقول، يتمشى مع نظم القرآن، ويوافق

حال الرُّسل في حرصهم على إيمان النَّاس، وقد ذكره العارف الكبير السيد عبدالعزيز الدباغ في كتاب "الإبريز".

ومن بدع التفاسير : ما ذكره كثير من المفسّرين، فقالوا: معنى تمنّى: قرأ. واستدلوا بقول الشاعر: تمنى كتابَ الله أَوَّلَ ليله تمني داودَ الزَّبُورَ على رِسل قالوا: والمعنى: إلَّا إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته ما ليس من الوحي مما يرضاه المرسل إليهم، قالوا: وقد قرأ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم سورة

والنَّجْمِ [النجم: (۱] بمجلس من قريش، فلما بلغ أَفَرَمَيْمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى ) وَمَنوة الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم: ۱۹ - ۲۰] ألقى الشيطان على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم، بغير علمه به تلك الغرانيق العُلا، وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجي. ففرح المشركون، ولما قرأها على جبريل عليه السَّلام قال له: ما أتيتك بهذا، فحزن صلَّى

الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله هذه الآيات من (سورة الحج)، يسليه بهنَّ. فهذه القصة - وتسمى الغرانيق - باطلة، وإن قال الحافظ ابن حجرٍ - - رحمه الله تعالى-: لها طريقان صحيحان مرسلان؛ لأنَّ ما يمس العصمة، ويتصل

بصميم العقيدة لا تقبل فيه المسندات الصحيحة، فضلا عن المراسيل. وأول نكارة في تلك القصة: تسلُّط الشيطان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإلقاء شيء على لسانه وهو لا يعلم، مع أن من البدهيات العقلية عصمة النبي من الشيطان، فكيف تمكن منه في هذه الحادثة؟! هل كان نائما؟ لنفرض ذلك، فهو معصوم في نومه، ولذا كانت رؤيا الأنبياء وحيًا يُعمل بها في التشريع،

١٢٦

كما في قصة الذبيح إسماعيل عليه السّلام.

القرآن الكريم

ثُمَّ كيف خَفِي عليه الفرق بين القاء الملك وإلقاء الشيطان؟! ولئن جاز

الاشتباه عليه في هذه الحادثة جاز الاشتباه في غيرها، فترتفع الثقة بالوحي. ثُمَّ كيف خفي عليه تناقض الكلامين؛ إذ الأُخْرَى صفة ذَمّ، وكلام الشيطان المقحم مدح، وهل يجوز في عقل أن يمتزج كلامان متناقضان، على لسان أفصح العرب وأعلمهم بكلام الله تعالى، ثُمَّ لا يشعر بتنا فيها!!! ثُمَّ بعد هذا كله كيف يسلّي الله نبيه بأنَّ جميع الرسل تمكن الشيطان أن يلقي على

لسانهم ما لم يوح إليهم، وما معنى العصمة الواجبة في حقهم عقلا؟!

وبعضهم

كالحافظ ابن حجر،

، أراد تقليل نكارات القصَّة فقال : لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ذلك الكلام، ولا أُلقي على لسانه، وإنما كان عادته أن يسكت عند مقطع كل آية حين يقرأ القرآن، فتحين الشيطان سكوته عند الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى فتكلَّم بتلك الجملة، بقراءة تشبه قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألقاها في أسماع المشركين، فظنُّوها قراءة النبي صلى الله

من

عليه وآله وسلم ففرحوا.

وهذا وجه قريب، لكن يبطله أمور:

أحدها: أنَّ الشطيان لا يتمثل بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في شيء من

أموره، بمعنى أنَّه لا يقدر على ذلك ولا يتمكن منه؛ حفظا لمقام النُّبوَّة من الخلط والاشتباه. ولذا صح في الحديث: «مَن رآني في المنام، فقد رآني حقا فإِنَّ الشيطان لا يتمثل بي»، وفي رواية: «فإنَّ الشيطان لا يتكونني». وهو حديث

بدع التفاسير

۱۲۷

مخرج في "الصحيحين" وغيرهما. مع أنَّ الشيطان قد يظهر لبعض الناس في اليقظة أو المنام، فيدعي أنَّه الله، ولا ضرر في ذلك إذ العقل يقضي بتنزه الله ع سمات المحدثات. فكذب الشيطان في دعواه هذه لا يحتاج إلى بيان.

عن

ثانيها: تنافر كلام الله وكلام الشيطان والمشركون عرب فصحاء، لا يخفى عليهم ذلك.

ثالثها: أنَّ الشيطان لا يفعل ما يؤدّي إلى التقارب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين، بل هو يعمل على ضد ذلك. وبالجملة فالقصة

منكرة باطلة، كما قال ابن العربي وعياض وغيرهما.

ومن سورة النور

۱- قوله تعالى: وَيُنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فيها من بركر ﴾ [النور: ٤٣] قال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني في "تفسيره": معنى ومن الأولى: ابتداء الغاية؛ لأنَّ السَّماء ،ابتداء الإنزال، والثانية للتبعيض؛ لأنَّ البَرَد بعض الجبال

التي في السماء، والثالثة لتبيين الجنس؛ لأنَّ جنس الجبال جنس البرد. قلت: ومفعول «يُنَزِّلُ»، قوله: من جبال والتقدير: وينزل من السماء بعض جبال فيها من بَرَد. فلفظ مِن اسم بمعنى بعض، مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وهو مضاف، وجبال مضاف إليه، وعلى هذا مشى الزمخشري، وهو أوجه. وقيل: من الأولى والثانية للابتداء، والآخرة للتبعيض والمعنى: وينزل من السَّماء من جبال فيها بعض بَرَد. حكاه

۱۲۸

القرآن الكريم

الزمخشري، ومفعول يُنَزِّل»، قوله: مِن بردر ويقال في إعرابه : ما مر . واختار الشريف المرتضى: أنَّ مِنَ الأولى والثانية للابتداء، والأخيرة

زائدة. والمعنى: وينزل من السَّماء من جبال فيها بَرَدًا. فبركر مفعول «يُنزل»، ونصبه مقدَّر في آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

ويضعف هذا الوجه أنَّ «من» تزاد في النَّفي لإفادة العموم، نحو وَمَا :

*

كان مَعَدُهُ مِنْ إِلَهُ ﴾ [المؤمنون: ٩١] وزيادتها في الإثبات -إن صحت- خالية عن الفائدة ولا يصح تخريج القرآن على وجه لا فائدة فيه.

وقال أبوبكر محمد بن الحسن بن مقسم النحوي في كتاب "الأنوار" «أما «من» الأولى والثانية، فبمعنى حد التنزيل ونسبته إلى الموضع الذي نزل منه، كما يقال: جئتك بكذا، ومن بلد كذا. وأمَّا الثالثة فبمعنى التفسير والتمييز؛ لأنَّ الجبال تكون أنواعًا في ملك الله تعالى، فجاءت من» لتمييز البَرَد من غيره، وتفسير معنى الجبال التي أنزل منها، وقد يصلح في مثل هذا الموضع من الكلام أن يقال: من جبال فيها برد بغير «من»، يترجم برد عن جبال؛ لأنها مخلوقة من

برد، كما يقال: الحيوان من لحم ودم، والحيوان لحم ودم بـ«من»، وبغير «من». قلت: حاصل ما ذكره أنَّ مِنَ الأولى والثانية للابتداء، والثالثة للتبيين،

لكن يضعفه أنَّ الكلام على هذا التقدير، يكون خاليا من مفعول يُنزل.

وقوله تعالى : ومِن جِبَالِ فيها من بركر يحتمل وجهين، ذكرهما الزمخشري. أحدهما: أن يخلق الله في السَّماء جبال ،بَرَد، كما خلق في الأرض جبال حجر.

ثانيهما: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما يُقال: فلان يملك جبالا من

بدع التفاسير

۱۲۹

ذهب. ومن بدع التفاسير : قول أبي مسلم الأصفهاني في "تفسيره": الجبال ما جبل الله من بَرَد، وكل جسمٍ شديد مستحجر فهو من الجبال، ألم تر إلى قوله تعالى في خلق الأمم وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِيلَةَ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: ١٨٤]

والناس يقولون: فلان مجبول على كذا.

قلت: هذا التأويل مردود بوجهين، ذكر هما الشريف المرتضى:

أحدهما: خلو الكلام من مفعول يُنزل. ثانيهما: أنَّه لا يُسمّي أحدٌ من أهل اللغة كل جسم شديد مستحجرٍ جبلا، والجبل مشتق من الجبل - بسكون الباء وهو الجمع؛ لأنَّ الجبل مجموع من تراب وحجر وارتفاع، ولا يلزم من ذلك تسمية جسم جمع أشياء جبلا، على أن البرد ماء جمد.

قلت: معنى الآية على تأويل أبي مسلم: وينزل من السماء من جبال بَرَدٍ فيها، و «من» في الموضعين ابتدائية والثالثة بيانيَّة، فلهذا لزمه خلو الكلام من مفعول ينزل.

ومن سورة الشعراء

۱- قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: ۸۸ - ۱۸۹ معنى الآية: أنَّ يوم القيامة لا ينفع الإنسان فيه ماله ولا أولاده، ولكن ينفعه أن يأتي الله بقلب سليم من الشرك والمعاصي، وهذا من دعاء إبراهيم عليه السَّلام، يطلب من الله ألا يخزيه يوم البعث الذي صفته ما

ذكر.

۱۳۰

القرآن الكريم

قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير : تفسير بعضهم السليم باللديغ من

خشية الله.

وقول آخر : هو الذي سلم وسَلَّم وأسلم وسالم واستسلم.

قلت: إطلاق السليم على اللديغ من باب التفاؤل، كما يقال للبريَّة المهلكة: مفازة. وحمل الآية عليه وعلى المعنى الذي بعده، غير سليم.

ومن سورة النمل

۱ - قوله تعالى: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشُ عَظِيمٌ (٢) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [النمل: ٢٣ – ٢٤] تفيد الآية: أن الهدهد حين أخبر سليمان - عليه السَّلام- بملكة سبأ وصف عرشها

أنه

بأنه عظيم مع وإما لأنه بالغ، ليلفت نظر سلیمان عما توعده به. قال الزمخشري : ومن نوكى القصاص من يقف على قوله: ولها عرضٌ ثُمَّ يبتدئ: «عظيم وجدتها» ، أي: أمرٌ عظيم أن وجدتها وقومها يسجدون للشَّمس، فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله». قلت: صدق فيما قال، وتقدم ما يناسبه في آية الكرسي.

يعرف عِظم عرش سليمان؛ إما لأنه استعظمه بالنسبة لها؛

۲- قوله تعالى: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ

تبصرون } [النمل: ٥٤].

قال الزمخشري: «من بصر القلب، أي: تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها،

بدع التفاسير

۱۳۱

وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم، وأدخل في القبح والسماجة.

وفيه دليل على أنَّ القبيح من الله أقبح منه من عباده؛ لأنه أعلم العالمين

وأحكم الحاكمين».

قلت: بئس ما استنبط وساء ما قال، وهي جرأة قبيحة تعد في صدر بدع التفاسير، نسأل الله العفو والعافية.

وما دعاه إلى هذا الاستنباط القبيح إلَّا إغراقه في حب مذهب المعتزلة، وتعصبه الشديد له كما نبهت عليه في الخطبة، والله تعالى منزه عن القبيح، ولكن للمعتزلة في فهم القبيح وتعيين جزئياته اصطلاح يتمشى مع قواعد مذهبهم التي يحاولون أن يجعلوا آيات القرآن دالة عليها، وناطقة بها.

ومن سورة القصص

۱ - قوله تعالى: وَأَضَهُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ [القصص: ٣٢] الرهب: الخوف والمعنى: إذا أصابك الرَّهب عند رؤية العصا ثعبانا فاضمم إليك جناحك. قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنَّ الرهب: الكم، بلغة وأنهم يقولون: أعطني ثماً في ،رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الذين ترتضى عربيتهم؟ ثُمَّ ليت شعري كيف موقعه في الآية؟ وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى

(۱)

(۱) لكن ذكر أبو عبيد في الرسالة التي ألفها لبيان ما ورد في القرآن من لغات قبائل العرب أنَّ الرَّهب: الكم بلغة بني حنيفة.

۱۳۲

القرآن الكريم

عليه السَّلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلَّا زُرْمانِقة من صوف لا كُمَّي لها.

قلت: الزرمانقة الجبة قال أبو عبيد : أراها عبرانية.

۲ - قوله تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخَيرَةُ ال [القصص: ٦٨] المعنى: أنَّ الله يصطفي من خلقه لرسالته من يعلم أنه يصلح لها، نزل ردا لقول الوليد بن المغيرة لَوْلَا نُزِلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وما على هذا نافية أي ما كان للناس اختيار فيمن يرسله الله إليهم رسولا.

ومن بدع التفاسير : جعل ما ،موصولة، والمعنى: أنَّ الله يختار لخلقه الأمر الذي لهم الخيرة فيه، وهذا کونه -مع مخالفا لسب النزول - يلزم عليه حذف العائد المجرور، في موضع لا يجوز حذفه فيه إذ المقرر في علم العربية أنَّ العائد لا يحذف إلَّا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله، مع اتحاد المعنى. نحو:

يَأْكُلُ مِمَاتَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [المؤمنون: ۳۳] أي منه

فالعائد هنا محذوف لوجود شرط حذفه. ولا يجوز: جاءني الذي مررت به ورأيت الذي رغبت أي فيه لعدم توفر الشَّرط، ويلزم عليه أيضًا نصب الخيرة خبرًا لكان، واسمها ضمير عائد على الموصول، ويكون المعنى: أنَّ الله يختار لهم الأمر الذي كان هو الخيرة، لكن لم يقرأ بنصب «الخيرة» أحد من القراء المشهورين.

ومن البدع أيضًا جعل ما مصدريَّة، تسبك مع ما بعدها بمصدر،

والمعنى: يختار اختيارهم فيه، وهو ظاهر البطلان

بدع التفاسير

۱۳۳

ومن سورة لقمان

قوله تعالى: يَبقَى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ﴾ [القمان: ١٦] معنى الآية: أنَّ الخصلة من

شدة

الإساءة أو الإحسان إن كانت في الصغر كحبَّة الخردل، وكانت مع . صغرها في أخفى مكان، كجوف صخرة، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي فإنَّ الله يأتي بها يوم القيامة، فيحاسب عاملها، لا يخفى عليه مكانها. فالصخرة ذكرت مثالاً لأخفى مكان تختفي فيه السيئة الصغيرة أو الحسنة

الصغيرة.

ومن بدع التفاسير : أنَّ المراد: الصَّخرة التي تحت الأرضين السبع، وخضرة السماء منها، وأنَّ الأرض خُلقت على حوت، والحوت في الماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ثور، وهو على الصخرة، وهي التي ذكرها

لقمان. وهذا من الإسرائيليات التي يكفي في ردها حكايتها.

ومن بابه: ما رواه الطبري من طريق أبي وائل، قال: جاء رجل إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: من أين جئت؟ قال: من الشَّام. قال: من لقيت به؟ قال: كعبا . قال : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول: إنَّ السَّماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تزولا ﴾ [فاطر: ٤١]. قلت: هذه الآية دليل على أنَّ السَّماوات والأرض واقعتان في الفضاء ليس يسندهما إلا قدرة الله تعالى.

١٣٤

القرآن الكريم

ومن سورة الأحزاب

۱ - قوله تعالى: وَأَوْرَتَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَرَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب: ٢٧] يخاطب الله المسلمين بأنه أورثهم أرض بني قريظة وأموالهم وديارهم واختلف في قوله: وَأَرْضًا لَمْ تَطَعُوهَا، فقيل: خَيْبَرَ، وقيل: فارس والروم، وقيل: مكة، وقيل: ما فتح على المسلمين من البلاد والأقطار فيما بعد.

قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير: «أنه أراد نسائهم».

قلت: هذا تأويل بعث عليه الشَّبق وانتقل ذهن صاحبه من وطء

الأرض، إلى وطء الفرج.

ومن سورة فاطر

۱ - قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ القرآن. حكمنا بتوريثه منك الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) يعني : علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة، أو الأمة جميعهم؛ لأنَّ الله اصطفاهم على جميع الأمم؛ ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: تركت فيكم تقلين كتاب الله وسُنَّتي» (۱) فَمِنْهُمْ ظَالِمُ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به ومنهم مُّقْتَصِدٌ يعمل به في أغلب

(۱) لهذا الحديث طرق تبلغ حد الاستفاضة، وفي بعض طرقه وعترتي» بدل «وسُنَّتي» وهي صحيحة أيضًا. وحاصل هذه الروايات الصَّحيحة ضمان الهداية في العمل بالكتاب والسُّنَّة وفي حبّ العترة النبوية.

بدع التفاسير

:

۱۳۵

أحواله وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) بضم التعليم والإرشاد إلى العمل. وقيل: «الظَّالم» المجرم، و«المقتصد» الذي خلط صالحا بسيء، و«السابق» الذي رجحت حسناته على سيئاته ذلك التوريث أو الاصطفاء أو السبق، والأول أقرب؛ لأنَّه محط الكلام و هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ ﴾ [فاطر: ٣٢] هو ضمير فصل وما بعده خبر ذلك. خُتمت الآية بهذه الجملة، بيانًا لما في إيراث القرآن من ميزة وفضل جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ [فاطر: ۳۳] مبتدأ وخبر. والضمير يعود على الثلاثة: الظالم والمقتصد والسابق.

هذا التفسير هو الذي يقتضيه ظاهر الآية، وتؤيده الأدلة.

وروى البيهقي في "شعب الإيمان" من طريق ميمون بن سياه، عن عمر

رضي الله عنه مرفوعا: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له». ورواه الثعلبي وابن مردويه من طريق آخر عن ميمون بن سياه، عن أبي عثمان النهدي عن عمر ا أيضًا، وسنده ضعيف (۱).

ورواه سعيد بن منصور عن فرج بن فضالة، عن أزهر بن عبدالله

الحرازي، عمن سمع عمر يقول... فذكره موقوفا، وهو في حكم المرفوع. وأبدى بعضهم تأويلات هي في الواقع من بدع التفاسير، ونحن نذكرها مع بيان ما فيها:

قال المرتضى وهو شيعي إمامي : أنَّ المورَّثين الكتاب هم الأئمة من ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنَّهم المتعبدون بحفظه وبيانه، والعمل بأحكامه.

(۱) وحسنه السُّيوطي بالنظر لمجموع طرقه، فهو من قبيل الحسن لغيره.

١٣٦

القرآن الكريم

قلت: هذا تخصيص للآية من غير دليل، بل الدليل يقتضي نقيض هذه

العد،

الدعوى؛ لأنَّ العمل بأحكام القرآن تعبد الله به جميع الأمة، كما أنه قام بحفظه وبيانه علماء أجلاء من الصَّحابة والتابعين وغيرهم ممن لا يحصيهم . وللشيعة في شأن أهل البيت عليهم السَّلام دعاوى تشتمل على خُلُو وإسراف. ثُمَّ جعل الضمير في فَمِنْهُم يعود على عِبَادِنَا لا على الَّذِينَ أصْطَفَيْنَا ) وأورد على نفسه سؤالا، وهو: أي فائدة في وصف العباد بهذه

القسمة؟ وكيف عدل عن وصف الذين اصطفاهم وورثهم الكتاب؟ وأجاب بأنَّه تعالى لما علّق توريث الكتاب بمن اصطفاهم من عباده، أراد أن يبين وجه الاختصاص، وإنّما علّق وِراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض؛ لأن في العباد من هو ظالم لنفسه، ومن هو مقتصد، ومن هو سابق بالخيرات، فوجه المطابقة بين الكلام واضح.

قلت: لا وضوح ولا مطابقة، بل الذي يقتضيه السياق ويفيده دخول فاء التفريع على «منهم»: أن يكون التقسيم تفريعا على الذين اصطفوا، بهذا ينسجم الكلام، ويتحد سياقه ولا ينافي اصطفاءهم وجود ظالم لنفسه فيهم ؟ ! ا لأنَّ المراد أنَّ الله اصطفاهم واختارهم لتوحيده وإقامة دينه؛ لأنَّ أهل الكتاب تركوا دينهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فاختار الله هذه الأمة المحمدية لحمل القرآن والعمل به، وأخبر سبحانه أنَّ فيهم من هو ظالم لنفسه بما دون الشرك الذي وقع فيه أهل الكتاب قبلهم.

وفي "المسند" وغيره عن أبي بصرة الغفاري، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله

بدع التفاسير

۱۳۷

وسلَّم: «سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضَلالةٍ فأَعْطَانِيها». وله طرق كثيرة بينتها في تخريج أحاديث "منهاج البيضاوي" وهو من أدلة

حجية الإجماع، وعدم اجتماعهم على ضلالة من أدلة اصطفائهم للتوحيد وإقامة الدين الحق، وأنَّ الله حماهم من أن يجتمعوا على ضلالة كما اجتمع عليها اليهود والنصارى، أما جعل التقسيم للعباد، فيرده مخالفته للسياق، وعدم الارتباط بين التقسيم والاصطفاء؛ لأنَّ الأقسام الثلاثة موجودة في العباد، سواء أحصل الاصطفاء أم لا؟ ولأنَّ السَّابق بالخيرات إن كان من المصطفين فلم ذكر في غيرهم؟ وإن لم يكن منهم، فكيف يعقل أن يكون سابق بالخيرات غير مصطفى؟ ذكر أبو علي الجبائي في "تفسيره": «أن المراد با الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا : الأنبياء عليهم السَّلام، والظالم لنفسه من ارتكب الصغيرة منهم، وإنما وصف بذلك من حيث فوت نفسه الثَّواب الذي زال عنه، بارتكاب الصغيرة ويؤدي

سائر الواجبات، والسابق إلى الخير، هو الذي استكثر من فعل النوافل . قال المرتضى: وهذا التأويل يفسد من جهة أنَّ الدليل قد دلّ على أنَّ الأنبياء عليهم السلام لا يقع منهم شيء من المعاصي والقبائح، ولو عدلنا عن ذلك لم يجز ما قاله؛ لأنَّ قولنا: فلان ظالم لنفسه من أوصاف الدَّم، والذَّمُّ لا يستحقه فاعل الصغيرة فكيف تجري عليه أوصاف الذَّم؟!

ذكر بعضهم: أنَّ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا هم الأنبياء أيضًا، وتأوَّل * فَمِنْهُمْ ظَالِمُ لِنَفْسِهِ على أنَّ المراد: أجهد نفسه في العبادة وحمل عليها، وهذا يليق

۱۳۸

القرآن الكريم

بأوصاف الأنبياء ولا تمنع النبوة منه.

ورده المرتضى أيضًا بأن لفظة ظَالِمُ لِنَفْسِهِ يُدم بها، فكيف تجري على المدح ؟ وبأنَّ السَّابق إلى الخيرات هو المجتهد في العبادة، الحامل على نفسه فيها، فأي معنى للتكرار ؟ وبأنَّ هذا التأويل يفسد التقسيم.

قال أبو القاسم البلخي المعتزلي في تفسيره": «أنه تعالى أراد العقلاء البالغين، ويجوز أن يكونوا عند الاصطفاء أخيارًا أتقياء، ثم ظلم بعضهم نفسه.

فيكون كما قال تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ [المائدة: ٥٤] وهو في وقت الارتداد غير مؤمن كذلك يكون في حال ظلمه نفسه ليس من ، المصطفين. ويجوز أيضًا أن يكون فيهم من ظلم نفسه ثُمَّ تاب وأصلح، ويكون

قوله: فَمِنْهُمْ ظَالِمُ لِنَفْسِهِ ) أي منهم من كان قد ظلم نفسه، ليس أنه في هذا الوقت ظالم لها».

كان منهم

قال المرتضى: «هذا فاسد؛ لأنَّ . من ظالما فاعلا للقبيح لا يوصفون على الإطلاق بأنَّ الله تعالى اصطفاهم، فهذا الوصف يقتضي أن تكون الجماعة أخيارًا.

وقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ، بخلاف هذا؛ لأنَّ وصفهم بأنهم آمنوا في الماضى لا يمنع من الرِدَّة في المستقبل، وقوله تعالى: الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا يمنع أن يكون فيهم من ليست هذه صفته، وأما حمل ذلك * على من ظلم ثُمَّ تاب فهو غير صحيح؛ لأنَّ من تاب لا يوصف بعد التوبة بأنه

بدع التفاسير

۱۳۹

ظالم لنفسه؛ لأنَّ التوبة تمنع من إجراء ألفاظ الزَّم».

قلت: بينا معنى الاصطفاء بما لا يتنافي مع قوله: فَمِنْهُمْ ظَالِمُ لِنَفْسِهِ

وهو بيان مؤيد بالدليل كما مر .

:

قال الزمخشري: «فإن قلت: فكيف جعلت جَنَّتُ عَدْنٍ بدلًا من

الْفَضْلُ الكَبِيرُ الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه؟ قلت: لما كان في نيل الثَّواب نزل منزلة السَّبب كأَنَّه هو النواب، فأبدلت عنه جَنَّتُ عَدْنٍ ، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم - بذكر ثوابهم، والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليملك

الظالم لنفسه حذرًا، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله. ولا يغتر بما رواه عمر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له».

فإن شرط ذلك صحة التوبة، لقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة : ۱۰۲] وقوله : إمَا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: ١٠٦] ولقد نطق القرآن بذلك

في مواضع، من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر، ولم يعلل نفسه بالخدع». قلت: تمحل بجعل جَنَّتُ عَدْنٍ ﴾ بدلا من الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ،

وجعل الإشارة بذلك قاصرة على الشبق بالخيرات لتفيد الآية مذهبه الاعتزالي: أنَّ «الظالم لنفسه» و «المقتصد» لا يدخلان الجنَّة لكن يبطل تأويله أنَّ جنات عدن ليست هي الفضل الكبير، إلَّا بتجوز لا ضرورة تقتضيه، ولا

١٤٠

القرآن الكريم

حاجة إليه، وذلك لكونه اسم إشارة للبعيد، مشار به إلى توريث الكتاب، و جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها جملة استئنافية ذكرت لبيان جزاء المصطفين، وضمير الجمع دليل على ذلك، وعودة للسابق بالخيرات كما زعم الزمخشري - نظرًا إلى أنَّ «سابقا» في معنى سابقين تكلُّفه ظاهر.

ولا داعي لارتكاب مثل هذا التكلُّف في إعراب الآية إلَّا الحرص على موافقة المذهب، ثُمَّ يلزم على قصر الإشارة في ذلك على السبق بالخيرات خلو الكلام من الإشارة إلى ما في توريث الكتاب من الفضل، مع أنَّه مقصد الكلام ومحط الفائدة.

ومن سورة يس

۱ - قوله تعالى: لِتُنذِرَ قَوْمًا ) هم العرب مَا أَنذِرَ ابَاؤُهُمْ الأَوَّلون الذين كانوا في زمن الفترة فَهُمْ عَتَفِلُونَ ﴾ [يس: ٦] عن معرفة الله وعبادته ف ما نافية، وهي مثل ما في قوله تعالى: وَلِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن

قَبْلِكَ ﴾ [القصص: ٤٦]. وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَذِيرٍ ﴾ [سبأ: ٤٤]. ومن بدع التفاسير : جعل ما موصولة، وهي مفعول ثانٍ لتنذر، والمعنى: لتنذر قوما الإنذار الذي أنذر به آباؤهم وفيه تكلف، بحذف الموصوف، وحذف العائد المجرور في مكان لا يجوز فيه حذفه، وقد نبهنا عليه في (سورة القصص). أو جعلها مصدريَّة. والمعنى لتنذر قومًا إنذار آبائهم، وهو لا يلتئم مع

بدع التفاسير

١٤١

سياق الآية إلَّا بتكلُّفٍ لا داعي إليه، على أنَّ العرب لم يأتهم نذير من عهد إسماعيل عليه السّلام، وقيل: ما نافية، لكن المعنى : لتنذر قوما أنت منهم، ما أنذر آباءهم من هو منهم، وهذا في غاية البعد.

وقال المرتضى: يمكن في ما وجه آخر، وهو: أن يراد بها التنكير، كأنه قال لِتُنذِرَ قَوْمًا ما وتقف، ثُمَّ تبتدئ فتقول: وَأَنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَفِلُونَ ﴾ كما يقول القائم: أكلت طعامًا ما ولقيت جماعة ما، يكون الغرض التنكير

والإجمال.

قلت: هذا التأويل أشد بُعدًا بما قبله وحمل الآية عليه يوجب ركة يتنزه

عنها القرآن، ثمَّ لا يجوز الوقوف على ما .

ومن سورة ص

۱ - قوله تعالى: وَهَلْ أَتَنكَ نَبُوا الْخَصم خبر هم وإِن تَورُوا الْمِحْرَابَ محراب داود عليه السَّلام، وهو مسجده الذي أعده للصلاة في بيته. وكان قد رتب أيام الأسبوع، فجعل يوما للقضاء بين الناس، ويوما لأهله، ويوما ينظر في شؤون معايشه؛ لأنه كان يأكل من عمل يده، كما جاء في الحديث الصحيح (۱) وجاء هؤلاء الخصوم في يوم العبادة، فمنعهم الحرس من

(۱) في "صحيح البخاري" عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أكل أحدٌ طعاما قطُّ خيرًا من أنْ يأكل من عمل يَدِهِ، وَإِنَّ نبي الله داودَ

كان يأكل من عمل يده». وكان عمله صنعة الدروع التي تلبس في الحرب. قال

١٤٢

القرآن الكريم

الدخول، وهم مستعجلون يريدون الفصل في قضيتهم. فتسوّروا المحراب إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ حيث نزلوا من جهة السقف، وظنَّ أنَّهم يريدون به شرا، إذ الملك لا يخلو في العادة ممن يقصده بشرٌ مِن رعاياه قَالُوا لَا تخف لا نقصدك بشر، نحن خَصْمَانِ فريقان أو شخصان، كانت بيننا مشاركة في نعاج واختلفنا فيها بحيث بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَأَحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا ا تشطط لا تَجُر، وهذا تعبير فيه جفاء لا يليق بمقام النبوَّة، وهو يدل على ما كان يتمتع به الشَّعب الإسرائيلي في حكم داود من حريَّة في التعبير وَاهْدِنَا إلَى سواء الصراط أرشدنا إلى وسط الطريق الصواب.

فاطمأن وسألهم عن قضيتهم، فقال أحدهم: إِنَّ هَذَا أَخي : أي: اسرائيلي مثلي ولَهُ تسْعُ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً حقيقةً، لا كناية عن النِّساء كما قيل وَلِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا اجعلني كافلها بأن أضمها إلى نعاجي وَعَزَّنِي غلبني في الخطاب أي : الجدال بقوة منطقه قال داود مصدرًا لحكمه بعد موافقة الخصم واعترافه، أو ثبوت الحُجَّة عليه لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُوَالِ نَعْجَيكَ ليضمها إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاء الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَتِ فلا يبغون، والبغي الظُّلم وَقَلِيلٌ مَاهُمْ ما لتأكيد القِلَّة وظن أيقن دَاوُردُ أَنَّمَا فَنَتَهُ ابتليناه بالفزع الذي حصل منه حين تشور

تعالى: وَعَلَّمْتَهُ صَنْعَةَ لَبُوسِ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: ٨٠] .

بدع التفاسير

١٤٣

الخصوم عليه المحراب، وما كان ينبغي له الفَزَع من المخلوق وهو في حضرة الخالق وعبادته فَاسْتَغْفَرَرَبَهُ مِن فَزَعِه الذي لا يليق به وخَر راكعا له

ساجدًا وَأَنَابَ رجع إلى الله تعالى. [سورة ص: ٢١-٢٤]

فتبيَّن من سياق القصة أنه كانت خصومة بين شركاء في نعاج حقيقية، وأنَّه لم يحصل من داود قبلها ما يستوجب لومه أو عتابه، وكل ما حصل منه خوفًا من الخصوم الذين تشوروا عليه المحراب والخوف غريزة بشرية، فقد قال

موسى وهرون من قبله وهما أفضل رَبَّنَا إِنَّنَا تَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى [طه: ٤٥] وما من رسول إلا وقد خاف إذاية قومه، غير أنه اعتبر فزعه من

المخلوق وهو بين يدي الخالق لا يليق بمنصبه الكريم، وعده ابتلاء وامتحانا فاستغفر الله منه.

ومن بدع التفاسير : ما ذكره كثير من المفسّرين أنه نظر من طاق في بيته، فرأى امرأة عريانة تغتسل فأعجبته، فسأل عنها، فقيل له: إنها امرأة شخص يقال له: أوريا، فبعثه إلى حرب، وأمر بأن يحمل التابوت، وكان حامل التابوت لا يحل له أن يرجع حتى ينتصر الجيش أو يقتل هو، فانتصر الجيش وعاد أوريا. فبعثه مرةً ثانية وثالثة، فقتل فتزوج امرأته، وكان له تسع وتسعون امرأة، وقيل: بل كانت خطيبة أوريا، فبعث داود يخطبها ولم يعلم بخطبتها - فآثره أهلها على خاطبها الأول فزوجوها له، وهي أم سليمان، فبعث الله إليه ملكين في صورة رجلين يختصمان في نعاج كنيا بها عن الزوجات، فلما قضى صعدا إلى السماء وهما يقولان قضى الرجل على نفسه، فأدرك خطأه وتاب.

١٤٤

القرآن الكريم

وهذه القصَّة مأخوذةٌ عن الإسرائيليات وفيها مساس بمقام النبوة،

وخَدِّس للعصمة الواجبة للأنبياء.

وقال بعضهم في خطا داود: إنَّه قضى للخصم قبل أن يسمع كلام خصمه، وبعد الحكم أدرك خطأه وتاب. وهذا أيضًا باطل؛ لأنَّ من البدهيات في القضاء: ألا يحكم القاضى إلا بعد سماع الخصمين وإبداء حُجَجهما، والموازنة

بينهما، فكيف يخفي هذا على نبي آتاه الله الملك والحكمة وفصل الخطاب؟ (تنبيه): قوله تعالى عقب هذه القصة : يَدَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فاحكم بين النَّاسِ بِالْحَقِّ (ص: ٢٦] يدل على أنَّ الله رضى حكمه في القضية، وأنَّه وفق فيها إلى إصابة الصواب. ولهذا قال: احكم بالحقِّ أي: دُم على الحكم

بالحق.

أما قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: ٢٦] فلا يدلُّ على أنَّ داود اتبع الهوى أبدا، وإنما المراد به الأمر بمداومة اجتناب الهوى، أي: دم على اجتناب الهوئ في أحكامك. لما تقرّر في الأصول: أنَّ النهي عن الشَّيء

يستلزم الأمر بضده. ونظير هذا قوله تعالى: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ١٤] فإنَّ معناه: دم على توحيدك، واجتناب الشرك؛ لأنَّ النبيَّ معصوم من الشرك ومن المعاصي.

۲- قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيهِ، جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص: ٣٤] ثبت في الحديث الصحيح المخرَّج في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «قال سليمان: لأطوفنَّ

بدع التفاسير

١٤٥

الليلة على مائة امرأة كلهنَّ يأتي بفارس يُجاهد في سبيل الله تعالى، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله . فلم يَقُلْ نسيانا أو عرضت له مسألة شغلته أو رأى أن أمنيته خير سيحققها الله ولو لم ينطق بالمشيئة، فطاف عليهنَّ جميعا فلم تحمل منهنَّ إلا إمرأةٌ واحدةٌ جاءت بشِقِّ رجلٍ، وايْمُ الله الذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله الجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» قال العلماء والشق الجسد الذي ألقي على كرسيه وفتنته نسيان المشيئة، فامتحن بهذا وتاب، وحصل نظير هذا للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقد سأله أهل مكة عن قصة أهل الكهف، فقال: «أجيبكم غدًا ولم يقل: إن شاء الله: فأبطأ عنه الوحي خمسة عشر يوما، ثُمَّ نزل قوله تعالى: وَلَا نَقُولَنَّ لِشَأْيْ إِنِّي فَاعِلُ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤].

والحكمة في هذا: أنَّ الله تعالى يحبُّ من عباده أن يردُّوا المشيئة إليه في كل أمورهم، فإذا غفلوا نبههم بمثل ما هنا (۱). بل هو نفسه سبحانه وتعالى ذكر

(۱) وحصل لنا مثل هذا أيضًا. فقد كنت أدرس "المقدمة الآجرومية" لشقيقي السيد محمد الزمزمي –ونحن بالمركب في طريقنا إلى مصر - وبعد أربعة أيام مضت علي قيامنا من جبل طارق قرأنا في النشرة التي يصدرها قائد الباخرة أننا سنصل إلى الإسكندرية في الخامسة من صباح اليوم التالى. وحين جلسنا إلى درس "الآجرومية" بعد صلاة العصر كالمعتاد - وكنا وصلنا إلى ظرف الزمان وظرف المكان فقلت لشقيقي المذكور ممثلاً لظرف الزمان: نصل غدًا إلى الإسكندرية فقال لي شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله: قل: إن شاء الله. فقلت مداعبًا علام أقولها؟ المسافة قربت، وشبح الإسكندرية لاح على بعد. وفي منتصف الليل هاج البحر، وعلت أمواجه حتى كانت الموجة تلف

١٤٦

القرآن الكريم

المشيئة في فعله إرشادًا لعباده وتعليما لهم فقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَفَ اللَّهُ رَسُولَهُ

الرُّه يَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الفتح: ٢٧].

وليس لأحد أن يقول: كيف يكون سليمان متزوجا بمائة امرأة؟ وكيف يستطيع الطواف عليهنَّ في ليلةٍ؟ لأنا نقول : ليس بممتنع أن يخص الله تعالى رسوله سلیمان بجواز الزَّواج بمائة امرأة وأكثر، كما خص أباه داود بذلك من قبل، وكما أباح لرسوله محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم التزوج بأكثر من أربع نسوة خصوصيَّةٌ له، وأمَّا الطَّواف عليهنَّ في ليلة، فيحتمل أن يكون الله أقدره عليه آيةً له أو ليبين له أنَّ ما تمناه من ولادة فرسان مجاهدين لا يكون عن مجرد الإطافة بنسائه إن لم يشأه الله ، ويحتمل أنَّ الجنَّ المسخّرين له، استنبطوا له أدوية وعقاقير للتقوية، كما استنبطوا له النورة لإزالة الشعر، حين أراد أن يتزوج بملكة سبأ، ووجد في رجليها شعرًا كثيرًا.

ومن بدع التفاسير : ما ذكره كثير من المفسرين أيضًا: أن سليمان تزوج امرأة أحبها، وكانت تعبد الصَّنم في بيته بغير علمه، وكان ملكه في خاتمه، فنزعه عند إرادة الخلاء، ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة فجاءها جني في

الباخرة لفا، وهي تميل وتتأرجح كالقشرة. ونحن لا نملك أنفسنا من دوار البحر وكانت أمامنا باخرة بعثت إشارة إلى الإسكندرية تستغيث، لكنها غرقت قبل وصول النجدة. ثُمَّ لطف الله ووصلنا إلى الإسكندرية في الساعة الثانية عشر ظهرا بعد أن رأينا الموت عيانا. وأخبرنا قائد الباخرة أنه قضى في البحر خمسا وثلاثين سنة لم ير فيها عاصفة مثل هذه في شدَّتها ومفاجأتها، فتأكدنا أنها تأديب من الله تعالى لنا.

بدع التفاسير

١٤٧

صورته وأخذه منها، وقعد على كرسيه وعكفت عليه الطير وغيرها وجاء

سليمان في غير هيئته، وقال: أنا سليمان، فأنكره النَّاس، ثُمَّ توصل إلى الخاتم - لعله وجده في بطن سمكة - فرجع إليه ملكه.

وهذه القصة رواها النسائي في "التفسير" من طريق المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وهذا إسناد قوي كما قال الحافظ، لكن ابن

عباس تلقاها عن كعب، فهي من الإسرائيليات، وبطلانها يظهر بوجوه. أحدها: أنَّ الجنيَّ لا يسمَّى جسدًا؛ لأنَّه كان حيا، والجسد الذي يُلقى لا

يكون إلا ميتا.

ثانيها: أن الجنّي لا يمكن أن يتصوّر في صورة نبي ولا يقدر على ذلك لما يترتب عليه من المفاسد.

ثالثها: لو جاز للجنّي أن يأتي امرأة سليمان في صورته، ويأخذ منها خاتم

ملكه الجاز أن يزني بها وبغيرها من نسائه، وذلك يبطله العقل والنقل أيضًا. رابعها: أنَّ الخاتم لوسلم أنه خاتم الملك يذهب بذهابه- فلا يجوز أن يكون خاتم هيئته أيضًا، بحيث حين ذهب منه أنكره النَّاس، وحين رجع إليه

عرفوه

خامسها : أنَّ هذه القصَّة - مع كونها كذبًا غير محبوك - خالية من العبرة (١)،

(۱) قد يقال : العبرة فيها مؤاخذة سليمان بعبادة الصَّنم في بيته وإن كانت بغير علمه؛ لأنه كان يمكنه منعها لو استعمل التشدد والرقابة في بيته على نسائه، وهذا غير صحيح؛ لأنه كان مباحًا للرسل تزوج المشركات، وقد كانت امرأتا نوح ولوط - عليهما

١٤٨

القرآن الكريم

والله تعالى يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَبُ ﴾ [يوسف: ۱۱۱]. (تنبيه): كان المعرّي إذا ذكر الشُّعراء، يقول: قال: أبو نواس، قال: البحتري، قال: أبو تمام، فإذا ذكر المتنبي، يقول: قال: الشاعر؛ وذلك لإعجابه

به. فقيل له يومًا: لقد أسرفت في وصفك المتنبي، أليس هو القائل: بلِيتُ إِلى الأَطْلَال إن لم أقف بها وقوفَ شَحِيحٍ ضَاعَ فِي التُّرْبِ خَانه كم قدر ما يقف الشحيح على الخاتم؟ قال: أربعين يوما، فقيل له: ومن أين علمت ذلك؟ فقال: سليمان بن داود عليهما السَّلام وقف على طلب الخاتم أربعين يوما. فقيل له ومن أين تعلم أنه بخيل؟ قال: من قوله تعالى: وَهَبْ لي ملكا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى (ص: ٣٥]. وما عليه أن يهب الله لعباده أضعاف

ملکه ؟

قلت: قرأت هذا في كتب الأدب التي كتبت عن المتنبي، وهو يشتمل على

خطأين: أحدهما: أن سليمان عليه السَّلام وقف على طلب الخاتم أربعين يوما،

وهذا مبني على الخرافة الإسرائيلية التي مر بيان بطلانها. ثانيهما: نسبة سليمان عليه السَّلام إلى الشُّح، وهي جراءة قبيحة وإزراء بمقام نبي كريم، وجهل بحكمة طلبه، كما جهلها الحجاج بن يوسف الثقفي

فسماه حاسدا.

السلام - مشركتين، فلم يكن الله ليؤاخذ سليمان بكفر امرأته وقد أباح له التزوج بها.

بدع التفاسير

١٤٩

الملك

وقد برأ الله نبيَّه سليمان مما زعم الزَّاعمون ، وكان عنده وجيها، فهو طلب الملك الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده ليكون معجزته على رسالته، كما كانت العصا معجزة موسى عليه السَّلام والمعجزة لابد أن تكون خاصة بالنبي لا ينالها غيره، وإلَّا بَطَل الإعجاز وبطلت النُّبوَّة، وإنّما طلب خصوص معجزة؛ لأنه عليه السَّلام كان رسولًا إلى اليهود، وهم عبيد المال وخدام الدنيا، يبهرهم بريق الذهب ويخضعهم هيبة السلطان وأبهة الملك، تمردوا على الله وقتلوا أنبياءه، فلا يَنْجَع فيهم إلا مثل ملك سليمان معجزة، والدليل على ما نقول أمران: الأول: أنَّ الله سخّر له الجنَّ والشَّياطين والريح، وعلمه منطق الوحوش

وسخرها له، وهذا لا يتأتى لملك إلَّا أن يكون معجزة.

الثاني: أنَّ الله تعالى أعطاه ما طلب وقال له: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكَ بِغَيْرِ

حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَ نَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَشَابِ } [ ص: ٣٩ - ٤٠] .

ولو كان سليمان شحيحًا لم يقل الله هذا في حقه، ولا قال عنه : وَوَهَبْنَا لد اور سُلَيْمَنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَابُ [ ص: ۳۰] وكيف يمدح شحيحا وهو الذي قال: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: ٩] وسمَّى البخل فحشاء في قوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ﴾ [البقرة: ٢٦٨] وذم البخلاء في غير آية من الكتاب الكريم.

قوله تعالى: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص: ٣٢] أي: حتى غابت

10.

القرآن الكريم

الشمس، واختفت بما يحجبها عن الأنظار.

ومن بدع التفاسير كما قال الزمخشري - : «إنَّ الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه».

قلت: حكاه الصاوي في حاشية "تفسير الجلالين" ولم يتعقبه، وهو واضح

البطلان.

- قوله تعالى: رُدُّوهَا عَلَى [ ص: ۳۳] الضمير يعود على الصافنات،

والمعنى: أنَّ سليمان أمر أتباعه برد الخيل عليه، ليمسحها ويختبر عيوبها. لطيفة: روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث" من طريق مغيرة عن الشعبي قال: كان رهان فقال رجل لبلال رضي الله عنه: من سبق؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. قال: فمن صلى؟ قال: أبوبكر قال: إنَّما أعني في الخيل، قال: وأنا أعني في الخير.

قلت: يقال للفرس السَّابق مُجلّي، وللذي يليه مُصلَّي، وصلَّى الفرس إذا جاء تاليا للسابق، وحقيقة الكلمة : أنَّ رأسه عند صلاه، وهو مغرز ذنبه، أي: رأس المصلي عند مغرز ذنب المجلي.

ومن بدع التفاسير : ما حكاه الصَّاوي في "حاشية الجلالين"، وعبارته: وقيل: الضمير في قوله: رُدُّوهَا ﴾ عائد على الشمس، والخطاب للملائكة الموكلين بها فردوها، فصلى العصر في وقته».

قلت: لم يكن سليمان عليه السَّلام ملكًا في السماء، ولم تكن له سلطة على الملائكة يأمرهم بردَّ الشَّمس فيردوها، وهي لم ترد على أحد قبله منذ خلق الله

بدع التفاسير

الدنيا، ثمَّ لو صح هذا التفسير، لوجب أن يكون نظم الآية: ردُّوها عليَّ فصلَّى، لكن نظمها الحالي يؤكد أنَّ المردود عليه الخيل التي طفق بمسح سوقها وأعناقها.

نعم ثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ نبي الله يوشع حينما ذهب لقتال الجبارين، وكان في يوم الجمعة، وخاف أن تغرب الشمس قبل الفراغ من قتالهم؛ فدعا الله فحبسها عليه ساعةً من النهار. و في "أوسط معاجم الطبراني" باسناد حسن عن جابر بن عبدالله: أنَّ

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أمر الشَّمس فتأخرت ساعة من نهارٍ. وسبب ذلك: ما جاء في "مغازي ابن إسحاق": لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير، قالوا: متى تجيء؟ قال: «يوم الأربعاء». فلما كان ذلك اليوم، أشرفت قريش ينظرون، وقد ولى النهار ولم تجى. فدعا صلَّى الله عليه وآله وسلم، فزيد له في النهار ساعة، وحبست عليه الشَّمس.

وروى الطبراني في "الكبير" والحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "الدلائل" عن أسماء بنت عُميس أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلم دعا وكان نائما على ركبة عليّ، ففاتته صلاة العصر - فردَّت الشَّمس حتى صلى علي، ثُمَّ غربت (۱)، صححه الطَّحاوي وعياض وغيرهما، وانظر هذا البحث في كتابنا " الأحاديث المنتقاة في فضائل سیدنا رسول الله ".

وللحافظ الحسكاني مجلس إملاء على حديث ردّ الشَّمس، ذكره الذهبي في

(۱) وقال ابن تيمية في "منهاج السُّنَّة " : إنه باطل، وخطأه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".

١٥٢

القرآن الكريم

"تذكرة الحفاظ".

قال الزرقاني في شرح المواهب : ومن لطائف الاتفاقات الحسنة: أنَّ أبا المظفر الواعظ ذكر يوما قرب الغروب فضائل علي عليه السَّلام ورد الشَّمس له، والسَّماء مغيمة غيا مُطبقا، فظنُّوا أنها غربت وهموا بالانصراف، فأصحت السماء ولاحت الشمس صافية الإشراق، فأشار إليهم بالجلوس وقال ارتجالا:

لا تَغْربي يا شَمْسُ حَتَّى يَنتهي مَدْحِي لآل المصطفى ولنَجْلِـهِ واثني عِنَانَكِ إِن أردتِ ثنائهمْ أَنَسِيتِ إِذْ كَانَ الوُقوفُ لأجلِهِ؟ إِنْ كَانَ للمَوْلَى وقُوفُكِ فليكن هذا الوقوف الخيله ولرجلِـهِ يشير نجله إلى أنَّ عليَّا عليه السَّلام تربّى في بيت النبي صلى الله عليه وآله

وسلم، وبالمولى إلى حديث: «من كنتُ مَوْلاهُ فعليٌّ مَوْلاهُ».

«فائدة»: قال بعض العلماء: كان علم النجوم صحيحًا، فلما توقفت

الشمس ليوشع بطل أكثره، ولما رُدَّت لعلي بطل جميعه (۱). والشيعة يزعمون أنَّ الشَّمس رُدَّت لعلي - عليه السَّلام - مرة أخرى غير هذه وهو في أرض بابل أيام خلافته، وقد فاتته صلاة العصر أيضًا، قال السيد إسماعيل ابن محمد الحميري في قصيدته المذهبة، يذكر الحادثتين في بيتين، وهما:

(۱) علم النجوم مبني على حساب سير الكواكب وتقابلها وحلول كل منها في برج كذا ساعة كذا، فلما توقفت الشمس ساعة ليوشع عليه السَّلام اختل حساب المنجمين بالنسبة لسير

الشمس، ولما ردت بعد الغروب اختل حسابها بالنسبة لها ولسير الكواكب الليلية.

بدع التفاسير

١٥٣

رُدَّتْ عليه الشمس ما فاته وقتُ الصَّلاةِ وَقَدْ دَنَتْ للمَغْرِبِ وعليه قد حبست ببابل مرة أخرى وما حُبِسَتْ لخَلْقٍ مُغرب

وانظر شرحهما في "أمالي" الشريف المرتضى (ج ٢ ص ٣٤٠-٣٤٣). ه - قوله تعالى : قَالَ إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مَا مِنَ الْعَالِينَ (ص: ٧٥] في هذه الآية وما شابهها طريقتان، أشرنا إليهما في المقدمة: إثبات اليدين صفة الله تعالى، كما جاء به السَّمع، مع اعتقاد التنزيه عن الجارحة وتفويض المعنى المراد الله تعالى إليه، هذه طريقة السَّلف، وهي . أبي الحسن الأشعري إمام الأشعريَّة، والقاضي أبو بكر الباقلاني من أئمتهم. والتأويل بصرف الكلام إلى بعض وجوه المجاز التي يقتضيها السياق، وهذه طريقة الخلف. فيكون قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى كناية عن قوله: لما توليتُ إحداثه ولم يقدر على توليه غيري.

مذهب

قال الزمخشري: «فإن قلت: ما وجه قوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ؟ قلت: سبق لنا أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدي له يداك أوكتا، وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته، وهذا مما عملته يداك، ومنه قوله تعالى: مِمَّا عَمِلَتْ

أيدينا } [يس: ٧١]، ولِمَا خَلَقْتُ بِيَدَ . قلت: ففي الكلام ،استعارة شبه تصوير الله جسم آدم وتسويته إياه، بما ينحته النحات بيديه من التماثيل واستعير له لفظ «يدي»، على طريق

١٥٤

القرآن الكريم

الاستعارة التصريحية الأصلية. وقيل: معنى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى . لما خلقت

بغير واسطة أب أو أمّ. وجوز إمام الحرمين وغيره أن يكون معنى الا لِمَا خَلَقْتُ

بيدى : لما خلقت بقدرتي، فاليد بمعنى القدرة، والتثنية للتعظيم. وأن يكون معنى اليد النعمة والباء بمعنى اللام، والمراد: لما خلقت

لنعمتي، وتثنية اليد لأنه أريد نعمة الدنيا والآخرة.

ويُضعف الوجه الأوّل: أنَّ المخلوقات كلها مخلوقة بقدرة الله تعالى، فما فائدة تخصيص خلق آدم بها؟ إلَّا أن يقال : فائدته: التلويح بتهديد إبليس، ويكون المعنى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بقدرتي التي بها أعذبك إن لم تُطع أمري والوجه الثاني فيه تكلُّفٌ.

وفي "تفسير الكشاف": «فإن قلت: فما معنى قوله: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى . قلت: الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم، واستنكف منه أنه سجود لمخلوق، فذهب بنفسه، وتكبّر أن يكون سجوده لغير الخالق، وانضم إلى ذلك أنَّ آدم مخلوق من طين، وهو مخلوق من نار، ورأى للنَّار فضلا على الطين، فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر به أعزّ عباده عليه وأقربهم منه زلفي وهم الملائكة وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم، ثُمَّ لم يفعلوا، واتبعوا أمر الله، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه، كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم - حريًا بأن يقتدي بهم ، ويعلم أنهم في السجود لمن هو

بدع التفاسير

100

دونهم بأمر الله أوغل في عبادته منهم في السجود له، لما فيه من طرح الكبرياء، وخفض الجناح. فقيل له: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ) أي: ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي امتثالا لأمري، كما فعلت

الملائكة، فذكر له ما تركه من السجود، مع العلة التي تشبث بها في تركه. وقيل له: لم تركت مع وجود هذه العلة وقد أمرك الله به؟! يعني: كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة، ومثاله: أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم ، فيمتنع اعتبارًا لسقوطه، فيقول له: ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علي سقوطه؟ يريد هلا اعتبرت أمري، وتركت اعتبار سقوطه، وفيه أني خلقته بيدي فأنا أعلم بحاله ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له، لداعي حكمةٍ دعاني إليه من إنعام عليه بالتكرمة السنية، وابتلاء للملائكة، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له مالم يصرفني عن

بالسجود له؟». اهـ

قلت: في هذا الكلام أمور:

الأمر

الأول: تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهذه مسألة فيها خلاف معروف، ولنا فيها رأي يخالف مذهبي الأشعرية والمعتزلة.

الثاني: ذكر الأمر بزيارة بعض سقاط الحشم مثلا لآدم عليه السَّلام، وهي إساءة بالغة في حق أبي البَشَر ، وأصل الأنبياء، وإقامة العذر لإبليس في ظنَّه خيريته على آدم وأنَّ الله تعالى أقره على ظنّه الباطل، وإنما عابه على ترك السجود اتباعًا للأمر به، والواقع أن جملة لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ذكرت ردًّا على إبليس، لا إقرارا له، وبيانًا لتكريم آدم بأنَّ الله خلقه بيده، وتلك مزية تقتضي

١٥٦

القرآن الكريم

الإسراع بالسجود له، ولم يكن لإبليس ولا لغيره أن يتعاظم على من كرمه الله

بهذا التكريم الذي أدركه الملائكة، فبادروا إلى امتثال الأمر بالسجود. الثالث: قوله: «الداعي حِكمة دعاني إليه وهذه جرأةٌ لا تصدر ! معتزلي جلد كالزمخشري، والله تعالى لا يدعوه شيء إلى فعل شيء؛ لأنَّ الدَّاعي

من

إلى الشيء والباعث عليه الوصول إلى غرض من تكميل نقص، أو جلب مصلحة، أو درء مضرة والله تعالى منزّه عن ذلك، ومن ثَمَّ قال أهل الأصول - في الكلام على علة القياس - : إنّها الوصف المناسب، ومن مناسبته أن يكون باعنا للمكلف على علة الامتثال ولا يجوز أن يكون باعنا للشارع على تشريع الحكم، انظر "جمع الجوامع" وما كتب عليه والمقصود أنَّ كلام "الكشاف" في هذا الموضع من بدع التفاسير.

ومن سورة الزمر

۱ - قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيتُ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: ٦٧] من الطي

هي

صفة الله تعالى مع التنزيه والتفويض.

ضد النشر، «بيمينه»: بقدرته، أو والمقصود بيان سعة قدرة الله تعالى، وأنَّ الأمور العظام، كالسَّماوات والأرض

هيئة عنده لا يُعيبه طيها وقبضها (۱).

.

ومن بدع التفاسير : أنَّ معنى المَطوِيتُ بِيَمِينِهِ : مغنيات بقسمه؛

(۱) وتقدم قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَي السجل لِلْكُتُب [الأنبياء: ١٠٤] وهو يؤكد بطلان التفسير المحكي هنا.

بدع التفاسير

١٥٧

لأنه أقسم أن يفنيها.

قال الزمخشري : ومن اشتمَّ رائحةً من عِلمنا هذا يعني علم البيان

فليعرض عليه هذا التأويل، ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله !! ثم يبكي حميَّةٌ

.

لكلام الله المعجز بفصاحته، وما مني به من أمثاله؛ وأثقل منه على الروح وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله واستحسانهم له، وحكايته على فروع المنابر، واستجلاب الاهتزاز من السامعين.

قلت: وقع مثل هذا وأشد منه في تفاسير مبتدعة العصر التي أشرنا إلى بعضها في الخطبة، وتمكنوا من نشرها وإشاعتها فعمت بها البلية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهم

ومن سورة غافر

۱- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ ﴾ أربعة وعشرون آدم وإدريس ونوح وهودٌ وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهرون وشعيب وأيوب وإلياس واليسع وذو الكفل وداود وسليمان وزكريا ويحيي وعيسى ويونس عليهم السَّلام وَمِنْهُم مَن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: ۷۸] وهم كثيرون ففي مسندي أحمد وإسحاق بن راهويه عن أبي أمامة أنَّ أبا ذر سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: كم الأنبياء؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا»، قال:

كم الرسل منهم، قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا». إسناده ضعيف. ورواه ابن حبان، والحاكم من طريقين ضعيفين أيضًا عن أبي ذر في حديث طويل، وله طرق ذكرها الحافظ السُّيوطي في أماليه في "التفسير"، وانظر كتاب

١٥٨

القرآن الكريم

تنزيه الشريعة" لابن عراق.

وروى الطبري والطبراني في "الأوسط" وابن مردويه في "تفسيره" عن

علي عليه السَّلام قوله: وَمِنْهُم مَن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قال: أرسل الله عبدا حبشيا، فهو الذي لم نقصص عليك.

قلت: لم يصح عن عليّ هذا الكلام في سنده جابر الجعفي، وهو مطعون فيه. وهذا من بدع التفاسير؛ لأنَّه تخصيص لعموم الآية بدون دليل، ثُمَّ مَن هذا الحبشي الذي أرسله الله ؟ لم يقم على تعيينه دليل، وإذا لم يقصه الله علينا ولا

رسوله، فكيف عرفنا أنه رسول ؟!

ومن سورة فصلت

۱ - قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا أي: النَّارِ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [فصلت: ٢٠] بأن يخلق الله فيها النطق فتنطق بما فعلته من المعاصي مُقرَّةً به. ومن بدع التفاسير : أن شهادة الجوارح كناية عن ظهور أثر المعاصي عليها، بأن يظهر الله عليها علامات دالة على ما كانت تعمله في الدنيا، كنتانة فروج الزناة مثلا، وهذا التأويل حكاه الألوسي وغيره، وهو باطل لوجوه:

أحدها: أنه مجاز، وهو خلاف الأصل.

ثانيها: أن الآية تتحدث عن الآخرة، وقد قدمنا في المقدمة أنَّ ما كان من

هذا القبيل يمتنع حمله على المجاز.

ثالثها: أنَّ بقيَّة الآية تدل على أنَّ النطق حقيقي وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ

بدع التفاسير

١٥٩

شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) [فصلت: ٢١] أبعد هذه المراجعة

الصريحة بين الكفار وأعضائهم يقال: الشَّهادة كناية.

رابعها أنَّ قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: ٦٥] يفيد أنَّ كلام أعضائهم إنَّما يكون بعد ختم أفواههم ومنعها من النطق، لما سيأتي بعده. خامسها أنَّ الحديث الصحيح صرّح بأن نطق الجوارح حقيقة، ففي

عند

"صحيح مسلم" و"سنن النسائي" عن أنس رضي ا الله عنه قال: كنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم فضحك حتى بدت نواجذه. قال: «أتدرون ممَّ أَضْحَكُ»؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تُجربي من الظلم؟ قال: بلى. قال: فإني لا أجيز اليوم علي شاهدًا إلا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه ويقول لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله. ثُمَّ يُخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكُنَّ كنت أناضل».

وروى أحمد والنسائي والبيهقي بإسناد جيد عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفِدَامُ (۱) فأوَّل ما يتكلَّم من العبد فَخِذُهُ ويَداهُ». ورواه الحاكم من حديث

معاوية بن حيدة.

(۱) بكسر الفاء ما يوضع في فم الإبريق ليصفي به ما فيه من الشَّراب، وهو كناية عن منعهم من الكلام بألسنتهم لتنطق جوارحهم.

17.

القرآن الكريم

ومن سورة الشورى

۱- قوله تعالى : لا لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يشاء من الأولاد إنشا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾ [الشورى: ٤٩ - ٥٠] في الآية تقسيم حاصر، وهي تفيد

عموم قدرته، ونفاذ إرادته في مخلوقاته، وأنه يفعل ما يشاؤه هو لا ما يشاؤون، فيهبهم من الأولاد حسبما تقتضيه حكمته ومشيئته.

ومن بدع التفاسير : يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِننا يريد: لوطًا وشعيبا عليهما السلام لم يكن لهما إلا البنات ويَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور يريد: إبراهيم عليه السَّلام لم يكن له إِلَّا الذَّكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنما يريد: النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان له ذكور وبنات ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا يريد: يحيى وعيسى عليهما السلام

وهذا التأويل باطل؛ لأنَّه تخصيص للآية بدون دليل، ثُمَّ تخصيصها بهؤلاء الأنبياء دون غيرهم لا دليل عليه، ثُمَّ العقيم من تزوج ولم يولد له، ويحيى وعيسى لم يتزوجا أصلًا.

۲- قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ وما صح لأحدٍ من البشر أن يُكَلِمَهُ الله إلا أن يوحي إليه وحيا في المنام، أو بطريق الإلهام فرؤيا الأنبياء حق يعمل بها في التشريع، وكذلك إلهامهم أَوْ إِلَّا مِن وَرَأَي حِجَابٍ بأن يسمعه كلامه ولا يراه، كما وقع لموسى عليه السَّلام أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا مَلَكًا

بدع التفاسير

171

كجبريل عليه السَّلام فَيُوحِيَ الرَّسول الملك إلى النبي المرسل إليه بإِذْنِهِ أي: الله مَا يَشَاهُ ﴾ [الشورى: ٥١] الله إلقاءه إليه من الأحكام

وغيرها.

وقيل : معنى وحيا ) كما أوحى إلى الرُّسل بواسطة الملائكة أَوْ يُرسل

رسولا بشرا كما كلَّم الأمم على ألسنة رسلهم.

وقال أبو علي الجبائي في "تفسيره : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ ﴾ إِلَّا مثل ما يكلم به عباده من الأمر بطاعته، والنهي لهم عن معاصيه، وتنبيه إياهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام، وما أشبه ذلك على سبيل الوحي وإنما سمى الله تعالى ذلك وحيا؛ لأنه خاطر وتنبيه، وليس كلامها لهم على سبيل الإفصاح ، كما يفصح الرجل منا لصاحبه إذا خاطبه، والوحي في اللغة إِنَّما هو ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه من غير أن يفصح به، فهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى في هذه

الآية.

وعنى بقوله: أَو مِن وَرَاى حِجَابٍ أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خَلْقه، إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه تعالى لموسى عليه السلام؛ لأنَّه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا موسى عليه السَّلام وحده في كلامه إيَّاه أولًا، فأما كلامه إيَّاه في المرة الثانية، فإنَّه أسمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه، وحجب عن جميع الخلق سواهم، فهذا معنى قوله عزّ وجلَّ: أَو مِن وراي حجاب ؛ لأنَّ الكلام هو الذي كان محجوبا عن الخلق، وقد يقال: أنَّه تعالى حجب عنهم موضع الكلام الذي أقام الكلام فيه، فلم يكونوا يدرون

١٦٢

القرآن الكريم

من أين يسمعونه؟ لأنَّ الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم، ولا يجوز أن يكون أراد بقوله تعالى: أَو مِن وَرَاي حجاب : يكلّم عباده؛ لأنَّ الحجاب لا يجوز إلَّا على الأجسام المحدودة، وعنى بقوله: ﴿ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يشاء إرساله ملائكته بكتبه وبكلامه إلى أنبيائه عليهم السلام، ليبلغوا ذلك عنه عباده، على سبيل إنزاله القرآن على عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإنزاله الكتب على أنبيائه، فهذا أيضًا ضرب من الكلام الذي يكلم الله به عباده، ويأمرهم فيه بطاعته، وينهاهم عن معاصيه من غير أن يكلمهم على سبيل ما کلم به موسى، وهذا الكلام هو خلاف الوحي الذي ذكره الله تعالى في أوّل الآية؛ لأنه قد أفصح لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه، والوحي ا

ذكره الله تعالى في أوّل الآية، إنَّما هو تنبيه وخاطر، وليس فيه إفصاح.

قلت: اشتمل هذا الكلام على أمرين، يعتبران من بدع التفاسير :

الذي

أحدهما: تفسير وحيا بما يلقيه الله إلى عباده من جهة الخاطر أو المنام، وهذا ينافي سياق الآية؛ لأنَّ الله تعالى أراد بها أن يبين أنواع كلامه لرسله المبلغين عنه، وأنَّ ما يلقيه إليهم من إلهام، أو ما يريه إيَّاهم في المنام يجب اتباعه

والعمل به، كما قال تعالى: لَقَدْ صَدَفَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّمْ يَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ امِنينَ } [الفتح: ۲۷] الآية، وكما قال إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما السلام: بَنَى إِنِ أَرَى فِي الْمَنَاءِ أَنِى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَابَتِ ا فعل مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) [الصافات: ١٠٢] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ روح القدس نفث في روعي أَنَّ نفسًا لن تموت حتّى

بدع التفاسير

١٦٣

تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» (۱) ولذا عقب هذه الآية بقوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: ٥٢] فأخبر أنه سلك به مسلك الرسل من قبله وأنَّ الوحي إليه نوع من أنواع الكلام الثلاثة المشار إليها، فكانت الآيتان متناسبتين أما ما يلقى في خواطر الناس، أو ما يرونه في منامهم، فلا معنى لذكره هنا، ولا مصلحة تتعلق به.

ثانيهما: تفسير مِن وَرَاي حجاب بأنه حجب الخلق جميعا عن الكلام الذي تكلم إلا من يريد أن يكلمه به، فإنَّه يسمعه من وراء الحجاب الذي حجب غيره من ! النَّاس، وهذا خلافُ الظَّاهر المتبادر من اللفظ، فإنَّ الذي يفهم بادئ ذي بدء من عبارة أو مِن وَرَاء حِجَابٍ أن يُسمع الله كلامه لرسوله من غير أن يراه فالرَّسول حين يسمع الكلام محجوب عن رؤية المتكلم، ولا معنى لذكر المخلوقات هنا؛ لأنهم محجوبون عن كلام الله دائما حال کلامه مع رسوله وقبله وبعده.

قال الزمخشري: وأما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه؛ لأنَّه في ذاته غير مرئي، وقوله: من وراي حجاب مثل أي كما يكلّم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب، فيسمع صوته ولا يرى شخصه. بقي أمرٌ ثالث نُنبه عليه؛ لأنَّه بدعة البدع وهو قوله: «لأنَّ الكلام عرض لا يقوم إلا بجسم»، وهذا مبني على مذهب المعتزلة في إنكار أن يكون الله تعالى

(۱) رواه الحاكم عن ابن مسعود في جملة من حديث، وهو صحيح.

١٦٤

القرآن الكريم

كلام نفسي قديمٌ. وقالوا: معنى أنَّ الله متكلّم : خالق للكلام في جسم كشجرة مثلا، ومن هنا قالوا بخلق القرآن فخالفوا إجماع الصحابة والتابعين وسائر

علماء السُّنَّة. وهذا بحث طويل، يُطلب تحريره في كتب الكلام.

وفي كلام الزمخشري بدعةٌ نُنبه عليها أيضًا، وهي قوله: «لأنه في ذاته غير مرئي» يشير إلى مذهبه الاعتزالي أنَّ الله لا تجوز رؤيته عقلا، وقد صرح بهذا في (سورة الأعراف)، ورمى الأشعريَّة المجوّزين للرؤية بأنهم حُمر موكفة، ونحن لا نعجب من وقيعته في الأشعريَّة مثل عجبنا من إصراره على إنكار الرؤية التي ثبت وقوعها في الآخرة بالسُّنَّة المتواترة، وأجمع عليها الصحابة قبل ظهور شيوخ الزمخشري بسنين !!

ومن سورة الزخرف

۱- قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ، جُزءاً } [الزخرف: ١٥] أي: ولدًا. حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءًا له وبعضا منه، كما يكون الولد

بضعة من أبيه. قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير: تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أنَّ الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة. ثُمَّ

صنعوا بيتا وبيتا:

1 - إِنْ أَجْزَاتٌ حُرَّةٌ يومًا فلا عَجَبٌ

- زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةٌ

بدع التفاسير

قلت: الصنعة ظاهرة على هذين البيتين، ومعناهما ركيك.

170

۲- قوله تعالى: بَلْ مَتَعْتُ هَؤُلَاءِ وَ ابَاءَ هُمْ حَتَّى جَاءَ هُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ [الزخرف: ٢٩] يخبر الله تعالى أنه متّع أهل مكة - وهم من عقب إبراهيم - ومتَّع آباءهم أيضًا بالأمن والنعمة، فاغتروا وشغلوا بالشهوات وعبادة الأوثان عن التوحيد، حتّى جاءهم القرآن والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فكذبوا،

وجَحَدُوا.

قال الزمخشري : فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: متعت، بفتح التاء؟ قلت: كأنَّ الله تعالى اعترض على ذاته في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِيهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: ۲۸] فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسَّعة في الرّزق، حتى شغلهم ذلك عن التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعبيرهم...» إلخ

قلت: القراءة المشار إليها شاذة، وتوجيهها بما ذكره قبيح وكيف يعترض الله على ذاته؟! وقد أغنانا الله بالقراءة المتواترة المعروفة عن هذا التوجيه الذي هو أقبح من بدع التفاسير. والمقرر في علم الأصول : أنَّ القراءة الشَّاذَّة ليست من القرآن، لفقدها شرط التواتر، ولا تجوز الصلاة بها، كما لا تجوز بأي كلام غير القرآن، وقد

حكم العلماء بتعزير ابن شنبوذ؛ لأنَّه كان يقرأ بها في صلاة التراويح.

قوله تعالى: وَسَتَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } [الزخرف: ٤٥] إذا

لقيتهم ليلة الإسراء كما قيل في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ فَلَا

١٦٦

القرآن الكريم

تكن في مريَةٍ مِن لِقابِهِ ﴾ [السجدة: ۲۳] يعني: في ليلة الإسراء أيضًا، فقد صح أنه صلى الله عليه وآله وسلّم اجتمع في تلك الليلة بالأنبياء وصلى بهم وعرفه بهم جبريل، والحكمة في أمره بالسؤال التقرير لمشركي قريش على أنه لم يأتِ رسول ولا كتاب إلا بتوحيد الله وعبادته.

وقيل المراد: واسأل أتباع من أرسلنا وهم علماء أهل الكتابين، ففي

الكلام مجاز بالحذف، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: ۸۲] أي: أهلها. وقال ابن قتيبة : معنى الآية. واسأل من أرسلنا إليه قبلك من رسلنا وهم

الأتباع من أهل الكتابين أيضًا، غير أنه جعل كلمة إليه مقدَّرة محذوفة، فأخطأ وكان تأويله من بدع التفاسير؛ لأنَّ المقرر في علم العربية: أنَّ الضمير المنفصل لا يجوز حذفه فلا يقال : الذي جلست زيد، على معنى الذي جلست إليه زيد، وكذلك لا يصح أن يقال : الذي رغبت محمد، بمعنى: الذي رغبت فيه محمد، وإنما يجوز حذف الضمير المتصل، نحو الذي أكرمت صديقك، أي: أكرمته. وجاء من قابلت أمس، أي: قابلته. والسر في ذلك أنَّ الضمير المتصل يدل عليه الموصول العائد هو عليه ، فلذا جاز حذفه، بخلاف المنفصل، فإنَّه - وإن دلّ الموصول عليه - لا يدرى عين الحرف الجار له هل هو

إلى أو في أو عن مثلا ؟ وقد يكون ظرفاً نحو جلست معه فلذا لم يجز حذفه. وقد وقع الجلال المحلي في هذا أيضًا، عند تفسير قوله تعالى - أول هذه السورة وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَمِ مَا تَرَكَبُونَ ﴾ [الزخرف: ١٢] فإنَّه قال:

حذف العائد اختصارًا وهو مجرورٌ في الأول، أي: فيه. منصوب في الثاني.

بدع التفاسير

ما تركبونه.

١٦٧

أنَّ التقدير : وجعل لكم من الفلك ما تركبون فيه ومن الأنعام

وتقدير وفيه خطأ لما مرَّ، والصواب تقدير العائد المحذوف ضميرًا متصلاً منصوبا فيهما، ويجوز في اللغة أن يقال : ركب الفلك، كما يقال: ركب فيها.

ومن سورة ق

۱ - قوله تعالى: [ق: ١] الكلام في حروف الهجاء المفتتح بها بعض السور معروف، بسطه الزمخشري في أول سورة البقرة، وفصله تفصيلا وافيا.

ونحن ننقل وجها مما ذكره؛ لأنه من بديع ما كتبه.

قال: «الوجه الثاني: أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد، كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن، وبغرابة نظمه، وكالتحريك للنظر في أنَّ هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله، بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزّت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء؛ إلا لأنَّه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر».

قلت: قد أبدع في هذا الوجه غاية الإبداع.

١٦٨

القرآن الكريم

ومن بدع التفاسير : أنَّ را جبل محيط بالأرض، من زمردةٍ خضراء، اخضرت السَّماء منه، وعليه طرفا السَّماء، والسَّماء عليه مقيَّبة، وما أصاب النَّاس من زمرد، كان مما تساقط من ذلك الجبل !!

وهذا الكلام أبطل من أن يشتغل برده. والعجب ممن يكتبه في التفسير!!

ويحمل عليه آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !! ۲- قوله تعالى: وَجَاءَتْ سَكَرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) [ق: ۱۹] إن كانت الإشارة للموت، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ [ق: ١٦] على طريق الالتفات، وإن كانت الإشارة للحق، فالخطاب للكافر.

ومن بدع التفاسير : أنَّ الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم. عن بعضهم : أنَّه سأل زيد بن أسلم عن ذلك؟ فقال: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. فحكاه لصالح بن كيسان، فقال: والله ما سِن عالية

ولا لسان فصيح، ولا معرفة بكلام العرب، هو للكافر.

ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، فقال: أخالفهما جميعا، هو للبر والفاجر.

قلت: لا شكّ أنَّ تفسير زيد بن أسلم غير مقبول ولا معقول، وهو بعيد من سياق الآية غاية البعد، وكيف يحيد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الموت؟ وهو الذي خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله كما ثبت في الصحيحين.

بدع التفاسير

١٦٩

أما تفسير صالح بن كيسان، فهو أقرب من تفسير الحسين بن عبد الله؛ لأنَّ البر لا يجيد من الموت، ولا يهرب منه وإنّما الذي يهرب منه ويجيد، هو الفاجر

الكافر.

ومن سورة الرحمن

۱- قوله تعالى: يَمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانِ ﴾ [الرحمن: ٣٣] تتحدى الآية الثقلين أن ينفذوا من جوانب السموات والأرض إن استطاعوا ويهربوا من قضاء الله وحكمه، وتخبر الآية أيضًا أنَّ نفوذهم لا يمكن إلا بقوَّة وهي غير موجودة عندهم، وهذا مثل قوله تعالى: وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [العنكبوت: ۲۲] ومثل قول الجنَّ وَأَنَا ظَنَنَّا أَن لَّن تُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن تُعْجِزَهُ هَرَبًا [الجن: ۱۲] ثُمَّ أكدت الآية التحدّي بهذه الجملة يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِن نَارِ هو هبها الأحمر

ونحاسدخان لا لهب فيه فَلَا تَنتَصِرَانِ ﴾ [الرحمن : ٣٥].

ومن بدع التفاسير : قول بعض المعاصرين: يسلطن : بعلم وأنَّ الآية تشير إلى سفن الفضاء التي تحاول بطريق العلم الوصول إلى القمر، أو غيره من الكواكب على ما يقال.

وهذا تحريفٌ للآية يوقع في الإثم، وذاك المفسر لا يفهم لجهله بقواعد اللغة العربية - أن عبارة إنِ اسْتَطَعْتُم تفيد التحدي والتعجيز، وأن لفظ من أقطار يفيد مجاوزة جوانب السَّماوات والأرض إلى ما بعدهما، كما يقال:

۱۷۰

القرآن الكريم

نفذ السهم من الرمية :أي جاوزها. وقد أخبر الله تعالى في (سورة الجن): أنَّهم كانوا يصعدون إلى السَّماء، ويتخذون منها مقاعد لاستراق السمع، وهذا يبين أنَّ الله تحداهم هنا مع الإنس بما هو أبعد من ذلك وأقوى مما لا تبلغه قدرتهم، وهو ما أوضحناه.

ومن الابتداع الخاطئ: حمل ألفاظ الكتاب والسُّنَّة على معانٍ تنافي مدلولها اللغوي، وتباين السياق الذي سيقت له الآية أو الحديث، ونحن لا ننكر أنَّ في القرآن والحديث إشارات إلى كثير من المخترعات الحديثة، لكن تدلُّ عليها في حدود المدلول اللغوي، وداخل نطاق الأسلوب الكلامي عند العرب، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في خواطر دينية" وانظر كتاب " مطابقة الأحوال العصرية لما أخبر به سيد البرية" لشقيقنا الحافظ أبي الفيض رحمه الله تعالى ورضي عنه.

ومن سورة التحريم

11

۱- قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم: ١] اختلف في سبب نزول هذه الآية. فقيل: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم خلا بمارية في يوم حفصة وفي بيتها، ووطئها، فعثرت حفصة على ذلك، فقالت: يا رسول الله لقد جئت أمرًا ما جئته إلى أحد من نسائك، في بيتي و على فراشي وفي دولتي؟ فقال: «أيرضيك أنْ أحرمها فلا أمسها أبدًا؟» قالت: فحرمها على نفسه (۱) وقال: «لا تذكريه لأحدٍ من النَّاسِ». فأخبرت

نعم.

(۱) جاء هذا في حديث رواه الطبراني في عشرة النساء وابن مردويه في "التفسير" عن أبي

بدع التفاسير

۱۷۱

حفصة عائشة بذلك، وكانتا صديقتين.

وقيل: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شرب العسل عند زينب بنت جحش إحدى أمهات المؤمنين فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له: إنَّا نشم منك

ريح مغافير، وكان يشتد عليه أن يوجد منه الريح، فحرم العسل على نفسه.

قال الحافظ ابن حجر: «يجوز أن تكون الآية نزلت للسببين معا». ومعنى الآية على هذا أنَّ الله تعالى يقول لنبيه : لم تمتنع مما أحل الله لك من قربان جاريتك ومن شرب العسل تبتغي مرضاة أزواجك؟ والكلام خرج مخرج الإشفاق عليه، والتوجع له صلى الله عليه وآله وسلم، فكأنه تعالى يقول: لم تبتغي مرضاة أزواجك بإدخال المشقة على نفسك؟ هذا هو الظاهر، كما قال الشريف المرتضى في غرر "الفوائد" ثُمَّ بيّن الله كيفية التحلل من اليمين، فقال تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَنِكُمْ ﴾ [التحريم: ٢] فالتحريم هنا معناه:

الامتناع وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾ [القصص: ۱۲].

ومن بدع التفاسير: قول الزمخشري: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ مِن مِلْك

اليمين أو العسل، وتبغى إمَّا تفسير لتحرم، أو حال، أو استئناف. وكان هذا زلّة منه؛ لأنه ليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله؛ لأنَّ الله عزّ وجلَّ إنّما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله، فإذا حرم كان ذلك قلب

هريرة، وفيه زيادة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- قال لحفصة: «ألا أبشرك؟» قالت: بلى. قال: «يلي هذا الأمرَ مِن بعدي أبوبكرٍ ويَليه مِن بعد أبوك واكْتُمي هذا عليّ». وهذه زيادةً منكرة لا تصح.

۱۷۲

القرآن الكريم

المصلحة مفسدة واللهُ غَفُورُ : قد غفر لك ما زللت فيه رحيم قد رحمك

فلم يؤاخذك به.

ووجه البدعة في هذا التفسير : أنه حمل التحريم على اعتقاد الحلال حراما، وسياق الآية لا يقتضيه، ولا يدل عليه ، ثُمَّ حكم بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم زل في هذا التحريم. والواقع أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يَزِل؛ لأنَّه لم يعتقد ما أحله الله حراما، كما زعم الزمخشري، بل امتنع منه بيمين(۱)، على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو قال في شيء : إنه حرام كان حراما؛ لأنه مُبلغ عن الله، وقد حرَّم أشياء لم تأتِ في القرآن، مثل السباع والحُمُر الأهليَّة، وقال في الحديث الصحيح: «ألا وإنَّ ما حرم رسولُ الله مثل ما حرَّم الله فإذا اعتقد في شيء أنه حرام فهو حرام

أن

(۱) ولأجل اليمين قال الله تعالى: وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمُ ) إشارة إلى أنه ما كان ينبغي أ يستعمل اليمين لإرضاء أزواجه، ويكفي إرضاؤهن بغير يمين، وإنما تستعمل اليمين في الأمور المهمة، مثل ما أمره بها في قوله تعالى: قُلْ إِلى وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَى وقوله تعالى : وقد فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَةَ أَيْمَنِكُمْ ) مبني على ما قبله بناء المسبب على سببه، أي من أجل أنه غفور رحيم، جعل لكم تحلة لأيمانكم تتحللون بها، فلا يلحقكم إثم في حنثها، ولذا جاء في "المراسيل" لأبي داود عن قتادة عن الحسن - في تحريم أم إبراهيم - قال: فأمر أن يكفر عن يمينه. وقال ابن اسحق في "السيرة": أخبرني بعض آل عمر قال : أصاب النبيُّ -صلَّى الله عليه وآله وسلم- جاريته القبطية أم إبراهيم في بيت حفصة، وفي يومها، وذكر القصة إلى أن قال: فأنزل الله تعالى: يَنَايُّهَا النَّبِيُّ لِمَ ترم فكفر عن يمينه وقرب جاريته.

بدع التفاسير

۱۷۳

حقيقة؛ لأنَّ اعتقاده لا يكون إلا مطابقة للواقع. فالزمخشري هو الذي زلّ في هذا المكان وضل، سامحه الله.

علم

(تنبيه): قول الزمخشري: «الحكمة ومصلحة عرفها فيه إطلاق المعرفة على الله تعالى وهو خطأ؛ لأنَّه لا يجوز شرعًا أن يقال: عرف الله كذا، وهو عارف، وإنما يقال: علم كذا، وهو عالم، وتجويز الشيخ زكريا الأنصاري إطلاق المعرفة في حق الله لورود ذلك، يقال عليه: لا يكفي الورود، بل لابد

من الثبوت ولم يثبت في إطلاقها عليه تعالى حديث صحيح.

۲- قوله تعالى: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانتا تحتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: ١٠]. زعم بعض المعاصرين تمن أقحم نفسه في التفسير بغير علم أن المراد بالخيانة: الزنا. وهذا من بدع التفاسير، وهو يدل على جهل صاحبه وغباوته. فليست الخيانة هنا إلا المخالفة في العقيدة، ومساعدة الكفَّار على زوجيهما، وهو خلاف ما تقتضيه العشرة الزوجية من صفاء المودة، وحسن المراعاة.

والدليل على هذا أمور:

الأول: أنَّ امرأة نوح كانت ترمي زوجها بالجنون، وتساعد قومه عليه من شتمه ،وإيذائه وامرأة لوط كانت تدل قومه على ضيوفه إذا كانوا حسان

الوجوه، لم ينقل عنهما غير ذلك.

الثاني: لو ثبت عليهما شيء من الزنا، لأسرع قوم نوح وقوم لوط إلى

١٧٤

القرآن الكريم

تعييرهما، والتشنيع عليهما، لكنهم لم يعرّجوا على ذلك بحال. الثالث: أنَّ من يقع الزنا في بيته بأهله وهو لا يشعر - كيف يكون أهلًا لأن يدعو أُمَّةً؟ ويتزعم شعبا!

الرابع: أنَّ أكبر عار يلحق بالرجل، ويسقط حرمته وكرامته وقوع الزنا في أهله، فكيف يُنسب إلى رسولين كريمين ؟! كان أحدهما يكافح جريمة اللواط، وكان من السهل جدا أن يقول له قومه : اذهب إلى بيتك فطهره من الفاحشة، ثُمَّ تعال فطهرنا !

الخامس: لا يجوز أن يقع الزنا في بيت نبي يوحى إليه، ولا ينبهه الله عليه، هذا محال؛ لأنَّ الله تعالى غيور، كما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله عزّ وجلَّ يَغَارُ وغيرةُ الله أن يأتي المؤمنُ ما حرم الله عليه، وفي صحيح البخاري" عن ابن عباس في قصة قذف هلال بن أمية امرأته ونزول قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور: ٦] الآية، وقول سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفَح (۱) قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مِنّى، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فكيف يرضاها في بيت رسول يختاره لتلقي وحيه؟ ودعوة الناس إلى توحيده؟ وإقامة دينه؟!

(۱) بضم الميم وسكون الصَّاد وفتح الفاء أي ممال على صفحته أي جانبه. والمعنى لو وجدت رجلا مع امرأتي لضربته بحد السيف لأقتله ؟ ولم أضر به بجانبه الذي لا يقتل.

بدع التفاسير

۱۷۵

السادس: أنَّ من الشُّروط التي يجب عقلا وجودها في الرسول: الفطنة والذكاء، والذي يقع الزنا في أهله - وهو لا يشعر - يكون بالغ النهاية في الغفلة والبلاهة، ولا يجوز أن يكون الرَّسول مغفّلا ولا أبله، بل الغفلة مذمومة في عموم الصالحين، ألا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه: لست بحب، والحب لا يخدعني، تجده يتبرأ من الغفلة كما يتبرأ من الخبث. فهو ليس بخبيث، لكنه ليس من الغفلة بحيث يخدعه خبيث؛ لأنه مؤمن، والمؤمن فَطِن. كما جاء في "مسند الشهاب" للقضاعي من حديث أنس: «المؤمن كيس فَطِنٌ حَذِرٌ». السابع: أنَّ كفر المرأة لا يعيبها ولا يلحق زوجها عار بسببه؛ لأنه ينشأ عن عناد في الرأي، أو اعتدادٍ ،به أو تقليد للآباء، لكن زناها يعيبها ويعيب أهلها؛ لأن سببه اغتلام الشهوة، وانحطاط الخلق، ودناءة الهمة، وسوء التربية، ولهذا لما جاءت هند زوج أبي سفيان، لتُسلم وكانت من العنيدات في الشرك، والمعتزات به - وعرض عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فيما عرض «ولا تزنين قالت مُستنكرة: أو تزني الحُرَّة؟!

فمن ثَمَّ جاز أن تكون زوج النبي كافرةً، ولم يجز أبدًا بحال أن تكون زانية. وهذا معنى ما رواه عبد الرزاق والطبري وابن مردويه من طرق عن ابن عباس

رضي الله عنهما قال : « ما بَغَتْ امرأة نبي قطُّ) أي: ما زَنَت (۱).

قوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرَجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن

(۱) لا لعصمتها كما فهم بعض الجهلة وأنكر هذا الأمر، بل لدناءة الزنا ودناءة فاعله، وقد تكون زوجة النبي كافرة أو قاتلة لكنَّها حرة.

١٧٦

القرآن الكريم

رُّوحِنَا [التحريم: ۱۲] تثني الآية على مريم عليها السلام- بإحصان فرجها، وعفتها عن الحرام، وأنَّ الله تعالى نفخ فيه من روحه... إلخ قصتها. قال الزمخشري : ومن بدَع التفاسير : أنَّ الفرج جيب الدرع، ومعنى أحصنته منعته جبريل. وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج -وهي ا فرعون والتي لا زوج لها، وهي مريم، تسلية للأرامل، وتطييبا لأنفسهن». قلت: جبريل نفخ في جيب درعها أو قميصها بنص القرآن، ولم تمنعه من

ذلك.

عن

امرأة

وإحصان الفرج لا يراد به إلا الكناية العفة والطهارة من الزنا، فإطلاقه على جيب الدرع في غاية البعد، ويظهر أن صاحب هذا التأويل كان نصرانيا رسخت فيه عقيدة النصارى أنّ الله نفخ في مريم مباشرة من غير واسطة جبريل، فلذلك يقولون في عيسى ابن الله تعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. وحكمة تسلية الأرامل وتطييب أنفسهنَّ ليس لها قيمة في هذا الموضع،

وماذا يضير الأرامل لو لم تذكر مريم

19(1)

ومن سورة الملك

۱- قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوَكُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَبِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: ١٠] معنى الآية: أنَّ الكفَّار حين يدخلون النار، يقولون متحسرين: لو كنا نسمع إنذار الرُّسل سماع قبول، ونعقل معناه: عقل متأمل منصف، لامنا وما

دخلنا النار.

(1) على أن مريم لم تتزوج، والأرملة هي التي مات عنها زوجها.

بدع التفاسير

۱۷۷

قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير : أنَّ المراد: لو كنا على مذهب أصحاب الحديث، أو على مذهب أصحاب الرأي، كأنَّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين، وكأنَّ سائر أصحاب المذاهب والمجهتدين، قد أنزل الله وعيدهم وكأن من كان من هؤلاء، فهو من الناجين لا محالة. وعدة المبشرين من الصَّحابة عشرة، لم يضم إليهم حادي عشر (١)، وكان

من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين.

قلت: وجه البدعة في هذا التفسير : أن صاحبه حمل الآية على معنى لم يكن معروفًا وقت التنزيل، وإنَّما حدث بعد ظهور المجتهدين، وافتراقهم في فهم

الكتاب والسُّنَّة إلى هذين الفريقين.

وقد نبهنا إلى هذا في سورتي (البقرة) و(الرحمن).

ومن الأسورة القلم .

۱ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: ٣] قال الزمخشري: غير

مقطوع كقوله: عَطَاءٌ غَيْرَ مَجْذُونَ ﴾ [هود: ۱۰۸].

أو غير ممنون به عليك؛ لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضّل

ابتداء، وإنَّما تُمن الفواضل، لا الأجور على الأعمال.

(۱) يعني: في حديث واحدٍ، وهذا لا ينافي أفرادًا بُشِّروا في أحاديث متفرقة، مثل الحسن والحسين وفاطمة وخديجة وبلال وعبدالله بن سلام، وقد استوعبت أسماءهم في

"خواطر دينية".

۱۷۸

القرآن الكريم

قلت: الرَّأي الثَّاني من بدع التفاسير، مع ما فيه من إساءة الأدب في حق الله سبحانه وتعالى، وقد تكرر هذا منه في غير موضع من "كشافه"، والله تعالى لا

يجب عليه شيء، إذ هو الخالق للخلق، ومبتدئهم بنعمه، فكيف يجب لهم عليه شيء إلا ما أوجبه على نفسه تفضلا ؟ وما يعطيه من أجور لعباده الصالحين، فله فيه المنة والفضل سواء أكان ابتداء ؟ أم في مقابلة عمل؟! وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا:

ولا أنت يارسول الله؟ قال: «ولا أنا إلَّا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل». وفي "معجم الطبراني عن واثلة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يبعث الله يوم القيامة عبدا لا ذنب له، فيقول الله: أي الأمرين أحبُّ إليك؟ أنْ أجزيك بعملك ؟ أو بنعمتي عندك؟ قال: يارب إنَّك تعلم أنى لم أعصك. قال: خذوا عبدي بنعمة من نعمي. فما تبقى له حسنة إلا استغرقتها تلك النعمة. فيقول: ربِّ بنعمتك ورحمتك فيقول بنعمتي

ورحمتي .

وأما مثل قوله تعالى: ﴿وَنُودُوا أَن تِلكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: ٤٣] فالباء فيه للسبيَّة الجعليَّة، بمعنى أنَّ الله تعالى جعل العمل الصالح سببًا شرعيا لدخول الجنة، وهذا الجعل تفضّل منه، ولهذا يقول أهل

الجنة حين يدخلونها : الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ﴾ [فاطر: ٣٥]. ويعجبني في هذا المعنى قول صاحب "الحكم": «إذا أراد إظهار فضله عليك، خَلَقَ ونَسبَ إليك».

بدع التفاسير

۱۷۹

والسر في ذلك أنَّ الله تعالى ابتدأ خلقه بنعمه تفضلا، أولاها: نعمة الإيجاد، ثُمَّ نعمة الإمداد بالحواس وبالصحة والتوفيق إلى الطاعة وغيرها مما لا يحصى، كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: ٣٤] فلو

أنَّ الإنسان عَبَدَ الله طول حياته ما أدّى شُكر نعمةٍ من تلك النعم.

كما جاء في "مسند البزار" عن أنس رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «يخرجُ لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله عليه. فيقول الله عزّ وجلَّ لأصغر نعمة - أحسبه قال: في ديوان النّعم - خذي ثمنك من عمله الصالح. فتستوعب عمله الصَّالح، ثُمَّ تتنحى، وتقول: وعزتك ما استوفيت. وتبقى الذنوب والنعم، وقد ذهب العمل الصالح، فإذا أراد الله أن يرحم عبدا قال: يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك، ووهبت لك نعمي .

-

فكيف استوجب العبد على الله -وهو مقصر في شكر نعمه أن يدخله

الجنة بعمله؟! ولما يُعاب به الزمخشري ، محاولته تطبيق آيات القرآن على مذهبه الاعتزال، ويركب في تحقيق محاولته كل صعب وذلول، ولولا ذلك، لم يكن لتفسيره نظير؛ لأنَّه أظهر وجوه إعجاز القرآن، وبيَّنها غاية البيان، حتى قيل - فيه وفي الشكاكي صاحب مفتاح العلوم : لولا الأعرجان لذهبت بلاغة القرآن».

۲- قوله تعالى: سَنَيمُهُ عَلَى الخرطوم ﴾ [القلم: ١٦] هذه العبارة كناية عن غاية الإذلال؛ لأنَّ الوسم على الوجه شين، فكيف به على أكرم موضع منه؟

۱۸۰

القرآن الكريم

والضمير يعود على الوليد بن المغيرة، وقد خطم بالسيف يوم بدر، فبقيت سمة على خرطومه، وهي من الإهانة والإذلال :وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة، يبين بها عن سائر الكفَّار، كما عادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عداوة بان بها عنهم. ومن بدع التفاسير : أنَّ الخرطوم الخمر ، وأنَّ المعنى: سنحده على الخمر، أي: على شربها. وهذا المعنى - وإن نقل عن النضر بن شميل الإمام اللغوي ه يصح عنه - بعيد عن سياق الآية، لا يتلاقى معها بأي وجه.

الثقة وما أظنُّه يصح -

ومن سورة المزمل

۱- قوله تعالى: يَأَيُّهَا الْمُزَمَلُ [المزمل: 1] نادى الله تعالى نبيه بهذا الوصف، تسجيلاً لحالته حين رجع إلى خديجة رضي الله عنها، وفؤاده يرجف

وحي

يتلقاه

بعد إذ نزل عليه قوله: أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق : ١] - وهو أ أول . وقال: «زملوني» والحكمة في هذا النداء إيناسه، وإزالة ما علق بقلبه من هيبة

الوحي، حتى قال الخديجة: «لقد خشيت على نفسي" كما ثبت في "الصحيحين". وأعقبه بالأمر بقيام الليل استعدادًا لما يتتابع عليه من نزول الوحي: إِنَّا

سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: ٥].

ومن بدع التفاسير قول الزمخشري: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم نائما بالليل، متزملًا في قطيفته، فنبه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا

بدع التفاسير

۱۸۱

يهمه أمر، ولا يعنيه شأن، وفي أمثالهم

أَوْرَدَها سعد وسعد مُشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل فدمه بالاشتمال بكسائه، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس، وأمر بأن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمُّل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في سبيل الله. قلت: قلده البيضاوي من غير تبضُر، وهو مخالف لسبب النزول، وفيه سوء أدب في حق الجناب النبوي الكريم، وإذا كان الله لم يناده باسمه المجرد - كما نادى غيره من الأنبياء - تكريما له، فكيف يعقل أن يناديه بوصف يذمه به ؟! سامح الله الزمخشري على هذه الجرأة التي لم يقصدها فيها أحسب.

ومن سورة المدثر

۱- قوله تعالى: إِنَّهَا لإحْدَى الكُبَر نَذِي البشري [المدثر: ٣٥ - ٣٦] نذيرا حال من إحدى، والضمير يعود على سقر. والمعنى: أنَّ الله تعالى أقسم بالقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر ، على أن سقر إحدى الدواهي الكبر، حال

كونها نذيرا للبشر، وذكرُ نَذِيرًا : إما لأنه بمعنى إنذار؛ وإِمَّا لأنَّ سقر بمعنى

العذاب؛ وإما لأنَّ نَذِيرًا يستوي فيه المذكر والمؤنث.

وقيل في نذيرا : إنه تمييز لإحدى الكُبر. وقيل: مما دلت عليه الجملة أي: كبرت سقر منذرة.

ومن بدع التفاسير كما قال الزمخشري: أنَّ نذيرا حال من قوله في أول السورة فانذِرُ ﴾ [المدثر: ٢] وهو إعراب في غاية البعد، لا يليق إلا

۱۸۲

القرآن الكريم

بالمختصرات الشديدة الاختصار مثل "مختصر خليل" في فقه المالكية، و"الروض" لابن المقري في فقه الشافعية، و"لب الأصول اختصار جمع الجوامع" لزكريا الأنصاري، ففي هذه الكتب وأمثالها تجد بين المبتدأ وخبره صفحتين كاملتين، وبين الحال وصاحبها ثلاث صحائف، ونحو ذلك من التعقيدات التي صعبت العلم، وصيَّرته أشبه بالرموز والألغاز.

ومن سورة الإنسان }

۱ - قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلكَفِرِين سَلَسِلَا وَأَغْلَالًا ﴾ [الإنسان: ٤] قال الزمخشري : قُرى سلسلاً غير منون، وسلاسلا» بالتنوين. وفيه وجهان: أحدهما: أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق، ويجري الوصل

مجرى الوقف.

.

والثاني: أن يكون صاحب القراءة به من ضَرِي برواية الشعر، ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.

قلت: هذا من بدع التفاسير. فإن القراءات السبعة، بل العشرة ليست مبنية على اجتهاد القراء واختيارهم، ولكنها منقولة نقل تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسبما تقرر في علم الأصول، وبسطه شيخ المقرئين الحافظ ابن الجزري في كتاب "النشر (۱).

(۱) وبسطه أيضًا العلامة المقرئ المحقق محمد بن عبد السلام الفاسي في كتاب "المحاذي"

وهو كتاب في القراءات نفيس مخطوط، رأيته في مكتبتنا.

بدع التفاسير

۱۸۳

وتنوين «سلاسل) قرأ به نافع (۱) إمام قراء أهل المدينة، وهو أبعد الناس عن رواية الشعر.

ووجهه أنَّه لمناسبة قوله: وَأَغْلَلاً ورعاية المناسبة، لهجة عربية فصيحة، ومنها قوله عليه الصَّلاة والسَّلام يخاطب النسوة اللاتي تبعن الجنازة: «ارجعن مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ أصل «مأزورات»: موزورات؛ لأنه من الوزر. لكن قيل بالهمزة لرعاية مأجورات وكثيرًا ما تجد في كتب الأدب واللغة العربية توجيه صرف كلمةٍ غير منصرفة بأنَّه لرعاية المناسبة. ۲- قوله تعالى: عَيْنَافِهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ﴾ [الإنسان: ۱۸] معنى سَلْسَبِيلا : سلسة الانحدار في الخلق، سهلة المساغ. قال الزجاج: السلسبيل في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة. قال الزمخشري: «وقد عزوا إلى علي رضي الله عنه: أن معناه: سل سبيلا إليها، وهذا غير مستقيم على ظاهره، إلا أن يراد أنَّ جملة قول القائل: سل سبيلا، جعلت علمًا للعين. كما قيل: تأبط شرا، وذرَّى حبّا. وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح. وهو مع صحته في العربية تكلف وابتداع ، وعزوه إلى مثل علي عليه السّلام أبدع، وفي شعر بعض المحدثين: سل سَبِيلًا فيه إلى راحــة الـــ نفس براح كأَنَّها سَلْسَبِيل قلت: في البيت جناس تام، وهو من المحسنات اللفظية في علم البديع، وما

نقل عن علي عليه السَّلام لم يصح عنه ، ولا شك أنه من بدع التفاسير.

(۱) هو نافع بن أبي نعيم، توفي سنة ١٦٩ وهو غير نافع مولى ابن عمر وشيخ مالك.

١٨٤

القرآن الكريم

ومن سورة النبأ

1 - قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَيْكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقَالَ صَوابا ) [النبأ: ۳۸] اختلف في الرُّوح. فقيل: جبريل عليه السلام، وقيل: ملك عظيم من الملائكة، وقيل: صنفٌ . من الملائكة يقال لهم: الرُّوح والآية تُصوّر هول يوم القيامة، وما يعتري الخلق من خشوع وخضوع لهيبة الله تعالى فيه. ومن بدع التفاسير : ما جاء عن وهب بن منبه، قال : أشرف ذو القرنين(۱) على جبل قاف، فرأى تحته جبالًا صغارًا. فقال له: ما أنت قال: أنا قاف. قال:

(۱) هذا الكلام مبني على أنَّ ذا القرنين مَلَك الدُّنيا وطاف أرجاءها من مشرقها إلى مغربها. وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: ملك الدُّنيا أربعة: مؤمنان: ذو القرنين وسليمان، وكافران: نمروذ ويُخْتنَصر. وهذا غير صحيح، فلم يملك الدنيا كلها أحد، لا هؤلاء ولا غيرهم، ولقد كان ملك العباسيين زمن الرشيد والمأمون أكبر من ملك ذي القرنين الذي كان ملكا على فارس واتَّجه في سيره إلى المغرب حتى وصل إلى أزمير، وهناك في مكان عند الشاطئ منعزل وجد الشَّمس تغرب في عين حمئة. والقوم الذين وجدهم هناك هم اليونان وكانوا أصحاب حضارة وعلوم ثم واصل سيره إلى جهة المشرق حتى بلغ الهند ووجد بعض أصقاعها سهولًا منبسطة ليس فيها ما يستر أهلها من الشمس لا جبال ولا أشجار ، ثمَّ واصل السير إلى جهة شمال فارس، حتى بلغ أرمينية فاشتكى إليه أهلها إفساد يأجوج ومأجوج وإغارتهم عليهم، فبنى ردما في ممر بين جبلين، منعهم من الإغارة عليهم طوله نحو مائة متر، وعلوه نحو ثلاثين مترا، وهو موجود في هذا المكان إلى الآن. ويأجوج من الروس

ومأجوج من المغول. وسمي ذو القرنين بهذا الاسم؛ لأنه كان في تاجه قرنان.

بدع التفاسير

١٨٥

فما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي. فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض. فقال له: يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله. قال: إنَّ شأن ربنا لعظيم، وإنَّ ورائي أرضًا مسيرة خمسمائة عام، في خمسمائة من جبال ثلج، يحطم بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حرّ جهنّم. قال: زدني. قال: إن جبريل -عليه السلام- واقف بين يدي الله تعالى ترتعد فرائصه، يخلق الله من كل رعدة ألف ملك فهؤلاء الملائكة واقفون بين يدي الله تعالى، منگسون رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا لا إله إلا الله. وهو قوله تعالى:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَيْكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا . قلت: أنعم بهذا التفسير الذي تلقاه ذو القرنين من الإمام جبل قاف! وقد قاله قبل نزول القرآن! ثُمَّ أنعم بالعقول التي تقبل هذا التخريف، وتكتبه في مؤلفاتها ! ولو قرأت رسالة "الصلصلة في "الزلزلة لعرفت كيف يقع بعض كبار العلماء في الخرافات، معتقدين أنها نهاية التحقيق؟! والكمال الله تعالى.

ومن سورة عبس

:

۱ - قوله تعالى: أَنَا صَبَيْنَا الْمَاءَ صَبَا ﴾ [عبس: ٢٥] أي: أنزلنا الغيث ثم

شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ﴾ [عبس: ٢٦] أي: شققناها بإخراج النبات منها. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من شقّها بالكراب على البقر، وأسند الشق إلى نفسه، إسناد الفعل إلى السبب.

قلت: هذا على عقيدته الاعتزالية في أنَّ العبد يخلق أفعاله. وقد علق عليه

١٨٦

القرآن الكريم

ابن المنير بقوله: «ما رأيت كاليوم قطّ عبدا ينازع ربَّه؛ الله تعالى يقول: تم

شَقَقْنا فيضيف فعله إلى ذاته حقيقةً، كما أضاف بقية أفعاله من عند قوله:

.

من نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ ﴾ [عبس: ١٩] وهلم جرا. والزمخشري يجعل الإضافة مجازية، من باب إسناد الفعل إلى سببه. وإذا جعل «شق الأرض مضافًا إلى الحراث حقيقة وإلى الله مجازا، فما يمنعه أن يجعل الحراث هو الذي صبّ الماء، وأنبت الحب والعنب والقضب حقيقة؟ وهل هما إلا واحد؟!

قلت: أظنُّ أنَّ الزمخشري لو أدرك هذا الزمان الذي توصلوا فيه إلى إنزال المطر الصناعي لسقي الأرض وزرعها لأسند صب الماء إلى الحراث حقيقة! وبعد: فحمل آيات القرآن على عقيدة معيَّنة، أو مذهب معين، هو - ولا شك - من بدع التفاسير.

ومن سورة الغاشية

۱- قوله تعالى: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [الغاشية: ١٧] المراد

بالإبل: الحيوان المعروف.

ومن بدع التفاسير : أنَّ الإبل: هي السَّحاب.

قال الزمخشري: «العلَّه لم يرد أنَّ الإبل من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين، وغير ذلك. وإنَّما رأى السحاب مُشَبَّها بالإبل كثيرًا في

أشعارهم، فجوز أن يراد به السَّحاب على طريق التشبيه والمجاز». قلت: هذا توجيه بعيد.

بدع التفاسير

۱۸۷

ومن سورة الفجر

۱ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَكَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِمَادٍ إرم با عطف بيان لعاد. إعلاما بأنهم عاد الأولى، وإرم: جدهم الأدنى، ثُمَّ صار علما للقبيلة ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر: ٦- ٧] صفة للقبيلة التي هي : إرم . والمعنى: أنهم كانوا طوال الأجسام، تشبيها لهم بالأعمدة، وقد شبهوا في سورة القمر بـ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ [القمر: ٢٠]، وفي (سورة الحاقة بـ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة [الحاقة: 7] الَّتِي لَمْ يُخلَق مِثْلُهَا فِي الْبِلَد ﴾ [الفجر: ۸] في البطش والقوة.

فقد حكى الله عنهم أنهم استكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا: مَنْ

أَشَدُّ مِنَّا فُوَةٌ ﴾ [فصلت: ١٥].

ومن بدع التفاسير : أنَّ شداد بن عاد كان ملكا قهر ملوك الدنيا، فدانوا له، وسمع بذكر الجنَّة، فقال: أبني مثلها. فبنى إرم في بعض صحاري عدن، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضَّة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطّردة. بناها في ثلاثمائة سنة، ولما تم بناؤها، ذهب إليها بأهل مملكته. فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السَّماء، فهلكوا. وهي المراد من الآية. وأن عبدالله بن قلابة، خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم. وبلغ خبره معاوية، فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب، فسأله؟ فقال: هي إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . وسيدخلها رجلٌ من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على

۱۸۸

القرآن الكريم

حاجبه خال، وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثُمَّ التفت، فرأى ابن قلابة، فقال: هذا والله ذلك الرجل.

قلت: أخرج الثعلبي من طريق عثمان الدارمي، عن عبدالله بن صالح كاتب الليث، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن وهب بن منبه، عن عبدالله بن قلابة، أنه خرج في طلب إبل له شردت... فذكر القصة السابقة. قال الحافظ: «آثار الوضع عليه لائحة». قلت: لا شكّ أنَّ هذا كذب مفضوح، يجب تنزيه كتب التفسير عنه؛ لأنه يشوه جماله. والعجيب في هذا الكذب أن يعرف كعب صفة ابن قلابة بتلك

الدقة المدهشة! كأنه حضر ولادته ولعله قرأ صفته في بعض الكتب التي تدل

على الكنوز، وتصف من يكون فتحها على يده!

ومن سورة الضحى

۱ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَ فَتَاوَى [الضحى: ٦] المعنى: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم نشأ يتيما، مات أبوه وهو جنين، فآواه الله وربَّاه. قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنَّه من قولهم: درَّةٌ يتيمة، وأنَّ المعنى: ألم يجدك واحدا في قريش، عديم النظير؟ فآواك !».

قلت: يجوز أن يكون من باب الإشارة. والمعنى: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان عديم النظير في قريش يبغض الأصنام وهم يعبدونها، ويجتنب قبائح الجاهلية، وهم منغمسون فيها، وينشد معالى الأمور، وهم يحبون سفاسفها، فهو دُرَّةٌ يتيمةٌ وسط معادن غير كريمة، وأشق شيء على

بدع التفاسير

۱۸۹

الشخص وجوده بين ناس غير موافقين. فآواه الله إليه وآنسه بوحيه.

:

ومثل هذا من الإشارة يقال في قوله : وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى [الضحى: ٧] أي: وجدك محباً لتوحيده، مفكرًا فيما يعرفك به، ويجمعك عليه، فهداك به إليه، وعرّفك نفسه، فجمعك عليه.

وَوَجَدَكَ عَابِلَا فَأَغْفَ [الضحى ] أي: وجدك فقيرا إلى مزيد فضله، متشوقا إلى وصله. فأغناك بما أولاك، ووصلك إلى حضرته وأدناك.

ومن سورة الم نشرح

۱ - قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَب [الشرح : ٧] أي: إذا فرغت من صلاتك

فاجتهد في الدعاء.

أو: فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة.

أو : فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.

قال الزمخشري : ومن البدع ما روى عن بعض الرافضة: أنه قرأ «فانصب»، بكسر الصاد، أي: فانصب عليا للإمامة. ولو صح هذا للرافضي لصح للناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمرًا بالنصب الذي هو بغض علي وعداوته».

ومن سورة قريش

۱ - قوله تعالى: وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفِ [قريش: ٤] معنى الآية: أنَّ الله تعالى آمن قريشا من خوف أصحاب الفيل ومن خوف التخطف في بلدهم. قال الزمخشري : ومن بِدَع التفاسير . وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفِي : من أن تكون

۱۹۰

الخلافة في غيرهم.

القرآن الكريم

قلت: لا شك أنَّ هذا تفسير مبتدع؛ لأنَّ اللفظ لا يدل عليه، والسياق لا

يقتضيه.

ومن غرائب القراءات: ما حكاه أيضًا بقوله: وقرئ: ﴿وَءَامَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ

بإخفاء النون(۱).

ومن سورة الفلق

۱- قوله تعالى: مِن شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: ٢] قرأه بعض الغالين في الاعتزال، من شر» بتنوين شَر ، وجعل ما نافية. والمعنى: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلقه، بل خلقه فاعله. بناءً على قولهم: أنَّ العبد يخلق أفعاله. وهذا تحريفٌ آثم، يهوي بصاحبه في النَّار، نسأل الله السلامة والعافية.

(۱) وجه الغرابة أنَّ الخاء من حروف الحلق الستة، وحكم النون معها هو الإظهار.

بدع التفاسير

۱۹۱

خاتمة

تشتمل على مسائل ثلاثة

المسألة الأولى

علمت مما عرضناه من نماذج بِدَع التفاسير أنّها لا تخلو من أن تكون مخالفة للفظ الآية، أو منافية لإعرابها، أو منافرة لسياق الكلام، أو غير متلاقية مع سبب النزول، أو مصادمة للدليل، ومن ثَمَّ كانت بدعيتها ووجب إبعادها عن كتب التفسير، وتنقيته منها، وهي نوع من التفسير فتحنا أبوابه وبينا أسبابه، وكشفنا عما غمض منه حجابه، فمن أراد أن يكتب فيه فلينهج ما نهجناه، وليقتف ما مهدناه، وليين على ما أسسناه، وليفرع على ما أصلناه، وإنَّنا نحمد الله على أن هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

والمرجو ممن اطلع عليه من أولي العلم أن يغضي عما عسى أن يكون فيه من خطأ أو سهو، فإنَّ الخطأ والسَّهو طبيعة في الإنسان، لا سيما وقد كتبناه في ظروف توالت علينا بالهموم والأكدار ، وقضت بتشريد العقل وتشتيت الفكر، مع عدم الصديق الموافي، والزَّمان المواتي، مما يتعذر مع وجود بعضه إنشاء

خطاب عادي، فضلا عن تأليف كتاب مستقل في موضوع مبتكر، لم يوجد منه إلَّا أمثلة، ذكرت في تفسير "الكشاف" على سبيل الاستطراف. والله المسئول أن يبدل همومنا سرورًا، وأكدارنا صفوا وحُبُورًا، وأن يديم

علينا نعمة العقل، وأن يجمع فكرنا على التأمل في آياته، إنَّه قريب مجيب.

۱۹۲

القرآن الكريم

المسألة الثانية

من أنواع التفسير التفسير الإشاري الذي يسلكه الصوفية في تفاسيرهم، وذلك أنهم حين يتكلمون على آية من القرآن، يقرون تفسيرها اللفظي كما ذكره المفسرون، ويأخذون منها بعد ذلك معنى إشاريًا يتصل بما يفيضون فيه من مقامات وأحوال، ومعارف وأسرار. وقد ذكرنا مثالاً لذلك في (سورة الضُّحى)، وهو بالنسبة للتفسير اللفظي كنسبة المفهوم إلى المنطوق، فكما أنَّ المنطوق هو ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق،

:

مثل وجوب الصَّلاة المدلول عليه بلفظ: أقِيمُوا الصَّلوةَ ﴾ [الأنعام: ٧٢] كذلك التفسير اللفظي للآية، هو ما أفاده نظمها، واقتضاه سياقها، وكما أنَّ المفهوم هو ما دلّ عليه اللفظ لا في محل النطق، مثل تحريم الضّرب للوالدين المدلول عليه بقوله: فَلَا تَقُل لَّمَا أَفَ [الإسراء: ۲۳] لكن لا في محل النطق؛ لأنه غير منطوق به.

كذلك التفسير الإشاري هو ما استفيد من الآية لا بطريق لفظها وعبارتها. ودلالة الإشارة معتبرة عند علماء الأصول، فإنَّهم لما تكلموا على ألفاظ

الكتاب والسنة، وقسموا دلالتها إلى نوعين: منطوق، ومفهوم. قسموا دلالة المنطوق إلى دلالة اقتضاء ودلالة إشارة، ومثلوا للأخيرة بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ القِيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَا بِكُمْ ﴾ [البقرة: ۱۸۷] وقالوا: دلت الآية بطريق المنطوق على إحلال الجماع طول ليلة الصيام، ويؤخذ منها بطريق الإشارة صحة صوم من أصبح جنبا (۱) وأخذ العلماء من قوله

(۱) لأنَّ الليلة تصدق بكل جزء من أجزائها، فمن جامع في آخر جزء منها بحيث يكون

بدع التفاسير

۱۹۳

تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَ أَسُبْحَنَهُ بَلْ عِبَادُ مُكْرَمُونَ ﴾ [الأنبياء: ٢٦] - بطريق الإشارة أن الإنسان لو وجد ابنه رقيقا، فاشتراه عتق عليه بمجرد الشّراء؛ لأنَّ الولدية والعبودية لا تجتمعان فكما استخرج علماء الأصول من ألفاظ القرآن والسُّنَّة بطريق الإشارة أحكاما تشريعية، كذلك

والفقه

استخرج الصوفية بطريقها علوما ربانية. وممن استعمل التفسير الإشاري من العلماء غير الصُّوفيَّة: النيسابوري في "تفسيره" المطبوع بهامش تفسير الطبري، وإسماعيل حقي في تفسيره "روح البيان"، والآلوسي في تفسيره روح المعاني ، وهذان التفسيران مطبوعان أيضًا، لكن الصوفية في هذا الباب ،أمكن، وعلى الإشارات الدقيقة أغوص ولهم تفاسير تختلف باختلاف عباراتهم بين عويصة مستغلقة، مثل: "عرائس البيان" للورتجبي، وإعجاز البيان في تفسير فاتحة القرآن" للقونوي ربيب ابن العربي الحاتمي وتلميذه، وبين واضحة محكمة، كـ "تفسير النخجواني"، ولم أرَ فيها أوضح عبارةً وأقرب فهما وأحسن سياقا وأسلس عذوبة من كتاب "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" الجدنا من قبل الأم، الإمام العلامة الولي الكبير أبي العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني رضي الله عنه، فإنَّه يعتبر بحق لسان الصوفية والمعبّر عنهم في هذا الفن، يذكر الآية، ويذكر ما فيها من وجوه الإعراب، ويتبع ذلك بذكر المعنى ومصادره "تفسير البيضاوي"

ملاصقا لآذان الفجر، لا يستطيع أن يغتسل إلا بعد الفجر فيمضي عليه جزء من

النهار وهو جُنب ، فمن هنا كانت الآية تشير إلى صحة صومه.

١٩٤

القرآن الكريم

و "تفسير ابن جزي" و "حاشية العارف أبي زيد عبدالرحمن الفاسي على تفسير الجلالين" وما يفتح الله به عليه، ثمَّ يذكر المعنى الإشاري بعبارة سلسة، وبيان عذب حتى يشعر القارئ أنَّ الآية لم تنزل إلا في هذا المعنى، ولم يقصد منها

سواه.

وكتب على "المقدمة الآجرومية شرحًا بهذه الطريقة أيضًا، يذكر عبارة المؤلف، ويشرحها بمقتضى علم النحو، ويتبعها بالمعنى الإشاري، فيندهش القارئ لحسن تنزيله عبارة المتن على المعاني الصوفية، ويخيل إليه أنَّ ابن آجروم، ألف مقدَّمته في علم التصوف.

وللعارف أبي الحسن علي بن ميمون الغماري - شيخ ابن عراق - شرح على "الآجرومية" بالتصوف أيضًا، اطلعت عليه، لكنَّه عويص مستغلق، يتعب

القارئ في فهمه.

وقد كتب بعض المعاصرين من المتصوفة شرحًا على "منظومة عبدالواحد بن عاشر" في فقه المالكية، بطريق التصوف، مقلدا خطة ابن عجيبة، اطلعت عليه، وهو مطبوع ، لكن بينهما بون شاسع، فليست النائحة المأجورة كالثكلى، ولا الحاكي مثل الذائق. والمقصود أن الصوفية لهم في فهم القرآن والسُّنَّة تلميحات وإشارات

تدل على إلهامات إلهية، وتنزلات قدسية.

وقد كنت في بداية طلبي للعلم أقرأ شرح العارف أبي محمد بن أبي جمرة على "مختصره" للبخاري، على سيدنا الأستاذ الإمام الوالد رضي الله عنه، فكان يلفت نظري إلى ما فيه من دقائق الاستنباطات التي لم يتفطن لها شراح

بدع التفاسير

۱۹۵

البخاري قبله، وهي مما ألهمه الله إيَّاها وفتح بها عليه، ويقول لي: إنَّ الحافظ ابن حجرٍ ينقل عنه كثيرًا منها في فتح الباري" ويحليه بلقب «العارف» مع أنَّه ليس من أنصار الصوفية.

وما ذاك إلا لأنه يقدر علمه وفهمه ويعترف بما فتح الله به عليه وذلك

فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

المسألة الثالثة

أردت أن أتكلم عن التفاسير المشهورة المتداولة التي اطلعت عليها، وأبين خصائص كلّ تفسير منها حسبها يظهر لي، غير متقيد برأي، ولا متأثر بعقيدة

معيَّنة، متحرّيًا للصواب فيما أقرره وأبديه، والله الموفق.

۱ - "تفسير الطبري " : تفسير جليل القدر، يعتبر من التفاسير التي تعنى بالتفسير المأثور مثل تفسير عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ ابن حَيَّان (۱) وابن مردويه ، ونحوهم ممن يروون بأسانيدهم ما ورد في تفسير

(۱) بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية واسمه عبدالله بن جعفر بن حيان الأصبهاني، شيخ أبي نعيم من مؤلفاته كتاب "العظمة" في مكتبتنا مختصره في مجلد، وكتاب "النوادر" و "النتف"، وكتاب "التوبيخ " علقت منهما فوائد، وهما في مكتبتنا، وكتاب "أخلاق النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم" طبع بتعليقاتي عليه وهو غير أبي حاتم محمد بن حاتم بن حِبَّان بكسر الحاء المهملة وتشديد التحتية الموحدة، البستي، له كتاب " الضعفاء"، اطلعت عليه وهو في مجلد متوسط، وكتاب "الثقات"، اطلعت على نصف ترتيبه في مجلد ضخم للحافظ الهيثمي، رتبه على حروف المعجم. وكتاب "الصحيح" اطلعت على ترتيبه لابن بلبان وانتخبت منه أحاديث في نزول عيسى

١٩٦

القرآن الكريم

الآية عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم -وهو قليل- وعن الصحابة الذين تكلموا في التفسير، مثل علي وابن عباس وابن مسعودٍ وأُبي بن كعب وعبدالله بن عمرو، وعن التّابعين كذلك، مثل سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وطاوس والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وأبي مالك الطائي والباقر وعطاء وعلقمة وعبيد بن عمير والشَّعبي، وزيد بن أسلم، والسُّدِّي الكبير. غير أن تفسير الطَّبَري يمتاز بثلاثة أشياء:

۱ - ذكر اللغات، ووجوه الإعراب والاستشهاد بأشعار العرب.

- الترجيح بين الأقوال المختلفة.

- إبداء رأيه في تفسير الآية بصراحة واستقلال، لا يتقيد إلا بالدليل من الكتاب أو السُّنَّة أو لغة العرب.

وإن كان لي عليه انتقاد، فهو على ترجيحه بين القراءات وتضعيف بعضها، وهذا منه يقتضي أنه يرى القراءات موكولة إلى رأي القراء، واجتهادهم فيما يختارونه من لغات العرب ولهجاتهم. والصَّواب: أنَّ القراءات موقوفة على النقل، وحيث تواترت قراءة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقراءة نافع وحمزة وابن كثير وغيرهم من القراء المشهورين، لم يجز تضعيفها؛ لأنَّ القراءة

وغيره. طبعت منه قطعة، وكتاب "روضة العقلاء" ، وهو مطبوع، وغير ذلك، وفي كتب الحديث المطبوعة تصحيف تواطأ عليه المصححون، وهو كتابة أبي الشيخ ابن حَيَّان بالباء الموحدة، حتى كتاب "الترغيب والترهيب" الذي قام الشيخ مصطفي عمارة بضبطه وتصحيحه فيه هذا التصحيف من أول الكتاب إلى آخره وفيه تصحيفات أخرى كثيرة، بل فيه لحن في تشكيل الأحاديث.

بدع التفاسير

۱۹۷

سُنَّةٌ متَّبعةٌ. نعم يجوز أن يكون فيها فصيح وأفصح، وبليغ وأبلغ. أمَّا اعتماده على ما ينقله عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من مسلمة أهل الكتاب، فذاك انتقاد يتوجه على أغلب كتب التفسير، وإني لشديد العجب من علمائنا المتقدمين الذين اعتمدوا على الإسرائيليات في التفسير وغيره، ناسين أنَّ الله تعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم حرَّفوا كتبهم وبدلوا فيها !! وأنَّ رسولنا صلى الله عليه وآله وسلَّم حذرنا من تصديقهم!!

وأعجب من هذا أنَّ تلك الإسرائيليات تغلغلت في كتب العلماء، وتسلطت على عقولهم حتى صارت عندهم عقيدة!! على أساسها يفهمون القرآن، وبتفاصيلها يفسّرون ما غمض من آياته فابتلاء أيوب عليه السلام لم يفسر إلا بما جاء عن أهل الكتاب، وكذلك فتنة داود وسليمان، وهم يوسف عليهم السلام. وفي القرآن دلالة قاطعة على أنَّ الذبيح إسماعيل عليه السلام، وكذلك مناسك الحج وشعائره، تدل على ذلك أيضًا، و ومع هذا فإن كثيرًا من العلماء منهم الطبري، ذهبوا إلى أنَّ الذبيح إسحاق عليه السَّلام، لا لدليل من الكتاب ، أو السُّنَّة، ولكن اعتمادًا على كذب أهل الكتاب وتحريفهم. والحافظ السيوطي كتب رسالة في تعيين الذَّبيح، حكى فيها القولين، وذكر أحاديث تؤيد الفريقين أحاديث واهية لا تساوي سماعها- ثم اختار التوقف عن تعيين

وهي

الذبيح؛ لتعارض الأدلة!!(۱)

(۱) يعجبني في هذا المقام ما جاء عن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن

۱۹۸

القرآن الكريم

فانظر إلى أي حد سيطرت الإسرائيليات على عقول علمائنا وتفكيرهم؟! ومثل هذا ما حكوه عن هاروت وماروت، وشداد بن عاد، وبنائه إرم ذات العماد، وطول عوج بن عنق، وغير ذلك مما شوّه كتب علمائنا، وكان ثغرة نفذ منها الطاعنون الحاقدون.

٢- "تفسير البغوي " : يعتبر من تفاسير السلف؛ لأنَّ مؤلّفه من أهل الحديث، كتب تفسيره على طريقتهم، يذكر معنى الآية، ويؤيده بحديث مرفوع يسنده، أو بقول صحابي أو تابعي من علماء التفسير، وقد يحكي الأقوال، ويرجح بعضها لدليل يبديه، ويميل في الصفات المتشابهة إلى تفويض علمها الله تعالى، مع إثباتها كما جاءت في القرآن.

- "تفسير النيسابوري : تفسير جليل، يشتمل على فوائد وتحقيقات، يحكي القراءات المشهورة، ويوجه ما يحتاج منها إلى توجيه، ويميل إلى تأويل المتشابه على طريقة المتأخرين، ثُمَّ يذكر التفسير الإشاري في ختام السُّورة أو

الجزء. وبالجملة هو تفسير مفيد، لا يُستغنى عنه.

- "تفسير الزمخشري": سماه "الكشاف"، وهو . كشاف حقيقة كشف النقاب عن وجوه إعجاز القرآن، وأبدع في بيان نكتها ما شاء الله له أن يُبدع خصوصا النصف الأول منه ، فقد اعتراه في النصف الثاني ملال، وفسر ما في القرآن من الآيات المتشابهة في الصفات وغيرها بوجوه من المجاز أو الاستعارة

الذبيح ؟ فقال : يا أصمعي. أين عزب عنك عقلك ؟! ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنَّما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة.

بدع التفاسير

۱۹۹

التمثيلية على طريقة علماء البيان ومكنه رسوخه في هذا العلم من تطبيق ذلك في يسر وسهولة، من غير تعسُّف ولا استكراء، مع ما يبديه أحيانًا من تناسب بين جمل من الآيات حتى تبدو للقارئ واضحة الترابط، آخذا بعضها بحجزة بعض، ويمكن أن نقول غير مسرفين كل من كتب في التفسير بعده من الناحية البلاغية - فهو عالةٌ عليه، لكن تنتقد عليه أشياء:

۱ - محاولته تطبيق آيات القرآن على مذهبه الاعتزالي، كما سبق التنبيه عليه. ٢- ولعه بحكاية القراءات الشاذة، وتكلُّف توجيهها بغرائب اللغة ونوادر الإعراب، وقد يمدح بعضها بأنّ القارئ بها من أفصح النَّاس، وأمضغهم للشيح والقيصوم، يكني بذلك عن خلوص عربيته، وسلامتها من

أي لكنة. ٣- تهجمه على بعض القراءات المتواترة (۱) ، أو توجيهه لبعضها بما يفيد أنَّ القراءة مسألة اجتهادية، فمن الأوّل ما تفوَّه به عن قراءة ابن عامر عند قوله تعالى : وكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾ [الأنعام: ۱۳۷] . ومن الثاني ما ذكره في سَلَسِلَا وَأَغْلَلًا ﴾ [الإنسان: ٤] وللعلامة الطيبي عليه حاشية كبيرة ممتعة، تقع في نحو ستة مجلدات،

(۱) ولما تكلم الفقيه ابن حجر الهيتمي في "الزَّواجر" على قوله تعالى: ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمُ كبير [البقرة: ۲۱۹] ووجه قراءتي كبير» و «كثير»، قال: «ومما يجب على المتكلم في توجيه القراءات أن يوجه كلا من غير تعرُّض لتضعيف قراءة متواترة، وما وقع

من ذلك للزمخشري وغيره في مواضع، فهو من زللهم وخطئهم . اهـ

۲۰

القرآن الكريم

كثيرة الفوائد والتحقيقات فيها مناقشات قيمة ، وتمحيصات لآراء الزمخشري. وكان الطَّيبي مع تقدمه في علوم البلاغة والعربية والكلام والمنطق ذا خبرة جيدة بالحديث، فعزا معظم أحاديث الكشاف عزوا يدلُّ على اطلاعه ومشاركته، وهذه الحاشية جديرة بأن تطبع، وقد كان سيدنا الأستاذ الإمام

الوالد - رضي الله عنه - معجباً بها وهو الذي لفت نظري إليها.

- "تفسير الرازي": تفسير قيم يعنى بتحرير المسائل الكلامية، وهذا فتُه الذي برز فيه، وقد قيل عنه فيه كل شيءٍ إِلَّا التفسير، وفي هذا القول غلو ومبالغة، وإلا فهو من جهة الكلام على الآيات، وما فيها من اللغات والفوائد، لا يقل عن أي تفسير من التفاسير المهمة، إن لم يفق عليه، وإن كان يؤخذ عليه شيء، فهو أنَّه يقصر في بعض الآيات أو السُّور تقصيرًا لا يليق بمثله، كما يؤخذ عليه أيضًا أنه قد يقرر في الآية معنى صح الحديث فيها بخلافه، وعذره في هذا أنه لا يعرف علم الحديث (۱).

ه - "تفسير القرطبي : تفسير عظيمٌ ، عُني بيان الأحكام المستخرجة من الآيات، مع ذكر الأحاديث الواردة في الموضوع، وبيان اللغات والإعراب الذي يتوقف عليه فهم الآية وتحليل نظمها، ولا عيب فيه إلا انسياقه مع

الإسرائيليات في بعض الأحيان.

(١) كما أنه يتهجم على بعض علماء الحديث أحيانا. فقد تهجم على ابن خزيمة، وقال عن كتاب "التوحيد" له كلمة شديدة، وذلك عند تفسير قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ

شي في (سورة الشورى).

بدع التفاسير

۲۰۱

٦ - "تفسير الخازن": مختصر من "تفسير البغوي"، وهو كافٍ في فهم القرآن، يذكر الأحكام والأحاديث منسوبة إلى مخرجيها من أصحاب الكتب الستة، أو البغوي إن لم يجد الحديث عند غيره، وعيبه الوحيد: ذكر القصص المأخوذة عن الإسرائيليات، ولو حذفت منه تلك القصص، لكان تفسيرًا في

غاية الجودة. "تفسير البيضاوي": مختصر من "الكشاف"، غير أنه أعرض عن حكاية القراءات الشاذة إِلَّا في القليل، والتزم مذهب الأشعرية، وقد ينساق مع الزمخشري أحيانًا تقليدًا من غير تمحيص، وفيه تحقيقات رائعة، وعليه حواشي للقونوي وزاده والشهاب الخفاجي، فيها بحوث وتحقيقات،

والأخيرة أوسعها وأكثرها فوائد

- "تفسير أبي السعود (۱).

- تفسير النسفي": مختصران من تفسير "الكشاف"، مع استبدال آراء المعتزلة بآراء الأشعرية. وفيهما مع ذلك تحقيقات نفيسة.

١٠ - "تفسير ابن كثير : تفسير سلفي متشدد في سلفيته، يُعنى بذكر الأحاديث الواردة في موضوع الآية، مع بيان رتبتها غالبا، ويذكر أقوال الصحابة والتابعين، وينبه على الإسرائيليات، وقد يُقصر في بعض الآيات، فلا يستوفي الكلام عليها كما ينبغي، ومن تشدده في سلفيته: أنه جعل قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ جملة مستقلة، وقوله تعالى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ

(۱) للشيخ عليش عليه حاشية في تسعة أجزاء اطلعت عليها وهي مخطوطة.

۲۰۲

القرآن الكريم

وَجَهْرَكُمْ [الأنعام: ٣] جملة مستأنفة لبيان شمول علم الله لجميع المخلوقات، وحكى الإجماع على أنّ الله في السَّماء، ووَسَمَ مَن قال خلاف ذلك بأنه من ا

الحشوية، وهو متأثر بابن تيمية.

عني

۱۱ - "تفسير أبي حيان الأندلسي": تفسير جميل جدا، بحكاية القراءات المشهورة وتوجيهها مع بيان الإعراب بيانا شافيا، ومناقشة الزمخشري فيما أخطأ فيه من ذلك، ويتحرّى التنبيه على الإسرائيليات، مع اشتماله على تحقيقات نفيسة، وقد تعرّض لابن تيمية، وذكر أنه اغتر به أول الأمر فمدحه، ثم تبيَّن له خلاف ذلك، فذمه وحط عليه، وذكر بعض عيوبه،

لكن القائمين على طبع التفسير حذفوا منه ذم ابن تيمية، غيرة منهم عليه(۱). ١٢ - ومن مصادر أبي حيان تفسير ابن عطية" وهو تفسير مهم جدا. طبعت مقدمته، وهي تدل على علو قدره.

۱۳ - تفسير البرهان" للبقاعي، تفسير جميل جدا، فيه بحوث قيمة، وأهم ما يمتاز به التزام بيان المناسبة بين السور والآيات، وهذا شيء لم يسبق إليه أحد، وقد وفقني الله تعالى إلى تأليف كتاب بينت فيه المناسبة بين سور

القرآن، وأرجو أن يوفقني إلى تأليف كتاب آخر، في بيان المناسبة بين آياته. ١٤ - "تفسير الخطيب الشربيني": تفسير جيد، يشتمل على فوائد ونفائس، و مما يمتاز به أنَّه فسّر كل بسملةٍ في القرآن تفسيرًا غير تفسير سابقتها.

(1) كما حذف المرحوم أمين الخانجي حين طبع "الميزان" للذهبي كلمة: «علي» من أثر وقع في ترجمة ابن أبي داود، وكتب بدلها كلمة فلان. مع أن الأثر غير صحيح.

بدع التفاسير

۲۰۳

١٥ - تفسير الطبرسي" الشيعي، تفسير جميل جدا، يتكلم على الإعراب وتوجيه القراءات بما يدلُّ على اطلاع في علوم اللغة العربية، وكلامه على معاني الآيات يدلُّ على تحقيقه، ودقة نظره، غير أنه يرجح آراء شيعية كما يفعل الزمخشري في ترجيح آرائه الاعتزالية.

١٦ - "تفسير الثعالبي"، مختصر من تفسير ابن عطية"، وفيه فوائد

و تحقيقات، بحيث يكفي من يقتصر عليه.

۱۷ - "تفسير ابن جُزَيٌّ ، تفسير مختصر مفيدٌ، يحكي أصح الأقوال ويذكر

أصح الأعاريب، كتب في أوَّله مقدمة من علم التفسير في غاية الإفادة. ۱۸ - "تفسير الجلالين": تفسير مختصر جدًّا، لا يفيد المبتدئ، ولا يحتاج إليه المنتهي، ينساق مع الإسرائيليات، ولا يحرّر موضوعا، كما لا يكشف عن نكتة في آية. ١٩ - وللعارف أبي زيد عبدالرحمن الفاسي عليه حاشية، فيها تحقيقات مفيدة، وهو أول من كتب عليه حاشية.

٢٠ - ثم كتب الشيخ الجمل حاشية كبيرة، تعتبر تتميما له بما تنقله في معظم

الآيات، عن كثير من كتب التفاسير ما يوضح المعنى، ويبين المراد. ٢١ - ثُمَّ كتب تلميذه العارف الصاوي حاشية فيها تحقيقات رائعة، إلا أنه

۲۱

يعتمد الإسرائيليات.

٢٢ - أما "حاشية الجمالين" على "الجلالين"، فلا بأس بها في الجملة، ولا

تخلوا من فوائد. ٢٣ - تفسير السيوطي، اسمه الدر المنثور في التفسير بالمأثور" يذكر في

٢٠٤

القرآن الكريم

كل آية ما ورد فيها من الأحاديث والآثار مستوعبا في ذلك غاية الاستيعاب،

،

غير أنه لا يبين رتبة الأحاديث إلا قليلا، ومع كونه التزم أن لا يذكر فيه حديثا

واهيًا أو موضوعا، لريف بما التزم به، والكمال الله تعالى.

٢٤ - "تفسير ابن عجيبة " ، سبق الكلام عليه.

٢٥ - "تفسير روح البيان: تفسير جيد، أحسن تلخيص ما في "البيضاوي" وحواشيه" وأبي "السُّعود من نكات وفوائد، مع إضافة بعض الإشارات الصوفية. وبعد تفسير الآية باللغة العربية، يذكر تفسيرها باللغة التركية، وهذا عمل مفيد.

٢٦ - "تفسير الشوكاني": تفسير وسط بين الإيجاز والإطناب، يُعنى ببيان المفردات اللغويَّة، ويتكلّم على معنى الآية جملة، مع الإشارة إلى القراءات المشهورة، وذكر الأحاديث والآثار منقولة من تفسير "الدر المنثور"، فهو تفسير جيد مفيد.

۲۷ - "تفسير "الفوتي" تفسير مستمد من "تفسير البيضاوي". لكنه سهل

مبسوط العبارة، ولا يخلو من فوائد. وهو مخطوط لم يطبع.

۲۸ - "تفسير الميرغني": تفسير مختصر لكنَّه مفيد، سهل العبارة، خال من الاصطلاحات العلمية المعقدة، يستفيد منه المبتدئ ومن في حكمه، لوضوح

أسلوبه.

۲۹ - تفسير" الآلوسي تفسير مهم بديع، لخص ما في " الكشاف" و"حاشية الشهاب" على "البيضاوي" من نكات بيانية، ومباحث فنية، كما لخص ما في "تفسير الرازي" من بحوث عقلية وكلاميَّة، ( ذلك كله

ومزج

بدع التفاسير

٢٠٥

بأسلوبه الأدبي البليغ، وأضاف إليه ما نقله عن "تفسير السيوطي" من الأحاديث والآثار، وما ذكره من بعض الإشارات الصوفية، فكان تفسيرًا منقطع النظير.

٣٠ - "تفسير القنوجي : ملك بهو بال بالهند: تفسير ملخص من "تفسير

ابن كثير"، وهو سلفيّ أيضًا على طريقته، ولا يخلو من نكات وفوائد. ٣١ - "تفسير القاسمي: تفسير لا بأس به، يميل إلى وضوح العبارة، وتبسيط البحث الذي يتعرَّض له، مع جنوح إلى الاجتهاد والاستقلال في الرأي، وقد ينساق مع الإسرائليات أحيانًا، وحين أريد تقديمه إلى المطبعة، أشرف على طبعه شخص في عقله شيء، زرته مرة ببيته، فأطلعني على نسخة التفسير بخط القاسمي، سلّمها إليه ابنه ليشرف على طبعها، فإذا هو قد ضرب

بالقلم الأحمر على بحث النسخ الذي ذكره المؤلف عند قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَهُمْ عَن قِبْلَيْهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: ١٤٢] فسألته عن سبب شطب هذا البحث؟ فقال: لأنه لا يليق بمقام القاسمي الذي كان يسميه الشيخ رشيد رضا عالم الشّام، فحذفته وحذفت ما كان من قبيله عديم

الفائدة، قليل الجدوى. قلت له لكن هذا ينافي الأمانة العلمية.

فقال: التفسير لم يطبع قبل الآن ولا أحد يعرف ما حذف منه، ونجل المفسر -وهو نقيب المحامين بدمشق - أباح لي التصرف فيه حسبما أراه مصلحة، وهذه البحوث لا تليق بالقاسمي وبشهرته العلمية. قلت له: اتركها كما كتبها المؤلف، وعلّق عليها برأيك. فأبى وأصر على حذفها، وبناءً على هذا

٢٠٦

القرآن الكريم

فالتفسير المذكور ناقص في عدة مواضع ، وهذه خيانة علمية، ما كان ينبغي أن

تحصل (۱)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

تم تبييضه صباح يوم الأحد السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية.

(١) لم أذكر تفسير الشيخ طنطاوي جوهري المسمى "جواهر القرآن"؛ لأنَّه ليس تفسيرًا بالمعنى المفهوم من لفظ تفسير، وإنما حشر فيه حقائق علمية عن الفلك والنبات والحيوان، ولم يراعي ربطها بألفاظ القرآن وآياته، فجاءت مبعثرة غير متناسقة، وقد اجتمعت به فوجدته بسيطًا في تفكيره، وكان نباتيا كالمعري، وأخبرته بأن تفسيره متداول عندنا بالمغرب، فأبدى لي عجبه من أن يكون في المغرب ناس يفهمون كلامه !! ثم وجدت تلميذه الأستاذ حنفي أحمد أخذ عليه مثل هذا في مقدمة كتابه التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن".

بدع التفاسير

ترجمة المصنف

۲۰۷

هذا وأنا العبد الفقير إلى عفو الله ورحمته أبو الفضل عبدالله بن الإمام الحافظ المجتهد القطب الرباني شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الولي الكبير السيد الصديق بن العلامة الكبير والقطب الشهير السيد أحمد بن العارف بالله السيد محمد بن السيد قاسم بن السيد محمد ابن الولي الشهير السيد عبدالمؤمن بن السيد محمد ابن السيد عبدالمؤمن ابن القطب الكبير السيد عبد المؤمن صاحب الكرامات في حياته وبعد وفاته ابن السيد الحسن ابن السيد محمد ابن السيد عبدالله ابن السيد أحمد ابن السيد عبد الله ابن السيد عيسى ابن السيد سعيد ابن السيد مسعود ابن السيد الفضيل ابن السيد علي ابن السيد . عمر ابن السيد العربي ابن السيد علال ابن السيد موسى ابن السيد أحمد ابن السيد داود ابن مولانا إدريس دفين فاس ويسمى إدريس الأزهر ابن مولانا إدريس الأكبر، مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب، وناشر لواء الإسلام في أصقاعه، ابن الإمام السيد عبد الله المحصن - أحد شيوخ الإمام مالك - ابن السيد الحسن المثنى ابن

سيدنا الحسن السبط ابن سيدنا علي وفاطمة الزهراء عليهم السلام.

ووالدتي: هي

التقيَّة الصَّالحة العفيفة القانتة الطاهرة الشريفة الكريمة الخلق، السخية اليد (١) بنت العارف بالله التالي لكتاب الله المكثر ذكر الله السيد

(1) كانت لها فراسة حادَّةٌ، ونظر صائب، فهي تنظر بنور الله كما جاء في الحديث توفّيت شهيدة بجمع ليلة الإثنين السابع والعشرين من رمضان سنة ١٣٤٠ ودفنت بالزاوية الصديقيَّة، ولما توفّي سيّدنا الإمام الوالد رضى الله عنه - يوم الأربعاء سنة

١٣٥٤ أردنا أن ننقلها لتدفن بجانبه، وفتحنا قبرها ونزلت فيه أنا وخالي السيد أحمد بن

۲۰۸

القرآن الكريم

عبد الحفيظ ابن العلامة الولي الكبير السيد أحمد -سلك طريق التصوف على جدي سيدي الحاج أحمد، وفتح له على يديه، كما أنَّ جدّي أخذ عنه المنطق ابن الإمام العلامة الولي الشَّهير السيد أحمد بن عجيبة الحسني، صاحب التفسير المشار إليه، وقد ذكر نسبه في فهرسته، فأنا أتصل بالحسن بن علي عليهما السلام من جهة الأب والأم والحمد لله.

ولدت بمدينة طنجة، وهي من أحسن مدن المغرب موقعا، وأعدلها مناخًا، وأبهجها منظرًا، وأصل إقامة عائلتنا بقبيلة بني منصور من قبائل غمارة - بضم الغين ففي قرية تُجكان منها بضم التاء وسكون الجيم- بيتنا وزاويتنا وضوارح أجدادنا، ولنا الزعامة الدينية في قبائل غمارة كلها، لا يقطعون في أمرٍ

من الأمور التي تهمهم في مصالحهم إلا بعد الرجوع إلينا.

ولما خطب مولانا الإمام الوالد رضي الله عنه- بنت خاله السيد عبد الحفيظ - وكان مقيما بطنجة - شرط عليه الإقامة بها، فوافقه وأقام بطنجة وبنى بها زاوية كبيرة، درّس فيها التفسير، كما درّس في الجامع الكبير بطنجة "صحيح البخاري" ، و "مختصر خليل" في فقه المالكية، و"ألفية ابن مالك" في علوم العربية، وهمزية البوصيري" في السيرة النبوية، وغير ذلك. وأقام للعلم

عبدالحفيظ، فوجدنا جسمها سليما، وكفنها سيلها كأنها دفنت في تلك الساعة. وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الشَّهادة سبع سوى القتل في سبيل الله : المبطون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمطعون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد». يقال: ماتت المرأة بجمع - مثلثة الجيم - إذا ماتت بالنفاس وولدها في بطنها.

بدع التفاسير

۲۰۹

والتصوف سوقا رائجة، وتخرج به علماء، كان منهم مدرسون وقضاة وغيرهم، وانتشر بسببه في أرجاء البلدة ذكر الله (۱).

في هذا البيت بيت العلم والصَّلاح والولاية نشأت، وبلبان الفضل غذيت، حفظت القرآن بقراءة ورش وأتقنت رسمه، حتى كان يرجع إلى فيه كبار القراء، ثُمَّ شرعت في حفظ بعض المتون كـ" ألفية ابن مالك" في العربية، و مختصر خليل" في الفقه، و"الأربعين النووية"، و"بلوغ المرام" في الحديث. ثُمَّ حضرت "المقدمة الآجرومية" بشرح الأزهري على ابن عمتنا الفقيه

الأجل السيد محمد بن عبد الصمد، وعلى شقيقنا الحافظ أبي الفيض رحمه الله. ثُمَّ رحلت إلى فاس لقراءة العلم بجامع القرويين، أكبر جامع بالشمال الإفريقي، وهو أكبر من الأزهر وأقدم ، وفيه تخرّج علماء المغرب، ودرس فيه أبو بكر ابن العربي المعافري، ومحيي الدين ابن العربي الحاتمي، وابن خلدون، وأبو الحسن الشاذلي، وابن غازي، وزروق وغيرهم.

فحضرت "الألفية" بشرح المكودي على العلامة الحسيب النسيب السيد الحبيب المهاجي كما حضرت عليه في مختصر خليل" بشرح الخرشي،

و " السلم " بشرح القويسني في المنطق.

وحضرت الألفية" بـ "شرح ابن عقيل" على العلامة الشيخ محمد - بفتح

(۱) وأقام بها قبله عمنا العلامة الولي الصالح السيد القاضي، ونشر العلم والطريق لكن على نطاق ضيق، وكان كثير الأسقام، توفي سريعًا ودفن بالزاوية الحراقية بشارع دار البارود، وعليه ضريح يُزار كان صالحا تقيا، له كرامات، وكان أسن من سيدنا الوالد رحمهما الله ورضى عنهما.

۲۱۰

القرآن الكريم

الميم الأولى - ابن الحاج، مع مراجعة حاشيتي السجاعي والخضري. وحضرت "الألفية" أيضًا بـ " شرح التوضيح" لابن هشام، مع مراجعة "التصريح" للأزهري، وحاشية الطيب بن كيران على التوضيح" أيضًا، وبـ "شرح المكودي" مع مراجعة "حاشية ابن الحاج" على ابن المحشي العلامة الشيخ محمد بن الحاج، كما حضرت عليه في "مختصر خليل" بشرح الخرشي، وحضرت عليه جملة كبيرة من "صحيح البخاري" بالجامع الإدريسي، وكان قوي الحافظة، يبدي إعجابه بالحافظ ابن حجر، ويتورك على العيني في اعتراضاته عليه،

ويقول عنه بعد حكاية اعتراضه: كأني به لم يفهم كلام الحافظ ، ثُمَّ يجيب عنه. ولما وصل في قراءة "البخاري" إلى كتاب الجهاد والمغازي، بعث إليه حاكم فاس الفرنسي وطلب منه أن يتخطّى هذا الباب إلى غيره، ويقرأ ما بعده، فامتنع عن الدرس أياما، وبعد مراجعة وكلام حصل الاتفاق على أن يقرأ كتاب الجهاد على ألا يتوسع في الشرح، وهذا نوع من الضغط الذي كان يمارسه الاستعمار الفرنسي في المغرب.

و حضرت باب الجنايات والقصاص من مختصر خليل" بشرح الخرشي

على العلامة المحقق السيد أحمد القادري.

وحضرت في المختصر أيضًا على إمام جامع القرويين العلامة السيد إدريس المراكشي وكان على علمه وفضله فيه غفلة.

كما حضرت في "المختصر" أيضًا على العلامة الشيخ محمد الصنهاجي،

.

وحضرت من باب الإجارة إلى الآخر من شرح الدردير" لخليل، على العلامة الشيخ عبدالرحمن ابن القرشي، وحضرت مواضع من "مختصر خليل" بشرح

بدع التفاسير

۲۱۱

عبدالباقي على شيخ الجماعة العلامة السيد عبدالله الفضيلي، كما حضرت عليه

"رسالة الوضع"، وكان محققا بارعًا.

وحضرت فرائض "مختصر "خليل" بشرح الخرشي، و"حاشية" شيخ الجماعة السيد أحمد بن الخياط، على العلامة الشيخ أبي الشتاء الصنهاجي، وكان صالحا خشن المعيشة والملبس، وهو شقيق الشيخ محمد الصنهاجي السابق. وحضرت "المقدمة الآجرومية" على شيخ الجماعة بفاس العلامة السيد أحمد بن الجيلاني الأمغاري، وحضر عليه معظم العلماء تبركا، كما حضرت

عليه مواضع من "مختصر خليل" بشرح الخرشي.

وحضرت على العلامة القاضي السيد الحسين العراقي "جمع الجوامع

بشرح المحلي"، و"تفسير الجلالين بحاشية الصاوي".

و حضرت مبحث الآداء والقضاء من مقدّمة "جمع الجوامع"، على العلامة المحقق السيد الراضى الحنش، وكان منقطع النظير في التحقيق.

وحضرت مقدّمة جمع الجوامع بشرح المحلي" على العلامة المحقق القاضى العباس بن أبي بكر البناني، كما حضرت عليه قسم التوحيد من "منظومة ابن عاشر " وذكر مرة في درس الأصول حديثاً لم يعرف رتبته، فبينتها له، فسألني من أنت؟ فانتسبت له، فقال تبارك الله، الدُّرُّ من معدنه لا يُستغرب، وطلبت منه مرَّة فتوى فقهيَّة في خصومة كانت بين بعض الإخوان، فسألني هل يطلع عليها والدك ؟ قلت: نعم. قال: إذا يجب التدقيق فيها؛ لأنَّ والدك في العلم مخيف. وأخذت عنه أيضًا "شرح البناني على "السلم" في المنطق. كما أخذت عنه

۲۱۲

القرآن الكريم

"المقولات"، وأجاز لي إجازة عامة كتبها لي بخطه، كما أجاز لي الشيخ محمد ابن الحاج السابق، والسيد المهدي العزوزي الذي يروي عن السيد المرتضى الزبيدي شارح "القاموس"، بواسطتين.

ثم رجع من الشام إلى فاس العلّامة المحدث الولي الصالح السيد محمد بن جعفر الكتاني، فلازمته واستفدت منه.

ثُمَّ رجعت إلى طنجة، فدرستُ بالزَّاوية الصدِّيقية لبعض نجباء الطلبة والإخوان "المقدمة الآجرومية" و"رسالة ابن أبي زيد" بشرح أبي الحسن، وكتبت إذ ذاك شرحًا على "الآجرومية"، يعتبر أكبر شرح وأكثره فوائد، بعد أن راجعت من شروحها وحواشيها ما ينيفُ على العشرين، منها شرح الراعي وهو مخطوط، وشرح الشيخ أحمد بابا السوداني، وهو مطبوع بفاس مع حاشية السيد المهدي الوزاني عليه، وشرح الشيخ علي بركة التطواني، وعليه ضريح يزار بمدينة تطوان، وشرحه هذا مخطوط، وشرح سيدي أحمد بن عجيبة، وحاشية الفيشي على الأزهري وهما مخطوطان أيضًا، وعرضته على سيدنا الأستاذ الإمام الوالد - رضي الله عنه - . فأصلح فيه مواضع بخطه وأقره وسماه شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله تعالى " تشييد المباني لتوضيح ما حوته المقدمة الآجرومية من الحقائق والمعاني".

وكنت إلى جانب هذا أقوم باختصار كتاب "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني بأسلوب غير أسلوب "حصول المأمول" للقنوجي، مع حضوري على سيّدنا الإمام الوالد -رضي الله عنه- في "رسالة ابن أبي زيد" بشرح أبي الحسن، وفي شرح العارف أبي محمد ابن أبي جمرة

بدع التفاسير

۲۱۳

"مغني

لـ "مختصره للبخاري" قبل أن يطبع ، وكنت أرجع إليه في مواضع من كتاب اللبيب" كانت تشكل عليَّ، فيشرحها لي وقد قرأت هذا الكتاب مع مراجعة شرح الدماميني وحواشي الأمير والدسوقي وعبدالهادي نجا الإبياري، وانتفعت به كثيرًا كما انتفعت بكتاب "الأشباه والنظائر النحوية" للسيوطي وكان من مراجعي في شرح الآجرومية"(۱).

وكتبت بحوثاً أخرى في مسائل نحويَّة عويصة، بإشارة سيدنا الإمام الوالد رضي الله عنه، الذي كان يشجعني على البحث والكتابة، ويدربني على معرفة المظان، واتخذني كاتبه، أكتب له الفتاوى التي يحرّرها إلى الجهات المختلفة من أنحاء المغرب (۲)، وتارة يأمرني فأمضيها باسمي، وكان مع أصدقائه يثني على

معرفتي وفهمي.

(۱) قرأت في كتب النحو كثيرًا، مثل شرح المرادي وبدر الدين ابن مالك والسيوطي و دحلان على "الألفية"، والأول مخطوط، والثلاثة بعده مطبوعة، وحاشيتي الطرنباطي ويس العليمي عليها أيضًا وشرح "التسهيل" لابن عقيل مخطوط، و"همع الهوامع شرح جمع الجوامع" للسيوطي، والاقتراح في أصول النحو" له أيضا، وشرح ابن زكري على "الفريدة" وهي "ألفية السيوطي" في النحو. وكنت شديد الشوق للاطلاع على كتاب شرح المفصل" لابن يعيش حتى طبع وحقق الله أمنيتي

بالاطلاع عليه، وقرأت شرح الجمل" للمجرادي، وغير ذلك. (۲) وكانت فتاواه في نهاية الدقة والتحرير وكان لا يتقيَّد بمذهب مالك الذي بلغ فيه رتبة الاجتهاد، بل كان يفتي ببقيَّة المذاهب الأربعة، وكان مع هذا واسع الاطلاع في فقه الزيدية والإمامية والإباضية.

٢١٤

القرآن الكريم

وجاءه مرَّة الأستاذ الأديب الشيخ محمد بن العياشي سكيرج -وهو من

تلاميذه، وله مؤلفات - برسالة شرح فيها أبيات ابن مالك التي مطلعها : إني أقول لمن تُرجى وقايته في المستجير قياه قـوه فـي قيــا(۱) وعرضها عليه ليبدي رأيه فيها، فقال له اعرضها على فلان - يعنيني - فله بهذا العلم معرفة جيدة، فجاءني بالرِّسالة وقال لي: إنَّ السيد أمرني بعرض

الرسالة عليك، وأثنى على علمك وفهمك، فقرأتها وأبديت له رأيي فيها. وكان يتحدث إلى ساعات طويلة عن الكتب العلمية في مختلف العلوم فيعطيني فكرة عن كل كتاب وما يمتاز به عن غيره، المطبوع منها والمخطوط، وكانت حافظته قوية جدا، إذا أفاض في موضوع أتى فيه بما يدهش السامع، وكنت أتكلم معه مرَّة في مسائل نحويَّة، وجاء ذكر لفظ «البته» وهل هو بهمزة وصل؟ أو قطع ؟ فقال لي: تكلّم عليه الحافظ ابن حجر في "الفتح" وحكى فيه الوجهين واختار الوصل، كما حكاهما الأزهري في "التصريح " واختار القطع، وعيَّن لي الموضع في الكتابين، فوجدتهما كما قال.

وقال لي مرة في بعض خطاباته إلى : أنت فقيه محدت صوفي، وتلقنت منه طريق الشاذلية، كما تلقنته من شيخه القطب الكبير سيدي محمد بن إبراهيم، عن شيخه العارف المحبّ الربَّاني سيدي عبد الواحد بناني، عن شيخه العارف المحبوب سيدي محمد أيوب، عن جدنا القطب الغوث الجامع سيدي الحاج

(۱) وهي في الأفعال التي يجيء فعل الأمر منها على حرف واحد؛ لأنها معتلة الفاء واللام، نحو وقى ورعى ووشى ،ووفى، وقرأت رسالة في شرحها أيضا للشيخ مصطفي البدري الدمياطي.

بدع التفاسير

٢١٥

أحمد بن عبدالمؤمن الغماري، عن قطب الواصلين مولاي العربي الدرقاوي، وبقية السلسلة مذكورة في أول إيقاظ الهمم بشرح الحكم" لجدنا سيدي أحمد

ابن عجيبة.

العلامة

ثُمَّ أَذَن مؤذن الرحيل إلى مصر، فركبنا باخرة يابانية من جبل طارق أنا وشقيقي الأكبر الحافظ أبو الفيض -رحمه الله - وشقيقي الأصغر مني ! السيد محمد الزمزمي، ومعنا أحد الإخوان الصَّدِّيقيين اسمه أحمد عبد السلام الشرقي، وشهرته الحاج شكاره رحمه الله (۱).

وقفت الباخرة بنا في مالطة، فنزلنا إليها وشهدنا شوارعها ومعالمها، ولغة

أهلها، ثلثها عربي وثلثاها إنجليزي؛ لأنّهم كانوا مسلمين(٢) يتكلمون العربية لغة القرآن، لكن الاستعمار الإنجليزي تمكّن منهم، فسلبهم دينهم ولغتهم، وهكذا فعل الاستعمار الإسباني في الأندلس، والاستعمار الإيطالي في صقلية، وهكذا حاول أن يفعل الاستعمار الفرنسي في البربر بالمغرب، وهذه هي .

خطة

(۱) كان ملازما لخدمة شقيقي الحافظ أبي الفيض منذ صغره، وحفظ معه القرآن في الكتاب الذي كان بزاويتنا، وهو من تلاميذ سيدنا الإمام الوالد -رضي الله عنه - في الطريقة الصديقية، توفّي بمحطة كفر الزيات ودفن بمثلة، قرية قريبة منها، يقام له موسم ثان خميس من شهر رجب كل سنة، وأهل تلك البلدة يحكون عنه كرامات. (۲) فتحت جزيرة مالطة سنة ٢٥٥ هجرية فتحها أبو الغرانيق محمد الأغلب، وأسر ملكها، وفتحت صقلية سنة ٢١٢هـ فتحها زيادة الله بن إبراهيم ابن الأغلب أرسل لفتحها جيشًا بقيادة أسد بن الفرات صاحب كتاب "الأسدية" في

مذهب مالك.

بن

أحمد

بن

٢١٦

القرآن الكريم

الاستعمار في كل مكان وزمان.

ثُم واصلت الباخرة سيرها، فوصلت إلى الإسكندرية أواخر شعبان سنة ١٣٤٩ هجرية، نزلنا فيها عند قريب لنا اسمه الحاج محمد أجزناي، وفي الأسبوع الأول من رمضان وصلنا إلى القاهرة المعزية، واستأجرنا بيتا في شارع الكحكيين، بجوار الشيخ الدردير وبعد انتهاء رمضان وإجازة العيد،

التحقت بالأزهر. فحضرت بالقسم العالي "منهاج البيضاوي بشرح الإسنوي" في الأصول على الشيخ حامد جاد.

وحضرت جمع الجوامع بشرح المحلي" من كتاب القياس إلى الآخر، على العلامة المحقق الشيخ محمد حسانين مخلوف العدوي، كما حضرت عليه رسالة

آداب البحث والمناظرة"، واستجزته فوجدته لا يعرف معنى الإجازة.

وحضرت "السلم" بشرح الملوي و حاشية الصبان" على الشيخ عبدالقادر الزنتاني برواق المغاربة. وحضرت التهذيب" بشرح الخبيصي" في المنطق على العلامة المحقق البارع الشيخ محمود الإمام عبدالرحمن المنصوري، أعجبت بشدة تحقيقه، وسعة اطلاعه في علوم المعقول، والفقه الحنفي، فتعرفت به

وزرته في بيته بشبرا، وأطلعني على مكتبته القيمة.

ولما علم أنَّ عندنا تخريج أحاديث "الكشاف" للزيلعي، طلب مني إعارته إيَّاه لينسخه. كما طلب مني أن أبحث له عن "حاشية ابن سعيد التونسي" على الأشموني ولو باستحاضرها من تونس؛ لأنه كان معجبا بها غاية الإعجاب (۱).

(۱) وهي من حيث علم النحو أفيد وأحسن من حاشية الصبان"، والحقيقة أن الصبان

بدع التفاسير

۲۱۷

سمعت منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية، كما سمعه الشيخ أحمد الحلواني،

وكتب لي سنده فيه بخطه، ولم تكن عنده إجازة، رحمه الله وأكرم مثواه. وحضرت الربع الأول من شرح الدرير لمختصر خليل"، على شيخ اسمه الشيخ عمران (۱)، وكان سيّدنا الأستاذ الإمام الوالد -رضي الله عنه - قد أوصاني بقراءة فقه الإمام الشافعي رضي الله عنه، فقرأت "شرح الخطيب لمتن أبي شجاع " على الشيخ عبد المجيد الشرقاوي، وكان يتقن فقه الشافعية اتقانًا ما عليه مزيد، وهو من ذرية الشيخ عبد الله الشرقاوي شارح "مختصر الزبيدي".

أفسد حاشيته بكثرة مناقشته للحفني تعنتا ،واعتسافا، وفعل مثله ابن الحاج في "حاشيته" على "المكودي"، فقد أكثر من الاعتراض عليه بحق وبغير حق، ولذلك كانت "حاشية المهدي الوزاني" على "المكودي" أفيد ، وهي مطبوعة بفاس في جزءين وذكر لي سيدنا الإمام الوالد رضي الله عنه أنه رأى المكودي في رؤيا يشكو إليه من اعتراضات ابن الحاج و طلب منه أن ينتصر له، ولما حكاهالي، كلفني أن أقوم بهذه المهمة عنه. (۱) مما لاحظته أنَّ علماء المغاربة أعلم بالفقه المالكي وأعرف بقواعده وأوسع اطلاعا على كتبه من علماء مصر، بل مما لاحظته بوجه عام أنَّ العالم المغربي يعطي الدرس حقه من البحث والاطلاع على الكتب المتصلة به، ما لا يوجد مثله عند العالم الأزهري الذي لا يتجاوز في درسه حل عبارة المتن والشَّرح، فطريقة المغاربة في التدريس تعطي الطالب ملكة الفهم وتعلمه كيفية البحث في كتب العلم وقواعده، وطريقة الأزهريين تعطي ملكة الفهم فقط. نعم كان الشيخ محمود الإمام على طريقة المغاربة، حضرنا عليه "تهذيب السعد بشرح الخبيصي ، فكان لا يدع شيئًا يتصل بالكتاب وشروحه وحواشيه، وبالعلم وقواعده إلَّا أتى به وناقشه وقرره. وبهذه الطريقة

حضرت ثلاث سنوات بفاس، حصلت فيها ما يمكن تحصيله في عشر سنين.

۲۱۸

القرآن الكريم

وقرأت الربع الأول من "المنهج" بشرح زكريا الأنصاري، و"حاشية

البجيرمي"، على الشيخ محمد عزت، وهو متين في الفقه الشافعي جدا. وحضرت دروسًا في جمع الجوامع"، على الشيخ دسوقي العربي المالكي، وكان يعني بمناقشة عبارات الشارح، وما كتب عليه الناصر اللقاني، وما أجاب به ابن قاسم العبادي. إلخ و حضرت دروسًا من شرح "الهداية في الفقه الحنفي، على مفتي الديار المصرية وشيخ علمائها الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي، كما حضرت عليه دروسا في التفسير، وزرته ببيته في الزيتون غير مرة، واستجزته فأجاز لي إجازة عامة، وكان يزورنا بالبيت ويسأل شقيقنا الحافظ أبا الفيض عن أحاديث

النكتة

تعرض له، وكان واسع العلم، غزير الإطلاع، حاضر ،البديهة، سريع ! كريم الخلق، سخي اليد، رحمه الله، وأثابه رضاه. وسمعت حديث الأولية من مسند الديار المصرية السيد أحمد رافع الطهطاوي، وأجاز لي بما حواه ثبته "المسعى الحميد إلى بيان وتحرير الأسانيد(۱) وأجاز لي الشيخ محمد إمام الشقا خطيب الجامع الأزهر، والشيخ

محمد السمالوطي، بعد أن حضرت عليه دروسا في "سنن الترمذي". وأجاز لي الشيخ عويد نصر الخزاعي المكي عن الشيخ عبدالهادي نجا الأبياري بمؤلفاته ومروياته، والشيخ طه الشعبيني شيخ الطريقة الشاذلية، وكان عالما صالحا فاضلا ، ومن شيوخه الشيخ أحمد الرفاعي شيخ المالكية،

(۱) وهو كتاب نفيس، نبه فيه على أوهام وقعت في كثير من الأثبات، خصوصا "فهرس الفهارس" للشيخ عبد الحي الكتاني.

بدع التفاسير

۲۱۹

والشيخ عبد القادر الشفشاوني صاحب كتاب "سعد الشموس والأقمار". وممن أجاز لي من شيوخ مصر: الشيخ عبدالغني طموم إمام المسجد

الحسيني، والسيد محمد الببلاوي خطيب المسجد الحسيني ونقيب الأشراف. والشيخ عبدالمجيد اللبان زرته بمعهد الإسكندرية، وكان شيخا له، وذلك بعد ما نزلنا من الباخرة بيومين فهو أول شيخ بمصر أجاز لي، ثُمَّ لما عُين عميدًا لكلية أصول الدين، حصل حادث علمي (۱) ) . (۱)، خدمته فيه خدمة قيمةً

(1) لما طبع رد الدارمي على بشر المريسي، وكانت فيه عبارات صريحة في التجسيم، كتب الشيخ اللبان مذكرة لمشيخة الأزهر يطلب فيها منع تداول الكتاب باعتباره خطرًا على عقائد العامة، ونقل منه حديث الأوعال نموذجا لما فيه، وفاته أن يذكر ما هو أصرح منه، فحولت المشيخة مذكرته إلى لجنة، من أعضائها محمود أبو دقيقة وعيسى منون فكتبت اللجنة تقريرًا في ثمان صفحات قالت فيه عن حديث الأوعال: رواه أبو داود وصححه بعض الحفاظ، ونقلت كلام ابن القيم في "شرح تهذيب السنن"، كما نقلت عبارات من "تهذيب التهذيب" في توثيق بعض رجال السند، وانتهت إلى أنَّ الكتاب لا خطر فيه على العامة؛ فلا يمنع ووزع التقرير - بعد طبعه - على جماعة كبار العلماء، فأخرج اللبان وسقط في يده، وزاره صديق له فأخبره بالقصة، وقال له: لو طلبت من الشيخ الشنقيطي أن يرد على التقرير، فإنَّه يفضحني بكلامه في المجالس. قلت: ما كان الشيخ حبيب الله يستطيع الرد على التقرير ؛ لأنه لا خبرة له إطلاقا بالرجال والأسانيد، وإنما كان يستطيع الرد بحق الشيخ الكوثري الذي كان مريضا فقال له ذلك الصديق: أعرف عالما شابا يرد على التقرير ويبطله فقال: أدركني به. وجاءني وأخبرني بالقصة، وطلب مني زيارة الشيخ اللبان، فزرناه في بيته بالعباسية، وسلمني التقرير وهو متجهم الوجه مهموم، فقرأته وقلت له: إبطاله سهل فسر وانبسطت أسارير وجهه، وبعد

۲۲۰

القرآن الكريم فتوكدت أواصر المودة بيننا وجهد أن يعينني مدرسًا للحديث عنده في الكلية

فلم يستطع؛ لشدَّة معارضة الشيخ المراغي شيخ الأزهر إذ ذاك. والشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر، ورئيس جمعية الهداية الإسلامية، وكان يزورني بالبيت ويسألني عن أحاديث يحتاج إليها في مواضع يكتب فيها. والشيخ محمد دويدار الكفراوي زرته ببيته في تلا، وكان قد جاوز المائة بسنتين، فناولني ثبت الشبراوي، وأجاز لي بما فيه، وكتب الإجازة بخطه. وهو يروي عن الشيخ إسماعيل الحامدي محشي الكفراوي، وصاحب الرسالة في الحمالة، والشَّيخ عيسى القلماوي، والشَّيخ الأنباني والشيخ الشربيني وغيرهم، ويروي بالعامة عن الشيخ إبراهيم الباجوري، وأجاز لي الشيخ أبو النصر القاوقجي عن والده أبي المحاسن وغيره، وأخوه كمال الدين، باستدعاء شقيقي الحافظ أبي الفيض؛ لأنَّه تُوفي قبل حضوري إلى مصر

(1)

أربعة أيام سلمته ردا في خمس وعشرين صفحة، بينت فيه ضعف الحديث وسقوطه من جهة انقطاع في سنده، وضعف بعض رجاله، واضطراب في متنه، ونكارة معناه من عدة وجوه، وبينت خطأ أعضاء اللجنة في فهم نصوص الحفاظ، وجهلهم باصطلاح أهل الجرح والتعديل، فطبعه وقدَّمه إلى المشيخة التي قدمته إلى اللجنة، فاجتمع أعضاؤها ثانيا وكتبوا تقريرًا آخر عدلوا فيه عن رأيهم الأول، ووافقوا على منع الكتاب، وأطلعني الشيخ على هذا التقرير وهو مسرور بانتصاره، وشكرني كثيرا رحمه الله. وحاصل حديث الأوعال: أنَّ أربعة من الملائكة على صورة الأوعال - والوعل التيس الجبلي - يحملون العرش على أكتافهم، والله فوق العرش. (۱) وتمن أجاز لي السيد أبو القاسم الدبَّاغ وكان مجتهدا لا يقلد، والشيخ محسن ناصر

شيخ رواق اليمن عن صاحب عقد اليواقيت الجوهرية" ومن طريقه يتصل سندنا

بدع التفاسير

۲۲۱

وفي سنة ١٣٥٠ تقدَّمت لامتحان شهادة العالمية الخاصة بالغرباء،

والامتحان فيها يكون في اثني عشر علما، هي: النحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع، والأصول والمنطق والتوحيد، والفقه، والتفسير، والحديث، ومصطلح الحديث. فنجحت في الامتحان، وحصلت على الشهادة، ممضاة باسم شيخ الأزهر، وهو الشيخ محمد الأحمدي الظواهري في ذلك الوقت، وكان عالما ذكيا صوفيا، إِلَّا إِنَّه ضعيفٌ.

وفي هذه السنة طلب مني كثير من الطلبة أن أدرس لهم بعض العلوم،

بالسادة آل باعلوي وغيرهم من أشراف حضرموت وعلمائها. والشيخ الرحلة عمر حمدان التونسي، بعث لي بالإجازة من مكة وبها توفي، وهو يروي عن أكثر من مائة شيخ من مختلف البلاد الإسلامية. والشيخ محمد عبدالباقي الأنصاري بعث لي من المدينة المنورة بكتابه في المسلسلات وأجاز لي به وبسائر مروياته، ومن شيوخه خاله علامة الهند أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي. وشيخ علماء دمياط الشيخ محمد

محمود خفاجة، كتب لي بالإجازة على ظهر كتاب أوائل بعض الكتب الحديثية لشيخه أبي المحاسن القاوقجي. والشَّيخ بدر الدين الدمشقي والشيخ توفيق الأيوبي. والشيخ سعيد الفرا وغيرهم من علماء الشَّام. والشيخ عبدالواسع اليمني، بعث لي بالإجازة من صنعاء، ثمّ قابلته بمصر، وله مؤلفات مطبوعة. وشيخ المالكية بتونس الشيخ الطاهر بن عاشور، بعث لي بالإجازة وبعض مؤلفاته من تونس. والسيد هبة الله الحسيني، بعث لي بالإجازة من النجف، وعن طريقه يتصل سندنا بعلماء الشيعة الإمامية. وأجاز لي أيضًا شقيقنا الحافظ أبو الفيض بعد أن أخذت عنه "نخبة الفكر" و "مقدمة ابن الصلاح" و "سنن أبي داود" سماعا. ومواضع من "جامع الترمذي"

وبعض المسلسلات و درسا في السيرة وفي نيل الأوطار" و"إرشاد الفحول".

۲۲۲

القرآن الكريم

فشرعت في تدريس "المكودي" على الألفية، وأنا أوّل من درسه بالأزهر، و درست لهم "الجوهر المكنون" في البلاغة، و"السلم" في المنطق بشرح البناني، وسلم الوصول إلى علم الأصول" لابن أبي حجاب، ثُمَّ درست "جمع

الجوامع " بالرواق العباسي بين العشائين، فختمته في أربع سنوات. وحضر على الطلبة من أندونيسيا والهند وتركيا ويوغوسلافيا ورومانيا وألبانيا والشام والحجاز واليمن والحبشة والصومال والسودان وشمال أفريقيا وغيرها، وكان الطالب من أندونيسيا والحبشة والصومال إذا تخرج وسافر إلى إخوانه القادمين إلى مصر بالحضور علي، وكنت أذاكر دروس امتحان العالمية لطلبة القسم العالي ،المصريين وجميع من ذاكرت لهم نجحوا، وهم يتولون الآن وظائف في الأزهر وغيره بل الطلبة الغرباء الذين حضروا

بلده، يوصي

عليَّ، أو ذاكرت لهم نجحوا، وتولوا في بلادهم وظائف كبيرة. وفي سنة ١٣٥١ زارنا بالبيت الأستاذ حسن قاسم - من ذرية الشيخ عبد القادر الكوهن وطلب مني أن أكتب مقالات لمجلة الإسلام التي كان محررًا فيها وهي أكبر المجلات الإسلامية إذ ذاك فكتبت فيها بحوثاً حديثية، أعجب بها القُرّاء أيها إعجاب، وانهالت على إدارة المجلة، خطابات الاستحسان والاستزادة من الشَّام والسُّودان والمغرب والجزائر والبحرين

وغيرها، وكتب إليَّ الشَّيخ محمود شويل - إمام المسجد النبوي بالمدينة المنورة كتابًا مُطوَّلًا يثني فيه على علمي واطلاعي، ويقول: كنا نعد علم الحديث، ينتهي في مصر بعد الشيخ رشيد رضا والشيخ أحمد شاكر (۱) لكن حين قرأنا

(۱) مع أنه لم يكن من علماء الحديث، وترتيبه لـ "مسند" أحمد ليس فيه شيء من

بدع التفاسير

۲۲۳

بحوثك ضمناك إليهما، فأنت عندنا في الرتبة بعد الشيخ شاكر. وقابلت مرة طالبًا سودانيا عند أحد الكتبية بالأزهر، فلما عرفني أبدى إعجابه بما قرأ لي، وقال: عندنا في السُّودان، إذا جاء مقال أو إفتاء من مصر باسم أحد شيوخ ثلاث، سلموه بدون مناقشة.

قلت: من هم؟ قال: الشَّيخ بخيت والدجوي والغماري، ولما مرَّ بمصر في طريقه إلى الحجاز العلامة المحدث السيد عبد الحي الكتاني، وذهبت لزيارته، هناني بالحصول على شهادة العالمية، وأبدى إعجابه ببحوثي، وقال: نحن نفخر بما تكتبه، وكنت قبل ذلك سمعت منه حديث الأولية، وحضرت عليه دروسا في "حاشية الشنواني" على "مختصر ابن أبي جمرة"، بجامع القرويين، وأجاز لي إجازة عامة. واستمرت كتاباتي بمجلة الإسلام عشر سنوات، حصلت فيها مناقشات

الصناعات الحديثية، بل فيه أغلاط كثيرة في الكلام على تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وأحيانًا يتكلم في الرجال بلسان العصبيَّة الوطنية، مثلا عبدالله بن لهيعة المصري، يقول عنه : ثقةٌ حُجَّةٌ، فيرفعه إلى درجة رجال الصحيح، مع أ أن آخر ما وصل إليه نقد الحافظ الهيثمي فيه: أن حديثه حسن، لكن ينبغي تقييده بما صرح فيه بالسَّماع؛ لأنه مدلّس ، ذكره الحافظ في "طبقات المدلسين"، وصرح بضعفه في "التلخيص الحبير"، و"الكافي الشاف": ولذا كان الحافظ المنذري أدق من الهيثمي، حيث صرح في "الترغيب" بأن حديث ابن لهيعة حسن في المتابعات، وقد كان للشيخ أحمد شاكر في الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم المصريين الثقات الأئمة غناء عن توثيق ابن لهيعة، نعم كان الشيخ رشيد رضا ذا خبرة

بالصناعة الحديثيَّة. تبيَّن لي بعد ذلك أنَّ الشيخ أحمد شاكر محدث ناقد رحمه الله.

٢٢٤

القرآن الكريم

بيني وبين بعض العلماء في مسائل متعدّدة، وكتبت أيضًا في مجلة نشر الفضائل والآداب الإسلامية، ومجلة هدي الإسلام ومجلة الرابطة الإسلامية، ومجلة الشرق العربي، ومجلة الإرشاد التي يصدرها خطباء وأئمة المساجد بمصر، ومجلة المسلم التي تصدرها العشيرة المحمدية، جمعية صوفية فاضلة وهي مباركة، ونشرت مجلة التمدن الإسلامي التي تصدر في دمشق مقالا لي في شرح حديث نقلا عن مجلة الشرق العربي. وتعرفت بالأستاذ العلامة المطَّلع البارع الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله، فتوطدت بيننا أواصر المودة والصداقة، وكان يسألني عن بعض الأحاديث التي يُسأل هو عنها، وكنا مرة عند فضيلة المرحوم الشيخ يوسف الدجوي بعزبة النخل، وكان المجلس غاصًا بالعلماء وغيرهم، وهو يتكلم في مسائل علمية متنوعة، فوجه إليه أحد الحاضرين سؤالا عن حديث، فوجه السؤال إليَّ، وقال: لا يُفتى ومالك في المدينة، ولما استجزته ببيته بالعباسية أجاز لي، واستجازني وألح على أن أجيز له بل بلغ من وثوقه بعلمي أن نشر مقالا(۱)

(۱) جمع بعض محبيه وتلاميذه مقالاته ونشروها في كتاب خاص ومع أنهم نشروا جميع مقالاته المطبوعة في مجلة الإسلام لم ينشروا المقال المشار إليه؛ لأنَّ فـ فيهم حاقدا أشار بعدم نشره، ولم يكن منا إساءة لذلك الحاقد إلَّا أننا فتحنا له بيتنا يأوي إليه متى شاء، ونفعناه بعلمنا ومكتبتنا ومائدتنا قبل أن يعرف الكوثري ببضع سنوات، ولما عرفه أخيرا، سعى كالشَّيطان ليفسد الصداقة التي بيننا، لكن المرحوم الكوثري كان عاقلا لا يصدق كلام الحقدة الكذبة، وظلت صداقتنا على حالها نتزاور ونتقابل يوم الجمعة بمسجد محمد بك أبي الذهب، ويوم الإثنين بمكتبة الخانجي، وإذا زرته في بيته

بدع التفاسير

٢٢٥

وحضرت صلاة المغرب أو العشاء قدَّمني للصَّلاة بالحاضرين، ولم يتقدم قط رغم إلحاحي عليه، وأذن لجماعة من علماء الهند في ترجمة كتابي "إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان" إلى اللغة الأردية قبل أن يستأذنني، ثُمَّ أخبرني بذلك، وكان إذا تقابلنا في مكتبة الخانجي، يخرج من جيبه خطابًا لذلك الحاقد، ويسألني عن أحاديث سأله عنها، فأجيبه بما أعلم فيها، كل هذا وأكثر منه حصل بعد سعي ذلك الحاقد - أسخن الله عينه - في إفساد المودة بيننا، وكنا نعجب بالكوثري لعلمه وسعة اطلاعه وتواضعه كما كنا نكره منه تعصبه الشَّديد للحنفية، تعصبا يفوق تعصب الزمخشري لمذهب الاعتزال، حتى كان يقول عنه شقيقنا الحافظ أبو الفيض: هو مجنون أبي حنيفة، ولما أهداني رسالته إحقاق الحق" في الرد على رسالة إمام الحرمين في ترجيح مذهب الشافعي، وقرأتها، وجدته غمز نسب الإمام الشافعي، ونقل عبارة عن زكريا الساجي في ذلك، فلمّته على هذا الغَمز، وقلت له: إنَّ الطَّعن في الأنساب ليس برد علمي، فقال لى: متعصب ردَّ على متعصب، هذه عبارته فاعترف بتعصبه، وزرته مرة ببيته أنا والشريف الجليل السيد محمد الباقر الكتاني، وجرى الحديث بيننا في مسائل علمية، وجاء ذكر الحافظ ابن حجر، فأبدى السيد الباقر إعجابه بحفظه وبشرحه للبخاري، وأيدته في ذلك، فقلل من قيمة شرحه المذكور، وقال: كان يعتمد على الأطراف في جمعه لطرق الحديث - وهذا غير صحيح- وذكر أنه أي الحافظ ابن حجر كان يتبع النساء في الطريق ويتغزّل فيهنَّ، وأنه تبع امرأة ظنها جميلة حتى وصلت إلى بيتها وهو يمشي خلفها وكشفت له البرقع فإذا هي سوداء دميمة فرجع خائبا !!! وسر هذه الحملة أنَّ الحافظ كان يحمل على بعض الحنفية في كتب التراجم مثل "الدرر الكامنة" و "رفع الإصر". وقال عن العيني الحنفي: كان يأخذ كراريس من "فتح الباري" من بعض طلبته، فيستفيد بها في شرحه، فلما علم الحافظ ذلك منع إعطاء الكراريس للطلبة، وأكبر من هذا أنَّ الكوثري رمى أنس بن مالك رضى الله

٢٢٦

القرآن الكريم

بمجلة الإسلام يقرظ فيه كتابي "إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان" الذي رددت به على الشيخ محمود شلتوت قبل أن يراه، مع أ أنه كان ضنينا جدا بالتقريظ (۱)، ثمَّ تقدَّمت لامتحان شهادة العالمية الأزهرية، ويكون

عنه - بالخرف؛ لأنه روى حديثاً يخالف مذهب أبي حنيفة.

وأقبح من هذا أنه حاول تصحيح حديث موضوع؛ لأنه قد يفيد البشارة بأبي حنيفة، وهو حديث: «لو كان العلم بالثريا لتناوله رجالٌ من فارس» فإنَّ الحديث في الصحيحين بلفظ : «الإيمان»، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم- لما قاله وضع يده على كتف سلمان -رضي الله عنه-، فغيّر بعض الوضاعين لفظ «الإيمان» بـ«العلم»، كما بينه شقيقنا الحافظ أبو الفيض في "المثنوني والبتار" وقال : لو فرض صحته لم يكن فيه إشارة إلى أبي حنيفة، ولكن إلى حفاظ الحديث الذين خرجوا من فارس، مثل أبي الشيخ وأبي نعيم؛ لأنَّ العلم في عرف الشَّرع يراد به الكتاب والسنة، لا الرأي والقياس، فتعرّض له الكوثري في تأنيب "الخطيب" ورد عليه بعبارة فيها جفاء، فكتب شقيقنا ردا عليه، جمع فيه سقطاته العلمية، وتناقضاته التي منشأها تعصبه البغيض، وقسا عليه بعض القسوة، وهو مع هذا معترف بعلمه واطلاعه، ولم يقدم الرد للطبع، احتراما لصداقته، والعالمان المختلفان في الرأي لا تنفصم صداقتهما، كالمحاميين يختلفان في ساحة المحكمة، ويجتمعان خارجها صديقين. لكن بعض الجهلة مثل ذلك الحاقد - أسخن الله عينه - اتخذوا هذا الخلاف العلمي سببا لإشعال نار العداوة بيننا، فخيَّب الله مسعاهم وردّهم ،خاسئين، رحم الله شقيقنا والكوثري

عالمي عصرهما بدون مزاحم وجمعنا وإياهم في دار رحمته.

(۱) وقد ألح عليه الشيخ عبد القادر بن بدران في تقريظ بعض كتبه كـ " تهذیب تاریخ ابن عساكر"، فامتنع.

بدع التفاسير

۲۲۷

الامتحان فيها في العلوم السَّابقة، مضافًا إليها علم الوضع، وعلم العروض

والقوافي، وعلم الأخلاق فنجحت وكنت الثالث من ستة نجحوا، وكان

المتقدمون للامتحان ستة وثمانين ومائتين.

وحصلت على الشهادة . وهي الكوثري اسمي في جريدة الأهرام، فأسرع إلى بيتي بسوق السلاح، وكان أوّل من هناني بالنجاح، وبعد هذا بأيام زرت الشيخ محمود شلتوت في بيته بدعوة منه - وكان إذ ذاك وكيلا لكليَّة الشَّريعة - فهنَّأني بعض الأصدقاء عنده، فقال له الشيخ شلتوت: نحن نُهنّئ الأزهر والشَّهادة الأزهرية بحصول الشيخ عبدالله عليها، وكنت قبل ذلك زرته في كليَّة الشّريعة باستدعائه أيضًا، ليتعرف

ممضاة باسم الملك فاروق، ورأى المرحوم

بي، بعد أن قرأ ردودي عليه بمجلة الإسلام في نزول عيسى عليه السلام وأحدثت دويًا كبيرًا في الأوساط العلمية، وقال لي حين رآني: كنت أظنُّك شيخا كبيرًا، لكنك شاب قلت: أنا كما يقول المثل العربي: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه». قال: لا أقصد هذا، وإنما أقصد أنَّ سنّك دون مقالاتك التي تدل على علمٍ كبير واطلاع واسع، لا يتأتيان إلا من رجل تقدمت به السِّن، مع طول الدراسة. قلت: هذا من فضل الله عليَّ، وكان سنّي حينئذ ٣٣ سنة، ثُمَّ نادى علي الشيخ محمد المدني وعرَّفه بي، وحصلت بيننا مناقشة في مسائل علمية متعددة. وصارت بعدها ،معرفة، على خلاف الرَّأي بيننا، ولما تم طبع "إقامة البرهان قدَّمت له نسخة في بيته، فكتب ردًا عليه بضع . مقالات في مجلة الرسالة، فكتبت كتابًا آخر سميته عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه

السلام" وطبع، وقدَّمته إليه أيضًا في بيته، فلم يكتب شيئًا بعده.

۲۲۸

وقد وفقني الله إلى كتابة عدة مؤلفات، وهي: ۱ - "اتحاف الأذكياء بجواز التوسل بسيد الأنبياء" طبع ونفد.

القرآن الكريم

٢ - "الأربعون حديثا الغمارية في شكر النعم" طبع ونفد. " الأحاديث المنتقاة في فضائل سيدنا رسول الله " طبع ونفد. - "الأربعون حديثا الصديقية في مسائل اجتماعية" طبع مرتين.

ه - " الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء" طبع ونفد.

٦ - "إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان" طبع مرتين، وترجم إلى اللغة الأردية. - "الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين" طبع ثلاث مرات. - عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السَّلام" طبع.

۹ - "سمير الصالحين ج ١" طبع مرتين.

۱۰ - "سمير الصالحين ج ٢ " طبع.

۱۱ - حسن البيان في ليلة النصف من شعبان طبع مرات.

۱۲ - "فضائل القرآن" طبع.

۱۳ - "شرح الآجرومية" مخطوط.

١٤ - "فضائل رمضان" طبع.

١٥ - "تخريج أحاديث منهاج البيضاوي في الأصول" طبع.

١٦ - "مصباح الزجاجة في صلاة الحاجة " طبع. ۱۷ - "تخريج أحاديث اللمع" طبع.

۱۸ - "قصة آدم عليه السَّلام" طبع.

بدع التفاسير

۱۹ - "قرة العين بأدلة إرسال النبي إلى الثقلين" مخطوط. ۲۰ - قصة إدريس وهاروت وماروت عليهم السلام " طبع

۲۱ - خواطر دينية" طبع.

۲۲ - "جواهر البيان في تناسب سور القرآن" طبع. ٢٣ - "نهاية الآمال في صحة حديث عرض الأعمال" طبع.

-٢٤

- "بدع التفاسير" طبع.

٢٥ - "الحجج البينات في إثبات الكرامات" طبع. ٢٦ - واضح البرهان على تحريم الخمر في القرآن" طبع. ۲۷ - دلالة القرآن المبين على أن النبي أفضل العالمين" طبع.

۲۸ - " النفحة الإلهية في الصلاة على خير البرية" طبع. ۲۹ - "شرح وجيز على الإرشاد في فقه المالكية" طبع مرات. ٣٠ - "إعلام النبيل بجواز التقبيل" طبع مرتين.

٣١ - "الكنز الثمين في حديث النبي الأمين" طبع.

هذا سوى ما كتبته من مقالات إذا جُمعت جاءت في مجلد.

۲۲۹

ومن تعليقات على كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم" لأبي الشيخ ابن حَيَّان، وكتاب "إعجاز القرآن للخطابي، و"المقاصد الحسنة" للسخاوي وكتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة" لابن عراق، و"تأييد الحقيقة العليَّة" للسيوطي، ورسائل أخرى له أيضًا، و "شرح الأمير على مختصر خليل" في فقه المالكية، وغير ذلك، ونسأل الله المزيد من فضله.

ولما ذهبت إلى فاس أوّل مرة صعب عليَّ العلم، واستغلقت أبوابه فكتبت

۲۳۰

القرآن الكريم

إلى مولانا الأستاذ الإمام الوالد - رضي الله عنه - أشكو إليه حالتي، وأستشيره في اتخاذ مدرس خاص يفهمني الدروس، فأجابني بألا أستعين بمدرس إطلاقا، وأمرني باستذكار الدروس والحضور على المشايخ، سواء أفهمت أم لم أفهم، وقال لي: العلم لنا مضمون ، وعمَّا قريب يفتح الله عليك. وكذلك كان، فلم تمر سنة حتى فتح الله عليَّ وله الحمد، ثُمَّ تاقت نفسي للسفر إلى مصر، وطلبت منه ذلك، قال لي: ستذهب إليها إن شاء الله، ولكن أحب أن تذهب إليها عالما يحتاج إليك علماء مصر.

وقد حقق الله كلامه، فاحتاج إلى منهم كثيرون في مقدمتهم المرحومون المشايخ بخيت والدجوي واللبان والخضر حسين.

وكذلك حقق الله بشارته لي في كتاب بعث به إليَّ وأنا بمصر، قال فيه: ولا بد أن تكون عالما كبيرًا، ومحققا شهيرًا، وقد رزقني الله والمنة له التحقيق في علوم النحو والأصول والمنطق والحديث بفنونه الثلاثة، مع المشاركة التامة في علوم الفقه والبلاغة وغيرها (۱).

(۱) مع أني لم أتلقى علوم البلاغة عن أحدٍ إلا مواضع من شروح أوضحها لي سيدنا الأستاذ الوالد رضي الله عنه، بل عكفت على مطالعة "عقود الجمان" وشرحه، و"المقامات الحريرية" وشرحها للشريشي، وهي ملأى بأنواع البديع، ومما ساعدني على فهم علوم البلاغة تمكني في علم العربية الذي يعتبر أساسا لها ومهادا ودرست "الجوهر المكنون" للطلبة بالأزهر، كما ذاكرت لطلبة العالمية بالقسم العالي للأزهر "مختصر السعد بحاشية البناني" وتقرير الإنبابي، ومما يذكر أن بعض أولئك الطلبة رغب إلى شقيقنا الحافظ أبي الفيض أن يذاكر له العلوم المقررة عليهم في الامتحان

بدع التفاسير

۲۳۱

وحافظتي قويَّة والحمد لله، واطلاعي كبير بفضل الله، ولهذا أعجبت بالمرحوم الكوثري الذي كان يرضيني اطلاعه الواسع، وخبرته التامة بالرجال، ويمكن أن أقول تقريرًا للواقع بعد وفاة سيدنا الأستاذ الإمام الوالد رضي الله عنه، وشقيقنا الحافظ أبي الفيض، والشيخ بخيت، والشيخ الكوثري، والشيخ محمد الخضر حسين، لا يوجد عالم يحوز تقديري، ويُرضي معرفتي

واطلاعي، وكنت أعد نفسي ثالثًا للكوثري والخضر حسين.

ولا أقول هذا فخرًا؛ وأي فخر لمن ينتظر الموت بين لحظة وأخرى؟! وإنما أقوله تعريفًا بنفسي واقتداءً بيوسف الصديق الذي قال لملك مصر : اجْعَلْنِي عَلَى خَزَايِنِ الْأَرْضِ إِنِ حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: ٥٥] وتأسيا بعلماء هذه

وهي "تفسير النسفي"، و"الإحكام" للآمدي في الأصول، و"مختصر السعد على التلخيص" في البلاغة، و"المسايرة" في التوحيد، و"الخبيصي على تهذيب السَّعد" في المنطق، فاعتذر له، وأحاله عليَّ، فاستقلَّني في نظره وكنا حديثي عهد بالحضور إلى مصر، لم يمر علينا فيها أكثر من سنة - لكنه اضطر أن يأتي إلي، فذاكرت له ولإخوانه هذه العلوم في مدى أربع سنواتٍ هي مدة القسم العالي، وصار من إعجابه بي

ووثوقه بعلمي، لا يثق بفهمه في أي مسألة حتى يعرضه علي وأوافقه عليه. ودرست لبعض الطلبة الألبانيين (الفاتحة) وأوائل (سورة البقرة) من "تفسير البيضاوي"، وأوائل شرح "التحرير" لابن أمير الحاج في الأصول، واطلعت من كتب الحديث والأصول والتفسير وغيرها على شيء كثير جدا. وكذلك كتب التراجم والرجال والطبقات على اختلاف أنواعها واستدركت على الحفاظ صحابيا لم يذكروه، وهو الحارث بن سعيد عم عمير بن سعيد، وحديثه في "مستدرك الحاكم" بإسناد صحيح، ولي استدراكات أخرى غيره. وبالله التوفيق.

۲۳۲

القرآن الكريم

الأمة وصلحائها، ولا يفوتني أن أذكر حصولي على إجازات من علماء الحجاز واليمن وتونس وغيرها، وحُجَّ بي وأنا صغير حين حجّت العائلة، ثُمَّ أديت فريضة الحج . سنة ۱۳۷۸ وكنت مالكيًّا، ثُمَّ صرت شافعيًّا، ثُمَّ تركت التقليد، لا إزراء على الأئمة رضي الله عنهم؛ ولكن لأنَّ التقليد إنَّما هو للعوام الذين لا يعرفون قواعد الاستنباط والاستدلال، ومن عرفها وتمكن في معرفتها لا حاجة به إلى التقليد على أني لا أفتي إلا على مذهب مالك أو الشَّافعي؛ لأني لا أحب أن أحمل أحدًا على اجتهادي ورأيي إلَّا في مسألة وضح دليلها وعرف

طريقها.

ورأيت مُبشِّراتٍ متعدّدة فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ومعه الشيخان وغيرهما، ورأيت جبريل عليه السَّلام وأخبرني أنه جاء من الأبواء. ورأيت عليا عليه السَّلام، ورأيت الحافظ ابن حزم مرات وابن العربي المعافري، وعزّ الدين ابن عبد السلام وحصلت بيننا مذاكرة في قاعدة علمية والسيد أحمد البدوي رأيته مرتين، ورأيت أبا الحسن الشاذلي شارح "الرسالة" والجمل محشي "الجلالين"، وجدنا أبا العباس ابن عجيبة.

ورؤيت لي مُبشِّرات كثيرة، منها أنّي زرت مرة قرية أويش الحجر من جملة زياراتي لها، وألقيت درسًا حديثيًا كعادتي مع أهل البلدة، وانجر الكلام إلى موضوعات متنوعة حتى انتهى إلى أشراف المغاربة وهل هم ينتمون إلى الحسين؟ فأخبرتهم أنَّ معظم الأشراف عندنا ينتمون إلى الحسن بن علي عليهما السلام، وقليل منهم ينتمي إلى أخيه الحسين عليه السلام، وسألوني أن أملي عليهم نسبي فأمليته عليهم؛ لأني حفظته وأنا في الكتاب، فقال لي الشيخ

بدع التفاسير

۲۳۳

حقا. قلت:

الحسيني -وكان إمام مسجد وسط البلد ومعلم القرآن يتبرك به أهل البلد لصلاحه وعزوفه عن الدُّنيا رحمه الله -: أشهد أنَّك شريف منسب . وما ذاك؟ قال: رأيت الليلة الماضية النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وقبلت يده، ووجدت شخصا يقعد بجانبه فسألت عنه، فقال لي: هذا ولدي وسيتلو عليك

نسبه، فأصبحت بيننا على غير ميعاد، وتلوت علينا نسبك.

والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

موسوعة

العلامة المتفنّن الجامع بين المَعْقُولِ والمَنْقُولِ

سيدي الشريف عبدالله بن محمد بن الصدِّيق الغماري الحسني (١٣٢٨ - ١٤١٣) الله

قدم لها

الشريف الدكتور

عبدالمنعم بن عبدالعزيز بن الصديق

إشراف

الدكتور محمود سعيد بن محمد ممدوح

المجلد الخامس

قصص الأنبياء عليهم السلام

وتحتوي على:

قصص الأنبياء عليهم السّلام

۱ - قصة آدم عليه السَّلام. ٢ - قِصَّة إدريس عليه السّلام.

- قِصَّة داود عليه السَّلام.

٤ - قِصَّة سُلَيمانَ عليه السّلام. ه - قِصَّة هَارُوتَ وَمَارُوتَ .

۱ - قِصَّةُ آدم عليه السَّلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الذِينَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضالين ) [الفاتحة: ١ - ٧].

اللهمَّ صَلِّ وسَلّم على نبيك المُصْطَفى، ورَسُولِكَ المُرتضَى، سيدنا محمد سيد ولد آدمَ ورَحْمَتِكَ الْمُهَدَاةِ إلى جميع العالم، وارضَ اللهم عن آلِهِ وعِتْرَتِهِ وصَحَابَتِهِ، وعن كلِّ مَن اتَّبَعَ هَدْيَهُ وسَلَكَ نَهْجَ شَرِيعَتِهِ».

قصة آدم الي

مقدمة

٢٤٣

عني القرآنُ الكَريمُ بقَصَص الأنبياء عِناية بالغة، يدل عليها ذِكرُه للقِصَّة ثُمَّ إعادتها مرتين أو أكثر بأساليب وإن اختلفت بالإجمال والتفصيل تتشابه في إشراق الديباجة، ونُصوع اللفظ ، وسمو المعنى وجلال العبرة، وهذا من الأدلة على أنه كلام الله جلَّ عُلاه؛ لأنه لا يتيسر لشخص كيفما كانت فصاحته - أن يكتب قصَّةً واحدةً مرتين تتساوى أجزاؤهما في قوة الأسلوب، وبلاغة التعبير. الحكمة في تكرير القِصَّة في الكتاب الكريم - إلى جانب الإعجاز الذي تتضمنه - تثبيت القلب، وتقوية الإيمان فيه، وتمكين العِظة منه، والثّقة بنصر الله لعباده المخلصين المصلحين والتأسي بالصَّفوة المختارة من المقربين، هذا إلى ما تفيده من أحكام شرعيَّة، ومسائل عِلْميَّة، وأخلاق كريمة، وآداب قويمة، ومعرفة بسير الماضين، تُمكّن من دَرِّسِ أحوالهم وعاداتهم، وما اعتراهم من تقلبات الكون، وحوادث الزمان.

ومن

تلك مقاصد في الذكر الحكيم قلما يعرض لغيرها ثما يعتبر من المتممات، ولا يدخل في الصميم. لكن إذا ورد بيانه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث صحيح أو حسن كتسمية صاحب موسى بالخضر، وفتاه بيُوشَع عليهم السلام - لم يكن بد من قبوله والتصديق به، وليس من الجائز رَدُّه بعُذْرِ من الأعذار - كما فعل بعض (1) المعاصرين- لأنه ابتداع وفُسُوقٌ،

(۱) فمنهم مَن رَدَّ الحديث الوارد في "الصحيحين" وغيرهما من طرق: عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في قوله تعالى: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا

٢٤٤

قصص الانبياء

منْ عِبَادِنَا [الكهف: ٦٥] قال: هو الخضر». وذكر قصته مع موسى عليهما

السلام.

وهذا الحديث بَلَغَ حَدَّ الشُّهرة والاستفاضَة، ومع ذلك رَدَّه بعض الجهلة الأزهريين؛

بدعوى أنَّ القرآن لم يعين الخضر ولا يُوشَع فتى موسى !!

وهو جهل بالقواعد الأصولية، وانحراف عن السُّنَّة النبوية. ومثله في ذلك ردُّ الشيخ عبدالوهاب النجّار بعض الأحاديث في "الصحيحين" بدعوى أنها أحادٌ لا تفيد اطمئنان القلب، وسنعرض لدحض دعواه بالتفصيل في مواضعها من هذه القصص إن شاء الله.

بل ذكر في القواعد التي سار علي ضوئها في قصص الأنبياء" قاعدتين هما: (رقم ٤) ونصها: «الخبر إذا كان روايته آحاد فلا يصلح أن يكون دليلا علي ثبوت الأمور الاعتقاديَّة؛ لأن الأمور الاعتقاديَّة الغَرَضُ منها القَطْعُ، والخبر الظَّنِّيُّ الثبوت أو الدلالة لا يُفيد القَطَّعَ». ( ورقم (۷) ونصها: «المعجزات لا تثبت بخبر الآحاد؛ لأن المطلوب فيها اليقين، وخبر الآحاد لا يقين فيه». وعلى أساس هاتين القاعدتين استباح لنفسه أن يرد الأحاديث الصحيحة الثابتة في الكتب الستة وغيرهما، وقد يكون ردُّه في بعض الأحيان مصحوبا بسخرية من الحديث المردود في نظره، وتلك وقاحة قبيحة.

أضف إلى ذلك أن تينك القاعدتين بالإطلاق الذي أراده يُخالف إجماع العلماء، ولا

يسندهما شيء من القواعد.

ذلك لأن الاعتقادات على ثلاثة أقسام:

إلهيات وهي ما تتعلق بالإله سبحانه وتعالى وجوبا واستحالة وجوازا.

قصة آدم ال

٢٤٥

ونبويات وهي ما تتعلق بالأنبياء والملائكة كذلك. وسمعيات: وهي ما تتعلق بما بعد الموت من حَشْر وحساب وعذاب ونعيم وما إلى

ذلك.

فالإلهيات يعتمدُ قسم الواجب منها على الدليل القطعي، وأما القسم الجائز فيكتفى فيه بالخبر الصحيح، لأنه فرع عن ثبوت القدرة الله تعالى، وشمولها لكل مقدور، وقد

أثبتهما الدليل القطعي في قسم الواجب.

والنبويات يعتمد منها علي الدليل القطعي شيئان:

١ - إثبات النبوة وحاجة الناس إليها.

٢ - إثبات نبوة شخص مُعيَّن، أو تعين مَلَك بالذات، فلا تجزم بأن شخصا نبي أو من الملائكة إلا إذا ثبت بالخبر الذي يفيد اليقين.

وأما المعجزات وسائر السمعيات فيكتفى فيها بالحديث الصحيح بلا نزاع بين أهل السُّنَّة، لأنهم أجمعوا على أن ما جاز في العقل وورد بوقوعه السمع وجب وقوعه

.

وحمله علي ظاهره، وممن صرح بهذا القاضي أبو بكر ابن العربي في "الأحكام"، والقاضي عياض في "الشفا" و "شرح مسلم"، والإمام النووي في "شرح مسلم"، والإمام ابن المنير في "حاشية الكشاف"، والحافظ ابن حجر في "شرح البخاري"، والعلامة السنوسي في "شرح الكبرى"، وغيرهم .

وصرح الحافظ ابن كثير في مقدمة "تاريخه " أنَّ الاعتماد والاستناد فيهما يذكر من مبدأ الخلق، وأخبار الأنبياء، وأشراط الساعة، وأحوال القيامة، وصفة الجنة والنار على

كتاب الله وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ما صح نقله أو حَسُن. وسبقه إلى هذا المعنى أيضًا الحافظ البيهقي في كتاب "الاعتقاد"، و"دلائل النبوة"، و " الأسماء والصفات " بل هو إجماع كما أسلفنا.

٢٤٦

قصص الانبياء

وهو بالتالي رد لكلام الله تعالى حيث وكَلَ لنبيه عليه السلام بيان ما نزل في الذكر

الحكيم وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: ٤٤]. ومن المسلَّم به أنَّ أخبار المعصوم لا يمكن احتمال تطرق الخطأ إلى شيء منها، كما قيل باحتمال ذلك في اجتهاده عليه السَّلام، على رأي (١) شاذ

ومما لا شك فيه أنَّ القرآن الكريم أثبت نبوة نبينا عليه السلام ونبوة غيره من الأنبياء، وسجل معجزاتهم التي تحدّوا بها ،قومهم، فكل معجزة بعد ذلك روتها كتب السُّنَّة صادرة عن أحد الأنبياء، ومنهم نبينا - عليهم السلام - لا يشترط فيها اليقين؛ لأنها لم يقع بها تحد، ولا توقف عليها إثبات النبوة.

فلهذا أجمع أهل السنة علي الاكتفاء فيها بخبر الآحاد إجماعا عمليا مستمرا، تلقاه الخَلَفُ عن السَّلَفِ، وحَذَا فيه الآخِر حَذْوَ الأَوَّل.

على أن خبر الآحاد المحتف بالقرائن ومنه خبر "الصحيحين" - يفيد اليقين عند جمهور المحققين، ولم يأتِ من خالفهم بحُجَّةٍ ناهِضَة، وانظر كتابنا "عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام".

(تنبيه): الأمر الخارق للعادة إذا وَقَعَ به التحدي كناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء الموتى، والقرآن الكريم؛ سُمِّي معجزة، وإذا لم يقع به التحدي كالخوارق المروية في كتب السنة عن كثير من الأنبياء؛ سُمِّي آيةٌ. ففرق الله ما بين الآية والمعجزة فرق ما بين الأعم والأخص، فكل معجزة آية دون عكس؛ قال العلامة الأبي في "شرح مسلم" في الكلام علي حديث رد الشمس ليوشع: «وقد علمت مما قدمنا أنَّ الذي يطلب فيه اليقين هو المعجزة لا الآية»، والله

تعالى أعلم. (۱) وأشار التاج السبكي في "جمع الجوامع" إلى خطأ هذا الرأي الشاد، بقوله: والصواب أن اجتهاده عليه السلام لا يخطئ.

قصة آدم الي .

٢٤٧

لبعض العلماء، لأن دخول الخطأ في الخبر لا يكون إلا عن غفلةٍ أو قلة ضبط،

والعقل يقضي بنفيهما عنه عليه السّلام نفيا جازمًا. أما ما جاء في الإسرائيليات فمن المحتم ردُّه إذا خالف ظاهر القرآن أو ما ثبت في السنة، وإن وافقهما فالاعتماد عليهما دونه.

وقد يُستأنس بما ينفرد به دونهما إذا كان يدخل في باب الوعظ وترقيق القلوب، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار : خوفنا يا كعب. وقد انتقد كثير من كتب التفسير - كـ"تفسير الخازن" - لحشوها كثيرًا من الإسرائيليات وإقحامها في تفسير جمل من الآيات، وهو صادف محله، لا سيما

إذا لاحظنا أن فيها مخالفة للمعقول ومَساسًا بمقام الأنبياء عليهم السلام. مثل ما جاء فيها من مرض أيوب، وفتنة داود، وخاتم سليمان، وغير ذلك مما رسخ في أذهان قراء تلك التفاسير، حتى ارتقى إلى درجة اليقينيات أو المسلمات بحيث لا يجري علي لسانهم ذكر نبي في محاضرة أو محاورة حتى ترتسم في مخيلتهم صورته ملفوفةٌ في إطار من تلك الخرافات، مع أنهم لو تأملوا سياق القرآن لوجدوه ينفي أغلب ما نقلوه، أو لا يفيده على أقل تقدير. وكما لا جدال فيه أن مقام الأنبياء لا يجوز أن يوصم بما يَخْدِشُ العِصْمة، ولا ينبغي أن تؤوّل أعمالهم بما يُنزلها عن درجة القُدُوة أُوْلَيْكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ

ومن الإجرام القبيح ما هَذَى به بعض مُبتدعة الأزهر في كُتيب آثم سماه "اجتهاد الرسول"، ولو أراد مُستشرِقُ أن يطعن في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما استطاع أن يطعن بأكثر مما فعل ذلك المبتدع الجاهل، وقد شرعت في دحض مفترياته

وكشف سواته.

٢٤٨

قصص الانبياء

فيهدَ هُمُ اقْتَدِهُ ﴾ [الأنعام: ٩٠].

فعلى الباحث أن يراعي ذلك كل المراعاة، مضافًا إلى وجوب التقيد بظاهر القرآن الكريم وصحيح الأحاديث.

وهذه سلسلة من قصص الأنبياء وافيةٌ بالشروط السابقة، خالية مما انتقد على غيرها من كتب القصص والتفسير، حاليةٌ بتحقيقات رائقة، ونكاتٍ شَائِقَةٍ

استنبطتها بفضل الله من مكنون الآيات القرآنيَّة، ومَضْمُون الأخبار النبوية. وتناولنا بعض ظواهر النصوص بما يزيل عنها الغموض ويُجلي الإشكال، وكشفنا ما انحدر فيه بعض المعاصرين من انحراف عن الجادة، وميل عن الصواب، عامدين إلى تحقيق البحث العلمي مُجرَّدًا عن الانحياز لرأي مُعيَّن ما

لم يسنده دليل، مُستمدين من الله التوفيق فيما نقصد إليه.

ونبتدئ الكلام بقصة آدم عليه السلام، بما يجد القارئ تفصيله في الفصول

التالية.

قصة آدم الطي

قبل خلق العالم

٢٤٩

كان الله ولم يكن شيء غيره، فلم يكن زمان ولا مكان، ولا قطر ولا أوان، ولا عرش ولا مَلَكٌ، ولا كوكبٌ ولا فَلَكٌ. ثُمَّ أَوْجَدَ العالم من غير احتياج

إليه، ولو شاء ما أوجده. فهذا العالم كله بما فيه من جواهر وأعراض حادث عن عدم، ليس فيه شائبةٌ مِن قِدَم حسبما اقتضته قضايا العقول وأيدته دلائل النقول وأجمع عليه

المليون قاطبة إلا شذَّاذًا من الفلاسفة قالوا بقدم العالم، وهم كُفَّارٌ بلا نزاع. قال ابن حزم في "مراتب الإجماع : باب : من الإجماع في الاعتقادات بما يكفر من خالفه بإجماع: اتفقوا أنَّ الله عزّ وجل وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، ثُمَّ خَلَقَ الأشياء كلها كما شاء، وأنَّ النَّفْس مخلوقة، والعرش مخلوق والعالم كله مخلوق». اهـ

.

ونازعه بعض العلماء في هذا الإجماع القطعي لزعمه الفاسد وجود حوادث لا أول لها، يعني بذلك قدم العالم بالنوع، وهذا من مستشنع المسائل المنسوبة له، كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".

أول المخلوقات

في "صحيح البخاري: عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيءٌ غَيْرُهُ، وكان عَرْشُهُ على الماء، وكَتَبَ فِي

الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السمواتِ والأَرضَ».

قال العلماء: المراد بـ«كان» في الجملة الأولى: الأزليَّة، وفي الثانية: الحدوث

بعد العدم.

٢٥٠

قصص الانبياء

وفي "صحيح مسلم : عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ اللهَ كَتَبَ مَقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عَرْشُهُ على الماءِ».

وفي "مسند الإمام أحمد : عن أبي رزين العقيلي مرفوعا: «إِنَّ الماءَ خُلِقَ قبل العَرْشِ». صححه الترمذي.

يؤخذ من هذه الأحاديث أنَّ أوَّل المخلوقات: الماء، ثُمَّ العَرْشُ، ثُمَّ القَلَم. لأن الكتابة حصلت بعد كون العرش على الماء، بل جاء ذلك صريحا فيما رواه ابن شاهين في "الصحابة" : عن نافع بن يزيد الحميري أنه أتى مع وفد من اليمن - غير الأشعريين - إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فسألوه عن أول هذا الأمر، فقال: «كان الله لا شيء غيره، وكان عَرْشُهُ على الماء، ثُمَّ خَلَقَ القَلَمَ، فقال: اكتب ما هو كائنٌ ثُمَّ خَلَقَ السمواتِ والأرض وما فيهنَّ». فهذا صريح في ترتيب المخلوقات.

ولا يُعارضه ما رواه أحمد وصححه الترمذي: عن عبادة بن الصامت مرفوعا: «أوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، ثُمَّ قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم

القيامة».

لأنَّ أوَّلية القَلَم إضافيَّةٌ بالنسبة لما عَدَا الماء والعرش، أو المراد: أول ما

خَلَقَ الله من نوع ما يكتب به، فهي أولية نوعية.

ولم يصح غير هذا في ترتيب المخلوقات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا نجزم فيه بشيء ، ونكل علمه إلى الله تعالى.

وروى البيهقي وغيره بإسناد ضعيف عن ابن عباس: أنه سئل عن قوله

قصة آدم اللي

٢٥١

تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ [هود: 7]. على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح». وروى البيهقي أيضًا عن مجاهد قال: بدء الخلق: العرش والماء والهواء». أما حديث: «أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ العَقْلَ»، فهو حديث واه بجميع طرقه، لا

يصح اعتماده، وعلى فرض ثبوته فهو مؤوّل بنحو ما أولت به أوَّلية القلم.

وكذلك لم يصح أن أول المخلوقات اللوح المحفوظ أو الروح. وحديث: أوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ نورُ نبيّك يا جابر» ذكره غير واحد من أصحاب السير والمولد النبوي، وعزوه إلى عبد الرزاق والبيهقي في "الدلائل"، وهو عزو غلط فلا وجود له فيهما، ونصَّ السيوطي في "الحاوي" على أنه ليس له إسنادُ يُعتمد عليه.

وأزيد على ذلك أنه حديث موضوع، وقفت عليه في كتاب "تلقيح

(۱)

الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان" لمحيي الدين ابن العربي فإذا هو حديث طويل ركيك، يجزم من قرأه ببطلانه.

وكذلك حديث: كنتُ نورًا بين يدي ربي قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام. هو موضوع، وإن رُوي من طريق زين العابدين عن أبيه عن جده

(۱) بـ (ال) كما هو مكتوب بخطه على أجزاء من الفتوحات المكية" بدار الكتب المصرية، وكما قرأته بخطه على أجزاء حديثية، ولأن أهل الأندلس يسمون «العربي» كما لا يزال المغاربة يسمون بذلك إلى الآن، أما الذين يقولون: ابن عربي، فهم واهمون ويزعم بعضهم أنَّ هذا للفرق بينه وبين ابن العربي المعافري المالكي، وهو وهم على

وهم، وقد وقع في هذا الوهم كثيرون منهم صاحب "القاموس".

٢٥٢

قصص الانبياء

عليهم السلام، فإنَّ الآفة فيه ممن قبل زين العابدين، وهو مكذوب عليه. نعم صح في الحديث من طرق أنه عليه السَّلام كان نبيا وآدم بين الرُّوح والجسد، وهو يفيد تقدُّم خلق روحة الشريفة وإفاضة وصف النبوَّة عليها قبل نفخ الروح في آدم.

ومن

ومن حمل ذلك على ثبوت العلم بنبوته فهو مخطئ من عِدة وجوه بينتها في " الأحاديث المنتقاة في فضائل رسول الله"، أوضحها: أنَّ المخلوقات كلها ثابتة في علم الله أزلا، فلا معنى لتخصيص النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذلك. اللطائف قول الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف": «وسماه الله مُبشِّرًا ونذيرا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، فقيل سراجا للمؤمنين في الدنيا، ومنيرا للمذنبين يوم القيامة بالشفاعة، وسُمِّي سراجا لأن السراج الواحد يوقد منه ألف سراج ولا ينقص من نوره شيء، كذلك خَلَقَ الله الأنبياء من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينقص من نوره شيء». اهـ

عناصر خلق المخلوقات

في "صحيح مسلم : عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار،

وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم».

وأخرج عبدالرزاق وإسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي: عن طاووس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو فسأله: ممَّ خُلِقَ الخَلْق؟ قال: «من الماء والنور والظلمة والرّيح والتراب». قال الرجل: فممَّ خُلق هؤلاء؟ قال: «لا

قصة آدم اللي أدري».

٢٥٣

ثُم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال له مثل قول عبد الله بن عمرو. قال: فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله: ممَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قال: «من الماء

والنور والظلمة والريح والتراب». قال الرجل: فممَّ خُلق هؤلاء؟ فتلا عبد الله بن عباس : وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: ١٣ ] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من بيت النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم.

قال البيهقي: «أراد أنَّ مصدر الجميع منه، أي من خلقه وإبداعه واختراعه، خَلَقَ الماءَ أوَّلا، أو الماء وما شاء من خَلْقه لا عن أصل، ولا على مثال سَبَقَ ثُمَّ جعله أصلا لما خَلَقَ بعده» . اهـ والخلاصة: أن الله أوجد هذه العناصر من عدمٍ ثُمَّ جعلها مادة لسواها من

المخلوقات.

الملائكة

مخلوقون من نور كما سبق، وهم أجسام لطيفة أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة غير زرية (۱) ، لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ولا يتناسلون ولا ينامون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، عباد الله المكرمون لا

(۱) فلا يظهر الملك في صورة كلب أو ثعبان مثلا، بخلاف الجن فإِنَّ أغلب تشكلهم في

صور زرية .

٢٥٤

قصص الانبياء

آفة

يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون رسل معصومون (۱) لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون جَاعِلِ الْمَلَكَةِ رُسُلًا أُولِ أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَعَ [فاطر: 1] وهم كثير لا يحصيهم العد وَمَايَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: ۳۱] مسكنهم السموات وما فوقها إلى سدرة المنتهى، وينزلون إلى الأرض لتنفيذ ما أمروا به من أعمال لا يضعفون ولا يهرمون ولا تعتريهم آ من الآفات، ولا يموتون إلا عند النفخة الأولى نفخة الموت لجميع الأحياء في هذا الوقت، وهم أفضل من جميع البشر خواصهم وعوامهم إلَّا الأنبياء، ومن زعم أن بعض البشر غير الأنبياء - أفضل منهم أو بعضهم فقد أخطأ خطأ كبيرا وحاد عن الصواب. ومن زعم أن لا عقل لهم أو نفى عنهم الاختيار فقد دخل في الضلال من أوسع باب.

ومن الخرافات ما يُحكى في بعض الكرامات أن ولي الله سيدي عبدالرحيم الغماري الشهير بالقنائي رضي الله عنه شفع إلى الله في مَلَك استشفع به، فقبل الله

شفاعته !!.

(۱) وكثير من الأشاعرة يزعم عدم ،عصمتهم ، وهو خطأ كبير، وإذا تتبعت آيات القرآن وجدته يشفع ذكر الملائكة بالثناء عليهم، ومدحهم بالطاعة الله والانقياد لأوامره، ولم ينسب إلى واحد منهم تقصيرًا أو عصيانا، والسُّنَّة على منوال القرآن في ذلك، فلم يذكر ملك في حديث صحيح إلا مقرونا بالتعظيم والتبجيل، إلا هاروت وماروت ففي كونهما من الملائكة خلاف، وعلى القول بكونهما ملكين فما ذكر في قصتها مع الزهرة من نسج الإسرائيليات، وإن رفعت أحاديث بذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرفعها

خطأ من بعض الرواة، وسنبين ذلك في محله من هذه القصص بحول الله.

قصة آدم اللي

٢٥٥

ومقام سيدي عبد الرحيم في غير حاجةٍ إلى هذه الترهات، ولكن قاتل الله الغلو والجهل، وليس لأحد أن يحتج في نفي العصمة عنهم بقصة هاروت وماروت فإنها من نسج خيال الإسرائيليات، وسيأتي بيان ذلك في موضعه بحول الله تعالى.

الجن

مخلوقون من مارج . مارج من نار، أعطوا قدرة التشكل على أشكال مختلفة يتناكحون ويتناسلون، وإبليس أبو الجن إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ، وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُةٌ [الكهف: ٥٠] فيهم المسلم والكافر والطائع والعاصي، طائعهم يُثاب بالجنة (1)، وعاصيهم يعاقب

بالنَّار.

وقد ذكر شيءٌ من أحوالهم في سورتي (الرحمن) و(الجن)، واختلف في جواز التزاوج بينهم وبين الإنس عقلا والراجح إمكانه، وقال الثعالبي زعموا أنَّ التناكح والتلاقح قد يقعان بين الإنس والجن وقال الله تعالى وَشَارِكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَدِ ﴾ [الإسراء: ٦٤]. وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا جامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتُهُ ولم يُسَمَّ؛ انطوى

(۱) وبعض العلماء زعم أنَّ الجنّ لا يدخلون الجنة، وثواب مطيعهم أن يجار من النار، وهذا القول لا دليل عليه، بل القرآن يردُّه فإنَّ سورة (الرحمن) كلها خطاب للإنس والجن، وفيها قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ : [الرحمن: ٤٦ - ٤٧] إلى أخر السورة، وذلك صريح في دخول الجن للجنة، كما يدخلها الإنس.

٢٥٦

قصص الانبياء

الشيطانُ على إخلِيلِه فجامَعَ مَعَهُ».

وقال ابن عباس : إذا أتى الرجل امرأته وهي حائض سَبَقَهُ الشيطانُ إليها

فحملت فجاءت بالمخنث، فالمخنثون أولاد الجنّ» . اهـ رواه ابن جرير قلت: والحديث المذكور هو من كلام مجاهد وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

وأما الزواج الشرعي؛ فقد كَرِه الحسن البصري وقتادة والحكم بن عتيبة وإسحاق بن راهويه نكاح الجن، وفي "الفتاوى السراجية" من كتب الحنفية:

لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء لاختلاف الجنس». وكذا أفتى قاضي القضاة شرف الدين ابن البارزي الشافعي بعدم زواج الإنس من الجن مستدلا بقوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَجا [النحل: ۷۲] وهو يؤول إلى التعليل باختلاف الجنس كما سبق عن "الفتاوى السراجية". وروى حرب الكرماني في "مسائله" عن أحمد وإسحاق من طريق ابن لهيعة، عن يونس بن يزيد عن الزهري قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه

.

وآله وسلم عن نكاح الجن». وهذا مرسل، وابن لهيعة فيه كلام.

وروى حرب أيضًا عن زيد العمي قاضي هراة، أنه قال: اللهم ارزقني جنيَّة أتزوجها، قيل له يا أبا الحواري وما تصنع بها؟ قال: تصحبني في

أسفاري، حيث كنت كانت معي.

وروى أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي في كتاب "الإلهام والوسوسة" في باب نكاح الجن منه، قال: حدثنا مقاتل: حدثني سعد بن داود الزبيدي،

قصة آدم الي

٢٥٧

قال: كتب قوم من اليمن إلى مالك بن أنس رضي الله عنه يسألونه عن نكاح الجن، وقالوا: إنَّ هنا رجلا من الجن يخطب إلينا جارية، يزعم أنه يريد الحلال، فقال: ما أرى بذلك بأسا في الدين، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل، قيل

لها من زوجك؟ قالت من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك». اهـ وهذا قول يدل على الحكمة وبعد النظر، وهو يتفق مع الأخذ بسَد الذريعة الذي اعتبره الإمام مالك في كثير من المسائل.

خلق السموات والأرض

بعد كتابة مقادير الأشياء بخمسين ألف سنة خلق الله السموات والأرض، وكان خلق الأرض قبل خلق السموات، لكن دَحوها كان بعد خلق السموات أَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّنَهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُعَهَا ال وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَنَهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْ عَنْهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَهَا مَنَعًا لَكُمْ ولا نعم [النازعات: ۲۷ - ۳۳] والأرضون سبع مثل السموات واللَّهُ الَّذِى خلق سبع سَمَوَاتِ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: ١٢] وهي متراكبة بعضها تحت سَبْعَ بعض، كما يفيد ظاهر لفظ «مثل» في الآية السابقة. وجاء صريحا في بعض الأحاديث والآثار ، ومَن حَمَلها على القارات أبعد وقال ما لا دليل عليه.

خلق آدم عليه السلام

لما أراد الله أن يخلق آدم أمر ملك الموت فقبض قبضةً من الأرض من تراب، فجعله طينًا أي مخلوطاً بماء ثُمَّ تركه حتى إذا كان حمةٌ مَسْنونًا، أي مُتغيّرًا خَلَقَه وصوره جسمًا كاملًا بلا روح، ثُمَّ تركه حتى صار صَلْصَالًا كالفخار -

٢٥٨

قصص الانبياء

أي يصل ويصوت إذا ضرب وكان يمر به إبليس فيفزع منه ويقول: «لقد

خلقت لأمر عظيم، فلما رآه مُجوَّفًا عَلِم أَنه خَلْقُ لا يتمالك. ثُمَّ نفخ الله فيه من روحه وكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه

فعطس، فألهم أن يقول: «الحمد الله». فقال الله: «يرحمك ربك». فسمي آدم لأنه خُلق من أديم الأرض، وكانت القبضة التي خلق منها مأخوذة من سلالة الأرض المشتملة على خلاصة ما فيها، فجاء أولاده على قدر الأرض، منهم الأبيض والأحمر والأسمر والأسود، والسهل والحزن وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك (۱).

سجود الملائكة لآدم عليهم السلام

قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَيْكَةِ إِنِّي خَلِقُ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَرٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَيْتُهُ، وَنَفَحْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَيْكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: ۲۸

(۱) روى الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة مرفوعًا: «الهَوَى والبَلاءُ والشَّهُوةُ مَعْجُونَةٌ بطينة آدم». وفي "مسند أحمد" عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِن قَبْضَةٍ قَبَضَها مِن جميع الأرضِ فجاء بنو آدم

على قَدْرِ الأرض، منهم الأبيض والأحمر والأسمر والأسود وبين ذلك، والسَّهْلُ والحَزَنُ وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك».

ورواه أبو داود، والترمذي، وابن حِبَّان في "صحيحه"، وقال الترمذي: «حسن

صحيح".

قصة آدم ال

٢٥٩

- ۳۱] الآيات.

وكان هذا سجود التكريم والتحية في جميع الشرائع، حتى حرمته شريعة الإسلام، فلا يجوز الآن سجود أحدٍ لأحدٍ لا على وجه التكريم ولا على وجه التحية، كما قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم لمعاذ حين أراد أن يسجد له: «لا يسجد أحد لأحد ولو كنت آمِرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها مِن عِظَمِ حَقِّهِ عليها».

نكتة علمية في سجود الملائكة

ا

نقل المقري في "نفح الطيب" عن القاضي أبي البركات محمد بن الحاج السلمي، وهو من شيوخ ابن خلدون، أنه استدل لتفضيل الملائكة على البشر بأن الله أسجدهم لآدم، فنظر بعض الحاضرين إلى بعض وقال جُنَّ القاضي. قال: أتقولون إن أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أمر ابتلاء واختبار؟ قالوا: نعم، قال: أفيختبر تواضع العبد بالخضوع لسيده؟ أم الأمر بالعكس؟ قالوا: إنما يختبر تواضع السيد بالخضوع لعبده. قال: فكذا الملائكة وآدم لو لم يكونوا أفضل منه ما اختبر حالهم بالأمر بالسجود له. فأذعنوا بذلك».اهـ ونظر فيه ابن الحاج في "حاشية المرشد المعين" «بأن الظاهر أنَّ السجود إكرام لا اختبار». اهـ

ولا مانع أن يكون اختبارًا أيضًا للملائكة، لأن أوامر الله لا تخلو أن تكون

اختبارات للمكلَّفين بالإضافة إلى ما فيها من المصالح والحكم لهم. وإذا لوحظ أنَّ عنصر الملائكة وهو النور، أفضل من الطين كان في سجودهم لآدم امتحان أي امتحان، ولولا أنهم معصومون لتمسكوا بأفضلية

٢٦٠

قصص الانبياء

عنصر هم كما تمسك إبليس لعنه الله بكونه خُلق من نار. ومن الأدلة في هذا الموضوع قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْتَهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْتَهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْتَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا لا [الإسراء: ٧٠] ولا شك أنَّ بني آدم أفضل من الجن والحيوان بلا نزاع، ولو ا كانوا أفضل من الملائكة لعبرت الآية بـ (جميع» ولكن التعبير بـ«كثير» للتنصيص على إخراج الملائكة، وأنهم أعلى من أن يدخلوا في هذه المفاضلة. خلافة آدم في الأرض

قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ

لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٣٠].

تخبر هذه الآية الكريمة أنَّ الله قضى باستخلاف آدم في الأرض لعمارتها، والانتفاع بما أودعه فيها من نبات وحيوان ومعادن وغير ذلك هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: ۲۹] ولإقامة الحق، والحكم بالعدل بين أهلها إذا اختلفوا، والاختلاف ضرورة من ضروريات الحياة في هذه الدنيا ولَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: ۱۱۸ - ۱۱۹ ].

لما

ا أخبر

كيف عرف الملائكة أن بني آدم يفسدون

الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفةٌ قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن

يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: ٣٠]. فمن أين علموا ذلك؟

قصة آدم التي

للعلماء في الجواب عن هذا السؤال وجوه

منها : أنهم ألهموا ذلك إلهاما. قاله الحسن البصري.

٢٦١

ومنها: أنهم اطلعوا عليه في اللوح المحفوظ. قاله أبو جعفر الباقر عليه

السلام.

ومنها: أنهم علموا أنَّ الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبًا. نقله الحافظ ابن كثير .

ومنها: أنهم قالوا ذلك بالقياس على الجنّ الذين سكنوا الأرض قبل آدم فأفسدوا فيها وسفكوا الدّماء فبعث الله عليهم جندًا من الملائكة فأجلوهم إلى

جزائر البحور وشعف الجبال وبطون الأودية.

قاله ابن عباس وابن عمر .

ومنها: أنهم استنبطوه من لفظ خَلِيفَةً لأن الخليفة من يكون نائبا في الحكم، وذلك يكون عند التظالم.

ومنها : أنَّ الله أخبرهم بذلك، وإن لم يشر إليه القرآن على طريقته في الإيجاز وحذف ما يعلم بالقرائن؛ لأن الملائكة لا يعلمون الغيب ولا يسبقون الله بالقول، فلم يعلموا إلا بإخباره سبحانه وتعالى (۱).

(1) أخرج ابن جرير عن ابن زيد :قال لما خلق الله النَّار ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا وقالوا: ربنا لم خلقت هذه؟ قال: لمن عصاني مِن خَلْقِي. ولم يكن الله خَلَقَ يومئذٍ إِلَّا الملائكة، قالوا: يا رب ويأتي علينا دهر نعصيك فيه ؟! قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خَلْقًا، وأجعل فيها خليفة، يسفكون الدّماء ويفسدون في الأرض، قالوا:

٢٦٢

قصص الانبياء

كيف ساغ للملائكة أن يراجعوا الله وهم معصومون؟ قال أبو حَيَّان في تفسيره البحر المحيط": «ما كان ظاهر قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ [البقرة: ۳۰] الآية ، مما لا يناسب أن يجاوبوا به الله وكان من القواعد الشرعيَّة والعقائد الإسلامية عصمة الملائكة من المعاصي والاعتراض لم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحشوية - احتاج أهل العلم إلى إخراج الآية عن ظاهرها ، وحملها كل قائل على ما سنح له وقوي عنده من التأويل الذي هو سائغ في علم اللسان». اهـ

ولهم في تخريج الآية أوجه: أحدها: أنهم سألوا استفهاما عن الحكمة في جعل خليفة في الأرض يُفسد فيها ويسفك الدماء ، مع علمهم بأنَّ الله يبغض الفساد وسفك الدماء، وقالوا: إن كانت الحكمة في خلقهم أن يعبدوك فنحن نُسَبِّح بحمدك ونُقَدِّس لك ، لا نفتر عن عبادتك ؟ ثانيها : أنهم سألوا تعجباً واستعظامًا لحصول هذا من بني آدم، مع إكرام الله

لهم بالخلافة.

ثالثها: أن الملائكة لما توهموا أنَّ الله تعالى أقامهم في مقام المشورة ، بان لهم وجه المصلحة في بقاء الخلافة فيمن يُسبِّح ويُقدّس، وأن لا ينقلها إلى من يُفسد

أتجعل فيها من يفسد فيها .... الآية.

وجاء عن ابن عباس أيضًا أنَّ الله أخبر الملائكة بفعل البشر فلذلك قالوا: أَتَجْعَلُ

فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) الآية .

قصة آدم اللي

٢٦٣

فيها ويسفك، فعرضوا ذلك على الله، وكان ذلك من جملة النصح في الاستشارة والنصح واجب على المستشار، والله تعالى الحكم فيما يمضي من ذلك ويختار. قاله بعض أهل الإشارات من الصوفية.

رابعها: قال صفي الدين أبو عبدالله الحسين ابن الوزير أبو الحسن علي ابن أبي المنصور الخزرجي، في كتاب "فك الأزرار": «ظاهر كلام الملائكة يشعر بنوع من الاعتراض وهم منزّهون عن ذلك، والبيان: أنَّ الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين، وكان إبليس مندرجا في جملتهم فورد منهم الجواب مجملا فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهور إبليسيته واستكباره، انفصل الجواب إلى نوعين: فنوع الاعتراض منه كان عن إبليس وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة فانقسم الجواب إلى قسمين، كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه والله

أعلم . اهـ قال أبو حَيَّان وهو تأويل حسن ، وصار شبيها بقوله وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَرَىٰ تَهْتَدُوا ﴾ [البقرة: ۱۳۵] الآية، لأن الجملة كلها مقولة والقائل : نوعان، فرد کل قول لمن ناسبه . اهـ

تعليم آدم الأسماء كلها

لما صدر . من الملائكة ذلك السؤال، وقد قيل إنه كان منهم على سبيل الإدلال، إذ كانوا في حضرة الجمال، أراد الله أن يظهر لهم الحكمة في إيجاد الخليفة، وما يترتب على ذلك من مقاصد سامية شريفة، مع بيان إحاطة علمه

٢٦٤

قصص الانبياء

تعالى بما لم يعلموه، رغم اطلاعهم على اللوح المحفوظ الذي خط القلم فيه ما

هو كائن.

فعلم آدم الأسماء كما قال تعالى: وَعَلَمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى

المَلَبِكَةِ فَقَالَ أَنْبِتُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ [البقرة: ٣١]. وماذا علمه؟ قال ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحرٌ وجبل وجمل وحمار، وما أشبه ذلك من

الأمم وغيرها. وكذا قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم.

ثُمَّ عرض مُسمَّيات الأسماء على الملائكة فقال: أَنْبِتُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ المسميات و إن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ [البقرة: ۳۱] في ظنكم أنكم أعلم ممن أخلقه بعدكم لاطلاعكم على اللوح المحفوظ والجنة والسماوات وما فيهنَّ قبل خلق

آدم

فلما عجزوا في هذه الناحية وهم علماء، قال الله: وَيَتَادَمُ أَنْبِتْهُم بِأَسْمَاتِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم آدم باسماءهم المسميات بأن قال: هذا شجر وهذا جبل وهذا

كذا... إلخ. قال الله لهم أَلَمْ أَقُل لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وأنتم علمتم ظواهر هما وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ من قولكم: «أتجعل فيها...» وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: ۳۳] مِن ظنكم أني لا أخلق أعلم منكم، قَالُوا سُبْحَنَكَ لا علم لنا ﴾ [البقرة: ۳۲] عِلْما استقلاليا بل هو مستمد منك، وهو معنى الاستثناء الآتي إلا مَا عَلَّمْتَنا بالوحي أو الاطلاع على اللوح

قصة آدم الان

المحفوظ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: ٣٢]. وهنا نكات علمية نُشير إليها تتميما للفائدة:

٢٦٥

إحداها: روى الديلمي وابن عساكر عن عطية بن بسر مرفوعا في قوله: وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: (۳۱] قال: «علمه الله في تلك الأسماء ألف حِرْفَةٍ مِن الحرف، وقال: قل لولدك وذريتك يا آدم: إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوا الدنيا بهذه الحرف ولا تطلبوها بالدِّين، فإنّ الدين لي وحدي - ويل لمن طلب الدُّنيا بالدين، ويلٌ له».

خالصا

وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا يشتمل على تهديد شديد لأولئك الذين يتخذون الدِّين مَطيَّةٌ لأغراضهم الدنيوية، ومطامعهم الشخصية، وقد توعد الله

بني إسرائيل بالويل لاتخاذهم آيات الله تجارةً ومكسبا. ومما لا شك فيه أنَّ الله علَّم آدم كثيرًا من الحرف التي يحتاج إليها في حياته

هو وأولاده، بل ورد ذلك في كثير من الآثار (۱) وكُتُبِ التاريخ.

ثانيتها: استنبط من الآية مَزيَّة العِلم وفضله على العبادة، وأنه شرط في الخلافة بل هو عمدتها وأساسها، والأدلة على هذا كثيرة مبسوطة في محلها، وفي القرآن الكريم آي كثيرةٌ تُنوه بفضل العلم وأهله. ثالثتها: أخذ الأشعري وأتباعه وابن فورك من تعليم الله الأسماء آدم: أنَّ

(۱) روى البزار والطبراني عن أبي موسى يرفعه قال: «لما أخرج الله آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة وعلمه صنعة كل شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تغير وتلك لا تغير».

رجال إسناده ثقات، لكن رواه عبد الرزاق فجعله موقوفا من قول أبي موسى.

٢٦٦

قصص الانبياء

اللغات توقيفية، أي بتوقيف من الله ووحي منه إلى آدم عليه السلام، وهو أحد

أقوال في المسألة.

والقول الثاني: أنها اصطلاحية نشأت بين الناس بحسب احتياجهم إلى

التعارف وتفهيم بعضهم مقاصد بعض، فهي من وضع البشر. ودليل هذين مع بقية الأقوال مبسوطة في علم أصول الفقه.

امتناع الشيطان من السجود وطرده من الجنة

امتنع الشيطان من السجود لآدم عليه السلام معتزا بعنصره الناري، وقال: أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْنَى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين [الأعراف: ١٢] وكان امتناعه مسبوقاً بإصراره على عصيان آدم حيث كان يطيف به وهو صَلْصَالٍ كالفَخَّار فيفرغ منه ويقول: لأمر ما خُلِقْتَ ولئن سُلّطتُ عليك لأُهْلِكَنَّك، ولئن سُلْطَتَ عليَّ لأَعْصِيَنَّكَ.

فعارض أمر الله بالسجود واستكبر وكان من العالمين، فأبلسه الله من رحمته ولعنه، فسأل الله أن يُنظره أي يؤخّره - فأنظره إلى يوم الوقت المعلوم وهو

النفخة الأولى حين تفنى جميع المخلوقات قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (٢) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْنَهُ مِن طين ) قَالَ فَأَخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَحِيمُ ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَنِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ )

YA

فَانظُرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

[ ص: ۷۵ - ۸۱]

ويلاحظ أن الخبيث طلب الإنظار إلى يوم البعث لينجو من الموت، إذ لا

موت بعد البعث ولكن الله لم يجبه إلى ذلك، بل أخَّره إلى النفخة الأولى ليذوق

قصة آدم الطيور

٢٦٧

الموت الذي حكم الله به على خَلْقِهِ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: ۸۸]

استشكال في سجود الشيطان والجواب عنه

يستشكل كثير من الناس دخول إبليس في الأمر الموجه للملائكة بالسجود، مع أنه كان من الجنّ، وهو استشكال وجيه، وجوابه من وجوه: أحدها: أنه وإن لم يكن من عنصر هم فقد تشبه بهم، وتوسم بأفعالهم وكان

مندمجا فيهم لعبادة الله، فشمله الخطاب معهم.

ثانيها: أنَّ الأمر للأعلى - وهم الملائكة - يشمل الأدنى -وهو الشيطان- من باب أولى، ولهذا اتفق الجمهور على أنَّ الخطاب الموجه للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يشمل أُمَّته معه، إلَّا إذا قام الدليل على أنه خاص به. ثالثها: أنَّ الحِكمة في الأمر بالسجود تحية آدم عليه السلام وتكريمه، وهو

معنى يشمل الحاضرين إذ ذاك ومنهم إبليس.

رابعها: أنَّ قول الله تعالى مخاطبًا إبليس : مَا مَنَعَكَ أَلَا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ صريح في أنه كان مأمورًا بالسجود مع الملائكة ؛ ولهذا لم يقل إبليس: لم يتوجه الأمر إليَّ، بل عَدَلَ إلى قوله : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [الأعراف : ١٢]، وذلك اعتراف منه بأنه مأمور بالسجود.

(نكتة علمية): استنبط علماء الأصول وفقهاء الأمصار مِن ذَم الله لإبليس على ترك السجود الذي أُمر به أنَّ الأمر يقتضي الوجوب؛ لأنه لا ذم إلَّا على ترك الواجب، ولو كان الأمر للندب لما ذَمَّ الله إبليس على تركه ولكان لإبليس أن يقول: إنك لم توجبه عليَّ، لكنه عَدَلَ إلى قوله : أنا خير منه الآية. فدل على

٢٦٨

قصص الانبياء

أنَّ الأمر المطلق للوجوب ؛ أي يدل عليه حقيقةً، ويكون استعماله في الندب أو

غيره من المعاني مجازا يحتاج إلى قرينة.

(نكتة ثانية): قال الحسن البصري: أول من قاسَ إبليس.

وكذا قال محمد بن سيرين وزاد وما عبدت الشمس ولا القمر إلَّا بالمقاييس. ومعنى هذا أنَّ الشيطان نظر نفسه بالمقايسة بينه وبين آدم، فرأى نفسه

أفضل لشرف عنصره في نظره، فتكبَّر وامتنع عن السجود لذلك، وهو قياس في مقابلة النص فيكون فاسد الاعتبار.

خلق حواء

قال الله تعالى: يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا

وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء ﴾ [النساء: ١] هذه الآية الكريمة تخبر أنَّ الله خَلَقَ من آدم زوجه، وكان بدء ذلك أنَّ آدم عليه السلام لما عَلَّمَ الملائكة أسماء المسميات نام فخلق الله من ضلعه الأيسر امرأةً، فلما صحا وجدها بجانبه، فقال لها من أنت؟ قالت: امرأة، قال : ولم خلقت؟ قالت لتسكن إليَّ، قالت له الملائكة - ينظرون ما يبلغ علمه : ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: لم سميت حواء، قال : لأنها خلقت من حي. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ، فإنَّ المرأةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعِ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضَّلَعِ أَعْلاهُ، إِن ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإن تَرَكْتُهُ لم يَزَلْ أَعْوَجَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ

خيرًا». وفي رواية لمسلم: «فإن ذهبتَ تُقيمَها كَسَرْتَهَا وَكَسْرُها طَلَاقُها».

قصة آدم اللي

٢٦٩

وقال ابن عبّاس: إنما سمّيت المرأة مرأة لأنها خُلقت من المرء، وإنما

سمیت حوّاء لأنها أم كلَّ حيّ». رواه أبو الشيخ ابن حَيَّان وابن عساكر. (نكتة علمية): أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الشعب" عن ابن عباس قال: «خُلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في الرجال، فاحبسوا نساءكم، وخُلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض». يعني الحراثة

والبناء واستخراج ما في بطنها من الكنوز والمعادن.

سکنى آدم وزوجه الجنة

بعد أن طرد الله الشيطان من الجنة لكفره وتكثره على أمر الله أمر آدم بسكنى الجنَّةَ : وَقُلْنَا يَتَنَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا أي منيًّا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا نَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ٣٥].

أباح الله لهما سُكِّنَى الجنة والأكل من ثمارها ومن جميع ما فيها من غير مشقة ولا تعب يلحقهما في الحصول على ما يريدان من طعام وشراب إلا شجرة واحدة حرمها عليهما واختلف في تعينها فقيل الحنطة وقيل النخلة، وقيل التين، وقيل غير ذلك. وهذا من الخلاف الذي لا طائل تحته؛ لأنه لا

يتعلق بتعينها حكم شرعي ولا فائدة تاريخية، وإلا لعينها القرآن الكريم. وفي آية أخري: فَقُلْنَا يَكَادَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ) وَأَنَّكَ لَا تَطْمَؤُا فِيهَا وَلَا تضحى ﴾ [طه: ۱۱۷ - ۱۱۹]. وفي المقابلة بين الجوع والعري والظمأ والضحاء مناسبة لطيفة، هي أنَّ

۲۷۰

قصص الانبياء

الجوع ذلُّ الباطن والعري ذلُّ الظاهر وبعبارة أخرى الجوع خلو الباطن من الطعام، والعري خلو الظاهر من الثياب، كما أنَّ الظمأ حر الباطن والضحاء حر الظاهر.

(نكتة علمية): في قوله تعالى: فَلَا يُخرِ جَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى أَي تتعب في الحصول على المعيشة وما يتعلق بها إشارة واضحة على اختصاص الرجل بشؤون الحياة ومتاعبها ومشاقها خارج المنزل، أما المرأة مكانها البيت، لا شأن لها بالسياسة ولا بالعمل الذي يدعو إلى اختلاطها بالرجال، ويكفيها أن تُعنى بإدارة منزلها، وتربية أطفالها والعناية بهم حتى يكونوا عُدَّة المستقبل، وهذا واضح في قوله : فَتَشْقَى حيث أسند الشقاء إلى آدم دون حواء، مع ملاحظة توجيه الخطاب إليها معه في سكنى الجنَّة، والأكل من ثمرها، وتحريم شجرة منها، والخروج من الجنة ؛ لأن هذه الأشياء يصح اشتراكهما فيها.

الجنة التي سكنها آدم عليه السلام

اختلف العلماء في الجنة التي سكنها آدم وحواء عليهما السلام، فالجمهور على

أنها التي في السماء وهي جنة المأوى التي أعدها الله دار ثواب لعباده المؤمنين. وقيل: جنّة أخرى غير جنة الخلد؛ لأنه كُلّف فيها ونام ودخل عليه إبليس

فيها، وهذا ينافي أن تكون جنة الخلد. وهذا القول محكي عن أبي بن كعب وابن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن عيينة، واختاره ابن قتيبة في كتاب "المعارف"، وحكاه الرازي في "تفسيره" عن أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الأصفهاني، ونقله القرطبي في "تفسيره" عن

قصة آدم الطين

۲۷۱

المعتزلة والقدرية، ثُمَّ اختلف أصحاب هذا القول على رأيين: أحدهما: أنها كانت في السماء لقوله تعالى: اهْبِطُوا مِنها وهو رأي

الحسن البصري.

ثانيهما: أنها كانت في الأرض في جهةٍ عاليةٍ منها؛ وهو قول أكثرهم، واختاره القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي في "تفسيره"، ثُمَّ أفرد له

كتابًا مستقلا أطال فيه الاستدلال، وحكاه عن أبي حنيفة وأصحابه.

قال القاضي الماوردي في "تفسيره": واختلف في الجنة التي أسكناها -

يعني آدم وحواء على قولين:

أحدهما: أنها جنة الخلد.

الثاني:

جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتداء، وليست جنة الخلد التي

جعلها الله دار جزاء. ومن قالوا بهذا اختلفوا على قولين: أحدهما: أنها في السماء لأنه أهبطهما منها؛ وهذا قول الحسن.

والثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار، وهذا قول ابن ،بحر، وكان ذلك بعد أمر إبليس

بالسجود لآدم، والله أعلم بالصواب من ذلك» . اهـ وممن حكى الخلاف في المسألة أيضًا أبو محمد ابن حزم في "الملل والنحل" وأبو محمد ابن عطية في تفسيره" ، وأبو عيسى الرماني في "تفسيره"، والإمام الرازي في تفسيره ، وابن القيم في حادي الأرواح" وأطال في ذكر أدلة القولين ولم يصرح بترجيح أحد القولين، فكأنه مال إلى التوقف كما مال إليه أبو الحسن الماوردي في عبارته السابقة.

11

۲۷۲

قصص الانبياء

واختاره الإمام الرازي في تفسيره" ، وجعله قولا رابعا حيث قال: والقول الرابع أنَّ الكل ممكن، والأدلة متعارضة، لأنه لم يسلم دليل لأحد

الأقوال من احتمال قوي أو معارضة جيدة تمنع التمسك بظاهره». على أنَّ هذا الخلاف لا يمس العقيدة، ولا ينبني عليه حكم شرعي، وإنما الذي يجب اعتقاده أنَّ الجنة والنار مخلوقتان الآن، للأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة المتواترة.

وسوسة الشيطان لآدم وحواء

قال الله تعالى: فَأَزَلَهُمَا الشَّيْطَنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: ٣٦]. ومعنى فَأَزَلَهُمَا : أزالهما ونحاهما عن الجنة لأنهما حين أكلا من الشجرة أهبطهما الله من الجنة. وبيان ذلك أنَّ الشيطان عرض أولا لآدم عليه السلام يُزين له الأكل من الشجرة فلم يَنْجَع فيه، فيمم نحو حواء عليها

السلام فسمعت كلامه وأكلت من الشجرة وزينتها له حتى أكل منها . وفي "صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم

قال: «لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها». أما بنو إسرائيل فكانوا نهوا عن ادّخار لحم السَّلْوَى فَادَّخروه جَشَعًا وحِرْصًا فعوقبوا بخَيْرِه، أي نتنه. وقيل في معناه: لولا أنهم سَنُوا ادّخار اللَّحْم حتى أنتن لما ادخر فلم ينتن. عن وهب ابن منبه قال: في بعض الكتب: لولا أني كتبتُ الفساد

وفي "الحلية" .

على الطَّعامِ الخَزَّنه الأغنياء عن الفقراء.

وأما حوّاء فكانت خيانتها أنها زيَّنت لزوجها الأكل من الشجرة حتى

قصة آدم ال

۲۷۳

أوقعته في المحذور، ثُمَّ سرت الخيانة في بناتها بحكم الوراثة، وإن كانت الخيانة تختلف في كل أنثى بحسبها.

وفي حديث ضعيف رواه البيهقي في "دلائل النبوة" عن ابن عمر مرفوعا: فضّلْتُ على آدم عليه السَّلام - بخَصْلَتَيْنِ : كان شَيْطَانِي كَافِرًا فأعانني اللهُ عليه حتى أسْلَمَ، وكُنَّ أَزْوَاجِي عَوْنًا لي، وكان شَيْطَانُ آدمَ كَافِرًا وزَوْجَتُهُ كانتْ عَوْنًا لَهُ عَلى خَطِيئَتِهِ». وروى ابن عساكر عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم قال : ذكر آدم محمدا رسول الله عليهما الصلاة والسلام فقال: «إنَّ أفضل ما فُضّل به عليَّ ابني صاحب البعير أن زوجته كانت عَوْنًا له على دينه، وكانت زوجتي عونا لي على

الخطيئة».

ولا تفهمنَّ مِن خيانة حوّاء عليه السلام إتيان الفاحشة فإنَّ هذا الفهم

باطل لوجوه:

منها : أنه لم يكن معها في الجنة مخلوق غير زوجها. ومنها: أنَّ زوجها نفسه لم يقربها إلَّا بعد الخروج من الجنة كما جاء في بعض

الآثار (1)

ومنها: أن حواء عليها السلام من جملة النساء اللاتي قيل بنبوتهنَّ (٢).

(۱) ونحن لا نرى مانعا من قربانه لها في الجنة كما قيل بذلك أيضًا بل قد قيل إنَّ قابيل وُلِدَ

في الجنة .

(۲) وهنَّ حوّاء، وأم موسى، وسارة أم إسحاق، ومريم أم عيسى عليهم السلام، قال بنبوتهنَّ ابن حزم وجماعة من العلماء، والجمهور على أنَّ النبوة خاصة بالرجال، قال

٢٧٤

قصص الانبياء

والمقصود أنها خانت زوجها بحمله على الأكل من الشجرة، فلما أكلا منها

نزع عنهما لباسهما الذي كانا يلبسانه في الجنة فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما.

قال تعالى: ﴿ يَنبَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْء هِمَا ﴾ [الأعراف: ۲۷]. وقال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرى ﴾ [طه: ۱۱۸].

ففي هاتين الآيتين دليل على أنهما كانا كاسيين في الجنة حتى وقعا في الخطيئة فعوقبا بنزع لباسها، ثُمَّ أمر الله آدم وحواء وإبليس بالهبوط إلى الأرض مع الإخبار بثبوت عداوة بعضهم لبعض ، وهي سارية في ذريتهم، فقال الله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفُ

عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: ٣٨].

والصحيح أنَّ الأمرين بالهبوط واحدٌ غير أنه نيط بالأول الإخبار بثبوت

عداوة بعضهم لبعض، وبالثاني الاشتراط عليهم أنَّ من اتبع هداه الذي ينزله بعد ذلك (1) . اسعد وفاز، ومن أعرض عنه شقي وهلك.

في "بدء الأمالي":

وما كانَتْ نَبِيا قَط أُنثَى ولا عَبْدٌ وشَخص ذو افتعال

ولشقيقنا الحافظ أبي الفيض كتاب "الائتساء بإثبات نبوة النساء".

(۱) قال أبو العالية: «الهدى: الأنبياء والرسل والبيان.

قصة آدم ال

۲۷۵

وهذا من الحكمة في تكرار الأمر بالهبوط، وقد جمعا معا في قوله تعالى: قَالَ أَهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَكُم مِّنِي هُدًى فَمَنِ

اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: ۱۲۳] وهو يؤيد ما أبديناه.

أما قوله : أهبطا بالتثنية، فالخطاب فيه موجه لآدم وإبليس، وحواء تابعة لآدم عليهما السلام، ومنطوية تحت لوائه.

كيف توصل الشيطان إلى الوسوسة ؟

سؤال تردد على الألسنة والشّفاه، وإشكال لم يجد المستشكل له حلا يرضاه، وعرض له المفسّرون وغيرهم بأجوبة لا تروي غليلا، ولا تشفي

عليلًا.

فقيل: أنه كلّمهما في الأرض وهما في السماء فسمعا كلامه ووسوسته. وقيل: كلمها من باب الجنة.

وقيل: دخل في فم الحية، ويحكون في ذلك حكاية طويلة مأخوذة من الإسرائيليات.

وفي "الحلية" بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعا: «قال إبْلِيسُ لرَبِّهِ عزَّ وجلَّ: يا ربِّ قد أُهْبِطَ آدَمُ ، وقد عَلِمْتُ أَنَّهُ سيكون له كتابٌ ورُسُلٌ، فما كتابُهُمْ وَرُسُلُهُمْ؟ قال الله تعالى: رُسُلُهُمُ الملائكةُ والنَّبيُّون منهم، وكتبهُمُ التَّوراة والإنجِيلُ والزَّبُورُ والفُرْقَان، قال: فما كتابي؟ قال: كتابك الوَشْمُ، وقُرْآنُكَ الشِّعْرُ، وَرُسُلُكَ الكَهَنَةُ، وطعامك ما لم يُذْكَرِ اسم الله عليه، وشَرَابُكَ كُلُّ مُسْكِرٍ، وَحَدِيثُكَ الكذبُ، وبيتك

الحمامُ، وَمَصَائِدُكَ النِّسَاءُ، ومُؤَذِّنُكَ المِزْمَارُ، وَمَسْجِدُكَ الْأَسْوَاقُ».

٢٧٦

ذلك.

قصص الانبياء

وقيل: أوقع في قلبهما الوسوسة بطريق الإلهام مع بعده عنهما، وقيل غير

والصواب في الجواب : أنه دخل الجنَّة عاصيّا، ووسوس لهما مشافهة.

ذلك أنَّ الأمر نوعان:

الأول: أمرٌ تكليفي يوجب الفعل على المكلف مع بقاء اختياره في أن يفعل

وأن لا يفعل.

عموم

:

مثلا قوله تعالى: فَأَقِيمُوا الصَّلَوَةَ ﴾ [النساء: ١٠٣] يوجب الصلاة على المكلفين مع بقاء اختيارهم في أن يصلُّوا فيفوزوا برضا الله، وأن لا يصلوا فيبوؤا بغضب الله، ولا إجبار فيه، ولهذا تجد كثيرًا من المكلفين لا يصلُّون، وهكذا سائر الأوامر التكليفية في القرآن والسُّنَّة.

الثاني: أمر تكويني أو قدري، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [يس: ۸۲] وهذا لابد من وقوعه حتما من

غير أن يكون للشخص في وقوعه اختيار أو إرادة، نحو قوله تعالى: فَقُلْنَا

لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَسِنِينَ } [البقرة: ٦٥] فكانوا قِرَدَةً. لا يجوز أن يقع غير ذلك. ولا شك أن قوله تعالى للشيطان: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَحِيمٌ ﴾ [الحجر: ٣٤] فأهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ [الأعراف: ١٣] من النوع الأول، وهو نظير أمره بالسجود لآدم عليه السلام فكما أنه عصى بترك السجود، كذلك عصى بدخول الجنة بعد أمره بالخروج منها.

وفي قوله تعالى: فَقُلْنَا يَتَكَادَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُم مِنَ

قصة آدم ال

۲۷۷

الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه: ۱۱۷] إشارة واضحة إلى أنَّ في إمكانه دخول الجنة، وتمكنه من إخراجهما بوسوسته ولو لم يكن قادرًا على ذلك لما حذرهما الله منه. وقد جعل ابن القيم وابن كثير الأمر بخروج الشيطان، من النوع الثاني، وهو سهو منهما عما قررناه.

ومما يؤيد أنه من النوع الأول اقترانه بالتعليل فَإِنَّكَ رَحِيمُ ، فَمَا يَكُونُ لك أن تتكبر فيها ، والتعليل لا يقترن إلا بالأمر التكليفي، لبيان سبب توجيهه إلى المكلف أو لترغيبه في امتثاله.

ولا ريب في أنَّ سبب أمر الشيطان بالخروج من الجنة كونه رجيما، وكونه تكبر في مكان لا ينبغي فيه التكبر كما أفادته الآيتان السابقتان، أما الأمر التكويني فلا يمكن اقترانه بالتعليل؛ لأنه لا دخل فيه لفعل الشخص ولا

لاختياره كما سبق.

كيف وقعت المخالفة من آدم عليه السلام

سؤال طالما خاض الناس في السؤال عنه ، ملتمسين المخرج مما فيه من إشكال، وكل قال حسب اجتهاده وما ظهر له صوابه.

فقيل: أكل من الشجرة وهو سكران، وهذا قول باطل، حكيناه لننبه على فساده.

وقيل: أكل من جنس الشجرة لا من عينها، كأنَّ إبليس غره بالأخذ بالظاهر. وهذا ضعيفٌ لمخالفته لقوله تعالى: ﴿وَلَا نَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ [البقرة: ٣٥] فهذا تعيين الشجرة بعينها.

۲۷۸

قصص الانبياء

وقيل: حمل النهي على التنزيه دون التحريم، وهو ضعيف أيضًا؛ لأن قوله

تعالى: فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ٣٥] قرينة على التحريم.

وقيل: أكل متأوّلًا لرغبة الخلد؛ لأن الله حين أباح له الجنَّة يأكل منها رَغَدًا حيث شاء، وأخبره أنه لا يجوع فيها ولا يَعْرَى ولا يظمأ فيها ولا يَضْحَى لم

يشر إلى خلوده فيها، فوسوس إليه الشيطان من هذه الجهة. وهو ضعيف أيضًا، إذ كيف يقال له: «لا تأكل منها فتكون من الظالمين»، ثُمَّ هو يرجو أن يكون من الخالدين؟!.

وقيل: هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين»، وهذا كلام خطابي يقصد به الاسترواح، ثُمَّ هو يشتمل على تناقض، فإنَّ الحسنة لا يمكن أن تكون سيئة، لا بالنسبة للمقربين ولا غيرهم.

وقيل: أكل قبل النبوة وهذا ضعيفٌ؛ لأن الله نبأه حين علمه الأسماء. وقيل: أكل ناسيا ؛ بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ

تجد لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: (۱۱٥] ، أي : عهد إليه ألا يقرب الشجرة»، كما قال ابن

عباس وغيره. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس قال: خلق الله آدمَ مِن أدِيمِ الأرض يوم الجمعة بعد العصر فسماه آدم، ثُمَّ عهد عهد إليه فنسي فسماه الإنسان». قلت: ثبت أن الله خلق آدم يوم الجمعة، ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عليه

قصة آدم الليلة

۲۷۹

الشَّمْسُ يومُ الجُمُعَةِ، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وفيه أُخْرِجَ منها، ولا

تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يومِ الْجُمُعَةِ».

وفي "سنن الترمذي" و"مستدرك الحاكم" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لما خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِن ظهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هو خَالِقُها مِن ذُرِّيَّتِهِ إلى يومِ القِيامَةِ، وجعل بين عَيْنَيْ كُلَّ

إنسان منهم وَبِيصًا مِن نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ على آدَمَ فقال: أَيْ رَبِّ، مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذُرِّيَّتُكَ، فرأى رَجُلاً منهم فَأَعْجَبَهُ وبِيصُ ما بين عَيْنَيْهِ، فقال: أَيْ رَبِّ مَن هذا؟ فقال: هذا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِن ذُرِّيَّتِكَ يُقالُ له داود فقال: رَبِّ كم جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قال: سِتِّينَ سَنَةً، قال: أيْ رَبِّ زِدْهُ مِن عُمْرِي أَربعينَ سَنَةٌ، فلما قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الموتِ، فقال: أَوَلَمْ يَبْقَ مِن عُمْرِي أربعون سَنَةٌ؟ قال: أوَلَمْ تُعْطِها ابنَكَ داودَ قال : فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، ونَسِيَ آدَمُ فنسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وخَطِئَ آدمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ». قال الترمذي: «حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم على شرط مسلم.

وللحديث طرق جاء في بعضها قال: «فَأَخْرَجَ اللهُ الكتاب وأقام عليه البينة - يعني بهبته لداود - فأتمها لداود مائة سنة وأتمها لآدم عمره ألف سنة». والمقصود أنَّ آدم عليه السلام أكل من الشجرة ناسيا غير متعمد مخالفة ما

نهاه الله عنه. وهذا هو الجواب الصحيح المؤيَّد بالأدلة.

فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ و وسمه الله بالعصيان في قوله تعالى: وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْنَتَهُ رَبُّهُ، فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: ۱۲۱ - ۱۲۲]؟

۲۸۰

قصص الانبياء

فالجواب: أن المحذور هو أن يقع الشخص في الذنب عامدًا إليه مقتحما له

مع العلم به، وقد عصم الله آدم من هذا ونزهه عنه.

قال القاضي أبو بكر ابن العربي المعافري: «إنَّ الباري سبحانه وتعالى بحكمه النافذ وقضائه السابق، أسلم آدم إلى المخالفة، فوقع فيها متعمدا ناسيا، فقيل في تعمده وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى وقيل في بيان عُذْره: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِي .. ونظيره أن يحلف الرجل لا يدخل دار أبدا، فيدخلها متعمدا ناسيا ليمينه، أو مخطئًا في تأويله، فهو عامِدٌ ناس، ومتعلق العمد غير متعلق النسيان وجاز للمولى أن يقول في عبده : عصى» تحقيرًا وتعذيبا ويعود عليه بفضله فيقول: «نسي» تنزيها .

ولا يجوز لأحدٍ منا أن يخبر بذلك عن آدم إلَّا إن ذكرناه في أثناء قول الله عنه، أو قول نبيه، وأما أن نبتدئ في ذلك من قِبَل أنفسنا فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف بأبينا الأقدم الأعظم النبي المقدم الذي

عذره الله وتاب عليه وغفر له؟!» . اهـ وهو حسن جيد.

يُضاف إليه أنَّ المؤاخذة بالنسيان رفعت عن هذه الأمة.

فقد ورد عن أبي ذر وثوبان وابن عباس وغيرهم من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ اللهَ تَجاوز عن أُمتي الخطأ والنسيان وما اسْتَكْرِهُوا عليه». وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي بكر الهذلي، عن شهر، عن أم الدرداء، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي لأُمَّتِي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان والاسْتِكْراه».

قصة آدم ال

۲۸۱

قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن فقال : أجل أما تقرأ بذلك قرآنًا:

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: ٢٨٦].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة في نزول: ءَامَنَ الرَّسُولُ ﴾ [البقرة: ٢٨٥]، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: ٢٨٦] «قال الله : نعم». وفيه أيضًا عن ابن عباس: «قال الله: قد فعلت».

وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتي ما حَدَّثَتْ به أَنفُسَها ما لم يتكلموا أو

يَعْمَلُوا به». قال الأبيُّ في شرح مسلم: «في العتبية: قال رجل من أصحاب عيسى لعيسى عليه السلام: إنك تمشي على الماء، فقال له عيسى وأنت إن كنت لم تخط تمشي على الماء، فقال : لم أخط خطيئة قط، فقال له عيسى عليه السلام: فامش على الماء، فمشى ذاهبًا فلما رجع غرق ببعض الطريق، فدعى عيسى عليه السلام فأخرجه، فقال له عيسى: ألم تزعم أنك لم تخط؟ فقال: لم أخط قط، ولكن وقع في نفسي أني مثلك. قال ابن رشد في "البيان": «هذا الذي عوقب به صاحب عيسى عليه السلام، تجاوز الله سبحانه لهذه الأمة عنه» . اهـ قال الأبي: «وكذلك نص غيره على أنه خاص بهذه الأمة» . اهـ

لطيفتان

اللطيفة الأولى): روى البيهقي في "الشعب" عن عبد الله المغربي يقول: تفكر إبراهيم عليه السلام ليلةٌ من الليالي في شأن آدم عليه السلام قال: يا رب خلقته ونفخت فيه من روحك، وأسجدتَ له ملائكتك، ثم بذنبٍ واحدٍ

۲۸۲

قصص الانبياء

ملأت أفواه الناس حتى يقولوا: { وعصى آدم ربه فغوى} [طه: ۱۲۱] قال: فأوحى الله أن يا إبراهيم أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة». قلت: في هذا الأثر عبرة بالغةٌ تفيد أنَّ الله يكره من أحبابه أن يُخالفوه،

ولذا أعلن مخالفة آدم عليه السلام، ليحرصوا على تجنب المخالفة الله إن أرادوا أن يكونوا أحبابه (۱).

رضي

اللطيفة الثانية): روى الزبير بن بكار في "الموفقيات" عن ابن عباس الله عنهما قال: سألت عمر عن قول الله: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْتَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: ١٠١]. قال: كان رجال من المهاجرين في أنسابهم شيء فقالوا يوما والله لوددنا أن الله أنزل قرآنا في نسبنا، فأنزل الله ما قرأتَ. ثُمَّ قال : إِنَّ صاحبكم - يعني عليا عليه السلام- إن ولي زهد، ولكن أخشى عجب نفسه (٢) أن يذهب به.

(1) ومن الإشارات في هذا المعنى ما ذكره ابن القيم في كتاب "الفوائد" حيث قال: «تا الله ما نفعه عند معصيته عن اسْجُدُوا ولا شَرَف وَعَلَمَ ءَادَمَ ولا خصيصة لما خَلَقْتُ بيدَى : ولا فَخْرِ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ، وإنما انتفع بذل ورَبَّنَا ظَلَمْنَا

أَنفُسَنَا . لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر ، وقع سهم العدو - يعني إبليس - من

منه

في غير مقتل، فجرحه، فوضع عليه جبار الانكسار فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم

یکن به قلبة». اهـ. «قلبة» بفتحات: ألم .

(۲) في هذا التعبير تجاوز وتسامح، فلم يكن عند علي عليه السلام إعجاب بنفسه، ولا زهو

قصة آدم الطية

۲۸۳

قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت، والله ما نقول إنه غير ولا

بدل ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام صحبته.

فقال: ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة؟

قلت: قال الله في معصية آدم عليه السلام وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: ١١٥] وصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن

الله

الخواطر التي لم يقدر أحدٌ على دفعها بنفسه، ربما كانت من الفقيه في دين 1 العالم بأمر الله، فإذا نُبِّه إليها رجع وأناب. فقال: يا ابن عبّاس! من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظنَّ عجزا.

في الأثر تقرير عمر الزهد علي، واعترافه بسعة علوم آل البيت النبوي،

بحاله، كما شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال الزبير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّه ليس به زَهْو ولتُقاتِلَنَّهُ وأنتَ له ظالم»؛ يشير إلى وقعة الجمل، ولكنها الثقة والاعتداد، ثقة بشجاعته الفائقة، واعتداد بعِلمِهِ الذي لم يبلغ شأوه فيه أحد. قال ابن عباس : سلم الصحابة لعلي تسعة أعشار العلم، وشاركهم في العشر العاشر. فهذه الثقة والاعتداد يسميها مثل عمر والزبير رضي الله عنهما إعجابًا وزهوا، على سبيل التجوز، ولكن الحاسدين والحاقدين يتخذون مثل هذه التسمية منقصة له عليه السلام، وقد برأه الله من ذلك وطهَّره، كيف وقد نزل فيه وفي ولديه الحسن والحسين وزوجه فاطمة عليهم السلام قول الله تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٣٣].

٢٨٤

قصص الانبياء

بحيث يعجز من حاول بلوغ مداها، وفيه ما يتعلق بمسألتنا أن ابن عباس يروي في قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا أن معناه: لم نجد له عزما على المعصية، وفي هذا تأكيد بالغ لمعنى النسيان الذي رجحناه وأيدناه.

توبة آدم عليه السلام

قال الله تعالى: فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَةٍ فَنَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: ٣٧] فما هي تلك الكلمات التي تلقاها؟

في تعيينها أحاديث وآثار:

منها: ما روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والحسن ومحمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: هي قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ ﴾ [الأعراف: ٢٣].

ومنها: ما رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: فَتَلَقَى ءَادَمُ مِن ربه كلمت : قال : أي رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى، قال: أي ربِّ أَلم تَنفُخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي ربِّ ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي ربِّ أرأيت إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم». ومنها ما رواه الطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "الدعوات" وابن عساکر بسند لا بأس به عن بريدة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لما أهبط اللهُ آدَمَ إلى الأرضِ طاف بالبيتِ أسبوعًا وصلَّى حِذاءَ البيت ركعتين، ثُمَّ قال: اللهمَّ أَنتَ تَعْلَمُ سِرِّي وعلانيتي، فاقبل مَعْذِرَتي،

قصة آدم اللي

٢٨٥

وتَعْلَمُ حاجَتي فأعْطِني ،سُؤلي، وتَعْلَمُ ما عندي فاغْفِرْ لي ذَنْبِي، أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويَقِينا صادقًا حتى أعلم أنه لا يُصيبني إِلَّا ما كتبت عليَّ، ورَضّني

بقضائك.

فأوحى الله: يا آدم إنك دعوتنا بدعاء فاستجبتُ لك فيه، ولن يدعوني به أحدٌ مِن ذُريَّتك إلا استجبتُ له وغفرت له ذنبه وفرّجتُ همه وغَمَّهُ واتجرت له

من وراء كل تاجر وأنته الدنيا راغمة وإن كان لا يُريدها».

وورد نحوه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا وموقوفًا.

.

ومنها ما رواه أبو نعيم في "الحلية" عن عبيد بن عمير قال: «قال آدم یا رب أرأيت ما أتيتُ أشيء كتبته عليَّ قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته على نفسي؟ قال: بل شيءٌ كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: يا رب فكما كتبته على

فاغفره لي. فذلك قوله : فَتَلَقَى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَةٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ومنها ما رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وابن عساكر، من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الخَطِيئَةَ قال: يا ربِّ أسألُكَ بِحَقِّ محمد لما غَفَرْتَ لي، فقال الله يا آدم وكيف عَرَفْتَ محمَّدًا ولم أَخْلُقُهُ؟ قال: يا رَبِّ، لأَنَّكَ لا خَلَقْتَني بيدِك ونَفَخْتَ فِيَّ مِن رُوحِكَ رَفَعْتُ رأسي فرأيتُ على قوائم العرشِ مَكْتُوبًا لا إلهَ إِلَّا الله محمَّدٌ رسولُ الله فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لم تُضِفْ إلى اسمِكَ إِلَّا أَحبَّ الخَلْقِ إليك، فقال الله: صَدَقْتَ يا آدَمُ، إِنَّهُ لأَحِبُّ الخَلْقِ إِلَيَّ ادْعُني بحَقِّهِ فقد غَفَرْتُ لك ولولا محمد ما خَلَقْتُكَ ».

قال البيهقي في "دلائل النبوة": «تفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم من

٢٨٦

قصص الانبياء

هذا الوجه، وهو ضعيف» . اهـ ووافقه الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية". وعندي أنه حديث حسن لتأيده بشاهدين :

أحدهما: ما رواه أبو الحسين بن بشران ومن طريقه ابن الجوزي في كتاب "الوفا

بفضائل المصطفى" عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ «لما خَلَقَ اللهُ تعالى الأرضَ واسْتَوَى إِلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ

قال: سَمَواتِ، وخَلَقَ العَرْشَ كَتَبَ على سَاقِ العرش: محمد رسول الله خاتِمُ الأنبياء، وخَلَقَ الله تعالى الجنَّة التي أَسْكَنَها آدمَ وحَوَّاءَ، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقِبابِ والخيام، وآدم بين الرُّوحِ والجَسَدِ، فلما أَحْياه الله تعالى نَظَر إلى العرش فرأى اسمي، فأَخْبَرَهُ الله تعالى أَنَّه سَيِّدُ وَلَدِكَ. فَلَمَّا غَرَّهُما الشيطان تابا واستَشْفَعا باسمي إليه». «إسناده قوي» كما قال الحافظ ابن حجر. ثانيهما: ما رواه ابن المنذر في تفسيره " : عن محمد بن علي بن حسين بن

علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: لما أصاب آدمُ الخَطِيئَةَ عَظُمُ كَرْبُهُ، واشتدَّ نَدَمُه، فجاءه جبريل، فقال: يا آدم هل أدلك على باب تَوْبَتِك الذي يتوب الله عليك منه ؟ قال : بلى قال : قُمْ في مَقامِكَ الذي تُناجي فيه ربَّك فمَجدُهُ وامْدَحْ فليس شيء أحب إلى الله من المدح. قال: فأقول ماذا يا جبريل؟ قال: فقل : لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَريك له، له الملك وله الحمدُ يُحيي ويُميتُ، وهو حي لا يموتُ بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.

ثُمَّ تَبُوءُ بخطيئتك فتقول: سبحانك اللهم وبِحَمْدِكَ لا إِله إِلَّا أَنتَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وعَمِلْتُ السُّوء فاغْفِرْ لي إِنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا أَنت، اللهم إنِّي أسألك بجاه محمَّدٍ عَبْدِكَ وَكَرَامَتِهِ عليك أن تَغْفِرَ لِي خَطِيئتي.

قصة آدم ال

۲۸۷

قال: ففعل آدم فقال الله: يا آدم من علمك هذا؟ قال: يا ربِّ إِنَّك ما نَفَخْتَ فِي الرُّوحَ، فَقُمْتَ بَشَرًا سَوِيًّا أسمع وأعقِلُ وأنظُرُ، رأيتُ على ساق عَرْشِكَ مَكْتوبًا: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريك له، محمد رسول الله، فلما لم أرَ على إثْرِ اسمك اسم مَلَكِ مُقرَّبٍ ولا نبي مرسل غير اسمه، علمتُ أنَّه أكرم خَلْقِكَ عليك. قال: صَدَقْتَ، وقد تبتُ عليك وغَفَرْتُ لك خطيئتك. قال: فحمد آدم ربَّه وشكره، وانصرف بأعظم سرور، لم ينصرف به عبد من عند ربه، وكان لباسه النور

قال الله تعالى: يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَ تهما ﴾ [الأعراف: ۲۷] ثياب النور. قال: فجاءته الملائكة أفواجًا تُهنئه يقولون: لتهنك التوبة يا أبا

محمد".

وقد يقول قائل: كيف نجمع بين هذه الأخبار؟ وأيها نرجح أن آدم قاله؟ فيقال له: إنما يلجأ إلى الترجيح إذا وجد تدافع بين مضمون الأخبار، وتعذر الجمع بينها. وأنت إذا تأملت الآثار السابقة وجدتها متوافقة متناسقة؛ لأنها تشتمل على إقرار بوحدانية الله، وثناء عليه بنعمه، واعتراف بالذنب، ودعاء وتضرع وتوسل إليه في قبول التوبة، فلا مانع أن يكون آدم عليه السلام تقرب إلى الله بتلك المعاني كلها، كما في أثر جعفر الباقر المشتمل على معظمها. كما جاء عن قتادة في قوله: فَنَلَقَى ءَادَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَةٍ فَتَابَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم قال: «ذكر لنا أنه قال: يا رب أرأيت إن تبتُ وأصلحتُ ؟ قال : فإنّي إذا أرجعك إلى الجنة؟ قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ ، فاستغفر

۲۸۸

قصص الانبياء

آدم ربَّه، وتابَ إليه، فتاب عليه. وأمَّا عدو الله إبليس فوالله ما تنصل من ذنبه، ولا سأل التوبة حين وقع بما وقع به، ولكنه سأل النظرة إلى يوم الدين، فأعطى الله كل واحد منهما ما سأل». رواه البيهقي في "الشعب".

ففي هذا الأثر إشارة إلى ما قلناه آنفا، غاية ما في الأمر أنَّ الرواة اقتصر كل واحد منهم على بعض الكلمات. ولهذا رغب أهل الحديث في جمع طرق الحديث واستيفائها ليمكن حصرا ألفاظه، وتفهم معناه، واقتصار القرآن على قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ لا ينفي

غيره من الكلمات، كما قد يتوهم مَن لا تحقيق لديه.

وإنما اقتصر على تلك الكلمة فيما نرى - ليوازن بين آدم حيث اعترف بذنبه، طالبًا غفران ربه، وبين إبليس الذي استمرَّ على عصيانه، طالبا النظرة ليغوي الناس ويجرهم إلى عذاب الله وهوانه. يضاف إلى ذلك إنَّ الاعتراف بالذنب هو المقصود من التوبة، وما عداه الحمد والثناء والتوسل والدعاء فكله استشفاع يقدمه العبد بين يدي

من

رغبته، ليحظى بقبول توبته وفي الأمثال السائرة: مَن أقر بذنبه غَفَرَ الله له. ومن مقتضيات الإيجاز في أسلوب القرآن الكريم الاكتفاء من الخبر بفائدته، ومن القصة بخلاصتها.

نبوة آدم عليه السلام

ظهر في هذا الوقت العصيب بعض الدخلاء على العلم والدين بمظهر المجدد وكان من إصلاحه وتجديده أن أنكر نبوة آدم عليه السلام

المصلح

قصة آدم الي .

۲۸۹

فصدق عليه المثل العربي: «أَوَّلُ الدَّنْ دُرْدِيُّ».

وحكمت محكمة دمنهور الشرعية بالتفريق بينه وبين زوجه لردته بهذا الإنكار، واستأنف في محكمة الإسكندرية واعترف بأنه لم ير القرآن ذكر آدم بالنبوة، وأنه يعتقدها ، وهذا اعتراف بجهله الفاضح وتقليده الأعمى، وكيف ساغ له أن يعتقد مالا دليل عليه في نظره؟ أليس هذا هو التقليد الأعمى في أقبح صورة ؟!.

ثُمَّ جاء آخر من بعده كتب في قصص الأنبياء فاعترف بنبوة آدم عليه السلام، لكنه توقف في رسالته وفوّض علمها إلى الله تعالى، فوقع في غفلة كبيرة عن دلالة القرآن، وأبان عن جهل بنصوص ا السُّنَّة وإجماع الأئمة، بل مما ، -حسب فهمه أنه رأى في حديث أبي هريرة في الشفاعة الوارد في "صحيح مسلم" أنَّ الناس يذهبون إلى نوح فيقولون له: أنت أول

أكد له

عدم رسالته

رسل الله إلى الأرض، قال: «فلو كان آدم رسولا لما ساغ هذا القول». قال أيضا: «والعلماء القائلون برسالة آدم يؤوّلون ذلك بأنه أول رسول

بعد الطوفان، وهو تأويل متكلف». هذا كلامه.

وهو باطل حسبما يتبيَّن مما يأتي بحول الله تعالى.

دلالة القرآن على نبوته

قال الله تعالى: وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: ٣١] الآية. أخبر الله في هذه الآية الكريمة أنه علمه أسماء المسميات بدون واسطة، وأمره أن يُنبئ بها الملائكة عليهم السلام، وهذا تسجيل لنبوته.

۲۹۰

قصص الانبياء

وقال تعالى: وَقُلْنَا يَتَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: ٣٥] الآية، ففي هذه الآية أباح الله له وحرَّم عليه بدون واسطة، وهذا تسجيل ثان لنبوته، والخطاب متوجه لآدم وحواء تابعة له، وبواسطته توجه عليها الخطاب، فهو رسول إليها من هذه الحيثية.

ودليل آخر من القرآن على رسالته، وهو:

قصة هابيل وقابيل

قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَا ابْنَى ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُتِلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( لَينُ بَسَطتَ إِلَى يَدَكَ لِنَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطِ يَدِى إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إني أُرِيدُ أَن تَبُوا بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَبْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ، فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَرِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّدِ مِينَ ﴾ [المائدة: ٢٧ - ٣١]. ذكر السُّدِّي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة أنَّ آدم كان يُزوج ذكر كل بطن بأنثى الأخرى، وأن هابيل أراد أن يتزوج بأخت قابيل، وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يُقرِّبا قُربانًا وذهب آدم إلى مكة ليحج،

قصة آدم الطلي

۲۹۱

واستحفظ السموات على بنيه فأبين والأرضين والجبال فأبين فتقبل قابيل بحفظ ذلك فلما ذهب قَرَّبا قربانهما، فقرَّب هابيل جذعةً سمينة وكان صاحب

غنم، وقرَّب قابيل حِزْمَةٌ من زرعٍ مِن رديء زَرْعِهِ، فنزلت نار فأكلت قُربان هابيل وتركت قُربان ،قابيل، فغضب وقال : لَأَقْتُلَنَّكَ حتى لا تنكح أختي فقال: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: ۲۷]، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَبْلَ أخيه ﴾ [المائدة: ٣٠] فأتاه وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها على رأسه، وقيل خنقه خَنْقا شديدًا وعَضَه عَضًا كما تفعل السباع. ثُمَّ ندم فضمه إليه حتى أروح تغيرت رائحته وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله وكره أن يأتي به آدم فيحزنه، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، ثُمَّ حَفَرَ له بمنقاره وجعل يحثي عليه التراب حتى واراه فقال قابيل: أَعَجَرْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخي [المائدة: ٣١]. وكان أول قتل وقع في الأرض؛ ولهذا لم يهتد لدفن أخيه حتى تعلم من الغراب.

وفي "الصحيحين" و "السنن" غير "أبي داود" عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كان على ابن آدم الأَوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها؛ لأنَّه كان أَوَّلَ مَن سَنَّ القَتْلَ».

وقول الحسن في قوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ءَادَمَ ﴾ [المائدة: ۲۷]: «كانا . بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان أول من مات».

۲۹۲

قصص الانبياء

باطل وغلط قطعا إذ كيف يكون من بني إسرائيل ويكون أول من مات؟!! وبين آدم وبني إسرائيل مئات القرون من الزمان مات وقتل فيها ألوف من الناس، فهل بقي أولئك الألوف من غير دفن، حتى تعلمه بنو

إسرائيل من الغراب ؟!!

والمقصود

أنَّ القصة وقعت لابني آدم لصلبه بنص القرآن والحديث الصحيح، إذا عرف هذا فالآية تفيد أنها قربا إلى الله قُربانًا، وأنَّ أحد الأخوين أخبر أخاه بأنَّ الله إنما يتقبل من المتقين، وأنه إن قتله يبوء بإثمهما وأنه يكون من أصحاب النار، وأنَّ النار جزاء الظالمين، وأن خوف الله رب العالمين منعه أن يبسط إليه يده بالقتل.

فهذه عِدَّة أحكام دينية شرعية لا تُدرك ولا تُعرَف إِلَّا من طريق رسول، ولا رسول في ذلك الوقت إلَّا آدم عليه السلام، فكان هو الرسول إلى أولاده وأهل بيته، وهذه الدلالة من الوضوح بالمكان الذي لا يخفى.

دلالتان من القرآن أيضًا

قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ

بعضهم دَرَجَنتِ ﴾ [البقرة: ٢٥٣].

في هذه الآية دلالة على رسالة آدم من وجهين:

الأول: في قوله: تلك الرُّسُلُ ، فإن الإشارة بتلك إلى الرسل السابق ذكرهم في سورة (البقرة)، وهم آدم وموسى وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وداود.

قصة آدم اللي

۲۹۳

ثُمَّ أجمل عددهم في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: ٢٥٢]. الثاني: في قوله : مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ : وهم آدم وموسى والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

أمَّا آدم فقد سبق أنَّ الله علَّمه الأسماء، وأمره ونهاه، وكل ذلك بغير واسطة كما سيأتي في الحديث، وأما موسى فلقول الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: ١٦٤]، وأمَّا النبيُّ فكان تكليم الله له ليلة المعراج.

دلالة أخرى من القرآن

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَعَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾

[آل عمران: ٣٣]. وَمَالَ إِبْرَاهِيمَ : إسماعيل وإسحاق، ووَعالَ عِمْرَانَ : موسى وهارون.

ومَن فسَّر هما بغير هذا فقد ذَهَلَ؛ لأنَّ الله اقتصر على هؤلاء لحكمة ظاهرة، هي أن آدم أبو البشر ، ونوحًا أبوهم الثاني، وإبراهيم جعل الله في ذريَّته النبوة والكتاب بواسطة ولديه إسماعيل وإسحاق، وموسى أتى بالتوراة فيها تفصيل كل شيء ، وأمته أكثر الأمم من عهد آدم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنبياء بني إسرائيل بعده كلُّهم تابعون له حتى عيسى عليه السلام، ولهذا لما سمع نفر من الجن القرآنَ من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَنقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِ قَا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى

الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقِ مُسْتَقِيم ﴾ [الأحقاف: ۲۹ - ۳۰].

٢٩٤

قصص الانبياء

ولم يشيروا إلى عيسى عليه السلام؛ لأنَّ الإنجيل غالبه مواعظ، وما فيه من الأحكام لا يخرج عن التوراة إلا في النادر ، كما قال تعالى على لسان عيسى:

وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [آل عمران: ٥٠].

إذا علم هذا فالاصطفاء في الآية اصطفاء رسالة، كما في قوله تعالى:

يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: ٧٥].

وقوله تعالى في إبراهيم: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَهُ في الدُّنْيَا } [البقرة: ١٣٠] وقوله تعالى في جملة من الرسل: وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ ص: ٤٧]، وقوله تعالى لموسى: قَالَ يَمُوسَى إِنِّي أَصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَلَاتِي وَبِكَلِّمِي فَخُذْ

مَاءَ اتَيْتُكَ وَكُن مِن الشَّكِرِينَ ﴾ [الأعراف: ١٤٤].

ولا يَرِدُ على هذا قوله تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَيْكَةُ يَمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَأَصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَلَمِينَ ﴾ [آل عمران: ٤٢] فإن هذا ليس اصطفاء رسالة بالإجماع؛ لقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَسْتَلُوا

أهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) بِالْبَيْتِ وَالزُّبُرِ ﴾ [النحل: ٤٣ - ٤٤] . وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن

كنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: ٧].

بل قوله: وَأَصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَلَمِينَ ﴾ [آل عمران: ٤٢] يؤكد ذلك أيضًا إذ لو كان اصطفاء رسالةٍ لقال : واصطفاكِ على العالمين»؛ لأن الرسول

مُفضَّل على العالمين رجالا ونساء كما هو معلوم بالضرورة.

قصة آدم الظن

٢٩٥

وأيضًا فإِنَّ الله قال عنها: وَأُتُهُ صِدِّيقَة [المائدة: ٧٥] وهذا قاطع في

أن اصطفاءها ليس اصطفاء رسالة ولا نبوَّة.

دلالة السنة النبوية

1 - روى الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ ولا فَخْرَ، بيَدِي لِواءُ الحَمْدِ ولا فَخْرَ، وما مِن نبي يومئذٍ آدَمَ فَمَن سِواهُ إِلَّا تَحتَ لوائي، وأنا أوَّلُ مَن تَنْشَقُ عنه الأرضُ ولا فَخْرَ ...» الحديث. قال الترمذي: «حدیث حسن».

۲- روى أحمد والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو في المسجد فجلستُ فقال: «يا أبا ذر هل صَلَّيْتَ؟». قلت: لا. قال: «قُمْ فصَلِّ». فقمتُ فصَلَّيتُ ثُمَّ جلستُ، فقال: «يا أبا ذر تعوَّذُ بالله من شر شياطين الإنس والجنّ». قلتُ: يا رسول الله أو للإنس شياطين؟ قال: «نَعَمْ». قلتُ: يا رسول الله الصَّلاةُ؟ قال: «خَيْرٌ موضوع، مَن شَاءَ أَقلَّ ومن شاءَ أكثر». قلت: يا رسول الله فالصوم؟ قال: «فرضٌ يُجزى وعند الله مزيد». قلت: يا رسول الله فالصَّدَقَةُ؟ قال: أضعافٌ مُضاعَفَةٌ». قلت: يا رسول الله فأيهما أفضل؟ قال: «جُهْدٌ مِن مُقِلٌ أو سِرُّ إلى فَقِير». قلتُ: يا رسول الله أي الأنبياء كان أوّل؟ قال: «آدم» قلتُ: يا رسول الله ونبيًّا كان؟ قال: «نَعَمْ نبي مُكَلَّم. قلتُ يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: «ثَلاثمائة وبِضْعَةَ عَشَرَ جَمَّا غَفِيرًا» وقال مرَّةً وخَمْسَةَ عَشَرَ». قلتُ: يا رسول الله أيها أنزل عليك أعظم؟

٢٩٦

قصص الانبياء

قال: «آية الكرسي: الله اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ». صححه ابن حِبَّان }

والحاكم، وسلمه الذهبي، وهذا مما رواه المسعودي قبل اختلاطه.

روی ابن حبان في "صحيحه" عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قلتُ: يا رسول الله كم الرُّسُلُ منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثةَ عَشَرَ جَمَّا غَفِيرًا». قلتُ: يا رسول الله من كان

أولهم؟ قال: «آدم». قلت: يا رسول الله نبي مرسل ؟ قال «نَعَمْ، خَلَقَهُ اللهُ بـ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ ثُمَّ سَوَّاه قِبَلا».

بیده

وافق على تصحيحه الحافظ ابن كثير ) . والحافظ ابن حجر. ورواه عبد بن حميد في "تفسيره" والآجري في "الأربعين".

- روى الطبراني وأبو الشيخ في "العظمة" وابن مردويه عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله أرأيتَ آدم أنبيا كان؟ قال: «نَعَمْ، كان نبيًّا رَسُولًا، كلَّمه الله قبلا، قال له : يا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ َوزَوْجُكَ الجنة». والحديث يُشير إلى أنه كان رسولا إلى زوجته.

ه - روى أحمد والبخاري في "التاريخ" ، والبزار، البيهقي في "الشعب": عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الأنبياء كان أول؟ قال: «آدم». قلت: يا رسول الله و نبيًّا كان؟ قال: «نَعَمْ، نبيٌّ مُكَلَّمُ». قلت: كم كان المرسلون؟ قال: لثلاثمائة وخمسة عشر جما غَفيرًا».

٦ - روى ابن أبي حاتم ، والطبراني، والبيهقي في "الأسماء والصفات": عن أبي أمامة رضي ا الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله أنبيا كان آدم؟ قال: «نَعَمْ، نبيٌّ مُعَلَّمٌ مُكَلَّمٌ». قال: كم بينه

قصة آدم اللي

۲۹۷

وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» قال: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة عشر جما غفيرا». صححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم، وسلمه

الذهبي.

روى أحمد وابن المنذر والطبراني وابن مَرْدُويَه عن أبي أمامة: أنَّ أبا ذرّ قال: يا نبي الله أيُّ الأنبياء كان أوّل؟ قال: «آدم». قال أونبيا كان آدم؟ قال نَعَمْ، نبيٌّ مُكَلَّمْ خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيه مِن رُوحِهِ ثُمَّ قال له: يا آدم، قبلا».

الفاء

قال: يا رسول الله كم عِدَّة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ) الرُّسُلُ من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غَفيرًا». ولهذه الأحاديث طرق ذكرها الحافظ السيوطي في "الأمالي التفسيرية" بتوسع.

وقد زعم بعض الناس أن قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم من قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ [غافر: ۷۸] يعارض بعض هذه

الأحاديث التي عينت عدد الأنبياء والرسل. وهو زعم باطل، ومعاذ الله أن يكون بين القرآن والحديث تناقض وتدافع، والأمر هنا واضح لولا الغفلة أو الغرض، فالحديث عرض لعددهم، والقرآن إنما عرض لقصصهم ولم يشر ، لعددهم، فأين التناقض المزعوم ؟!!

الإجماع

قال ابن حزم في كتاب "مراتب الإجماع " تحت ترجمة: «باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع، ما نصه: «واتفقوا أَنَّ كلَّ نبيٌّ ذُكِرَ في القرآن حَقٌّ؛ كآدم وإدريس ونوح وهودٍ وصالح وشعيب ويونس وإبراهيم

۲۹۸

قصص الانبياء

وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وهارون وداود وسليمان وإلياس واليسع ولوط وزكريا ويحيى وعيسى وأيوب وذا الكفل».اهـ وكذا نقل الإجماع غير واحد من العلماء.

استشكال حول رسالة آدم عليه السلام والجواب عنه

ثبت في "الصحيحين" في حديث الشفاعة الطويل: أنَّ الناس يطلبون من يشفع لهم فيذهبون إلى آدم فيعتذر ويدلهم على نوح فيذهبون إليه ويقولون: «أنت أول رسول إلى أهل الأرض». فأخذ بعض الناس من هذا أنَّ آدم ليس برسول، وإلا لم يصح ذلك القول منهم، ولو تأملوا لفظ الحديث جيّدًا لوجدوا فيه جواب ما استغلق عليهم، فإن آدم عليه السلام كان رسولًا إلى زوجه في الجنة وبعد خروجه منها استمرت رسالته لأولاده، فلم تتعد رسالته محيط بيته، أما نوح عليه السلام فهو أول رسول إلى أهل الأرض كما في الحديث؛ لأنَّ رسالته تجاوزت أهل بيته وأقاربه إلى الأباعد والأجانب، فكان مرسلًا إلى أُمَّةٍ مِن الناس، سماهم الله قومه كما سمَّى قوم هود وصالح، وكثر فيهم الكفر والعناد واللجاج حتى دعا عليهم بقوله: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الكَفِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧].

آدم هو أبو البشر

يزعم بعض الناس أنَّ آدم ليس هو أول النوع الإنساني بل كان قبله أوادم

كثيرة، ويستأنسون لهذا الزعم بأمور ثلاثة:

قصة آدم اللي

۲۹۹

الأول: حديث يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يفيد هذا المعنى

وهو مذكور في "السيرة الحلبية" وغيرها.

الثاني: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَتَبِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خليفة [البقرة: ٣٠] الآية، فآدم إنما خلف غيره من الأمم التي كانت تعمر الأرض قبله وبادت.

الثالث: أنَّ علماء الجيولوجيا يرون بقايا عظام لآدميين تخالف عظام الآدميين الموجودين الآن، يرجع تاريخ وجودها إلى مئات الآلاف من السنين، وأنَّ الجنس الآدمي الموجود الآن لا يمتُّ إلى ذلك الجنس الآدمي السابق بصلة ولا قرابة.

والذي يقتضيه التحقيق العلمي أنَّ آدم عليه السلام هو أبو البشر وأول النوع الإنساني على وجه الأرض، هذا ما يفيده القرآن والسنة الصحيحة بل المتواترة، فالقرآن ذكر غير مرة أنَّ الله خَلَقَ آدم من طين للدلالة على كمال قدرته، حيث خلق من طين بشرًا سويًا يسمع ويبصر ويعقل، ولو كان هناك أوادم آخرون لكان ذكرهم أولى في إفادة هذا المعنى وأوكد.

.

وانظر إلى عيسى عليه السلام حيث وجد من غير أب كيف شبهه الله بآدم فقال : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَفَهُ، مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ :

[آل عمران: ٥٩] فهذا صريح في أنَّ آدم أول البشر على الإطلاق.

يُضاف إليه مثل قوله تعالى : النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ

مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء ﴾ [النساء : 1].

۳۰۰

قصص الانبياء

وقوله تعالى: يَبَنِى ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: ۲۷].

وفي حديث الشفاعة المخرَّج في "الصحيحين" وغيرهما عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَنَّ النَّاسَ يأتون آدم فيقولون: أنت أبو البشر خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ.... الحديث. وفي "الصحيحين" أيضًا من طرق تزيد على عشرة، عن أبي هريرة وغيره، النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في محاجة موسى وآدم: «أن موسى عليه

عن

السلام قال لآدم: أنتَ أبونا خَيَّبَتَنَا وأَخْرَجْتَنَا مِن الجنَّة ......

وفي رواية: «أنتَ أبو البشر ... » الحديث، وسيأتي بتمامه إن شاء الله. و في "الصحيحين" أيضًا عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «أول ما يُدْعَى يومَ القِيامَةِ آدم، فتراءَى ذُرِّيَّته، فيقال: هذا أبوكم فيقول: لبيك وسَعْدَيْكَ. فيقول: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ مِن ذُرِّيَّتِكَ، فيقول: يا ربِّ كم أُخْرِجُ ؟ فيقول: أَخْرِجُ مِن كلّ مائة تسعة وتسعين».

فقالوا: يا رسول الله إذا أخذ منا من كلّ مائة تسعة وتسعين فماذا يبقى مِنَّا؟! قال: «إنَّ أُمتي في الأُمَمِ كالشَّعْرَةِ البيضاء في الثور الأسود».

وعند ابن أبي الدنيا: عن الحسن البصري، عن النبي صلى الله عليه وآله

وسلم قال: «يقول الله لآدم: يا آدم أنتَ اليومَ

فانظر ما يُرفَعُ إليك من أعمالهم».

عدل بيني وبين ذُرِّيَّتِكَ، قُمْ

وروى الطبراني في "المعجم الصغير : عن الحسن البصري قال: خطبنا أبو

قصة آدم الطي

۳۰۱

هريرة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول : اليَعْتَذِرَنَّ الله تعالى يومَ القِيامَةِ إلى آدمَ ثلاثَ مَعَاذِيرَ يقول الله تعالى: يا آدم ، لولا أنِّي لَعَنْتُ الكَذَّابِينَ، وَأَبْغَضْتُ الكَذِبَ والخُلْفَ، وأُعَذِّبُ عليه لرحمتُ اليومَ ولَدَكَ أجمعين مِن شِدَّةِ مَا أَعْدَدْتُ لهم مِن العذاب، ولكن حَقَّ القولُ مِنِّي: لأنْ كُذَّبَتْ رُسُلِي وعُصِيَ أَمْرِي لأَمَلأَنَّ جَهَنَّمَ من الجنَّةِ والنَّاس أجمعين»، ويقول الله عزّ وجلَّ: «يَا آدَمُ، اعْلَمْ أَنِّي لا أُدْخِلُ مِن ذُرِّيَّتِكَ النَّارَ أحدًا، ولا أُعَذِّبُ بالنَّارِ إِلَّا مَن قَد عَلِمْتُ بِعِلْمِي أَنِّي لو رَدَدْتُهُ إلى الدنيا لعاد إلى شَرِّ ما كان فيه، ولم يَرْجِعْ، ولم يَعْتَبْ»، ويقولُ اللهُ: «يا آدم، قد جَعَلْتُكَ حَكَما بيني وبين ذُرِّيَّتِكَ، قُمْ عند الميزانِ، فَانظُرْ مَا يُرْفَعُ إليك مِن أعمالهم، فمَنْ رَجَحَ منهم خَيْرُهُ على شَرِّهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فله الجنَّةُ حَتَّى تَعْلَمَ أَنِّي لا أُدْخِلُ منهم النَّارَ إِلَّا ظايا».

فهذه النصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ومثلها نصوص كثيرة لا تكاد تنحصر، فدعوى وجود أوادم قبل آدم دعوى باطلة، تخالف ما هو معلوم بالضرورة للمسلمين، بل للمليين قاطبةً.

وما استأنس به أولئك الزاعمون لا ينهض ، أما الحديث الذي أوردوه فهو

باطل موضوع لا أصل له بجميع . ألفاظه وأما قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: ۳۰] فالمراد به خليفة عن الله في إقامة الأحكام وتبليغ الشرائع، والقيام بحفظ مصالح الخَلْقِ بما يكفل ذلك الحفظ ويصونه، أو

خليفة من الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم عليه السلام.

۳۰۲

قصص الانبياء

وما بقايا العظام التي تكلّم عنها الجيولوجيون أنها وجدت لجنس يرجع تاريخه إلى مئات الألوف من السنين إلا عظام أولئك الجن وبقاياهم، يؤيد هذا ويؤكده قولهم أيضًا: «إنَّ بقايا عظام ذلك الجنس لا تمت إلى الجنس الآدمي الموجود الآن بصلة أو قرابة، وهذا صحيح، لاختلاف عنصري الجنسين، فالجن من عنصر النار والإنسان من عنصر التراب، فالجيولوجيون أخطأوا في تسمية ذلك الجنس بالآدمي، والصواب أنه الجن كما بينا، والله أعلم.

هل أصل الإنسان قرد ؟!!

ظهرت نظرية في البلاد الأوروبية تقول: إِنَّ الإنسان أصله قرد، ثُمَّ ترقّى بسبب عوامل مجهولة حتى صار هذا الإنسان، وهي نظرية النشوء والارتقاء التي ابتدعها داروين، وتلقفها المفتونون بكل جديد ولو كان سخيفا باطلا، كهذه النظرية التي تردُّها دلائل النقل والعقل.

منها : أن نصوص القرآن الكريم صريحة في أنَّ آدم أبو البشر، وأنه مخلوق

من طين.

ومنها ما جاء في "الصحيحين" وغيرهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: خَلَقَ اللهُ آدَمَ على صُورَتِهِ، وطوله ستون ذراعًا...» الحديث. والضمير في صورته يعود على آدم.

وبعض الرواة فهم أنه يعود على الله ،فوهم وزاد بعضهم في الوهم وروى الحديث بالمعنى فقال: خَلَقَ الله آدمَ على صورة الرحمن»، وهو وهم مبني على

وهم، والمقصود أنَّ الحديث يُشير إلى أنَّ آدم خُلق على صورته الأصلية، لم

قصة آدم الطية

۳۰۳

يترق من قردٍ إلى أن صار إنسانًا، كما لم يتدرج في أطوار الصبا والشباب والكهولة والشيخوخة.

ومنها: أنَّ الله جعل عوالم المكلَّفين ثلاثة: الملائكة والإنس والجن، فالملائكة من نور، والجن من نار، والإنس من طين، كما صح في الحديث، بل صرح القرآن بذلك في الجن والإنس فحدَّد لكل عالم عنصرًا خاصًا به، منه تكون حسبما اقتضته المشيئة الإلهية، ولو كان الإنسان ترقى من قرد أو غيره، لبينه الله حينما عرض لبيان عنصري الثقلين، أو لبينه الرسول المبلغ عنه حينما عرض لبيانهما مع بيان عنصر الملائكة، ولا يجوز السكوت عنه أبدا بحال؛ لأنه إخبار بخلاف الواقع، وإيقاع للناس في الغموض والإشكال، وذلك في حق الله ورسوله محال.

ومنها: أنه لا يجوز في قضايا العقول أن يتطور حيوان ما تطورًا تلقائيا يخرج به عن حقيقته إلى حقيقة أخرى تباينها تباينا تاما في الذاتيات والعوارض، فالقرد قرد منذ أوجده الله في هذا العالم لم يتحول إلى حيوان آخر فيما مضى، ولن يتحول إليه في المستقبل ولو مضى عليه ملايين السنين، والإنسان إنسان كذلك، والفرس فرس، وهكذا كل ما في هذا العالم من أنواع الموجودات لا يمكن نوع منه أن ينقلب تلقائيا إلى نوع آخر يباينه، اللهم إلَّا ما جاء في القرآن من مسخ بعض اليهود قردة وخنازير، وهذه حالة نادرة جعلها الله عبرة ونكالا، كما قال الله تعالى: فَجَعَلْنَهَا نَكَلًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ٦٦].

٣٠٤

قصص الانبياء

على أن أولئك الممسوخين لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام ثم ماتوا ولم يتركوا نسلا من جنس ما مسخوا إليه، والعجيب أن بعض المعاصرين وقف في كتابه "قصص الأنبياء" من هذه النظرية السخيفة موقف التردُّدِ والخَوَرِ، وأبدى استعداده لتأويل القرآن إذا ثبت بالأدلة القاطعة، بل فتح باب التأويل مقدما حيث صرح بأنَّ: نصوص القرآن الظاهرة تدل على أنَّ أصل الإنسان آدم، ولم يكن قردا» إلخ.

فقوله: «الظاهرة» فتح الباب التأويل على مصراعيه، وهذا منه يدل على فقد إيمانه بعقله، وضعف ثقته بالقرآن، حيث توجس أن يأتي يوم تثبت فيه هذه النظرية وتصطدم بنصوصه.

ولكنا نؤمن جازمين أنه لن يأتي يوم يكون لها فيه نصيب من الواقع، إلا إذا صار العلم جهلا، والنور ظلاما والنهار ليلا.

أصل نظرية النشوء والارتقاء

قال العلامة ابن خلدون في مقدمة "تاريخه : اعلم أرشدنا الله وإياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسيِّبات واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غاياته، وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني، وأولا عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعدًا من الأرض إلى الماء ثُمَّ إلى الهواء ثُمَّ إلى النار متصلا بعضها ببعض، وكل واحدٍ منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدًا وهابطًا، ويستحيل

قصة آدم الطي

٣٠٥

بعض الأوقات، والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك

وهو ألطف من الكل».

،

إلى أن قال: «ثُمَّ انظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن ثُمَّ النبات ثُمَّ الحيوان، على هيئة بديعة من التدريج، آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط ، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أنَّ آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب أن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده، وهذا غاية شهودنا». اهـ

وراجعه في مبحث الكلام على حقيقة النبوة، وهو يقصد به إلى ترابط العالم وتناسقه في ترتيب بديع واتصال عجيب يدل على وحدته، وتماسك أجزائه، فأخذه داروين، ومسخه إلى ما ابتدعه على أنَّ بعض العلماء الألمان ادعى أنَّ القرد إنسان تقهقر، وليس الإنسان قردا مترقيّا، وجعل أدلة داروين أدلة على صحة نظريته، وقد يكون هذا أقرب إلى الصواب، فإن الله أخبر بأنه مسخ

اليهود الذين اعتدوا في السبت قردة. وإن كنا لا نقر هذه النظرية ولا تلك.

٣٠٦

قصص الانبياء

مسائل منثورة المسألة الأولى

تقدم في الحديث الذي رويناه عن "صحيح مسلم" أنَّ آدم خُلِقَ يوم الجمعة، ومعنى ذلك أنَّ الله تعالى بعد أن صوَّره من طين وتركه حتى صار حماً

مسنونا، نفخ فيه الروح يوم الجمعة.

وفيها أيضًا أهبط من الجنة، قال ابن عباس: «ما سكن آدم الجنة إلا ما بين

صلاة العصر إلى غروب الشمس». صححه الحاكم.

وقال موسى بن عقبة: مكث آدم في الجنة ربع النهار، وذلك ساعتان ونصف، وذلك مائتا سنة وخمسون سنة، فبكى على الجنة مائة سنة». رواه عبد الله بن أحمد في زوائد "الزهد "(1).

المسألة الثانية

كان طول آدم ستين ذراعًا وعرضه سبعة أذرع، ثُمَّ لم يزل الخَلْقُ يتناقص شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى الأحجام المشاهدة الآن.

ففي

"الصحيحين" وغيرهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خَلَقَ اللهُ آدَمَ على صُورَتِهِ ، وطوله ستون ذراعًا، فلما خَلَقَهُ قال:

(۱) لكن قال ابن جرير : ومعلوم أنه خُلق في آخر ساعة من يوم الجمعة والساعة منه ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر - فمكث مصوّرًا طينًا قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنة، وأقام في الجنة قبل أن يهبط ثلاثا وأربعين سنة وأربعة أشهر، والله تعالى

أعلم». اهـ

قصة آدم الة

۳۰۷

اذهب فسلَّم على أولئك من الملائكة، فاستمع ما يُحيونك به فإنها تحيَّتُك وتحيَّة ذُرِّيَّتك فقال : السَّلام عليكم، فقالوا السّلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله،

فكلُّ مَن يدخل الجنَّةَ على صورة آدم، فلم يزل الخَلْقُ ينقصُ حتَّى الآن». وفي "مسند أحمد" بإسنادٍ حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه

وآله وسلّم: «كان طول آدم ستين ذراعًا في سبعة أذرع عَرْضًا. وأما ما جاء في بعض الآثار أنَّ آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء فحَطَهُ اللهُ إلى ستين ذراعًا فلا يعوّل عليه؛ لمخالفته للحديث

الصحيح.

المسألة الثالثة

تقدم في الحديث الذي رويناه عن "الصحيحين" أنَّ آدم عاش ألف سنة، وأنه وَهَبَ من عمره أربعين سنةً لداود، فلما جاءه مَلَكُ الموتِ، قال له: بقي من عمري أربعون سنةً، ونسي هبته السابقة، فأكمل الله له الألف، وأبقى

لداود المائة.

ولم يرد في عمر حوّاء حديث ولا أثر، ويظهر أنها عاشت ألفا أو ما يقرب منها، وعاشت بعد آدم مدة لم يرد في تعينها شيء يُعتمد عليه، وفي "تاريخ ابن كثير" أنها ماتت بعده بسنةٍ واحدةٍ.

المسألة الرابعة

لم يتعرض القرآن ولا السُّنَّة الصحيحة لتعيين المكان الذي أهبط إليه آدم،

وجاء في تعيينه أحاديث ضعيفةٌ، وآثارٌ عن بعض الصحابة والتابعين، لا بأس

أن نشير إليها :

۳۰۸

قصص الانبياء

فروى الطبراني، وأبو نعيم في "الحلية" وابن عساكر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «نَزَلَ آدم عليه السلام بالهند فاسْتَوْحَشَ، فنَزَلَ جبريل عليه السَّلام فنادى بالآذان، الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله مرتين. أشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله مرتين. فقال: ومَن محمَّدٌ

هذا؟ قال هذا آخر الأنبياء مِن ذُرِّيَّتك». حديث غريب منكر.

وصح عن ابن عباس أنَّ أوَّل ما أهبط الله آدم إلى أرض الهند. وروى ابن جرير والبيهقي في "البعث" عن ابن عباس قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أطيب ريح الأرض: الهند، أهبط بها آدم فعلق ريحها

من شجر الجنة». صححه الحاكم.

وجاء عن ابن عباس أيضًا قال: «أهبط آدم بالهند وحواء بجدة، فجاء في

طلبها حتى أتى جمعا، فاز دلفت إليه حواء فلذلك سميت المزدلفة، واجتمعا

بجمع

فلذلك سميت جمعا».

وممن قال هبط بالهند: جابر بن عبدالله وابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، والسُّدِّي.

وفي رواية عن ابن عمر قال: «أهبط الله آدم بالصفا وحواء بالمروة». رواهما

ابن أبي حاتم. وفي رواية ثالثة عن ابن عباس: «إنَّ آدم هبط بدجناء أرض الهند». رواها ابن أبي حاتم والحاكم.

و «دجناء»: بضم الدال وكسرها، يقال بالجيم والحاء، يمد ويقصر.

قصة آدم الط

۳۰۹

المسألة الخامسة

قال ابن إسحاق: ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث، وعلمه ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادات تلك الساعات، وأعلمه بوقوع

الطوفان، وكانت وفاته يوم الجمعة، وتولت الملائكة تجهيزه ودفنه». روى عبدالله بن أحمد بإسناد صحيح عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه قال:

إنَّ آدم لما حضره الموت قال لبنيه: أي بني إنّي أشتهي من ثمار الجنة، فذهبوا يطلبون له فاستقبلتهم الملائكة أكفانه وحَنُوطُهُ،

ومعهم

ومعهم

الفؤوس

والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم يا بني آدم ما تريدون؟ قالوا أبونا مريض واشتهي من ثمار الجنة ، فقالوا لهم: ارجعوا فقد قضى أبوكم، فجاءوا فلما رأتهم حواء عرفتهم فلاذت بآدم، فقال إليك عني فإنّي إنما أتيتُ مِن قِبلَكِ، فخَلِّي بيني وبين ملائكة ربي عزَّ وجلَّ، فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحَنَّطوه وحفرواله والحدوه وصلُّوا عليه، ثُمَّ أدخلوه قبره فوضعوه فيه ثُمَّ حَثَوا عليه، ثُمَّ قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم».

واختلف في موضع دفنه قال ابن كثير : والمشهور أنه دفن عند الجبل الذي أهبط فيه في الهند، وقيل: بجبل أبي قبيس بمكة، وقيل إن نوحًا عليه السلام لما كان زمن الطوفان حمله هو وحواء في تابوت فدفنهما ببيت المقدس، حكاه ابن جرير وروى ابن عساكر عن بعضهم أنه قال: رأسه عند مسجد إبراهيم،

ورجلاه عند صخرة بيت المقدس. وذكر أهل التاريخ أن آدم لم يمت حتى رأى من ذريته - من أولاده وأولاد

۳۱۰

قصص الانبياء

أولاده أربعمائة ألف نسمة، وشيث ولد له بعد قتل هابيل واسمه هبة الله

وكان نبياً، فقد روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل عليه

خمسون صحيفة. صححه ابن حبان.

المسألة السادسة

قوله تعالى: هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَفَشَهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَعَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَبِنْ اتيتنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ )) فَلَمَّا ءَاتَهُمَا صَلِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا وَاتَهُمَا فَتَعَلَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۸۹ - . ١٩٠] ليس المراد به آدم وحواء، وإنما المراد به المشركون من ذريَّتها، كما قال الحسن: «عني بها من ذريَّة

آدم ومن أشرك منهم بعده ، يعني : جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَهُمَا . قال أيضًا : هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا فهوَّدوا ونصروا». ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام كما في "الصحيحين": «كل مولود يُولَدُ على الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجْسانِهِ، كما تُنتج البهيمة بهيمةٌ

جَمْعاء، هل تُحِسُّون فيه مِن جَدْعَاءَ؟ حَتَّى تكونوا أنتم تَجْدَعُونها».

وإنما ذكر الله آدم وحواء أولا توطئةً وتمهيدًا لما بعدهما من الوالدين، فهو استطراد من ذكر الشخص إلى الجنس، وذلك مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا

السَّمَاةَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَجَعَلْتَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ﴾ [الملك: ٥].

ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي " هي التي

يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في

قصة آدم ال

۳۱۱

القرآن؛ قاله ابن كثير .

أما الحديث الذي رواه أحمد عن سمرة مرفوعًا: «لما وَلَدَتْ حواء طافَ بها إبليس، وكان لا يعيشُ لها وَلَدٌ، فقال لها : سَمِّيه عبدالحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره . فقد اعتمده كثير من المفسّرين وحملوا الآية على آدم وحواء عليهما

كبيرة،

السلام، وأيدوه بما ورد في ذلك عن ابن عباس وأبي، وتلك غفلةٌ منهم فالحديث - وإن حسنه الترمذي وصححه الحاكم - منكر لا يصح لوجوه: أحدها: أنه روي من قول سمرة غير مرفوع كما قال الترمذي، رواه كذلك ابن جرير وغيره. ثانيها: كيف يقال كان لا يعيش لها ولد حتى سمته عبد الحارث، والله تعالى

إنما أهبطهما إلى الأرض لتكون لهما الذرية والخلف؟!

ثالثها: تقدم في الحديث الصحيح من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اللَّما خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِن ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُو خَالِقُها

مِن ذُرِّيَّته إلى يوم القِيامَةِ؛ ثُمَّ عَرَضَهُمُ على آدم ، فقال أي ربِّ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذُرِّيَّتُكَ .... الحديث، وهذا العرض كان في الجنة، فكيف يتأتى بعد هذا أن يقبل آدم وحواء قول الشيطان لا يعيش لهما ولد... إلخ؟! وهل هذا إلا تكذيب لخبر الله تعالى لا يليق صدوره من مطلق المؤمنين فضلا عن أبوي البشر عليهما السلام. رابعها: أنَّ الله تعالى قال: فَتَلَقَى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَةٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: ٣٧]

وقال: ثُمَّ اجْنَبَهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: ١٢٢] فسجل الله توبته

۳۱۲

قصص الانبياء

وهدايته، فكيف يقع في حبالة الشيطان بعد أن اجتباه الله وهداه؟!. خامسها أنه لو فرض حصول هذا منهما لأخبر بتوبتهما منه كما أخبر بتوبتهما من الأكل من الشجرة الذي حصل نسيانًا ، لكنه لم يخبر بتوبتهما لا في القرآن ولا في السُّنَّة، فهل معنى ذلك أنهما ماتا عاصيين، بل مشركين؟!! من اعتقد فيهما ذلك فليس بمسلم.

سادسها: أنَّ إجماع المسلمين المستند إلى الأدلة القطعية منعقد على أنَّ الأنبياء معصومون من الشرك وما يؤول إليه، قبل النبوة وبعدها؛ لأنهم مفطورون على

التوحيد، فكيف يقرُّ آدم على شرك يقع في بيته تحت سمعه وبصره؟!!. سابعها: أنَّ قول الله تعالى: فَتَعَلَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الأعراف: ١٩٠] دليل على أنَّ المراد ذرية آدم من المشركين واليهود والنصارى.

والمقصود أنَّ ذلك الحديث منكر بجميع طرقه وألفاظه، لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، بل هو مأخوذ من الإسرائيليات، حدث به عن مسلمة أهل الكتاب: سمرة وابن عباس وأبي وغيرهم من التابعين.

المسألة السابعة

قيل إنَّ آدم عليه السلام أول من قال الشعر: وذلك حين قتل قابيل أخاه

هابيل فبكى وقال: تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَن عليها فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَةٌ قَبِيحُ

تَغَيَّرَ كُلَّ ذِي لَوْنِ وطَعْمِ وقَلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحِ

()

(1) من الفوائد العروضيَّة المتعلقة بهذه الأبيات ما ذكره ياقوت في "معجمه " حيث قال:

قصة آدم ال

۳۱۳

فأجابه إبليس لعنه الله :

تنع عن البلاد وساكنيها فبي في الخُلْدِ ضَاقَ بِكَ الفَسِيحُ وكنت بها وزَوِّجُكَ في رَخَاءِ وقَلْبُكَ مِن أذَى الدنيا مريحُ فما انفكت مُكايَدَتي ومَكْرِي إِلى أَن فَاتَكَ الثَّمَنُ الرَّبِيحُ

رواه الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس.

قال الحافظ ابن كثير : وهذا الشعر فيه نظر، وقد يكون آدم قال كلاما

يتحزن به بلغته، فألفه بعضهم إلى هذا». اهـ.

المقصود أن نسبته إلى آدم غير صحيحة.

حدثني شيخنا الإمام علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسي قال: حدثني شيخنا تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي قال: بلغني أنَّ أبا سعيد السيرافي دخل على

ابن دريد وهو يقول: أول من قال الشعر أبونا آدم عليه السلام في قوله: تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَن عليها فَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَةٌ قَبِيحُ تَغَيَّرَ كُلَّ ذِي لَوْنِ وطَعْمِ وقَلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ الْمَلِيحِ

فقال أبو سعيد : يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء، فقال وكيف ذلك؟ فقال: بأن ينصب بشاشة» على التمييز ويرفع «المليح» بـ «قل» ويكون قد حذف التنوين

لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله:

فالْفَيْتُهُ غير مُسْتَعْتِب ولا ذاكر الله إلا قليلا

قال فرفعني حتى أقعدني بجانبه.

قلت الإقواء اختلاف الروي باختلاف حركة الإعراب كما هنا. فلفظ قبيح مرفوع

ولفظ «المليح» مجرور، وهو من العيوب الشعرية كالإيطاء والتضمين.

٣١٤

قصص الانبياء

(۱۷۲)

المسألة الثامنة

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَفِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٤]. هو كما قال الزمخشري والبيضاوي وأبو حَيَّان من باب التمثيل، ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال: الستُ بِرَبِّكُم وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك».

وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم، وفي كلام العرب.

ونظيره قوله عزّ وجلَّ: إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَهُ أَن تَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [النحل: ٤٠] فَقَالَ لَهَا وَالْأَرْضِ انْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهَا قَالَتَا أَنَيْنَا طَابِعِينَ ﴾ [فصلت: ۱۱].

ومعلوم أنه لا قول ثَمَّ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى.

وقوله تعالى : أن تَقُولُوا ، أي : فعلنا ذلك من نصب الأدلة كراهة أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين لم تُنبه عليه. أو كراهة أن تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم؛ فاقتدينا بهم.

لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في

قصة آدم ال

٣١٥

الاقتداء بالآباء وتقليدهم، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم، واستعير كون أخذ الميثاق بالتوحيد من ظهور ذريات بني آدم كأن الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهور، وهذا من تمثيل المعنى.

أما الحديث الذي في "الصحيحين" عن أنس: أنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يومَ القِيامَةِ: لَو أَنَّ لك ما في الأرضِ مِن شيءٍ أكنتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فيقولُ: نَعَمْ. فيقولُ: أردتُ مِنكَ أهونَ مِن هذا وأنتَ فِي صُلْبِ آدمَ؛ أَن لا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبِيتَ إِلَّا أَن تُشْرِكَ بِي». فقال عياض وغيره: « يُشير بذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الأعراف: ۱۷۲] الآية، فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم؛ فمن وفّى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يوف به فهو الكافر» . اهـ

قلت: وهذا يفيد أن الميثاق أخذ على ذرية آدم وهم في صلبه.

والذي دعا عياضًا وغيره إلى حمل الحديث والآية على هذا المعنى ما رواه أحمد والنسائي عن ابن عبّاس عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ اللهَ أَخَذَ الميثاقَ مِن ظَهْرِ آدمَ عليه السلام بنَعْمانَ - يعني عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِن صُلْبِهِ كلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَتَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبلًا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا

مِن قَبْلُ وَكُنَا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتَهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) . صححه الحاكم.

٣١٦

قصص الانبياء

و ما رواه ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال : «أُخِذُوا مِن ظَهْرِهِ كما يُؤخَذُ بِالمِشْطِ مِن الرَّأْسِ فقال لهم : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا: بلى قالت الملائكة: شهدنَّا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا

غفِلِينَ .

ولكن هذين الحديثين معلولان، فحديث ابن عباس اضطرب راويه كلثوم ابن جبر فرفعه مرة، ووقفه أخرى، والوقف أكثر وأثبت كما قال الحافظ ابن كثير؛ إذ رواه كذلك عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وكذلك رواه العوفي وعلي ابن طلحة عن ابن عباس أيضًا، فهو من كلامه

لا من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

وحديث عبدالله بن عمرو في سنده أبو محمد الجرجاني - واسمه أحمد بن أبي طيبة - قاضي ،قومس كان مع زهده يحدث بأحاديث كثيرة غرائب كما قال ابن عدي، وقول أبي حاتم: يكتب حديثه، لا يفيد اعتماده، إذ يقصد كتابة حديثه للاعتبار لا للاحتجاج. ثُمَّ إِنَّ هذا الحديث روي من طريقين ثابتين عن عبدالله بن عمرو موقوفا عليه، أي من كلامه. وعندي أن حديث أنس السابق يشير إلى ما رواه مالك، ومن طريقه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان في

قصة آدم ال

۳۱۷

"صحيحه" عن عمر رضي الله عنه سُئل عن هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الآية، فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم- سُئل عنها فقال: «إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عليه السلام ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةٌ قال: خَلَقْتُ هؤلاءِ للجَنَّةِ وبِعَمَلِ أَهلِ الجنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فاسْتَخْرَجَ مِنه ذُرِّيَّةٌ قال: خَلَقْتُ هؤلاء للنَّارِ وبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ». فقال رجل: ففيمَ العَمَلُ يا رسول الله؟ قال: «إذا خَلَقَ اللهُ العَبْدَ للجَنَةِ اسْتَعْمَلُهُ بأعمالِ أَهْلِ الجنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ على عَمَلٍ مِن أعمالِ أَهْلِ الجنَّةِ، فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجنَّةَ، وإذا خَلَقَ اللهُ العَبْدَ للنَّارِ اسْتَعْمَلُهُ بأعمال أهلِ النَّارِ حَتَّى يموتَ على عملٍ مِن أعمال أهلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ به النَّارَ حسَّنه الترمذي، وللحديث طرق وشواهد. وهو يفيد أنَّ الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة والنار من غير أن يشهد عليهم، وهذا تخصيص لعموم الآية؛ لأنها دالة كما سبق على أنَّ الله نصب الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، فبيَّن هذا الحديث أنَّ تلك الأدلة إنما ينتفع بها ويهتدي إليها من كان من أهل الجنة الذين ميّزهم الله حين استخرجهم من صلب آدم وقال: «خلقتُ هؤلاء للجنَّةِ»، أما الطائفة الأخرى التي قال الله فيها: «خلقتُ هؤلاء للنَّارِ»، فلا ينتفعون بأدلة التوحيد، بل يصدون عنها ويأبون قبولها وهم الذين يقول الله للواحد منهم يوم القيامة: «لو كان لك ما في الأرض أكنتَ تَفْتَدِي به؟»؛ فيقول: نَعَمْ، فيقول الله : أردتُ منك أهونَ مِن هذا وأنتَ في صُلْبِ آدمَ أَن لا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبيتَ إِلَّا

۳۱۸

قصص الانبياء

أن تشرك بي. جعل أهليته للنار واستعداده لها وهو في صلب آدم بمنزلة الإباء والامتناع، فكأنه سبحانه طلب منه التوحيد، وكأن الكافر أبى إلَّا الشرك، فهو من باب تمثيل المعنى وتصويره على وزان ما سبق من الآية، وبهذا يزول الإشكال. وقال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد جملةً من الأحاديث في استخراج الذرية من صُلْبِ آدمَ ما نصه : فهذه الأحاديث دالَّةٌ على أنَّ الله عزَّ وجلَّ استخرج ذريَّةَ آدمَ مِن صُلْبِهِ وميّز بين أهل الجنة والنار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفي حديث عبدالله بن عمرو، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم، ومن ثُمَّ قال قائلون من السلف والخلف أنَّ المراد بهذا الإشهاد يعني في الآية - إنما هو فطرهم على التوحيد، وقد فسّر الحسن الآية، قالوا: ولهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل من ،آدم، من ظُهُورِهِم ولم يقل من ظهره ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الأعراف: ۱۷۲] أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنًا بعد

قرن.

كقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَكَيفَ الْأَرْضِ } [الأنعام: ١٦٥].

وقال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ [النمل: ٦٢].

وقال: كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْم اخرين ﴾ [الأنعام: ١٣٣]. ثم قال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [الأعراف: ۱۷۲] أي أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا، والشهادة تارة تكون بالقول،

قصة آدم اللي

۳۱۹

كقوله: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنا ﴾ [الأنعام: ١٣٠] الآية.

وتارة تكون حال كقوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَجِدَ اللَّهِ

شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ﴾ [التوبة: ۱۷] أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا

أنهم قائلون ذلك.

وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴾ [العاديات: ٧].

كما أن السؤال يكون تارةً بالمقال، وتارةً يكون بالحال كقوله: ﴿وَءَاتَنكُم

من كلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ [إبراهيم: ٣٤].

قالوا: هذا يدل على أنَّ المراد بهذا هذا: أن جعل هذا الإشهاد حُجَّةً عليهم

في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال بأن الإشهاد حقيقي لكان كل أحد يذكره ليكون حُجَّةً عليه». اهـ

المسألة التاسعة

في "الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «احْتَجَّ آدم وموسى فقال له :موسى: يا آدم، أنتَ أبونا خيبتنا وأَخْرَجْتَنا مِن الجنَّةِ، قال له آدم يا موسى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكِلامِهِ وخَطَّ لكَ بِيَدِهِ اتلُومُني على أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عليَّ قَبْلَ أَن يَخْلُقَنِي بأربعين سنةً، فَحَجَّ آدم موسى، فحَجَّ آدم موسى» ثلاثا .

ولهذا الحديث عشرة طرق عن أبي هريرة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير أبي هريرة عمر، وجندب بن عبدالله، وأبو سعيد الخدري.

۳۲۰

قصص الانبياء

قال الحافظ ابن عبد البر: «هذا الحديث ثابت بالاتفاق، رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، ورُوي عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم من وجوه

أخرى من رواية الأئمة الثقات الأثبات . اهـ

وله ألفاظ كثيرة في الكتب الستة و"مسند أحمد" وغيرها.

وفيه إشكال، وحاصله أن يقال: كيف حكم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لآدم بالحجة مع أنه احتج بالقدر، والاحتجاج بالقدر لا يفيد حسبما دلّ

عليه القرآن والسُّنَّة المتواترة؟ وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:

منها: قال القرطبي: «إنها غلبه بالحجة؛ لأنه علم من التوراة أنَّ الله تاب عليه، فكان لومه على ذلك نوع جفاء، كما يقال: ذكر الجفاء بعد حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحي حتى كأنه لم يكن، فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلا». اهـ

قال الحافظ ابن حجر: وهو محصل ما أجاب به المازري وغيره من المحققين، وهو المعتمد».اهـ

ومنها: قال الداودي في "شرح البخاري": «إنها قامت حُجَّة آدم؛ لأنَّ الله خلقه ليجعله في الأرض خليفةٌ، فلم يحتج آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم؛ لأنه كان على اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه، لأنه لم يكن بد من

ذلك» . اهـ

ويؤيد هذا ما رواه عبد الرزاق وعبد بن حميد وغيرهما عن ابن عباس قال: إنَّ الله أخرج آدمَ من الجنة قبل أن يخلقه ثُمَّ قرأ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: ٣٠].

قصة آدم ال

۳۲۱

المسألة العاشرة

يؤخذ من قصة آدم عليه السلام أمور: الأول: إنَّ حِكْمَة الله تخفى على أقرب الخَلْقِ إليه، كما خفيت حِكْمَة استخلاف آدم في الأرض على الملائكة؛ حتى اشتاقوا إلى معرفة الحكمة في هذا الاختيار.

الثاني: إن عناية الله إذا توجهت إلى الشيء الحقير المهين خلعت عليه حلل البهاء وأهلته لرتبة الاجتباء، ألا ترى كيف توجّهت عنايته إلى التراب الذي خُلق منه آدم فصيرته بشرًا سويًا، وجعلته مظهرًا لأسرار قدرته، وعلمه

الواسع، بحيث اعترفت الملائكة بالقصور عن إدراك مداه. الثالث: إنَّ طاعة المرأة تُعقب الندم، ألا ترى إلى آدم عليه السلام حين

وافق حواء على الأكل من الشجرة، وقع فيما وقع.

وقد ورد حديث ضعيف عن أنس مرفوعا: «لا يفعلن أحدكم أمرًا حتَّى يَسْتَشِيرَ، فإن لم يَجِدْ مَن يَسْتَشِيرُه فَليَسْتَشِرْ امْرَأَةً ثُمَّ لِيُخالفها؛ فَإِنَّ فِي خِلافها البركة». رواه ابن لال والديلمي.

وروى العسكري عن عمر رضي الله عنه قال: خالفوا النِّساء فإنَّ في

خلافهنَّ البركة.

وروي

أيضا عن معاوية قال: عودوا النِّساء: «لا»، فإنها ضعيفة؛ إن

أطعتها أهلكتك.

الرابع: أنَّ الإنسان - وإن سَمَتْ منزلته وعَظُمَتْ رتبته - لا يخلو من هفوة تقع منه، لنسيان يعرض له، أو تأويل يراه كما وقع لآدم عليه السلام، حيث

۳۲۲

قصص الانبياء

أكل من الشجرة ناسيًا كما سجله القرآن الكريم، أو متأولا كما قال كثير من

العلماء.

الخامس: أنَّ وقوع المخالفة من العبد تُجبَر بالتوبة والإنابة إلى الله كما وقع من آدم، فإنه حين اعترف وتاب تاب الله عليه واجتباه وهداه، وهذه سُنَّة الله العصاة من عباده؛ يقبلهم إذا تابوا ويفتح لهم باب رحمته: قُلْ يَعِبَادِيَ

مع

الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر : ٥٣].

السادس: أنَّ أصول الخطايا ثلاثة: الكبر، والحرص، والحَسَدُ. فالكبر هو الذي صيَّر إبليس إلى معارضة الأمر بالسجود. والحرص: هو الذي سبب خروج آدم من الجنة.

والحسد: هو الذي جرأ أحد ابني آدم على قتل أخيه.

فمن وقي شر هذه الثلاثة فقد وُقي الشر؛ فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والبَغْيُ والظُّلم مِن الحَسَد.

السابع: أنَّ ترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أمر بالسجود لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه. قاله سهل بن عبد الله .

قال ابن القيم: «هذه مسألةٌ عظيمةٌ لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة، وذكرها فأوصلها إلى ثلاثة وعشرين وجها:

قصة آدم الي

۳۲۳

منها: أن ارتكاب ذنب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكبر والعِزَّة، ولا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال

ذرَّةٍ من كبر، ويدخلها من مات على التوحيد وإن زَنَى وسَرَقَ. ومنها: أنَّ الله سبحانه جعل جزاء المأمورات عشرة أمثال فعلها، وجزاء المنهيات مثل واحد، وهذا يدل على أنَّ فعل ما أمر به أحب إليه من ترك ما نهى عنه، ولو كان الأمر بالعكس لكانت السيئة بعشرة والحسنة بواحدة، أو

تساويا».

الثامن: قال القشيري: «كل ما منع منه، توفّرت دواعي ابن آدم للاقتراب منه، هذا آدم عليه السلام أبيحت له الجنة بجملتها، ونهي عن شجرة واحدة، فليس في المنقول أنه مَدَّ يده إلى شيء من جملة ما أُبيح له، وكأنه عيل صبره حتى

ذاق ما نهي عنه، هكذا صفة الخلق» . اهـ التاسع: قال بعض أهل الإشارات: الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق، وما زال آدم وحده بكل خير وبكل عافية؛ فلما جاءه الشكل والزوج، ظهر إتيان الفتنة، وافتتاح باب المحنة، وحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل فوقع فيما وقع». اهـ

العاشر: قال بعض العلماء: «لما سلم لآدم أصل العبودية، لم يقدح فيه الذنب: «ابن آدم لو لَقِيتَني بقُرابِ الأرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَني لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةٌ». ولما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصدًا لمخالفته، ولا قدحًا في حكمته، علمه كيف يعتذر إليه : فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَتِ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: ٣٧]» . اهـ

٣٢٤

خاتمة

قصص الانبياء

ونختم هذه القصة بكلمة لابن القيم الحافظ؛ تشتمل على إشارات لطيفة، وحكم صوفية شريفة. قال في كتاب "الفوائد": تأمل كيف كتب سبحانه عذر آدم قبل هبوطه إلى الأرض، ونبه الملائكة على فضله وشرفه ونوَّه باسمه قبل إيجاده بقوله: إنِّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: ٣٠].

وتأمل كيف وسمه بالخلافة؛ وتلك ولايةٌ له قبل وجوده، وأقام عذره قبل الهبوط بقوله : و في الأَرْضِ ، والمحب يُقيم عذر المحبوب قبل جنايته، فلما صوره ألقاه على باب الجنة أربعين سنة؛ لأن دأب المحب الوقوف على باب الحبيب، ورمى به في طريق ذل لَمْ يَكُن شَيْئًا [الإنسان: ١] لئلا يعجب يوم

أسْجُدُوا ﴾ [البقرة: ٣٤]. كان إبليس يمر على جسده فيعجب منه، ويقول: «لأمر قد خُلقت»، ثُمَّ يدخل من فيه ويخرج من دبره ويقول: «الئن سُلطتُ عليك لأُهلِكنَّك، ولئن سُلطتَ عليَّ لأعْصِينَك».

ولم يعلم أنَّ هلاكه على يده، رأى طينا مجموعا فاحتقره، فلما صُور الطين

صورةً دَبَّ فيه داء الحسد، فلما نفخ فيه الروح مات الحاسد. فلما بسط له بساط العِزّ ، عرضت عليه المخلوقات، فاستحضر مُدَّعي وَنَحْنُ نُسَبِّحُ ﴾ [البقرة: ۳۰] إلى حاكم أنْبِتُونِي ﴾ [البقرة: ٣١] وقد أخفى الوكيل عنه بينة وَعَلَمَ ﴾ [البقرة: (۳۱] فنكسوا رؤوس الدعاوي على صدور

قصة آدم الق

٣٢٥

الإقرار، فقام منادي التفضيل في أندية الملائكة ينادي أسْجُدُوا ﴾ [البقرة: ٣٤] فتطهروا من حدث دعوى وَنَحْنُ ﴾ [البقرة: ٣٠] بماء العذر في آنية ولا علم لنا [البقرة: ۳۲] فسجدوا على طهارة التسليم، وقام إبليس ناحية لم يسجد لأنه خبث، وقد تلوث بنجاسة الاعتراض، وما كانت نجاسته تتلافى بالتطهير لأنها عينية، فلما تمَّ كمال آدم قيل لابد من خال جمال على وجه

اسْجُدُوا فجرى القَدَر بالذنب ليتبين أثر العبودية في الذل.

يا آدم لو عفي لك عن تلك اللقمة لقال الحاسدون: كيف فضل ذو شَرَه لم يصبر على شجرة ؟!! لولا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس، ولا نزلت رسائل «هل من سائل؟» ولا فاحت روائح «ولخَلُوفُ قُمِ الصَّائِمِ» فتبيَّن حينئذ أن ذلك التناول لم يكن عن شَرَه. يا آدم ضحكك في الجنة لك، وبكاؤك في دار التكليف لنا، ما ضر من كسره عزي، إذا جبره فضلي، إنما تليق خلعة العز ببدن الانكسار «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ما زالت تلك الأكلة تعاده حتى استولى داؤه على

.

أولاده، فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي أطباء الوجود فَإِمَّا يا نبتَكُم مِّنِي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: ۱۲۳]

فحماهم الطبيب بالمناهي، وحفظ القوة بالأوامر، واستفرغ أخلاطهم الرديئة بالتوبة، فجاءت العافية من كل ناحية» . اهـ وهي كلمة في غاية الحسن. والحمد لله ربّ العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه

وسلم والتابعين.

٣٢٦

.

قصص الانبياء

(تنبيه): حينما عرضنا لقصة هابيل وقابيل فاتنا أن ننبه على مسألة تتعلق بها، وهي ما رواه الثعلبي في تفسيره عن معاوية بن عمران قال: سألت جعفر الصادق عليه السلام أكان آدم يُزوّج ابنته من ابنه؟ فقال: معاذ الله، وإنما زوج قابيل جنيَّةً وزوّج هابيل حوريَّةً فغضب قابيل، فقال آدم: يا بني ما فعلته إلا بأمر الله، فكان من خبر هما ما قصَّهُ الله في القرآن.

قال الحافظ ابن حجر: إسناده واه ولا يثبت هذا عن جعفر ولا عن غيره، ويلزم منه أنَّ بني آدم من ذرية إبليس؛ لأنه أبو الجن كلهم، أو من ذريَّة حور

العين، وليس لذلك أصل ولا شاهد» . اهـ وهو واضح والله أعلم.

٢ - قِصَّةُ إدريس عليه السّلام

بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ )

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ

وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ

الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ١-٧]

قصة إدريس ال

۳۳۱

إدريس عليه السلام

هو في قول الأكثر خَنُوخ، بوزن رسول. وقيل: أخنوخ بألف وخاء ساكنة، وقيل: أهنوخ بالهاء بدل الخاء - ابن يرد - ويقال : يارد بن مهلاييل - وهو الذي يزعم الأعاجم من الفرس أنه ملك الأقاليم السبعة، وأنه أول من قطع الأشجار وبنى المدائن والحصون الكبار، وأنه بنى مدينة بابل ومدينة السوس الأقصى، وكان يخاطب الناس، وله تاج عظيم، ودامت دولته أربعين

سنة.

ابن قينان بن أنوش - بوزن خنوخ ابن شيث، ومعناه هبة الله، سماه آدم

بذلك لكونه ولد له بعد قتل هابيل

لم سمى إدريس؟ وما معناه؟

اختلف في لفظ إدريس فقيل : هو عربي مشتق من الدراسة، وقيل له ذلك

لكثرة درسه صحف آدم وشيث عليهم السلام.

ويقال له أيضًا: إدراسين بوزن إلياسين.

وقيل: هو اسم سرياني، وفي تفسير البحر" المحيط": «وإدريس اسم أعجمي منع من الصرف للعَلَمِيَّة والعُجْمَة، ولا جائز أن يكون إفْعِيلًا مِن الدرس كما قال بعضهم؛ لأنه كان يجب صرفه إذ ليس فيه إلَّا سبب واحد وهو

العلمية.

قال الزمخشري: ويجوز أن يكون معنى إدريس في تلك اللغة قريبا من

۳۳۲

قصص الانبياء

ذلك - أي من معنى الدرس - فحسبه القائل مشتقا من الدرس» . اهـ

هل أدرك آدم عليه السلام

ذكر ابن كثير وغيره أنه أدرك من حياة آدم ثلثمائة وثماني سنين. لكن هذا مأخوذ من كتاب التوراة المسمَّى عند الكتابيين بـ"العهد القديم" فلا يُعوّل

عليه.

نبوته ورسالته

أما نبوته فثابتةٌ بالقرآن الكريم قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبَا وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم: ٥٦ - ٥٧].

وفي حديث أبي ذرّ الطويل الذي صححه ابن حبان: «إِنَّ إدريس كان نبيًّا رَسُولًا».

وحديث أبي ذرّ رواه أيضًا ابن مَرْدُويَه في "تفسيره"، والآجري في

"الأربعين" وهو حديث طويل في مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. ولفظ المقصود منه : قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: «ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب». قلت: فمن كان أولهم؟ قال: «آدم». قلت: أنبي مرسل ؟ قال: «نَعَمْ، خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وسَوَّاه قبلًا». ثم قال: « يا أبا ذر ، أربعة سريانيون: آدم وشيث وخنوخ -وهو إدريس- وهو أَوَّل مَن خَطَّ بالقَلَم ونوح، وأربعةٌ من العرب: هود وشعيب وصالح

قصة إدريس ال

۳۳۳

ونبيك يا أبا ذر، وأوّل أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول الرُّسُلِ آدم وآخرهم محمد».

قال: قلت: يا رسول الله كم كتاب أنزل الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل

التوراة والإنجيل والزبور والفرقان».

وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا؛ له طرق كثيرة تقدم بعضها في قصة آدم

عليه السلام، ووردت جمل منه في أحاديث متفرقة.

وروى ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عبدالله بن عمرو قال: إدريس أقدم من نوحٍ، بعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا: «لا إله إلا الله» ويعملوا ما شاءوا، فأبوا فأهلكهم الله عزَّ وجلَّ.

أوَّلِيَّاته

هو أوَّل مَن أُعطي النبوة بعد شيث، وأول الرسل بعد آدم عليهم السلام، وأول من نظر في النجوم والحساب وجعله الله مِن معجزاته، وأوَّل مَن خاط الثياب ولبس المخيط - وكان خياطا - وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ المكاييل والموازين والأسلحة فقاتل بني قابيل وهم ،قومه وأوَّل مَن : بالقَلَم كما تقدَّم في حديث أبي ذر .

وفي "مسند البزار" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم: «قد كان نبي من الأنبياء يخط، فمَن وافق خَطَّه ذلك الحَطُّ عَلِم».

٣٣٤

قصص الانبياء

وفي "صحيح مسلم" و "سنن أبي داود" و"النسائي" عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام، وإنَّ مِنَّا رجالا يأتون الكهان. قال: «فلا تأتهم». قال: ومنا رجال يتطيرون. قال: «ذاك شيءٌ يجدونه في صُدُورِهم فلا يَصُدَّنَّهم». قال: قلت: ومِنا

رجال يخطون. قال: «كان نبي من الأنبياء يخطُّ فَمَن وافَقَ خَطَهُ فذاك». قوله: «ومنا رجالٌ يخطون»: يقصد به الخط في الرمل كما فسره ابن

الأعرابي وغيره.

وقوله: «فمَن وافَقَ خَطَّهُ فذاك»: قال الخطابي: «يشبه أن يكون أراد به الزجر عنه وترك التعاطي له، إذ كانوا لا يصادفون معنى خط ذلك النبي؛ لأن خَطَّهُ كان عَلَما لنبوته، وقد انقطعت نبوته فذهبت معالمها . اهـ

وقال النووي: اختلف العلماء في معناه، والصحيح: أن معناه من وافق فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة وليس لنا يقين بها، وإنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فمَن وافَقَ خَطَّه فذاك»، ولم يقل: هو حرام لئلا يتوهم متوهم أنَّ هذا النهي يدخل فيه ذاك النبيُّ الذي كان يخط، فحافظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حرمة ذاك النبي مع بيان الحكم في حقنا، فالمعنى: أن ذاك النبيَّ لا منع في حقه وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها.

وقال القاضي عياض: المختار أن معناه: أنَّ مَن وافق خَطَّه فذاك الذي

قصة إدريس ال

۳۳۵

يجدون إصابته فيما يقول؛ لا أنه أباح ذلك لفاعله». قال: «ويحتمل أن هذا نُسِخَ في شرعنا». قال النووي: فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن».اهـ

هل رفع إلى السماء؟

عن هلال بن يَسَافٍ قال: سأل ابن عبّاس كعبا وأنا حاضر فقال له: ما قول الله عزَّ وجلَّ لإدريس: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: ٥٧]؟

فقال كعب: أما إدريس فإنَّ الله أوحى إليه: إني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم؛ فأحب أن تَزْدادَ عَمَلًا، فأتاه خليل له من الملائكة فقال له : إنَّ الله أوحى إليَّ كذا وكذا، فكلّم لي مَلَك الموتِ فليؤ خُرني حتَّى أَزداد عَمَلًا. فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم مَلَكُ الموت مُنحَدِرًا، فكلَّم مَلَكَ الموتِ في الذي كلمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ قال : هو ذا على ظهري قال مَلَكُ الموت: فالعجب !! بعثتُ وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه هناك. فذلك قول الله: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا ( [مريم: ٥٧] . رواه

ابن جرير .

ورواه ابن أبي حاتم من طريق آخر وزاد فيه: إنَّ إدريس قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله - يعني ملك الموت كم بقي من أجلي؟ لكي أزداد من العمل. فلما سأله عما بقي من أجله قال : لا أدري حتى أنظر، فنظر فقال: إنك

٣٣٦

قصص الانبياء

تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلَّا طرفة عين. فنظر الملك تحت جناحه،

فإذا هو قد قبض عليه السلام.

قال الحافظ ابن كثير : هذا من الإسرائيليات وفي بعضه نكارة. قلت: لكن ثبت في حديث المعراج في "الصحيحين" أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وجد إدريس عليه السلام في السماء الرابعة، ثُمَّ تلا قوله تعالى

وَرَفَعْنَهُ مَكَانَ عَلِيًّا } [مريم: ٥٧]. ولا مانع أن يعرج به الملك إلى ذلك المكان. وروى ابن أبي حاتم أيضًا عن ابن عباس قال: إِنَّ مَلَكًا استأذن ربَّه أن يهبط إلى إدريس، فأتاه فسلَّم عليه، فقال له إدريس: هل بينك وبين ملك الموت شيء ؟ قال: ذاك أخي من الملائكة قال: هل تستطيع أن تنفعني عنده بشيء؟ قال: أما أن يؤخّر شيئًا أو يقدمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت. قال: اركب بين جناحي، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا، فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه، فقال له الملك: إن لي إليك حاجة. قال: قد علمت حاجتك، تكلّمني في إدريس وقد محي اسمه ولم يبق من أجله إلَّا نصف طرفة عين. فمات إدريس بين جناحي الملك. ثُم رواه من وجه آخر عن ابن عباس قال: كان إدريس خياطا، وكان لا يغرز إبرة إلا قال: سبحان الله ، فكان يمسي حين يمسي - وليس في الأرض

أحد أفضل عملا منه فاستأذن مَلَكٌ ربَّه أن يزوره... وذكر نحو ما تقدم. وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سألت كعبا عن رفع إدريس مكانا عليا، فقال: كان عبدا تقيا يرفع له من

قصة إدريس ال

۳۳۷

العمل الصالح ما يرفع لأهل الأرض من أهل زمانه، فعجب الملك الذي كان يَصْعَدُ عليه عَمَلُهُ، فاستأذن ربَّه فقال: يا ربِّ، ائذن لي آتي عبدك هذا فأزوره. فأذن له فنزل، فقال: يا إدريس أبشر؛ فإنه يرفع لك من العمل الصالح ما لا يرفع لأهل الأرض، قال : وما عملك ؟ قال : إني مَلَكٌ. قال: وإن كنت مَلَكًا؟ قال: فإني على الباب الذي يصعد عليه عملك. قال: أفلا تشفع لي إلى ملك الموت فيؤخر أجلي لأزداد شكرًا وعبادةً. فقال الملك: لا يؤخر اللهُ نَفْسًا إذا جاء أجلها. قال: قد علمت ولكنه أطيب لنفسي، فحمله الملك على جناحه فصعد به إلى السماء، فقال : يا ملك الموت هذا عبد تقي نبي يرفع له من العمل الصالح ما لا يرفع لأهل الأرض، وإني أعجبني ذلك فاستأذنت ربي إليه فأذن لي، فلما بشرته بذلك سألني لأشفع له إليك لتؤخر له أجله ليزداد شكرًا وعبادة. قال: ومن هذا؟ قال: إدريس. فنظر في كتاب معه مر باسمه، فقال: والله ما بقي من أجل إدريس شيء . فمحاه . محا اسمه من الكتاب

فيات مكانه .

يعني

وروى محمد بن نصر في كتاب قيام الليل، عن القاسم بن عوف الشيباني قال: بينا أنا عند خالد بن عرعرة وأبي عجيل وزارهما الربيع بن خَيْثَم، فقال أحدهما لصاحبه: حدث أبا يزيد ما سمعت من كعب. فقال: بينا نحن عند كعب إذ جاءه رجل بين بردي حبرة، فإذا هو ابن عباس رضي الله عنهما فقال

.

لكعب: إني سائلك عن أشياء أجدها في كتاب الله. فسأله عن إدريس ورفع مكانه ؟ فقال : إنَّ إدريس كان رجلاً خيَّاطًا، وكان يكسب، وكان يتصدق بثلث

۳۳۸

قصص الانبياء

. سبع، وقال:

كسبه، وكان لا ينام اليل ولا يفطر النهار، ولا يفتر عن ذكر الله، فأتاه إسرافيل فبشره، وقال: هل لك من حاجة؟ قال: وددت لو أعلم متى أجلي؟ قال: ما أعلم ذلك. فصعد به إلى السماء، فإذا ملك الموت فسأله: متى أجله؟ فنظر ملك الموت في الكتاب، فوجده لم يبقَ من أجله إلا ست ساعات أو أمرت أن أقبض روحه ههنا. فقبض روحه في السماء فذلك رفع مكانه. وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن السُّدِّي في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْفِ الكتب إدريس إِنَّهُ كَانَ صِدِيقَا نَيَّا وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم: ٥٦ - ٥٧] قال: كان إدريس أول نبي بعثه الله في الأرض، وإنه كان يعمل فيرفع عمله مثل ضعف أعمال الناس، ثُمَّ إِنَّ مَلَكًا من الملائكة أحبَّه ، فسأل الله أن يأذن له فيأتيه؟ فأذن له فأتاه فحدثه بكرامته على الله . فقال : يا أيها الملك أخبرني كم بقي من أجلي لعلي أجتهد الله في العمل، قال: لا إلَّا أن تشفع. فتشفع فأمر به فحمله تحت جناحه فصعد به حتى إذا بلغ السماء السادسة استقبل ملك الموت نازلا من عند الله فقال : يا ملك الموت أين تريد؟ قال: أقبض نفس إدريس. قال وأين أمرت أن تقبض نفسه؟ قال: في السماء السادسة، فذهب الملك ينظر إلى إدريس، فإذا هو قدمات، فوضعه في السماء السادسة.

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا ، قال : إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى.

قال الحافظ ابن كثير: إن أراد أنه لم يمت إلى الآن ففي هذا نظر، وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء ثُمَّ قُبض هناك، فلا ينافي ما تقدم عن كعب الأحبار».اهـ

قصة إدريس الكلية

۳۳۹

وقال العوفي عن ابن عبّاس في قوله وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا ، قال : رفع إلى

السماء السادسة فمات بها، وكذا قال الضحاك.

قلت: بل هو في السماء الرابعة كما تقدم في حديث "الصحيحين". قال الحافظ ابن كثير : وقال قائلون رفع في حياة أبيه يارد بن

مهلاييل» . اهـ

وقال العلامة السعد التفتازاني في "شرح المقاصد": ذهب العظماء من العلماء إلى أنَّ أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء الخضر، وإلياس في الأرض، وإدريس، وعيسى في السماء» . اهـ

قلت: أما عيسى عليه السلام فهو حي في السماء الثانية، وسينزل في آخر الزمان كما أشار إليه القرآن الكريم وصرّحت به السُّنَّة المتواترة، حسبها بينا ذلك في كتاب "عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام"، وأما الخضر وإلياس عليهما السلام فسيأتي تحقيق البحث في حياتهما من هذه السلسلة إن شاء الله، وأمَّا إدريس عليه السلام فالذي نرجحه فيه أنه رفع إلى السماء لقوله تعالى: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا * وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه رآه في السماء الرابعة كما صح في حديث المعراج.

وروى الترمذي وابن المنذر وابن مردويه عن قتادة في قوله تعالى: وَرَفَعْنَهُ مكانا عليا قال قتادة : حدثنا أنس بن مالك أنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم

قال: «لما عُرِجَ بي رأيتُ إدريس في السماء الرابعة». صححه الترمذي.

وروى ابن مَرْدُويَه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله

٣٤٠

قصص الانبياء

وسلَّم في قوله: ﴿وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلا قال: «في السماء الرابعة». وليس بعد بيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان، والذين أوَّلوا الآية على رفعة المكانة وشرف النبوة والزلفى لا نوافقهم على هذا التأويل، بل

نرده لوجهين: أحدهما: أنه مخالف لكلام النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ثانيهما: أنَّ ذلك المعنى مشترك بين جميع الأنبياء عليهم السلام كما هو معلوم بالضرورة، بل لفظ «النبي» معناه مرفوع الرتبة والمكانة؛ لأنه مأخوذ من النبوة وهي الرفعة، فلولا أن إدريس رفع حقيقة لم يكن لذكر الرفع بجانبه معنى، ولكان أولى به إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله، مع أنه لم يذكر

الرفع بجانب اسمهما كما ذكر بجانب إدريس عليهم السلام. وأما حياته في السماء إلى الآن فلا نقول بها؛ لأنه لم يقم عليها دليل ولا حكمة فيها، بخلاف عيسى فإن بقاءه حيًّا ليقتل الدجال وليكذِّب اليهود فيما

زعموه من صلبه، والنصارى فيهما ادعوه من ألوهيته.

صداقته لملك الشمس

روى أبو الشيخ في "العظمة" عن وهب قال: إنَّ رجلا كان يـ يدعو لملك الشمس عليه السلام، فداوم على ذلك زمانًا حتى أتاه مَلَكُ الشمس فقال : ما تريد بدعاءك؟ قال: أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكن الملائكة عند ملك الموت فاشفع لي إليه.

وتفصيل هذا على ما جاء في رواية أخرى:

أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: يارب، إني مشيت

قصة إدريس ال

٣٤١

في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها؟ اللهمَّ خَفَّف عنه ثقلها واحمل عنه حرها، فلما أصبح الملك وجد من نفسه خفّة الشمس وحرها، فقال: يا رب خففت عني حرَّ الشمس فما الذي قضيت علي فيه؟ فقال تعالى: إن عبدي إدريس سألني أن أُخَفِّف عنك ثِقَلَها وحَرَّها فأجبته إلى ذلك، فقال: يا رب، اجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خُلَّةٌ. فأذن الله له فكان إدريس يسأله، وكان مما سأله أن قال: أخبرت أنك أكرم الملائكة على ملك الموت وأمكنهم عنده فاشفع لي إليه يؤخّر أجلي فأزداد شكرًا وعبادةً. فقال الملك: لا يؤخّر اللهُ نَفْسًا إذا جاء أجلها. قال: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي. فقال: أنا أكلمه لك، وما كان يستطيع أن يفعله لأحدٍ من بني آدم فهو فاعله لك. ثُمَّ حمله الملك على جناحه حتى رفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثُمَّ إنه أتى إلى ملك الموت فقال له: لي إليك حاجةٌ؟ فقال له: أفعل لك كلَّ شيءٍ أ أستطيعه، فقال: لي صديق من بني آدم تشفّع بي إليك لتؤخّر أجله. فقال: ليس ذلك إليَّ، ولكن إن أحببت أعلمته أجله، ومتى يموت فيتقدَّم في نفسه. قال: نعم. فنظر في ديوانه فأخبره باسمه وقال: إنك كلمتني في رجل ما أراه يموت أبدا، قال: وكيف ذلك؟ قال: إني لأجده يموت عند مطلع الشمس. قال فإني أتيتك وتركته هناك. فقال له: انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات والله ما بقي من أجل إدريس شيء. فرجع الملك فوجده ميتا.

صداقته لملك الموت

عن أم سلمة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنَّ إدريس كان صديقًا لملكِ الموتِ فسأله أن يُريَهُ الجنَّةَ والنَّارَ، فصعد بإدريس

٣٤٢

قصص الانبياء

فأراه النَّارَ، فَفَزِعَ منها وكاد يُغْشَى عليه، فالتفَّ عليه مَلَكُ الموتِ بجناحِهِ، فقال مَلَكُ الموتِ أليس قد رأيتها؟ قال: بلى، ولم أرَ كاليوم قطَّ. ثُمَّ انطلق به حتَّى أراه الجنة فدخلها، فقال مَلَكُ الموتِ: انطلق قد رأيتها. قال: إلى أين؟ قال مَلَكُ الموت: حيث كنت قال إدريس: لا والله لا أخرج منها بعد أن دَخَلْتها. فقيل لملك الموت: أنتَ أدخلتَهُ إيَّاها، وإنه ليس لأحدٍ دَخَلَها أن يخرج منها». رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد ضعيف.

وسبب صداقته له على ما ذكره وهب وغيره: أنَّ إدريس عليه السلام كان العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض جميعهم في زمانه،

يوم من

يرفع له كل فعجبت الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن الله في زيارته، فأذن له فأتاه في صورة بني آدم، وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل، وفعل ذلك ثلاث ليال، فأنكره، وقال له في الليلة الثانية: إني أريد أن أعلم من أنت؟ قال: أنا ملك الموت استأذنت أن أزورك ربي وأصاحبك، فأذن لي في ذلك. فقال إدريس لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: اقبض روحي فأوحى الله تعالى إليه : أن اقبض روحه. ثُمَّ رَدَّها الله تعالى إليه بعد ساعة، فقال له مَلَكُ الموتِ: فما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمه فأكون له أشد استعدادًا. ثُمَّ قال له: لي إليك حاجةٌ أخرى. قال: وما هي ؟ قال : ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة. فأذن له في ذلك، فلما قرب من النار قال لي إليك حاجةٌ. قال: وما تريد؟ قال: تسأل مَالِكًا يفتح لي أبواب النَّارِ حتى أراها . ففعل ذلك ثُمَّ قال: فكما أريتني النار فأرني الجنة. فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت له أبوابها فدخلها، فقال له

قصة إدريس ال

٣٤٣

ملك الموت: اخرج لتعود إلى مَقَرّك. فتعلق شجرة وقال: لا أخرج منها، فبعث الله ملكا حكما، فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: ١٨٥] وقد ذقته. وقال تعالى: وَإِن منكم إلا

وَارِدُهَا [مريم: ٧١] وقد وردتها. وقال تعالى: وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: ٤٨] فلست أخرج. فقال الله تعالى لملك الموت: دعه فإنه بإذني دخل الجنة، وبأمري لا يخرج منها. فهو حي هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة وتارة يتنعم في الجنة.

ولهذا الأثر طريق آخر مرفوع سيأتي في قصة هاروت وماروت بحول الله. وروى ابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند، عن بعض أصحابه قال: كان ملك الموت صديقًا لإدريس عليه السلام فقال له إدريس يوما: يا ملك الموت، قال: لبيك، قال: أمتني فأرني كيف الموت؟ قال له ملك الموت: سبحان الله يا إدريس إنما يفر أهل السموات والأرض من الموت وتسألني أن أريك كيف الموت؟ قال: إني أحب أن أراه، فلما ألح عليه قال له: يا إدريس، إنما أنا عبد مملوك مثلك وليس إليَّ من الأمر شيء، فصعد ملك الموت فقال: يا رب، إنَّ عبدك سألني أن أريه الموت كيف هو ؟ فقال الله : فأمته، قال له ملك الموت: إنما يفر الخلق من الموت قال: فأرني. فلما مات بقي ملك الموت لا يستطيع أن يرد روحه إليه فقال يا رب قد ترى ما إدريس فيه، فرد الله روحه إليه فمكث ما شاء الله حيا، ثُمَّ قال: يا ملك الموت أدخلني الجنة فأنظر إليها. قال له: يا إدريس، إنما أنا عبد مملولاً مثلك ليس إليَّ من الأمر شيء فألح عليه، فقال مَلَكُ

٣٤٤

قصص الانبياء

الموت: يا ربِّ، إنَّ عبدك إدريس قد ألح يسألني أن أدخله الجنة فيراها، وقد قلت له: إنما أنا عبد مملولاً مثلك وليس إليَّ من الأمر شيء. قال الله: فأَدْخِلْهُ الجنة. فكان فيها ما شاء الله، فقال له ملك الموت: اخرج بنا. قال: لا والله، قال الله: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ) إِلَّا مَوْنَتَنَا الأُولَى ﴾ [الصافات: ٥٨ - ٥٩]، وقال الله: وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَمِينَ ﴾ [الحجر: ٤٨] وما أنا بخارج منها. قال ملك الموت: يا رب، قد تسمع ما يقول عبدك إدريس. قال الله : صدق عبدي هو أعلم منك،

فاخرج منها ودعه فيها. فقال الله: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: ٥٧]. وعن الحسن في قوله تعالى: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [مريم: ٥٧] قال: الجنة.

قال

هل يدخل أحد الجنة قبل يوم القيامة؟

العلامة المحدث الشيخ محمد بن عبدالباقي الزرقاني المالكي في "الأجوبة المصرية عن الأسئلة المغربية" في جواب السؤال التاسع والثلاثين وهو: هل يدخل أحد الجنة أو النار قبل يوم القيامة؟ الجواب: دخول الاستقرار إنما يكون يوم القيامة، أما الدخول العارض فلا مانع منه للمعصوم فقد دخل النبي عليه الصلاة والسلام الجنة ليلة الإسراء، وأخبر عنها واطلع على النار، نعم قيل في قوله تعالى في إدريس عليه الصلاة والسلام: وَرَفَعْنَهُ

مَكَانًا عَلِيًّا [مريم: ٥٧] إنه الجنة وإنه حي فيها. حكاه البغوي وغيره. وأما من ادعى من غير المعصوم أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها فهذا مرتد كما نص عليه القرافي في "الذخيرة" وتبعوه عليه، واستظهر العارف الشعراني مثل

قصة إدريس الك

٣٤٥

ذلك في مدعي دخول النار، وتبعه عليه بعض المشايخ المالكية». اهـ

اسم ملك الموت

اشتهر اسم ملك الموت بعزرائيل، ولم يرد تسميته بذلك الاسم إلا في حديث موضوع، نعم ورد في أثر عن أشعث بن سليم رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ. وقال الحافظ ابن كثير في "التاريخ " : «وأمَّا مَلَكُ الموت فلم يُصَرَّح باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء في بعض الآثار تسميته بعزرائيل والله أعلم».اهـ

هل كان إدريس حكيما؟

جاء في "مختصر الزوزنيّ" المسمَّى بـ"المنتخبات الملتقطات" من كتاب "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" لجمال الدين أبي الحسن على بن يوسف القفطي ما نلخصه فيما يلي: إدريس اختلف الحكماء في مولده ومنشئه وعمن أخذ العلم

قبل النبوة، فقالت فرقة : ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة ومولده بمنف. وقالوا: هو باليونانية «أرميس»، وعرب بهرمس»، ومعنى أرميس:

عطارد. وقال آخرون اسمه باليونانية «طرميس»، وهو عند العبرانيين «خنوخ»،

وعرب «أخنوخ»، وسماه الله عزّ وجلَّ في كتابه: «إدريس».

وقال هؤلاء: إن معلمه إغتاذيمون» المصري ، ولم يذكروا من كان هذا الرجل؟ لكنهم قالوا: كان أحد الأنبياء، وسموه أيضًا «أورين الثاني».

وإدريس عندهم «أورين الثالث»، وتفسير إغثاذيمون»: السعيد الجد.

٣٤٦

قصص الانبياء

قالوا: وخرج هرمس من مصر وجاب الأرض كلها ثم عاد إليها ورفعه الله

إليه بها، وذلك بعد اثنتين وثمانين من عمره (۱).

وقالت فرقة أخرى : إنَّ إدريس ولد ببابل وبها نشأ، وإنه أخذ في أول عمره

بعلم شيث بن آدم وهو جد أبيه.

قال الشهرستاني: إنَّ «إغثاذيمون»: هو شيث، ولما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم على مخالفتهم شريعة آدم وشيث عليهما السلام، فأطاعه أقلهم، وخالفه جُلُّهم، فنوى الرحلة عنهم، وأمر من أطاعه منهم بذلك فتقل عليهم الرحيل، وقالوا له وأين نجد - إذا رحلنا مثل بابل؟ وبابل بالسريانية: النهر ، وكأنهم عنوا بذلك دجلة والفرات. فقال: إذا هاجرنا الله رزقنا غيره، فخرج وخرجوا، وساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي يسمى بابليون، فرأوا النيل ورأوا واديًا خاليًا من ساكن، فوقف على النيل وسبح الله، وقال الجماعته بابليون: أي نهر كنهر. وقيل: نهر كنهركم. وقيل: نهر مبارك. وقيل: يون - في السريانية - مثل أفعل التفضيل عند العرب، فكأن معناه نهر أكبر ، فسمي عند جميع الأمم «بابليون» إلا العرب فإنهم

يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام الذي نزل به بعد الطوفان. وأقام إدريس بمصر يدعو الخلق إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله عزّ وجلّ، وتكلّم الناس في أيامه باثنين وسبعين لسانًا، ورسم لهم

(۱) وذكر ابن قتيبة أنه رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. نقله الحافظ ابن حجر في "فتح

الباري".

قصة إدريس ال

٣٤٧

تمدين المدن، وجمع طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسة المدنية وقرر لهم قواعدها، فبنت كل فرقةٍ من الأمم مُدُنا في أرضها، فكانت عدة المدن التي بنيت في زمانه مائة وثماني وثمانين مدينة أصغرها الرها(۱)، وعلمهم العلوم، وهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم، فإنَّ الله عزّ وجلَّ أفهمه أسرار الفلك وتركيبه ونقط اجتماع الكواكب فيه، وأفهمه عدد السنين والحساب، ولولا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك، وأقام للأمم سننا، في كل إقليم سنة تليق بأهله.

بعض ما سنَّه لقومه

دعا إلى دين الله والقول بالتوحيد، وعبادة الخالق، وتخليص النفوس من العذاب في الآخرة بالعمل الصالح في الدنيا، وحَضّ على الزهد في الدنيا والعمل بالعدل، وأمرهم بصلوات بينها لهم، وأمرهم بصيام أيامٍ مُعيَّنَةٍ مِن كُلِّ شهر، وحثهم على الجهاد لأعداء الدين، وأمرهم بزكاة الأموال معونة للضعفاء، وغلظ عليهم في الطهارة من الجنابة والكلب والخنزير، وحَرَّم المسكر من المشروبات وشدّد فيه أعظم تشديد، وجعل لهم أعيادًا كثيرة في أوقات معروفة، وقربانات، منها: لدخول الشمس رؤوس البروج، ومنها لرؤية الهلال، وكلما

صارت الكواكب في بيوتها وشرفها وناظرت كواكب أخر.

(۱) بضم الراء: بلد ينسب إليه جماعة من الحفاظ منهم عبدالقادر الرهاوي.

٣٤٨

قصص الانبياء

ما أمر به من القرابين الله تعالى

أمر بتقريب البخور والذبائح وكل باكورة، فمن الرياحين الورد، ومن الحبوب القمح، ومن الفواكه العنب، ووعد أهل دينه أنبياء عدة يأتون من بعده، ووصف لهم النبيَّ فقال: يكون بريئًا من المذمَّات والآفات كلها، كاملا في الفضائل الممدوحات لايقصر عن مسألة يُسأل عنها مما في الأرض والسماء، وما فيه دواءٌ وشفاء من كل ألم ، وأن يكون مستجاب الدعوة في كل ما

يطلبه، وأن يكون مذهبه ودعوته المذهب الذي يصلح به العالم.

فلم يزالوا على هذه القاعدة من الفعل في العبادة وأدب الائتمار بهذه الشريعة إلى أن رفع الله إدريس إليه، وخلفه أصحابه على شريعته، وكانت قبلته إلى حقيقة الجنوب على خط نصف النهار، وشريعته تعرف عند الصابئين بالقيمة.

صفة هرمس الهرامسة وهو إدريس

قيل: إنه كان رجلا آدم، تام القامَة، أَجْلَح، حَسَن الوجه، كنَّ اللحية، مليح الشمائل والتخاطيط، تام ،الباع عريض المنكبين، ضَخْمَ العِظام، قليل اللحم، براق العينين أكحلها، متأنيا في كلامه كثير الصَّمْتِ، ساكِنَ الأعضاء، إذا مشى أكثر نظره إلى الأرض، كثير الفكرة، به عبسة، وإذا اغتاظ احتد يحرك سبابته إذا تكلم(1).

(۱) هذه صفته على ما جاء عند الحكماء، وأما ما جاء في السُّنَّة فلم نقف إلا على أثر واحدٍ يخالف ما هنا: روى الحاكم في "المستدرك " عن سمرة بن جندب قال: كان إدريس رجلا أبيض طويلًا، ضَخْمَ البطن، عريض الصدر، قليل شعر الجسد، كثير شعر

قصة إدريس العلي

نقش فص خاتمه

٣٤٩

و كان على فص خاتمه: «الصبر مع الإيمان بالله يورث الظُّفَر وعلى المنطقة التي يلبسها : الأعياد في حفظ الفروض، والشريعة من تمام الدين، وتمام الدين كمال المروءة».

وعلى المنطقة التي يلبسها وقت الصلاة على الميت: «السعيد من نظر لنفسه وشفاعته عند ربه أعماله الصالحة».

مواعظه وحكمه

كانت له مواعظ وآداب استخرجتها كل فرقة بلسانها، تجري مجرى

الأمثال والرموز، منها:

- لن يستطيع أحد أن يشكر الله على نعمة بمثل الإنعام على خَلْقِهِ. - من أراد بلوغ العِلْمِ وصالح العمل فليترك من يده أداة الجهل وسيء العمل، كما ترى الصانع الذي يعرف الصنائع كلها إذا أراد الخياطة أخذ التها وترك آلة النجارة، فحبُّ الدنيا وحبُّ الآخرة لا يجتمعان في قلب أبدًا.

- خير الدنيا حسرة، وشرها ندم.

- إذا دعوتم الله فأخلصوا النيَّة، وكذا الصيام والصَّلوات فافعلوا. - لا تحلفوا كاذبين ولا تهجموا على الله باليمين، ولا تُحلفوا الكاذبين

فتشاركوهم في الإثم.

الرأس، وكانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى، وكانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص، فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم واعتدائهم في أمر الله

رفعه الله إلى السماء السادسة، فهو حيث يقول: وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [مريم: ٥٧].

٣٥٠

قصص الانبياء

- تجنبوا المكاسب الدنيئة.

- أطيعوا ملوككم، واخضعوا لأكابركم، واملؤوا أفواهكم بحمد الله.

- حياة النفس الحكمة.

- لا تحسدوا الناس على مواتاة الحظ، فإنَّ استمتاعهم به قليل. - من تجاوز الكفاف لم يغنه شيء. هذا ملخص ما جاء في الكتاب (۱) المذكور مما ذكره الحكماء عن إدريس

عليه السلام، أو هرمس الهرامسة» كما يسمونه.

وذكروا أيضًا أنه أوّل من نظر في علم الطب، وألف لأهل زمانه قصائد موزونة في الأشياء الأرضية والسماوية، وأنه أول من أنذر بالطوفان.

هل هو إلياس؟

في "صحيح البخاري": ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس: أنَّ إلياس هو إدريس". أما قول ابن مسعود فرواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه قال: «إلياس هو إدريس، ويعقوب هو إسرائيل». وإسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر. وأما قول ابن عباس فرواه جويبر في "تفسيره" عن الضحاك، وإسناده

ضعيف منقطع.

(۱) وهو كتاب "المنتخبات الملتقطات" لمحمد بن علي بن محمد الخطيبي الزوزني، طبع في ليبسك سنة ۱۹۰۳م، ثم في مصر سنة ١٣٢٦ هـ. وأصله "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" للوزير جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف القفطي، لم يطبع.

قصة إدريس ال

٣٥١

فإدريس على هذا ليس بجد لنوح بل هو من بني إسرائيل من ذرية هارون أخي موسى عليهما السلام؛ لأن إلياس ابن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون.

ورجح هذا الرأي أبو بكر بن العربي المعافري واستشهد له بحديث الإسراء، فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين لقيه في السماء الرابعة قال له : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. ولو كان من أجداد نوح لكان جدا له صلى الله عليه وآله وسلَّم ولقال :له مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح كما

قال له آدم وإبراهيم عليهما السلام.

ووافقه تلميذه الحافظ السهيلي فقال في "الروض الأنف": «وهذا القول

عندي أنبل، والنفس إليه أميل لما عضده من هذا الدليل.

وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: «وهو استدلال جيد إلَّا أنه قد يُجاب عنه بأنه قال ذلك على سبيل التواضع والتلطّف، فليس ذلك نصا فيما زعم». اهـ

وقال الحافظ ابن كثير : وهذا لا يدل ولابد؛ لأنه قد لا يكون الراوي حفظه جيدا، أو لعله قاله له على سبيل الهضم والتواضع ولم ينتصب له في مقام الأبوة كما انتصب آدم أبو البشر، وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين. ونحا العلامة الجامي منحى آخر في كون إدريس هو إلياس حيث قال: النفس الناطقة الكاملة إذا تحققت بمظهرية الاسم الجامع تظهر في صور كثيرة

من غير تقيد وانحصار، فتصدق تلك الصور عليها وتتصادق لاتحاد عينها، كما تتعدد لاختلاف صورها، ولذلك قيل في إدريس عليه السلام إنه هو إلياس

٣٥٢

قصص الانبياء

المرسل إلى بعلبك، لا بمعنى أنَّ العين خلع الصورة الإدريسية ولبس لباس الصورة الإلياسية - وإلا لكان قولا بالتناسخ بل إن هوية إدريس عليه السلام مع كونها قائمةً في إنية وصورة في السماء الرابعة ظهرت وتعيَّنت في إنية إلياس الباقي إلى الآن، فيكون من حيث العين والحقيقة واحدًا ومن حيث التعيين الصوري اثنين كنحو جبريل وميكائيل وعزرائيل يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصورٍ شتّى كلها قائم بهم، وكذلك أرواح الكُمَّل، كما يروى عن قضيب البان الموصلي أنه كان يرى في زمان واحد في مجالس متعددة مشتغلا في كل بما يغاير ما في الآخر، ولما لم يسع هذا الحديث أوهام

.

المتوغلين في الزمان والمكان تلقوه بالردّ والعناد، وحكموا عليه بالبطلان

والفساد، وأما الذين منحوا التوفيق للنجاة من هذا المضيق فسلَّموا». اهـ ويعتبر هذا جمعا بين القولين في إدريس عليه السلام، لكنه يتمشى على مشرب خاص ربما لا تستسيغه عقول كثير من الناس؛ لأنه ينبني على إثبات عالم المثال المشار له بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: ١٧] وهذا بحث حررناه في كتاب "الحجج البينات في إثبات الكرامات" فلا نعيده هنا.

الخلاصة

أوردنا في هذه القصة ما جاء عن الصحابة والتابعين ومشى عليه كثير من المفسرين، وضممنا إليه ما قاله الحكماء ، ولم يكن قصدنا التعويل على كل ما قيل أو نُقل؛ لعلمنا أنَّ في ذلك كثيرًا من المدخول والمنحول، وإنما أردنا أن ننوع وجوه المعرفة للقراء ثُمَّ نتبعها بتمحيص الآراء، فلا نعتمد منها إلا ما أيده الدليل،

قصة إدريس ال

تاركين سواه في دائرة الجواز والإمكان، لا نقطع بأحد طرفيه إلا ببرهان.

والذي نعتمده هنا أمور:

الأول: نبوة إدريس عليه السلام لتصريح القرآن بها.

٣٥٣

الثاني: رسالته لتصريح الحديث لها، لكن منكرها لا يكفر بخلاف منكر نبوته، فإنه يكفر لتكذيبه القرآن الكريم.

الثالث: إنه جد نوح وأنه غير إلياس عليهم السلام، وقد استفاض هذا بين المؤرخين والإخباريين والنشابيين، حتى نقل فيه الإجماع وإن كان غير صحيح. الرابع: إنه أوَّل مَن خَطَّ بالقَلَم ونظر في علوم النجوم وما ينبني عليه.

الخامس: إنه رفع؛ لظاهر خبر القرآن، وأنه في السماء الرابعة بنص الحديث الصحيح، والقول بأنه في السماء السادسة غير معتمد، وكل قول يخالف

الحديث الصحيح نرده ولا نعتمده كائناً من كان قائله.

السادس: إنه كان صَدِيقًا لملك الموتِ.

السابع: إنه مات وليس بحي الآن إلا الحياة البرزخية التي يحياها الأنبياء بعد وفاتهم، وهي حياة معنوية كاملة، ولهذا لا تبكى أجساد الأنبياء كما ورد في السُّنَّة المتواترة وأجمع عليه العلماء.

(تنبيه) : لا يرد على القول برسالة إدريس قول الناس لنوح: أنت أول رسول إلى أهل الأرض كما في حديث الشفاعة؛ لأنه بعد الطوفان لم يبق على الأرض إلا قوم نوح فكانت رسالته عامة لأهل الأرض إذ ذاك و وهم قومه، فصح أنه أول رسول إلى أهل الأرض بهذا المعنى، أما إدريس فكان رسولا إلى

٣٥٤

قصص الانبياء

قومه مع وجود غيرهم ولم يرسل إليهم.

والحاصل

أنَّ

عموم رسالة

نوح

لأهل الأرض كان اتفاقيا بعد حادثة

الطوفان، بخلاف رسالة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهي : عامة أصالة لا

اتفاقا.

٣- قِصَّةُ داود عليه السلام

قصة داود ال

٣٥٧

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد

وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.

أما بعد: فهذا جزء كتبته في شرح قصة داود عليه السلام، أتيتُ فيه بما لم أسبق إليه بحمد الله، كما أنعم الله به عليَّ وألهمني إيَّاه، بعد أن طالعت جملة من كتب التفسير وغيرها، فلم أجدها عرَّجت على المعنى الذي ابتكرته ولا حامت حوله، لغفلة أصحابها عن مراعاة السِّياق، وهو أمر لازم لمن يريد أن يكتب التفسير، ويفهم آيات القرآن فهما دقيقا بقدر الإمكان، والله المسئول أن يرزقني التوفيق، والهداية إلى أقوم طريق.

٣٥٨

قصص الانبياء

تمهيد

بين العلماء ما يحتاج إليه المفسّر، من أنواع المعرفة الواجبة في التفسير ولا يتم إلا بها، فذكروا منها: علم العربية الشامل للنحو والصرف والمفردات اللغوية، وعلوم البلاغة والقراءات، ووقوف القرآن، وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، والحديث، والأصول، وأوصلها بعضهم إلى أربعة عشر علما. وغفلوا عن مراعاة السّياق فلم يذكروها، وأهملها المفسرون في تفسيرهم للقرآن سواء منهم المتقدمون والمتأخرون، ووقعوا بسبب إهمالهم لها في أغلاط، تنبه على بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

۱- قال الله تعالى: وَلَتَجِدَتَهُمْ أَحْرَمَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أشركوا ﴾ [البقرة: ٩٦] الآية، سياق الكلام هنا على اليهود لعنهم الله، تحداهم في أول الآية أن يتمنوا الموت إن كانت الجنَّة مضمونة لهم دون المسلمين، فقال عزّ

وجل : قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةٌ مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ } [البقرة: ٩٤].

لأنكم إذا متم ستذهبون إلى الجنة بزعمكم، وفي اعتقادكم، ثُمَّ أخبر أنهم لا يتمنونه أبدا، لأنهم يعلمون ما ينتظرهم من العذاب لكفرهم وقتلهم الأنبياء والصالحين، فقال جل شأنه: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ٩٥]، فكانت هذه معجزة، حيث أخبر القرآن أنهم لا يتمنون الموت مع تحديه لهم، فلم يتمنونه.

قصة داود ال

٣٥٩

ثُم أخبر أنهم يحرصون على الحياة أشد الحرص فقال تعالى: وَلَا جِدَتَهُمْ ) أي : ولتعلمنَّهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوة و أحرص مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا خصَّ الذين أشركوا بالذكر لأنَّ حرصهم شديد، وفي هذا توبيخ عظيم، لأنَّ الذين أشركوا لا يؤمنون بالبعث ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يُستبعد لأنها جنّتهم فإذا زاد عليهم في الحرص مـ عنده كتاب، وهو مقر بالبعث كان حقيقا بأعظم التوبيخ.

والوقف على لفظ : أَشْرَكُوا ؛ لأنَّ به يتم المعنى، وجملة يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ﴾ أي: اليهود لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ بيان لشدَّة حرصهم بأن الواحد منهم يتمنى جملة مستأنفة، وهذا التفسير هو المتعين، لأنه موافق

لو عاش ألف سنة، وهي :

لنظم الآية، وسياق الكلام.

ومن المفسرين من سلك وجهًا آخر في الآية فقال: إنَّ الكلام تمَّ عند قوله: على حيوة ، و مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا كلام مستأنف، أريد به المجوس الذين كانوا يقولون الملوكهم: عش ألف نيروز وألف مهرجان. وهذ الوجه حكاه الزمخشري ، وابن كثير، وابن جُزَي وغيرهم، ورجحوا عليه التفسير الأول، لكن لم يُبطلوا هذا الوجه، وهو باطل لأنَّ إدخال المشركين هنا مع كونه قليل الفائدة يُغيّر معنى الآية، ويُخالف نظمها، ويقطع الترابط بينها وبين ما سبقها وما تأخر عنها من الآيات.

ذلك أن سياق الكلام، من قوله تعالى: يَنبَنِي إِسْرَاء يلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: ٤٠] إلى قوله عزَّ وجلَّ: وَاتَّبَعُوا

٣٦٠

قصص الانبياء

مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ ﴾ [البقرة: ١٠٢] كله على اليهود بطريق الخطاب لهم تارةً، وبطريق الغيبة أخرى، وفي هذه الآية تحداهم أن يتمنوا الموت إن كانت لهم الجنَّة كما يزعمون، وأخبر أنهم يحبون الحياة ويحرصون عليها أكثر من المشركين الذين لا يعرفون البعث ولا حياة غير هذه الحياة، وتوعدهم بالعذاب الذي ينتظرهم ولو عاشوا ألف سنة، وهذا لا ينطبق على المجوس الأميين الذين لا كتاب لهم، وتمنيهم للحياة الطويلة ليس خوفا من العذاب كاليهود لأنهم لا يعرفون حياة أخرى ولكن لمزيد التمتع بهذه الحياة الدنيا، فإقحامهم هنا لا معنى له ولا فائدة وإنما سببه الغفلة عن مراعاة السياق وبالله التوفيق.

۲- قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ

تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٤].

قيل: إن هذه الآية نزلت في تحريم الكلام في الصَّلاة، وقيل: نزلت في السكوت عن الخطبة يوم الجمعة، وقيل: نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام، وقيل: في الإنصات يوم عيد الأضحى ويوم عيد الفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام. ويُضعف هذه الأقوال أنَّ الآية مكيَّة، وهذه الأمور لم تشرع إلا في المدينة، وقال القاضي عبد الجبار بن أحمد في كتاب " فوائد القرآن": «إن المشركين كانوا يُكثرون اللغط والشَّغَب، تعتنا وعِنادا، على ما حكاه الله عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ

كَفَرُ والا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: ٢٦]، فأمر الله المسلمين

قصة داود

٣٦١

حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح

-

الجن على ذلك فقال: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ [الأحقاف: ٢٩] الآية».

قال الإمام الرازي في التفسير الكبير": وفي الآية قول آخر وهو: إنَّ قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] خطاب الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطابًا مع المسلمين، وهذا قول حسن

مع

مناسب.

وتقريره أنَّ الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن قوما من الكفَّار يطلبون آياتٍ مخصوصةً، ومعجزات مخصوصةً ، فإذا كان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام لا يأتيهم بها قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ﴾ [الأعراف: ۲۰۳]، فأمر الله رسوله أن يقول جوابا عن كلامهم، إنه ليس لي أن أقترح على ربي، وليس لي إلا أن أنتظر الوحي. ثُمَّ بين الله تعالى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة، لأنَّ القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة، وعبّر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله: هَذَا بَصَابِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٣].

فلو قلنا: إِنَّ قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْوَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] المراد منه القراءة خلف الإمام، لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه، وانقطع النظم، وفسد الترتيب، وذلك لا يليق

بكلام الله تعالى، فوجب أن يكون المراد منه شيئًا آخر سوى ما تقدم.

٣٦٢

قصص الانبياء

وتقريره: إنه لما ذكر كون القرآن بصائر وهدى ورحمةً من حيث أنه معجزة دالة على صِدْقِ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام، وكونه كذلك لا يظهر إلَّا بشرط مخصوص، وهو أن النبي عليه الصلاة والسَّلام إذا قرأ القرآن على أولئك ا الكفَّار، استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته، ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة، فحينئذ يظهر لهم كونه معجزا دالا على صدق محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم، فيستغنوا بهذا القرآن عن طلب سائر المعجزات، ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن أنه بصائر وهدى ورحمةٌ، فثبت أنا إذا حملنا الآية

على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد.

ومما يؤكد هذا الوجه ويُقويه أمران:

الأول: أنه تعالى حكى عن الكفَّار أنهم قالوا: وَلَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: ٢٦] فناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت، حتى

يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة حد الإعجاز. والآخر: أنه تعالى قال قبل هذه الآية: هَذَا بَصَابِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: ۲۰۳] ، فحكم تعالى بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم ولو كان المخاطبون بقوله: ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا هم المؤمنون لما قال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ؛ لأنه جزم تعالى قبل هذه الآية بكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعا، فكيف يقول بعده من غير فصل: لعل استماع القرآن يكون رحمة للمؤمنين؟!. فثبت أنَّ الخطاب موجه للكفار، لأنهم باستماعهم للقرآن

ووقوفهم على ما فيه من وجوه الإعجاز يؤمنون فيكونون مرحومين . اهـ

قصة داود

٣٦٣

هذا كلام الإمام الرازي وهو في غاية الجودة، وقد فطن لمراعاة السياق ولم يتفطن لها غيره، والله أعلم.

ثالثا: قول الله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سبيلا ﴾ [الفرقان: ۲۷] الآية نزلت في أُبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وكانا خليلين وكان أُيُّ يجلس مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم لا يُؤذيه وكان رجلًا حليما، فصنع طعامًا، ودعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال له: «لا أذهب حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله». فتشهد، وذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى بيته وأكل طعامه، فلقي أبيا خليله عقبة بن أبي

معيط، وكان سفيها شرسًا، فقال له: لا أرضى عنك، حتى تأتي محمدًا فتتفل في وجهه، وتشتمه وتكذبه، فلم يسلطه الله على ذلك، فلما كان يوم بدر، أُسر عقبة، فأمر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم عليا أن يقتله، فقال عقبة: يا محمد أمن بين هؤلاء أقتل؟ قال: «نعم». قال: بِمَ؟ قال: «بكفرك وفجورك وعُتُوك على الله ورسوله». فقام إليه عليّ بن أبي طالب فضرب عنقه و عنقه، وأمَّا أُبي فَإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قتله يوم أحد. فالظالم في الآية مراد به المشرك وهو أبي بن خلف، والشّرك ظلم، لقوله تعالى: إن الشِّرْكَ لَظُلْمُ عَظِيمُ القمان: ۱۳]، والآية عامَّةٌ في كلِّ مُشْرِكَين اصطحبا على الشرك، وكثير من المفسرين عمَّموا الآية في المسلمين أيضًا، فقالوا: إنها تشمل كل مسلمين تصاحبا على فسق كشرب خمر أو زنا أو نحو ذلك من الكبائر.

٣٦٤

قصص الانبياء

وهذا خطأ كبير وبيانه من وجوه أولا: أنه مخالف للسياق الذي بمراعاته يظهر تناسب الآيات وتناسقها،

فإنَّ الكلام من أول قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ﴾ [الفرقان: ۲۱] في المشركين، وهو عام في كلّ مشرك.

ثانيا: أن المسلم العاصي لا يَعَضُّ على يديه يوم القيامة؛ لأنه يأمل شفاعة تلحقه، أو عفوا يشمله، أمَّا المشرك فإنه آيس من رحمة الله تعالى؛ فلذلك يَعَضُّ على يديه ندما وأسفًا.

ثالثًا: أنَّ المسلم العاصي اتَّخذ مع الرسول سبيلا بإيمانه، ومعاصيه لا تُخرجه من حظيرة الإيمان، فلذلك لا يقول: لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ، وإنما يقولها المشرك الذي كان يُكذِّب الرسول ويُعارضه.

ويجب أن ننبه على غلط آخر وقع من المفسرين في آية أخرى:

قال الله تعالى: الْأَخِلاهُ يَوْمَينم يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين الذين اتقوا الشرك يَعِبَادِلَا خَوْفُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ )

[الزخرف: ٦٧ - ٦٨].

روى ابن جرير، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: سمعت أنَّ النَّاس حين يبعثون، ليس منهم إلَّا فَزِع؟ فيُنادي منادٍ في العَرَصَات: يَنعِبَادِ لَا خَوْفُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: ٦٨] فيرفع أهل العَرْصَةِ رؤوسهم، فيقول المنادي: الَّذِينَ ءَامَنُوا بِايَتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الزخرف: ٦٩] فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين.

قصة داود القلي

٣٦٥

فتبين أنَّ المتقين في الآية مراد بهم الذين اتقوا الشرك وهم المسلمون، وهذا واضح من لفظ الآية ،ونظمها، ومع ذلك حمل كثير من المفسرين لفظ المتقين

على المتقين للمعاصي، وهو غلط ظاهر، والله أعلم.

(تنبيه) : لا ننكر أنَّ أهل المعاصي المسلمين إذا تصاحبوا على معاصيهم في الدنيا يتلاومون يوم القيامة، ويَعْتِبُ بعضهم على بعض لكن لا يتعادون، ولا يلعن بعضهم بعضًا، ولا يتبرأ تابعهم من متبوعهم، بل ذلك إنما يقع مع الكفار كما حكاه الله عنهم في كتابه.

روى ابن مردويه عن سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام، وقلَّتْ الأنساب، وذهبت الأُخوَّة إِلَّا الأُخوَّة في الله».

وذلك قوله تعالى: ﴿ الْأَخِلاءُ يَوْمَذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ

[الزخرف: ٦٧].

وهي أخوة الإسلام ويوم القيامة تظهر فضيلة تلك الأخوَّة وميزتها، فلا يمكن المسلم أن يلعن أخاه أو يتبرأ منه أو يُعاديه، لأنهما سيصيران إلى الجنة، وإنما يلومه أو يعاتبه، كما يحصل بين الأخ وأخيه في الدنيا.

٣٦٦

قصص الانبياء

قصة داود عليه السلام

وبعد انتهاء الكلام في التمهيد ننتقل إلى الكلام فيما أنشأنا هذا الجزء وهي قصة داود عليه السَّلام، أعني قصة الخصم المذكورة في قوله

لأجله،

تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَنَكَ نَبَوُا الْخَصْمِ إِذْ شَورُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ ص: ٢١] الآية.

وقد افترق المفسرون ثلاث فرق في تفسيرها:

۱ - فرقة اقتصرت على تفسير المفردات وأعرضت عن تفصيل القصة: منهم أبو حَيَّان، قال في تفسيره : (وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تُناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحا، وتكلمنا على ألفاظ

الآية». اهـ

ومنهم ابن كثير، قال في تفسيره": «قد ذكر المفسرون ههنا قصةً أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثاً لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يُقتصر على مُجرَّد تلاوة هذه القصة، وأن يُردَّ علمها إلى الله عزّ وجلَّ، فإنَّ القرآن حقٌّ، وما تَضَمَّنَ فهو حق أيضًا». اهـ

٢ - وفرقة ذكرت القصة مبسوطة أو مختصرة:

منهم: الزمخشري، والقرطبي، والخازن، وأبو السعود، والنَّسَفيُّ، والبيضاوي، وابن جُزَي، والثعالبي.

ومستندهم في ذكرها أنها رويت عن ابن عباس، ومجاهد، وأبي عمران

قصة داود العلي

٣٦٧

الجوني، والسُّدِّي، بل ورد فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم،

لكنه غير صحيح كما قال ابن كثير .

وأنا أذكر تلك الروايات، وأُبين ما فيها بحول الله :

۱- روى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنَّ داود عليه السلام، حدَّثَ نفسه، إن ابتُلي أن يَعْتَصِم، فقيل له إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تُبتلى فيه، فخذ حذرك ، فقيل له: هذا اليوم الذي تُبتلى فيه، فأخذ الزبور ودخل المحراب، وأغلق باب المحراب، وأدخل الزبور في حجره، وأقعد حارسًا على الباب، وقال: لا تأذن لأحدٍ عليَّ اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور، إذ جاء طائرٌ مُذهَبٌ كأحسن ما يكون الطير فيه من كل لون، فجعل يدرج بين يديه، فدنا منه فأمكن أن يأخذه، فتناوله بيده ليأخذه فطار، فوقع على كُوَّة المحراب، فدنا منه ليأخذه، فطار، فأشرف عليه، لينظر أين يقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظلَّه، حرکت رأسها فغطت جسدها أجمعه بشعرها.

وكان زوجها غازيًا في سبيل الله، فكتب داود عليه السَّلام إلى رأس الغُزاة:

انظر فاجعله في حملة التابوت إما أن يُفتح عليهم، وإما أن يُقتلوا». فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عِدَّتها، خطبها داود عليه السلام فاشترطت عليه إن وَلَدت غلامًا أن يكون خليفته من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل وكتبت عليه بذلك كتابًا، فأشهد بنفسه أنه كتب، حتى ولدت سليمان عليه السَّلام فتسوّر عليه الملكان المحراب، فكان شأنهما ما قص الله تعالى في كتابه، وخرَّ داود عليه السَّلام ساجدًا فغفر الله له وتاب عليه.

٣٦٨

قصص الانبياء

وهذه القصة منكرة، وأنكر ما فيها أنَّ الله يخبر داود أنه سيبتليه يوم كذا، فيستعد داود لذلك، ويظهر قدرته على مقاومة ما يبتليه الله، وهذا لا يليق

بمطلق مؤمن، فضلا عن نبي كريم. والطريف في هذه القصة أنَّ داود عليه السَّلام نسي الابتلاء الذي استعد

له، وعشق امرأةً عشقًا حمله على أن يُعرض زوجها للقتل !!.

ويظهر أن المرأة عرفت غرامه بها فشرطت عليه أن يكون ابنها منه خليفة بعده، ولم تكتف بموافقته وكتابة عقد بذلك، حتى أشهدت عليه خمسين من

الرجال لئلا يرجع في كلامه!!.

وأطرف من هذا أنَّ الله لم يُعاتبه حتى ولدت له تلك المرأة!!.

وهنا يأتي سؤال: وهو إن كان ما فعله داود عليه السلام معصية؛ فكيف أقره الله عليها مدة حتى أثمرت ولدا يكون خليفة له؟ وإن لم يكن ما فعله معصية فكيف عاتبه الله عليه ؟

۲- روى الحاكم والبيهقي، عن ابن عباس، قال: «ما أصاب داود ما أصابه بعد القَدَر إِلَّا من عُجْبٍ عَجِبَ به من نفسه، وذلك أنه قال: يا ربِّ ما من ساعة من ليل ونهار إلَّا وعابد من بني إسرائيل يعبدك يُصلي لك أو يُسبِّح أو يكبر وذكر أشياء، فكره الله ذلك، فقال: «يا داود إنَّ ذلك لم يكن إلا بي فلولا عوني ما قَوِيتَ عليه، وجلالي لأكلك إلى نفسك يوما، قال: يا رب فأخبرني به، فأصابته الفتنة ذلك اليوم. وهذ القصة أنكر من الأولى ؛ فيها نسبة العُجب إلى داود!! والعُجب من

الكبائر.

قصة داود الطبية

٣٦٩

وفيها أن داود قبل من الله أن يَكِلَه إلى نفسه!! وهذه من الكبائر أيضًا، فهذه القصة لا تصح عن ابن عباس، ولا تليق بمقام داود عليه السلام. روی ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَنَكَ نَبُوا الْخَصْمِ إِذْ تَوَرُوا الْمِحْرَابَ [ص: ۲۱] قال: إن داود قال: قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما وددت أنك لو أعطيتني مثله. قال الله عزّ وجل: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم؟ قال: نعم. قال له : فاعمل حتى أرى بلاءك، فكان ما شاء الله أن يكون وطال ذلك عليه فكاد ينساه، فبينما هو في محرابه، إذ وقعت عليه . فأراد أن يأخذها فطارت على كُوَّة المحراب فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فرأى امرأةً تغتسل، فنزل من المحراب، فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أنَّ زوجها غائب. فكتب إلى أمير تلك السَّرِيَّة أن يؤمره على السرايا ليُهلك زوجها، ففعل

فكان يُصاب أصحابه وينجو، وربما نُصر.

حمامة

فاطلع

وأنَّ الله عزّ وجلَّ لما رأى الذي وقع فيه داود عليه السلام أراد أن ينفذ

أمره، فبينما داود عليه السَّلام ذات يوم في محرابه إذ تسور عليه الملكان من قبل وجهه، فلما رآهما فَزع، فقالا له: لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض، ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا، قال أحدهما: إنَّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نَعْجَةٌ واحدةٌ فقال : أكفلنيها يريد أن يتم مائة، ويتركني ليس لي شيء فقال : إن دعوت ودعا كان أكثر مني، وإن بطشت وبطش كان

۳۷۰

أشدَّ مني، فذلك قوله: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) [ ص: ٢٣]. و

قصص الانبياء

قال له داود عليه السَّلام: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه، لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه - ونسي نفسه - فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر، فرآه داود فظن أنه فتن فاستغفر ربَّه. وهذه القصة تُخالف القصتين السابقتين في سبب وقوعها، وفي مضمونها. وقد اتفقت الروايات عن الحسن والسُّدِّي وأبي عمران الجوني ومجاهد على أن قصة داود عليه السّلام، سببها تعلقه بزوجة أوريا.

زاد مجاهد: إن خطيئة داود أنه لما أبصرها، أمر بها فعزلها فلم يقربها، فأتاه الخصمان. .. إلخ.

وهول أصحاب الروايات في توبة داود ، بأنه مكث ساجدًا أربعين يوما، وعيناه تنطقان دمعًا، حتى أكلت الأرض جبينه ونبت الزرع من دموعه!! وهذه مبالغة غير معقولة.

ثُمَّ اختلف المفسرون الذين اعتمدوا هذه الإسرائيليات في سبب امتحان داود واستغفاره، فقال المحققون: إنه قال للرجل: «انزل عن امرأتك وأكفلنيها». وهو مروي عن ابن مسعود.

وكان ذلك جائزا في شريعة داود معتادًا فيما بين أُمَّته غير محل بالمرؤة، غير أن داود لعظيم منزلته وارتفاع رتبته وعُلو شأنه، نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته، ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن يَنزِل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه.

قصة داود الطين

أرويا.

وقيل: نظر إليها حتى شبع منها. عن سعيد بن جبير. وقيل : أَغْزَى زوجها في حملة التابوت. عن ابن عباس.

۳۷۱

وقيل: خطبها بعد خطبة أوريا لها فزُوِّجت منه الجلالته، فاغتم لذلك

وقيل: لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته.

وقيل: حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر.

قال ابن العربي: «أما قول من قال : أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل، وأما من قال: أنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة؛ فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون

بالغيب. وحكى السُّدِّي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لو سمعت رجلًا يذكر أنَّ داود عليه السَّلام قارف من تلك المرأة مُحرَّمًا لجلدته ستين ومائة؛ لأنَّ حد قاذف الناس ثمانون وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة».

وذكره الماوردي والثعلبي أيضًا.

وقال الحارث الأعور عن عليّ: من حدَّث بحديث داود على ما ترويه القصاص جلدته حدين؛ لعظم ما ارتكب!! برمي من قد رفع الله محله؟!.

وهذا مما لم يصح عن علي». قال: «فإن قيل: ما حكمه عندكم؟ قلنا: أما من قال: «إِنَّ نبيا زنى» فإنه

۳۷۲

قصص الانبياء

يُقتل، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة فقد اختلف نقل الناس في ذلك، فإن صمَّم أحدٌ على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته، فإنه يُناقض التعزير المأمور به.

فأما قولهم: إنه وقع بصره على امرأةٍ تغتسل عريانة، فلما رأته أسبلت شعرها، فسترت جسدها فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأئمة، لأنَّ النظرة الأولى تكشف المنظور إليه، ولا يأثم الناظر بها، فأمَّا النظرة الثانية فلا أصل لها. فأما قولهم: إنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها». فلا شيء فيه، إذ لم يُعرضه للموت. وأما قولهم: «إنه خطب على خطبة أوريا». فباطل يردُّه القرآن، والآثار التفسيرية كلها.

وأما قول المفسرين: «إنَّ الطائر درج عنده، فهم بأخذه وأتبعه بصره» فهذا لا يُناقض العبادة، لأنه مباح فعله، لا سيّما وهو حلال، وطلب الحلال فريضة» . اهـ كلام ابن العربي. قلت: وقولهم: إن داود ما زاد على أن قال لأوريا: انزل عن زوجتك وأكفلينها، وأن هذا كان جائزا في شريعتهم، وأنه لا شيء فيه، ورأوا هذا مخلصًا من الإشكال. يقال عليه : طلب الملك يعتبره الشخص المطلوب منه أمرًا حتما، ففيه معنى الإكراه، وإن قامت عنده قرينة على أنه مُجرَّد رغبة لا حتم فإنه يفعله حياء، وسيف الحياء أشد من سيف الغصب»، كما يقال في المثل.

وفرقة ثالثة من المفسّرين أنكرت هذه الإسرائيليات جملة وتفصيلا، وشرحت

قصة داود العليم

۳۷۳

قصة داود عليه السَّلام شرحًا خاليا مما يمس مقام النبوة ويُنا في العصمة. منهم أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، صاحب التفسير المسمى "مجمع البيان لعلوم القرآن"، وهو من مجتهدي علماء الشيعة.

كان

قال في تفسيره المذكور : واختلف في استغفار داود من أي شيء فقيل: إنه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخضوع، والتذلل بالعبادة، والسجود، كما أخبر سبحانه عن إبراهيم بقوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِينِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: ۸۲].

وأما قوله: فَغَفَرنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ [ ص: ٢٥] فالمعنى: أنا قبلناه منه وأثبتناه فأخرجه على لفظ الجزاء، مثل قوله: يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَدِعُهُمْ ﴾ [النساء: ١٤٢]، وقوله: الله يَسْتَهْزِئُ بهم ﴾ [البقرة: ١٥] فلما كان المقصود من الاستغفار والتوبة القبول، قيل في جوابه غفرنا».

وهذا قول من يُنزّه الأنبياء عن جميع الذنوب عند الإمامية وغيرهم، ومن جوز على الأنبياء الصغائر قال: «إنَّ استغفاره كان لذنب صغير وقع منه». ثُمَّ إنهم اختلفوا في ذلك على وجوه: أحدها: أنَّ أُوريا بن حَنَان ، خطب امرأة، وكان أهلها أرادوا أن يزوجوها

منه، فبلغ داود جمالها، فخطبها أيضًا، فزوجوها منه، فقدموه على أوريا، فعوتب داود على ذلك. عن الجبائي. وثانيها: أنه خرج أوريا إلى بعض ثغوره فقتل فلم يجزع على

أمثاله

جنده، إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته، فعوتب على ذلك بنزول الملكين.

من

٣٧٤

قصص الانبياء

وثالثها: أنه كان في شريعته أنَّ رجلًا إذا مات وخلف امرأته فأولياؤه أحق بها، إلا أن يرغبوا عن التزوج بها، فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوج بها. فلما قتل أوريا خطب داود ،امرأته ومنعت هيبة داود وجلالته أولياؤه أن يخطبوها فعوتب على ذلك.

ورابعها أن داود كان متشاغلا بالعبادة، فأتاه رجل وامرأة متحاكمين فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها، وذلك مباحٌ، فمالت نفسه إليها ميل الطباع، ففصل بينهما، وعاد إلى عبادة ربه، فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله فعوتب. وخامسها: أنه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبت، وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيما يحكم عليه

بعد ذلك.

وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة. وأما ما ذكر في القصة : أنَّ داود كان كثير الصَّلاة، فقال: يارب فضَّلت على إبراهيم فاتخذته خليلا، وفضلت على موسى فكلمته تكليما، فقال تعالى: يا داود إني ابتليتهم بما لم نبتلك بمثله، فإن شئت ابتليت، فقال: نعم يا رب فابتليني، فبينما هو في محرابه ذات يوم وقعت حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب، فذهب ليأخذها، فاطَّلع من الكوة، فإذا امرأة أوريا بن حنان تغتسل، فهواها وهم بتزوجها، فبعث بأوريا إلى بعض سراياه، وأمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السَّكينة، ففعل ذلك وقتل، فلما انقضت عدتها تزوجها وبنى بها فولد منها سليمان، فبينما هو ذات يوم في محرابه يقرأ إذ دخل عليه

قصة داود ال

۳۷۵

رجلان ففزع منهما، فقالا : لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ إلى قوله : وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: ٢٢ - ٢٤، فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثُمَّ ضحك، فتنبه داود على أنهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين، ليبكتاه على خطيئته، فتاب وبكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه».

فمما لا شبهة في فساده، فإنَّ ذلك مما يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله تعالى الذين هم أمناؤه على وحيه وسفراؤه بينه وبين خلقه، بصفة مَنْ لا تقبل شهادته وعلى حالةٍ تُنفّر عن الاستماع إليه والقبول منه ؟! جلّ أنبياء الله .

ذلك.

عن

وقد رُوي عن أمير المؤمنين: أنه قال: «لا أوتي برجل يزعم أنَّ داود تزوّج امرأة أوريا، إلا جلدته حدين حدا للنبوة وحدا للإسلام». اهـ

ومنهم الإمام الرازي، قال في تفسيره: «أما قوله تعالى: وَهَلْ أَتَنَكَ نَبَوا الخصم فهو نظير قوله تعالى : هَلْ أَنَنكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴾ [النازعات: ١٥]، وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها، ليكون داعيا إلى

الإصغاء لها، والاعتبار بها.

وأقول: للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال:

أحدهما ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه.

وثانيها دلالتها على الصغيرة.

وثالثها: بحيث لا تدل على الكبيرة، ولا على الصغيرة

فأما القول الأول، فحاصل كلامهم فيها: أنَّ داود عشق امرأة أوريا

٣٧٦

قصص الانبياء

فاحتال بالوجوه الكثيرة، حتى قتل زوجها، ثُمَّ تزوج بها. فأرسل الله إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته

وعرضا الواقعة عليه، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبًا، ثُمَّ تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة. الذي أدين به وأذهب إليه أنَّ ذلك باطل، ويدل عليه وجوه:

الأول: أنَّ هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس، وأشدهما فجورًا لاستنكف منها، والرجل الحشويُّ الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نُسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه، وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه ؟!

الثاني: أنَّ حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته.

أما الأول: فأمر منكر ، قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمةٍ جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله». وأما الثاني: فمنكر عظيم، قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «المسلم مَن سَلِم

المسلمون من لسانه ويده .

وإن أوريا لم يسلم من داود، لا في روحه ولا في زوجته.

والثالث: أنَّ الله تعالى وصف داود قبل هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضًا بصفاتٍ كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل الصفات تنا في كونه عليه السَّلام موصوفًا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح.

ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان، فأقول:

قصة داود العلي

۳۷۷

أما الصفة الأولى: فهي ، أنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وآله وسلَّم أن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة، ولو قلنا أنَّ داود لم يصبر على مخالفة النفس، بل سعى في إراقة دم امريء مسلم لغرض شهوته، فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلم بأن يقتدي بداود في الصبر

على طاعة الله ؟!.

وأما الصفة الثانية: فهي أنه وصفه بكونه عبدا له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملا في موقف العبودية تاماً في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات ولو قلنا: أنَّ داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملا في عبوديته الله تعالى بل كان كاملا في طاعة الهوى والشهوة.

الصفة الثالثة: هو قوله: ﴿ذا الأيد ﴾ [ص: ١٧] أي ذا القوة، ولا شك أنَّ المراد منه القوة في الدين، وأنَّ القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار ولا معنى للقوة في الدين إلَّا القوة الكاملة على أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل، والرغبة في زوجة المسلم؟! الصفة الرابعة: كونه أوَّابًا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وكيف يليق هذا بمن

يكون قلبه مشغوفًا بالقتل والفجور ؟!

الصفة الخامسة : قوله تعالى: إِنَّا سَخَرنَا الْجِبَالَ مَعَهُ [ ص: ۱۸] أفترى أنه سُخّرت له الجبال، ليتخذه وسيلة إلى القتل والفجور ؟!

۳۷۸

قصص الانبياء

الصفة السادسة : قوله: ﴿ وَالطَّير مَحْشُورَة [ص: ١٩]، وقيل أنه كان محرما عليه صيد شيء من الطير، كيف يعقل أن يكون الطير آمنا منه، ولا ينجو منه الرجل المسلم؟!

الصفة السابعة: قوله تعالى: وَشَدَدْنَا مُلكَهُ ﴾ [ص: ٢٠] ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شد ملكه بأسباب الدنيا، بل المراد أنه تعالى شدَّ ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا، ومن لا

يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟!

الصفة الثامنة: قوله تعالى: وَآتَيْنَهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ ص: ٢٠] والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علمها وعملا، فكيف يجوز أن يقول الله تعالى : إنَّا آتيناه الحكمة وفصل الخطاب، مع إصراره على ما يستنكف منه

الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والزوجة؟! فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على براءة ساحته من تلك الأكاذيب.

وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة، فهي عشرة

الأولى: قوله : وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَا ﴾ [ص: ٢٥] وذكر هذا الكلام إنما يُناسب لو دلّت القصة المتقدّمة على قوته في طاعة الله، أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور، لم يكن قوله: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا

لزلفى لا تقابه.

قصة داود الط

الثانية: قوله تعالى: يَدَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) [ ص: ٢٦].

۳۷۹

وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه أحدها: أنَّ الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده، أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم، فبعد فراغه من شرح تلك القصة على ملأ من الناس، يقبح منه أن يقول عقبه أيها العبد إني فوضت إليك خلافتي ونيابتي؛ وذلك لأنَّ ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة، يُناسب الزجر والحجر، فأمَّا جعله نائبًا وخليفة لنفسه، فذلك البتة لا يليق.

وثانيها: أنه ثبت في أصول الفقه أنَّ ذكر الحكم عقب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف.

فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثُمَّ قال بعدها: ﴿ يَدَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أشعر هذا بأنَّ الموجب لتفويض هذه الخلافة هو

إتيانه بتلك الأفعال المنكرة، ومعلوم أنَّ هذا فاسد. أما لو ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب، وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى فحينئذٍ يُناسب أن يذكر

عقبه: إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، فثبت أنَّ هذا الذي نختاره أولى. الثالثة: وهو أنه لما كانت مقدّمة الآية دالة على ملامح داود عليه السّلام وتعظيمه، ومؤخّرتها أيضًا دالة على ذلك، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعايب، يجري مجرى أن يقال فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله

يقتل ويزني ويسرق، وقد جعله خليفة في أرضه وصوب أحكامه!!.

۳۸۰

- قصص الانبياء

وكما أنَّ هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل، فكذا ههنا، ومن المعلوم أن ذكر

العشق والسعي في القتل من أعظم العيوب.

الرابعة وهو أنَّ القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أنَّ داود عليه السَّلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية، مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار، وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب، فأوحى الله إليه: أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا ، فعند ذلك سأل داود الابتلاء، فأوحى الله إليه أنك ستبتلى في يوم كذا ، فبالغ في الاحتراز ثُم وقعت الواقعة. فنقول: أول حكايتهم يدل على أنَّ الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته، ويكمل مراتب إخلاصه، فالسعي في قتل النفس بغير الحق، والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة؟! ويثبت أنَّ الحكاية التي ذكروها يناقض ،

أولها آخرها.

الخامسة: أنَّ داود عليه السَّلام قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ

إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ [ ص: ٢٤] استثنى الذين آمنوا عن البغي. فلو قلنا: إنه كان موصوفًا بالبغي، لزم أن يقال: إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل.

السادسة: حضرت بعض المجالس وحضر فيها بعض أكابر الملوك، وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة لسبب اقتضى ذلك، فقلت له: لا شكّ أنَّ داود عليه السَّلام كان من أكابر الأنبياء ولقد قال تعالى:

قصة داود ال

۳۸۱

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: ١٢٤] ومن مدحه الله تعالى بمثل

هذا المدح العظيم، لم يجز لنا أن تبالغ في الطعن فيه.

وأيضًا بتقدير أنه ما كان نبيًّا فلا شك أنه كان مسلما ولقد قال صلى الله

عليه وآله وسلَّم: «لا تَذْكُرُوا موتاكم إلَّا بخير». ثُمَّ على تقدير أ أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلَّا أَنَّا نقول: إنَّ من المعلوم بالضرورة أنَّ بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقا صحيحةً، فإنَّ روايتها وذكرها لا يوجب شيئًا من الثواب، وأمَّا بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدةً، فإنَّ ذكرها يستحقُ أعظم العقاب، والواقعة التي هذا شأنها

وصفتها فإنَّ صريح العقل يوجب السكوت عنها.

فثبت أنَّ الحق ما ذهبنا إليه، وإنَّ شرح تلك القصة محرَّم محظورٌ .

فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت ولم يذكر شيئًا.

السابعة: أن ذكر هذه القصة، وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي

إشاعة الفاحشة فوجب أن يكون محرما لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ

الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [النور: ١٩].

الثامنة: لو سعى داود في قتل ذلك الرجل، لدخل تحت قوله: «ومَنْ سَعَى في

دم مُسْلِمٍ ولو بِشَطْرِ كلمةٍ جاء يومَ القِيامَةِ مَكْتُوبًا بين عَيْنَيْهِ آيَسٌ مِن رحمة الله. وأيضًا: لو فعل ذلك لكان ظالماً ، فكان يدخل تحت قوله: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ

عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: ۱۸]. التاسعة: عن سعيد بن المسيب أنَّ علي بن أبي طالب عليه السَّلام قال: «مَن

۳۸۲

قصص الانبياء

حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء».

العاشرة: روي أنَّ بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله تعالى فقال: لا ينبغي أن يزاد عليها وإن كانت الواقعة على ما ذكرت، ثُمَّ إنه تعالى لم يذكرها لأجل أن يستر تلك الواقعة على داود عليه السَّلام فلا يجوز للعاقل أن يسعى

في هتك ذلك الستر، فقال عمر : سماعي هذا الكلام أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس (۱)

فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أنَّ القصة التي ذكروها فاسدة باطلة. وأما الاحتمال الثالث: وهو أن تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم إلحاق الكبيرة أو الصغيرة بداود عليه السَّلام، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول: روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السَّلام وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوّروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما عنده يمنعونه منهم، فخافوا فوضعوا كذبًا فقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة، وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يُحتج به في إلحاق الذنب لداود إلا ألفاظ أربعة:

(۱) في تفسير النسفي: روي أنه حدث بذلك بعضهم عند عمر بن عبدالعزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذَّب المحدّث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها وأعظم أن يقال خلاف ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكفَّ الله عنها سترا على نبيه فما ينبغي إظهارها فقال عمر : لسامعي هذا الكلام... إلخ.

قصة داود القلي

إحداها: قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُردُ أَنَّمَا فَتَتَهُ .

ثانيها: قوله تعالى : فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ .

وثالثها: قوله: وَأَنَابَ .

ورابعها : قوله : فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ .

۳۸۳

وهذه ألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه، وتقريره من وجوه: الأول: أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله وعلم داود عليه السلام ذلك، دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم، إلَّا أنه مال إلى الصَّفْحِ والتجاوز عنهم طلبا لمرضاة الله، وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان، ثُمَّ إنه استغفر ربَّه ممَّا هَمَّ به من الانتقام منهم، وتاب عن ذلك الهم وأناب، فغفر له ذلك القدر من الهم والعزم.

الثاني: أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه، إلا أنه ندم على ذلك الظن وقال: لما لم تقم لـ له دلالته ولا أمارة على أنَّ الأمر كذلك، فبتسما

عملت

بهم حيث حيث ظننت

هذا الظن الرديء فكان هذا هو المراد في قوله: بهم

وَظَنَّ دَاوُردُ أَنَّمَا فَنَتَهُ إلى قوله: وَأَنَابَ .

.

الثالث: أنَّ دخولهم كان فتنةً لداود عليه السلام إلا أنه عليه الصلاة

والسَّلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله، كما قال في حق محمد عليه الصلاة والسَّلام وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: ١٩]. فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب أي رجع إلى الله تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل.

٣٨٤

قصص الانبياء

وقوله: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) أي : غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام داود

والتعظيم.

الرابع: هَبْ أنه تاب عن زلَّةٍ صدرت منه لكن لا نعلم أنَّ تلك الزلة وقعت بسبب المرأة فلم لا يجوز أن يُقال: إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الآخر؟

فثبت بهذا البيان أنا إذا حملنا هذه الآيات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب.

ثُمَّ نقول: وحمل الآية عليه أولى لوجوه:

الأول: أنَّ الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي، ولا سيما وهو رجل

من أكابر الأنبياء والرسل. والثاني: أنه أحوط.

والثالث: أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم: أصير عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُرَدَ [ ص: ١٧] فإنَّ محمدا عليه الصلاة والسلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا: إنه ساحر كذَّابٌ، واستهزؤوا به، حيث قالوا: رَبَّنَا عَمَل لَنَا قِطَنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: ١٦] فقال تعالى في أول الآية: اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب، واذكر عبدنا داود، فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحَلُم ولم يظهر الطيش والغضب، وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه أما إذا حملناه على ما ذكروه صار الكلام

قصة داود القلية

متناقضا فاسدًا.

٣٨٥

والرابع: أن تلك الرواية إنها تتمشى إذا قلنا الخصمان كانا ملكين وإذا كانا من الملائكة ولما كان بينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر كان قولهما:

خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ﴾ [ ص: ٢٢] كذبًا.

فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين:

أحدهما : إسناد الكذب إلى الملائكة.

والثاني: أن يتوسل بإسناد الكذب للملائكة، إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل من أكابر الأنبياء.

فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة،

وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا ،أولى، فهذا ما عندنا في هذا الباب».

انتهى كلام الإمام وقد أطال وأطاب وأتى بنفيس دقائق ينشرح

لها

صدور أولي الألباب وتكلَّم في تنزيه مقام النبوة بما يستحق التقدير

والإعجاب. وجاء في أثناء كلامه تلميح إلى مراعاة السّياق عَرَضًا، لكن لم يُفصح بها ولا تنبه لها فيما أظن، وهي العمدة في ربط هذه القصة بما قبلها بل هي المقصودة في هذا الكتاب.

وممن أنكر القصة كما جاءت في الإسرائيليات العلامة أبو الحسن برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي غير أنه انفرد في شرحها بشيء لم نره لغيره. ذلك أنه بعد أن تكلّم على مفردات الآية إلى قوله تعالى: وَقَلِيلٌ مَاهُمْ

٣٨٦

قصص الانبياء

[ ص: ٢٤]. قال ما نصه: (ولما أتمَّ ذلك ذهب الداخلون عليه فلم ير منهم أحدا، فوقع في قلبه أنه لا خصومة وأنهم إنما أرادوا أن يُجربوه في الحكم ويُدربوه عليه، وأنه يجوز للشخص أن يقول ما لم يقع إذا انبنى عليه فائدة عظيمة، تعيَّن ذلك الكلام طريقًا للوصول إليها، أو كان أحسن الطرق مع خلو الأمر عن فساد، وحاصله أنه يذكر كلامه والمراد بعض لوازمه فهو مثل دلالة التضمن في المفردات وهذا مثل قول سليمان عليه السلام: «أنتوني بسكين بينهما وليس مراده إلا ما يلزم عن ذلك من معرفة الصادقة والكاذبة بإباء الأم لذلك وتسليم المدعية كذبًا.

اشقه

وتحقيقه: أنه لا ملازمة بين الكلام وإرادة المعنى المطابق لمفردات ألفاظه، بدليل لغو اليمين، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفية رضي الله عنها: عَقْرَى حَلْقَى» (۱) . ولأمّ سلمه رضي الله عنها «تَرِبَتْ يَمِينُك». وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ثلاتٌ جِدهُنَّ جِدٌ وَهَزْهُنَّ جِدٌ» مشيرًا إلى أن الكلام قد لا

یرد به معناه، ومن هنا كان الحكم في ألفاظ الكنايات أنه لا يقع بها شيء إلا إن إِلَّا اقترن بقصد المعنى. ولما كان هذا القدر معلوما، عطف عليه قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُرد (٢) أي بذهابهم قبل فصل الأمر، وقد دهمه من ذلك أمر عظيم من عظمة الله لا عهد

(۱) كلمة تقال عند الذم.

(۲) الأصل في الظن عدم اليقين وهو الطَرَفُ الراجح من الاعتقادين، وقد يستعمل في اليقين لقرينة، وقد فرّق بينهما القرآن فقال: مَا هَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا أَتَبَاعَ الظَّلنَ ﴾ [النساء: ١٥٧].

قصة داود العلي

۳۸۷

له بمثله أَنَّمَا فَنَتَهُ أي اختبرناه بهذه الخصومة في الأحكام التي يلزم الملوك

کلامه

مثلها لتبين أمرهم فيها. واعلم أنه بادر إلى نسبة المدعى عليه أنه ظَلَم من قبل أن يسمع ك ويسأله المدَّعِي الحكم فعاتبه الله على ذلك والأنبياء عليهم السلام لعلو

مقاماتهم يعاتبون على مثل هذا، وهو من قصر الموصوف على الصفة قلبًا أي هذه القصة مقصورة على الفتنة لا تعلق لها بالخصومة.

ولو كان المراد؛ ما قيل من قصة المرأة التي على كل مسلم تنزيهه وسائر

إخوانه عليهم السَّلام عن مثلها؛ لقيل : وعَلِم داود» ولم يقل: وَظَنَّ كما يشهد بذلك كل من له أدنى ذوق في المحاورات، وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود، وأخبر في بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السَّلام من ذريته ليجدوا السبيل إلى الطعن فيه». اهـ كلام البقاعي في تفسيره "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور". و حاصل كلامه في القصة: أنها ليست فيها خصومة وإنما هي كناية أريد بها اختبار داود عليه السّلام في الحكم وتوبته كانت من مبادرته إلى نسبة الظلم إلى المدعى عليه، قبل سماع كلامه. وقال أيضًا بعد كلامه : فكانت هذه الدعوى تدريبا لداود عليه السَّلام في الأحكام، وذكرها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريبا له على الأناة في جميع أموره على الدوام. فشرح القصة على هذا الوجه مما لم نره لغيره، وأنا متفق معه ومع الإمام

۳۸۸

قصص الانبياء

الرازي والطبرسي في تنزيه داود عليه السَّلام عما جاء في تلك الروايات

الإسرائيلية التي تلصق بنبي كريم ورسول عظيم ما لا يليق بمقامه. وإنما أختلف معهم في فهم القصة فهما يتناسب مع مقام النبوة فالخلاف بيننا في الوسيلة لا في المقصد ؛ والاختلاف في الوسائل لا يضر إذا كان الهدف واحدا.

وبناء على هذا أبدأ في شرح نظريتي في قصة داود عليه السّلام فأقول:

التفسير الصحيح لقصة داود عليه السلام

سورة "ص" مكية في قول الجميع وتُسمى «سورة داود». وافتتحت بحرف «ص» إشارة لما اشتملت عليه من الخصومات وهي

أربع ۱ - خصومة المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أول السورة.

- وهل أتنَكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ ﴾ [ ص: ۲۱] الآية.

- إِنَّ ذَلِكَ لَحَقِّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴾ [ ص: ٦٤] .

-{

مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمِ بِالْمَالَا الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [ص: ٦٩]. والأنبياء المذكورون في هذه السورة كلُّهم ابتلوا وامتحنوا وصبروا حتى نجاهم الله ونصرهم، فذكروا هنا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وتسرية عنه وتثبيتاً لفؤاده وبدئت السورة بذكر خصومة المشركين: بَلِ الَّذِينَ

كفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ ص: ٢] مع سرد بعض سفاهاتهم وجهالاتهم.

قصة داود القلي

۳۸۹

وَعَجِبُوا أَن جَاءَ هُم مُنذِرُ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَفِرُونَ هَذَا سَحِرُ كَذَابُ ﴾ [ ص: 4]. واستمر السياق في تكذيبهم للرسول وتعجبهم مما يدعوا إليه من التوحيد

والبعث بعد الموت. قالوا على سبيل الاستهزاء: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجَل لَّنَا قِطَنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب [ ص: ١٦]. قال البقاعي: (ولما بلغ السَّيلُ - في ركوبهم الباطل عنادًا- الربي، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى، وكان سؤالهم تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب، والكلام البعيد عن الصواب ربما اقتضى أن يسأل تعجيل ما طلبوا، وربما أوقع في ظن أنَّ إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في المبلغ؛ بين تعالى أنَّ عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم، فقال تعالى مُسلّيا ومُعزّيًا ومؤسيّا لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء والمرسلين، مُذكَّرًا له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن، حاثًا على العمل بأعمالهم آمرًا بالتأني والتَّوَّدَة والحِلْمِ، محذرًا من العَجَلَةِ والتبرُّم والضَّجَر: أصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [ ص: ۱۷] أي يُجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية، فإنه ليس لنقص فيك ولكنه لحكم جلت عن

الوصف مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك . اهـ

واذكر على سبيل التسلّي والتأسي عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ﴾ أي: القوة على الطاعة والصبر والتحمل إنَّهُ أواب كثير الرجوع إلى الله في أمور دينه ودنياه إِنَّا سَخَرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ آخر النهار والإشراق وقت الضحى والطَّير مَحَشُورَة مجموعة سخّرناها معه أيضًا كل من الجبال والطير لأجل

۳۹۰

قصص الانبياء

داود أوابُ : رَجَاع يرجع بتسبيح داود عليه السَّلام كلما سبَّح وَشَدَدْنَا ملكه قويناه وأيدناه. قيل: كان يحرسه ستة وثلاثون ألفا وهذه مبالغة غير معقولة فإنَّ أفراد مملكته لم يبلغوا هذا العدد.

وانينَهُ الْحِكْمَةَ النبوة وفصل الخطاب يعني الفصل في القضاء. ثُمَّ ذكر قصَّةً تدل على صبره وتحمله واستفتحها بحرف الاستفهام فقال:

وَهَل ومعناه في هذا الموضوع التعجب والتشويق إلى استماع قصة خصومة أساء الخصوم فيها الأدب على داود عليه السَّلام، فصبر على سوء أدبهم ولم يعاقبهم مع أنهم يستحقون العقاب أتَنَكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَوَرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاو دَ فَزِعَ مِنْهُمْ ) لنزولهم من السُّور ولم يأتوا من الباب وهذا غير جائز عُرْفًا وشرعا. وهو أول أخطائهم التي ارتكبوها في حقٌّ مَلِكهم ونبيهم عليه السلام. وخطأ ثاني وهو أنهم لما رأوه فزع منهم لم يعتذروا له بقول لين مثل أن يقولوا: سامحنا فيما فعلناه، أو لا تؤاخذنا، أو نحو هذا من الكلام اللين اللطيف الذي يعطف قلبه عليهم.

ولكنهم قالوا عبارةً جافَّةً، لا أدب فيها ولا ذوق، تجاوز عنها داود أيضًا خصمان بغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَأَحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُنْطِط وهذه خطيئة ثالثة، وهي أنهم خاطبوا نبيا معصومًا ومَلِكًا عظيما بقولهم: ولا تُشْطط مع أنهم بعض أُمته، ومن رعاياه وقد غصب النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ممن قال له: «اعدل» لأنَّ كلمة اعدل أو احكم بالحقِّ، أو لا تجر، لا يجوز أن تقال للنبي

قصة داود الطير

۳۹۱

سه پره

لعصمته، إِنَّ هَذا أخي أي: إسرائيلي مثلي الهُ تِسْعُ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً أنثى الضَّان ولِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَنِي فِي الْخِطَابِ وهنا جملة مقدرة، وهي: وتمت

الحجة للمدعي قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَجَيكَ إِلَى نِعَاجِهِ ﴾ [ ص: ١٧-٢٤]. هذه خلاصة القصة، وهي حقيقية، وذكرت هنا في سياق الكلام على صبر داود وتحمله، وخُصَّت هذه بالذات لأنَّ داود كان يمكنه أن يُعاقب من أساءوا إليه، وهم يستحقون العقاب، لكنه فَضَّل الصَّبر والتحمل، لأجل أن يتسلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ويتأسى بداود عليه السَّلام، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينتقم لنفسه.

وقوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُردُ أَنَّمَا فَنَتَهُ [ ص: ٢٤] أي ابتليناه وامتحناه حيث خاف من الخصمين حين تسوّروا عليه، وهو في حضرة الله يعبده، وللملوك

أعداء من رعاياهم.

ويقول ابن الوردي في لاميته:

إِنَّ نصف النَّاسِ أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل والخوف غريزة في البشر، خاف الأنبياء قبل داود عليهم السلام.

حكى الله عن إبراهيم عليه السَّلام أنه قدم لضيوفه الطعام: فَأَمَارَءَا

أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [هود: ٧٠].

وقال موسى وهارون حينما أمرهما الله بالذهاب إلى فرعون: رَبَّنَا إِنَّنَا

تَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ [طه: ٤٥] .

۳۹۲

قصص الانبياء

وقال موسى لفرعون وزملائه : فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ﴾ [الشعراء: ٢١]. وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُحرس خوفًا من الأعداء ولما نزل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: ٦٧] قال الحراسه: «اذْهَبُوا فقد عصمني الله.

ولكن داود اعتبر خوفه من المخلوق وهو في حضرة الخالق نقصا لا يليق فَاسْتَغْفَرَ رَبَهُ، وَخَر رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: ٢٤] مما ظنه ابتلاء، ورآه نقصا فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك [ص: ٢٥] جواب على سبيل ا المشاكلة نحو قوله تعالى: وَجَزَاؤُا سَيِّئَةِ

سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: ٤٠]. وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَأَعْتَدُ وأَعَلَيْهِ بِمِثْلِ

مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: ١٩٤].

وقول الشاعر:

قالوا افْتَرِح شَيئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ قلتُ اطبُخُوالي جُبَّةٌ وقميصا

وباب المشاكلة في اللغة واسع وهو من أنواع البديع.

فتبين مما ذكرناه أمور:

أحدها: أن قصة الخصومة قصةٌ حقيقية، حصلت بين خصوم إسرائيليين كانوا خُلَطاءَ في نعاج، ولم يكن الخصوم ملائكة، ولا النعاج نساء، كما جاء في

الإسرائيليات.

ثانيها: أنَّ القصة ذكرت في سياق بيان صبر داود وقوة تحمله، وأنَّ الذين فسروها بغير ذلك غفلوا عن مراعاة السياق، فأخطأوا في فهم المعنى ولم يظهر بين القصة والآيات قبلها تناسب وترابط.

قصة داود العلي

۳۹۳

ثالثها: أن داود عليه السَّلام لم يرتكب معصية أصلا، وأن استغفاره إنما كان من الخوف الذي اعتبره نقصا، وليس هو بنقص، لأنه غريزة بشرية كالحب والكره.

أصل القصة عند أهل الكتاب

قال الشيخ عبد الوهاب النجار تعليقا على قول البيضاوي في "تفسيره" : إن داود خطب على خطبة رجل، أو طلب إليه أن ينزل له عن زوجته ما نصه: «إنما هو قول تلطَّف به المسلمون، وأما أهل الكتاب فإنهم يقولون: إِنَّ داود نظر وهو يمشي على سطح داره إلى امرأة تستحم ، فأعجبته وأغرم بها، وأتى بها واضطجع معها فحملت منه وأعلمته، وكان زوجها أوريا الحبشي في الحرب فأتى به ليسأله عن أمر الحرب في الظاهر وليحدث الرجل بامرأته عهدًا حتى لا يرتاب بأمرها إذا علم فيما بعد أنها حامل، ولكنَّ الرجل كان نقيا جدا، فبات بباب داود ولم يزر امرأته لأنه رأى من عدم التقوى أن يتمتع بزوجته وإخوانه في الحرب بعيدون عن أزواجهم، فلما علم داود بأمره لمير وسيلة بعد افتضاح أمره إلا تعريض أوريا الجبهة القتال حاملا الراية، وأن يتأخر عنه الجند بعد التقدم، وبهذه الوسيلة قتل الرجل وأنت امرأته بولد من تلك الزنية وتزوجها داود، ثُمَّ مرض الولد فحزن داود عليه حزنا شديدا حتى لا يقدر

أحد على تسرية همه ، ثُمَّ مات الولد، ومن هذه المرأة كان سليمان.

هذه

هي

القصة كما يقولها اليهود لعنهم الله، وهي كلها كذب وافتراء،

وأظنُّ اليهود الذين أسلموا لطَّفوها حتى قبلها المسلمون، وذكروها في

تفاسيرهم وغيرها».

٣٩٤

قصص الانبياء

فضائل داود عليه السلام

وهي نوعان:

۱ - فضائل ذكرها الله في القرآن الكريم.

٢ - فضائل ثبتت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.

الفضائل القرآنية

سورة البقرة: وَقَتَلَ دَاوُردُ جَالُوتَ وَءَاتَهُ اللَّهُ الْمُلْكُ وَالْحِكْمَةَ

وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة: ٢٥١]. والمراد بالحكمة: النبوة.

سورة النساء: وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ﴾ [النساء: ١٦٣]. والزبور: كتاب يشتمل على مواعظ وتسبيحات الله وليس فيه أحكام ولا تشريعات، ويسميه أهل الكتاب مزامير، جمع مزمور، وفيه مائة وخمسون مزمورا، وداود كان على شريعة موسى عليهما الصَّلاة والسلام. سورة الإسراء: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُرَدَ رَبُورًا

[الإسراء: ٥٥].

سورة الأنبياء: وَسَخَرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرِ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَهُ صَنْعَةَ لَبُوسِ لَكُمْ لِنُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: ٧٩ - ٨٠] سورة النمل: وَلَقَدْ ءَانَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَنَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى

كثيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } [النمل: ١٥].

سورة سبأ: وَلَقَدْ عَانَيْنَا دَاوُدَ مِنَا فَضْلًا يَجِبَالُ أَولِي مَعَهُ، وَالطَّيْرِ وَأَلَنَا لَهُ

قصة داود العين

۳۹۵

الحديد ) أَنِ أَعْمَلْ سَبِغَاتٍ وَقَدِرْ فِي السَّرْدِ وَأَعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

[سبأ: ١٠ - ١١].

ألان الله الحديد لداود فكان في يده كالعجين و سابغات صفة الدروع

مقدرة، والسّرد نسج الدروع، بحيث تكون حلقاتها متساوية.

سورة ص : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابُ إِنَّا سَخَرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِي وَالْإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةٌ كُلَّ لَهُ أَوَابٌ ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ، وَآتَيْنَهُ الْحِكْمَةَ وَفَصَّلَ الْخِطَابِ [ ص: ۱۷ - ۲۰] .

1

وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَشَابِ ( يَدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فاحكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ ص: ٢٥ - ٢٦]. قال المفسرون: قوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى خطاب لداود؛ والمراد غيره من الحكام.

الفضائل الثابتة في الحديث

في "صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال له: «أَحَبُّ الصَّلاةِ إلى الله صَلاةُ داود عليه السلام، وأَحَبُّ الصِّيامِ إلى الله صِيامُ ،داود، وكان يَنامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وينام سُدُسَهُ، ويُصُومُ يومًا وَيُفْطِرُ يومًا».

وفي "صحيح البخاري" أيضًا عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِن أَن يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نبي الله داودَ كَان يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ».

٣٩٦

قصص الانبياء

وروى أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: وأن داود عليه السّلام، كان لا يَأْكُلُ إِلَّا مِن عَمَلِ يَدِهِ».

قال الحافظ ابن حجر : وهو صريح في الحصر، قال: والحكم في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده، لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق

الأفضل» . اهـ

وفي "المستدرك" من حديث ابن عباس: وكان داود زرادًا(۱) وكان آدم

حراثًا، وكان نوح نجارًا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيًا. وفي "صحيح البخاري : عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خُفِّفَ على داودَ عليه السَّلام القُرْآنُ، فَكَان يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجَ، فيَقْرَأُ القُرْآنَ قبل أن تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، ولا يَأْكُلُ إِلَّا مِن عَمَلِ يَدِهِ».

المراد بالقرآن الزَّبور، وقيل التوراة، وقراءة كل نبي تطلق على الكتاب

الذي أوحي إليه.

نسبه عليه السلام

هو دواد ابن إيشا - بكسر الهمزة وسكون المثناة التحتية- ابن عَوبَد - بوزن جعفر - ابن باعر - بفتح العين المهملة - ابن سلمون بسكون اللام- ابن يارب - بكسر الراء - ابن رام ابن حصرون ابن فارص-بصاد مهملة - ابن

يهوذا بن يعقوب عليه السَّلام.

(1) يضع الزرد في الدروع.

قصة داود العلي

۳۹۷

صفته عليه السلام

قال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه : كان داود عليه

السلام قصيرًا، أزرق العينين قليل الشعر، طاهر القلب نقيه.

عمره عليه السلام

روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لَما خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِن ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُو خَالِقُهَا مِن ذُرِّيَّتِهِ إلى : يته إلى يوم ! القِيامَةِ، وجعل بَيْنَ عَيْنَي كُلَّ إنسانٍ منهم وَبِيصًا مِن نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ على آدمَ فقال: أي رَبِّ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلاً منهم فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فقال: أي ربِّ مَن هذا؟ فقال: هذا رَجُلٌ مِن آخِرِ الْأُمَمِ مِن ذُرِّيَّتِكَ يُقال له داود فقال: رَبِّ كم جعلتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سنة، قال: أي رَبِّ زِدْهُ مِن عُمْرِي أربعين سَنَةٌ، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، فقال: أَوَلَمْ يَبْقَ مِن عُمْرِي أربعون سَنَةٌ؟ قال: أَوَلَمْ تُعْطِها ابنَكَ داودَ قال: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، ونُسِيَ آدَمُ فَنَسِبَتْ ذُرِّيَّتُهُ». قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن أبي

هريرة». وصححه الحاكم على شرط مسلم.

ورواه أحمد من حديث ابن عباس، وفي آخره: «فأتمها لداودَ مائةَ سَنَةٍ،

وأَتَمَّ لَآدَمَ عُمْرَهُ أَلفَ سَنَةٍ».

وللحديث طرق عن أبي هريرة، وعبد الله بن سَلَام، وابن عباس.

وعلى هذا فداود عليه السَّلام عاش مائة سنة .

۳۹۸

قصص الانبياء

وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" بإسنادٍ ضعيف: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في حديث استخراج ذرية آدم من ظهره وفيه: الثُمَّ عَرَضَهُمْ على آدم فقال: يا آدم هؤلاء ذُرِّيَّتُكَ، وإذا فيهم الأَجْدَمُ والأَبْرَصُ والأَعْمَى وأنواعُ الأَسْقَامِ، فقال آدم: يا ربِّ، لم فَعَلْتَ هذا بذُرِّيَّتِي؟ قال: كي

تَشْكُرَ نِعْمَتِي».

حسن صوت داود عليه السلام

قال الأوزاعي: حدثني عبدالله بن عامر، قال: «أُعطي داود من حُسْنِ الصوت ما لم يعط أحد قطُّ، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى

يموت عطشا وجوعًا وحتى إنَّ الأنهار لتقف».

وقال وهب بن مُنَبِّه: «كان لا يسمعه أحدٌ إِلَّا حَجَل كهيئة الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته، حتى يهلك بعضها جوعًا».

وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن القراءة على الغناء، فقال: وما بأس بذلك، سمعت عبيد بن عمير يقول: «كان داود عليه

السَّلام يأخذ المعرفة، فيضرب بها فيقرأ عليها، فتردَّ عليه صوته، يريد بذلك أن يبكي ويبكي». وفي "مسند" أحمد بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم صوت أبي موسى وهو يقرأ، فقال: «لقد أوتي أبو موسى مِزْمارًا من مزامير آل داود).

قصة داود ال

۳۹۹

وكان أبو موسى الأشعري حَسَنَ الصوت، حتى قال بعض التابعين: ، البَرْبَط (١) والمزمار فيما سمعت صوتًا أحسن من صوت أبي موسى

سمعت البربط (۱)

الأشعري.

بعض أحكامه

(1)

قال تعالى: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ عَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكِّيهِمْ شَهِدِينَ ) فَفَهَمْنَهَا سُلَيْمَنَ وَكُلًّا وَآتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ )

[الأنبياء: ۷۸ - ۷۹].

اختلف في الحرث هل كان كَرْمًا أو زرعا ؟ فقال ابن مسعود، وابن عباس

وأكثر المفسرين: «كان الحرث كَرْمًا». وقال قتادة: «كان زرعا». وحاصل القصة على رأي الجمهور: أنَّ رجلا كان له كرم تدلَّت عناقيده، نفشت فيه غنم أي رعته ليلا فأفسدته، فتحاكم أصحاب الكرم والغنم إلى

داود عليه السلام، فحكم بإعطاء الغنم لصاحب الحرث، وعلم سليمان بقضاء والده فقال: غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر داود بذلك، فدعاه فقال: بحق البنوة والأبوة إلَّا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بدرها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث، مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أُكل دفع إلى أهله،

(۱) والبربط بوزن جعفر، وهو العود.

قصص الانبياء

وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال :داود القضاء ما قضيت. وحكم بذلك. ال وهذا معنى قوله تعالى: فَفَهَمْنَهَا سُلَيْمَنَ } أي: فهمنا القضية سليمان فهي فضيلة له على داود، وفضيلة راجعة إليه أيضًا؛ لأنَّ الوالد تَسُرُّه زيادة

ولده عليه، ثُمَّ أثنى الله عليهما : وَكُلًّا أَلَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا . واستدل بهذه الآية من قال من الأصوليين: «كل مجتهد مصيب» ولا دلالة فيها على ذلك لاحتمال أن يكون حكمهما بوحي، ويكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود، وأثنى الله عليهما لأنهما حكما بما أوحي إليهما، ولو فرض أنَّ كلَّ واحد منهما حكم باجتهاده على القول بجواز الاجتهاد للأنبياء، وأنَّ داود - عليه السلام - أخطأ فإنَّ المجتهد المخطيء لا يُدم ولا يُعنف، بل يُثيبه الله على اجتهاده؛ لأن الاجتهاد في طلب الحكم عبادة.

وفي "صحيح مسلم عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله " عليه وآله وسلم يقول: «إذا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصابَ فله أَجْرانِ، وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أخطأ فله أَجْرُ».

ثُمَّ الحكم المشار إليه في الآية الكريمة، إنما هو في تلك الشريعة، أما في شريعتنا فالحكم فيها ما رواه مالك، عن الزهري، عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط رجلٍ، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن - مضمون على أهلها. وفي المسألة خلاف بين الحنفية وغيرهم.

٤٠١

(۲)

قصة داود ال

روى الشيخان عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: بينها امرأتان معهما ابناهما جاءَ الذَّتْبُ فَذَهَبَ بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إِنَّما ذَهَبَ بابنكِ أنتِ، وقالتِ الأُخرى: إِنَّما ذَهَبَ بابنكِ، فتَحَاكَمَتَا إلى داود، فقضَى به للكُبْرَى، فَخَرَجَتَا على سليمان بن داود عليهما السَّلام، فَأَخْبَرَنَاهُ، فقالَ: ائْتُونِي بالسَّكِّينِ أَشُقُهُ بينكما، فقالتِ الصُّغْرَى: لا، يَرْحَمُكَ اللهُ، هو ابنها، فقَضَى به للصُّغْرَى».

قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قطُّ إِلَّا يومئذ، ما كنا نقول إلَّا

المدية».

إنما حكم داود بالولد للكبرى لدليل قام عنده وإن لم يذكر في الحديث، وسليمان لم يقصد نقض حكم والده، وإنما تلطف بحيلة يدرك بها الحق في نفس الأمر، فطلب سكّينًا يشقُ به الولد ولم يكن ليفعل ذلك، ولكن حين طلبه

أسرعت الصغرى تقول : لا تفعل يرحمك الله ، فقضى لها به. قال الأُيُّ: «أما التلطُّف الذي يستخرج به الاعتراف فواضح، وأما الإرهاب ففي جوازه نظر، خوف أن يكون إكراها، ولذلك لم يضر الصغرى اعترافها أنَّه ابن الكبرى لأنها في اعترافاتها كالمكرهة.

واتفق في أيام - ابن عبد السَّلام - لقاضي توزر: أن رفع إليه رجل وامرأةٌ منكشفة غائبة عن حسّها، وقيل: إنَّ الرجل ،سحرها، فسأل القاضي هل يعرف

أن يكتب؟ فأنكرها فأعرض عنه القاضي ساعة، واستغفله ثُمَّ عرض له

)

٤٠٢

قصص الانبياء

بالكتابة، فظهر منه ما يدل أنه يكتب، فخوَّفه القاضي إن لم يُقر بالحق، فاعترف أنه سحرها، فبعث معه القاضي الأعوان لإزالة السحر وإفساد آلته، والمرأة جالسة منكشفة في سقيفة ،القاضي، فلما أفسدت آلة السحر، رجعت المرأة إلى

حالتها، فقامت وانزوت إلى ركن السقيفة، وجعلت تضم عليها ثيابها وتستتر وكأنها لم تعرف أنها منكشفة إلا الآن.

وبعث القاضي لابن عبد السَّلام، يستفتيه في حكم الرجل الساحر. قال الأبي: وهذا من التحيل في استخراج ما يستند إليه القاضي من الاعتراف وغيره، وأمَّا أنَّ القاضي يستند في الحكم إلى التحيل، فلا يجوز وإن ظهر الحق.

وكذا ذكر أبو العباس الغبريني في كتابه المسمى بـ"عنوان الدراية في التعريف بمن حلّ من العلماء ببجاية": أن بعض قضاة بجاية استخلف رجلًا

على الأحكام، فأخبره الرجل يوماً أنه تحيل في استخراج حقٌّ فعزله.

ومن التحيل في استخراج الاعتراف، ما رُوي أنَّ رجلين تحاكما إلى إياس القاضي؛ ادعى أحدهما أنه أودع صاحبه نقودًا في مكان قرب شجرة، وقال الآخر: إنَّ ما ادعاه غير صحيح، وأنه لا يعرف المكان الذي ذكره، ولم يكن للمدعي بينة، فقال له إياس اذهب إلى ذلك المكان، وابحث حول الشجرة، لعلك وضعت النقود هناك ونسيت، وأمسك المدعى عليه عنده، واشتغل عنه بقضية أخرى، وبعد ساعة استغفله وسأله هل يمكن أن يكون وصل

صاحبك إلى الشجرة؟ قال: لا، فخوَّفه فاعترف ورد النقود إلى صاحبها. قال الأب : وعكس عدم تثبت الرجل الساحر، وأنه استغفل فغفل، ما

قصة داود ال

٤٠٣

اتفق للقاضي أبي البركات البلفيقي أحد قضاة الأندلس وكان صاحب نوادر ودعابات أنَّ الأمير أبا عنان ملك المغرب، سأله عن عمره؟ فقال: ليس نخبر بعمري أحدًا فاستغفله الأمير ساعةً ثُمَّ قال له: وقعة كذا ابن كم كنت فيها؟ فتفطن له القاضي فقال له تستغفلني ألم أقل أني لا أخبر بعمري أحد؟! (تنبيه): قول أبي هريرة: «والله ما سمعت بالسكين قطُّ إِلَّا يومئذ، ما كنا نقول إلَّا المدية».

قال الأبي: معلقا عليه: انظر كيف قال ذلك؟ وقد قال الله تعالى: وَاتَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ﴾ [يوسف: ۳۱]. وسورة يوسف مكية، وإسلام أبي هريرة متأخر، كان بالمدينة عام خيبر، إلا أن يقال: أنه لم يسمع بالآية وحدها».اهـ

(۳)

روی ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنَّ نفرين من بني إسرائيل، استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه السلام، وأنه اغتصبه بقرا فأنكر الآخر ، ولم يكن للمدعي بينة، فأرجأ أمرهما، فلما كان الليل أمر داود عليه السَّلام بقتل المدعي، فلما كان النهار

طلبهما وأمر بقتل المدَّعي فقال : يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني .

هذا

بقري ؟! فقال له: إن الله تعالى أمرني بقتلك، فأنا قاتلك لا محالة. فقال: والله يا نبي الله إنَّ الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه، وإني لصادق فيما ادعيت، ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته، ولم يشعر بذلك

٤٠٤

قصص الانبياء

أحد. فأمر به داود فقتل.

قال ابن عباس : فاشتدَّت هيبته في بني إسرائيل، وهو الذي يقول الله عزّ

وجل: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ [ص: ٢٠].

(٤)

روى الحسن بن سفيان، عن طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس: أنَّ امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت عن كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلبًا لها قد عودته ذلك منها فأمر

برجمها.

فلما كان عشيَّة ذلك اليوم، جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله فانتصب حاكما وتزيَّى أربعة منهم بزيّ أولئك وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها أنها مكنت من نفسها كلبًا فقال سليمان فرّقوا بينهم. فسأل أولهم: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود، فعزله واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال:

أحمر، وقال الآخر أعبس، وقال الآخر: أبيض، فأمر عند ذلك بقتلهم. فحكي ذلك لداود عليه السَّلام فاستدعى من فوره أولئك الأربعة فسألهم

متفرقين عن لون الكلب؟ فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم. قلت: من هذه القصة، أخذ الحكّام بمبدأ تفريق الشُّهود، وهو من أوَّليَّات سليمان عليه السَّلام.

٤٠٥

(0)

قصة داود ال

قال وهب بن منبه: «لما كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل، أُعطي داود سلسلة لفصل القضاء، فكانت ممدوةً من السماء إلى صخرة بيت المقدس، وكانت من ذهب فإذا تشاجر الرجلان في حقٌّ، فأيها كان محقا نالها والآخر لا يصل إليها، فلم تزل كذلك حتى أودع رجلٌ . عند رجل لؤلؤة، فجحدها منه : واتخذ عكازا وأودعها فيه، فلما حضر عند الصخرة تناولها المدعي فلما قيل للآخر خذها بيدك، عمد إلى العكاز فأعطاه المدَّعي وفيه تلك الؤلؤة، وقال: اللهم إنك تعلم أني دفعتها إليه، ثُمَّ تناول السلسلة فنالها، فأشكل أمرها على بني إسرائيل، ثُمَّ رفعت سريعا من بينهم».

قلت: مثل هذا من الإسرائيليات، لا بأس بروايته لأنه لا يتعلق بحكم،

ولا يُخالف ما عندنا، بل هو من الأعاجيب التي أذن لنا في التحدث عنها. وفي سنن أبي داود" من حديث أبي هريرة: «حدثُوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج. وفي "مسند أحمد بن منيع" من حديث جابر: «حَدَّثُوا عن بني إسرائيل، فإنَّهُ كانتْ فيهِمْ أَعاجِيبُ .

٤٠٦

قصص الانبياء

بعض كلام داود عليه السلام

روى ابن أبي الدُّنيا في كتاب "الشكر" عن أبي الجلد، قال: قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا ربّ كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك ؟ قال فأتاه الوحي: أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني ؟ قال : بلى يا رب، قال: فإني أرضى بذلك منك».

وروى ابن المبارك في "الزهد" عن وهب بن منبه: «الحمد الله كما ينبغي

لكرم وجهه وعزّ جلاله، فأوحى الله إليه: إنك أتعبت الحفَظَة يا داود». وروى ابن المبارك في "الزهد" عن وهب بن منبه، قال: «إِنَّ في حكمة آل دواد: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعاتٍ: ساعةٌ يُناجي فيها ربَّه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يُخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه وساعةٌ يُخلّي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل وتجمل، فإنَّ هذه الساعة عون على تلك الساعات وإجمامٌ للقلوب. وحق على العاقل أن لا (1) إِلَّا في إحدى ثلاث: زادٍ لمعاده، ومَرمَّةٍ لمعاشه، ولذة في غير محرم.

يظعن

وحق على العاقل أن يعرف زمانه، ويحفظ لسانه، ويقبل على شأنه». قال ابن كثير: وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود أشياء كثيرة

مليحة منها قوله: «كُن لليتيم كالأب الرحيم».

واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد».

- يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحَسَكَهَا».

(1) أن لا يسافر.

قصة داود الان

٤٠٧

- المثل الخطيب الأحمق في نادي القوم كمثل المغني عند رأس الميت». ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى». - انظر ما تكره أن يذكر عنك في نادي القوم، فلا تفعله إذا خلوت».

- « لا تَعِدَنَّ أخاك بما لا تُنجزه له فإنَّ ذلك عداوة ما بينك وبينه». وروى البيهقي في "الزهد" عن ابن عبّاس، عن النبي صلى الله عليه وآله

وسلم قال: قال داود فيما يناجي ربَّه: يا ربِّ أي عبادك أحبُّ إليك أُحبُّه بحبك، قال: يا داود، أحبُّ عبادي إلى تقي القلب، نقي الكفَّين، لا يأتي إلى أحدٍ سوءا، ولا يمشي بالنميمة، تزول الجبال ولا يزولُ، أَحبَّنِي وأَحبَّ مَن يُحبني وحببني إلى عبادي. قال داود يا ربِّ، إنك لتعلم أني أحبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى عبادك ؟ قال: ذَكِّرْهُمْ بآلائي وبلائي».

وروى أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كان» لداودَ نبي الله صلوات الله وسلامه عليه من الليل ساعة يوقظ فيها أهلَهُ يقول: يا آل داود قوموا فإنَّ هذه الساعَةَ يَسْتَجِيبُ اللهُ فيها الدُّعاءَ إِلَّا لساحِرٍ أو عاشر (۱).

وروى ابن عساكر عن صدقة الدمشقي: أنَّ رجلا سأل ابن عباس عن الصيام، فقال: لأحدثتك بحديث كان عندي في التخت مخزونا، إن شئت أنبأتك بصوم داود، فإنه كان صوَّامًا قوَّامًا، وكان شجاعًا لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «أفضل الصيام

(۱) صاحب الجمرك.

٤٠٨

قصص الانبياء

صيام داود». وكان يقرأ الزَّبور بسبعين صوتا، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه، ويبكي ببكائه كل شيء، ويصرف صوته الهموم والغموم».

وفاته عليه السلام

روى أحمد في مسنده" بإسناد جيد قوي كما قال ابن كثير - عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خَرَجَ أَغْلَقَ الأبواب، فلم يَدْخُلْ عَلى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ، فخَرَجَ ذات يومٍ وغُلْقِتِ الدار ، فأقبلتِ امرأتُهُ تَطَّلِعُ إلى الدار فإِذا رَجُلٌ قائم وسط الدارِ، فقالت لمن في البيتِ مِن أين دَخَلَ هذا الرَّجُلُ والدارُ مُغْلَقَةٌ؟ والله لنَفْتَضِحَنَّ بداود. فجاء داود فإذا الرَّجُلُ قائمٌ في وسط الدار، فقال له داود: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهابُ الملوك، ولا أُمنعُ مِن الحجاب. فقال داود: أَنتَ والله إِذًا مَلَكُ الموتِ، مَرْحَبًا بأمر الله . ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى قَبَضَ رُوحَهُ، فلما غُسَلَ وكُفَّنَ وفُرِغَ مِن شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلّي على داودَ فأظلَّته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: اقبضي جناحًا.

قال أبو هريرة: «فطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية».

أي وغلبت على التظليل عليه الصقور الطويلة الأجنحة، واحدها

مَضْرَحي بفتح الميم والراء بينهما ضاد معجمة ساكنة.

قصة داود

٤٠٩

رسالته عليه السلام

كان داود عليه الصَّلاة والسَّلام رسولا إلى بني إسرائيل على شريعة موسى

عليه الصَّلاة والسلام. وقد أشار القرآن إلى رسالته في مواضع منها قول الله تعالى في سورة

البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [البقرة: ٢٥٣]. «تلك» اسم إشارة، والمشار إليه الرسل المذكورون من أول السورة إلى هذا الموضع، وهم عشرة:

۱ - النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ذكر في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [البقرة: 4].

۲ - آدم عليه الصَّلاة والسَّلام وَعَلَمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: ٣١].

بمصر أنكر

وكثير من العوام لا يعرفون أنه نبي، وبلغني أنَّ أحد المثقفين بمصر أ نبوة آدم وحكمت المحكمة بردَّته ، ثُمَّ استأنف فأبطل الاستئناف الحكم بدعوى أنه ليس في القرآن دليل على نبوته، وهذا جهل كبير، فإنَّ نبوته ثابتةٌ بالإجماع المعلوم من الدين بالضرورة، وهو نبي مُكلَّم، كلَّمه الله كما في القرآن. ورسول إلى أولاده بدليل قوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىٰ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قربانا ﴾ [المائدة: ۲۷] الآيات، فيها تشريع تلقاه ابناء من أبيهما عليه الصَّلاة والسلام. وقال الله تعالى: لا إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَعَالَ إِبْرَاهِيمَ وَعَالَ عِمْرَانَ عَلَى

العلمينَ ﴾ [آل عمران: ۳۳] فمنكر نبوة آدم مرتد يُستتاب.

موسى عليه الصَّلاة والسَّلام وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ

٤١٠

- قصص الانبياء

أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: ٦٧].

- عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام وَ اتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَهُ

بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [البقرة: ٨٧].

ه - سليمان عليه الصَّلاة والسَّلام وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ

سُلَيْمَن وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَنُ ﴾ [البقرة: ١٠٢].

٦،٧ - إبراهيم وإسماعيل عليهما الصَّلاة والسَّلام وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَعِيلُ ﴾ [البقرة: ١٢٧].

۸، ۹ - إسحاق ويعقوب عليهما الصَّلاة والسَّلام: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ابَا بِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ ﴾ [البقرة: ١٣٣].

۱۰ - داود عليه الصَّلاة والسَّلام وَقَتَلَ دَاوُر دُجَالُوتَ وَعَاتَهُ اللَّهُ

الْمُلْكُ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: ٢٥١].

ومنها قوله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } [النساء: ١٦٣].

سوں سے اگر سورمه ای

ومنها قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا اتَيْنَهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ من نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمُ عَلِيمُ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَنَ إلى قوله تعالى: وَكُلاً

فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: ٨٣ - ٨٦]. وهؤلاء كلُّهم رسل، وداود أحد الرسل المذكورين باسمهم في القرآن

قصة داود الطي

٤١١

الكريم وهم ،آدم ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وأيوب وإدريس وداود وسليمان ويونس وإلياس واليسع وذو الكفل وزكريا ويحيى وعيسى

ونبينا صلى الله عليه وعليهم وسلَّم.

العبرة من قصة داود عليه السلام

يؤخذ من قصة داود عليه الصَّلاة والسَّلام عِبَرٌ :

إحداها: أنه مع كونه مَلِكًا وخليفة بيده المال الوفير كان يعمل الدروع - كما في القرآن ويأكل من ثمنها .

وفي "صحيح البخاري عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أَكَلَ أَحَدٌ طعَامًا قَطَّ خَيْرًا مِن عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ

نبي الله داود عليه السلام كان يَأْكُلُ مِن عَمِلِ يَدِهِ». وتقدَّم هذا. وفيه أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: إنَّ داود عليه السَّلام كان لا يأكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». وتقدَّم أيضًا.

ومعنى هذا: أنَّ داود عليه السَّلام لم يأخذ لنفسه ولا لأولاده شيئًا من مال الدولة الذي كان تحت يده، بل كان يصرف ذلك المال في الوجوه التي كان

يأمره الله بصرفه فيها.

ثانيها: إِنَّ التكسب لا يَقْدَحُ في التوكُل.

فداود عليه السَّلام كان رسولا كريما، والرسل سادات المتوكلين، ومع ذلك كان يتكسب للحصول على قوت نفسه وأولاده.

ثالثتها قوة تحمله ممن يؤذيه وتفضيله العفو على العقوبة، فالخصوم الذين

٤١٢

قصص الانبياء

تحاكموا إليه تسوّروا عليه المحراب وخاطبوه بلغة فيها سوء أدب وقلة حياء، ولو عاقبهم على إذايتهم له كان مصيبا ، لكنه سامحهم وتغاضى عن جهلهم وحكم بينهم حكما صوابًا، فاستحق ثناء الله عليه بأنه ذو الأيد، أي: القوة في الطاعة والصبر والتحمل.

رابعتها : أنَّ الله تعالى هياه لقتال جالوت ذلك الجبار الذي تحامته الأبطال، ولم يقتله بسيف ولا رمح، بل قتله بحجر أرسله من المقلاع، وكان داود إذ ذاك راعي غنم لم تعرف عنه بطولةٌ ولا فروسيةٌ، ولكنَّ قدرة الله جعلت منه بطلا

قويا، وهيأته لأن يكون ملكًا فيما بعد ونبيا.

خامستها: إنَّ داود لم يغيّره الملك عن خُلُقِ التواضع والصبر والمسامحة، بل

استمر على هذه الأخلاق الحميدة طول حياته.

سادستها: إنَّ طاعة الله وشكر نعمه يوجب المزيد منها، فإنَّ الله تعالى لما رأى طاعة داود وشكره زاده من نعمه فألان له الحديد، وسخر له الجبال والطير، وعلمه صنعة الدروع، ووهب له سليمان رسولا وملكا.

سابعتها : إنَّ الإنسان الضعيف لا ييأس من فضل الله ورحمته، بل يسعى

إلى النجاح، مستعينا بطاعة الله وتقواه، فمن جَدَّ في الطلب وَجَدَ، ومن سار على الدَّرْب وَصَل.

وهذا آخر القصة والحمد لله في البدء والختام، والصَّلاة والسَّلام على خير الأنام وآله الكرام.

٤ - قِصَّةُ سُليمان عليه السلام

قصة سليمان !

مقدمة

٤١٥

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين. وبعد: فهذه "قصة سليمان عليه السلام" كتبتها على نَمَطِ القَصَصِ التي كتبتها، وهي قصة "آدم" و "إدريس" و "داود" عليهم السلام، أبين ما صحت به الرواية، أو ساعد عليه لفظ الآية، وأنفي ما جاء في الإسرائيليات، مما يدخل في باب الخرافات، وأحل مشكلة ما يتعلق بالنبي مما ينافي العصمة، أو يحطُّ مِن

قَدْرِ النبوة.

والله المسئول أن يوفقني ويعصمني من الزلل، إنه قريب مجيب. وأحب أن أفتتح هذه القصة ببيان تناسب آيات سورة (ص) وارتباط بعضها ببعض ليعرف موضع القصص المشار إليها في تلك السورة المبدوءة بذكر خصومة المشركين للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ورميهم إياه بالسحر والكذب

وغير ذلك من التهم الباطلة، حتى قالوا على سبيل العناد والاستهزاء: رَبَّنَا عجل لَنَا قِطَنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ ص: ١٦].

فقال الله له: أصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ [ ص: ١٧] وأمره بما يعينه على الصبر، ويسليه عما أصابه من أذى قومه وعنادهم، وهو ذكر حال جماعة من الأنبياء قبله كيف امتحنوا بأذى قومهم، أو ابتلوا في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم فصبروا حتى فازوا برضا الله، والدرجات العلا في جنات النعيم.

وبدأ بداود عليه السلام فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَابٌ :

[ ص: ١٧] وذكر نبأ الخصم الذي فسرناه في "قصة داود".

٤١٦

قصص الانبياء

ثُمَّ ثُنَّى بقصَّة سليمان عليه السلام وافتتحها بالثناء عليه حيث قال جل

شأنه: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَابُ ﴾ [ ص: ٣٠]. ثُمَّ ثلث بذكر أيوب عليه السلام: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنَصْبِ وَعَذَابٍ ) أَرْكُضُ بِرِجْلِكَ هَذَا مُعْتَسَلُ بَارِدُ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَبِ ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِعْنَا فَأَضْرِب يَهِ، وَلَا تَحْنَتْ إِنَّا وجدته صابر ا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابُ ﴾ [ ص: ٤١ - ٤٤].

ثُم ذكر بقيتهم فقال سبحانه: وَاذْكُرْ عِبَدَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أَوْلِي الْأَيْدِي والأبصر [ ص: ٤٥]، ﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾

[ ص: ٤٨].

فإيراد هؤلاء الأنبياء في سياق المدح والثناء يُستفاد منه أمور: الأول: حَثُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على التسلي بحالهم والتأسي بهم.

الثاني: بطلان ما جاء في الإسرائليات عن داود وسليمان وأيوب عليهم السلام؛ لأن دلالة السياق لها الاعتبار الأوّل، وغَلَط المفسرين المتقدمين والمتأخرين سببه غفلتهم عن دلالة السياق التي هي أكبر عون على تفسير الآيات وفهمها فهما صحيحًا يوافق ما سيقت لأجله، ونبهت على ذلك مع بعض الأمثلة في قصة داود عليه السلام.

الثالث: ينبغي للعامل بالسُّنَّة والداعي إليها أن يتمسك بالصبر وتحمل المشاق في دعوته اقتداء بهؤلاء العظماء، وهكذا كل داع إلى خير وحق يلزمه أن يتَّخِذ هذا شعاره ولا ينحرف عنه لغرض من الأغراض.

قصة سليمان ال

٤١٧

إذا تقرّرت هذه المقدمة الوجيزة أمكن أن نتكلم في قصة سليمان عليه

السلام، وفتنته، والجسد الذي ألقي على كرسيه، والصَّافنات التي عُرضت عليه، والملك الذي طلبه وغير ذلك على هدى وبصيرة، نقبل ما يوافق السياق

واستقام مع نظم الآية، ونرد سوى ذلك، والله الموفق والهادي.

٤١٨

قصص الانبياء

رسالة سليمان عليه السلام

سلیمان عليه السلام رسول كريمٌ ، ذُكِر بوصف الرسالة في عِدَّة آيات:

الأولى : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [البقرة: ٢٥٣] وهم الرسل العشرة المذكورة في سورة (البقرة): النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وآدم،

وموسى وعيسى، وسليمان ،وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب، وداود، ذكرتهم على ترتيب ذكر أسمائهم في سورة (البقرة).

الآية الثانية: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبَيِّنَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْحَيْنَا إلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَتُوبَ وَيُونُسَ

وَهَرُونَ وَسُلَيْمَن وَآتَيْنَا دَاوُدَ رَبُورًا ﴾ [النساء: ١٦٣].

الآية الثالثة: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَلَقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُرَدَ وَسُلَيْمَنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَرُونَ وَكَذَلِكَ

تجرى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: ٨٤]. فسلیمان رسول كريم ابن رسول كريم عليهما السلام، وتقدم نسبه في قصة

أبيه داود.

الصافنات

قال الله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِي الصَّفِنَتُ الْحَيَادُ ) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَى فَطَفِقَ مَسْكًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ [ ص: ۳۱-۳۳]. الصَّافنات : جمع صَافِن.

والجياد: جمع جَوَاد - بتخفيف الواو - للفرس الشديد أي: السريع، وقيل

قصة سليمان العلي

٤١٩

للفرس: «جواد الطول جيده - أي عُنقه - وطول العنق في الفرس محمود. وفي الصَّافِن وجهان:

أحدهما: أنَّ صُفُون الخيل قيامها ، والصَّافِن في كلام العرب: الواقف من الخيل وغيرها، وفي الحديث: «إذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكُوعِ قُمْنَا خَلْفَهُ صُفُونَا». والآخر: أنَّ صُفونها: رفع إحدى اليدين على طرف الحافر، حتى يقوم على

ثلاث، قال عمرو بن كلثوم

ترَكْنَا الخَيْلَ عَاكِفَةٌ عَلَيْهِ مُقَلَّدَةً أَعِنَتُها صُفُونَا قال مقاتل: «وَرِثَ سليمان من أبيه داود ألف فرس، وكان أبوه أصابها من

العمالقة».

وقال الكلبي: «غزا سليمان أهل دمش ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس». وقال الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة». وقال الضَّحَّاك: «إنها كانت خيلًا أُخرِجت لسليمان من البحر منقوشة

ذات أجنحة».

وقال ابن زيد: «أخرج الشيطان لسليمان الخيل من مروج البحر وكانت لها

أجنحة».

وقيل: كانت مائة فرس، وقال ابراهيم التيمي : «كانت عشرين ألفا، وقيل:

عشرة آلاف فرس وقيل : كان فيها عشرون فرسا من ذوات الأجنحة». قال أبو حَيَّان في "البحر": "وقد اختلفوا في عدد هذه الخيل على أقوال

متكاذبة سوَّدوا الورق بذكرها». اهـ روى أبو داود في "سننه" عن عائشة قالت: قَدِمَ رسول صلى الله عليه وآله

٤٢٠

قصص الانبياء

وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سَهْوَتها ستر، فهبَّت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة، فقال: «ما هذا يا عائشةُ؟» فقالت: بناتي، ورأى بينهنَّ فرسا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذي أرى وَسْطَهُنَّ ؟ قالت: فرس قال و ما الذي عليه هذا؟ قالت جناحان قال: «فرس له جناحان؟» قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه

صلى الله عليه وآله وسلَّم. ورواه النسائي أيضًا.

وضَحِكَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لقول عائشة حيث احتجت بما لم

يثبت نقله، وإن كان وجود خيل بأجنحة جائزا في القُدْرَةِ الإلهية. وكان لسليمان ميدان يُسابِق فيه بين الخيل حتى تتوارى عن بصره، وتدخل اصطبلاتها وهو الحِجاب، وكان له ذكر شغلته عنه في ذلك اليوم

فقال : رُدُّوها عليَّ فَطَفِقَ يَمْسَحُ سُوقها وأعناقها اعتناء بها وتكريما لها. وفي "الموطأ" عن يحيى بن سعيد : أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رُؤي وهو يَمْسَحُ وجّهَ فرسه بردائه، فسُئل عن ذلك، فقال «إنِّي عُوتبت الليلة في الخيل».

ووصله ابن عبدالبر من طريق مالك، عن يحيى، عن أنس رضي الله عنه. ورواه أبو عبيدة في كتاب" الخيل" من طريق عبدالله بن دينار بلفظ : «إنَّ

جبريل بات الليلةَ يُعاتبني في إذالة الخيل». أي: امتهانها.

وروى النسائي عن أبي وهب الجشمي - و كانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ارْتَبِطُوا الخيلَ وامْسَحُوا بنواصيها

وأكْفالها».

قصة سليمان الط

٤٢١

وما قيل: إنَّ سليمان فاتته صلاة العصر فعَرْقَبَ الخيل وذَبَحَها ليس

بصحيح، ولم تكن صلاة العصر مفروضة في تلك الشريعة.

وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي بن كعب مرفوعا: فَطَفِقَ مَسْخًا

بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ) [ص: ۳۳]، قال: قَطَعَ سُوقها وأعناقها». فيه سعيد بن بشير وهو ضعيف.

قال ابن العربي في "الأحكام": «عُرضت الخيل على سليمان عليه السلام فشغلته عن صلاة العشي. قال المفسرون: هي صلاة العصر، وقد روى المفسرون حديثًا: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «صلاةُ الوُسْطَى

صَلاةُ العَصْرِ، وهي التي فاتَتْ سُليمان» وهو حديث موضوع».اهـ قلت: المعروف في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الصَّلاةُ الوُسْطَى صَلاةُ العَصْرِ».

وله طرق في "المسند" والستة عن عليّ، وابن مسعود، وسمرة، وعمر، وأبي هريرة، وغيرهم.

(تنبيه): استدل الشبلي وغيره من الصوفية بناءً على القول بأن سليمان عَرْقَبَ الخيل وذَبَحَها على تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان، قال القرطبي: وهو استدلال فاسد ؛ لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا في معنى الآية، فمنهم من قال: مَسَحَ على أعناقها وسوقها إكراما لها، وقال: أنتِ في سبيل الله. فهذا إصلاح، ومنهم من قال: عَرْقَبَها ثُمَّ ذَبَحَها - وذَبِّحُ الخيلِ وأكل لحمها جائز - وعلى هذا فما فعل شيئًا

٤٢٢

قصص الانبياء

عليه فيه جناح، فأمَّا إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز، ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل، ولا يكون في شَرْعِنا» . اهـ والصحيح: أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا إلَّا إذا أقره القرآنُ أو السُّنَّةُ،

لقوله تعالى : ولكل جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: ٤٨].

فتنة سليمان عليه السلام

قال الله تعالى: وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص: ٣٤]. قال أبو حَيَّان: «نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها وإنما هي من أوضاع اليهود

والزنادقة.

ولما أمر تعالى نبيه عليه السلام بالصبر على ما يقول كفار قريش وغيرهم أمره بأن يذكر من ابتلي فصَبَر، فذكر قصة داود وقصة سليمان وقصة أيوب ليتأسى بهم، وذكر ما لهم عنده من الزُّلْفَى والمكانة، فلم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسّرون إليه ما يعظم أن يتفوه به، ويستحيل عقلا وجود بعض ما ذكروه كتمثل الشيطان بصورة سليمان حتى يتلبس أمره عند الناس، ويعتقدون أنَّ ذلك المتصوّر هو النبيُّ ، ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال

نبي، وإنما هذه مقالةٌ مُسْتَرَقَةٌ مِن زنادقة السوفسطائية، نسأل الله سلامة عقولنا

وأذهاننا». وقال ابن العربي في "الأحكام " : ولقد كان من حسن الأدب مع الأنبياء صلوات الله عليهم ألا تُبَثَّ عَشَرَاتُهم لو عَثَرُوا، ولا تُبَثَّ فَلَتَاتُهم لو اسْتَفْلَتُوا،

قصة سليمان الظر

٤٢٣

فإن إسبال الستر على الجار والولد والأخ لفضيلة وأكبر فضيلة، فكيف سترت على جارك حتى لم تقص نبأه في أخبارك وعكفت عن أنبيائك وأحبارك تقول عنهم ما لم يفعلوا، وتنسب إليهم ما لم يتلبسوا به ولا تلوثوا به؟ نعوذ بالله من هذا التعدي والجهل بحقيقة الدين في الأنبياء والمرسلين والعلماء والصالحين».اهـ وروى عبدالرزاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنها كعب الأحبار، فذكر منها: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيه جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾ [ ص: ٣٤].

وهذا يفيد أن ما ذكره ابن عباس في الفتنة ونحوها مأخوذ عن كعب،

وعلى هذا فلا بأس أن نخالفه في ذلك؛ لأنه من الإسرائيليات.

ويظهر أنَّ كعب الأحبار كان قبل إسلامه لا يعتقد عصمة الأنبياء مثله في ذلك مثل سائر اليهود، فلما أسلم استمرَّ على هذه العقيدة، فكان يروي في

قصص الأنبياء ما ينافي عصمتهم ولا يرى في ذلك بأسا.

وقد حكى ابن حزم في "الفصل" عن اليهود والنصارى وعن الكرامية جواز المعصية على الأنبياء، ولكني أعجب من أئمة التفسير مثل مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ينقلون عن كعب أشياء تمس مقام الأنبياء ولا ينتبهون لما فيها من نكارة!! مع أنَّ المقرّر عند العلماء بالاتفاق: أنَّ الاسرائيليات مردودة إذا كانت من هذا القبيل.

.

وقال ابن حزم في "الفصل" في الجواب عما نُسب إلى بعض الأنبياء مما ينافي مقامهم: وذكروا قول الله عزّ وجلَّ عن سليمان عليه السلام: وَلَقَدْ فَتَنَّا

٤٢٤

قصص الانبياء

سُلَيْمَنَ وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ : [ ص: ٣٤] قال: ولا حُجَّة لهم في هذا إذ معنى قوله تعالى: فَتَنَّا سُلَيْمَنَ أي آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته، كما قال تعالى مُصَدِّقًا لموسى عليه السلام في قوله تعالى: وَإِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ﴾ [الأعراف: ١٥٥] أنَّ مِن الفتنة أن يهدي الله مَن يشاء. وقال تعالى : المَ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ﴾

[العنكبوت: ١ - ٣] فهذه الفتنة . ة هي الاختبار حتَّى يَظْهَرَ المهتدي من الضال. فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط، وما عدا هذا فخُرافاتٌ وَلَدَها زنادقة اليهود وأشباههم، وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد نؤمن بهذا كما هو ونقول صدق الله عزّ وجلَّ. ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير الجسد ما هو لقلنا به، إلا أننا لا نشكُ البتة في بطلان قول مَن قال إنه جنيًّا تصوّر له بصورته، بل نقطع على أنه كذب، والله تعالى لا يَهْتِكُ ستر رسوله عليه السلام هذا الهتك ، وكذلك نُبعد قول من قال: كان ولدا له أرسله إلى السحاب ليربيه، فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عزَّ وجلَّ بِنْيَةَ البشر عليه من اللبن والطعام، وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح إسنادها قط». اهـ وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «وُلِدَ لسليمان بن داود ابن، فقال للشَّيَاطِينِ: أَين نُوَارِيهِ مِن

قصة سليمان ال

٤٢٥

المَوْتِ؟ فقالوا: نَذْهَبُ به إلى المَشْرِقِ. قال: يَصِلُ إليه المَوْتُ. قالوا: فإلى المغرب. قال: يَصِلُ إليه المَوْتُ. قالوا: إلى البِحَارِ قال: يَصِلُ إليه، قالوا: نَضَعُهُ بين السماء والأرضِ ، ونَزَلَ عليه مَلَكُ المَوْتِ، فقال: يا ابن داودَ: إِنِّي أُمِرْتُ بقَبْضِ نَسَمَةٍ طَلَبْتُهَا فِي المَشْرِقِ فلم أُصِبْهَا، فَطَلَبْتُهَا فِي المَغْرِبِ فلم أُصِبْهَا، وطَلَبْتُها في البِحَارِ ، وطَلَبْتُها فِي تُخُومِ الأَرَضِينَ فلم أُصِبْهَا، فَبَيْنَا أَنَا أَصْعَدُ إِذ أَصَبْتُهَا، فَقَبَضْتُها، وجاء جَسَدُهُ حَتَّى وَقَعَ على كُرْسِيَّهِ، فهو قول الله عزَّ وجلَّ: وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِهِ، جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ ص: ٣٤].

في سنده يحيى بن كثير صاحب البصري؛ متروك والحديث منكر. والمقصود أنَّ ما ذكره المفسّرون في فتنة سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه

لا يصح.

كرسي

وجاء عبدالوهاب النجار فأبدى في قصص الأنبياء" وجها لم يذكره أحدٌ من العلماء كما قال، وهو أنَّ كرسي داود إنما هو كرسي سليمان؛ لأن داود كان يرشح سليمان للملك والجلوس على كرسيه، وقد قام أبشالوم ابن داود وثار على والده وانتزع الملك من داود وجلس على الكرسي الذي هو في الواقع سليمان، وهرب منه داود إلى شرق الأردن، وسرح الجيوش لمقاتلته وباشر أبشالوم الحرب بنفسه، فقتل أبشالوم إذ مر به بغله تحت بُطْمَةٍ فتعلق في أغصانها من شعره فأتى رئيس الجند ، وقتله، وعاد سليمان إلى كرسيه بعد أن تزعزع بفعل أخيه أبشالوم، وتضرع إلى الله وسأله مُلْكًا لا . ينبغي لأحد من بعده، لا شك في أن سليمان في تلك البرهة كان يعتقد اعتقادًا جازما أنَّ الكرسي الملكي أفلت من يده، فاستغفر الله لما أسلف من هواجس نَفْسِيَّة لا يخلو منها من كان

٤٢٦

قصص الانبياء

مثله في زمن الصبا من زَهْو بذلك الكرسي الذي ينتظره، فامتحنه الله بمن اغتصب ذلك الكرسي وتسرب إلى نفسه دبيب اليأس، فاستغفر ربَّه لتلك الهواجس التي تُعَدُّ على المقربين ذنوبا وهي غير ذنوب». قلت: هذا وجه بعيد، بل باطل فإنَّ أبشالوم ثار على والده وانتزع منه

كرسي المملكة، فلمَّا هُزم رجع الكرسي إلى داود، وسليمان كان إذ ذاك صبيا، والصبي لا يلحقه امتحان لعدم تكليفه، ودعوى أن نسبة الكرسي إلى سليمان :

من باب مجاز الأول مثل: إلَى أَرَني أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: ٣٦] باطلة؛ لأن المجاز لا بد له من قرينة وآية فتنة سليمان لا قرينة فيها على هذا المجاز، ثُمَّ ما الحكمة في أن يترك الله نسبة الكرسي إلى داود الذي هو صاحبه ومنه انتزع

ورجع إليه وينسبه إلى سليمان الذي سيئول إليه بعد موت والده؟!. وتقدم أن سليمان عليه السلام ذُكِر للتأسي به في صبره على ما امتحن به،

والفتنة هي المقصودة بالتأسي والتّسلّي، والصبيُّ لا يُتَسَلَّى به ولا يُتَسَلَّى بفعله. ثُمَّ إِنَّ جميع ما ذُكر في قصته من عرض الصافنات الجياد، وتسخير الرّيح والجن والشياطين وغير ذلك حصل له وهو بالغ، فكذلك الفتنة حصلت له

أنَّ

وهو بالغ مُكَلَّفٌ لا سيما وهي محل العبرة والتأسي. ويجب أن تُنبه على مسألة مهمَّةٍ غفل عنها النجار كما غفل عنها غيره، وهي الذي يحاول دفع إشكال في آية قرآنية أو حل معنى غامض فيها يجب عليه أن يراعي السياق الذي جاءت الآية فيه ليكون كلاما موافقا لموضوع الآية وسياقها مستوفيا الجوانبها . . . إلخ. ولا يجوز أن يقتصر على ألفاظ الآية فقط، فهو حل غير سليم ولا مقبول.

قصة سليمان العلي

٤٢٧

والذي أرجحه في فتنة سليمان عليه السلام وإلقاء الجسد على كرسيه: ما رواه الشيخان من طرق عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «قال سليمان بن داودَ: لأطُوفَنَّ الليلة على سبعين امرأةً تَحْمِلُ كلُّ امرأةٍ فارِسًا يُجاهِدُ في سبيل الله، فقال له صاحِبُهُ : إن شاء الله فلم يَقُلْ، ولم تَحْمل مِنْهُنَّ شيئًا إِلَّا واحِدًا ساقطًا أَحَدُ شِقَيْهِ». فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: لو قالها لجاهَدُوا في سبيل الله».

وفي رواية: «فلم يحمل مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جاءت بِشِقٌ رَجُلٍ».

وفي رواية: «وَلَدَتْ شِقَ غُلامٍ». وكلُّها في "الصحيح". و حكى النقاش في "تفسيره " : أنَّ الشَّقَ المذكور هو الجسد الذي أُلقي على كرسيه، ففتنة سليمان أنه لم يَقُل إن شاء الله حين تمنَّى أَن يُرزَق أولادًا يُجاهدون في سبيل الله، ولم يقلها نسيانًا مع قوة رجائه في أن يُحقِّقَ اللهُ له ما تمناه مِن الخير، وكان إلقاء الشَّقِّ على كرسيه تنبيها له على ما غَفَلَ عنه ونَسِيَهُ.

قال الحافظ في "فتح الباري: قوله: «لو قال: إن شاء الله لجاهَدُوا في سبيل الله فُرْسَانًا أجمعون»، ولا يلزم من إخباره صلَّى الله عليه وآله وسلّم بذلك في حَقٌّ سليمان في هذه القصة أن يقع ذلك لكلِّ مَن استثنى مِن أ أُمنيَّته،

بل الاستثناء رجو الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع . اهـ

قلت: ومن القواعد المقررة أن العلامة لا يلزم اطرادها.

قال الحافظ: وفي الحديث فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه، وأن كثيرًا من المباح والملاذ يصير . يصير مستحبا بالنيَّة والقصد، وفيه استحباب الاستثناء لمن قال سأفعل كذا، وأن اتِّباع المشيئة اليمين يرفع حُكمها، وهو متفق عليه بشرط

٤٢٨

قصص الانبياء

الاتصال، وفيه أنَّ الاستثناء لا يكون إلَّا باللفظ ولا يكفي فيه النية، وفيه ما خُصَّ به الأنبياء من القوة على الجماع الدال على صحة البنية وقوَّة الفُحوليَّة وكمال الرجولية، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، وقد وقع للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من ذلك أبلغ المعجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق كان مُتقَلَّلًا من المأكل والمشارب المقتضية لضعف

.

البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحدٍ وهنَّ إحدى عشرة إمرأة». اهـ

هذا

ولعبدالوهاب النجار في "قصص الأنبياء" موقف غير كريم من . الحديث الصحيح، وهو مُعاقب عليه عند الله إن لم يتداركه بعفوه، فإنه اعترض على الحديث بوقاحة وقلة حياء مع جهل كبير، وبلغ منتهى الوقاحة والجهل حيث قال: ولم يجعل الله تعالى معجزة الأنبياء في السفاد وغَشَيَانِ النِّساء، ومسابقة الحيوان في هذا الضرب، ولا متحد يوجد بمثل هذا حتى تتم المعجزة»، وزعم أنَّ ا الليلة لا تسع . ذلك أصلا مهما قدرت حظًّا صغيرًا لكل

امرأةٍ مِن الزَّمَن. وغَفَلَ عن طيّ الزمان الذي جعله الله آيةً للأنبياء، فعرش ملكة سبأ نقل من محله إلى الشام في طَرْفَة عَيْنٍ وبينهما أكثر من شهر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أُسري به من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر في جزء من الليل،

و داود يُسرت له قراءة الزَّبُور فكان يأمر بدوابه تسرج فيقرأه قبل إسراجها. وليس كل خارق لنبي معجزة له قُصِدَ بها التحدي، بل المسألة فيها

تفصيل نوجزه فيما يلى:

قصة سليمان ال

٤٢٩

قال العلماء: الخارق سبعة أنواع:

١ - إرهاص : هو ما يقع للنبي قبل النبوة، مثل: كلام عيسى في المهد، وشقّ صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عند مرضعته كما ثبت في "صحیح مسلم".

۲- معجزة: وهي ما يقع للنبي يتحدى به قومه، مثل عصا موسى التي انقلبت ثعبانا، وإبراء الأَكْمَةِ والأَبْرَص وإحياء الموتى لعيسى، والقرآن الكريم

وانشقاق القمر للنبي، وهذا الخارق يكون بطلب النبي ورغبته. - آية: وهي ما يقع للنبي لا بقصد التحدي مثل: نبع الماء من أصابع

النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحنين الجذع له.

وقد يحصل بغير رضا النبي لحكمة مثل: فرار الحجر بثوب موسى كما ثبت في "الصحيحين" حتَّى مرَّ على ملأ من بني إسرائيل وهو عريان فرأوا جسده

سالما لا عيب فيه.

وهذا الحديث ذكره النجار في قصة موسى وأنكره بأسلوب فيه وقاحة

واستهزاء.

ومثل حمل مريم بعيسى وهي بكر لم يمسها بشر وساءها ذلك حتى قالت: لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيَا مَنسِيًّا } [مريم: ٢٣]، وقد قال الله تعالى:

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: ٥٠].

ومثل حديث فتنة سليمان المذكور

- الكرامة: وهي ما يقع لولي معروف بالتقوى والصلاح، مثل ما وقع

٤٣٠

قصص الانبياء

لأهل الكهف من قيامهم من النوم بعد مئات السنين.

ومثل ما وقع من الكرامات لكثير من الصحابة، ولي كتاب "الحجج البينات في إثبات الكرامات".

ه - معونة: وهي ما يقع لمؤمن من تفريج كربة، أو إنقاذ من أزمة من غير سعي منه ولا استعانة بأحد.

٦ - إهانة: وهي ما يقع للمتنبي بنقيض قصده مثل: ما يُحكى أن مُسَيْلَمَةً الكذاب مَسَحَ بيده رأس صبي ،فقرع ، وتَفَلَ في بئرٍ فَنَضَبَ ماؤُها وصار مِلْحًا.

۷ - السِّحْرُ : وهو معروف.

فتبين من هذا: أنَّ الخارق بالنسبة للنبي ثلاثة أنواع: إرهاص، ومعجزة وآية، وأنَّ الآية لا يلزم أن تكون بطلب النبي بل قد تكون بغير إرادته لحكمة، كفرار الحجر بثوب موسى؛ فإن الحِكْمَة فيه براءة موسى، وكإلقاء الجسد على

كرسي سليمان فإنَّ حِكْمَته تنبيهه على ترك الاستثناء.

والمعجزة تثبت بالحديث الصحيح كما اتفق عليه علماء الحديث والأصول، وكتب الصحاح والسنن والمسانيد ملأى بالأحاديث الصحيحة المثبتة لمعجزات الأنبياء، وكذلك كتب الدلائل والسيرة مثل "دلائل النبوة"

.

لأبي نعيم، والبيهقي، و"سيرة ابن إسحاق" وغيرها. والمقرر عند العلماء أن خبر الآحاد يعمل به في العمليات التي لا تتعلق بالذات والصفات، وتوضيح ذلك:

أنَّ ما يتعلق بوجود الله تعالى وتوحيده وحياته وعلمه وقدرته ووجوب اتصافه بالكمال المطلق، إنما يثبت بالدليل العقلي والنقلي القطعي، وما عدا ذلك

قصة سليمان العلي

٤٣١

كالمعجزات وخبر ما بعد الموت من نعيم وعذاب فإنه يثبت بخبر الآحاد من

غير خلاف بين العلماء.

وعبد الوهاب النجار لا يعرف هذه الأشياء المتفق عليها فهو يرد

الأحاديث التي تفيد حصول خارق لنبي بدعوى أنَّ المعجزة لا تثبت إلا بدليل

قطعي الثبوت والدلالة.

وهذا جهل من جهات

إحداها: أنه خرق لإجماع العلماء حسبما مرَّ بيانه. ثانيتها: أنه يردُّ الأحاديث المخرَّجة في الصحيحين" ويحاول تضعيفها، وهذا خرق لإجماع العلماء على صحة ما في "الصحيحين" وتلقيه بالقبول، بل ذهب أبو إسحاق وأبو حامد الإسفراينيان وأبو الطيب الطبري وأبو إسحاق الشيرازي الشافعيون والقاضي عبدالوهاب المالكي، والسرخسي الحنفي، وأبو يعلى وأبو الخطاب وابن الزَّاغُوني الحنلبيون، وابن فورك من المتكلمين، وابن طاهر المقدسي وأبو نصر عبدالرحيم بن عبدالخالق بن يوسف وابن الصلاح وابن تيمية وابن القيم من ا الحفاظ إلى أنَّ. خبر "الصحيحين" يفيد العلم، وهو الراجح عند جماعة المحققين، فأي جهالة وأي وقاحة أقدم عليها النجار بطعنه في أحاديث "الصحيحين"؟!! ثالثتهما: أن خبر الآحاد الذي لا يُعمَل به في العمليات يُعمَل به فيما يُفيده من أحكام وآداب، ولا يجوز إهماله كما فعل عبدالوهاب النجار، فإنه لجهله المطلق رد أحاديث "الصحيحين" وأهملها إهمالاً تاما، ولا يُعْذَر بجهله، بل هو

مؤاخَذْ ومعاقب.

٤٣٢

قصص الانبياء

كرسى سليمان عليه السلام

قال وهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهما: إنَّ سليمان عليه السلام لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر أن يُعمل بديعًا مهولًا بحيث إذا رآه مُبطِل أو شاهد زورٍ ارتدع وتهيَّب، فأمر أن يُعمَل مِن أنياب الفِيَلَة مُفَصَّصة بالدُّرِّ والياقوت والزبرجد وأن يحفّ بنخيل الذهب.

وأفاضوا في صفة الكرسي بكلام طويلٍ فيه كثير من المبالغة والغرابة والطرافة، بل هو أشبه بمقامة أدبية مثل مقامات بديع الزمان الهمذاني، أو

مقامات أبي القاسم الحريري.

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: ٣٥] استُشكل

سؤال سليمان مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده.

وقلت جوابًا عن ذلك في "خواطر دينية" :

«أما سؤال سليمان ملكا لا

ينبغي لأحد من بعده فليس حَسَدًا أو حُبا

للاستئثار كما قال بعض المارقين، بل ليكون معجزته على نبوته كما كانت الناقة معجزة صالح والعصا معجزة موسى، وإنها طلب الملك معجزة؛ لأنه رسول إلى اليهود وهم عبيد المال، فلا يُخضعهم إلا مظاهر الملك وبريق الذهب، وانظر إلى عيسى عليه السلام حين جاءهم بالزهد والتقلل حاولوا قتله كما قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، وما خضعوا لموسى عليه السلام إلا لشدته عليهم، فقد كان يسوقهم سوق العبيد بالعصا، وكانوا يستضعفون هارون عليه السلام كما جاء في

قوله وَإِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾ [الأعراف: ١٥٠]» . اهـ

قصة سليمان الطي

٤٣٣

روى أبو عبيد عن صالح بن مسمار قال: لما مات نبي الله داود عليه السلام أوحى الله إلى سليمان عليه السلام أن سلني حاجتك. قال: أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي، وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي. فقال الله تعالى: أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني، لأهبنَّ له مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فألهمه سؤال الملك المذكور.

وروى الطبراني عن رافع بن عمير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «قال اللهُ عزَّ وجلَّ لداودَ عليه السَّلام: ابْنِ لِي بَيْتًا في الأرضِ، فبَنَى داودُ بَيْتًا لنَفْسِهِ قبل البيت الذي أُمِرَ به، فأوحى اللهُ عزَّ وجلَّ إليه: يا داود، نَصَبْتَ بيتك قبلَ بيتي، قال: يا رَبِّ هكذا قلت فيها قضيتَ : مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ، ثُمَّ أَخَذَ في بِنَاءِ المسجدِ، فلمَّا تَمَّ السُّورُ سَقَطَ ثُلُثَاهُ، فشكا ذلك إلى الله عزَّ وجلَّ فأوحى اللهُ عزَّ وجلَّ إليه أَنَّهُ لا يَصْلُحُ أن تَبْني لِي بَيْتًا، قال: أَي رَبِّ، ولم؟ قال: لِمَا جَرَتْ على يَدَيْكَ مِن الدَّمَاءِ، قال: أي رَبِّ، أو لم يكن في هواك وتَحبَّتِكَ؟ قال: بلى، ولكنهم عبادي وأنا أرحَمُهُمْ فشَقَ ذلِكَ عليه، فَأَوْحَى اللَّهُ إِليه: لا تَحْزَنْ فَإِنِّي سأَقْضِي بِناءَهُ على يدي ابنك سليمان، فلما مات داودُ أَخَذَ سُليمانُ فِي بِنائِهِ، فَلَمَّا تَمَّ قَرَّبَ القَرَابِينَ وذَبَحَ الذُّبَائِحَ وجَمَعَ بني إسرائيلَ، فَأَوْحَى اللهُ عزَّ وجلَّ إليه: قد أَرَى سُرُورًا بِبُنْيَانِ بَيْتِي فَسَلْنِي أُعْطِكَ، قال: أَسْأَلُكَ ثَلاثَ خِصَالٍ: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَكَ، ومُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِن بعدي، ومَن أَتى هذا البيت لا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلاةَ فِيهِ خَرَجَ مِن ذُنُوبِهِ كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». قال رسول الله صلَّى الله عليه

وآله وسلَّم: «أَمَّا اثْنَتَيْنِ فقد أُعْطِيَهُما وأنا أرجو أن يكون قد أُعْطِيَ الثالثة».

٤٣٤

قصص الانبياء

هكذا رواه الطبراني في "مجمعه "الكبير" من طريق محمد بن أيوب بن سويد، عن أبيه، عن إبراهيم بن أبي عُلِّبَةَ، عن أبي الزاهرية، عن رافع بن عُمير. ومحمد بن أيوب ؛ قال ابن حِبَّان يضع الحديث». وقال الحاكم وأبو نعيم: روى عن أبيه أحاديث موضوعةً». ونصُّ الذهبي على أنَّ هذا الحديث مِن وَضْعِهِ.

وروى النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَنَّ سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيتَ المَقْدِسِ سَأَلَ الله عزَّ وجلَّ خِلالًا ثلاثةً: سَأَلَ الله عزَّ وجلَّ حُكْما يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيه، وسَأَلَ الله وجلَّ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِن بعده فأُوتيه، وسَأَلَ الله عزَّ وجلَّ حين فَرَغَ من بناء المسجدِ أَلَّا يأتيه أَحَدٌ لا يَنْهَرُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَن يُخْرِجَهُ مِن خَطِئِيتِهِ

كيوم ولدته أمه. إسناده صحيح.

وَلَدَتْهُ

هل سليمان بنى المسجد الأقصى؟

هذا ما أفاده الحديث المذكور ، وأفاد القرآن الكريم أن إبراهيم عليه السلام بنى البيت الحرام وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَعِيلُ ﴾ [البقرة: ١٢٧] وأنه أول بيت قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَةَ مُبَارَكًا وَهُدًى

لِلْعَالَمِينَ } [آل عمران: ٩٦]. وهذا واضح لا إشكال فيه.

لكن ثبت في "صحيح البخاري" عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، أي مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّل؟ قال: «المسجد الحرام». قلتُ: ثُمَّ أي؟ قال: «المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنةً ثُمَّ

قصة سليمان الطير

٤٣٥

أينما أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بعدُ فصَلَّهُ».

قال ابن الجوزي : فيه إشكال؛ لأن إبراهيم بنى الكعبة وسليمان بنى بيت

المقدس وبينهما أكثر من ألف سنة.

وقد نقل الحافظ في "فتح الباري" عِدَّة أجوبة عن هذا الإشكال ومنها - وهو جواب ابن الجوزي نفسه - قال: «ليس إبراهيم أول من بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فقد روينا أنَّ أوَّل مَن بنى الكعبة آدم عليه السلام، ثُمَّ انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن ومنها قول الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان، ثُمَّ داود، ثُمَّ سليمان فزادا فيه ووسَّعَاهُ فَنُسب إليهما بناؤه.

المقدس

ثُمَّ

ومنهما: ما نقله الحافظ عن ابن هشام قال في كتاب "التيجان": «إنَّ آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه ونسك فيه، قال الحافظ أيضًا: وقيل إنَّ آدم لما صلَّى إلى الكعبة، أمر بالتوجه إلى بيت المقدس،

فاتخذ فيه مسجدًا وصلَّى فيه ليكون قبلةً لبعض ذريته» . اهـ

وقال القرطبي في تفسيره : وقد رُوي أنَّ أَوَّل مَن بنى البيتَ آدم عليه السلام، فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين

عاما، ويجوز أن تكون الملائكة أيضًا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله » . اهـ

وقال ابن القيم في "الهدي": «فإنَّ سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسَّسَهُ هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلَّم

بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار» . اهـ ومثله لابن كثير في "تاريخه".

٤٣٦

قصص الانبياء

ملك سليمان عليه السلام

سَخَّرَ الله السليمان الجن والشياطين والرِّيحَ كما ثبت في القرآن الكريم، وللإسرائيليات في هذا المجال مبالغات وتهويلات هي أقرب إلى الخيال من أن

تكون حقيقة.

ما أُعطيه سليمان عليه السلام

روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان داود أعطي ثلاثا: سُخّرت له الجبال يُسبِّحْنَ معه، وألين له الحديد، وعُلمَ مَنْطِقَ الطير.

وأعطي سليمان مَنْطِقَ الطير، وسُخّرت له الجن وكان ذلك مما ورث عنه،

ولم تُسَخَّر له الجبال، ولم يكن له الحديد.

احترام النبى دعوة سليمان عليهما الصلاة والسلام روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ عِفْريتا مِن الجِنِّ تفلَّتَ عليَّ البارحَةَ ليَقْطَعَ على صلاتي، وإِنَّ اللَّهَ تعالى أَمْكَنَني . منه، فلقد هَمَمْتُ أَن أَرْبِطَهُ إلى سارية مِن سَوَاري المسجدِ حتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُروا إليه كلُّكُم، فَذَكَرْتُ قول أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي

مُلكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ ص: ٣٥] فَرَدَّهُ اللَّهُ حَاسِنًا». وروى أحمد وعبد بن حميد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرَّ على الشيطانُ فتناوَلْتُهُ فَخَنَقْتُهُ حتى وجدتُ بَرْدَ لسانِهِ على يدي فقال: أَوْجَعْتَني أَوْجَعْتَني. ولولا ما دعا به سليمان لأصبح مُناطًا إلى أسطوانة من أساطين المسجدِ ينظُرُ إليه ولدانُ أَهلِ المدينة». وللحديث طرق وألفاظ.

قصة سليمان العلي

٤٣٧

وادي النمل

قال الله تعالى: ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَتَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَنُ وَجُنُودُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل : ۱۷ - ۱۸] .

قال قتادة في وادي النمل: ذكر لنا أنه وادٍ بأرض الشام.

وقال ياقوت في معجم البلدان: وادي النمل الذي خاطب سليمان

عليه السلام النمل فيه، قيل: هو بين جبرين وعسقلان». اهـ

وقال ابن بطوطة في رحلته بظاهر عسقلان وادي النمل ويقولون: إنه المذكور في الكتاب العزيز . اهـ

٤٣٨

قصص الانبياء

مسائل

الأولى

قال السهيلي: «ذكروا اسم النملة المكلّمة لسليمان عليه السلام وقالوا: اسمها حرميا، ولا أدري كيف يتصوَّر للنملة اسم علم ؟!!

والنمل لا يُسمّي بعضهم بعضًا، ولا الآدميون يمكنهم تسمية واحدة

هم

أيضًا

منهم باسم علم؛ لأنه لا يتميّز للآدميين بعضهم من بعض، و ولا واقعون تحت ملكية بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها، فإنَّ العَلَميَّة فيما كان

كذلك موجودة عند العرب . اهـ

يعني عَلَمَيَّة الجنس لا عَلَمَيَّة الشخص. وفي "الألفية " : ووَضَعُوا البَعْضِ الْأَجْنَاسِ عَلَمَا

الثانية

قول النملة : وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . قال القرطبي: «الْتِفَاتَةُ مؤمن، أي: من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يَحْطِمُون نملة فما فوقها إلا بالا

يشعروا» . اهـ

ونظير قولها: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( قول الله تعالى في جند النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَّعَرَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الفتح: ٢٥]. التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن، إلَّا أنَّ المثني على جُند سليمان النملة بإذن الله والمثني على جُند النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الله عزَّ وجلَّ، لما لجنوده من

هي

قصة سليمان اللي

٤٣٩

الفضل على جنود غيره من الأنبياء، كما للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وسلم

فضل على جميع الأنبياء.

الثالثة

روى أبو نعيم في "الحلية" وابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي ا الخطاب رضي

الله عنه

الله عنه فقال

فقالت:

قال: «كنتُ مع كعب الأحبار وهو عند عمر بن ا كعب يا أمير المؤمنين ألا أخبرك بأغرب شيء قرأته في كتب الأنبياء عليهم السلام؟ إن هامة جاءت إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام السلام عليك يا نبي الله . فقال : وعليك السلام يا هامة أخبريني: كيف لا تأكلين الزرع؟ قالت: يا نبي الله إنَّ آدم أُخرج من الجنة بسببه. قال: فكيف لا تشربين يا الماء؟ قالت: يا نبي الله لأنه غرق فيه قوم نوح. قال: كيف تركت العمران وسكنت الخراب؟ قالت: لأن الخراب ميراث الله، فأنا أسكن ميراث الله. قال: فما تقولين إذا جلست فوق خربة ؟ قالت أقول: أين الذين كانوا يتنعمون فيها؟ قال سليمان: فما صياحك في الدور إذا مررت عليها؟ قالت أقول: ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد . قال : فمالك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من كثرة ظلم بني آدم لأنفسهم. قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول: تزوّدوا يا غافلين وتهيَّئوا السفركم سبحان خالق النور. فقال سليمان عليه السلام: لَلْهَامَةُ على ابن آدمَ أشفقُ وأحذَرُ عليه، وليس مِن الطُّيور طيرُ أنصحُ

لا بن آدم وأشفَقُ عليه من الهامَةِ، وما في قُلُوبِ الجُهَّال أبعْضُ مِن الهامَةِ». اهـ قلت: هذه القصة من نوع "كليلة ودمنة" التي تحكى فيها قصص وحكم على ألسنة الحيوانات.

٤٤٠

الرابعة

قصص الانبياء

قال الله تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَنَ الرِّيحَ غُدُوهَا شَهْرُ وَرَوَاحُهَا شَهْرُ ﴾ [سبأ: ١٢]. معنى الآية: وسخرنا لسليمان الريح غدوها في الصباح مسيرة شهر ورواحها

في المساء مسيرة شهر

قال السدي: كانت تسير به في يوم مسيرة شهرين.

وقال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهرٍ

للمسرع، ثم يروح من اصطخر ويبيت بكابل وبينهما شهر للمسرع. قال وهب بن منبه : ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبًا فيه – كتبه بعض صحابة سليمان - نحن نزلنا وما بنيناه ومبنيا وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام.

وقال ابن زيد كان مستقر سليمان بمدينة تدمر وكان قد أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق فبنوها له بالصفاح كرمان- والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفيه يقول النابغة:

إلا سليمان إذا قال الإله له قُمْ في البَرِيَّةِ فَاحْدُدُها عن الفَنَدِ وخَيِّثِ الحِنَّ إِنِّي قد أَذِنْتُ لهم يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ والعَمَدِ فمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعَهُ بِطَاعَتِهِ كما أَطَاعَكَ وادْلُلْهُ عَلى الرَّشَدِ ومَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبَهُ مُعَاقَبَةً تَنْهَى الظُّلُومَ ولا تَقْعُدُ على ضَمَدِ ووجدتُ هذه الأبيات منقورةً في صخرة بأرض يَشْكُر :

قصة سليمان الية

٤٤١

ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح إلى الأوطانِ من أَرضِ تَدْمُرِ إذا نحنُ رُحنا كان ريتُ رواحِنا مسيرة شهر والعدو لآخـــر أناس شَرَوا الله طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبي المطهر لهم في معالي الدين فضل ورفعةٌ وإِن نُسبوا يومًا فَمِنْ خَيرٍ مَعْشَرٍ متى يركبوا الرِّيحَ المطيعة أسرعَتْ مُبادِرَة عن شهر ها لم تقصر تُظِلُّهُمُ طيرٌ صُفُوفٌ عليهم متى رَفْرَفَتْ مِن فوقهم لا تُنفَّرِ

وقال ياقوت في "معجم البلدان": «اصطخر بالكسر وسكون الخاء بلدة بفارس، وهي من أعيان حصون فارس ومدنها وكنوزها. وفي بعض الأخبار: أنَّ سليمان بن داود عليه السلام كان يسير من طبرية إليها غدوة إلى عشية، وبها مسجد يعرف بمسجد سليمان عليه السلام، وزعم قوم من

عوام الفرس أنَّ الملك الذي كان قبل الضحاك هو سليمان بن داود». اهـ وفي "معجم البلدان أيضًا: «تَدمُر بالفتح ثم السكون وضم الميم: مدينة قديمة مشهورة في برية الشام، بينها وبين حلب خمسة أيام، وهي من عجائب الأبنية موضوعة على العمد الرخام زعم قوم أنها فيما بنته الجن لسليمان عليه السلام، ونعم الشاهد على ذلك قول النابغة الذبياني». وذكر بيتين من أبياته التي تقدمت آنفًا.

و «کابل»: بضم ) الباء وباللام: هي . عاصمة أفغانستان اليوم. و«يَشْكُر»؛

بوزن الفعل المضارع بلد بالشام.

٤٤٢

قصص الانبياء

بساط سليمان عليه السلام

ذكر الله تسخير الريح لسليمان، فكانت طوع أمره يُسخّرها كما يسخر الراكب دابته حيث يريد ، وكان له بساط يجلس عليه، وتحمله الريح إلى الجهة التي يريدها، لكن الإسرائيليات هَوَّلت في وصف البساط وبالغت في تفاصيله مبالغة غير مقبولة ولا معقولة، من جملة ذلك: أنَّ للبساط ألف ركن، في كل ركن مئات الكراسي، وأنه يحمل من الإنس والجن ما يبلغ مليوني نسمة، وأما طوله فعدة فراسخ لو حسبت بتقديرات اليوم كانت نحو مائة كيلومتر، وهذه أكاذيب يتنزه القلم عن تسطيرها.

فلذلك أعرضت عن ذكرها، وألقيت بالتنبيه على كذبها، لئلا يغتر بها

الناس.

هل ملك سليمان الدنيا ؟

روى وكيع في "تفسيره" عن مجاهد :قال ملك الدنيا أربعة مؤمنان و کافران ،نمرود ،ويُختَنَصَّر، وسليمان، وذو القرنين.

وهذا غير صحيح فلم يملك الدنيا أحد قط، وسليمان عليه السلام كان ملكًا على الشام ولم يملك غيرها، ولم يعلم بمملكة سبأ في اليمن حتى أخبره

بها الهدهد.

قصة سليمان اللي

أخبار منكرة

٤٤٣

روى ابن جرير عن قتادة: وَهَبْ لِي مُلكًا لَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ ص: ٣٥]

قال: لا أسلبه كما سلبته.

وروى عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: لا تسلبينه كما سلبتنيه. وهذا خطأ، وسليمان لم يسلبه الله ملكه أبدًا، ولكن عيب المتقدمين رحمهم الله

أنهم يعتمدون الإسرائيليات ويُفسّرون بها آيات القرآن الكريم.

وروى عبد بن حميد عن وهب بن منبه : أنه ذكر مِن مُلكِ سليمان وتعظيم مُلْكِهِ : أنه كان في رباطه اثنا عشر ألف حصان، وكان يذبح على غذائه سبعين

يسع

ثورًا كل يوم سوى الكباش والطير والصيد. فقيل لوهب: أكان هذا . ماله ؟ قال : كان إذا ملك الملك على بني إسرائيل اشترط عليهم أنهم رقيقه، وأن أموالهم له، ما شاء أخذ منها وما شاء ترك.

قلت: إذا كان هذا عمل ملوك بني إسرائيل فلا يجوز في حق سليمان النبي المعصوم، والعجب من وهب كيف استجاز هذا الظلم في حق سليمان عليه

السلام؟!

عطاء

والذي يجب ذكره في هذا الموضع ما رواه أحمد في "الزهد" عن . قال: «كان سليمان عليه السلام يعمل الخوص بيده ويأكل خبز الشعير، ويطعم بني إسرائيل الحواري».

وروى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن سليمان بن عامر الشيباني قال: بلغني

أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أرأيتم سليمان وما أعطاه الله تعالى

٤٤٤

قصص الانبياء

مِن مُلْكِهِ ؟ فلم يكن يرفع طَرْفَهُ إِلى السَّماءِ تَخَشُعًا حَتَّى قبضه الله تعالى». وروى ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما رَفَعَ سليمان عليه السلام طَرْفَهُ إلى السَّماءِ تَخَشُعًا . حيث أعطاه الله

تعالى ما أعطاه».

وروى ابن المنذر عن ابن جريح قال: زعموا أن سليمان عليه السلام

يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين سنةً لما أُعطي من الملك في الدنيا. قلت: هذا زعم باطل، فإنّ الله تعالى قال لسليمان: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ

أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص: ٣٩].

وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابُ ﴾ [ ص: ٣٠].

قال الحسن في قوله تعالى: هَدَا عَطَاؤُنَا : الملك الذي أعطيناك فأعط ما

شئت وامنع ما شئت فليس عليك تبعة، ولا حساب عليك في ذلك. فكيف يزعم زاعم بعد هذا المدح والثناء أن سليمان يتأخر في دخول الجنة أربعين عاما بعد الأنبياء ؟!!

قال القرطبي في تفسيره: وفي بعض الأخبار: يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا. ذكره صاحب القوت"، وهو حديث لا أصل له؛ لأنه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه لأنه من طريق المنة، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولاً

الجنة وهو سبحانه يقول: ﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَ نَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَتَابٍ [ ص: ٤٠] . اهـ ويقرب من هذا الحديث الذي فيه أنَّ عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا، وهو حديث باطل؛ لأن عبد الرحمن أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد

قصة سليمان اللي

٤٤٥

الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راضي ومن أهل

بدر، ومن المهاجرين، وتَصَدَّق صدقات عظيمة، فكيف يدخل الجنَّة حَبْوا؟! ملكة سبأ

جاء ذكرها في قصة الهدهد الذي دلّ عليها وعلى مملكتها سبأ، وذكر القرآن من صفتها ما دلّ على أنها عاقلة حكيمة ذكية، وأنها لم تكن تنفرد عن رعيتها بأمر بل ترجع إليهم فيما يهمها من المسائل العظيمة، وتستطلع ما عندهم من الرأي والمشورة: مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمَّا حَتَّى تَشْهَدُون ﴾ [النمل: ٣٢] وكان الرعية يولونها تقديرًا وطاعة قَالُوا نَحنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تأمرين ﴾ [النمل: ٣٣]. ومن حكمتها : أنها لم تتسرع في الردّ على سليمان حتى تتأكد من أمره أَمَلِكُ هو أم نبي؟ فلما تحققت نبوته أجابته، وذهبت للقائه، وأراد سليمان أن يريها : معجزة تزيد بها يقينًا ومعرفة قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِ مسلمين ) قَالَ عِفْرِيتُ مِنَ الْجِنِّ أَنَا عَالِيكَ بِهِ، قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمين [النمل: ۳۸ - ۳۹] وكان يجلس لتصريف أمول الدولة صباحًا ويقوم من مجلسه ذلك عند الزوال - وهو مقدار أربع ساعات لكن سليمان كان يريد أسرع من هذا قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمُ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاءَ انِيكَ بِهِ ، قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ

[النمل: ٤٠]، وهذه سرعة غير عادية تشبه سرعة الصوت أو أسرع منها. (تنبيه): قال الجلال المحلّي في "تفسير الجلالين" تعليقا على قول سليمان:

أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِيهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: ٣٨] ما نصه: «منقادین

٤٤٦

قصص الانبياء

طائعين فلي أخذه قبل ذلك لا بعده». وهذا خطأ والسياق يرده؛ لأن سليمان

عليه السلام ردَّ الهدية وقال: فَمَاءَ اتَيْنِ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا اتَنكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ

نَفْرَحُونَ ﴾ [النمل: ٣٦] فكيف يردها ثُمَّ يطمع في عرشها؟!

وأيضًا فملكة سبأ لم تكن محاربة، بل أتت مُلبيةً دعوته، وأيضًا عرشه أعظم من عرشها، كما أن مقام سليمان النبي يتنزه عن الحرص والطمع في اقتناء المال. ويُبطل كلام المحلّي أيضًا قول سليمان عليه السلام: نَكْرُ والهَا عَرْشَهَانَنظُرْ

أَتَهْدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: (٤١]، وقوله لها: أَهَكَذَا عَرْش [النمل: ٤٢]، فلو كان طلب إتيان العرش ليأخذه لم يكن لكلامه هذا فائدة؛ لأنه حيث امتلكه لا يهمه أتهتدي أم لا .

.

لكنه طلب الإتيان بالعرش بتلك السرعة المذهلة لإظهار معجزته كما قدمنا، ثُمَّ عرضه عليها بعد تغيير منه ليختبر ذكاءها فوجدها ذكيَّةً فَطِنةً، ومِن تمام فطنتها أنها حين ظنّت الصرح لجة ماءٍ وكشفت عن ساقيها لتعبره، وأخبرها أنه من زجاج شفاف أدركت من غلطها هنا خطأها في عبادة الشمس، وفيما كانت تنسبه لها من منافع ومضار ليست صادرة عنها بالاختبار، وإنما هي مُسَخَّرة لخالقها وخالق العالم كله، فقالت: وَرَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعبادة الشمس ووصفها

بالألوهية وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَنَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [النمل: ٤٤]. وأسلمت بلقيس بنت السيرح بن ذي جدن بن السيرح بن الحارث بن

قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وكان أبوها من أكابر الملوك، وكان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن، فيقال إنه

قصة سليمان العلي

٤٤٧

تزوج امرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقمة وهي بلقيس. روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كان أحد أبوي بلقيس جنِّيَّا». قال ابن كثير : «هذا حديث غريب، وفي إسناده

ضعف».

هل يجوز التزاوج بين الإنس والجن؟

قال حرب الكرماني في كتاب مسائل" أحمد وإسحاق": حدثنا محمد بن يحيى القطعي: حدثنا بشر بن عمر حدثنا ابن لهيعة، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن نكاح الجن. هذا حديث مرسل فيه عنعنة ابن لهيعة.

وروى حرب أيضًا عن الحكم أنه كره نكاح الجن، وعن قتادة والحسن أنهما كرهاه أيضًا.

وقال حرب قلت لإسحاق بن راهويه رجل ركب البحر فكسر به

فتزوج جنِّيَّة؟ قال: مناكحة الجن مكروهة. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا الفضل ابن إسحاق: حدثنا أبو قتيبة، عن عقبة

الأصم وقتادة؛ وسُئلا عن تزويج الجن؟ فكرهاه. وقال جمال الدين السجستاني من أئمة الحنفية في كتاب "منية المفتي" نقلا عن السراجية: لا يجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء لاختلاف الجنس. وذكر نجم الدين الزاهدي الحنفي في "منية المفتي" قال: سُئل الحسن

٤٤٨

قصص الانبياء

البصري عن التزوج بجنية؟ فقال: يجوز بشهود رجلين. وقال الإسنوي الشافعي ناقلا عن القاضي أبي القاسم ابن البارزي الشافعي: لا يجوز التزوج من الجن.

وقال أبو عثمان سعيد بن العباس الرازي في كتاب "الإلهام والوسوسة" في باب نكاح الجن: حدثنا مقاتل: حدثني سعد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من اليمن إلى مالك بن أنس رضي الله عنه يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إِنَّ هاهنا رجلا من الجنّ يخطب إلينا جاريةً يزعم أنه يريد الحلال؟ فقال: ما أرى بذلك بأسًا في الدين، ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها من زوجك؟ قالت من الجن، فيكثر الفساد في الإسلام بذلك.

عن

وروى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب "اتباع السنن والآثار" الأعمش قال: حدثني رجل من بجيل قال: علق رجل من الجن جاريةٌ لنا، ثُمَّ خطبها إلينا وقال: إني أكره أن أنال منها محرَّمًا. فزوجناها منه، قال: فظهر معنا

يُحدثنا، فقلنا: ما أنتم؟ قال : أُمَمٌ أمثالكم وفينا قبائل كقبائلكم. قلنا: فهل فيكم هذه الأهواء؟ قال: نعم فينا من كل الأهواء القَدَرِيَّة والمشبهة والمرجئة. قلنا: من أيها أنت؟ قال: من المرجئة.

وروى أحمد بن سليمان النجاد" في "أماليه" عن أبي معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: تزوّج إلينا جني، فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ قال: الأرز. قال: فأتيناه به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدًا. فقلت: فيكم هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم. قلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرنا. قال الحافظ المزي: «هذا إسناد صحيح إلى الأعمش».

من

قصة سليمان العين

٤٤٩

ورواه أيضًا الخرائطي عن الرمادي، عن داود الضبي، عن أبي معاوية الضرير، عن الأعمش قال: شهدت نكاحًا للجن، بكُوئى، قال تزوج رجل منهم إلى الجن، فقيل لهم : أي الطعام أحب إليكم؟ قالوا: الأرز. قال الأعمش فجعلوا يأتون بالجفان فيها الأرز فيذهب ولا نرى الأيدي.

كُوثى» بالضم والقصر: قرية بالعراق قلت: هذه الحوادث تدل على أنَّ الجنَّ في عهد السلف كان عندهم خوف من

عذاب الله وبعد عما يوجب عقابه، بحيث كان الجن إذا عشق إنسيَّة خطبها من أهلها طلبًا للحلال، أما في عصرنا فقد كثر الفساد في الإنس والجن وضعف الدين عندهم وذهبت خشية الله من قلوبهم وصار الجنّي إذا أحب إنسيَّةً وعَشِقها إما أن يؤذيها في ذاتها بالصرع والتخبيل كما هو مشاهد في كثير من النساء وقد عالجنا بعض هذه الحالات، وإما أن يأتيها اغتصابًا وإن كانت متزوجةً.

وقد عُرضت على حالتان من هذا القبيل :

إحداهما : بقبيلة بني سعيد - إقليم تطوان إمرأة عشقها جني فكان يأتيها وهي في عملها في الحقل تراه حين يأتي فتقول: ها هو جاء. فيجامعها، والناس لا يرونه ولا زوجها.

والأخرى في العرائش عشق جني امرأة متزوجة فيواقعها في بيتها

وزوجها حاضر لا يراه. وقد سُئلت عن حكم هذه الحالة. فأجبت: إذا كان جماعه مثل البشر وشهوة منها ومنه وإنزال؛ وجب على

زوجها ألا يقربها حتى تحيض حيضتين وهي امرأته، وإن لم يكن مثل جماع البشر فلا شيء فيه، والجن آثم في الحالتين.

٤٥٠

قصص الانبياء

هذه فوائد استطردناها بمناسبة كون أم بلقيس جنية. روي أن سليمان عليه السلام أراد أن يتزوجها فقيل له: إن مؤخر قدميها مثل حافر الدابة. فعمل الصرح الممرد من قوارير ليرى قدميها، فلم يجد عليهما إلَّا شعرًا خفيفًا، فأمر الشياطين فاتخذوا الحمام والنورة، وطلوا ساقيها بالنورة، فصارتا كالفضة فتزوجها، وأرادت منه أن يردها إلى ملكها، ففعل ذلك وأمر الشياطين فبنوا لها باليمن ثلاثة قصور: غمدا وسالحين وبيتون. وكان يزورها كل شهر فيمكث عندها ثلاثة أيامٍ ثُمَّ يعود على البساط.

وذكر وهب بن منبه أنَّ سليمان لم يتزوّج بلقيس بل زوجها بملك همدان، وأقرها على ملك ،اليمن، وسخَّر زوبعة ملك جن اليمن فبنى لها القصور

الثلاثة المذكورة. قال ابن كثير: «والأول أشهر وأظهر».

أوائل سليمان عليه السلام

(۱) هو أول مَن حَكَمَ الجِنَّ واستخدمها في البناء وغوص البحر لاستخراج

لآلئه ونفائسه.

وقد أخبر القرآن بذلك في عِدَّة آيات منها قوله تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن تَحْرِيبَ وَتَمَئِيلَ وَجِفَانِ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَةٍ ﴾ [سبأ: ١٣].

«المحاريب»: الأبنية المرتفعة يصعد إليها بدَرَج. و«التماثيل»: الصور الممثلة، ولم تكن حراماً في شريعته بخلاف شريعتنا. و«الجفان»: جمع جفنة، والجفنة مثل الجابية - أي الحوض في الكبر يجلس عليها ألف شخص.

وقال تعالى فيما سخّره السليمان : والشَّيْطِينَ كُلَّ بَنَاءِ وَغَوَاصِ ) وَآخَرِينَ

قصة سليمان ال

٤٥١

مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [ ص: ۳۷ - ۳۸] وقال أيضًا: وَمِنَ الشَّيَطِينِ مَن يغوصون لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَفِظين ﴾ [الأنبياء:

.[٨٢

(۲) وهو أول من استخدم الجو في أسفاره.

كان يسافر على بساط الريح إلى اصطخر، وإلى كابل، وإلى اليمن كما سبق

بيان ذلك، فبساطه سبق الطائرات الموجودة في هذا العصر.

تنبيه: عروج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء سبق به أولئك الذين يحاولون غزو الفضاء ويحاولون الوصول إلى الكواكب أو بعضها، مع أنَّ هذه الكواكب التي يحاولون الوصول إليها تسبح في الفضاء الذي بين السماء والأرض، وقد تحدَّى الله الجن والإنس أن يتجاوزوا أقطار السموات وينفذوا منها إن استطاعوا قال تعالى: يَمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَنِ ﴾ [الرحمن: ٣٣] أي بقوة، لا يملكون القوة مع أنَّ الجِنَّ كانوا يصلون إلى السماء ويقعدون منها مقاعد للسمع كما في سورة الجنّ، لكن التحدّي وقع بما هو أبعد من ذلك؛ أن يتجاوزوا السموات ويخرجوا منها، وهذا لا يستطيعونه.

وهم

والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم حين عرج إلى سدرة المنتهى تجاوز السموات السبع وفعل ما عجز عنه الثقلان فكانت معجزته أعظم، ولهذا أعتبر معجزة المعراج أعظم المعجزات بعد القرآن، تحدى الله بها الجن والإنس، كما تحداهما بالقرآن الكريم.

٤٥٢

قصص الانبياء

(۳) وسليمان عليه السلام أول من استعمل القطر.

بكسر القاف، وهو النحاس المذاب في البناء وغيره.

قال الله تعالى: وَأَسَلْنَالَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ [سبأ: ١٢] قال البيضاوي: «أساله الله مِن مَعْدِنه ينبع منه نبوع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سماه عينا، وكان ذلك باليمن». اهـ وقال القرطبي: «والظاهر أنَّ الله جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون الماء دلالة على نبوته . اهـ

وممن استعمل القطر بعد سليمان ذو القرنين عليهما السلام، جاء الخبر عنه بذلك في (سورة الكهف) حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا

[الكهف: ٩٦].

(٤) وهو أول من استعرض الخيل.

قال تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّفِنَتُ الْحَيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ

الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ ص: ۳۱ - ۳۲] الآية. قال القرطبي : وذلك أنَّ سليمان كان له ميدان مستدير يُسابق فيه بين الخيل حتى توارت عنه، وتغيب عن عينه في المسابقة، قال: رُدُّوهَا عَلَى فَطَفِقَ مَسْطا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ [ص: ۳۳]. جعل يمسح سوقها وأعناقها تكريما لها، وينظر هل فيها مرضٌ أو عيب.

وفي "الموطأ" عن يحيى بن سعيد مرسلًا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم رؤي رؤي وهو يمسح فرسه بردائه، وقال: «إني عوتبت الليلة في الخيل». وثبت متصلا عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أنس.

قصة سليمان التقنية

٤٥٣

وروى النَّسائيُّ عن أبي وهب الجشمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تَسَمَّوا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عزّ وجلَّ: عبدالله وعبد الرحمن. وارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأكفالها...». الحديث.

(٥) وهو أول من استعمل الماس في قطع الحجارة.

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس، فقيل له: ابنه ولا يُسْمَع فيه صوت حديد. فطلب ذلك فلم يقدر عليه، فقيل له: إنَّ شيطانًا في البحر يقال له صخر. فطلبه فأُتِيَ به، فقال له سليمان: إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا : لا يُسْمَعُ فيه صوت حديد. قال: فجاء ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة، فجاء الهدهد فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه، فجاء بالماس فوضعه عليها فقطعها به، حتى أفضى إلى بيضه، فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة.

(٦) وهو أول من أنشأ أسطولا بحريا للتجارة.

ففي ميناء عصيون جابر عزم سليمان بمشورة «حيرام» رئيس البنائين أن ينشيء مصنعا لبناء أسطول عظيم لم يسبق له مثيل، وسمى ذلك الأسطول باسم «أسطول ترشيش»، وتولى الفينيقيون تدريب العبرانيين على الملاحة، والتمرس بالبحر، واكتمل أول أسطول في خلال سنتين، وأخذ يمخر البحر حتى وصل إلى نهر السند وكانوا يتقايضون بالسلع التجارية التافهة القيمة التبر الذي يجدونه عند تلك الشعوب، وعاد الأسطول بعدما غاب ثلاث سنوات مثقلا بالكنوز التي جلبها من تلك الأصقاع الشاسعة في «عصيون جابر»، ونقل ما جاء به على ظهور الجمال والهجان، وكان فيما أتى به ذلك

٤٥٤

قصص الانبياء

الأسطول سوى الذهب والفضة - جملة من القردة والطواويس وفي سفر الملوك من أسفار التوراة وبنى الملك سليمان سفنا في عصيون

جابر التي بجانب أيلة عند شاطئ بحر القلزم في أرض أدوم». (۷) روى الطبراني في "الأوائل" و "المعجم الكبير" عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أول مَن صُنعت له النُّورَةُ ودَخَلَ الحمام سليمان ابن داود عليهما السلام، فلمَّا دَخَلَ ووَجَدَ حَرَّه قال: أوه مِن عذاب الله عزّ وجلَّ، أوه أوه من قبل ألا ينفع أوه».

في سنده إسماعيل بن عبدالله الكندي و هو ضعيف.

(۸) روى ابن أبي حاتم في تفسيره" عن بريدة قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: «إنّي أعلم آيةً لم تنزل على نبي قبلي بعد سلیمان بن داود. قلت: يا نبي الله أي آية؟ قال: «سأُعَلَّمَكَهَا قبل أن أخرجَ مِن المسجد». قال: فانتهى إلى الباب، فأخرج إحدى قدميه، فقلت: نسي. ثُمَّ التفت إلى وقال: إِنَّهُ مِن سُلَيْمَنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: ٣٠]. حديث

ضعيف.

(۹) وسليمان عليه السلام أول من فَرَّقَ الشُّهود.

روی ابن عساكر في تاريخ الشام" بإسناد ضعيف عن ابن عباس قال: كانت إمرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل . منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود عليه السلام: أنها مَكَّنت من نفسها كَلْبًا لها قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع . معه ولدان مثله

قصة سليمان العلي

٤٥٥

فانتصب حاكما، وتزيَّا أربعة منهم بزي أولئك الشهود، وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبًا، فقال سليمان: فَرّقوا بينهم، فسأل

عن

أولهم ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود فعزله، واستدعى الآخر فسأله . لونه ؟ فقال : أحمر. وقال الآخر: أغبش. وقال الآخر: أبيض. فأمر عند ذلك

بقتلهم، فحكى ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة،

فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم.

قلت: يؤخذ من هذه القصة ما شاع عند النصارى من تمكين النصرانية كلبها من نفسها، وهي عادة مأخوذة عن اليهود لعنهم الله، وقد استعملها بعض المسلمات مع الأسف.

وفاة سليمان عليه السلام

ورد في وفاته حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه غير صحيح، وأنا أذكره وأبين ما فيه:

يوم.

روى ابن جرير في تفسيره" عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كان نبي الله سليمان عليه السلام إذا صَلَّى رأى شجرةً نابتة بين يديه، فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغَرْسِ غُرسَتْ، وإن كانت لدواء نبتت، فبينما هو يُصلّي ذات يـ إذ رأى شجرة نابتة بين يديه، فقال لها : ما اسمك؟ قالت: الخروب. قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. قال سليمان عليه السلام: اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنَّ الجِنَّ لا يعلمون الغيب. فنحتها عصا فتوكَّاً عليها حولا مينا والجنُّ ،تعمل، فأكلتها الأرضة، فتبيَّنت الإنس أنَّ الجنَّ لو كانوا

٤٥٦

قصص الانبياء

يعلمون الغيب ما لَبِثُوا حولا في العذاب المهين».

في إسناده عطاء الخراساني وهو ضعيفٌ مُنكر الحديث، ورواه البزار،

والحاكم عن ابن عباس موقوفا وهو أصح. وروى السُّدِّيُّ عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ورضي عنهم قالوا: كان سليمان عليه الصلاة والسلام يتحرّر في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه، فدخله في المرة التي توفّي فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يصبح يوم إلا ينبت الله له شجرةً فيأتيها فيسألها: ما اسمك؟ فتقول: اسمي كذا فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت الدواء قالت: نبت الدواء كذا فيجعلها كذلك، حتى نبتت شجرة الخروبة، فسألها: ما اسمك؟ قالت: الخروبة. قال: ولأي شيء نبت؟ قالت لخراب هذا المسجد. قال سليمان عليه الصلاة والسلام: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له، ثُمَّ قام يُصَلِّي مُتَكِنا على عصاه فمات ولم تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له ويخافون أن يخرج عليهم فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان له كوى من بين يديه ومن خلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلدًا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب. فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثُمَّ رجع ولم يسمع، ثُمَّ رجع فوق البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام

قصة سليمان ال

٤٥٧

قد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أنَّ سليمان قد مات، ففتحوا عليه فأخرجوه، ووجدوا منسأته - وهي العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة. وهذا منقول عن أهل الكتاب فلا يلزم تصديقه لا سيما وفيه أشياء مُنكَرةٌ لم أذكرها؛ لأنها من قبيل الخرافة التي لا يقبلها العقل، وما أظن أنها تصح عن ابن عباس وغيره لأنهم أجل من أن ينطقوا بهذا. ويكفينا الوقوف عند ما أفادته الآية الكريمة: من أنَّ سليمان عليه السلام مات متوكنا على عصاه فلما أكلت الأرضة عصاه وخَرَّ علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب هذا ما يجب الوقوف عنده، وهو محل الفائدة التي هي : جهل الجن بالأمور الغيبية المستقبلة على خلاف ما يعتقده كثير من الناس.

بیان

أما أنه مكث ميتا سنة أو أقل فهذا لا يعنينا؛ لأنه لا فائدة فيه. نعم، يؤخذ من الآية أنَّ الأنبياء لا تبلى أجسادهم إذا ماتوا، وبهذا جاءت الأحاديث المتواترة، فهو مما دلّ عليه القرآن والسنة.

ومن أفراد القرآن أن لفظ الأرض حيث وقع فالمراد به الأرض المعروفة إلَّا في هذه الآية فالمراد به الأرضة.

العبرة من قصة سليمان عليه السلام

قال الله تعالى : لا لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَب ﴾ [يوسف:

عن

١١١]، والعبرة من قصة سليمان عليه السلام تظهر في الأمور الآتية: (1) أنَّ سليمان عليه الصلاة والسلام لم يشغله الملك الذي أعطيه . عبادة مولاه والالتجاء إليه في كل حال، ولذلك وصفه الله بأنه أوَّابٌ، أي: رَجَاعٌ إِلى الله في كلِّ شيءٍ .

٤٥٨

قصص الانبياء

(٢) أنه حين تمنّى أن يرزق أولادًا يجاهدون في سبيل الله ولم يستثن بذكر المشيئة لم يُعطيه الله ما تمناه، مع أنه أعطاه مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، تنبيها له

أن الإنسان لا ينبغي له أن يترك مشيئة الله فيما يعزم عليه من أفعال وتروك . (۳) أنه حين علم بملكة سبأ كان أول ما فعل أن دعاها إلى الإسلام، فلم يشغله الملك عن واجبه الديني، فيجب على كل داع إلى الله أن يقدم واجب

الدعوة على جميع مهامه وشؤنه.

(٤) قول الله السليمان: هَدَاعَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكَ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ ص: ٣٩]

أفاد مسألة أصولية وهي: جواز أن يقال لنبي: احكم بما تشاء فهو صواب. (ه) أنَّ ما أعطيه من الملك ونفوذ الكلمة وتسخير الريح والشياطين، وغير ذلك مما لم يكن لغيره كل هذا لم يصرف عنه ذوق كأس الموت، فحين انتهى أجله حق عليه قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: ۱۸] ، وذهب إلى ربِّه في جملة إخوانه النبيين والمرسلين، فسبحان من له

الدوام.

تمت قصة سليمان عليه الصلاة والسلام وكان الفراغ منها يوم الأربعاء،

الرابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثمان وأربعمائة وألف هجرية. والحمد لله رب العالمين.

ه - قِصَّةُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ

هاروت وماروت

٤٦١

مقدمة

اختلفت أنظار الحفاظ في هذه القِصَّة اختلافًا متباينا، فأنكرها البيهقي وابن العربي المعافري وعياض، والمنذري، وذكرها ابن الجوزي في "الموضوعات". ومال إلى إثباتها ابن جرير في "التفسير" وأكثر من تخريج طرقها وأغلبها

موقوفات.

وجاء الحافظ ابن حجر فجمع ما رواه ابن جريرٍ وضَمَّ إليه بعض الطرق الأخرى فأوصلها إلى بضعة عشر طريقًا جمعها في جزء منفرد، وقال في "القول المُسَدَّد": «وله - يعني حديث ابن عمر الذي حكم بوَضْعِهِ ابن الجوزي - طرق كثيرة جمعتها في جزءٍ مُفرَدٌ يكاد الواقف عليه أن يقطع بوقوع هذه القصة، لكثرة الطرق الواردة فيها وقوة مخارج أكثرها والله أعلم». أهـ وتتبع الحافظ السيوطي طرقها في التفسير المسند وفي "الدر المنثور"

فأوصلها إلى نيف وعشرين طريقًا أغلبها ضعيف أو واه. وقد تتبعتُ طُرُقَها المشار إليها وأعملت فيها فكري، فوجدتها قصَّةً شاذة منكرة المعنى تُخالف القرآن والسُّنَّة وقواعد العلم، هذا إلى تضارب ألفاظها ورواياتها، وليس فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحیح سالم من عِلَّةٍ.

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسُّدِّي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقَصَّها خَلْقٌ مِن

٤٦٢

قصص الانبياء

المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل؛ إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال» . اهـ

وأنا مورد بحول الله بعض طرق القصة - وهي أجمع الطرق وأوسعها - ثُمَّ أبين ما فيها من شذوذ ونَكَارَةٍ ومخالفة وتناقض، . سائلا من الله التوفيق فيما

قصدت إليه.

1 - عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنَّ آدمَ عليه السلام لما أَهْبَطَهُ اللهُ إلى الأرضِ قالت الملائكةُ: أي ربنا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ

لَكَ قال: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٣٠].

قالوا: رَبَّنا نحنُ أَطْوَعُ لَكَ مِن بني آدَمَ قالَ اللهُ تعالى للملائكة: هَلُمُوا مَلَكَيْنِ مِن الملائكة، حتَّى يُهْبَطَ بهما إلى الأرض، فتَنْظُرَ كيف يَعْمَلَان. قالوا: رَبَّنَا، هَارُوتُ وَمَارُوتُ. فَأُهْبِطَا إلى الأرضِ، ومُنلَتْ لهما الزُّهَرَةُ امرأةٌ مِن أحسن البَشَرِ، فجاءَتْهما، فسألاها نَفْسَها، فقالت: لا والله، حتَّى تَكَلَّها بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا: والله لا تُشْرِكُ بالله أبدًا. فَذَهَبَتْ عنها ثُمَّ رَجَعَتْ بصَبِيٌّ تَحْمِلُهُ، فسألاها نَفْسَها فقالت: لا والله، حتَّى تَقْتُلا هذا الصبي، فقالا: والله لا نَقْتُلُهُ أبدًا. فذهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ بِقَدَحٍ خَيْرٍ تَحْمِلُهُ، فسألاها نَفْسَها،

هاروت وماروت

٤٦