ويحتوي على:
المجلد التاسع : فَضَائِلُ النبي :
۱ - دَلَالَةُ القُرْآنِ المُبِين على أنَّ النَّبِيَّ وَ أَفْضَلُ العَالَمين. ٢ - الأحاديث المنتقاة في فضائل رسول الله الا الي .
- السَّيْفُ البَتَّارِ مِن سَبَّ النَّبِيَّ المُختار .
٤ - النَّفْحَةُ الإلهية في الصَّلاةِ على خَيْرِ البَرِيَّة .
ه - نَقْدُ قَصِيدَةِ البُرْدَةِ.
٦ - إرشاد الطالبِ النَّجِيبِ إلي ما في المولِدِ النَّبوَيِّ مِن الأكاذيب.
۱ - فَضَائِلُ النبي صلى الله عليه وسلم فِي القُرْآن
أو
دَلَالَةُ القُرْآنِ المبين
على أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين
هذا كِتَابُ دَلَالَة القُرْآنِ أَوْضَحْتُ فِيهِ حَقَائِقَ التَّبْيَانِ وجَعَلْتُهُ وَضْعًا رَصِينًا شُيَّدَتْ صَفَحاتُهُ بِنَوَاصِعِ البُرْهانِ يُنْبِيكَ عن قَدْرِ النَّبيِّ وفَضْلِهِ بسَواطِع جَاءَتْ مِنَ الفُرْقَانِ فاق "السفا" و"مَوَاهِبًا" فِي بَحْثِهِ وأجادَ في سَبْكِ وحُسْنِ بَيَانِ والله أرجو سائلا بكتابه ونبيه أَجْرًا بلا حُسْبَانِ
دلالة القرآن المبين
خطبة الكتاب
۱۱
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا، وجعله داعيا إليه بإذنه وسراجًا مُنيرًا، اختصَّه بالقرآن المتضمن لقواطع الحُجَّة ونواصع البرهان والمشتمل على حقائق العلوم ودقائق العرفان، وميزه بجوامع الكلم وفصاحة اللسان، وفضَّله على جميع مخلوقاته من ملك وإنس وجان، خُتِمَت به الرِّسالة، فسَلَّم من الجهالة، وهدى من الضلالة، وبصر من العماية وأرشد من الغَوَايَةِ، فتح الله به أعينًا عُمْيًا وقُلُوبًا غُلْفًا وَآذَانًا صُمَّا، فرض على الناس طاعته، وأوجب عليهم محبته، شرح صدره ورفع ذِكْرَهُ وأعلى قدرَه وخلد شريعته وأبقى على وجه الزمان معجزته، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وزاده رفعة ومكانةً لديه، ورضي عن آله الأكرمين وصحابته ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا كتاب أردتُ أن أذكر فيه الآيات التي تُفيد عِظَم قَدر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وعُلوّ رُتبته بصريح العبارة أو بطريق الإشارة، أو
.
التضمن أو الموازنة، أو غيرها من الطرق التي تبينها فيما بعد بحول الله تعالى.
وقد رأيتُ في هذا الموضوع كتاب "المدحة الكبرى من الكلام القديم
11
فوجدته قد أجاد على توسع كبير في معظمه وإعواز كثير في مواضع منه، وطالما تشوفتُ إلى تأليف كتاب من هذا النوع أخدم به الجناب النبوي، ويكون وسيلة لي عند الله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه، ومن الخل الوفي، حتى وفقني الله - وله المنة - إلى إنشاء هذا الكتاب الذي أرجو - إن تَمَّ- أن يكون وافيا في بابه، جامعا الخلاصة البحث ولُبابه، على إعواز في المواد وعدم الاستعداد، إذ لم يكن
۱۲
"
فضائل النبي : من (۱) مع تكدر
لدي حين كتابته سوى حاشية الصاوي على تفسير الجلالين"
كادت
الخاطر وتبلبل الفكر بهذه المحنة التي ضاقت واشتدَّت وطالت حتى تقضي على كل أمل في النجاة منها لولا ثقتي برحمة الله وقرب فرجه، مع إيماني
بصدق وعده حيث يقول: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِيرًا ﴾ [الشرح : ٥ - ٦] فلابد من يسر بعد هذا العسر ومن فرج يعقب هذه الشدة. والله المسئول أن يقبل هذا ويجعله سببًا في التعجيل بالفرج والتيسير، إنَّه
قريب مجيب وهو على ما يشاء قدير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين، هذه تعليقات على كتاب "فضائل النبي في القرآن" تُتمّم مباحثه، وتشرح بعض ما غمض
فيه، وهي وسط بين الإيجاز والإطناب، وفقنا الله فيها لإصابة الصواب. (۱) ثُمَّ تيسر لي بعد تسويده الاطلاع على تفسيري "الكشاف" و"البيضاوي" فنقلت منهما أثناء تبييضه ما يراه القارئ في مواضعه منه.
دلالة القرآن المبين
مقدمة
۱۳
تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بإتيانه القرآن العظيم تشريفا يفوق ما أوتي النبيون من كتب ومعجزات، إذ كان ما أوتوه عليهم السلام لا يعدو أن يكون خارقا من الخوارق ينتهي بانتهاء زمانه، أو تشريعات ووصايا تختص بقبيل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم.
أما القرآن، فهو معجزة الدَّهْرِ، وكتاب الزمن، ودستور الحياة في شتّى نواحيها، يُعلم الإنسانية ويأخذ بيدها إلى حيث رُقيها وسعادتها، صحح ما أخطأ فيه كبار الفلاسفة والمفكرين من الحقائق الكونية، ويُقوم ما انحرف عنه زعماء المتدينين من العقائد الدينية.
يساير التقدم العلمي، ويدعو إلى تحرير الفكر والعقل من أغلال التقليد وأوهام الجمود، أسَّسَ من النظم والقوانين ما لم يصل إليه فقهاء التشريع في القديم والحديث، وسَنَّ مناهج للأخلاق وأدب السلوك قصرت عنها أنظار علماء الاجتماع في أرقى الأمم حضارةً في شرق الأرض وغربها، يضاف إلى هذا فصاحة أسلوبه وسلاسة ألفاظه وتراكيبه وروعة تصويره، وأخذه بمجامع القلوب وامتلاكه للنواصي والألباب.
وإنك لتجد البون شاسعًا بينه وبين سائر الكتب (۱) المنزلة، القديم منها
(۱) وهي غير معجزة كما صرح به الزمخشري في "الكشاف"، إذ الإعجاز خاص بالقرآن من بين سائر الكتب السماوية، على أن الإنجيل عبارة عن مواعظ ووصايا ألقاها عيسى عليه السلام على أتباعه عقب نزولها عليه من غير أن تدون في كتاب،
١٤
فضائل النبي
والجديد، فإذا وازنت التوراة - وهي كتاب العهد القديم- بأسلوبها وأحكامها وتعاليمها ووصاياها وما فيها من قصص وتواريخ بسورة من سور القرآن أدركت الفارق الكبير بين الكتابين، وكأنَّك بهذه الموازنة تقيس نور شهاب من تلك الشُّهب التي تعترض في الأفق لامعةً ثُمَّ تنطفى، لا يكاد يشعر بها أحدٌ إِلَّا ، يرصد حركاتها لغرض من الأغراض، بنور الشمس الذي يُضيء الدنيا، ويبعث الحرارة في الكون، ويسري مع شعاعه الحياة والنضج، ويذهب ظلام الليل وما حواه من ظلمات وأوهام.
من
كان
ومن هنا قال الله تعالى لنبيه، يمتن عليه : وَلَقَدْ أَنَيْنَكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَ ان العظيم [الحجر: ۸۷] أي: خصصناك بهذا الكتاب وشرفناك به ) وذخرناه لك، ولم تنزله على إبراهيم وموسى وعيسى؛ لأنَّهم - وإن كانوا رسلا مكرمين - لم يصلوا إلى رتبتك، ولا حاموا حول منزلتك، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [العنكبوت: ٥١]. قال الزمخشري: «أو لم يكفهم آيةٌ مُغْنيةٌ عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين، هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان،
فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكانٍ دون مكان، إنَّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان
والأناجيل الموجودة عند المسيحيين من تأليف بعض الحواريين، كتبوا فيها سيرة عيسى بعد رفعه بمدةٍ طويلة، ولهذا يوجد بينها تناقض واختلاف.
دلالة القرآن المبين
إلى آخر الدَّهْر لَرَحْمَة النعمة عظيمة لا تشكر ()، وتذكرة لقوم يؤمنون». اهـ فإذا نظرنا إلى ما في القرآن من دلائل خاصَّةٍ تقتضي عُلو قدره عليه الصلاة
والسلام مضافًا إلى ما سبق انتهينا إلى نتيجة ذات وجهين متلازمين: أحدهما: أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل المخلوقات يقينا لا يدخله احتمال، إذ ليس من المعقول أن ينزل ذلك الكتاب العظيم على شخص يكون في عالم الوجود من هو أفضل منه.
ثانيهما: القطع بخطأ من فضَّل عليه الملائكة، وهو ابن حزم، أو فضَّل عليه جبريل عليه السّلام، وهو الزمخشري ؛ لأنَّ القرآن بجملته وتفاصيله تشريفا لم ينله ملك ولا رسول، ولأنَّ في آياته وبعض سوره ما يُفيد تفرد النبي صلى الله
عليه وآله وسلّم بمناقب لم يعطها جبريل عليه السلام.
وإيضاح هذه النتيجة بوجهيها هو مقصدنا من هذا المؤلف الذي اعتمدنا فيه على فضل الله، وعلى ما يفتح به في فهم آيات كتابه، وهو مما منحناه في هذه المحنة التي نرجو من الله تفريجها عاجلًا.
بقي وجة ثالث، يلحق بالوجهين السابقين وهو: أنَّ المفاضلة بين بقية الأنبياء والملائكة ظنية؛ لأنها لا تستند لدليل قاطع، فنحن نعتقد أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة ولكن لا نقطع بذلك ولا نجزم به، كما لا نقطع بخطأ من فضَّل عليهم الملائكة . وهم ابن والمعتزلة وكثير من الأشعرية، منهم الإمام الرازي في بعض كتبه؛ لأنَّ بعض الأدلة يقتضي ذلك
حزم
(۱) أي: لا يُقدر على شكرها لعِظم النعمة بها عظما يجلُّ عن الشكر.
17
فضائل النبي و
مثل قوله تعالى: لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَيْكَةُ المقربونَ ﴾ [النساء: ۱۷]، فهذه الآية تفيد أفضلية الملائكة على عيسى عليهم السَّلام، وإن أجاب عنها علماء الأشعريَّة (1) .
وأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السَّلام يقتضي أفضليته عليهم كما
استنبطه بعض علماء المالكيَّة حسبما بيَّنته في "قصة آدم عليه السَّلام". فالقطع بتفضيل أحد الطرفين على الآخر لا يمكن، وإنَّما هو ظن غالب يتجه إلى هذا الجانب أو ذاك، وقد نصَّ الأشعرية وغيرهم على هذا، لكن لم يُصرحوا بأنَّ أفضلية النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قطعيةٌ فيما أعلم، ولعلهم لم يتفطنوا لما أثبتناه في هذا الكتاب، إلَّا أنَّ الإمام الرازي لما حكى الخلاف في المفاضلة ورجح تفضيل الملائكة استثنى النبي عليه الصَّلاة والسَّلام من الخلاف، وقال: إنَّه أفضل من الملائكة وغيرهم بلا نزاع، فقد يُفهم منه أنَّ أفضليته عليه الصلاة والسَّلام قطعية، وفي "الجوهرة" : وأَفْضَلُ الخلق على الإطلاقِ نَبِيُّنا فمِلْ عَنِ الشَّقَاقِ هذا، ومن الشذوذ بمكان ما نقله العارف الشعراني في «الباب الرابع عشر من "المنن الكبرى" حيث قال: «وقع في سنة إحدى وأربعين وتسعمائة أن شخصا زعم أنَّ إبراهيم أفضل من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مُستندًا
(۱) والذي أعتقده في خاصَّة نَفْسِي - وهو الصواب إن شاء الله - أنَّ الملائكة أفضل من الأنبياء غير إبراهيم وموسى عليهم السلام، أما الأول: فإنَّ الله تعالى اختصه بالخلة،
وأما الثاني : فإن الله تعالى كلمه تكليا، وبذلك كانا أفضل من الملائكة.
۱۷
دلالة القرآن المبين إلى تعليمه عليه الصلاة والسَّلام للصحابة الصَّلاة الإبراهيمية حين سألوه: كيف نُصَلِّي عليك؟ بناء على قاعدة أهل المعاني من أنَّ المشبه به أعلى من المشبه».
ثُمَّ قال بعد كلام في الردّ عليه وقد انتصر علماء مصر، وصنفوا في الردّ
-
على هذا الشخص بتقدير ثبوت ذلك عنه - كسيدي محمد البكري، وسيدي محمد الرملي، وناصر الدين الطبلاوي، والشيخ نور الدين الطندتائي، وقُرِئَت تلك المصنفات على رؤوس الأشهاد بحضرة خلائق لا يُحصون».
قلت: يظهر أنَّ ذلك الشَّخص كان ضعيفًا في علم المعاني، إذ من المقرر فيه أن الغرض من التشبيه إلحاق الأدنى بالأعلى نحو زيد كالبدر، أو إلحاق متأخر
بسابق في معنى من المعاني من غير ملاحظة تفاوت بينهما فيه.
والصَّلاة الإبراهيمية من هذا القبيل، إذ أنَّ معناها: اللهم صل على محمدٍ كما حصلت منك الصَّلاة على إبراهيم، وليس هنا أدون ولا أعلى؛ لأنَّ الصَّلاة على إبراهيم منشؤها نبوته لا أفضليته.
ونظير هذا قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [النور: 00] شبه الله في هذه الآية استخلاف الأُمَّة المحمديَّة باستخلاف اليهود قبلهم من غير نظر إلى التفاوت بين الاستخلافين، مع أنَّ استخلاف الأُمَّة المحمدية وهي المُشبَّه، أعم وأكمل من استخلاف اليهود المشبه وهذا واضح لا خفاء فيه، فاستشكال التشبيه في الصَّلاة الإبراهيمية، أو أخذ أفضلية إبراهيم منه ناشئ عن ضَعْفٍ في علم المعاني أو نسيان لقواعده.
بهم
۱۸
فضائل النبي
وحكى الشعراني أيضًا في "طبقات الأولياء" عن العارف أبي المواهب الشاذلي أنه قال: وقع بيني وبين شخص من الجامع الأزهر مجادلة في قول صاحب "البردة" :
فمَبْلَعُ العِلْمِ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ وأَنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ الله كُلِّهِمِ وقال: ليس له دليل على ذلك. فقلت له: قد انعقد الإجماع على ذلك، فلم
يرجع، فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما - جالسًا عند منبر الجامع الأزهر وقال لي مرحبًا بحبيبي، ثُمَّ قال لأصحابه: أتدرون ما حدث اليوم؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: إنَّ فلانا التعيس يعتقد أنَّ الملائكة أفضل مِنِّي، فقالوا بأجمعهم: ما على وجه الأرض أفضل منك، فقال لهم: فما بال فلان التعيس يعتقد أن الإجماع لم يقع على
تفضيلي؟ أما علم أنَّ مخالفة المعتزلة لأهل السنة لا تقدح في الإجماع ؟!». قلت: وقع من بعض المتحذلقين أقبح من هذا فقد رأى تأليفي "الأحاديث المنتقاة في فضائل سيدنا رسول الله " ، وهو كتاب انتقيته من الأحاديث الصحيحة، فاستعاره مِنّي، ولما ردَّه بعد قراءته قال لي: أنت إمام في تأييد الخرافات. فاعتبر الأحاديث الصحيحة الثابتة في فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذكر بعض معجزاته خرافات.
وهذا مما دعاني إلى التعجيل بتأليف هذا الكتاب الذي سميته "دلالة القرآن المبين على أنَّ النبيَّ أفضل العالمين"، وسيجد القارئ فيه ما يجدد إيمانه ويقوي
عقيدته، ويُفحم به مناظره إن كان لا يُقنعه الإجماع ولا يلتزم السُّنَّة.
ويجب أن أُشير إلى أمرين هامين:
دلالة القرآن المبين
۱۹
الأول: قد يظنُّ بعض الناس أنَّ أفضلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست ذات أهمية في الدين، وهذا خطأ كبير ممن يظنُّه، بل لها أهميَّةٌ كُبَرَى؛ لأنَّ تصحيح العقيدة يتوقف عليها، لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه الجهل بالدين أصوله وفروعه.
ولقد سئل بعض أهل العلم مرة: ما الدليل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أفضل من نوح عليه السّلام؟ مع أن نوحا لبث يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما بنص القرآن فلم يُسْعِفه علمه بدليل.
وقال لي بعض الصحفيين مرة: أنا أعتقد أنَّ . عيسى أفضل من النبي عليهما الصَّلاة والسلام، قلت: لم ذلك؟ قال: لأنَّ عيسى ولد من غير أب، فلم يكن من النطفة المستقذرة، قلت له: فعلى هذا تكون ناقة صالح عليه السلام أفضل من عيسى
أيضًا؛ لأنها خرجت من صخرة، ولم تخرج من الفرج الذي هو مخرج البول؟! ولو كان التفضيل منوطًاً بهذا، كان آدم عليه السَّلام أفضل الرُّسُل على الإطلاق؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم، فلم تقذفه نطفة ولا ضمَّهُ رَحِمٌ،
ولأنه عاش ألف سنة كما في "الصحيح"، دعا فيها أولاده إلى الله تعالى. ولكن التفضيل في الحقيقة منوط بخصال الكمال التي يتحلى بها النبي مع المزايا التي يهبها الله تعالى له على هذا الأساس يتفاضل الرسل والأنبياء وغيرهم،
وهذا الأساس نفسه هو مبنى أفضلية النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
أما خصال الكمال التي كان يتحلى بها؛ فينبئ عنها قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: ٤] ولم يُثنِ بهذا على نبي ولا رسول، فأفاد أنه متفرّد
بهذا الخلق.
فضائل النبي
وسئلت عائشة رضي الله عنها: كيف كان خُلق رسول الله صلَّى الله عليه
وآله وسلَّم؟ فقالت: كان خُلُقه القرآن.
ومعنى هذا الجواب الوجيز الجامع: أنَّ ما في القرآن الكريم من أخلاق وآداب وفضائل ومكارم يتمثل في شخصه عليه الصلاة والسَّلام، ولذا قال البوصيري رحمه الله تعالى : فاقَ النَّبِيِّينَ فِي خَلْقِ وَفِي خُلُقٍ ولا يُدانُوهُ في عِلْمٍ ولا كَرَمِ وأما المزايا التي وهبه الله إياها فكثيرة، مثل: دفاع الله عنه، وندائه بوصف النبوة والرسالة، ونهي المؤمنين أن ينادوه باسمه المجرد، وتجنيد الملائكة للقتال معه، وإنذارهم على لسانه وعموم بعثته وختمه للنبوة، وإقسام الله بحياته، وغير ذلك مما يتحدث عنه هذا الكتاب. ولا شك أنَّ إثبات هذه المزايا وتلك الأخلاق له صلَّى الله عليه وآله وسلّم و اعتقاد اتصافه بها واجب شرعًا تتوقف عليه صحة عقيدة المسلم كما صرح به العلماء؛ لأنَّ كتاب الله تحدَّث بها في صراحة ووضوح، بل السنة المتواترة والإجماع عليها من الأمة : فرقها، وهذا معنى أفضليته عليه الصلاة بجميع والسلام؛ لأننا نعلم أنه لا يوجد نبي ولا رسول ولا مَلَكُ جمع هذه الصفات كلها غيره، وإذا فلا يوجد من يساويه؛ فضلا عن أن يفوقه.
ومن هنا قطعنا بأفضليته عليه الصَّلاة والسَّلام، كما قطعنا بخطأ من فضل الملائكة أو الرُّسل عليه، وهو أعني من فضَّل مَلَكًا أو رسولًا عليه - إِمَّا متناقض لاعتقاده ثبوت معنى الأفضلية له صلَّى الله عليه وآله وسلّم مع إثبات
دلالة القرآن المبين
۲۱
لفظها لغيره، وإمَّا غافل عن أنَّ ثبوت المعنى لشيء يلزمه ثبوت اللفظ لذلك
الشَّيء، ضرورة أنَّ اللفظ لازم للمعنى وتابع له.
الثاني: قد يقال: جاءت أحاديث تفيد عدم أفضلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام - لمن قال له: يا خير البرية-: «ذاك إبراهيم» (۱) . وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا تُفَضِّلُوني على يونس». وقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يَضعُقُ الناسُ فأكون أَوَّلَ مَن يَفِيقُ فإذا موسی باطِس بالعَرْشِ، فلا أدري أفاقَ قَبْلي أم جُوزي بصَعْقَتِهِ يومَ الطُّورِ». وقوله عليه الصلاة والسَّلام - من حديث: «فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِالله عَليَّ». يعني جبريل عليه السَّلام. ولنا في الجواب عن هذه الأحاديث مسلكان: الأول: الترجيح، وذلك أنَّ الأحاديث المذكورة أخبار آحاد، والأفضلية
ثابتة بالقرآن والسنة المتواترة ،والإجماع فتكون راجحةً بـ حة بلا نزاع.
.
الثاني: الجمع، وهو من وجهين: أحدهما : أن تلك الأحاديث خرجت مخرج التواضع مع الإشارة إلى حفظ رتبة يونس عليه السّلام، حتى لا يتسرب إلى النفوس ما يغض من مقامه الكريم بالنسبة لما حصل له على أن حديث الصَّعق لا علاقة له بالأفضلية؛ لأن موسى عليه السَّلام إن كان لا يُصعق يوم القيامة مجازاة له بصعقة يوم الطور فالأمر واضح، وإن كان يصعق ويفيق أول واحد فتلك ميزة حقا، يقابلها من جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم مزايا: أهمها
(۱) هذا الحديث يفيد أنه أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ يليه موسى عليهما السلام.
۲۲
فضائل النبي
الشَّفاعة العظمى التي يتأخَّر عنها موسى نَفْسُه، ويتقدَّم لها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، تتلوها شفاعات منه مقبولة حتى يقول له مالك -خازن النار -: ما تركتَ لغَضَبِ رَبَّكَ فِي أُمَّتِكَ مِن بَقَيَّةِ»، وحتى يناديه ربُّه: «أقد رضيت يا محمد؟» فيقول: «أي ربِّ رَضِيتُ»، ثُمَّ تقدمه لباب الجنة يستفتحها، فيقول له خازنها: «بِكَ أُمِرْتُ أَلَّا أَفْتَحَ لَأَحَدٍ قبلك».
ثانيهما: أنَّ تلك الأحاديث صدرت من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يُعلمه الله بأفضليته عنده.
بيان ذلك: أنَّ الله تعالى والى إفضاله على نبيه وقتا بعد وقت، ولحظة بعد لحظة، فكان أوّل ما قال له في الإنذار وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: ٢١٤]، وَلِتُنذِرَامَ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [الأنعام: ٩٢]، ثم وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: ۲۸]، ثُمَّ صَرَفَ إِليه الجنَّ وبعثه إليهم أيضًا، ثُمَّ عمَّم بعثته فقال : تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نذيرا ﴾ [الفرقان: ١ ، ثُمَّ أسرى به وأراه من آياته ما زاده رفعةً وعُلُوًّا، ثُمَّ لما أمره بالجهاد أمر الملائكة بأن يجاهدوا معه ويكونوا من جنده.
وهكذا كلَّما مرَّت على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لحظةٌ زاد في نفسه فضلا ونال من مولاه موهبة، وكلما نزلت عليه آية أو سورة ازداد بها علما وقُربا،
فكان علمه بأفضليته على المخلوقات متأخرًا عن صدور تلك الأحاديث منه. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلَّم بعدها: «أنا سيد ولد آدم». وقال أيضا: رأيتُ ربي - يعني في المنام - في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلتُ: لبيك ربِّ
دلالة القرآن المبين
۲۳
وسَعْدَيْكَ، قال: فيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الْأَعْلَى؟ قلتُ: لَا أَدري يَا رَبِّ، فَوَضَعَ يَدَهُ بين كَتِفَي حتَّى وجدتُ بَرْدَها في صَدْري، فتجلى لي كلُّ شيءٍ وعرفت..... الحديث، وهو صريح في أنَّ الله تجلى عليه بصفة العلم، فكشف له عن كل
معلوم، وبناء عليه يكون أعلم من جبريل عليه السلام (۱).
ولما شَمَسَ البراق حين أراد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ركوبه ليلة الإسراء قال له جبريل: «أبمحمد تفعل هذا؟! فوالله ما ركبك أحد أكرم على الله
منه»، فارفض البراق عرقا.
وجبريل ركب البراق مع الأنبياء، فهذه شهادة منه بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أفضل منه ومن الأنبياء عليهم السلام.
(تنبيه): حديث: فعرفت فضل علمه بالله علي». رواه البزار من حديث أنس، وفي محفوظي أن إسناده ليس على شرط الصحيح، وبقية الأحاديث المذكورة كلها صحيحة، وبالله التوفيق.
(۱) هذا الحديث يرد ما أفاده كلام الغزالي في أواخر كتاب التفكر من "الإحياء" من أعلمية الملائكة المقربين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال - أثناء بيان تفضيل المخلوقات في العلم : وكل ما عرفناه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه جملة العلماء والأولياء، وما عرفوه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام، وما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما عرفه الأنبياء كلُّهم قليل بالإضافة إلى ما عرفه الملائكة المقربون كإسرافيل وجبريل وغيرهم . اهـ، وهذا خطأ لا ندري كيف وقع فيه؟! وقد رد عليه القطب الكبير عبد العزيز الدباغ في كتاب "الإبريز".
٢٤
فضائل النبي
١ سورة البقرة )
قال الله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى بِالْمُتَّقِينَ ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوَةَ وَمَمَارَ نَفهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [البقرة: ٢ - ٤] الآية، جعل الله الإيمان بما أنزل إليه شرطًا في حصول التقوى، وركنا للهداية والفلاح، وقدمه على الإيمان بما قبله من الكتب إشعارًا بأنَّ الإيمان به أصل للإيمان بها.
وقال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ عَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ يعنونهم، قال الله تعالى: ألا
إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ١٣].
دافع الله عن صحابة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام بهذه الجملة المؤكدة بعدة تأكيدات، ولم يفعل ذلك مع أصحاب نبي قبله.
انظر إلى قوم نوح عليه السَّلام لما قالوا له: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ يحتقرون أصحابه المؤمنين، أجابهم نوحٌ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) إن حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾ [الشعراء: ۱۱۱ - ۱۱۳ تُدرِك من هذا أنَّ الله تعالى ما دافع عن أصحاب نبيه إلا لكرامته عليه.
وقال جل شأنه: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ايَتِ بَيِّنَتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الفَسِقُونَ ﴾ [البقرة: ۹۹ ] نزلت هذه الآية ردًّا لقول عبدالله بن صوريا - أحد
أحبار اليهود - للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «ما جئتنا بشيء».
دلالة القرآن المبين
۲۵
ونذكر لهذه المناسبة أنَّ الله تعالى تولى الدفاع عن نبيه فيما وُجّه إليه مِن تُهم، فما من تهمة أو نقيصة رماه بها المشركون أو اليهود أو النصارى إلا ردَّها الله عليهم أبلغ رد، بالتأكيد تارةً وبالقسم أخرى، وبغير ذلك مما يقتضيه فن البلاغة كما نبينه في مواضعه إن شاء الله تعالى. وفي هذه الآية عِدَّة مؤكّدات: اللام الموطئة للقسم، والتقدير: «والله لقد أنزلنا»، و«قد» التي تفيد التحقيق، ووصف «آيات» بـ«بينات» إشارة إلى أنَّه لا يصح إنكارها لوضوحها ، وجملة وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ) التي تفيد حصر الكفر بها في اليهود مع وصفهم بالفسق، وهذا مما خَصَّ الله به رسوله عليه الصَّلاة والسَّلام وفضَّله به على سائر ،رسله، الذين تركت لهم مهمة الدفاع عن أنفسهم فيهما اتهموا به.
فقال نوح يدافع عن نفسه: قَالَ يَقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِي رَسُولُ من رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: ٦١].
وقال :هودٌ: قَالَ يَنقَومِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[الأعراف: ٦٧].
وقال موسى - يردُّ على فرعون اتهامه بالسحر - : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَارَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَفِرْعَوْنُ مَنْبُورًا ﴾ [الإسراء: ۱۰۲]. وهكذا بقية الأنبياء عليهم السَّلام، فاحفظ هذه القاعدة التي يتبيَّن بها علو
رتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قلت في الاستغاثة مشيرًا إليها: نَبِيُّ تَوَلَّى اللهُ عَنْهُ دِفاعَهُ وخَيَّبَ قَوْمًا قَدْ رَمَوْهُ بِجِنَّةِ
٢٦
فضائل النبي
وقال الله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا أَنْظُرْنَا
وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذاب أليم ﴾ [البقرة: ١٠٤]. هذه الآية كسابقتها، دافع الله بها عن نبيه، ذلك أنَّ الصحابة أو الأنصار منهم كانوا في مخاطبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون له: «راعنا»، أي: أصغ إلينا وأرعنا سمعك، فقالها اليهود وأرادوا بها: شتمه بالرعونة، وهي الحمق، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة وأمرهم باستعمال كلمة «انظرنا» التي لا تحتمل تورية ولا غشًا، والقصد بهذا حماية مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يمس بسوء ولو بطريق التورية والإيهام.
.
وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ مشركوا مكة لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أنك رسوله أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ على رسالتك، قال تعالى يسلي رسوله: كذلك قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم من كفَّار الأمم السابقة لأنبيائهم مثل قَوْلِهِ من التعنت وطلب الآيات تشبَهَتْ قُلُوبُهُم في الكفر والعناد
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: ۱۱۸ ].
ثُمَّ قال تعالى مُؤكّدًا إثبات رسالة نبيه: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
وَلَا تُسْتَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ [البقرة: ١١٩] لم لم يؤمنوا ؟
فإنما عليك البلاغ، وقد بلغتهم ما كلفناك به وعلينا حسابهم، وفي قراءة
بجزم فعل «تُسأل» المبني للمعلوم» بـ «لا الناهية» ومعناها: لا تسأل عن أصحاب الجحيم ما لهم عندنا من العذاب، فإنَّ عذابهم عندنا شديد لا
.
دلالة القرآن المبين
۲۷
يوصف، أو: لا تسأل عن أصحاب الجحيم مستشفعًا لهم؛ لأنَّ العذاب حق
عليهم بكفرهم. وجاء في حديث أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ألا ليتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أَبَوَاي؟»، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ نهاه عن السؤال عنها؛ لأنّهما من أهل النَّار.
وهذا الحديث مرسل ضعيفٌ، وسياق الآية يؤكد ضعفه وسقوطه، والأبوان الشريفان من أهل الفترة وهم ناجون كما بينته في "خواطر دينية". وقال تعالى يحكي دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان البيت الحرام : ربَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: ١٢٩]. فأجاب الله دعاءهما بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَلَا إِنِّي عبد الله وخاتَمُ النبيين وإِنَّ آدَمَ مُنجَدِلٌ فِي حِينَتِهِ، وسأُخْبِركُمْ عن ذلك: دَعْوَةُ أبي إبراهيم، وبشارة عيسى...» الحديث، وهو
الخامس من "الأحاديث المنتقاة".
وهذه الآيات الكريمة تفيد علم إبراهيم وإسماعيل بنبينا وبصفاته؛ لأنَّ الله تعالى أخبرهما به، وأخذ عليهما الميثاق كما أخذه على بقيَّة الأنبياء، وكان دعاؤهما بشاره به سجلاها في صورة توجه إلى الله وتضرع إليه بتحقيق وعده، ولا يخفى
ما في هذا من التنويه بعلو مقامه عليه الصَّلاة والسَّلام.
۲۸
فضائل النبي :
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا خيارًا عدولا ليكونوا يوم القيامة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الأمم السابقة أنَّ رسلهم بلغتهم الدعوة
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة ١٤٣ ] أنَّه بلغكم.
خص الله الأمة المحمدية بهذه الفضيلة إكراما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم. قال كعب: «أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يُعطَهُنَّ إِلَّا نبي مرسل، كان يقول لكل نبي: «أنت شاهدي على خلقي»، وقال لهذه الأمة: لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس } [البقرة: ١٤٣]، وكان يقول: «ما عليك من حرج، وقال لنا: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَج ﴾ [المائدة: ٦]، وكان يقول: «ادعني
أستجب لك»، وقال لنا: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر: ٦٠]. كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يتطلَّع إلى السماء ينتظر الوحي متمنياً تحويل القبلة إلى الكعبة؛ لأنّها قبلة أبيه إبراهيم، ولأنَّ التوجه إليها أدعى لإسلام العرب، فأنزل الله عليه وقد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: ١٤٤] الآيات، فأعطاه ما كان يتمناه من غير أن يسأله إيَّاه، وهذا من كمال عنايته به وشدة رعايته له، ولم يحظ رسول قبله بمثل هذه العناية. ثُمَّ أخبر تعالى أنَّ نبيَّه معروفٌ لأهل الكتاب بصفاته ومميزاته معرفة ليس فيها شك ولا ارتيابُ الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ محَمَّدًا كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَ هُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ نعت محمد في كتبهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾
دلالة القرآن المبين
أنَّ الحق ما كتموه، حملهم على كتمانه: الحقد والحسد.
۲۹
ثُمَّ قال تعالى مُمتناً على المؤمنين بإرسال نبيه: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا
منكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ١٥۱] وفي هذا تنوية كبير بقدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. ثُم قال تعالى: تِلْكَ وَايَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ بالصدق وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: ٢٥٢] هذه الآية رد لقول الكفار له: لست رسلًا، ولذا أكدت بثلاثة مُؤكّدات: «إن ، واللام ، وإيرادها جملة إسمية» وهي تدل على الثبوث والاستقرار، أي: إنَّ كونك من المرسلين ثابت مستقر، وهذا غاية ما يطلب في ردّ قول المنكرين لرسالته عليه الصَّلاة والسَّلام، لكنه تعالى زاد على هذا فأثبت أفضليته على المرسلين فقال سبحانه: تِلكَ الرُّسُلُ الإشارة إلى الرسل المذكورين من أول السورة وهم: نبينا المبدوء به في مفتتحها وآدم وإبراهيم وإسماعيل وموسى وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وعيسى عليهم ا والسَّلام فَضَّلْنَا بَعضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بتخصيصه بمزيَّة ليست لغيره مِنْهُم مَّن كلم الله كموسى بنص القرآن وآدم بظاهره وصريح الحديث، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات (۱) [البقرة: ٢٥٣] هو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، كنَّى
الصَّلاة
عنه
(۱) قال الزمخشري: «والظاهر أنه أراد محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؛ لأنه هو المفضّل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحدٌ من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر، ولو لم يؤتَ إِلَّا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفًا على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة
۳۰
فضائل النبي :
ب بعضهم تفخيا لشأنه، وإشارة إلى أنه المعروف عند الإبهام لا يُقصد غيره ولا يشار إلى سواه، ونگر دَرَجَنت إشارة إلى كثرة ما أعطي منها كإتيانه القرآن، وتفضيل أُمَّته، وجعل الأرض لهم مسجدا وطهورًا، ويسر أحكام دينه وخلوها من الحرج، وإرساله رحمة للعالمين، إلى غير ذلك مما لم يعط لنبي ولا
رسول. وعبر بـ رَفَعَ» إشارة إلى رفعة رتبته على بقية الرسل.
وقال سبحانه: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبوا إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: ۲۷۸ - ۲۷۹] يؤخذ من هذه الآية أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حي في قبره الشريف يُحارِبُ المرابين بالدعاء عليهم أو بما يناسب حياته البَرْزَخِيَّة، وهذا إلى محاربته لهم في حياته الدنيوية، وكما أنَّ الله تعالى حاربهم بمحق مكاسبهم وإذهاب بركتها، فإن رسوله حاربهم بالدعاء عليهم بذلك.
الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس، وتجويز أن يُراد به إبراهيم ومحمد وغيرهما من أولي العزم من الرسل بعيد؛ لأنَّ أحدا منهم لريؤت مثل ما أوتي نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم، ألا ترى أَنَّ الآية خَصَّت الكليم وعيسى بالذكر لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة؟». قال الزمخشري: «فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خُصًا بالذكر في باب التفضيل، وهذا دليل بين أنَّ من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره، ولما كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها،
كان هو المشهود له في هذه الآية بإحراز قصبات الفضل من غير مدافع.
دلالة القرآن المبين
۳۱
وأشرت إلى هذا الاستنباط في الاستغاثة بقولي:
وفي آيةِ الرِّبَا دَلِيلُ حَيَاتِهِ دَوَاما بلا تُنْيَا إِلى يَوْمِ نَفْخَةِ وقوله تعالى: ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: ٢٨٥] الآيتين إلى آخر السورة، ادَّخرها الله لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزلهما من كنز تحت العرش، وصح عنه عليه الصَّلاة والسَّلام: «أَنَّ مَن قرأهما
في ليلة كفتاه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة في نزول : ءَامَنَ الرَّسُولُ إلى رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: ٢٨٥-٢٨٦]«قال الله: نعم»، وفيه عن ابن عباس: «قال الله: قد فعلت».
قلت: معنى الحديث بروايتيه أنه لما نزلت ءَامَنَ الرَّسُولُ على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقرأها، قال الله له عند قراءة كل دعاء فيها: «نعم قد فعلت»، وهذا دليل على أنَّ الله رفع عن هذه الأمة الحرج والخطأ والنسيان إكراما لنبيها صلى الله عليه وآله وسلَّم، وسيأتي قوله تعالى في صفة نبيه: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ تجاوز لي عن أُمتي الخطأ والنِّسْيان والأمرَ يُكْرَهُون عليه». وهو
حديث صحيح بينتُ طُرُقه في تخريج أحاديث "منهاج البيضاوي".
وقال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ، وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [الأحزاب: ٥].
وقال سبحانه: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَنِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ
۳۲
فضائل النبي
وَاللَّهُ غَفُورُ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢٢٥].
وكانت الأمم السابقة تؤاخذ بهذه الأشياء تشديدا عليهم لشَطَطها في طلب الآيات كما قصَّ الله تعالى عن بني إسرائيل، وأخبر بأن التشديد عليها كان جزاء ذلك الشَّطَط منها، ولم يحصل شيء من ذلك لهذه الأمة والحمد لله.
۲- سورة آل عمران
قدم وفد نصاریٰ نجران على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقالوا نراك تسب صاحبنا قال: مَن هو ؟». قالوا: عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد الله! قال: «أجل، إنَّه عبد الله ورسوله. قالوا: فهل له مثل من الخَلْقِ خُلِقَ من غير أب؟! فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَفَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن
فيَكُونُ () الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: ٥٩ - ٦٠].
ثُمَّ أمره أنْ يُباهِلهم: فَمَنْ حَاجَكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَ كَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْ أَنَدْعُ ابناءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: ٦١] بأن نقول : لعن الله الكاذب مِنَّا في شأن عيسى، فطلبهم عليه الصَّلاة والسَّلام للمباهلة، وخرج ومعه علي وفاطمة والحسن والحسن وقال: «إذا دعوتُ فأمنوا». فعلم الوفد أنه نبي، وخافوا من مباهلته وصالحوه على دفع الجزية ورجعوا.
هذا نوع من دفاع الله عن نبيه وهو تلقينه ما يقول الخصومه ومناظريه، مع أنه أفصح الخلق وأعلمهم بطرق الحجاج، وأقواهم على إفهام الخصم، ولكن الله
دلالة القرآن المبين
۳۳
تعالى يحب أن يُظهر عنايته بمختلف الأساليب مما يأتي في مواضعه. زعم اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم عليه السَّلام، فردَّ الله تعالى عليهم بقوله : مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِنَا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في زمانه وَهَذَا النَّبِيُّ
عليه السَّلام وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [آل عمران: ٦٧ - ٦٨ ] مِن أُمَّته.
ويلاحظ أن الله تعالى ذكر إبراهيم باسمه المجرَّد، ولم يذكر نبينا كذلك، بل ذكره بوصف النبوة وفي هذا فضيلةٌ عظيمةٌ له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نوه عنها العلماء كما قال الحافظ السخاوي في "القول البديع".
وقال سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِثَلَقَ النَّبِحْنَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَ كُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقُ لِمَا مَعَكُمْ ) من الكتاب والحكمة، هو النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ وَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إصرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَأَشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّهِدِينَ ﴾ [آل عمران: ۸۱] . هذا تكريم كبير من الله لنبيه بأخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا به وينصروه إن ظهر في زمانهم، قال التقي الشبكي: ويؤخذ منه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نبي الأنبياء»، وقال البوصيري: فإِنَّهُ شَمْسُ فَضْلِ هُمْ كَوَاكِبُهَا يُظْهِرْنَ أَنْوَارَهَا لِلنَّاسِ فِي الظُّلَمِ قلت: ذهب جمع من المفسرين إلى أن معنى الآية: أنَّ اللهَ أخذ الميثاق على كل نبي في النبي الذي يأتي بعده، فأخذ العهد على آدم إن جاء رسولٌ مُصَدِّق لما معه آمن به ونصره، وأخذ العهد على إدريس ونوح وهود وصالح ... وهكذا
٣٤
فضائل النبي
إلى عيسى عليهم السلام. وهذا التفسير - وإن قال به سعید بن جبير وطاوس - غلط لا يصح اعتماده، والتفسير الذي ذكرناه أولا هو الذي لا يجوز غيره.
وبيان ذلك من وجوه
الأول: أنه لم يرد في آية ولا في حديث صحيح أنَّ الله تعالى أخذ العهد في شأن نبي غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم.
الثاني: أنَّ القرآن لم يصف نبيا بأنه مُصَدِّقٌ لما بين يديه أو مصدق لما مع الأنبياء قبله غير نبينا عليه الصَّلاة والسَّلام، ولم يوصف كتاب بأنه مصدق لما بين يديه غير القرآن، قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَبُ مِنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقُ لِمَا معَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: ۸۹]، ﴿ قُلْ مَن كَانَ عدو الجِبْرِيلَ [البقرة: ۹۷] الآية، وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقُ لمَا مَعَهُمْ نَبَدَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ [البقرة: ١٠١] الآية، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: ٤٨] وَهَذَا كِتَبُ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكَ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [الأنعام: ۹۲] .
وانظر كيف قال الله تعالى في عيسى عليه السّلام: وَقَفَيْنَا عَلَى أَثَرِهِم بِعِيسَى ابْنِ مريم مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَكَةِ وَ أَتَيْنَهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَكَةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: ٤٦].
فعيسى الذي جاء متمما لشريعة موسى عليهما السَّلام لم يكن إِلَّا مُصَدِّقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل الذي جاء به كان مصدقا لما بين يديه من التوراة فقط، ولكن التوراة التي جاء عيسى مُتمّما ومُصَدِّقًا لها لم تكن مُصَدِّقة لما أُنزل
دلالة القرآن المبين
۳۵
على إبراهيم أو لوط أو شعيب عليهم السّلام لتباين الشرائع المنزلة، ولأنَّ
تصديق الكتب كلها والهيمنة عليها من خصائص القرآن العظيم. الثالث: أنَّ بعثة نبينا عليه الصَّلاة والسَّلام عامَّةٌ وشريعته دائمة، فناسب أن يُؤخذ العهد على الأنبياء - إن ظهر في زمانهم- أن يؤمنوا به وينصروه لعموم دعوته التي تشملهم بخلاف الأنبياء ، فقد كان كل واحد منهم يُبعث لقومه خاصَّةً، وربما اجتمع في الوقت الواحد نبيان وثلاثة وأكثر، كل نبي في قرية، كإبراهيم ولوط، ويعقوب ويوسف، وموسى والخضر عليهم السلام، ولم يثبت أن نبيا اتبع غيره وترك قومه أو أمرهم باتباع ذلك النبي، ولولا أنَّ موسى ذهب يطلب الخضر
ليتعلم منه بواطن الأمور التي أوحي بها إليه ما قدر لهما أن يجتمعا، فلا يعقل أم يؤخذ عهد على نبي في نبي آخر لا يلزمه اتباعه ولا الاجتماع به.
مُصَدِّقًا
أن
بعيسى
ولا يرد على هذا قول الله تعالى في شأن زكريا : فَنَادَتْهُ الْمَلَيْكَةُ وَهُوَقَاهُمُ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيَّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: ٣٩]؛ لأنَّ الملائكة لم يُبشِّروه بيحيى . باسمه وشخصه كما بشَّرت التوراة والإنجيل بنبينا باسمه ونعته، ولكن مصدقًا بكلمة من الله؛ أي: بعيسى من حيث كانت ولادته آية كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: ٥٠]، والحكمة في ذلك: الرد على النصارى؛ لأنه إذا كان يحيى - وهو يوحنا المعمدان عندهم- يؤمن بأن عيسى كلمة من الله ، أي : أوجده بكلمة «كن»، كان ادعاؤهم فيه أنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة باطلاً لا ينبني على أساس. الرابع: أن الله تعالى أخبر عن كبار الأنبياء أنهم بشروا بنبينا صلى الله عليه
٣٦
فضائل النبي
وآله وسلّم، وقد تقدم دعاء إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ ﴾ [البقرة: ١٢٩].
وسيأتي قوله تعالى: لا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الْأُمِّنَ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالإنجيل ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
ولم يأتِ هذا في شأن نبي غيره، ومِن ثَمَّ آمَن به تبع الأكبر وحبيب بن إسرائيل النجار وورقة بن نوفل وغيرهم قبل ظهوره، ولم يؤمن بنبي أحدٌ إِلَّا
بعد ظهوره كما قال الزمخشري.
الخامس:
أنَّ الله تعالى أمَدَّ نبيَّه بالملائكة يقاتلون معه وينصرونه كما سيأتي، وحيث وجب نصره على الملائكة الذين لم يتعبَّدهم الله بشريعة نبي قبله لا في
قتال ولا في غيره، فمن المعقول جدًّا أن يجب نصره على إخوانه الأنبياء. السادس: أنَّ الله تعالى وصف صحابته في التوراة والإنجيل كما سيأتي في (سورة الفتح)، فبهذه الوجوه - وهي مأخوذةٌ من القرآن تكون آية الميثاق نصا في نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم لا تحتمل غيره وقد قلت في الاستغاثة: وفي آية المِيثَاقِ عَهْدٌ مُؤكِّدُ مِن الله الرُّسُلِ الكِرَامِ بِجُمْلَةِ وقال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: ۱۱۰] فُضَّلَت الأمة المحمدية على غيرها من الأُمَمِ إكراما لنبيها صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ شرف التابع إنما هو لشرف المتبوع. لما التقى المسلمون والمشركون ببدر ورأى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
دلالة القرآن المبين
۳۷
قلة المسلمين وكثرة عدوهم استقبل القبلة ومد يديه هاتفًا بربه: «اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني، اللهم آتني ما وَعَدْتني، اللهمَّ إِنْ تُهْلِك هذه العِصَابَةَ لا تُعبد في الأرض». فأنزل الله تعالى هذه الآيات من هذه السورة وآيات من (سورة الأنفال)، وذكرناها هنا لأنَّ موضوعها واحد.
قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَ كُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: ١٢٣] وكان النصر إجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى : وإِن تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ﴾ والمستغيث هو النبي عليه الصَّلاة والسَّلام كما سبق، وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيمًا. فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفِ مِنَ
المليكة مردفين [الأنفال: ٩] بفتح الدال وكسرها.
ثُمَّ تكرم الله تعالى فأمدَّهم بثلاثة آلافٍ، ثُمَّ بخمسة آلافٍ، قال تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَثَةِ الَافٍ مِنَ الْمَلَكَةِ مُنزَلِينَ ) گی کا اک ہے يكفيكم ذلك، ثم استأنف وإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ الفِ مِنَ الْمَلَكَةِ مُسَوّمِينَ } [آل عمران: ١٢٤-١٢٥] بفتح الواو وكسرها، نزل الملائكة وقاتلوا مع الصحابة جنبا إلى جنب كما قال الله تعالى: إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأَلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانِ ﴾ [الأنفال: ۱۲]. فكان الصحابي يقصد ضرب المشرك فتطير رقبته قبل أن يصل سيفه إليها، سبقه الملك فضربها لا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ سَاقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَن يُشَاقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
۳۸
فضائل النبي
فإن اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال : ١٣].
يؤخَذ من هذه الآيات أمور:
أحدها: أنَّ الله تعالى أمَدَّ نبيه بالملائكة على ثلاث دفعات: ألفٍ ثُمَّ ثلاثة آلافٍ ثُمَّ خمسة آلاف.
ثانيها: أنَّ الملائكة نزلوا على صورة رجال يركبون خيلا وهم مُعَلَّمون بعمائم
السنة
وغيرها من نوع ما كان الصحابة مُعلمين به، وثبت في كتب الصحاح من ال والسيرة أنهم قاتلوا المشركين فقتلوا بعضهم، وأسروا بعضًا آخر، وخلصوا بعض الصحابة من القتل أو الأسر، وساعدوا بعضهم على أسر بعض المشركين. ثالثهما: أنَّ الله تعالى أمَدَّ نبيَّه أيضًا بإلقاء الرعب في قلوب الكفَّار، وثبت في "صحیح مسلم من حديث أبي هريرة: «فُضّلْتُ على الأنبياء بس: أُعطيتُ جوامعَ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلتْ لي الأرضُ طَهُورًا ومسجدًا، وأُرسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً، وخُتِمَ بي النبيون». فهذه الخصال لم
تعط لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم.
تنبيهات
( التنبيه الأول): ثبت في "الصحيحين" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا
بعد، عنى جبريل وميكائيل عليهما السلام. قال النووي: «في هذا الحديث بيان كرامة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم
دلالة القرآن المبين
۳۹
على الله تعالى وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن الملائكة تقاتل
وأن قتالهم لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاصه، فهذا صريح في الرد عليه». اهـ
(التنبيه الثاني): زعم بعض المتحذلقين من المعاصرين أنَّ الإمداد بالملائكة في الآيات المذكورة كناية عن الإمداد بقوةٍ رُوحِيَّةٍ وهذا جهل فاضح والحاد في كتاب الله، وكيف غفل عن الأعداد ألف ثلاثة آلاف، خمسة آلاف؟! أم كيف نسي نزولهم مردفين ومسومين؟! وهل القوة الرُّوحية تقدر بكم أو كيف؟! ولو صح هذا التأويل الفاسد لاقتضى أنَّ الله تعالى لم يُمِد نبيَّه بقوةٍ روحِيَّةٍ في سائر غزواته كغزوة خيبر وفتح مكة، وهذا باطل، فإنَّ الله تعالى لم يتخل عن نبيه
لحظة، بل أمده بالقوة الروحية في غزواته وسائر شئونه.
وبهذا الإمداد الرُّوحي قال لصاحبه في أحرج المواقف وأشدها خطورة: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: ٤٠] ، وقال لعمه حين عرض عليه أن يوافق قومه على ترك الدعوة في مقابلة ما قدموه من مال وغيره: «أي عمّ؛ والله لو وَضَعُوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَو أَهْلِكَ دُونَهُ».
ولكن الله أمدَّه في بدرٍ وأحدٍ بالملائكة إمدادا حسيا صرح به الكتاب والسُّنَّة وأخبر به الصحابة الذين شاهدوه والمسوه، بل اعترف به المشركون أنفسهم فقد صرح كثير منهم بأنهم رأوا رجالاً غير الصحابة يوقعون القتل
والأسر فيهم، صرَّحوا بهذا في وقعة بدرٍ وبعدها حين كانوا يتحدثون عنها.
٤٠
فضائل النبي
يضاف إليه إمداد معنوي صرحت به الآية أيضًا، وهو إلقاء الرعب في
قلوب الكفار، وهذا مما فُضّل به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الأنبياء الذين شاركوه في الإمداد الروحي، بل أمد الله به المؤمنين جميعا كما قال تعالى:
أُوْلَتِبِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِنْهُ ﴾ [المجادلة: ۲۲] . (التنبيه الثالث: أشار القرآن إلى أنَّ الإمداد بالملائكة لم يقع لأحد غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى في قصة حبيب النجار: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندِ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴾ [يس: ۲۸] الآية. قال الزمخشري: «المعنى أنَّ الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم يُنزل لإهلاكهم
جندا من جنود السماء كما فعل يوم بدر والخندق.
فإن قلت: وما معنى قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ؟
قلت: معناه وما كان يصح في حِكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندًا من السماء؛ وذلك لأنَّ الله تعالى أجرى هلاك كل قومٍ على بعض الوجوه دون البعض، وما ذلك إلَّا بناءً على ما اقتضته الحكمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَنْ أَغْرَقْنَا ﴾ [العنكبوت: ٤٠] .
فإن قلت: فلِمَ أنزل الجند من السماء يوم بدر والخندق قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ [الأحزاب: 9] بِأَلْفِ مِنَ الْمَلَتَيكَةِ مردفين [الأنفال: ۹] ثَلَثَةِ الفِ مِنَ الْمَلَكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ [آل عمران: ١٢٤] بِخَمْسَةِ الفِ مِنَ الْمَلَكَةِ مُسَومِينَ ﴾ [آل عمران: ١٢٥]؟
دلالة القرآن المبين
٤١
قلت: إنما كان يكفي مَلَكٌ واحدٌ ، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من
جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة منه، ولكن الله فضَّل محمدا صلى الله عليه وآله وسلَّم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلاً عن حبيب النجار ، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحدا، فمن ذلك أنَّه أنزل له جنودًا من السَّماء وكأنَّه أشار بقوله: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندِ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴾ [يس: ۲۸] إلى أنَّ إنزال الجنود من
عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك». اهـ قال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم: ما نعبد الأصنام إلَّا حبا الله ليقربونا إليه، وقال نصاری نجران ما عبدنا عيسى وأُمَّه إِلَّا محبَّةٌ الله، فأنزل الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: ٣١] جعل الله اتِّباع نبيَّه سببًا في نيل حُبه ومغفرته، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكون هواه تَبَعًا لما جئتُ به». فمن ادعى الإيمان أو محبة الله ولم يتبع رسوله فهو كاذب في دعواه، ومن أظهر الكذب وأبينه دعوى إمكان الوصول إلى الله بطريق فلسفة أو رياضة أو أي طريق غير الطريق الذي بينته هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَفِرِينَ ﴾ [آل عمران: ۳۲] يفيد أنَّ طاعة الله ورسوله واحدة؛ لأنَّ رسول الله لا يأمر إلَّا بما يرضي الله. ونذكر هنا مسألة استخرجناها من تتبع أسلوب القرآن الكريم، وهي أنَّ الله
تعالى يقرن كثيرًا ذكر رسوله بذكره، مثل الآية المذكورة.
٤٢
فضائل النبي
ومثل : فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: ٢٧٩]. يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: ٥٩].
وَمَن يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [النساء: ١٠٠].
إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المائدة: ۳۳].
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ﴾ [المائدة: ١٠٤]. قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال : ١٣].
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [الأنفال: ٢٧].
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 1]. وَأَذَانُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [التوبة: ٣].
قل إن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ } [التوبة: ٢٤].
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
دلالة القرآن المبين
٤٣
وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: ٢٩].
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ
[التوبة: ٥٤].
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَاءَ اتَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } [التوبة: ٥٩].
وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ [التوبة: ٧٤].
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ } [التوبة: ٦٢].
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [التوبة: ٦٣].
قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَيْهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [التوبة: ٦٥].
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [التوبة: ۷۱]
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [التوبة : ٩٠].
وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: ٩٤].
وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾ [التوبة: ١٠٧].
افي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أَوَلَيْكَ هُمُ
الظَّلِمُونَ ﴾ [النور: ٥٠].
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
٤٤
فضائل النبي
وَأُولَيكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: ٥١].
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَنَيْكَ هُمُ الْفَابِرُونَ ﴾ [النور: ٥٢]. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَعْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ أُولَبِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [النور: ٦٢].
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: ٢٣]. إلى غير هذا من الآيات التي جاء فيها ذكر الرسول مقترنا بذكر الله تعالى،
وهو تشريف لم ينله أحد غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم. لما خرج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى غزوة أُحد جعل ظهره وعسكره إلى الجبل، ورتب الجيش وأجلس فرقةً من الرماة بسفح الجبل، وأمر عليهم عبدالله بن جبير، وقال لهم: «انْضَحُوا عَنَّا بِالنَّبِلِ لا يأتونا من وراثنا، ولا تَبْرَحُوا، غُلِبْنا أو نُصِرْنا». وكانت الغَلَبة أول الأمر للمسلمين وولى المشركون الأدبار فرارًا من القتل، وترك بعض الرماة مكانهم بسفح الجبل وجروا خلفهم طمعا في الغنيمة مخالفين أمر الرسول، فعمل الكفار حركة التفاف من ظهر الجبل وباغتوا المسلمين، فانقلبت الكَرَّة عليهم وانهزموا وفروا والنبي يناديهم: إلى عباد الله إلى عباد الله». وتعجبوا كيف ينهزمون وهم مسلمون؟! فأنزل الله يعاتبهم ويبين لهم أنَّ سبب هزيمتهم اختلافهم المعبر عنه بالفشل، وعصيانهم أمر الرسول: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحْشُونَهُم تقتلونهم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَبِّكُم مَّا تُحِبُّونَ الآيات، إلى قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
دلالة القرآن المبين
٤٥
يُحِبُّ الْمُتَوَكَلِينَ .
فَبِمَا رَحْمَة عظيمة من الله وضعها في قلبك الكبير ولِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) وذهبوا إلى الكفَّارِ فَاعْفُ عَنْهُمْ تجاوز عما أتوه من مخالفة أمرك وَاسْتَغْفِر هم الأغفر لهم باستغفارك وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ [آل عمران: ۱۵۲-۱۵۹] ليقتدي بك المسلمون فيجعلوا الشورى أساس حكمهم ويبنوا عليها نظام مجتمعهم.
وهذه الآية تفيد ثلاثة أشياء:
ا
أحدها: وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة العظيمة؛ لأن تنكير رَحْمَة يفيد تعظيمها ، فهو أرحم الرحماء بعد الله تعالى، ومن أسمائه: «نبي
الرحمة» كما ثبت في الحديث. الفظاظة وغلظ القلب عنه؛ لأنهما صفتان لا يليقان إلَّا بالمتكبر
ثانيها نفي ا
القاسي، وهو عليه الصَّلاة والسَّلام متواضع يفيض قلبه عطفا ومودة. ثالثها: أنَّ الله تعالى وهو صاحب العفو والمغفرة يطلب من نبيه أن يعفو عن أصحابه الذين خالفوا أمره ليغفر هو لهم سبحانه وتعالى، وهذا تكريم لم ينله نبي ولا رسول قبله. فُقدت قطيفة حمراء من غنائم بدر، فقال بعض المنافقين: لعل النبي أخذها، فأنزل الله تعالى يُبرئ نبيه من هذه التهمة : وَمَا كَانَ لِنَي أَن يَغُلَّ } [آل عمران:
١٦١]، أي: ما ينبغي لنبي أن يخون في الغنيمة لعصمته، فلا تظنُّوا به ذلك. وعلى قراءة لا يغل، بالبناء للمجهول يكون المعنى: ما ينبغي لنبي أن
٤٦
فضائل النبي
يُنسب إلى الغلول، والجملة خبر مراد بها النهي، والآية على كلتا القراءتين تفيد دفاع الله عن نبيه.
ثُمَّ ارتقى من تنزيه إلى الامتنان به على المؤمنين فقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ وَايَتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكتب وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [آل عمران: ١٦٤]. فجعل بعثة نبيه مِنَّةً على عباده لما ترتب عليها من نعمة الإيمان وتطهيرهم من الآثام وتعليمهم الكتاب والحكمة، وهذه لعمر الله - أفضل النعم وأجلها على الإطلاق. وقال اليهود للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: إِنَّ الله عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان يقدمه الله ، فإن كان صادقاً جاءت نار بيضاء
من جهة السماء فأكلته، فإن كنت رسولاً فقدم قربانًا يدل على صدقك. فأنزل الله تعالى يرد عليهم الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَإِوَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( فَإِن كَذَّبُوك بعد هذه الحجة الدامغة فاصبر ولا تحزن فَقَدْ كُذِبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُ وَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ
و الكتبِ الْمُنِيرِ ﴾ [آل عمران: ١٨٣ - ١٨٤] وصبروا، فهم أسوتك. وفي هذا دفاع من الله عن نبيه وتسليته عما لحقه من تكذيب اليهود له.
دلالة القرآن المبين
٤٧
- سورة النساء
نزل في اليهود الذين حرَّفوا نعت النبي في كتبهم وكانوا إذا خاطبوه استعملوا ألفاظا قصدوا بها سبه وإيذاءه؛ قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا * قوم يُحَرِّفُونَ الكلم الذي أنزل الله في التوراة من نعت النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عَن
:
مَوَاضِعِهِ التي وضع عليها وَيَقُولُونَ للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أمرهم بشيء سمعنا قولك وَعَصَيْنَا أمرك و يقولون أيضًا إذا ) : خاطبوه وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع دعاء عليه، أي: اسمع لا سمعت و يقولون له راعنا وهي كلمة سب في قصدهم ، وسبق النهي عن خطابه بها في (سورة البقرة)، وليا بِأَلْسِنَيهِمْ وَطَعْنَا فِي الدِّين بالطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا بدل وعصينا وأسمع فقط، ولم يزيدوا: «غير
مسمع وانظرنا أي: انظر إلينا بدل «وراعِنَا لَكَانَ خَيْرًا لهمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: ٤٦].
فضح الله اليهود في تحريفهم نعت نبيّه وفي سبهم إياه، وجعل الطعن فيه طعنا في دين الإسلام والطاعن في الدين كافر، فالطاعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم كافر، وعليه إجماع العلماء.
زاد المالكية: ويجب قتله (۱) ولو تاب، وتوبته تنفعه يوم القيامة.
(۱) صح في "سنن أبي داود" و"النسائي" عن ابن عباس قال: إنَّ أعمى كانت له أم ولد
٤٨
فضائل النبي :
ومدركهم أنَّ قتل الطاعن حق للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلا تُسْقِطه
التوبة كما لا تسقط حد القذف عن القاذف.
ولهذا كان القاضي الشافعي في مصر إذا رفع إليه شخص طعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يحوّله على القاضي المالكي، حكاه الحافظ ابن حجر. ثُمَّ ذكر الله تعالى في معرض عدّ قبائح اليهود لعنهم الله أمام بل
يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم. فهو من العام المراد به الخصوص وأطلق عليه لفظ الناس إشارة إلى أنه جمع الكمالات الإنسانية، فهو أُمَّةٌ في فرد: كأَنَّهُ وهُوَ فَرْدٌ في جَلَالَتِهِ في عَسْكَرِ حِينَ تَلْقَاهُ وفِي حَشَمِ
عَلَى مَا اتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ من النبوة وكثرة الزوجات فَقَدْ آتَيْنَاءَالَ
إبراهيم جده، کموسی و داود وسليمان الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ النبوة وَ آتَيْنَهُم مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: ٥٤].
تكثر الوقيعة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وتشتمه، فقتلها الأعمى، فذكر
ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «أَشْهَدُ أَنَّ دَمَها هَدَرٌ». وفي "سنن أبي داود" عن الشَّعبي، عن علي عليه السَّلام قال: إنَّ يهودية كانت تشتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم دمها. وحكى ابن المنذر الإجماع على قتل مَن سبّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إِلَّا إِن تاب، فتوقف فيه الشافعية وأوجبه المالكية لما ذكر في الأصل، وانظر الحديث الثامن
والثلاثين من كتاب "الأحاديث المنتقاة في فضائل سيدنا رسول الله".
دلالة القرآن المبين
٤٩
كان داود وسليمان مَلِكَين عظيمين، وفي كتب اليهود أنَّ داود كان له تسع وتسعون امرأة كملهنَّ مائة بزوجة أوريا التي تزوجها بعد قتل زوجها في حرب أرسله إليها ثلاث مرات، وأن سليمان كان له ألف امرأة ما بين زوج وسرية، فلم يقولون عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «لو كان نبيا لاشتغل عن النساء»؟! مستكثرين عليه تسع زوجات لم يقصد بزواجهنَّ المتعة، وإنما قصد مصالح تعود على الدعوة بأعظم الفائدة كما يظهر من ظروف كل واحدة منهنَّ. فقد تزوج عائشة رضي الله عنها مكافأة لوالدها الذي لازمه منذ بدء
الدعوة الإسلامية وهاجر معه وكان صاحبه في الغار.
ولهذا المعنى تزوّج حفصة بنت عمر رضي الله عنهما مع قصد جبر خاطره أيضًا؛ لأنه كان عرض زواجها على عثمان فأبى، وقال له كما في الحديث: يتزوج حفصة من هو خيرٌ من عثمان».
وتزوج بنت عمته زينب بنت جحش بأمر القرآن ليبطل حكم التبني عمليا فَلَمَّا قَضَى زَيْدُ مِنْهَا وَطَرًا زَوَحْتَكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَج أَدْعِيَا بِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرَ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: ٣٧]. وتزوّج أُمَّ سلمة وزينب بنت خزيمة رضي الله عنهما لأنَّ زوجيهما استشهدا
في أحد ولم يكن لهما عائل يكفلهما بعد زوجيهما.
وتزوج أُم حبيبة رضي الله عنها؛ لأنها هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وتنصر زوجها وبقيت غريبة وحيدةً، ولو عادت إلى مكة لعذَّبها أهلها وفتنوها عن دينها، مع ملاحظة أنها بنت أبي سفيان أحد زعماء المشركين بمكة، ففي الزواج
۵۰
فضائل النبي
بها مصلحة لا تخفى.
وتزوج صفية رضي الله عنها، لأنّها تعرّضت للأسر والهوان بعد أن كانت عزيزة في أهلها، إذ كان أبوها وعمها سيدي قومهما وخيَّرها بين أن تعود إلى أهلها أو تقعد معه فاختارته وهي إسرائيلية وأبوها حيي بن أخطب سيد بني قريظة. وتزوج سودة بنت زمعة رضي الله عنها، لأن زوجها - وكان ابن عمها - مات عنها بعد عودتها من الحبشة وليس لها عائل، وإذا عادت إلى أهلها فتنوها عن دينها.
وتزوج جويرية بنت الحارث رضي الله عنها بعد أن سُبيَت في غزوة بني المصطلق فأكرمها عن الإهانة وأعتقها وكان أبوها سيد قومه، وحضّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم المسلمين على إعتاق سباياهم في تلك الغزوة، فأعتقوهم
فأسلموا جميعا وحسن إسلامهم، فكان زواجها بركة عليها وعلى قومها. ويلاحظ أنَّ زوجاته كلَّهنَّ كبيرات ثيّبات إلا عائشة فهي الوحيدة التي كانت صغيرة عذراء، وكان في إمكانه عليه السلام - وقد فتح الله له مكة ودانت له الجزيرة العربية - أن يتزوّج أجمل بنات العرب، ويتخذ ما شاء من الجواري، لكنه لم يفعل. وظل إلى جانب هذا وفيًا لزوجه الأولى خديجة رضي الله عنها يثني عليها كلما ذكرها، ويواصل صديقاتها وأقاربها وجيرانها ببره وعطفه حتى غارت منها عائشة، ولم ترها كما قالت عن نفسها وقالت له مرة: «ما تذكرُ مِن عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرًا منها»، فرد عليها بغضب: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها ...». الحديث.
دلالة القرآن المبين
فليست المسألة حكاية متعة جنسية ولكنها معان إنسانية.
۵۱
ومن الحكمة في تعدد زوجاته عليه السَّلام أن ينقلن عنه الأحكام الخاصة
بالنساء في الجماع والحيض والنفاس وما إلى ذلك.
فليس للمبشرين وأمثالهم من الحاقدين على الإسلام ونبي الإسلام أي حُجَّة في هذه المسألة التي هوّلوا بها وظنُّوا أنهم أتوا بحُجَّةٍ لا يستطيع المسلمون
دفعها، والواقع أنها حُجَّةٌ داحِضةٌ يدرك سقوطها بأدنى تأمل، والله الموفق. وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُم هم الولاة كالخليفة والقاضي.
أعيد الأمر بطاعة الرسول تنبيهًا على وجوب طاعته فيما يصدر عنه من أوامر ونواه زائدة على ما في القرآن، ولم يُعد الأمر بطاعة أولي الأمر إشارة إلى أنَّ طاعتهم بالتبعية لطاعة الله ورسوله لا استقلالية، ولهذا عقب بقوله تعالى: فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شيء أمركم به الولاة أو نهوكم عنه مثلا فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } أي: إلى كتابه والرسول ) أي: سنته وإن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فطاعة أولي الأمر
واجبة ما كانت داخلة في دائرة الكتاب والسُّنَّة، فإن خرجت عنهما فلا تجب. ذلك الرد إلى الله والرسول خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: ٥٩] مالا
وعاقبة.
وليس خير وأحسن على بابها بدليل إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بل المراد بهما إثبات الخير وحسن العاقبة فيكون مقابلها وهو عدم الرد شرا وسيئ العاقبة، وهذه الآية تشمل متعصبي المقلدين الذين يتركون مقتضى الدليل
٥٢
فضائل النبي
لقول أئمتهم.
إن قيل: ما الحكمة في أنَّ الله تعالى قال في الآية السابقة في (آل عمران): قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [آل عمران: ۳۲ ولم يقل: ﴿ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ }
[النساء: ٥٩]؟
الذين
قلت خاطب الله بهذه الآية المشركين من أهل الكتاب وغيرهم قالوا: ما نعبد المسيح أو عزيرًا أو الأصنام إلَّا حبا لله وتقربا إليه، فقال الله لنبيه: قل لهم أطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به من التوحيد، ولا شك أنه مصرح به في القرآن مقرَّر بدلائله المتنوعة، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين يأمر به لم يأمر إلا بما أثبته القرآن العظيم وفضل دلائله، ولذا عقب بقوله
تعالى : فَإِن تَوَلَّوْا عن التوحيد فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَفِرِينَ ﴾ [آل عمران: ٣٢]. أما الخطاب هنا فهو موجّه إلى المؤمنين فيما يختص بالأحكام والعبادات والمعاملات التي يقتضيها مجتمعهم زيادة على التوحيد الذي أقروا به واطمأنت إليه قلوبهم، والسُّنَّة أتت فيها بأشياء ليست في القرآن فأوجب الله اتباعها، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ ) أي : المنافقين الذين نزلت فيهم الآية – وإن كان اللفظ عاما يشمل غيرهم أيضًا حسب القاعدة المقررة - إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ فيه التفات عن الخطاب تعظيما له
وتفخيما لشأنه وتنويها بمقامه لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: ٦٤]. فاستغفار الرسول لهم سبب في توبة الله عليهم ورحمته بهم، ويؤخذ منه أنَّ
طلبه مقبول عند الله تعالى وشفاعته لا ترد.
دلالة القرآن المبين
٥٣
قال البيضاوي: وإنما عدل عن الخطاب ولم يقل: «واستغفرت لهم»؛ لأنَّ
القياس يقتضي هذا لقوله: جَاءُوك تفخيما لشأنه وتنبيها على أنَّ مِن حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له، ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب».
قلت: ولهذا صح عن أنس وغيره من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «شفاعتي لأهل الكبائر مِن أُمتي».
وقال سبحانه: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } أي: المنافقون وغيرهم حَتَّى يحكمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: ٦٥] ينقادوا انقيادا مطلقا لا معارضة فيه. ويؤخذ منه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يُخطئ، وإلا لما وجب التسليم الحكمه تسليمًا مطلقا، فالآية تردُّ قول الذين شدوا بتجويز الخطأ عليه. وأشار التاج الشبكي في "جمع الجوامع" إلى ردّ هذا القول الشاذ بقوله: والصواب أن اجتهاده عليه السّلام لا يُخطئ. هذا وللعارف الكبير التاج أبي العباس أحمد بن عطاء الله السكندري في
کتاب "التنوير" كلام على هذه الآية أحببنا أن ننقله لفائدته: قال: «ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد الحرج في نفسه، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله صلى الله عليه وآله وسلم رأفة وعناية وتخصيصا ورعاية لأنَّه لم يقل: «فلا والربّ» وإنما قال: وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ الآية، ففي ذلك تأكيد في القسم وفي المقسم عليه إظهارًا
فضائل النبي
لعنايته برسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم، إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان
بألوهيته حتى يذعنوا لأحكام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الآية دلالة أخرى لعِظَم قدره وتفخيم أمره صلَّى الله عليه وآله وسلم وهي قوله
تعالى: فلا وَرَبِّكَ ما فأضاف نفسه إليه كما قال في الآية الأخرى: كَهيعص ) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيا ) [مريم: ۱ - ۲ ]، فأضاف الحق سبحانه وتعالى اسمه إلى محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم وأضاف زكريا إليه
ليعلم العباد الفرق ما بين المنزلتين، والتفاوت ما بين المرتبتين.
ثُمَّ إنَّه تعالى لم يكتفِ بالتحكيم الظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج وهو الضيق في نفوسهم من أحكامه صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها».
وقال أيضا: اعلم أنَّ الأحوال ثلاثة قبل التحكيم، وفيه، وبعده، فأما قبل التحكيم فعبوديتهم التحكيم، وأما في الحكم وبعده فعبوديتهم عدم وجدان الحرج في أمورهم.
فإن قلت: إنَّ ذلك لازم من قوله تعالى : حَتَّى يُحَكِّمُوكَ . قيل: ليس كل من حكّم فَقَد الحرج عنه، إذ قد يحكم ظاهرا والكراهة عنده موجودة، فلا بد أن ينضم إلى التحكيم فقدان الحرج ووجود التسليم. فإن قال قائل: إذا لم يجدوا الحرج فقد سلموا تسليما، فما فائدة الإتيان بقوله: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا بعد نفي الحرج المستلزم لقبول التسليم الذي ممن
دلالة القرآن المبين
٥٥
صفته ووجود التأكيد؟
فالجواب: أنَّ قوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) أي : في جميع أمورهم.
فإن قلت: إنَّ ذلك لازم من قوله: ﴿ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ؟
فالجواب: أنَّ التحكيم ما أطلقه بل قيده بقوله تعالى: فِيمَا شَجَرَ
بينهم فصارت الآية تتضمن ثلاثة أمور:
أحدها: التحكيم فيما اختلفوا فيه.
الثاني: عدم وجدان الحرج في التحكيم.
الثالث: وجود التسليم المطلق فيها شجر بينهم وفيما نزل بينهم في أنفسهم فهو
عام بعد خاص فافهم.
ثُمَّ أخبر الله تعالى بعموم رسالة نبيه فقال: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ﴾ [النساء: ٧٩]، وستأتي آيات كثيرة بهذا المعنى.
وقوله سبحانه: وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ٧٩] على رسالتك ردُّ على اليهود والمشركين الذين أنكروا ،رسالته، ثُمَّ رتّب على ما تقدم ترتيب النتيجة على المقدمة قوله تعالى: مَن يُطِعِ الرَّسُولَ في كل ما أمر به أو نهى عنه فَقَدْ أطاع الله فطاعة الرسول طاعة الله ، ثُمَّ أنذر المعرضين عن طاعته فقال:
وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظا ﴾ [النساء: ٨٠] بل نحن نتولى عقابهم. ويلاحظ من هذه الآية وما في معناها أنَّ الله تعالى حضّ تارةً على طاعة رسوله ورغب فيها وجعلها طاعته، وتارةً أمر بها إلى جانب الأمر بطاعته، ولم
٥٦
فضائل النبي
يفعل هذا مع الأنبياء قبله عليهم الصَّلاة والسَّلام، فقد قال نوح وهودٌ وصالح ولوط وشعيب وعيسى لقومهم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء: ۱۰۸] والسِّرُّ في ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى لما تولّى الدّفاع عنه حسبما بيناه في (سورة البقرة)، تولى توجيه الأمر بطاعته والحضّ عليها، وحيث ترك للأنبياء مهمة الدفاع عن
أنفسهم ترك لهم توجيه الأمر بطاعتهم، وبين المقامين بون شاسع.
(تنبيه): الخطاب في الآية السابقة على هذه وهي قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمَن نَفْسِكَ ﴾ [النساء: ٧٩] موجه إلى الإنسان من حيث هو، وقيل: الخطاب موجه إلى الرسول والمراد أفراد أُمته، وهذا كقوله
تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [الطلاق: 1].
والمراد بالحسنة النعمة وبالسيئة وبالسيئة النقمة .
ومعنى الآية: أنَّ النعمة تصيب
الإنسان بفضل الله، والنقمة تصيبه بشؤم معاصيه، وفي الحديث الصحيح: «إنَّ الرَّجُلَ لِيُحْرَمِ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».
وقال تعالى: يخاطب رسوله : فَقَيْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلِّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: ٨٤] ولا يهمك تخلف المنافقين وغيرهم، وقد عُدَّ مِن خصائصه عليه الصلاة والسَّلام - أخذا من هذه الآية ومن حديث صحيح - أنه إذا هم بحرب ولبس لأمَتَهُ فلا يرجع حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، وقاتل ولو كان وحده؛ لأنه موعود بالنصر. وسرق أنصاري اسمه طعمة بن أبيرق - وكان منافقا من بيت جاره قتادة درعا ودقيقا فطبخ الدقيق وخبّأ الدرع عند يهودي اسمه زيد بن السمين،
دلالة القرآن المبين
OV
ووجدت الدرع عنده فقال: «أودعها طعمة عندي»، فأنكر وحلف ما سرقها
وأشهد أهله وحلفوا معه.
فهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بقطع اليهودي؛ لأنَّ الدرع وجدت عنده وشهد طعمة وأهله ،ضده فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَنكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِلْخَاينين طعمة وأهله خَصِيمًا } [النساء: ١٠٥] مخاصما عنهم. ولو أنه صلى الله عليه وآله وسلّم حكم على اليهودي لما كان عليه من حرج في ذلك لوجود الدليل والقرينة كما سبق، ولكن الله لا يرضى لنبيه إِلَّا أَنْ يكون حُكْمُهُ
مطابقا للواقع ونفس الأمر ظاهرا وباطنا، فنبهه بهذه الآية إلى حقيقة ما وقع. ومن هنا تعلم بطلان ما زعمه بعض الشذاذ من أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قد يخطئ وأنَّ الله يُنبهه بعد وقوع الخطأ حيث نجده هنا ينبهه قبل صدور الحكم، فبان بطلان ما زعموه وَاسْتَغْفِرِ الله ما هممت به ان اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء : ١٠٦].
وإذا كان الله يأمره بالاستغفار من الهم مع أنه غير مؤاخذ به، فكيف يتركه
يخطئ ؟!
فإن قيل : ما الحكمة في أمره بالاستغفار من الهم؟ فالجواب: أن الحكمة فيه بيان حفظه من الخطأ حتى في الهم الذي لا يؤاخذ به، ولهذا عد العلماء من السُّنَّة همه صلَّى الله عليه وآله وسلم بالشيء، وقالوا: سُنَّ صيام تاسوعاء بجانب عاشوراء، لأنه صلَّى الله عليه وآله وسلم هم بصيامه
۵۸
فضائل النبي
وتوفي قبل مجيئه، وعرَّفوا السُّنَّة بأنها أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأفعاله وتقريره وهمه بالشيء.
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ هَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ﴾ من المنافقين أن يُضِلُّوكَ عن القضاء بالحق في هذه القضية لكنهم لم يضلُّوك لفضل الله عليك وعصمته إياك وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ ﴾ لو فرض أنهم أضلوك بشهادة الزور وحلفهم كذبًا وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ لأنك حكمت بما سمعت من الشهود مع وجود الدرع عند اليهودي، وهذا تأكيد لبراءته صلى الله عليه وآله وسلَّم من الخطأ في الحكم، ولو حاول المنافقون إيقاعه فيه وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْك الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ ) ما فيه من الأحكام أو المراد بها السُّنَّةَ وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعلم من الأحكام والغيوب والحقائق وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ بما ذكر وغيره عَظِيمًا ﴾ [النساء: ۱۱۳] لا يعلم قَدْرَه إِلَّا واهِبُهُ لك، وفي هذا تنويه كبير بمقامه صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
تنبيهات
(التنبيه الأول): قوله تعالى: التحكم بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَبِّكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: ١٠٥ ] أخذ منه العلماء جواز الاجتهاد له صلَّى الله عليه وآله وسلّم ، وقال : رضي الله عنه: «لا يقولن أحدكم قضيتُ بما أراني الله، فإنَّ الله لم يجعل ذلك إِلَّا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولكن ليجتهد رأيه، لأنَّ الرأي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كان مصيبا؛ لأنَّ الله تعالى كان يريه إياه، وإن رأي
دلالة القرآن المبين
۵۹
أحدنا يكون ظنا ولا يكون علما»، هذا الكلام صريح فيها قررنا من أنه صلى الله عليه
وآله وسلم لا يُخطئ في اجتهاده.
(التنبيه الثاني): قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ الله } [النساء: ١٠٦] أبعد من أخذ منه وقوع الذنب منه عليه السَّلام لأنَّ الهم غير مؤاخذ به بالنص والإجماع، والاستغفار ليس خاصًا بالذنوب بل له حكم كثيرة منها ما بينا فيما سبق، ومنها استدرار الرزق لقوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴾ [نوح: ۱۰ - ۱۱] الآية(۱)، ومنها: تفريج الهموم لقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أَكْثَرَ مِن الاسْتِغْفارِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِن كُلِّ هَمَّ فَرجًا، ومِن كل ضيق مخرجًا، ورَزَقَهُ مِن حيثُ لا يَحْتَسِب».
قال الزمخشري في (سورة النصر): والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية، وليكون أمره بذلك مع . عصمته لطفا لأمته، ولأن الاستغفار من التواضع الله وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه» . اهـ (۲)
(۱) عن الحسن البصري أنَّ رجلا شكى إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكى إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة . ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابًا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟!، فتلى عليه واسْتَغْفِرُ وأَرَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ان يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُو مِدْرَارًا وَيُمْدِ ذَكَرَ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلَ لَكُمْ جَنَّتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنهرا : [نوح: ١٠ - ١٢].
(۲) وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: ﴿ قُل رَبِّ إِمَّا تُرِينِ مَا يُوعَدُونَ ) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي
فضائل النبي :
الثالث: مما استنبطته من تتبع أسلوب القرآن الكريم أنَّ الله تعالى إذا أسند
إليه تعليم شخص مُعيَّن، كان ذلك دليلا على نبوته مثل : لا وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن
تعلَمُ } [النساء: ١١٣].
وَعَلَمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: ٣١].
وَقَتَلَ دَاوُردُ جَالُوتَ وَعَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يشَاءُ ﴾ [البقرة: ٢٥١].
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَنَةَ وَالإنجيل ﴾ [آل عمران: ٤٨].
وَإِذْ عَلَمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَنَةَ وَالإنجيل ﴾ [المائدة: ١١٠]. وَكَذَلِكَ مَكَنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِتُعَلِمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف:
۲۱]. وَعَلَّمْنَهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ ﴾ [الأنبياء: ٨٠]. ومن هنا كان قوله تعالى في سورة الكهف): فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا انَيْنَهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَهُ مِن لَدُنَا عِلْمًا ﴾ [الكهف: ٦٥] دليلًا على نبوة
فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [المؤمنون: ٩٣ - ٩٤].
فإن قلت: كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين حتى يطلب ألا يجعله معهم ؟! قلت: يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية وتواضعًا لربه وإخبانًا له، واستغفاره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا قام من مجلسه سبعين مرَّةً أو مائة مرَّةٍ لذلك، وما أحسن قول الحسن - في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: «وليتكم ولست بخيركم»: «كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه.
دلالة القرآن المبين
٦١
الخضر عليه السَّلام يضاف إلى الأدلة التي ذكرتها في "خواطر دينية". وقال مشركوا مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنا سألنا اليهود عنك وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك»، فأنزل الله تعالى ردا عليهم: لَكِن اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالْمَلَيْكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شهيدا ﴾ [النساء: ١٦٦]، وهذا من جملة دفاع الله عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم. ثُمَّ توعد الله اليهود الذين أنكروا نبوته فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم اليهود وَصَدُّوا الناس عَن سَبِيلِ الله ) وهو الإسلام بقولهم للمشركين: أنتم أهدى سبيلا من محمَّد قَدْ ضَلُّوا ضَلَا بَعِيدًا ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم اليهود أيضًا وَظَلَمُوا ) النبيَّ بكتم نعته الموجود في كتابهم لَم يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: ١٦٧ - ١٦٩] هينا، أوجب لهم التأبيد في النار، وهذا يدلك على مقدار حب الله لنبيه ورعايته له.
- سورة المائدة
نزلت في حَجَّة الوداع والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم واقف بعرفة قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دينا ﴾ [المائدة: ٣].
في هذا تشريف للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حيث صرح الله تعالى بأنه أكمل له ولأمته دينه، ورضي لهم الإسلام دينا، ولهذا قال بعض أحبار اليهود
٦٢
فضائل النبي
لعمر رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين نزلت عليكم آية لو نزلت فينا معشر اليهود لا تخذنا ذلك اليوم عيدا، قال عمر : وما هي ؟ فذكر هذه الآية، قال عمر : فإنها نزلت يوم الجمعة بعرفة، يعني وهو يوم عيد عند المسلمين، ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَمُ ﴾ [آل عمران: ۱۹].
فهذه الآية الكريمة تفيد بطلان كل دين غير دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولهذا صرَّح في آياتٍ أخرى بأنَّ مُتَّبع غيره خاسر فقال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ ﴾ [آل عمران: ٨٥].
وهذا يفيد عموم بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن دينه ناسخ لجميع الأديان، فالذين يعتقدون إمكان دخول الكتابي الجنة أو أن عمله الصالح سينفعه يوم القيامة خاطئون بهذا الاعتقاد لمخالفتهم صريح القرآن وانحرافهم عن الدين.
وقال تعالى: يَأَهْلَ الْكِتَبِ) وهم اليهود والنصارى وقد جاة كُمْ رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأضافه إليه تشريفا ريبات لكمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَاب التوراة والإنجيل كحكم الرجم وغيره وَيَعْفُوا عَن كَثِيرِ ﴾ [المائدة: ١٥] لا يُبينه لعدم تعلق المصلحة ببيانه كبعض الأخبار المحرفة.
وقد قسم العلماء ما في كتب اليهود والنصارى إلى ثلاثة أقسام:
۱- قسم دل القرآن أو السُّنَّة على صحته فهو مقبول.
دلالة القرآن المبين
٢ - وقسم أفاد القرآن أو السُّنَّة عدم صحته فهو مردود.
٦٣
- وقسم لم نجد في القرآن أو السُّنَّة ما يؤيده أو يردُّه فهذا لا نجزم فيه بقبول ولا رد عملا بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا تُصَدِّقُوا أَهلِ الكِتابِ
ولا تُكَذِّبوهم، وقولوا: آمَنَّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم».
قالوا: غير أنه إذا كان في باب المواعظ وترقيق القلوب فلا بأس به؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه كان يستمع إلى ما ينقله كعب الأحبار من الرقائق، بل كان يدعوه أحيانًا إلى ذلك بقوله: خَوفنا يا كعب.
ومما لا يضر نقله عنهم تعيين بعض الأسماء المبهمة في القرآن كتعيين ملكة
سبأ بأنها بلقيس، والذي عنده علم من الكتاب بأنه آصف بن برخيا، ونحو هذا ما لا يمس العقيدة ولا يتعلَّق بشيء من ا
الأحكام.
قدْ جَاءَ كُم مِّنَ اللهِ نُورُ ) هو النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه ينور العقل والبصائر، والنور من أسماء الله تعالى سمى به نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم وَكِتَبُ مُّبِينٌ ) هو القرآن الكريم يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَن اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَتِ الكفر والجهل إلى النُّور الإيمان والعلم بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ﴾ [المائدة: ١٥-١٦] دين الإسلام، وفي هذا تشريف كبير لنبينا صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
وقال سبحانه: يَتَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا محمَّدٌ صَلَّى الله عليه وآله وسلم، والإضافة للتشريف كما سبق يبينُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن لا
٦٤
فضائل النبي
تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾ [المائدة: ١٩] فسمى نبيه بشيرا ونذيرا، وستأتي أسماء كثيرة له، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ونباهة قدره، إذ كل اسم منها ينبئ عن ناحية من نواحي العَظَمَةِ فيه.
وقال جل شأنه: ﴿يَنَايُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَرِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ [المائدة: ٤١] وهم المنافقون، وفي هذا تسلية للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن مسارعة المنافقين إلى إظهار الكفر الذي يُبطنونه كلما وجدوا فرصة لإظهاره.
وهنا فائدةٌ ينبغي أن نُنبه إليها وهي أنَّ الله تعالى لم يناد رسوله إلَّا باللقب المشعر بالتعظيم نحو: ﴿يَتأَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: ٤١]، يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ ،
ياأَيُّهَا الْمُزَّمَلُ ﴾ [المزمل: ١]، يَأَيُّهَا الْمُدَّيْرُ ﴾ [المدثر: 1].
ونادى غيره من الأنبياء بأسمائهم المجردة يَتَنَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: ٣٥]، يَنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ [هود: ٤٦]، ﴿ إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا [هود: (٧٦]، يَمُوسَى أَقْبَلَ وَلَا تَخَفْ [القصص: ۳۱]، يَدَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾ [ ص: ٢٦]، يَيَحْيَى خُذِ الْكِتَبَ بِقُوَّة ﴾ [مريم:
۱۲]، يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [آل عمران: ٥٥]. ومن هنا يتبيَّن علو رتبته على جميع الأنبياء، وقد أشرت إلى هذا في الاستغاثة
بقولي:
أَجَلَّ إِلَهُ العَرْشِ قَدْرَ نَيَّهِ فَعَظَمَهُ عِنْدَ النَّدَاءِ بِكُنْيَةِ
دلالة القرآن المبين
٦٥
وقال الزمخشري في أول (سورة الأحزاب): «جعل نداءه بالنبي والرسول
في قوله: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: (۱) يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
[التحريم: ١)، ويتأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: ٦٧] . وترك نداءه ،باسمه، كما قال يادم اين موسى ، يعيسى
يَدَاوُرد كرامة له وتشريفا وربنا بمحله وتنويها بفضله. فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله:
تُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [الفتح: ٢٩] وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولُ ﴾ [آل عمران: ١٤٤]. قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم : أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الإخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوك مِنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [التوبة: ۱۲۸]، وَقَالَ الرَّسُولُ يَرَب ﴾ [الفرقان: ٣٠] لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: ۲۱]، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [التوبة: ٦٢]، ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَيْكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي ﴾ [الأحزاب: ٥٦]، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِي ﴾ [المائدة: ۸۱] . اهـ
وقال سبحانه: يَنَايُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: ٦٧] فلا يصلون إلى قتلك، وكان
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُحرَس قبل نزول الآية احتياطا.
فضائل النبي
قالت عائشة رضي الله عنها: سهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في
مقدمه المدينة ليلة فقال: «ليتَ رَجُلًا صالحا مِن أصحابي يَحْرُسُني الليلة». قالت: فبينما نحن كذلك، سمعنا خَشْخَشَةَ السلاح، قال: «مَن هذا؟»، قال: سعد بن أبي وقاص، قال «ما جاءَ بك؟»، قال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فجئتُ أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ونام حتَّى سمعتُ غَطِيطَهُ، ثُمَّ نزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم رأسه من قبة أدم وقال: «انصرفوا أيها النَّاسُ ؛ فقد عَصَمَنِي اللهُ».
تنبيهات
(التنبيه الأول): عبر الله تعالى بقوله يعصمك ولم يقل: يحفظك أو يقيك أو يُسلمك مع أنَّ معناها متقارب أو واحد؛ لأنَّ العصمة تناسب مقام النبوة، فيؤخذ منه مراعاة الأدب في جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ووجوب اختيار الألفاظ اللائقة بمقامه الكريم.
(التنبيه الثاني): أخبرني الشيخ حمدي أصلان جافا الألباني، وهو من العلماء الذين تلقوا عنّي في التفسير والأصول، أنه قرأ المستشرق ألماني - ذكر اسمه - أنه قال: «ترك محمَّد للحراسة مع تخوفه من المشركين واليهود اعتمادا على هذه الآية دليل على صدقه».
قلت: هذه ملاحظة معقولة، وقال سبحانه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واحذروا عصيانهما، وأعيد الأمر بطاعة الرسول لما بيناه في (سورة النساء)،
دلالة القرآن المبين
٦٧
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [المائدة: ٩٢] وجزاؤكم علينا. شهد الله لرسوله (۱) بالبلاغ المبين، وتكررت هذه الشهادة في غير آية، ومن هنا لم يكن في حاجةٍ إلى من يشهد له يوم القيامة بالبلاغ، بل هو صلى الله عليه وآله وسلّم يشهد على أُمته كما سبق في قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: ١٤٣].
وهذا - أي عدم احتياجه إلى من يشهد له من خصوصياته عليه الصلاة
والسلام.
(۱) ومثل هذه الشهادة قوله تعالى: ﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [الذاريات: ٥٤] حيث أباح لنبيه الإعراض عن المشركين وأخبر أنه غير مَلُومٍ في إعراضه عنهم، وما ذاك إِلَّا لأنه أدى لهم الرسالة وبذل معهم غاية الجهد، بحيث أنهم اعترفوا بذلك في قولهم: ا هَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ) إِن كَادَ لَيْضِلَّنَا عَنْ وَالِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا علَيْهَا ﴾ [الفرقان: ٤١ - ٤٢]. قال الزمخشري: قولهم: إن كاد ليضلنا» دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوتهم، وبذل قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لجاجهم".اهـ
ويونس عليه السَّلام حين تولى عن قومه عاتبه الله بما قصه في كتابه.
٦٨
فضائل النبي
ه- سورة الأنعام
قال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم: انت بمن يشهد لك، فإنَّ أهل الكتاب أنكروك، فأنزل الله تعالى: قُلْ لهم وَأَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَدَةٌ قُلِ اللَّهُ
رو
إن لم يجيبوا، لا جواب غيره، هو شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقي.
وهذا من دلائل عناية الله بنبيه في ردّ ما يورده عليه المشركون وأهل الكتاب، وقد نبهنا على هذا فيما سبق وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا الْقُرْةَ انُ لِأُنذِرَكُم بِهِ معشر
العرب ومن بلغ } [الأنعام: ۱۹] :أي بلغه القرآن من الإنس والجن، وهذا
تصريح بعموم نذارته للثقلين.
الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الكتب يعرِفُونَهُ محمدا باسمه ونعته كَمَا يَعْرِفُونَ
الْكِتَابَ
أبناء هُم فلا ينكرونه الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم منهم، حيث أوجبوا لها الخلود
في النار بإنكاره فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } به [الأنعام: ۲۰].
والآية تسجل الخسران على منكر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولو كان مؤمنا بموسى وعيسى عليهما السّلام في ادعائه؛ لأن تكذيبه تكذيب لهما، ثُمَّ أخذ يُسَلِّيه عن تكذيبهم له فقال سبحانه: قد (1) للتحقيق نَعْلَمُ إِنَّهُ
(۱) قال الزمخشري: «قد» بمعنى: «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته كقوله: أخِي ثِقَة لا تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَه ولكنَّه قد يُهْلِكُ المال نَائِلُه أي ولكنه كثيرًا يهلك المال نائله أي عطاؤه، وهذا من لطائف اللغة العربية وهو
دلالة القرآن المبين
٦٩
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ من تكذيبك وشتمك فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِبُونَكَ في الباطن لعلمهم بصدقك وقد كانوا يسمونك الأمين وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ ) أظهر في موضع الإضمار تصويرا لبشاعة كفرهم النايَتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ عنادًا وَلَقَدْ كذبَتْ رُسُلُ مِن قَبْلِكَ هذا من جملة تسليته عليه الصَّلاة والسَّلام فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَلَهُمْ نَصْراً ) فأهلكنا مُكَذِّبيهم، فاصبر مثلهم فسيأتيك نصرنا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَ كَ مِن نَّبَإِى الْمُرْسَلِين ما فيه تثبيت قلبك
وإن كان كبُرَ عَظُمَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِي نَفَقًا فِي الْأَرْضِ تدخل فيه أَوْ سُلَمَا فِي السَّمَاء تصعد عليه فتَأْتِيَهُم بِايَة مما اقترحوا عليك ليسلموا فإنك لا تستطيع ذلك، فاصبر حتى ينصرك الله وَلَوْ شَاء الله هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى لكنه لم يشأ هدايتهم فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَهِلِينَ ) بذلك [الأنعام: ٣٣ - ٣٥].
والنهي عن الشيء لا يستلزم وقوعه، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم التعبير عن المعنى بما يُشعر بعكسه تنبيها على أنه بلغ الغاية التي ما بعدها إلا الرجوع إلى الضد، ومثل «قد» في هذه الآية في إفادة التكثير قد» في قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ، بَشَرٌ ﴾ [النحل: ١٠٣]، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ﴾ [النور: ٦٣] ، قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ [النور: ٦٤] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوَقِينَ مِنكُمْ ﴾ [الأحزاب: ۱۸]، وفي قول موسى لقومه: وقد تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ﴾ [الصف: ٥].
۷۰
فضائل النبي
يكن قط جاهلا بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يجوز عليه الجهل بذلك، وصح عنه عليه الصَّلاة والسَّلام قوله: «مَن قال حين يُصبحُ أو يُمْسِي: ما شاء الله كان وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كلِّ شيءٍ قدير، وأنَّ الله قد أحاط بكلّ شيءٍ علمًا. لم يُصِبْهُ بلاء».
وإنما المراد بالنهي عنه الأمر باستدامة ضده، وهذا مثل قوله تعالى: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَنَهَا ءَاخَرَ [القصص: ۸۸]، أي: دم على ما أنت عليه في التوحيد. إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ سماع تفهم فيستجيبون للإيمان وَالْمَوْتَى عني بهم الكفار لعدم سماعهم القرآن يبعثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * فيعاقبهم على تكذيبهم وَقَالُوا ) أي : الكفار وَلَوْلَا نُزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ، كالناقة والعصا هم إِنَّ اللَّهَ قَادِرُ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحتموها وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأنعام: ٣٦ - ٣٧]. أن نزولها بلاء، ووباله عليهم لوجوب إهلاكهم إن لم يؤمنوا كما حصل للأمم قبلهم، ولكن الله تعالى حكم ببقاء هذه الأمة إلى يوم القيامة.
قل
وهذا مثل قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن تُرْسِلَ بِالْآيَتِ التي اقترحها كفار مكة إلا أن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الإسراء: ٥٩] حين أرسلنا بها وفق طلبهم
فأهلكناهم. ولو أرسلناها إلى هؤلاء وكذَّبوا بها لحق عليهم الهلاك، لكنَّا حَكَمْنا بإمهالهم لإتمام أمر محمد وبقاء شريعته وأُمته.
دلالة القرآن المبين
۷۱
مع أنَّ القرآن آيةٌ كبرى ومُعجِزَةٌ عُظْمَى أعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولا ببعض ما فيه، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما مِن نبيِّ إِلَّا أُوتِي ما على مِثْلِهِ آمَن البَشَر ، وكان الذي أوتيته وَحْيَا أَوْحَاهُ الله إِليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يومَ القِيامَةِ» (۱).
وهذا لا يمنع أن يكون له صلَّى الله عليه وآله وسلم معجزات مادية اقتضاها الحال واستدعاها الوقت كالإسراء والمعراج ونبع الماء من أصابعه الشريفة، وحنين الجذع وانشقاق القمر، ونحو ذلك مما جاء في القرآن وصرحت به الأحاديث المقطوع بصحتها وأجمع عليه أهل السنة.
وليس في الآيتين المذكورتين ولا في الحديث المذكور مُتمسك للمُبتدعة الذين خرجوا عن الإجماع بإنكارها؛ لأنَّ المراد بالآيتين قطع طمع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في إيمان أولئك المشركين وبيان أن سؤالهم الآيات قصدوا به العناد لا الاسترشاد، واقرأ قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
(۱) قال بعض العلماء الأندلسيين : إنَّ أعظم المعجزات وأوضحها دلالة: القرآن الكريم، لأنَّ الخوارق في الغالب مغايرة للوحي الذي تلقاه النبي، وتأتي المعجزة شاهدة، والقرآن هو نفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز، فدلالته في عينه ولا يفتقر إلى دليل أجنبي . عنه، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما مِن نبي إلَّا أوتي من الآيات ما آمَنَ على مِثْلِهِ البَشَرِ، وإنما كان الذي أوتيته وَحْبًا إلى، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يومَ القِيامَةِ». يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة، وهو كونها نفس الوحي كان المصدق لها أكثر .
۷۲
فضائل النبي
يصير معه
الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾ [الإسراء: ۹۰] الآية، تجدهم بلغوا في العناد حدًّا . إيمانهم من قبيل الممتنع، ولذا أيأسه الله من إيمانهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَ أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 1]، وأما الحديث فالمراد به أن أعظم معجزة أوتيها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم هي القرآن لما بيناه في
المقدمة.
طلب المشركون من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يجعل بينه وبينهم حكما من أحبار اليهود أو أساقفة النصارى ليخبرهم بما في كتبهم من صفاته فيقروه عليها، فأنزل الله تعالى رفض طلبهم على لسان رسوله: قل: أَفَغَيْرَ الله ابتغي حَكَمًا بيني وبينكم وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ القرآن مفصلا مبينا فيه صفاتي المذكورة في التوراة والإنجيل، وقد حرَّفها كثير من الأحبار والرهبان كما سجله القرآن في مواضع فلا يصلحون للتحكيم؛
لأنَّ
الغرض أعماهم عن الحقِّ وَالَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الكتب كعبد الله بن سلام
والنجاشي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي: الكتاب مُنَزِّلُ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِن الْمُمْتَرِينَ } [الأنعام: ١١٤].
والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يمتري في حقة القرآن ولا يجوز عليه ذلك، والمراد بالنهي عنه الأمر باستدامة ضده، والتعريض بالمشركين بأن شكهم لا ينبغي لأنه لا ينبني على أساس.
وههنا نكتة نُنبه عليها، وهي أنَّ القرآن إذا قال: الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ
دلالة القرآن المبين
۷۳
[الأنعام: ۸۹] بإضافة الفعل إلى الله تعالى فهو قصد المنصفين كعبد الله بن سلام
وتميم الداري ونحوهما ممن آل بهم الإنصاف إلى الإسلام.
وإذا قال: الَّذِينَ أُوتُوا الكتب ﴾ [المائدة: ٥٧] ببناء الفعل للمجهول فهو قصد - غالبا - المتعصبين الذين أصروا على تكذيبهم بغيا وحسدا، وقد يقصد مجرد التعريف نحو وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: ٥] وستأتي تتمة هذه القاعدة في آخر (سورة الإسراء) فانتظرها هناك وشد عليها يد الضنين.
٦- سورة الأعراف
قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِي الدُّنيا فَسَأَكْتُبُهَا في الآخرة اللَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ الله وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ ، خصت بالذكر تنبيها على أهميتها، وَالَّذِينَ هُم بِنَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمن محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالإنجيل باسمه ونعته وبيان علاماته التي لا تنطبق على غيره، ومنها: يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ ﴾ التي حُرمت عليهم في شرعهم كلحم الإبل وشحم البقر والغنم على التفصيل المذكور في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرِ ﴾ [الأنعام:
١٤٦] الآية.
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبيثَ كالميتة ولحم الخنزير والخمر، ويؤخذ من الآية
٧٤
فضائل النبي
أنَّ ما أحله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم أو حرمه يجب التزامه ولو لم يكن في القرآن، ومن هنا قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسولُ الله مثل ما حرم الله.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ثقلهم وَالْأَغْلَلَ القيود الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ كوجوب قتل النفس في التوبة حسبما تقدم في (سورة البقرة)، وكتحريم صيد السمك يوم السبت حسبما يأتي في قوله تعالى: ﴿ وَسْتَهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ [الأعراف: ١٦٣] الآية.
إلى غير ذلك من التشديدات التي كانت في شريعتهم، حتى أنهم أبوا قبول التوراة لشدة أحكامها عليهم، فرفع الله الجبل وهددهم بإسقاطه عليهم إن لم
يقبلوها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَنَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ خُذُوا مَا
عَاتَيْنَكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۷۱].
بخلاف شريعتنا، فإنَّ تعاليمها سهلةٌ، ولذا قال عليه الصَّلاة والسلام: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ».
الَّذِينَ ءَامَنُوا ہے ا منهم وَعَذَرُوهُ وقروه وَنَصَرُوهُ
بأنفسهم وأموالهم وَاتَّبَعُوا النُّور القرآن الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أَوَلَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون [الأعراف: ١٥٦ - ١٥٧]، لا غيرهم ممن بقي على .
يهوديته أو مسيحيته.
ويلاحظ هنا أنَّ الله سمَّى القرآن نورا، وكذا سماه في عِدَّة آيات، والنور
دلالة القرآن المبين
Vo
إشراق لا إحراق معه، يشير إلى سماحة تعاليمه ويُسْرِ أحكامه فهو مشرق غير محرق مثل نور القمر، أمَّا التوراة وإن سماها الله نورا فقد بين نوع نورها في (سورة الأنبياء) بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءُ وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: ٤٨]. فهي ضياء، والضياء إشراق فيه إحراق، فهو يشير إلى شدة تعاليمها وثقل أحكامها.
وتتبين لك صحة هذه الملاحظة حين تقرأ قوله تعالى في سوره يونس)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءُ وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: ٥].
هذا، وبعد أن سجل الله تعالى بعض صفات نبيه في التوراة والإنجيل؛ بين عموم
رسالته فقال: قُلْ يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَكَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُتِيَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَتِهِ ﴾ القرآن، أخذ منه بعض المفسرين أنه رسوله إلى نفسه، وهذا ليس خاصا به بل يعم الأنبياء أيضًا ضرورة أنَّ كلَّ نبي مكلف بالإيمان بما
أوحي إليه وبالعمل به وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: ١٥٨]. ذكر من أسمائه هنا: الرسول، النبي، الأُمي، وهذا الاسم الأخير يشير إلى معجزة مادية دونها معجزة كل نبي؛ لأنَّ إتيان الأُمي بكتاب يعجز الثقلين مع كونه أعلم الخلق بما تضمنه؛ إعجاز جاوز حد النهاية، فلا معجزة إلا وهي دونه. قال البوصيري: كَفاكَ بالعِلْمِ في الأُمِّيِّ مُعْجِزَةٌ في الجَاهِليَّةِ والتَأْدِيبِ في اليُتم صعد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على الصفا ليلة فدعا أهل مكة فخذا
٧٦
فضائل النبي
فخذا يا بني فلان يا بني فلان يدعوهم إلى الإيمان ويُحذِّرهم بأس الله. فقال
بعضهم لبعض : إنَّ صاحبكم لمجنون، بات يهوت -يصوت- إلى الصبح. فأنزل الله تعالى يدافع عنه: ا عموا وَلَيَتَفَكَّرُوا فيعلموا ما بصاحبيرهم الذي عرفوه بكمال العقل ورجاحته من جنة جنون إن
نافية بمعنى: «ما» هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِين بين الإنذار [الأعراف: ١٨٤]. وهذا -كما قلنا - من دلائل عناية الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم.
٦- سورة الأنفال
ذكر الله تعالى إمداد نبيّه عليه الصَّلاة والسَّلام بالملائكة في غزوة بدر وسبق الكلام على ذلك، ومما ذكر هنا ولم يأتِ في (آل عمران) أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ كفَّا من حصى قبل بدء القتال ورَمَى بها في وجوه الكفَّار وهم ألف فأصابت عيونهم جمعيًا وشغلتهم، فكانت معجزة سجلها الله بقوله تعالى: و ما رميت أعين الكفار إذ رميت بالحصى، لأنَّ كفَّا من الحصى لا يصيب عيون جيش كبير برمية بشيرٍ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: ١٧]
بإيصالها إلى عيونهم فهي معجزة أيدك الله بها، وإليها أشار البوصيري بقوله: ورمى بالحَصَى فَأَقْصَدَ (۱) جَيْنًا ما الحَصَى عِنْدَهُ ومَا الأَلْقَاءُ وهذه إحدى المعجزات المادية التي اقتضاها الحال كما أشرنا إليه في (سورة
(۱) أي: أصاب، يقال أقصد شيئًا أي: أصابه.
دلالة القرآن المبين
۷۷
الأنعام)، بل قتال الملائكة ببدر معجزة مادية أيضًا، شاهدها الصحابة والمشركون وحدَّثوا عنها (۱) ، ولما أسلم الأنصار علمت قريش أنَّ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في ازدياد وأنَّ دينه في عُلُو مستمر، فاجتمع زعماؤهم وزعماء غيرهم من مشركي مكة في دار الندوة للتشاور في شأنه، وحضر معهم
(۱) قوله تعالى: تَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) [الأنفال : ٢٤]، قال الزمخشري: «وحد الضمير - يعني في «دعاكم»- كما وحده فيما قبله - يعني : يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: ٢٠] - لأنَّ استجابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال، وبالدعوة البعث والتحريض. وروى أبو هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرَّ على باب أُيِّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثُمَّ جاء فقال: «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنتُ أصلي، قال: «ألم تُخبر فيما أوحي إلى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ؟ قال : لا جرم لا تدعوني إلَّا أجبتك.، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّ هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم. الثاني: أن دعاءه كان لأمر ام يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمُصَلِّي فله أن يقطع صلاته». قلت: الحديث صحيح وهو يفيد وجوب إجابة الرسول مُطْلَقًا لا في خصوص أمرٍ واجب التعجيل، ولهذا أورده من كتب في الخصائص كالبلقيني والسيوطي والقسطلاني وغيرهم، مستدلين به على وجوب إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على المُصَلِّي ولو كان يُصَلِّي فريضةً، وهو مذهب المالكية والشافعية، وحكاه الزمخشري كما مر في كلامه وهو حنفي، فإجابته عليه الصَّلاة والسَّلام طاعةٌ مُفترضة.
۷۸
فضائل النبي
إبليس لعنه الله في صورة شيخ نجدي وتبادلوا الرأي وانتهوا إلى قتله عليه السلام، فبعث الله إليه جبريل عليه السَّلام يخبره باتتمار القوم به وبأنَّ الله يأذن له في الهجرة، فترك صلَّى الله عليه وآله وسلّم عليا رضي الله عنه ينام في فراشه
وقال له: «الن يُصيبك أذى»، وخرج من البيت، والمشركون محدقون به ! وقرأ أول (سورة يس) حتى بلغ فَأَغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: ٩] وأخذ كفا من تراب ورماهم بها وهو يقول: «شاهَتِ الوجوه». فأخذهم النوم ومضى الحال سبيله ولم يروه، ولا شعروا به إلَّا في اليوم الثاني حين أخبرهم مخبر أن محمدا ذهب ولم يروه، وأنه رماهم بكفّ من تراب، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم وانصرفوا خائبين لم ينالوه بأي أذى.
وهذه معجزة ماديَّةٌ سجلها الله تعالى وهو يُذَكِّر نبيه بنعمته عليه و اذكر إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يحتالون في أذيتك ويتشاورون في القضاء عليك وهم بدار الندوة ليتوك يحبسوك أَوْ يَقْتُلُوكَ كلهم بأن يضربوك بسيوفهم ضربة رجل واحدٍ فيتفرّق دمك في قبائل العرب، ولا يستطيع بنو هاشم مقاتلتهم، فيضطرون إلى قبول ديتك، وهذا رأي أبي جهل وأيده الشيخ النجدي لعنهما الله أو يركبوك بعيرًا ويُخْرِجُوكَ من مكة وَيَمْكُرُونَ بك وَيَمْكُرُ الله بهم بأن نقض ما أبرموا فنجاك وخيبهم
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ أقدرهم على مجازاتهم [الأنفال: ٣٠]. جرت سُنَّة الله مع المكذِّبين - إذ تحدوا رسولهم- أن يهلكهم ورسولهم حي ليشفي صدره بهلاكهم، فأهلك قوم نوح بالطوفان، وقوم هود بالصيحة،
دلالة القرآن المبين
۷۹
وقوم صالح بالريح الصرصر، وقوم لوط بالقذف، وقوم شعيب بالظُّلَّة،
وفرعون بالغرق، وقارون بالخسف إلى غير ذلك.
لكن لما بُعث نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم رفع الله القذف والمسخ والخسف وسائر أنواع العذاب التي عَذَّب بها الأمم السابقة إكراما له، وجعل
وجوده عليه الصلاة والسَّلام مانعا من نزول العذاب بأمته رغم طلبهم له. اقرأ قوله تعالى: وَإِذْ قَالُوا :أي: كفار مكة اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا : القرآن هُوَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ انْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم كالخسف أو الغرق [الأنفال: ۳۲]، وهذا نهاية العناد والتحدّي. قال الله تعالى يخاطب نبيه: اير وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾
[الأنفال: ٣٣] فوجودك مانع من نزول العذاب الذي طلبوه؛ لأنَّ الحكمة اقتضت إمهالهم ليتم أمرك ويظهر دينك، وإنما يُعذِّبهم عذابًا لا استئصال فيه، بأن ينصرك عليهم في الجهاد كما في آية الإمداد بالملائكة، وكما في قوله تعالى: يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مؤْمِنِينَ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [التوبة: ١٤ - ١٥] الآية.
أما قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: ۳۳] حيث يقولون في طوافهم: غفرانك غفرانك»، فهو يشير إلى مانع آخر يمنع من عذابهم وهو كونهم في حرم الله يطوفون به ويستغفرونه. لكن هذا ليس بدائم بل هو مرتبط ببقائهم بمكة حيث يطوفون ويستغفرون، فلما أراد تعذيبهم أخرجهم إلى بدر حيث أصابهم القتل والأسر والهوان، ثُمَّ
۸۰
فضائل النبي
تتابعت عليهم النكبات في كثير من الغزوات حتى فتح الله مكة وطهرها من الشرك والمشركين.
ومن هنا لم يؤكّد النفي في جانب استغفارهم، وأكد بلام الجحود في جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إيذانا بدوام مانعيته، فلا خسف ولا مسخ ولا عذاب استئصال في الأُمة المحمدية.
نعم، ثبت في الأحاديث الصحيحة وقوع المسخ لأفراد من هذه الأمة باستحلالهم الخمر والزنا وبعض المنكرات في آخر الزمان قرب قيام الساعة، كما وقعت حوادث فردية أعرف منها ثلاثة حادث ذكرته في كتابي "واضح البرهان على تحريم الخمر في القرآن"، والثاني ذكره العلامة أبو عبد الله محمد بن النعمان التلمساني في كتابه مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام"، والثالث ذكره الشعراني في الباب الثاني عشر من "المنن الكبرى"
والسبب في الحوادث الثلاثة سب الشيخين رضي ا ، الشيخين رضي الله عنهما.
قوله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ [الأنفال: ٦٩] يصرح بإحلال الغنائم للأمة المحمدية، وهذا مما فُضّل به نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم على الأنبياء كما في الحديث المارّ في ( سورة آل عمران)، وكان من قبلنا إذا غنموا غنائم جمعوها في مكان فتأتي نار من السماء فتأكلها، كذلك جاء مُبيِّنًا في حديث "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
دلالة القرآن المبين
۸۱
- سورة التوبة
دعا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المسلمين إلى غزوه تبوك، وكانوا في عشرة وضيق، وكان الوقت شديد الحرّ فشقّ عليهم ذلك وتأخر كثير منهم عن الخروج، فأنزل الله تعالى في :لومهم يَتأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لكم أنفرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنَا قَلْتُمْ تباطأتم عن الجهاد وأخلدتم إلى الأرض ، والاستفهام للتوبيخ والإنكار أرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِن الآخرة بدل نعيمها فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي مقابلة الآخِرَةِ إلا قليل حقير إلا تنفروا مع الرسول يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ يَأْتِ بهم بدلا عنكم وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى
:
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ ومنه عذابكم واستبدال قوم غيركم إِلَّا تَنصُرُوهُ أي: النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ حين أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا حملوه على الخروج من مكة لما اجتمعوا بدار الندوة واتفقوا
على قتله ثاني اثنين حال كونه أحد اثنين، والثاني أبو بكر الصديق الله عنه رضي وإِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ما بجبل ثور إذ يقول لصحبه الذي رأى الكفار مقابل الغار يبحثون عنهما فقال: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فأجابه: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟! فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي: أدام نزول
۸۲
فضائل النبي
طمأنينته عليه وَأَيَدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: ٣٨-٤٠]. يعني: الملائكة فالله الذي نصره في هذا الموطن الدقيق الحرج لا يتخلى . عنه أبدا، وفي هذا إشارة إلى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم موعود من الله بالنصر في جميع المواطن
كما تقدم في (سورة النساء)، وهذا مما خُصَّ به نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم. لما عزم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم على الخروج إلى تبوك استأذنه بعض المنافقين في التخلف لأعذار أبدوها، فأذن لهم فيه لسببين:
أحدهما: أنَّ الله لم يتقدم إليه في ذلك بأمرٍ ولا نهي. ثانيهما: أنه لم يرد أن يجبرهم على الخروج معه، فقد يكون في خروجهم على غير إرادتهم ضرر. فأنزل الله تعالى يُبيَّن له أنَّ ترك الإذن لهم كان أولى لما يترتب عليه من انكشاف الصادق من الكاذب فيهما أبدوه من الأعذار، واستفتح ما أنزله بجملة قوله : عَفَا الله عنك [التوبة: ٤٣] على عادة العرب في
دعائية هي
استفتاح كلامهم بهذه الجملة أو بقولهم: «غفر الله لك» أو: «جعلت فداك» أو نحوها، يقصدون تكريم المخاطب إذا كان عظيم القدر ولا يقصدون المعنى الوصفي للجملة، فالآية بحسب الأسلوب العربي تفيد تكريم النبي وتعظيمه خلافًا لمن وَهِمَ ففهم منها عتابه أو تأنيبه؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يخالف أمرا ولا نهيًا، فيستوجب ما فهمه ذلك الواهم، وقوله تعالى ولم أذنت لَهُمْ وهلا تركتهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَذِبِينَ [التوبة: ٤٣] هو محط البيان المذكور، وأولوية ترك الإذن سياسة لا علاقة لها
دلالة القرآن المبين
۸۳
بالدين، والمقصود أنَّ أسلوب الآية من الأساليب التي تفيد تعظيم الله لنبيه
حين يخاطبه.
تكلم جماعةٌ من المنافقين في النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يليق، فقال بعضهم لبعض : كفُّوا عن هذا الكلام لئلا يبلغه فيؤذينا، فقال الجلاس - ا بضم الجيم وتخفيف اللام ابن سويد نقول ما شئنا ثُمَّ نأتيه فننكر ونحلف فيصدقنا، فإنها محمد أذن.
فأنزل الله تعالى يفضحهم ويدافع عن نبيه: وَمِنْهُم أي: المنافقين الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ بعيبه ، وذَكَرَه بوصف النبوة تكريما له وتصويرا لقبح إذا يتهم؛ لأنَّ إذاية النبي أقبح من إذاية جميع الناس، إذ هي إذاية الله تعالى وَيَقُولُونَ إذا نهوا عن ذلك هُوَ أُذُنٌ يسمع كل قول ويقبله، فإذا حلفنا له أننا لم نقل صدقنا، وفي هذا وصفه بالغفلة، قال الله تعالى: قل هو ا ذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ مستمع خير يغضي عن الشر تكرما يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ يُصَدِّق لِلْمُؤْمِنِينَ فيما أخبروه لا لغيرهم وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ امَنُوا مِنكُوا أي: أظهروا الإيمان منكم معشر المنافقين، فهو يرفق بكم ولا
يكشف أسراركم لكن لا يُصَدِّقكم، ثم توعدهم تعالى بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: ٦١].
وإذا وازنت هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ﴾ [الصف: ٥] الآية، وجدت
Λε
فضائل النبي
رتبة كليم الله دون رتبة حبيب الله بمراحل (۱).
ثُمَّ قال تعالى بعد آياتٍ في الموضوع: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ما بلغك عنهم من سبك والعيب فيك وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ : حيث قال الجلاس: إن كان محمد صادقًا فيما يقول فنحن شر من الحمير، وقال عبدالله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
أفادت الآية أنَّ العيب في النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفر، وسبق ذلك في (سورة النساء وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَمِهِمْ ﴾ أي: أظهروا الكفر، وهو العيب في النبي، بعد إظهارهم الإسلام لأنهم منافقون وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا من الفتك بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ليلة العقبة عند عودته من تبوك، وكانوا
(۱) قال الزمخشري في هذه الآية: «الأذن: الرجل الذي يُصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة: «عين»، وإيذاؤهم له هو قولهم فيه: «أذن». و«أُذُن خَيْر» كقولك: «رجل صدق»، تريد الجودة والصلاح كأنه قيل: «نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن»، ثُمَّ فسر كونه أذن خير بأنه يُصَدِّق بالله لما قام عنده من الأدلة، ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمةٌ لمن آمن منكم أي: أظهر الإيمان- أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم إلا أنه أذن خير لكم لا أذن سوء، فسلَّم لهم قولهم فيه إلَّا أنه فشره بما هو مدح له وثناء عليه - وإن كانوا قصدوا به المذمة والتقصير - بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرة . اهـ وهو نفيس
دلالة القرآن المبين
۸۵
اثني عشر رجلا هموا بذلك، فأعلمه الله بما هموا به فأخذ حيطته وأبطل
مكيدتهم.
وهذا مما اختص الله به نبيَّنا حيث يُعْلِمه بما يُدبر أعداؤه من مكايد لاغتياله، فلا يصلون إلى مرادهم ويرجعون خائبين، على حين أن كثيرًا من الأنبياء قتلوا بأيدي أعدائهم كما قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّنْ نَبِيُّ قُتِلَ ﴾ [آل عمران: ١٤٦] بالبناء للمجهول.
ومَا نَقَمُوا ) من النبي حيث أرادوا قتله إِلَّا أَنْ أَغْنَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فضله بالغنائم بعد أن كانوا في جهدٍ وفاقةٍ [التوبة: ٧٤]. فلم ينلهم من النبي إلا الغنى وهو مما يُحب.
فالآية من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو نوع من البلاغة معروف، كأنه قيل: ليس في النبي ما يعاب إلَّا أنَّه أغناهم بعد الفاقة وهذا لا يعاب، فهو إذن
لا عيب فيه.
ونزل في مزينة وجهينة بالتصغير - وكانوا مؤمنين ينفقون مالهم في الجهاد ونحوه، يقصدون ثواب الله تعالى ودعاء النبي لهم: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ في سبيل الله قُربت تقربه
عِندَ الله واله وسيلة إلى صَلَوَاتِ دعوات الرسول له الا إنها
نفقتهم :
رحيم } [التوبة: ٩٩].
عند الله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِه جنتهُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
٨٦
فضائل النبي
أفادت الآية أنَّ استجلاب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعمل الطاعة من مقاصد التقرب إلى الله تعالى الموجبة لرضاه، يؤكد هذا قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهَرُهُمْ وَتُزَكِّيهِما بأخذها وَصَلَ عَلَيْهِمْ ادع لهم، فأمره بالدعاء لهم وعلل هذا الأمر بقوله تعالى: إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَن لهم
طمأنينة لقلوبهم ورحمة لهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ } [التوبة: ١٠٣].
في هذه الجملة إشارة إلى أنَّ دعاءه عليه الصَّلاة والسَّلام مسموع عند الله
سماع قبول.
وقال تعالى بعد الإخبار بقبول توبة المتخلفين عن تبوك من المؤمنين: ما كان لا يصح لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ الله إذا خرج الغزوة وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ بأن يصونوها عما رضيه لنفسه من الشَّدائد [التوبة: ١٢٠].
أي لا يجوز لهم ذلك، فهو نهي في صيغة خبر للدلالة على تأكده وثبوته. ويؤخذ منه أنَّ الواجب على المؤمنين أن يؤثروا نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على أنفسهم؛ لأنها نفس كريمة على الله تعالى، وقال عز وجل: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُ مِنْ أَنفُسِكُمْ } أي: منكم تعرفونه وتعرفون نسبه فيكم وعَزِيز شديدٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ ما مصدرية، أي: شديد عليه عنتكم ومشقتكم الحَرِيصٌ عَلَيْكُم : أي: على هدايتكم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ يريد الخير لهم [التوبة: ١٢٨].
دلالة القرآن المبين
AV
والرأفة شدة الرحمة، قال الحسين بن الفضل: «لم يجمع الله لأحدٍ من أنبيائه اسمين من أسمائه تعالى إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فسماه رءوفا رحيما،
وقال : إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحج : ٦٥] .
قلت: سماه فيما سبق نورًا أيضًا وقال : اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور: ٣٥](١)
- سورة يونس
ردَّ الله تعالى على المشركين الذين كذَّبوا بالقرآن الكريم وزعموا أنه مفترى فقال سبحانه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَ أَنَّ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ لأنه لا يقدر على أن يقوله بشر من قبل نفسه ولو كان أبلغ الناس وأفصحهم ولكن كان تصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب وَتَفْصِيلَ الْكِتَبِ تبيين ما كتبه الله من
الأحكام والغيوب والأخبار وحقائق العلوم لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . ثُمَّ صرَّح بدعواهم الباطلة أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَهُ : محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في فصاحة تراكيبها وبلاغة أساليبها وإحكام مبانيها وسمو معانيها وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ من آلهتكم
(۱) وسماه: «كريما» في (سورة الحاقة ): إِنَّهُ لَقَولُ رَسُول كريم ة [الحاقة: ٤٠]، والكريم من أسمائه الحسنى، وسماه «مبينا» في (سورة الدخان): وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } [الدخان:
١٣]، وقال تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: ٢٥].
۸۸
فضائل النبي :
وأنصاركم إن كُنتُمْ صَدِقِينَ في أنه افتراء [يونس: ۳۷-۳۸]. وبالضرورة لم يستطيعوا لأنَّ القرآن فوق قدرة البشر، وقد نوع الله التحدي بالقرآن، فتحدّى بسورة منه كما في هذه الآية، وهي صادقة بأقصر سورة كالكوثر، وتحدى بعشر سور منه في قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود: ۱۳]، وبحديث مثله في قوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثِ مِثْلِهِ ﴾ [الطور: ٣٤] وهو صادق بالكثير والقليل منه، وأعم من التحدي بسورة.
وبجميعه في قوله تعالى: ﴿ قُل لَّينِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: ۸۸] وذلك لإظهار فضيلة نبيه بعلو معجزته على جميع المعجزات، وبقائها ما بقت الأرض والسموات.
10- سورة الرعد
عاب أهل الكتاب على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كثرة الزوجات وقالوا كما تقدم - لو كان نبيا لترك النساء وزهد في الدنيا، فرد الله عليهم بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْ وَ جَا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: ۳۸] كإبراهيم ويعقوب وداود وسليمان عليهم السلام. فليس النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بِدَعًا منهم، والزواج لا ينافي الزهد،
وإنما ينافيه التوسع في المباحات من المطعومات وغيرها.
والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كان يعيش عيشة الكفاف والتقلل كما هو معروف من سيرته، فكان يمرُّ الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار لطبخ، إن
دلالة القرآن المبين
هما إلَّا الأسودان: التمر والماء» كما تقول عائشة رضي الله عنها.
۸۹
وكانت الأموال تأتيه من الفيء والمغانم فيفرّقها ويبيت على الطوى، ويأتيه السائل فلا يجد ما يعطيه فيأمره أن يستدين على حسابه، وانتقل صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى الرفيق الأعلى ولم يضع لبنة على لبنة في بناء سوى بيته الذي
كان يسكنه، ولم يترك دينارًا ولا درهما.
ومن أعجب أحواله صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه فرَّق أموالا جاءته في بعض المرات وبقيت منها دراهم دون العشرة نسيها، فأخذه تلك الليلة أَرَقُ وهو يقول لعائشة «مالي؟» حتى تذكَّر الدراهم المتبقاة، فبعث بها إلى من يستحقها وقال: «ما كان ظنُّ محمَّدِ بربه أن ينام وفي بيته هذه الدراهم؟». ثُمَّ نام قرير العين، فأي زهد يوازي هذا أو يُقاربه ؟! وقال الكفار من المشركن والكتابيين لو كان رسولا لأتى بما نطلبه من الآيات. فرد الله عليهم بقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِشَايَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ لأنَّ الرُّسُلَ عبيد الله تعالى، لا يقدرون على شيء إلا بإرادته سبحانه.
وقالوا أيضًا: لو كان رسولا الحصل ما توعدنا به من العذاب على تكذيبه فرد عليهم بقوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابُ ﴾ [الرعد: ۳۸] وعند انتهاء الأجل المكتوب ينزل بهم ما أو عدوا به من العذاب وقد حصل ذلك في غزوة بدر وخيبر وغيرهما. وقالوا أيضًا: لو كان صادقا ما نسخ الأحكام التي جاءت في التوراة
والإنجيل، فردَّ عليهم بقوله سبحانه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ من الأحكام
فضائل النبي :
ما شاء منها وَعِندَهُ أُمُّ الكتب ﴾ [الرعد: ٣٩] وهو اللوح
المحفوظ المشتمل على الكتب المذكورة بأحكامها الممحوة والثابتة، قال تعالى:
بَلْ هُوَ قُرْ أَنْ تَجِيدُ فِي لَوح محفوظ ﴾ [البروج: ۲۱ - ۲۲] .
فهذه أربع آيات ردَّ الله بها شُبَه الكفَّار ودعاويهم.
ثُمَّ أتبعها برد دعوى خامسة فقال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مرسلا قُل كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد: ٤٣] من منصفي اليهود والنصارى ، وهذا يفيد عناية الله بنبيّه في دفع ما يورد عليه من دعاوى وشبه ، ولم يحصل مثله لنبي ولا رسول قبله.
١١- سورة الحجر
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] تولَّى الله حفظ كتابه فلا يدخله تبديل ولا تحريف ولا زيادة ولا نقص، فهو باق ما بقي الدهر مصدر السعادة ومنهل العرفان ومُرشد الضال وهادي الحيران، وفي هذا تكريم لنبينا صلى الله عليه وآله وسلّم بدوام معجزته وخلود شريعته، على حين أنَّ التوراة وكل الله حفظها إلى أحبار اليهود كما في (سورة المائدة - آية ٤٤ )
(1)
فحرَّفوها وغيَّروا كثيرًا من أحكامها، وكذلك حصل في الإنجيل ) فلا يوجد
كتاب سماوي سالم من التحريف سوى القرآن الكريم (٢) .
(۱) بل لم يكتب الإنجيل كما نبهنا عليه في أول التعليقات. (۲) وقال الزمخشري: إِنَّ نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ ﴾ [الحجر: ٩] رد لإنكارهم واستهزائهم في
دلالة القرآن المبين
۹۱
(تنبيه): استدل الحافظ ابن حزم بالآية المذكورة على حفظ السُّنَّة أيضًا من التبديل والضياع، وهو استدلال ظاهر؛ لأنَّ السُّنَّة وحي كالقرآن إلَّا أنها وحي غير متلو، ولأنّها بيان لما فيه من الأحكام والمعاني كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل : ٤٤] الآية.
والبيان يجب أن يكون محفوظاً كما حفظ المبيَّن، وقد قيض الله للسُّنَّة رجالا حفظوها غاية الحفظ وضبطوها نهاية الضبط، فلا يحكمون لحديث بالصحة حتى يمر بمراحل من النقد والتمحيص تبتدئ برواته واحدا واحدا من حيث العدالة والثقة، ومشافهة كل راو لشيخه، ثُمَّ تنتهي بالمتن من حيث سلامة معناه النكارة ولفظه من الشُّذوذ والإدراج، فإن حصل عندهم أدنى شبهة فيه
من
قولهم: يتأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ﴾ [الحجر: ٦] وكذلك قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين، وهو حافظة في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتبديل وتحريف، بخلاف الكتب المتقدمة، فأنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار، فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف، ولم يكل القرآن إلى غير حفظه. فإن قلت: فحين كان قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ ردًّا لإنكارهم واستهزائهم، فكيف اتصل به قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ ﴾ [الحجر: ٩]؟. قلت: قد جعل ذلك دليلا على أنه منزل من عنده آية؛ لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة
والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواء». اهـ
قلت: فالآية من قبيل دفاع الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم.
۹۲
فضائل النبي
من الحديث
حكموا عليه بالضعف أو النكارة أو الوضع حسبما تقتضيه الشبهة قوة وضعفا. ولقد بلغ من شِدَّة تحريهم وتيقظهم أنهم يستخرجون كلمةً . فيحكمون بوضعها وحدها مثل حديث: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كلِّ مُسْلِمٍ ومسلمة» حكموا بوضع: «مسلمة» لأنهم توصلوا ببحثهم إلى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم لم يقلها، وكذلك كلمة «ثلاث» من حديث: «حُبَّبَ إِلى مِن دُنْيا كُمْ ثلاث: الطَّيبُ والنِّسَاءُ وجُعِلَتْ قُرَةُ عَيْني في الصَّلاةِ». حكموا بوضعها أيضًا للسبب المذكور. ومثل هذا كثير لا يدركه إلَّا من تعمَّق في علوم السُّنَّة المطهرة وكان من جملة خدمتها، جعلنا الله منهم بمنه.
وقال سبحانه: لَعَمْرُكَ إنَّهم أي قوم لوط أو قريشا الفي سكرتيم يَعْمَهُونَ يتردَّدون [الحجر: ٧٢].
لعمرك : كلمة قسم، أي: وحياتك، أقسم الله بحياة نبيه عليه الصلاة والسلام ولم يقسم بحياة نبي غيره ولا رسول ولا مَلَك، وهذا تشريف كبير لا يحتاج إلى بيان، قال ابن عباس - في لعمرك - : معناه: وحياتك يا محمد، وقال: ما خلق الله نَفْسًا أكرم عليه من محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلم، وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته، وذهب بعض المفسرين إلى أنَّ في الآية حذفًا تقديره: قالت الملائكة : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكَرَهِم يَعْمَهُونَ ، والخطاب موجه إلى لوط عليه السلام، فهم يقسمون بحياته على أن قومه يعمهون، وهذا قول ضعيف ردَّه الإمام ابن القيم في "أقسام القرآن" وأجاد.
دلالة القرآن المبين
۹۳
ومما يؤيد ضعفه أنه يحتاج إلى تقدير ما سبق، وعدم التقدير أولى لأنه
الأصل.
وأيضًا: إذا احتمل كلام في القرآن أن يكون كلام الله تعالى أو محكيًّا على لسان ملك أو نبي مثلا، فالواجب حمله على الأول ولا يصرف إلى الثاني إلا لدليل قوي.
وأيضًا: فالمناسب أن يكون هذا القسم من إنشاء الله تعالى عظم به أفضل مخلوق عنده، كما أنشأ أقسامًا غيره ببعض مخلوقاتة تعظيما لها أو تنبيها على ما
أودع فيها من الفوائد والحكم.
وأيضًا: فكيف يصح )
ادعاء إقسام الملائكة بحياة لوط؟ ومن أين يأتي به
مدعيه ولم يرد به حديث ولا أثر ؟!.
وأيضًا: ففي حمل الآية عليه تخريج لها على معنى دائر بين الحرمة و الكراهة وهو الإقسام بغير الله تعالى، هذا إن صح أن الملائكة أقسموا بحياة لوط عليه السَّلام، لكنه لم يُنقل . على أنَّ الملائكة عليهم السلام أعرف بعظمة الله وبجلاله، فيكف يقدموا على الحلف بغيره ؟!. فإن قيل: قد أقسم الله بالشمس والقمر والنجم والضحى والنهار والليل
ونحو ذلك، فهل هذا يُقلّل من قيمة القسم في هذه الآية؟ فالجواب: أنَّ الله تعالى أقسم بالأشياء المذكورة وما في معناها من بعض المأكولات أو البلاد أو العصر ليدل على عِظَم قُدْرَتة، وكبر فضله ومنتة لتسخير هذه المخلوقات لمنفعتنا وإيجادها لمصلحتنا، قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ
٩٤
فضائل النبي
الْفُلْكَ لِتَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَرَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَابِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [إبراهيم: ٣٢ - ٣٣]، وقال سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: ١٣]، فكان في الإقسام بها تذكير لنعمة الله علينا فيها.
أما القسم الذي يقتضي تعظيم المقسم به فلا يكون إلا بالله أو بإحدى صفاته
نحو: قُل بَلَى وَرَي لَعَنَ ﴾ [التغابن: ٧]، ونحو : وفَ وَالْقُرْء انِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1]. وهذا هو المراد هنا، فإنَّ الله تعالى عظم نبيَّه حين أقسم بحياته المليئة بالخيرات والبركات، حياة أنقذ صاحبها العالم من ظلمات الجهل والشرك والظلم والفوضى إلى نور العلم والتوحيد والعدل والنظام، وقام الله بحق طاعتة والدعوة إليه، وكان مربي رجال ومُنشئ شعوب ومهذب نفوس ومُعلِّم أخلاق، فلا جرم أن كرمه مولاه بهذا التكريم واختصه به.
وقد استنبط منه الإمام أحمد أنَّ الخلف بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ينعقد وفيه الكفَّارة، نقله الحافظ السيوطي في "الإكليل في استنباط التنزيل" الفاتحة هي
وقال تعالى يَمْتَنُ على نبيه: وَلَقَدْ أَنَيْنَكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي . وَالْقُرْهَانَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: ٨٧]. في هذا تشريف يفوق ما أوتي النبيون جميعا كما سبق في المقدمة، وخصت الفاتحة بالذكر مع أنها من القرآن تنبيها على عِظَم شأنها، بحيث يكون إيتاؤها وحدها كافيًا في التشريف؛ لاشتمالها على معاني القرآن إجمالا حسبما بيناه في كتاب "جواهر البيان في تناسب سور القرآن".
دلالة القرآن المبين
۹۵
كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في أول الأمر يدعو إلى الإسلام مختفيا، ويأمر من آمن به بإخفاء إيمانه، ثُمَّ أمره الله تعالى بإعلان الدعوة فَأَصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَاعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: ٩٤] فأعلن صلى الله عليه وآله وسلَّم الدعوة، وكان بعض المشركين يستهزئون به وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحر بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، فأنزل الله في شأنهم: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهزِينَ [الحجر: ٩٥] الآية، فأصيب كلُّ واحدٍ منهم بداء مات به ميتة سوءٍ وهَلَكُوا في أوقاتٍ متقاربة، وهذا مما خُصَّ به نبينا قال البوصيري:
وكَفَاهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَكَمْ مَا نا مِنْ قَوْمِهِ اسْتِهْزَاءُ
۱۲- سورة النحل
قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يتفكرون [النحل: ٤٤]، وَكَلَ الله إلى نبيه تبيين القرآن وشرح ما فيه من
الأحكام، وتوضيح ما أجملة من المعاني وتفسير ما تضمنه من الإشارات. و هذه الآية تبطل نِحْلَة أولئك المبتدعة الذين يردون ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في تفسير بعض ما أبهمه القرآن، فلم يقبلوا الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السَّلام تفسيرًا لقوله تعالى: وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [النساء: ١٥٩]، ولم يقبلوا الأحاديت الواردة في تعيين العبد في قصة موسى بأنه الخضر عليهما السلام، ولم يقبلوا
٩٦
فضائل النبي
الأحاديث الصريحة بأنَّ الرؤية في قوله تعالى: وَلَقَدْرَ اهُ نَزَلَةٌ أُخْرَى (۳) عِندَ سدرة المنتهى } [النجم: ١٣ - ١٤] حصلت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وهو عند السدرة ليلة المعراج يقظة لا مناما إلى غير ذلك.
مع أنه لو لم يكل الله إلى نبيه بيان القرآن لكان الواجب اتباع بيانه؛ لأنَّه أعلم بمعاني ما أنزل إليه، بل قرر العلماء وجوب الرجوع إلى الصحابة في التفسير، وعَلَّلوا ذلك بأنَّ الصحابة شاهدوا التنزيل وعرفوا المراد منه، وقال سبحانه: ومَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيه مِن أمور الدين
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [النحل : ٦٤]. هذه الآية تؤيد الآية السابقة وتؤكدها، وكلتاهما تفيدان وجوب الرجوع إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين أصوله وفروعه، وعلى هذا إجماع الأمة. من الشُّبَه التي زَعَم الكفَّار بسببها أنَّ القرآن مفترى: وجود الناسخ والمنسوخ
فيه، فرد الله عليهم مبينا جهلهم بقوله سبحانه: وَإِذَا بَدَّلْنَاءَ ايَةً مَّكَانَ اية بنسخها وإنزال غيرها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ جملة معترضة بين الشرط وجوابه أتى بها لتسليته صلى الله عليه وآله وسلَّم عن قولهم فيه: إِنَّمَا أنتَ مُفتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: ۱۰۱] حقيَّةَ القرآن، ولا فائدة النسخ التي ترجع لمصلحة المكلف إما بالتخفيف إن كان النسخ من أشد إلى أخف، وإمَّا بكثرة الثواب إن كان من أخف إلى أشد، مع قصد امتحانه ليختبر عزمه على فعل ما أمر به، وجملة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) تفيد أن أقلهم يعلمون حقية القرآن
دلالة القرآن المبين
۹۷
ولكنهم ينكرونه عنادًا، فهم بين جاهل و جاحد.
ثُمَّ صرّح بإبطال زعمهم فقال سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ * جبريل عليه السَّلام مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: ۱۰۲] في هذا تعريض بأنَّه خَسَارٌ على غيرهم
كما قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الاخسارا [الإسراء: ۸۲]. ومما تعلّق به الكفَّار في إبطال القرآن دعواهم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم تلقاه من حدادٍ رومي كان نصرانيا وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يدخل عليه، فأبطل الله هذه الدعوى بقوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أي: علمنا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِمُهُ بَشَرُ ﴾ هو الحداد المذكور لسات أي: لغة الَّذِى يُلْحِدُونَ يميلون إليه أنه يعلمه أعجمي لأنه رومي وَهَذَا القرآن لِسَانُ عَرَى مُّبِين ﴾ [النحل: ١٠٣] ذو فصاحة وبيان، فكيف يعلمه أعجميا؟!
والتعبير بـ «قد» إشارة لتقليل القائلين لهذه الدعوى، وهذا يؤكد ما قدمناه أنَّ الله تعالى تولى الدفاع عن نبيه في جميع ما أورد عليه، عناية خاصة به دون سائر أنبيائه عليه وعليهم الصَّلاة والسلام.
ثُمَّ عقب تعالى بقوله: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَايَتِ اللَّهِ ﴾ القرآن بقولهم: هو من قول البشر وَأُولَبِكَ هُمُ الْكَذِبُونَ ﴾ [النحل:
۹۸
فضائل النبي
١٠٥] في قولهم : يُعَلِّمُهُ، بَشَرٌ .
في هاتين الجملتين عِدَّة مؤكّدات: «إنها المفيدة لحصر الافتراء فيهم، وإيراد الجملة النافية معرفة الطرفين وضمير الفصل، وكون المسند إليه اسم إشارة للبعيد تحقيرا لهم، وكل هذه المؤكدات رد لقولهم السابق: إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَ).
۱۳- سورة الإسراء
قال الله تعالى ينوه بمعجزة من أهم المعجزات التي أكرم بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم
(۱) قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النحل: ١٢٣]، قال الزمخشري: في ثمَّ هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملتة من قبل أنها
دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى أنه عليه بها .
قال ابن المنير - تعليقا عليه - : وإنما تفيد ذلك ثُمَّ لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عن المعطوف عليه في الزمان ثم استعملت في تراخيه عنه في علو الرتبة بحيت يكون المعطوف أعلى رتبة وأشمخ : محلا مما عطف عليه، فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى: وهاهنا ما هو أعلى من ذلك كلة قدرًا وأرفع رتبة وأبعد رفعة وهو: أن النبي الأمي الذي هو سيد البشر متبع الملة إبراهيم ومأمور باتباعه بالوحي متلو أمره بذلك في القرآن العظيم، ففي ذلك تعظيم لهما جميعا لكن
نصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من هذا التعظيم أوفر وأكبر على ما مهدناه.
دلالة القرآن المبين
۹۹
منصوب على الظرفية، وصرح به مع أنَّ الإسراء لا يكون إلا بالليل إشارة إلى تقليل مُدَّته . مع بعد المسافة مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بمكة إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا بالشام الَّذِي بَرَكْنَا حَوْلَهُ بالماء والثمار النُرِيَهُ مِن اينا أي: عجائب قدرتنا، وفي هذا إشارة إلى المعراج الذي رأى فيه من الآيات ما تحدت عنه في الأحاديث المتواترة إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: ١]. في هذه الآية دليل على أنَّ الإسراء كان في اليقظة حقيقة لا جولة روحية
ولا رؤيا منامية، وبيان ذلك من وجوه
الأول: استفتاحها بالتسبيح الذي يقال عند الأمور العظيمة والخوارق العجيبة استعظامًا لقدرة الله تعالى واعترافا بنفاذ مشيئته.
الثاني: لفظ أسرى فإنَّه نصّ في الانتقال الجسمي، ولو كان روحيا لقال الله: :
أرى عبده، كما قال سبحانه: لَقَدْ صَدَفَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّه يَا بِالْحَقِّ ﴾ [الفتح: ۲۷]. فقد كان صلى الله عليه وآله وسلَّم رأى بالمدينة قبل خروجة إلى الحديبية أنَّه دخل مكة وطاف بالكعبة وحلق رأسه... إلخ، فسماها الله رؤيا ولم يسمها إسراء؛ لأنها كانت في المنام، وكذلك قال في غزوة بدر: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ
قليلا ﴾ [الأنفال: ٤٣] ولما عبر هنا بأسرى علمنا أنه قصد مدلوله الصريح. الثالت: لفظ بِعَبْدِهِ، فإنَّه نصّ في الشخص الجسمي المسمى بمحمد بن عبدالله صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
الرابع: لفظ ليلا الذي أتى ليدل على تحقيق معنى المعجزة؛ لأنَّ
۱۰۰
فضائل النبي
المسافة بين مكة وبيت المقدس بعيدة، ولذا قيل: «المسجد الأقصى» وكان أهل مكة يقطعونها في شهر على الإبل، فإذا قطعها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في جزء من الليل بجسمه المادّي كانت معجزة عظيمة تستحق التنويه والتسجيل. الخامس: قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِن اينونا فإنه إنما يقال فيما يرى في اليقظة رؤية حقيقية ولا يقال فيما يرى روحيًا إلا بالتقييد كما في قوله تعالى: إذ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا .
السادس : قوله : إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إن كان الضمير يعود على الله، وهو المشهور، فتذييل الآية بهذه الجملة يفيد أنَّ الله تعالى كان مع نبيه في هذه الرحلة الخارقة للمعتاد المتعارف للناس في رحلاتهم منذ بدء الخليقة، واختيار هاتين الصفتين لإفادة كمال العناية وغاية التأييد والرعاية، وهذا كما قال تعالى لموسى وهارون حيث أبديا تخوفهما من طغيان فرعون: لا تخافاً إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: ٤٦] .
وإن كان الضمير يعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما قيل به - فالتذييل يفيد أنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان سميعا لما ألقي إليه بصيرًا لما رآه من الآيات، لم يدهش لبه ولا زاغ بصره، ولهذا قال تعالى حين أشار إلى المعراج : مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: ١٧]. السابع: أنَّ أهل مكة وهم عرب فصحاء فهموا من الإسراء معناه المعروف لهم في لا في لغتهم، ولذلك كذَّبوا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين أخبرهم به، وا أنَّه أتى بما لا يُقبل، وسألوه امتحانًا أن يصف لهم بيت المقدس؛ لأنهم
وزعموا
دلالة القرآن المبين
۱۰۱
يعلمون أنه لم يذهب إليه قبل هذه الرحلة، بل ارتد بعض ضعفاء العقيدة عن
الإسلام حين سمعوا بهذه المعجزة؛ لأن عقولهم ضاقت عن قبولها. الثامن: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يقل لأهل مكة الذين كذبوه، ولا لمن ارتد عن الإسلام: «إنَّ الإسراء كان مناما أو جولة روحية» فيريحهم من خطيئة التكذيب وجريمة الارتداد، بل أقرَّهم على ما فهموه ووصف لهم بيت المقدس حين امتحنوه بالسؤال عنه.
وما يُروى عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تفقد جسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطل مكذوبٌ؛ لأنها لم تبلغ إذ ذاك السنة الرابعة من عمرها، بل الثابت في كتب السيرة والحديث أنَّ أم هانئ أخت علي رضي الله عنها فقدته تلك الليلة - وكان نائما عندها - فباتت قلقةً عليه خشية أن يكون اغتيل حتى رجع عند
الفجر، وأخبرها برحلته فاطمأنت وترجّته أَلَّا يُحدِّث بها قريشًا لئلا يُكذِّبوه. أما قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّهُ يَا الَّتِي أَرَيْنَكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القرءان ﴾ [الإسراء: ٦٠] فلا يدل على أنَّ الإسراء كان مناما كما زعم من لا فهم له، بل يدل على نقيض ذلك، وبيانه من وجوه أحدها: أن الرؤيا أحد مصادر «رأى) البصرية كما في معاجم اللغة، ويستعمل أيضًا في الرؤيا المنامية على سبيل الاشتراك اللفظي، والقاعدة في المشترك: ألا . يجزم فيه بأحد المعاني إلا لدليل. والدليل هنا يقتضي أ أنَّ الرؤيا
بصرية، وهو الآية السابقة.
والوجه الذي بعده وهو ثانيها: قوله فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) أي: أهل مكة
۱۰۲
فضائل النبي
حيث كذَّبوا بالإسراء وقالوا: نحن نذهب إلى بيت المقدس في شهر، ومحمد يزعم أنه أتاه في ليلة، ولو كانت الرؤيا منامية ما افتتنوا لعلمهم أنها تتسع لهذا ولأكثر منه، وقد كان الواحد منهم يرى في نومه أنه ذهب إلى الشام أو الحبشة أو فارس،
ويُحدث بها أصحابه وربما التمس من يعبرها له، ولا يرون فيها ما ينكر.
ثالثها: قوله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْء ان والمراد بها شجرة الزقوم لقوله سبحانه: أَذَلِكَ خَيْرُ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُومِ إِنَّا جَعَلْنَهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ﴾ [الصافات: ٦٢ - ٦٣]، ووجه فتنتهم بها قولهم: النار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟! كذلك فتنوا بالإسراء وقالوا ما سبق، فدلالة السياق تقتضي أن الرؤيا بصرية، وهو واضح. قال الزمخشري في "الكشاف": قوله: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقوله: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُدَ زبورا ﴾ [الإسراء: ٥٥] دلالة على وجه تفضيله، وهو أ على وجه تفضيله، وهو أنَّه خاتم النبيين وأنَّ أُمَّته خير الأمم؛ لأنَّ ذلك مكتوب في زبور داود، قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبورِ مِنْ بَعْدِ الذِكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّلِحُونَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] وهم محمدٌ وأُمته . اهـ جاء وفد ثقيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا له: «لا ندخل في دينك حتى تعطينا خصالًا نفتخر بها على العرب، لا نعشر، ولا نحشر، ولا نُجَبي في صلاتنا)، وكل ربّا لنا فهو ثابت، وكل ربّا علينا فهو موضوع، وأن تمتعنا
(۱) «لا نعشر»: لا ندفع العشر، يقصدون الزكاة، ولا نحشر»: لا نذهب للجهاد، «ولا نُجَبي»:
دلالة القرآن المبين
۱۰۳
باللات سنة . حتى نأخذ ما يُهدى لها، فإذا أخذناه؛ كسرناها وأسلمنا، وأن تُحرّم
وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إنَّ الله أمرني». فسكت النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وطمعوا في سكوتة، فأنزل الله تعالى: وإِن كَادُوا يَفْتِنُونَكَ ﴾ يستنزلونك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِنَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غيرها مما طلبوه منك وَإِذَا لو أجبتهم لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ) وَلَوْلَا أَن تبنتك بالعصمة لقد كدت قاربت تَرْكَن تميل إِلَيْهِمْ شَيْئًا
ركونا قليلا لشدة احتيالهم وإلحاحهم عليك.
. .
والآية تفيد أنه عليه الصَّلاة والسَّلام ما ركن ولا قارب لتثبيته بالعصمة، فهو عليه الصلاة والسَّلام معصوم المصادر والموارد، مؤيد في الهمم والمقاصد إذا لو قاربت الركون الأذقنك ضعف عذاب الْحَيَوةِ وَضِعْفَ
عذاب الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: ٧٣-٧٥] يـ يمنع عنك لأنك صفوة الكملة المختارين.
العذاب
فمقاربة الركون لو حصلت منك تستوجب التشديد لعلو مقامك، وإن كانت هي في الواقع ليست بذنب، وهذا نهاية ما يطلب في تبرئة جنابه الشريف من قصد المخالفة.
وقال تعالى مخاطبًا لنبيه : أَقِمِ الصَّلَوَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أي: من وقت
بضم النون وفتح الجيم وكسر الباء المشددة، لا تركع ولا نسجد في الصلاة، وواديهم الذي طلبوا تحريمة وادي «وج»، و«وج» بفتح الواو وتشديد الجيم بلد بالطائف.
الصبح
فضائل النبي
زوالها إلَى غَسَقِ الَّيلِ إقبال ظلمته بمغيب الشفق، وهذا يشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ صلاة الصبح وإِن قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مَشْهُودًا تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، ويؤخذ منه فضل صلاة وأنَّ الملائكة مُتعبّدون بحضور الصلاة معنا، وهذا من خصائص هذه الأُمَّة وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَدْ بِهِ ، نَافِلَةً لَكَ (۱) فريضة زائدة خاصة لك وعَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ﴾ [الإسراء: ۷۸-۷۹] يحمدك فيه جميع المخلوقات. وهو مقام الشفاعة في فصل القضاء، وعَسَى» من الله تفيد: وجوب الوقوع، فالمقام المحمود ثابت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم (٢) وهو مما خُصَّ به نبينا دون سائر الأنبياء.
ثُمَّ قال تعالى يمتنُ على نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم: وَلَبِنشِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) وهو القرآن بأن نمحوه من الصدور والمصاحف م لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ - عَلَيْنَا وَكِيلًا إلا لكن أبقيناه رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فضله كان عليك كبيرا [الإسراء: ۸٦-۸۷] بإنزال القرآن وحفظة من
التبديل وإعطائك المقام المحمود، وغير ذلك مما خصك به. ثُمَّ أمره أن يتحدى بالقرآن الإنس والجن، وهذا مما يدل على قدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم، حيث كانت معجزته تتحدى الثقلين؛ لأنه رسول إليهم
(۱) كان التهجد فرضا عليه صلى الله عليه وآله وسلّم ثُمَّ نسخ وبقي مطلوبًا منه على سبيل الندب.
(۲) ونطقت به الأحاديث في "الصحيحين" وغيرهما وهي كثيرة مستفيضة.
دلالة القرآن المبين
160
بخلاف سائر الأنبياء عليهم السّلام، فإنَّ معجزاتهم لا تتجاوز حدود قومهم.
(۱)
ثُمَّ قال تعالى: ﴿وَقُرَة انا (1) عظيمًا فَقْتَهُ أنزلناه مفرقًا في عدة سنين
النقراهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكَ على مهل وتأن وَنَزَلْنَهُ تَنزِيلًا ﴾ آية بعد آية حسب المقتضيات والأسباب قل الكفار مكة عامِنُوا بِهِ بالقرآن أو لا تُؤْمِنُوا به، وهذا الأمر للتهديد وإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ وهم مؤمنو أهل الكتاب وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَنَ رَبِّنَا إِن كَانَ
(١٠٨
وعد ربنا بنزوله وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ القرآن خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: ۱۰۷-۱۰۹]. وفي هذا تسلية له صلَّى الله عليه وآله وسلم وتسجيل لبعثتة ونزول كتابه في
الكتب السابقة، وهو يؤكد ما قررناة في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ النَّبِيِّنَ
لَمَاءَ اتَيْتُكُم مِّن كِتَبٍ وَحِكْمَة ﴾ [آل عمران: ۸۱] الآية.
(تنبيه) : عبارة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ حيثما أطلقت في القرآن دلت على المدح،
وكذلك عبارة الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ .
بخلاف الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ فإنها تأتي للذم غالبا، وقد تأتي لمجرد التعريف نحو وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: ٥] أمَّا عبارة أَهْلِ
الكتب فيأتي للمدح تارة وللذم أخرى.
(۱) هذا الوصف مأخوذ من تنكير وقره انا ) لأن التنكير يدل على التعظيم والتفخيم.
1.7
فضائل النبي :
١٤- سورة الكهف
قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكتَب وَلَمْ يَجْعَل لَهُ السلام بمعنى «في» ، أي: لم يجعل فيه عوجا ﴾ [الكهف: ١] أي: اختلافا لقوله في الآية الأخرى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كثِيرًا ﴾ [النساء: ۸۲] وفي الحمد على إنزال القرآن دليل على أنه نعمة عظيمة، ودليل على أنه أعلى الكتب السماوية وأجلها، وفي هذا تنويه بقدر نبينا كما لا يخفى.
١٥- سورة مريم
في هذه السورة آيةٌ تدل على عِظَم قدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم(۱) وهي قوله تعالى: وَمَا نَتَنَزَلُ إِلَّا بِأَمْرِرَيكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسيا ﴾ [مريم: ٦٤] فإنَّ هذه الآية أنزلها الله تعالى يحكي اعتذار جبريل عليه السَّلام للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين قال له معاتبا: «ما يَمْنَعُكَ أَن تَزُورَنا أكثرَ ممَّا تَزُورُنا حسبما جاء في "البخاري" عن ابن عباس،
وفي هذا بيان عظم قدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم من وجوه: ١ - عتابه الجبريل.
(۱) تقدم الكلام على قوله تعالى: ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: ٢] في (سورة النساء)، وحاصله: أنَّ الحق سبحانه أضاف اسمه إلى محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم،
وأضاف زكريا إليه، ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين، وتفاوت ما بين الرتبتين.
دلالة القرآن المبين
۱۰۷
۲ - اعتذار جبريل له.
٣- تسجيل الله لذلك في كتابه، ولم يصل رسول غيره إلى هذه الرتبة السامية. قوله تعالى: فَوَرَيكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ﴾ [مريم: ٦٨] قال الزمخشري: «في إقسام الله تعالى باسمه - تقدست أسماؤه - مضافًا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تفخيم لشأن رسول الله ورفع منه».
١٦- سورة طة
قوله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم: مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ
لِتَشْقَى [طه: ٢] لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك به في صلاة الليل، بل خفف عن نَفْسِك، ولهذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام ينام بعض الليل
يُخفف
ويقوم بعضه، وقيل معنى لِتَشْقَى : لتتعب بتأسفك على كُفْرِ مَن كَفَرٍ، فَارِحٌ نفسك من هذا التعب، وإنما عليك البلاغ، فالآية على هذين الاحتمالين تفيد أمره عليه الصلاة والسَّلام بالتخفيف عن نفسه، ولم يطلب الله من نبي قبله أن نفسه، وقيل: إنَّ الكفَّار لما رأوا كثرة عبادته صلى الله عليه وآله عن وسلم وكثرة تلاوته القرآن قالوا له إنك لتشقى بترك ديننا، وإنَّ القرآن نزل عليك لتشقى به، فرد الله ما قالوا وهذا أيضًا يدل على عناية الله بنبيه عليه الصَّلاة والسلام. كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين ينزل عليه القرآن يتعجل قراءته قبل انتهاء وحيه، فأنزل الله تعالى يأمره بالانتظار وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ
۱۰۸
فضائل النبي :
أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١) [طه:١١٤] بالقرآن وبمنزلته تعالى، وبالضرورة دعا وأجيب، فهو أعلم الناس بالله وبكتابه، وفي "الصحيحين"
حديث: «أنا أَعْلَمُكُم بالله وأَشَدُّكُم له خَشْيَةً» وقال تعالى يخاطب نبيَّه : وَسَبِّحْ صل متلبسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ إذ الصلاة مشتملة التسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبلَ غُرُوبِها صلاة العصر وَمِنْ انا ي اليل ساعاته فسيحصل المغرب والعشاء و صل الظهر أَطْرَافَ النَّهَارِ عند زوال الشمس لأنه طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني، والمراد بالجمع ما فوق الواحد لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: ۱۳۰] بما تعطى من الهبات والعطايا. قال الصاوي: «انظر إلى هذا الخطاب اللطيف المشعر بأنه صلى الله عليه وآله وسلَّم حبيب ربِّ العالمين، وأفضل الخلق أجمعين، حيث قال له ربه:
لَعَلَّكَ تَرْضَى ولم يقل: «لعلي أرضى عليك» ونحو ذلك».
ومن هنا قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: (وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ»، الله عنها: «ما أرى ربَّكَ إِلَّا يُسارع في هواك»،
رضي
وقول السيدة عائشة . فصلاته صلى الله عليه وآله وسلَّم مأمور بها ليرضى هو، لا ليُكَفِّر الله عنه سيئاته، ولا ليرضى عليه، وحينئذ فلا كلفة عليه فيها لأنَّ فيها شهوده لربه
(۱) تفيد هذه الآية أمر الله تعالى نبيه باستزادة العلم منه مباشرة، بخلاف موسى عليه السلام فإن الله تعالى أحاله على الخضر، فذهب يطلبه في جنبات الأرض حتى إذا وجده قال له : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلَمَنِ مِمَّا عُلَمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: ٦٦]فانظر فرق ما بين المقامين.
دلالة القرآن المبين الذي هو قرة عينه (۱).
۱۰۹
١١- سورة الأنبياء
قال تعالى: وَقَالُوا ) أي : فِرقُ من العرب وهم: خزاعة وهذيل وجهينة وبنو سلمة اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا من الملائكة، فكانوا يعتقدون أنهم بنات الله
تعالى سبحانه تنزيها له عن ذلك بل هم عباد مكرمون [الأنبياء: ٢٦] عنده والعبودية تنافي البنوة ولا تجتمع معها، ولهذا لو وجد رجل ابنه رقيقا واشتراه عتق عليه بمجرَّد الشّراء لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يأتون بقولهم إلَّا بعد قوله: وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون لا يخالفون أمره، ولو كانوا ولدا له تعالى لأمكن أن يسبقوه بالقول وأن يخالفوا أمره، إدلالًا ببنوتهم حسب
المعتاد من إدلال الولد على والده يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ما
هم
(۱) قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِنَايَةِ مِن رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيْنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ﴾ [طه: ١٣٣ ] قال الزمخشري: «اقترحوا - على عادتهم في التعنت- آية على النبوة، فقيل لهم: أولم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز ؟ يعني القرآن، من قبل أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة» ا.هـ ففي الآية كما قال البيضاوي - إشعار بأن القرآن كما يدل على نبوته، برهان لما تقدمه من الكتب من حيث أنه معجز وتلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد على صحتها، وهذا مما خُصَّ به نبينا محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، حيث كانت معجزته دليلا على صحة ما في كتب الأنبياء قبله.
۱۱۰
فضائل النبي
عاملون وما عملوه وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى من المؤمنين، فلا يشفعون إلا لمن علموا أنَّ الله قَبِلَ شفاعتهم فيه وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ : وَجِلون وَمَن يَقُل مِنْهُمْ من الملائكة إنت إِلَهُ مِّن دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمُ كذلك كما نجزي القائل نَجْزِي الظَّلِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٢٧-٢٩] المشركين. في هذه الآية إنذار إلى الملائكة، وفي الآية الأخرى: وَأُوحِيَ إِلَى هَذَالْقُرْءَانُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: ١٩] فيؤخذ منهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم أرسل إلى الملائكة، ذكر هذا الاستنباط الحافظ السيوطي في "الأرائك في إرسال النبي إلى الملائك" وهو استنباط وجيه يؤيده ما تقدم من قتال الملائكة معه في غزوة بدر، وما سبق في (سورة الإسراء) من تعبدهم بحضور الصَّلاة معنا، وما ثبت في "الصحيح " أنهم يحضرون خطبة الجمعة، ويحضرون معنا صلاة الجماعة، وأنَّ الإمام إذا قال: ﴿وَلَا الضالين قالوا: آمين، فمن وافق تأمينه تأمينهم غُفِرَ له، وصح (۱) أنَّ جبريل سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «ما تعدون أهل بدر فيكم؟»، قال: «خيارنا أو من خيارنا» قال: قال جبريل عليه السلام: كذلك أهل بدر فينا».
إلى غير ذلك مما يدل على أنَّهم متعبَّدون بما يناسبهم من شريعتنا، وهذا من
(۱) في "صحيح البخاري" عن رفاعة بن رافع الزرقيّ رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة» ففيهم من حَضَرَ بدرًا وأُحُدًا والخندق كما أنَّ الصحابة كذلك.
دلالة القرآن المبين
۱۱۱
خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُور الكتاب، وهو يعم الكتب كلها يعني المنزلة من بعدِ الذكر وهو اللوح المحفوظ، والمعنى: أنَّ الله يقسم باسمه الأقدس على أنه كتب في اللوح المحفوظ والكتب التي أنزلها أن الأرض أي أرض الجنَّةَ يَرِثُهَا عِبَادِى الصَّلِحُونَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] من المؤمنين، قال تعالى في أهل الجنَّة وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَا مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾ [الزمر : ٧٤] تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقا [مريم: ٦٣] وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ
(۱) وحكى الرازي الإجماع على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يرسل إلى الملائكة، وفي هذا الإجماع نظر ، فلم يحكه أحدٌ قبله من ناقلي الإجماعات كابن المنذر وابن عبدالبر وابن حزم ولعله حكاه بناءً على ما قام بذهن كثير من العلماء أن الملائكة
و
معصومون وأنهم مفطورون على التسبيح والتحميد، فلا يتوجه عليهم تكليف، وهذا خطأ بل يتوجه عليهم التكليف لقوله تعالى في شأنهم: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: ٦] ولما ذكرناه في الأصل، ولأنهم متعبدون بالصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبعبادات كثيرة يطول تتبعها. وممن قال بإرسال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم إليهم: التقي السبكي والمازري والسيوطي.
وبعض متأخري الأشعرية أراد أن يتوسط بين هذين القولين فقال: أنه صلى الله عليه وآله وسلّم مرسل إليهم إرسال تشريف لا تكليف، وهذا لا معنى له ولا طائل تحته.
۱۱۲
فضائل النبي
تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٤٣(١) ومن بدع التفاسير أنَّ بعض مؤيدي الاستعمار من المعاصرين حمل الأرض على الدنيا وفسّر الآية على معنى : أنَّ الأرض أي: الدنيا يرثها العباد الصالحون لعمارتها وهم المستعمرون، وهذا الحاد في القرآن، وكذب على الله، وخروج على دينه، وإبطال لفريضة الجهاد، ونحن نبرأ إلى الله من هذا التفسير ومن صاحبه إِنَّ فِي هَذَا القرآن لَبَلَغا كفاية في وراثة أرض الجنة القوم عكيدين عاملين به وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِقَوْمٍ أي: للرحمة، أو إلا حال كونك رحمة للعالمين } [الأنبياء : ١٠٦ - ١٠٧] الملائكة والإنس والجن، أما الملائكة فإنَّ الله مدحهم في كتابه الذي جعل معجزته، وأما الثقلان فإن المؤمنين منهم سعدوا باتباعه وفازوا بالنعيم الدائم يوم ا والكفار منهم رفع عنهم الخسف والمسخ والقذف وأنواع العذاب التي عذب بها من قبلهم هذا إلى يسر دينه وسماحة تعاليمه وكرم معاملته وسعة عفوه، ولم
القيامة،
(۱) تقدَّم في (سورة الإسراء) تفسير الزمخشري لهذه الآية بأن المراد بها محمد وأمته، والمعنى: أنَّ الله يورث المسلمين أرض الكفَّار بعد هزيمتهم، فقد فتح عليهم بلاد الشام وفارس والهند والعراق ومصر وسائر بلاد شمال إفريقيا، وغير ذلك من البلاد والأصقاع، والدليل على هذا قوله تعالى وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ نَاتِ الْأَرْضَ أرض الكفر ننقصها مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ [الرعد: ٤١] بما نفتح على المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة، وقد يسر الله للمسلمين الأولين من فتوح البلدان ودخولها تحت لواء الإسلام ما عد معجزة في تاريخ البشر منذ أوجده الله على ظهر الكرة الأرضية.
دلالة القرآن المبين
يكن هذا النبي ولا رسول سواه.
۱۸- سورة الحج
۱۱۳
قال الله تعالى يخاطب هذه الأمة: هُوَ اجْتَبَكُمْ اختاركم لدينه وجعلكم أُمَّةً وسطاً كما سبق وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ضيق، بل جعله سهلًا سمحا كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ عليه السَّلام، وملة منصوب بنزع الخافض أي: كملة
إبراهيم، والمراد تشبيه ديننا بدين إبراهيم في التوحيد والسهولة هو أي: الله سَمَّنكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } أي: من قبل هذا الكتاب في الكتب القديمة وفي هذا القرآن حيث قال: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣] ليَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ يوم القيامة أنه بلغكم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناس [ الحج : ۷۸] أَنَّ رُسُلَهم بلغوهم، وفي هذه الآية من فضائله عليه الصلاة والسلام: سهولة دينه، واختيار أُمَّته على سائر الأمم، وشهادتها للرسل يوم القيامة أنهم بلغوا قومهم وشهادته عليها بأنه بلغها، وهو عليه الصلاة والسَّلام لا يحتاج إلى من يشهد له.
۱۹- سورة المؤمنون
قال سبحانه: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أفلم يدبَّر كفار قريش القرآن الدال على صدق النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَمْ جَاءَ هُم مَّا لَوْ يَأْتِ ءَابَاءَ هُمُ الْأَوَّلِينَ ) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ [المؤمنون: ٦٨-٧٠]
١١٤
فضائل النبي
الاستفهام للتقرير بالحقِّ الذي هو صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، ومجيء الرسل للأمم الماضية المعبَّر عنهم بآبائهم الأولين، ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة، وأنه مُبرَّاً من الجنون، ومعنى الاستفهام التقريري: أقروا بالحق المذكور ولا تُنكروه، وفي الآية دفاع الله عن نبيه بهذا الأسلوب الذي يدل على أنهم في إنكارهم على النبي وتكذيبهم له يخالفون ما يعلمون عنه من الصدق والأمانة ورجحان العقل، ولهذا أضافه إليهم للدلالة على أنهم عرفوه وعاشروه، فكيف ينكرونه بعد ذلك؟ بل للانتقال من الاستفهام التقريري إلى الرد الصريح جَاءَهُم بِالْحَقِّ القرآن وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ ﴾ [المؤمنون: ٧٠] ولهذا كرهوا الآتي به سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم .
۲۰ - سورة النور
خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى غزوة بني المصطلق، وأخذ معه عائشة رضي ! الله عنها تُحمل في هودج يسترها وذلك بعد فرض الحجاب، وفي رجوعهم من الغزو تأخرت لقضاء حاجتها والبحت عن عقد وقع منها، وسار الجيش وحملوا هودجها يحسبونها فيه وهي خارجه، ووجدت عقدها ورجعت إلى هودجها فلم تجده ونامت في ذلك المكان وهي تؤمل أن يفتقدوها فيرجعوا إليها، فجاء صفوان بن المعطل رضي الله عنه -وكان يتأخر بعد الجيش يتفقد ما يسقط منهم ليحمله إليهم - فوجدها نائمة، وكان يعرفها لأنه رآها قبل الحجاب، فاسترجع حتى استيقظت، فأناخ الناقة وأدار ظهره حتى ركبت ولحقا بالجيش، فاتهمها عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وتناقل
دلالة القرآن المبين
۱۱۵
كلامه بعض الصحابة غفلة منهم عن خبيئة نفسه، واهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بهذه التهمة لأنها تمس زوجه، فأنزل الله في براءتها بضع عشرة آية افتتحها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ﴾ [النور: ١١] واختتمها بقوله سبحانه: أَوْلَيْكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمُ﴾ [النور:
٢٦] وفي هذه الحادثة دلالة على شدة عناية الله بنبيه من وجوه:
الأول: أنَّ الله برأ زوجه بقرآن يتلى ، ولم يكتف بأن يُبرئها برؤيا منامية، وإن
كانت رؤيا الأنبياء وحيا يثبت به الشرع .
الثاني: أنَّه سمى قذفها إفكا، والإفك: أقبح الكذب .
الثالث: أنَّه تعالى توعد البادئ به - وهو عبد الله بن أُبي بن سلول - بعذاب
عظيم، وأوقع على الخائضين فيه إثم خوضهم وترويجهم له.
الرابع: وهي قوله سبحانه: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إنك مُّبِينٌ ( لَوْلَا جَاهُ و عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَيْكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَذِبُونَ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمُ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَنَكَ هَذَا بهمن عَظِيمٌ (1) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمُ ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
أنه تعالى وبخ الخائضين فيه وزجرهم بعدة زواجر وموبخات،
١١٦
فضائل النبي
وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمُ ) يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَنِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَ مِنكُرَ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: ۱۲ - ۲۱]. الخامس : أخبر عن الخائضين فيه أنهم كاذبون عنده تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَيكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَذِبُونَ ﴾ [النور: ١٣].
وهذا يفيد القطع بكذبهم هنا، بخلاف قذف أي محصنة مسلمة، فإن القاذف لها إذا لم يأت بالشهداء يكون كاذبًا بحسب الظاهر، ولا يقطع بكذبه
لجواز أن يكون صادقًا ولم يستطع إحضار الشهود.
السادس:
أنه تعالى أوجب اللعنة والعذاب على قاذف إحدى أمهات
المؤمنين، حيث قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ الْغَفِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ من أمهات المؤمنين لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يَوْمَيذٍ يُوَفِيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: ٢٣ - ٢٥] .
السابع: نقل القرطبي عن بعض أهل التحقيق، قال: «لما رمي يوسف عليه السَّلام بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، ولما رميت مريم بالفحشاء برأها الله على لسان ولدها عيسى عليهما السّلام، ولما رميت عائشة بالفحشاء برأها الله بالقول، فما رضي لها براءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان». قلت: لما كانت عائشة زوج النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم برأها الله بهذه
دلالة القرآن المبين
۱۱۷
الطريقة إظهارا لشدة عنايته بنبيه، فالموازنة المذكورة هي في الحقيقة موازنة بين يوسف وعيسى وبين نبينا عليهم الصَّلاة والسَّلام، وفضل نبينا عليهما ظاهر. وقال الزمخشري في "الكشاف": «ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لمتر الله تعالى غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحد منها كافٍ في بابه».
إلى أن قال: «ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شَاهِدُ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [يوسف: ٢٦] ، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه (۱) ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: إني عبد الله [مريم: ۳۰] وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابة المعجز المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين
(١) كان اليهود يغتسلون عراة، وكان موسى عليه السَّلام حييًّا ستيرا، إذا أراد الاغتسال انفرد في مكان بعيد عنهم حتى لا يروا ،عورته، فقالوا: لا ينفرد عنا إلا لأنه آدر - أي خصيتاه منتفختان أو إحداهما وأراد الله أن يبرئه من هذا العيب الذي الصقوه به فذهب يغتسل مرَّةً منفردًا على عادته، ونزع ثيابه ووضعها على حجر، ونزل إلى الماء يستحم، فلما اغتسل وأراد أن يلبس ثوبه، جرى الحجر وجرى موسى عاريا خلفه يناديه: ثوبي حَجَر، ثوبي حَجَر، حتى مرَّ على جماعة من بني إسرائيل فرأوه عاريا ليس به داء، وعلموا أنهم اتهموه كذبًا، فوقف الحجر وأخذ ثوبه وضربه بعصاه حتى أثر فيه ندبًا من ضربه. كذا
ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم .
۱۱۸
فضائل النبي
تبرئة أولئك، وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين.
ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمل
كيف غضب الله له في حرمته؟ وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه؟». اهـ (تنبيه): اتخذ المستشرقون والمبشرون من حادثة الإفك مغمزا يعيبون به النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن طريق اتهام زوجه وثلم عرضها، وهم في هذا مغرضون حاقدون، وقد أجاد الرد عليهم الأستاذ العقاد في كتابه "الصديقة بنت الصديق" فليراجع.
ومما قرأته في بعض الكتب القديمة أنَّ أحد كبار القسيسين ناظر بعض كبار علماء المسلمين في مسائل دينية، وتدرّج الكلام إلى حديث الإفك، فاتخذه القسيس تكأة للطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له ذلك العالم - وأظنه الباقلاني : على فرض صحة التهمة، فعائشة زوجة يمكن التخلص
منها بالطلاق، ولكن ما قولك فيمن أتت قومها تحمل طفلها بين يديها ؟!! فانقطع القسيس ولم يحر جوابًا.
وقال تعالى في المنافقين الذين ينفرون من التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وَيَقُولُونَ ) أي : المنافقون ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَسُولِ وَأَطَعْنَا ا هما فيما حكما به ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ عن حكم الرسول
دلالة القرآن المبين
۱۱۹
وَمَا أُولَك المعرضون بِالْمُؤْمِنِينَ ) حقيقة، إذ لو كان إيمانهم حقيقيا ما
أعرضوا عن حكمه وَإِذَادْعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ عن المجيء إليه إن كان عليهم الحق وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقِّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ا طائعين أفي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ كفر امِ ارْتَابُوا في نبوته وأَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَرَسُولُهُ في الحكم، وبالضرورة لا محل لخوفهم، لاستحالة الجور في حق الله ورسوله بَلْ أَوَلَتَيْكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [النور: ٤٧ - ٥٠] بالإعراض عن الحكم. وفي الآية دليل على أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لا يخطئ في الحكم، لأنَّ الله تعالى جعل حكم نبيه حكمه، والخطأ في حقه تعالى محال، فما زعمه بعض مبتدعة هذا العصر من نسبة الخطأ إليه عليه الصَّلاة والسَّلام في بعض أحكامه ضلال مبني على جهل.
وزاد بعضهم جهلا وضلالة فجوّز مخالفة بعض قضاياه صلى الله عليه وآله وسلم إذا اقتضت المصلحة ذلك، ولا أدري كيف خفيت عليه هذه الآية؟ وآية (سورة النساء) ؟ وأي مصلحة تقتضي مخالفة حُكمه؟ والقرآن ينفي الإيمان عمن لم يسلم له تسليمًا؟ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُر بَيْنَهُمْ أَفرد الضمير لإفادة أنَّ حكم الله ورسوله واحدٌ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لا أن يردوه
المصلحة أو غيرها وَأُولَيكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: ٥١] الفائزون.
ثُمَّ حضّ الله على طاعته وطاعة رسوله وأمر بها، وأخبر أنَّ الهداية في طاعة رسوله، وهذا يؤكد ما قدَّمناه أن الله يقرن ذكر رسوله بذكره تشريفا له
۱۲۰
فضائل النبي
عنه.
وتكريما، وأنه تعالى يتولى توجيه الأمر بطاعته كما تولى الدفاع أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بحفر الخندق استعدادًا لمقابلة المشركين الذين عزموا على غزوه بالمدينة، فكان المنافقون يتباطئون في العمل، وإذا وجدوا فرصة انصرفوا لبيوتهم من غير استئذان بخلاف الصحابة الذين كانوا يعملون مجتهدين، ولا ينصرف أحدهم إلا لعذر بعد استئذان ويعود عند انتهائه، فأنزل الله يمدحهم ويذم المنافقين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورسوله، وإذا كَانُوا مَعَهُ، مع الرسول عَلَى أَني جامع كحفر الخندق أو خطبة الجمعة لم يَذْهَبُوا العذر طرأ لهم لا حَتَّى يَسْتَعْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فِي لَوْ الانصراف للعذر أوليك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في هذا غاية المدح للصحابة، ونهاية الدم للمنافقين فإذا اسْتَتَذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأَذَن لِمَن شئت منهم فوض إليه الأمر ، وهذا دليل مسألة التفويض المذكورة في مبحث الاجتهاد من علم الأصول، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الله ليعوضهم استغفارك ما فاتهم من شرف مجالستك إن اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النور: ٦٢]. وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية: أراد عزّ وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بغير إذنه وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْي جامع ) فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله وجعلها كالتسبيب له والبساط لذكره، وذلك أحاطت
مع تصدير الجملة وإنَّما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرًا عنه بموصول أ
دلالة القرآن المبين
۱۲۱
صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدًا وتشديدًا حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَيكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورسوله وضمنه شيئًا آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين وعرض بحال المنافقين وتسللهم لواذًا، ومعنى قوله: حَتَّى يَسْتَذِنُوه لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له.
كان بعض المسلمين ينادي النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم باسمه المجرَّد أو كنيته: يا محمد أو يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى: لَا تَجْعَلُوا دعاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ﴾ [النور: ٦٣] كما يقول بعضكم لبعض يا فلان، ولكن قولوا: يا رسول الله يا نبي الله ونحوهما من الألفاظ المشعرة بالتعظيم ومنها لفظ سيدي كما كان يناديه بعض أجلاء الصحابة حسبما ثبت في سنن أبي داود وصححه الحاكم، فالوهابية الذين يتشبثون بذكره باسمه المجرَّد خالفوا القرآن الكريم، وجانبوا الذوق السليم، وأبانوا عن قلة أدب في حق الرسول العظيم الذي خصه الله بهذه الخصوصية دون سائر الأنبياء الذين حكى الله عنهم دعاء قومهم لهم باسمهم المجرَّد نحو: وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ [البقرة: ٦١] إِذْ قَالَ الْحَوَارِثُونَ يعيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: ۱۱۲] وقالت بلقيس: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَنَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: ٤٤] .
۱۲۲
فضائل النبي و
ثُمَّ عاد الكلام إلى ذم المنافقين وقد التحقيق يعلم الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا يخرجون مستترين أثناء خطبة الجمعة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ) أي : الرسول أن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ [النور: ٦٣] يؤخذ منه أن الأمر للوجوب وعلى أن أمر الرسول واجب الاتباع. وقال الزمخشري: إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرَّقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، وتقولوا: يا محمد ، ولكن قولوا: يا نبي الله، ويا رسول الله، مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض والتواضع. قلت: الآية تشمل المعنيين جميعا، لأنَّ الفعل واقع في سياق النهي فيعم.
۲۱ - سورة الفرقان
قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: ١] يفيد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم مرسل إلى الإنس والجن والملائكة، لأن لفظ العالمين يشملهم ولأنه سبق في (سورة الأنبياء) توجيه
.
الإنذار لهم، ومن حمل من المفسرين لفظ العالمين على الثقلين محتجا بأن الملائكة معصومون فقد وهم، لأنَّ العصمة لا تنافي التكليف، ولا تمنع توجيه الإنذار بصيغة الشرط كما تقدم في (سورة الأنبياء)، وكما في قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ
دلالة القرآن المبين
۱۲۳
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَإِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ [الزمر:٦٥] مع أنَّ الأنبياء معصومون أيضا، والحكمة في ذلك: تعبدهم بما يزيد في درجات قربهم، والتنبيه على أنهم مع عصمتهم وعلو رتبتهم لو فرض وقوع مخالفة منهم، عذبوا، فكيف بمن هو دونهم؟
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكُ افْتَرَبَهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْم وَاخَرُونَ }
[الفرقان: 4] الآيات تتضمَّن تهما وشبها مع جواب الله عنها بما يبين بطلانها. قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِثْنَكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: ٣٣ يؤيد ما بيناه في (سورة البقرة)؛ أن الله تعالى تولى الدفاع عن نبيه فيما وجه إليه الكفار من تهم وشبه.
قال العلامة الصاوي: معنى الآية: كلما أوردوا شبهة أو أتوا بسؤال عجيب أجبنا عنه بجواب حسن يرده ويدفعه من غير كلفة عليك فيه، فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان النبي هو الذي يبحث في القرآن عن ردّ تلك الشبهة، كالعالم الذي يبحث في الكتب عن جواب المسائل التي يسئل عنها، فيكون الأمر موكولا له، فتكون الكلفة عليه، وما كان موكولا إلى الله تعالى كان أتم مما هو موكول إلى العبد، وفيه قمع للمعاندين».
قوله تعالى: وَلَوْ شِلْنَ البَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: ٥١] يفيد أن الله لو أراد أن يبعث رسولا في كل قرية لفعل، وتكون رسالة نبينا حينئذ خاصةً بقومه كالأنبياء السابقين، ولكن جعل نبيه رسولا إلى العالم كله ليعظم أجره، ويعلو ذكره، ويرتفع قدره.
١٢٤
فضائل النبي
قال الزمخشري: وَلَوْ شِلْنَا الخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى لبَعَثْنَا فِي كُلِ قَرْيَةٍ نبيا ينذرها، وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالتشدد والتصبر» . اهـ
۲۲- سورة الشعراء
قوله تعالى: لَعَلَّكَ بَجِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنينَ ﴾ [الشعراء:٣] خرج مخرج الإشفاق عليه صلى الله عليه وآله وسلَّم، والمعنى: أشفق على نفسك ولا تقتلها عما لأجل أن لم يؤمنوا.
وقوله تعالى: إِن نَّشَأْ نُنَزِلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ وَآيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَتُهُمْ لَهَا خَضِعِينَ ﴾ [الشعراء: ٤] خرج مخرج التسلية له صلَّى الله عليه وآله وسلم عن عدم إيمانهم، وهذه عناية لم ينلها نبي قبله.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: ١٩٢] الآيات، مدح للقرآن ومنزله والمنزل عليه، وبيان أنَّ علماء بني إسرائيل يعلمون أنه حق ويشهدون بذلك. وقوله تعالى: وَمَا نَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَطِينُ ) وَمَا يَنْبَغِي هَمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِلى قوله: ﴿ هَلْ أَنتُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُل أَفَاكٍ أَنيم ﴾ [الشعراء: ۲۱۰ - ۲۲۲] الآية، رد لقول المشركين على سنة الله في رد ما يورد على نبيه عناية خاصة به لم ينلها رسول قبله.
دلالة القرآن المبين
۱۲۵
۲۳- سورة النمل
ہے
قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَلَقَّى الْقُرْء ان مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [النمل: ٦] ردُّ لقول المشركين فيه وفي القرآن، ولذا ورد مؤكدًا بإن واللام، وهو مع هذا تمهيد لما سيتلى عليه من قصص الأنبياء عليهم السلام.
قوله تعالى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النمل:٧٠] تسلية له صلى الله عليه وآله وسلَّم عن مكر الكفار به، لأنَّ الله تعالى تكفل بنصره عليهم.
٢٤- سورة القصص
قوله تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْنِي إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ ﴾ [القصص:٤٤] الآيات، نوع من دفاع الله عن نبيه بإقامة الحجة على مُكَذِّبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مهاجرا إلى المدينة ووصل إلى الجحفة وعرف طريق مكة - لأنَّه كان يسير على غير الطريق المعتاد- اشتاق إلى بلده، فأنزل الله تعالى عليه يعده بالعودة إلى بلده: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
القرءان لَرَادُكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص : ٨٥] وهذا من دلائل عناية الله بنبيه (١).
(۱) قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْء ان أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه، يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به وصف والرادك بعد الموت إلى معاد أي معاد، إلى معاد ليس
١٢٦
فضائل النبي
٢٥- سورة العنكبوت
قوله تعالى: وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلَا تَخْطُهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لَأَرْتَابَ المبطلون } [العنكبوت: ٤٨] الآيات، إقامة للحجة على اليهود الذين أنكروا نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وهو دفاع أيضًا.
٢- سورة الأحزاب
قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ﴾ [الأحزاب:١] نداء له بوصف النبوة، وقد
نبهنا على ذلك في (سورة المائدة)، ونقلنا كلام الزمخشري على هذه الآية. قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٦] يفيد وجوب تقديم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وإيثاره، فيجب على المؤمن
تقديم نفس النبي على نفسه، ويؤثر طاعته على حظ نفسه، قال حسان فإنَّ أبي ووالــــدَهُ وعِرْضِي لعِرْضِ مُحمَّدٍ مِنْكُم وقــاءُ
لغيرك من البشر - قلت يعني المقام المحمود وتنكير المعاد كذلك، وقيل: المراد به مكة ووجهه: أنه يراد رده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، ومرجعا له اعتداد لغلبة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم عليها وقهره لها، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه، والسورة مكية، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر به منها، ويعيده إليها ظاهرا ظافرا، وقيل: نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره، وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم فنزل جبريل، فقال له: أتشتاق إلى مكة؟ قال: «نعم» فأوحاها إليه.
دلالة القرآن المبين
۱۲۷
وقال الزمخشري : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين في كل شيء من أمور الدين والدنيا مِنْ أَنفُسِهِم ولهذا أطلق ولم يُقيد، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفُسِهم، وحُكْمُه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ودفاعه إذا لقحت حرب، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وصرفهم عنه، لأنَّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين، وما صرفهم عنه فأخذ يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار . اهـ
بحجزهم
لئلا
قوله تعالى: وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَهُهُمْ ﴾ [الأحزاب: ٦] يفيد أن أزواجه الطاهرات أمهات للمؤمنين في وجوب تعظيمهنَّ، واحترامهنَّ وحرمة نكاحهنَّ، كما يأتي
التصريح به بعد. قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِتَقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى ابْنِ مَريم ﴾ [الأحزاب: ٧].
قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ قُدّم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم على نوح فمن بعده؟ قلت هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم، فلما كان محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم أفضل هؤلاء المفضلين، قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم، ولولا ذلك لقُدِّم من قدَّمه زمانه، فإن قلت: فقد قدّم نوح عليه السَّلام في الآية التي هي أخت هذه الآية وهي قوله
۱۲۸
فضائل النبي و
:
تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الشورى:١٣] ثُمَّ قدّم على غيره؟ قلت مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك، وذلك أن الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء والمشاهير» . اهـ قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَ تَكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ [الأحزاب: ٩].
الريح ريح الصبا والجنود الملائكة. وكان هذا في غزوة الخندق، حيث قلعت الريح خيام الكفار، وسفت التراب في وجوههم، وأطفأت نيرانهم، وكبرت الملائكة في جوانب معسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال (۱).
(۱) قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: ۲۱] يعني: أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم قدوة حسنة يقتدي به المؤمنون في كل ما يصدر عنه من قول وعمل، لأنه لا ينطق ولا يعمل عن هوى، بل عن وحي ظاهر أو خفي، قال بعض
الكبراء: وخصك بالهدى في كلّ أمرٍ فلستَ تَشَاءُ إِلَّا مَا يَشَاءُ و مما يقتدى به فيه ما كان سبب نزول الآية وهو المواساة بنفسه، والثبات في مواطن
دلالة القرآن المبين
۱۲۹
طلب أمهات المؤمنين التوسيع عليهن في النفقة واللبس، فأنزل الله في ذلك: يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ
أُمَتَعْكُن وَأُسَرِحْكُنَّ سَراحَا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: ۲۸].
فخيرهن بين الله ورسوله وبين إجابة طلبهن في متعة الحياة الدنيا، وأخبر أن عقابهن مضاعف، وكذلك ثوابهن (۱) ، وأخبر أنهن لسن كأحد من النساء، ونداؤهن بـ ينساء النبي ﴾ [الأحزاب: ٣٠] يفيد أنهن نلن هذا التكريم لأجله صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
القتال، وقوله: المَن كَانَ يَرْجُوا الله ﴾ [الأحزاب: ۲۱] الآية بدل من لكُم فهو بيان لمن ثبتت له الأسوة الحسنة: أي أن المقتدي برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هو المتصف بخوف الله واليوم الآخر، والذكر الكثير الله تعالى، ويؤخذ منه أن الاقتداء
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم شرفٌ لا يناله إلَّا عِلْية المؤمنين وخاصتهم. (۱) قال تعالى: وَمَن يَقْنُتْ مِنكُن لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْمَلْ صَلِحَانُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ [الأحزاب: ٣١ مرة على طاعتها، ومرة على خدمتها للرسول في حياته وحبس نفسها عليه بعد انتقاله، وممن يؤتى أجره مرتين: الكتابي إذا أسلم لإيمانه بكتابه وبالقرآن، قال تعالى: الَّذِينَ انَيْنَهُمُ الْكِتَبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ ، مُسْلِمِينَ ( أَوَلَيْكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ ﴾ [القصص: ٥٢ - ٥٤] وفي الحديث الصحيح: «ثلاثة كلهم لهم أجران: رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران، ورجل كان من أهل الكتاب يؤمن بنبيه فأدرك النبي صلى الله عليه
وآله وسلّم فآمن به فله أجران، و مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران».
۱۳۰
فضائل النبي
تطهيرا [الأحزاب: ۳۳] يفيد طهارة أهل بيت النبوة، وهم كما ثبت في الصحيح: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، لأنَّ الله لما بين تكريم نسائه بين تكريم أولاده وعصبته، فجمع له الفضل من جميع أطرافه عليه
الصَّلاة والسلام.
خطب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم من عبد الله بن جحش أخته زينب، فوافق لظنه أنه خطبها لنفسه، فلما علم هو وأخته أن الخطبة لزيد كرها ذلك، فأنزل الله تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ (۱) [الأحزاب: ٣٦] فقال عبد الله وأخته: رضينا بأمر الله ورسوله.
(۱) قال ابن القيم في "زاد المعاد" تعليقا على هذه الآية: «فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئًا بعد أمره صلَّى الله عليه وآله وسلّم بل إذا أمر، فأمره حتم، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصيا الله ورسوله فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ويحرم عليهم مخالفته، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله، فلا حكم لأحد معه، ولا قول لأحد معه، كما لا تشريع لأحد معه، وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به و نهى عما نهى عنه، فكان مبلغا محضا ومخبرا لا منشئاً ومؤسسا، فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قبلت حينئذ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها، فإن لم يتبين فيها
۱۳۱
دلالة القرآن المبين
النبي
أفادت هذه الآية أنَّ أمر النبي هو أمر الله، ولو كان خارج القرآن، لأنَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى أن يزوج زينب لزيد، وأمر أخاها بتنفيذ الزواج، فأخبر الله تعالى أن هذا أمره، وأتى بصيغة عامة تشمل جميع أوامره عليه الصلاة والسَّلام، فالآية تصفع أولئك المبتدعة الذين يقصرون طاعة النبي على ما كان في القرآن ومتعلقا بالدين وزواج زينب بزيد لم يأمر به القرآن، ولا علاقة له بالدين، فإن تمسكوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في مسألة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم». فلا حجة لهم فيه، لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بترك التأبير وإنما قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا» فأبدى رأيا مجردًا، وليس كلامنا فيه، إنما كلامنا فيما أفادته الآية من وجوب اتباع أمره دينيا كان أو دنيويا مع تذييلها بقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴾ [الأحزاب: ٣٦]. كان الناس يدعون زيدًا ابن محمد؛ لأنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قد تبناه قبل النبوة، فأنزل الله في ذلك: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِينَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠] في هذه الآية - إلى جانب إبطال التبني - إثبات كونه عليه الصلاة والسَّلام خاتم النبيين، وهي مزية فضَّله الله بها على جميع المرسلين. ويلاحظ هنا أن الله حين ذكره باسمه محمد، أعقبه بوصف الرسالة إشارة
إلى أنه لا ينبغي أن يذكر اسمه إلا مقرونا بما يدل على التعظيم.
أحد الأمرين جعلت موقوفة وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه وأما أنه يجب ويتعين فكلا ولا» . اهـ وهو في غاية الحسن ونهاية الإجادة.
۱۳۲
فضائل النبي
قوله تعالى: تَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَهِدَ وَ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِبًا إِلَى الله بإذنه، وَسِرَاجًا منيرا ﴾ [الأحزاب: ٤٥ - ٤٦] يفيد تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء تدل على علو قدره وارتفاع منزلته، ولم يسم بها نبي قبله، ويلاحظ أن الله سماه سراجًا منيرا ، وسمى الشمس سراجا وهاجا، والمنير هو
الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج فإن فيه إحراقا وتوهجا. قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَجَكَ الَّتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِكَ وَبَنَاتِ عَمَّتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَلَئِكَ الَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأحزاب: ٥٠]. يفيد أن الزواج بلفظ الهبة ومن غير صداق من خصوصياته عليه الصلاة
والسَّلام فلا يصح الزواج بلفظ الهبة لأحد من الناس كائناً من كان. قال الزمخشري: «فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: نفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تفخيم له وتقرير لإستحقاقه الكرامة لنبوته». اهـ
قوله تعالى: تُرجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُنْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جناح عليك [الأحزاب: ٥١] يفيد تخييره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في القسم
بين زوجاته من غير وجوب عليه ، وهذا من خصوصياته أيضًا.
قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا نَدْخُلُوا بُيُونَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ
دلالة القرآن المبين
۱۳۳
إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَظِرِينَ إِنَنهُ (۱) وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَأَنتَشِرُوا وَلَا مُسْتَنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِي فَيَسْتَحْي، مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَنَعًا فَسْتَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٣].
يبين عدة أشياء من حقوق النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على أمته: أحدها: أنَّ أناسًا كانوا يدخلون بيوت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بغير
دعوة منه وينتظرون نضج الطعام ليأكلوا معه، فحرم الله عليهم الدخول إلا
بدعوة منه .
ثانيها: دعا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الصحابة إلى وليمة أولمها على بعض أزواجه، ولما تناولوا الطعام مكث بعضهم يتجاذبون أطراف الحديث، فأوجب الله عليهم الخروج عقب تناول الطعام مباشرة.
ثالثها: كان منهم من يتناول الطعام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وبعض أزواجه، ففرض الله الحجاب على أمهات المؤمنين صيانة لجناب نبيه الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام.
رابعها قال بعض كبار الصحابة: لئن مات النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لأتزوجن عائشة، فحرم الله تعالى نكاح أزواجه من بعده.
قال الزمخشري: وسمى نكاحهن بعده عظيما عنده، وهو من أعلام
(۱) نضجه.
١٣٤
فضائل النبي
تعظيم الله لرسوله وإيجاب حرمته حيا وميتا» . اهـ
خامسها: أفادت الآية أنَّ ما يؤذي النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يحرم
فعله ولو كان مباحًا في الأصل.
(تنبيه): قوله تعالى: ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا هذا أدب أدب به الثقلاء، روى الثعلبي عن العلاء قال: سمعت ابن عائشة يقول: حسبك في الثقلاء أن الله
تعالى لم يحتملهم وقال : فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا .
قلت: ويناسب هذا ما ورد عن الشَّافعي أنَّ سائلا سأله: أيمرض الروح؟ قال: نعم، من ظل الثقلاء، وبعد مدة كبيرة مر السائل عليه فوجده جالسا بين
ثقيلين، فسأله: كيف الروح يا أبا عبدالله ؟ فأجابه على الفور: في النزع!. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَيْكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٦] يفيد تشريف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهتين: الأولى: قال الإمام سهل بن محمد بن سليمان: هذا التشريف الذي شرف الله به محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم بهذه الآية أجمع وأتم من تشريف آدم عليه السَّلام بسجود الملائكة له؛ لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف، وقد أخبر الله تعالى عن نفسه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم عن الملائكة بالصلاة عليه، فتشريف يصدر عنه أن أبلغ من تشريف
تختص به الملائكة من غير أن يكون الله تعالى معهم فيه.
والثانية: أن الله تعالى أمر عباده بالصلاة على نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم،
دلالة القرآن المبين
۱۳۵
وجعلها قربة يتقرب بها إليه سبحانه، وهذا تشريف لم ينله رسول ولا ملك. (تنبيه): قال الحافظ السخاوي في القول" البديع": «الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، لأنَّ منهم الملائكة المقربين، وحملة العرش، وسكان سبع سماوات، وخزنة الجنة والنار، والحفظة على الأعمال وبني آدم كما في قوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: ١١] والموكلين بالبحار والجبال والسحاب والأمطار والأرحام والنطف والتصوير ونفخ الأرواح في الأجساد وخلق النبات وتصريف الرياح وجري الأفلاك والنجوم وإبلاغ صلاتنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وكتابة الناس يوم الجمعة، والتأمين على قراءة المصلين، وقول: «ربنا ولك الحمد»، والداعين لمنتظر الصلاة، واللاعنين لمن هجرت فراش زوجها إلى غير ذلك مما وردت به الأحاديث الصحيحة وغيرها، وأكثر ذلك موجود في كتاب "العظمة" لأبي الشيخ ابن حِبَّان الحافظ. وثبت في "المستدرك " للحاكم من حديث عبد الله بن عمرو: «إِنَّ الله جَزَّاً
الخلق عشرة أجزاء، فجعل الملائكة تسعة أجزاء، وجزءا سائر الخلق».
وفي حديث المعراج المتفق على صحته: «إنَّ البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا». وفي حديث أبي ذر عند الترمذي وابن ماجه والبزار مرفوعا: «أطت السماء وحُقَّ لها أن تَيْطَّ ما فيها موضعُ أربع أصابع إلا وعليه ملك واضع جبهته ساجد». وفي حديث جابر عند الطبراني مرفوعًا، ونحوه من حديث عائشة عند الطبراني: «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شير ولا كف إلا وفيه
١٣٦
فضائل النبي
ملك قائم أو راكع أو ساجد».
ومعلوم أن الجميع يصلون على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بنص القرآن حيث كانوا، وأين كانوا ، وهذا مما خصه الله به دون سائر الأنبياء والمرسلين».
قلت: ودون الملائكة أيضًا.
۲۷- سورة سبا
قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةُ لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: ۲۸] يفيد عموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلّم ، وقد تقدم هذا غير مرة وهو من خصوصیاته (۱)
(۱) وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ * أرشدكم وأنصحكم بخصلة واحدة، وهي : أَن تَقُومُوا لِلَّهِ أي قيامكم ونهوضكم بهمة مخلصين الله تعالى معرضين عن المراء والتقليد مَثْنَى وَفُرَادَى متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، لأنَّ الازدحام يشوش الخاطر، ويبعد عن التفكير المتزن ثمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به، لتعلموا حقيقته وتعلموا مَا بِصَاحِبكم من جنَّةٍ أي ما به من جنون يحمله على ادعاء الرسالة، بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأرزنهم حلما، وأثقبهم ذهناً، وأصلهم رأيًا، وأصدقهم قولا، وأنزههم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون ،به فكان مظنة لأن تظنوا به الخير،
وترجحوا فيه جانب الصدق، ويكفيكم أن تطالبوه بآية، فإذا أتى بها تبين أنه إن ما هُوَ إِلَّا نَذِيرُ لَكُم بَيْنَ يَدَى عَذَابِ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: ٤٦] وهذا من دفاع الله عن نبيه.
دلالة القرآن المبين
۱۳۷
۲۸- سورة فاطر
قوله تعالى: وَإِن يُكَذِبُوكَ فَقَدْ كَذِبَتْ رُسُلُ مِن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [فاطر: ٤] قال الزمخشري: نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله وتكذيبهم بها، وسلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن له أسوة حسنة في الأنبياء قبله، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد من رجوع الأمور إلى حكمه، ومجازاة المكذَّب والمكذِّب بما يستحقانه، فإن قلت: ما معنى التنكير في رسل؟ قلت: معناه: فقد كذبت رسل، أي رسل ذوو عدد كثير، وأولو آيات ونذر، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم وما أشبه ذلك، وهذا أسلى له وأحث على المصابرة» . اهـ
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ [فاطر: ١٠]. قال: «أصله والذين مكروا المكرات السيئات أو أصناف المكر السيئات، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إما إثباته أو قتله أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُنْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال: ۳۰] وَمَكْرُ أُوْلَيْكَ هُوَ سَبُورُ ﴾ [فاطر: ١٠] يعني: ومكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور أي: يكسد ويفسد دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعًا، وحقق فيهم قوله: ﴿وَيَمْكُرُونَ
۱۳۸
فضائل النبي
وَيَمْكُرُ الله وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ ﴾ [الأنفال:٣٠] وقوله: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَى إِلَّا
بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: ٤٣]» . اهـ
(1)
وعبر بأولئك إشارة لبعدهم عن الرحمة واشتهارهم بالبغي (1)
قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الَّذِينَ أَصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [فاطر: ۳۲] الآية، يفيد اصطفاء الأمة المحمدية، وما ذاك إلا ببركة نبيها صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى قوله: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ ؟ قلت فيه وجهان أحدهما : أنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك، أي: حكمنا بتوريثه أو قال: أورثناه وهو يريد نورثه - لما عليه أخبار الله - وَالَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، لأنَّ الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله ، ثم ذكر الوجه الثاني وهو يرجع إلى هذا المعنى أيضًا.
وهم
(۱) قوله تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ القرآن، ومن للتبيين هُوَ الْحَقُّ مصدقا حال مؤكدة، لأنَّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق لما بين يديه لما تقدمه من الكتب إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ، لَخَبِيرُ بَصِيرٌ ﴾ [فاطر: ٣١] يعني أنه خبرك وأبصر أحوالك فرآك أهلا لأن يوحي إليك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر
الكتب، فالآية مدح للقرآن الكريم وللنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
دلالة القرآن المبين
۱۳۹
(تنبيه) صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد الله، ثم قسمتهم إلى ظالم لنفسه مجرم، ومقتصد خلط عملا صالحًا وآخر سيئًا، وسابق غلبت حسناته على سيئاته ثم ختمت بجنات عدن يدخلونها جميعا، فاستفيد منها أن عصاة المسلمين لا يخلدون في النار وأن مالهم الجنة.
۲۹- سورة يس
قوله تعالى: ريس ) وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [يس:١ - ٣] الآية، رد على الكفار الذين أنكروا رسالته عليه الصَّلاة والسَّلام، ولهذا جاء مؤكدًا بالقسم وإن، واقترن خبرها باللام.
قال الزمخشري: فإن قلت: أي حاجة إلى قوله: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم
[يس: ٤] وقد علم أنَّ المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟ قلت: الغرض وصفه ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام ،واحد كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت وأيضًا فإن التنكير فيه دال على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط
مستقيم لا يكتنه وصفه . اهـ فتنكير صراط أفاد تفخيمه وتعظيمه قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَهُ الشَّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْهَ أَنْ مُبِينُ ﴾ [يس: ٦٩] رد لقول الكفار في النبي صلى الله عليه وآله وسلم: شاعر، ولقولهم في القرآن شعر، وهذا يؤيد ما ذكرناه غير مرة أن الله تعالى تولى الدفاع عن نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
12.
فضائل النبي
قوله تعالى: فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ [يس: ٧٦] الآية.
قال الزمخشري: «المعنى: فلايهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم، فإنا عالمون بما يسرون لك في عداوتهم وما يعلنون، وإنا مجازوهم عليه، فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد، ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن» . اهـ
٣٠- سورة الصافات:
قال تعالى: إنهم أي: المشركين كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: ٣٥] عن قولها وعن الاعتراف بما أفادته من التوحيد وَيَقُولُونَ أَبِنَا لَتَارِكُوا الهَتِنَا لِشَاعِرِ تَجنُونِ ﴾ [الصافات: ٣٦] يعنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ رد عليهم وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: ٣٧] هذا مثل قوله تعالى : مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [فاطر: ۳۱].
قال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ : أعرض عنهم حتى حين وهو موعد نصرك عليهم وهو يوم بدر أو يوم الفتح وأبصرهُم وما يحصل لهم من القتل والأسر في الدنيا، والعذاب في الاخرة فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } [الصافات: ١٧٤ - ١٧٥] ما يحصل لك من النصر والتأييد في الدنيا، والثواب الكبير في الآخرة، وأمره بالإبصار للدلالة على أن ذلك قريب الوقوع، كأنه واقع أمامه مشاهد له، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وآله وسلم وتنفيس عنه.
دلالة القرآن المبين وقوله تعالى: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
(۱۷۸)
١٤١
[الصافات: ۱۷۸-۱۷۹] تسلية بعد تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد إلى تأكيد، وإطلاق لفعلي الإبصار بعد تقييد، للإشعار بأنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من أنواع المسرة والثواب وصنوف المساءة والعذاب، وفي هذا دلالة على عناية الله بنبيه حسبما نبهنا عليه غير مرة.
۳۱- سورة الزمر
قوله تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ ﴾ [الزمر: ١-٢] الآية، يرد أيضًا على الكفار قولهم في النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إنما يعلمه بشر.
۳۲- سورة الشورى
قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: ١٣] يفيد فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على هؤلاء الرسل الذين هم أولو العزم وأصحاب الشرائع من جهتين:
إحداهما: التعبير في جانبهم بـ «وصَّى» إشارة لما قلناه في المقدمة: أن ما أوتيه
النبيون لم يعد أن يكون وصايا تختص بقبيل من الناس.
ثانيتهما: التعبير في جانبه عليه الصَّلاة والسَّلام بأوحينا تعظيما لشأنه، كأنه
١٤٢
فضائل النبي
المخصوص بالوحي، وإشارة إلى أن أولئك الأنبياء عليهم السلام كانوا أوصياء في غيبته صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولهذا يقول في الشفاعة لأهل الموقف يوم القيامة يا رب أسألك أمتي فأمته من ضمهم المحشر، والأنبياء أوصياء عنه.
۳۳- سورة الزخرف
قال الله تعالى: وقيله - أي: قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم، قرئ بفتح اللام وكسرها وضمها واختلف في توجيه ذلك على الإعراب، حكاها الزمخشري وضعفها ثم قال: وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله ولعمرك. ويكون قوله: يَرَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الزخرف: ۸۸] جواب القسم، كأنه قيل: وأقسم بقيله: يا رب أو وقيله يا رب قسمي إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، فَأَصْفَح عنهم فأعرض عن دعوتهم يائسا من إيمانهم، وودعهم وتاركهم وقل لهم سَلَم أي: تسلم منكم ومتاركة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: ۸۹] ، وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وآله وسلّم، والضمير في وقيله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وإقسام الله بقيله (۱)، رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه». اهـ
(1) وهذا يؤيد أن لعمرك ﴾ [الحجر: ٧٢] في سورة الحجر إقسام بحياته صلى الله عليه وآله وسلم كما سبق بيانه، وعلى هذا يكون أنه تعالى أقسم بحياته نبيه وبقيله.
دلالة القرآن المبين
٣٤- سورة الأحقاف
١٤٣
قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: ٢٩] الآية، يفيد إرساله عليه الصَّلاة والسَّلام إلى الجن، وهذا من خصوصياته، وقولهم : إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبْبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف: ٣٠] لا يدل على أن موسى أرسل إليهم، وإنما يدل على أنهم آمنوا به، ومن آمن برسول واتبع شرعه قبل نسخه كان ناجيا، وإن لم يكن ذلك الرسول مرسلا إليه، أما أن يكون نبي أرسل إلى الجن بحيث يجب عليهم الإيمان به واتباع شريعته، فلم يكن هذا إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
٣٥- سورة القتال
قوله تعالى: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَتِ مَا آمَنُوا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رهم [محمد: ۲] الآية، يفيد أنَّ الإيمان والعمل الصالح لا يقبلان إلا بالإيمان
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
قال الزمخشري: «وقوله: مَا آمَنُوا نُزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ اختصاص للإيمان بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين ما يجب الإيمان به تعظيما لشأنه وتعليما، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِم وقيل : معناها: أن دين محمد
١٤٤
فضائل النبي :
هو الحق، إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ لغيره». اهـ
قوله تعالى: وَاسْتَغْفر لذنبك أمر له بالتحدث بنعمة الله عليه بعصمته من الذنوب، والتحدث يكون في صورة طلب واستغفار، كما يكون في صيغة خبر واستبشار، والحكمة في هذا الأمر تنبيه الأمة إلى الاستغفار تأسيا بنبيها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وعطف قوله: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: ١٩] ليفيد تشريف الأمة باستغفار نبيها لها، مع الإشارة إلى أنّه عليه الصلاة والسَّلام مأذون له بالشفاعة فيهم، لأن الاستغفار استشفاع.
٣٦- سورة الفتح
نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرجعه من الحديبية فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ سورةٌ هي أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشَّمسُ» وقرأ
فاتحتها، الحديث.
قوله تعالى: إِنافَتَحْنَا لَكَ فَتَحَا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمَا وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيرًا ﴾ [الفتح: ١-٣] يفيد ما أنعم الله به على نبيه من الفتح الظاهر، والعصمة من الذنوب - إذ المغفرة كناية عنها (۱) - وإتمام النعمة، والهداية إلى الصراط المستقيم، والنصر
(۱) وجه ذلك : أن العصمة تحول بين الشخص وبين وقوع الذنب منه، والمغفرة تحول بين الشخص وبين وقوع العقاب عليه، فكنى عن الأولى بالثانية بجامع الحيلولة، لأنَّ من لا يقع منه ذنب لا يقع عليه عقاب، واختيرت هذه الكناية - أعني الاستعارة - لأنَّ
دلالة القرآن المبين
الذي لا ذل معه.
١٤٥
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْتَكَ شَهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الفتح: ۸] يفيد عموم أوصافه الأربعة وهي الرسالة والشهادة والبشارة والنذارة، لأنَّ حذف المتعلق يؤذن بالعموم، ويفيد أيضًا أن نصر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
وتعظيمه و اجبان كالإيمان به.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [الفتح: ١٠] يفيد أن متابعة رسول الله متابعة الله، وطاعته طاعته، وأن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذن الله ورضاه، و هذه منزلة لم ينلها رسول ولا ملك. وقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: ١٨] يؤيد ما قلناه آنفًا أنَّ ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يرضاه الله تعالى، ومن دلائل عناية الله بنبيه أنه تعالى ذكر الشجرة التي وقعت المبايعة تحتها، وهذا يفيد أنَّ رضاه سبحانه وتعالى عم الأشخاص الذين بايعوا ومكان مبايعتهم.
قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِهِ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ﴾ [الفتح: ۲۸] يفيد أن دين الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هو دين الحق، وأن ما عداه من الأديان باطل، وأنه ظاهر على جميع الأديان بقوة حجته، وموافقة عقيدته للفطر السليمة، وسماحة
المقام مقام امتنان، ثم المراد بعد هذا ليظهر أثر عصمتك فلا يبطرك الفتح والنصر.
١٤٦
فضائل النبي
تعليمه ومسايرتها لكل زمان ومكان وتمشيها مع العقل السليم والمنطق
القويم، والله تعالى شهيد على ذلك وكفى به شهيدًا.
قوله تعالى: تُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاهُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ۲۹] إلى آخر السورة، يفيد تسجيل الله تعالى شهادته لمحمد بأنه رسوله، وتسجيل صفات أصحابه في التوراة والإنجيل وفي هذا من علو منزلتهم ببركة صحبته صلى الله عليه وآله وسلّم ما لا يخفى.
(تنبيه): قال الصاوي: هذه السورة آخر القسم الأول من القرآن وهو المطول، وقد ختم بسورتين هما في الحقيقة للنبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وحاصلهما الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهرا كما ختم القسم الثاني - المفصل - بسورتين هما نصرة له صلَّى الله عليه وآله وسلم بالحال على من قصده بالضر باطنا».اهـ، وهو استنباط جيد.
۳۷- سورة الحجرات
قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا نُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: ١] نهى عن التقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بقول أو فعل، واعتبار التقدم بين يديه تقدما بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا لا يجوز لشخص أن يقدم رأيا من الآراء على حديث صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقد وقع كثير من المقلدين في هذا المحظور، حيث قدموا آراء أئمتهم على ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مخالفة صريحة لكلام الله سبحانه وتعالى.
دلالة القرآن المبين
١٤٧
قوله تعالى: يَنَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُ والهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: ٢] يفيد أمرين:
أحدهما: حرمة رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إذا تكلم، ويدخل في هذا حديثه عليه الصَّلاة والسَّلام، فلا يجوز رفع الصوت حين قراءة الحديث النبوي الشريف، ومن فعل ذلك يخشى عليه حبوط عمله. ثانيهما: حرمة الجهر بالكلام حين مناجاته عليه الصلاة والسلام، بل يجب الكلام معه بأدب وخفض صوت، وقد أثنى الله على أبي بكر رضي الله عنه وعلى غيره ممن التزموا هذا الأدب الواجب، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُونَ أَصْوَاتَهُمْ
عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أَوَلَيْكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرُ عَظِيمُ [الحجرات: ٣] وعلى هذا يجب على زائر الروضة الشريفة أن يسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأدب وخفض صوت مع إطراق وخشوع، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره الشريف، يرد السلام على من يسلم عليه. وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن رفع الصوت في المسجد النبوي احتراما له صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا سمعت دقا من البيوت المجاورة للمسجد، بعثت لسكانها: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.
تنبيهات
(التنبيه الأول) : قال الزمخشري : ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما
يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأنَّ ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون، وإنما
١٤٨
فضائل النبي
الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير.
وقال أيضا : كان أبو بكر رضي الله عنه إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وفد أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم
بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم».
(التنبيه الثاني): قال الزمخشري: «هذه الآية يعني: إن الذين يغضون أصواتهم بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم إسما لأنَّ المؤكد، وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا، والمبتدأ اسم الإشارة واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهما أمره، ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من خفض أصواتهم، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقدر شرف منزلته، وفيها تعريض
بعظم ما ارتكب الرافعون أصواتهم، واستيجابهم ضد ما استوجب هؤلاء». (التنبيه الثالث): أسند القاضي عياض في "الشفا" عن ابن حميد قال: ناظر أمير المؤمنين أبو جعفر مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإنَّ الله تعالى
أدب قوما فقال: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي [الحجرات: ٢]، ومدح قومًا فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
دلالة القرآن المبين
١٤٩
[الحجرات: ٣] الآية، وذم قومًا فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ [الحجرات: ٤] الآية، وأنَّ حرمته ميتا كحرمته حيّاً، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو ؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السَّلام إلى الله يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله
تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ ﴾ [النساء: ٦٤] الآية. جاء وفد بني تميم وقت الظهيرة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قائل في منزله، فنادوه غير مراعين راحته، فذمهم الله تعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحجرات: ٤ - ٥]. وهذا يفيد عناية الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأن جهل أولئك الوفد بما يجب له من تعظيم واحترام لم يعفهم من توجيه الذم إليهم، بل في تذييل الآية بجملة وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) تعريض بأنهم آثمون فيما فعلوا، وتحريض لهم على التوبة منه.
قال الزمخشري: «ورود الآية على هذا النمط فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وإجلاله، منها مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن خلوته مع بعض نسائه وتعريفها باللام دون الإضافة(۱)، ومنها أن شفع ذمهم
(1) أي لم يقل حجرات أزواجك صونًا لهن أن يذكرن في هذا الموطن.
10.
فضائل النبي
باستركاك عقولهم، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسلية له، وإماطة لما تداخله . من إيجاش
تعجرفهم وسوء أدبهم، وهلم جرا من أول السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب تقديم ا الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر ، كأن الأول بساط للثاني ووطاء لذكره، ثم ذكر ما هو ثناء على الذين غضوا أصواتهم دلالة على عظيم موقعه عند الله، ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس، لينبه على فظاعة ما جسروا عليه، لأنَّ من رفع قدره عن أن يجهر له بالقول - خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار - كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغًا، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب» . اهـ (۱).
(۱) وقال أيضًا: فإن قلت: هل من فرق بين حَتَّى تَخْرُجَ وإلى أن تخرج؟ قلت: إن حتى مختصة بالغاية الضرورية، تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولو قلت: حتى نصفها أو صدرها لم يجز، وإلى عامة في كل غاية، فقد أفادت حتى بوضعها أن خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه.
فإن قلت: فأي فائدة في قوله: إليهم ؟
دلالة القرآن المبين
١٥١
۳۸- سورة النجم
قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَ صَاحِبُكُمْ وَمَا عَوَى ﴾ [النجم: ١-٢] يفيد نفي الضلال عنه صلى الله عليه وآله وسلّم مع تأكيد النفي بالقسم، والتعبير بصاحبكم يفيد أنَّ كفار مكة في اتهامهم إيَّاه بالضلال والغي مكابرون؛ لأنهم يعرفونه منذ نشأته بينهم بالأمانة والصدق ورجاحة العقل والخلق هذا وفي القسم بالنجم إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسَّلام يهتدى به
القويم .
كما يهتدى بالنجم.
قوله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم: ٣]؛ زعم بعض المبتدعة أنه خاص بنفي الهوى في النطق بالقرآن وأن تعميمه في جميع ما يلفظ به عليه الصَّلاة والسلام مما ألقاه الشيطان على أفواه الناس! وما درى المسكين أنَّ الشيطان هو الذي أوحى إليه بهذه الكلمة التي دلت على جهله بعلم الأصول وقواعد اللسان العربي، فإن من المعلوم للمتدرجين في هذين العلمين أن الفعل إذا وقع في سياق النفي أو الشرط (۱) دل على العموم وضعا بلا نزاع،
قلت فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم . اهـ قلت: هاتان نکتتان بديعتان تفيدان غاية الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. (۱) عموم النكرة في سياق النفي لا خلاف فيه، وأما في سياق الشرط فاختلف فيه أهل الأصول، وممن قال بالعموم إمام الحرمين حتى أنه استدرك على الأصوليين والفقهاء إطلاق قولهم: النكرة في سياق الإثبات ،تخص، وقال: إن الشرط يعم،
١٥٢
فضائل النبي :
والمفسرون حين عمَّمُوا الآية في جميع ما ينطق به عليه الصَّلاة والسَّلام من قرآن وسنة إنما قالوا بما يدل عليه اللفظ العربي دلالة وضعية لغوية وبما يقتضية السياق أيضًا، لأنَّ الكلام مسوق لتبرئته عليه الصَّلاة والسلام مما رماه به المشركون من الضلال والغي والهوى، فوجب أن يكون النفي عاما في الهوى كما كان عاما في الضلال والغي، ولأنه لو قصر النفي في الهوى عن القرآن كان ذلك تسليما بأنه عليه الصَّلاة والسَّلام ينطق عن الهوى في السنة! وهل يليق بمسلم أن يحمل الآية على هذا المعنى الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يقتضيه السياق؟ إِنْ هُوَ أي ما ينطق به إِلَّا وَحَى يُوحَى ﴾ [النجم: ٤] غير أن القرآن وحي متلو والسنة وحي غير متلو.
قوله تعالى: عَلَمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَةِ فَاسْتَوَى ﴾ [النجم: ٥-٦] الآية يفيد
والنكرة في سياقه تعم، واستدل له ابن المنير بقوله تعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نقيضُ لَهُ شَيْطَانَا فَهُوَ لَهُ قَرِين وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [الزخرف: ٣٦ - ٣٧] الآية. قال: وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط، ونحن نعلم أنه إنما أراد عموم الشياطين لا واحدا الوجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا، فكيف بالعاشي عن ذكر الله ؟
والآخر: أنه أعاد عليه الضمير مجموعا في قوله : وإِنهم فإنه عائد إلى الشيطان قولا واحدا ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال. قلت: ويدل لهم أيضًا قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَا فَتَبَيَّنُوا الحجرات: ٦] الآية (فاسق و نبأ ذكرا منكرين في سياق شرط، والمراد بهما العموم بلا خلاف.
دلالة القرآن المبين
١٥٣
أمرين: أحدهما: تزكية علمه عليه الصَّلاة والسَّلام بأنه تلقاه بواسطة ملك قوي ذي عزم وهو جبريل عليه السَّلام.
ثانيهما: رؤيته الجبريل على صورته الأصلية، ودنو جبريل منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ولم يحصل هذا النبي قبله، بل كان الأنبياء يرونه في صورة إنسان مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [النجم: ۱۱] فؤاد النبي عليه الصلاة والسلام أي: ما أنكر مَا رَأَى ببصره من صورة جبريل الحقيقية، والآية -كما ترى- تتعلق برؤية جبريل التي حصلت بمكة قبل الإسراء، وتؤكد الآية موافقة القلب للبصر فيها، ولكن مبتدعاً جاهلا قحم في التفسير، فهم أن الآية تتعلق بالإسراء وأخذ منها دليلا قاطعا على أن المعراج لم يكن يقظة بالجسد والروح!
ففضح جهله، وغفل عن قوله تعالى: أَفَتَمرُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم: ١٢] فإنه يقضي على استنباطه.
قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْرَ اهُ نَزَلَةٌ أُخْرَى ) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَقَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى
[النجم: ١٣ - ١٥] الآية يفيد أمرين: أحدهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل عليه السلام
بصورته الحقيقية مرة أخرى.
ثانيهما: أنَّ الرؤية الآخرة حصلت عند سدرة المنتهى، ففي الآية إشارة إلى المعراج الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث المتواترة، وفي الآية تأكيد لهذه الإشارة من وجوه:
١ - القسم الذي تفيده اللام، إذ المعنى والله لقد رآه، ولو كانت هذه
١٥٤
فضائل النبي :
الرؤية وقعت في الأرض مثل السابقة لم يكن فيها ما يدعو إلى القسم.
۲ - جملة إِذْ يَغْشَى السَدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم: ١٦] فإنها سيقت لبيان ما كان يغشى السدرة حين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هناك، وإلا لم يكن لذكرها هنا فائدة .
جملة مَازَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: ١٧]) فإنها تفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عند السدرة ثابت الجنان، بحيث لم يزغ بصره رغم ما
رأى من الآيات العظيمة.
جملة لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الكُبرى ﴾ [النجم: ١٨] الواقعة جوابًا لقسم محذوف، وهي تفيد أنه رأى صلى الله عليه وآله وسلم هناك آيات كبرى إلى جانب رؤية جبريل عليه السَّلام، وهذا واضح إلا أنَّ مبتدعين جاهلين أبديا في الآية رأيين، يدرك سقوطهما بمجرد سماعهما، أما أحدهما فقال في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَوَاهُ تَزَلَةٌ أُخْرَى (٢) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى [النجم: ١٣-١٤]: والكلام صالح لأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرة كان في الأرض
أيضًا ورأى جبريل عند سدرة المنتهى، كما تقول: رأيت النجمة في السماء ! وهذا يدل على جهله بعلوم البلاغة، كما دل كلامه السابق على جهله بالأصول وقواعد اللسان العربي.
(۱) من أول السورة إلى هذه الآية، نزّه الله علم نبيه عن الضلال، وعمله عن الغي، ونطقه عن الهوى، وفؤاده عن التكذيب، وبصره عن الزيغ والطغيان، وأكد التنزيه المذكور بالإقسام عليه، وناهيك بذلك من رب العزة جل جلاله ثناءا. قاله العلامة الصاوي
دلالة القرآن المبين
100
وأما الثاني -وهو الذي أخذ من قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم: ١١ ] عدم وقوع المعراج فقال في سدرة المنتهى: أنها شجرة في الأرض ينتهي إليه المسافرون ،وغيرهم فيستريحون عندها! ثم أدركه الورع ففوض علمها إلى الله تعالى!
تنبيهان
(التنبيه الأول): أول كثير من المفسرين الرؤية في الآيات المذكورة على رؤية الله تعالى، ولكنا خالفناهم لسببين :
1 - أنَّ الحديث صرح بأنّها رؤية جبريل عليه السَّلام بصورته الحقيقية
وهو في الصحيح. ٢- أن سياق الآيات لا يساعد على تأويلهم إلا بشيء من التكلف، نعم رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ربه تبارك وتعالى على الراجح عند أكثر العلماء، كما قال النووي، وصح ذلك عن ابن عباس وأنس وأبي ذر، وذهب إليه الحسن وكعب وأحمد ابن حنبل وابن خزيمة، وانظر تفصيل هذا الموضوع مع الجواب عند نفي عائشة في كتابنا الأحاديث المنتقاة في فضائل سيدنا رسول الله".
(التنبيه الثاني): ذكر بعض المفسرين قصة الغرانيق في قوله تعالى: أَفَرَيْتُمُ اللتَ وَالْعُزَّى [النجم: ١٩] الآية، وبعضهم ذكرها عند قوله تعالى في (سورة الحج):
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِي إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: ٥٢] الآية، وهي قصة باطلة بينا بطلانها في "خواطر دينية" بما لا مزيد عليه.
١٥٦
فضائل النبي و
٣٩- سورة القمر
قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: ١] يفيد وقوع انشقاق القمر، وهو آية من آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الظاهرة، ومعجزة من معجزاته الباهرة، قال أنس بن مالك: إنَّ أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر شقتين. رواه الشيخان. ورويا عن ابن عبّاس قال: «إنَّ القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
وقال ابن مسعود: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى، إذ انفلق القمر فلقتين فكانت فلقة وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال لنا
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «اشهدوا». رواه الشيخان أيضًا. وقال ابن عمر: وكانت فلقة فوق الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلّم: «اللهم اشهد». رواه مسلم في "صحيحه".
وقال جبير بن مطعم: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حتى صار فرقتين؛ على هذا الجبل وعلى هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقال بعضهم: لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم. صححه الترمذي والحاكم على شرط الشيخين وسلمه الذهبي. وقال علي عليه السَّلام انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. رواه الطحاوي في "مشكل الآثار".
وأنكر بعض المبتدعة انشقاق القمر، وأوَّلوا وَانشَقَ بأنه ينشق يوم
دلالة القرآن المبين
١٥٧
القيامة، وهذا رأي باطل وتأويل عن التحقيق عاطل، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أن التأويل إنما يلجأ إليه عند استحالة المعنى أو تعذره، وانشقاق
القمر ليس بمستحيل ولا متعذر
الثاني: أن الصحابة الذين شاهدوه أخبروا بوقوعه كما سبق عنهم آنفًا. الثالث: أن أنسا رضي الله عنه صرح أن الآية المذكورة نزلت بسبب .
حادثة
انشقاق القمر، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ایده په الرابع: أن قوله تعالى: وَإِن يَرَوْاءَ ايَةً يُعْرِضُوا يَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌ ﴾ [القمر: ٢] يؤيد وقوعه أيضًا.
قال الزمخشري: وعن بعض الناس أن معناه ينشق يوم القيامة، وقوله:
وَإِن يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْمر يرده، و کفی به رادا». اهـ الخامس: أن أهل السنة أجمعوا على وقوع هذه المعجزة، تمسكًا بظاهر القرآن وبصريح السنة الصحيحة.
قال الحافظ ابن عبد البر : قد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، وتأيد بالآية الكريمة.
وقال القاضي عياض في "الشفا": «قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ په الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاءَ ايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرُ مُسْتَمر أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته، وأجمع أهل السنة والمفسرون على وقوعه». وقال أيضًا في "الشفا": «أمَّا انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه وأخبر
١٥٨
فضائل النبي
عن وجوده، ولا يعدل عن ظاهره إلا بدليل، وجاء بنفي احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة، فلا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه، وننبذ بالعراء سخفه .
أما قول من قال : لو وقع الانشقاق لنقل متواترا، واشترك أهل الأرض في
رؤيته، ولم يختص به أهل مكة، فالجواب عنه من وجوه
أحدها: أن الانشقاق وقع في الليل، ومعظم الناس نيام، وأبواب بيوتهم مغلقة وقل منهم من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر، ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر -وغيره من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام وغير ذلك مما يحدث في السماء بالليل - يقع ولا يعلم به إلا الآحاد، ولا علم به عند غيرهم.
ثانيها: إن الانشقاق حصل آية لقوم اقترحوها وطلبوا رؤيتها، فلم يتنبه غيرهم لها، إذ لم يتحدد قبلها موعد وقوعها حتى يترصدها الناس كما ترصد أهل مصر معجزة عصا موسى حين حدد لوقوعها يوم الزينة كما جاء في (سورة طه).
ثالثها: أن القمر كان في ليلة الانشقاق في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون ،بعض، وهذا ،ضروري، كما يكون القمر ظاهرا لقوم غائبا عن آخرين، وكذلك يجد الكسوف أهل بلد دون بلد.
رابعها أنَّ أهل مكة بعثوا يسألون المسافرين والقادمين من البلاد الأخرى، فأخبروا أنّهم شاهدوه منشقًا، ولذلك قالوا: سِحْرٌ مستمر أي :
دلالة القرآن المبين
١٥٩
قوي عم البلاد والناس.
خامسها: أن ملك بهوبال - واسمه بهوج بال- شاهد الانشقاق، ذكره الفريشته في "تاريخه"، بل شاهده أيضًا ناس كثيرون من بلاد متعددة كما في "تاريخ ابن كثير". سادسها: أنَّ القرآن أخبر عنه، وهو منقول نقل تواتر بتلقي جيل عن
جيل، فالانشقاق منقول بأعلى تواتر وأقواه.
(تنبيه): قال الإمام الخطابي : انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السموات خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع فليس فيما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر.
٤٠- سورة الرحمن
توجه الخطاب فيها إلى الثقلين بالبشارة والإنذار، وهو من أدلة إرسال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهما.
٤١- سورة المجادلة
كان اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلموا عليه: سام عليكم، ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول! فأنزل الله تعالى يتوعدهم وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَوكَ بِمَا لَمْ يُحْيِكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [المجادلة: ٨] وهذا من دلائل عناية الله
17.
فضائل النبي
بنبيه صلى الله عليه وآله وسلّم.
أكثر المسلمون المسائل على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى شَقُوا عليه، فأراد الله تعالى أن يخفف عنه فأنزل: وَيَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَنكُمْ صَدَقَةً ﴾ [المجادلة: (۱۲] الآية، فكف كثير منهم عن ا
المسألة،
بل لم يناجه بعد نزولها غير علي عليه السَّلام كان عنده دينار فصرفه دراهم،
،
وناجي بها الرسول عدة مرات ثم نسخها الله بالآية بعدها : ﴿ وَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا
بين يدى بجونكُمْ صَدَقَتِ ﴾ [المجادلة: ١٣] الآية.
ولذلك كان يقول: «آية في كتاب الله تعالى لم يعمل بها أحد قبلي، ولن يعمل بها أحد بعدي». وهي آية المناجاة، وفيها دليل على أن الله تعالى يحب من المسلمين ألا يشقوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يضايقوه.
٤٢- سورة الحشر
لما نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ببني النضير، وتحصنوا بحصونهم، أمر بقطع نخيلهم وتحريقها، فنادوه يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بال قطع النخيل وتحريقها: فأنزل الله تعالى مَا قَطَعْتُم مِّن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَابِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْرِى الْفَسِقِينَ ﴾ [الحشر: ٥]، وهذا يؤيد ما قدمناه في (سورة الفتح: أن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذن الله ورضاه، ودعوى اليهود فساد التحريق والإتلاف ردها الله بأن حكمته إخزاؤهم، لأنهم كفروا بالله ورسوله عن جحود وعناد، واتفقوا مع
دلالة القرآن المبين
١٦١
المشركين على عداوته وحربه.
٤٣- سورة الصف
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَنبَنِي إِسْرَاءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّ قَالِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ : أَحْمَدُ ﴾ [الصف: ٦] يفيد أن عيسى عليه السَّلام بَشر بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم بشارة صريحة، وهذا معلوم للباحثين والدارسين في كتب الديانات حتى أن المنصفين من المستشرقين يعترفون بذلك.
(لطيفة): كان أحد القسيسين إذا توسم في مسلم الجهل بالمسائل الدينية، ألقى عليه هذا السؤال: هل تؤمن بعيسى فيجيب المسلم: نعم أؤمن به، لأنَّ القرآن أثبت رسالته، فيقول القسيس: إذن اتفقنا نحن وأنتم على الإيمان بعيسى واختلفنا في محمد، فنحن لا نؤمن به، فيكون عيسى أفضل من محمد ؟ لأن المتفق عليه أفضل من المختلف فيه، فلا يدري المسلم ما يقول؟ فألقى مرة على عالم ظنه جاهلا سؤاله السابق هل تؤمن بعيسى: فأجابة العالم: إن كنت تريد عيسى الذي بشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد فإني أؤمن به، وإن كنت تريد عيسى آخر فلا أعرفه، فانقطع القسيس ولم يحر جوابًا (۱).
(۱) مما يناسب هذا ما ورد عن بعض العلماء، أنه أسر ببلاد الروم، فقال لهم: لم تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له. قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا: كان يحيي الموتى. قال: فحزقيل أولى، لأن عيسى أحيا أربعة، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى، لأنه طبخ وأحرق، ثم قام سالما.
١٦٢
فضائل النبي :
ويناسبها ما ذكره المرتضى من "أماليه": أنَّ أبا الهذيل العلاف - في حداثته - بلغه أن يهوديًا قدم البصرة، وقطع جماعة من متكلميها، فقال لعمه: يا
عم امض بي إلى هذا اليهودي حتى أكلمه ، فقال له عمه: يا بني كيف تكلمه وقد عرفت خبره؟ وأنَّه قطع مشايخ المتكلمين؟ فقال: لا بد من أ أن تمضي بي إليه، فمضى به، قال: فوجدته يقرر الناس على نبوة موسى عليه السَّلام، فإذا اعترفوا له بها، قال نحن على ما اتفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدعونه، فتقدمت إليه فقلت: أسألك ؟ أم تسألني؟ فقال: بل أسألك، فقلت: ذاك إليك، فقال لي: أتعترف بأن موسى نبي صادق؟ أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن كان موسى الذي تسألني عنه هو الذي بشر بنبيي عليه السلام وشهد بنبوته وصدقه فهو نبي صادق، وإن كان غير من وصفت فذلك شيطان لا أعترف بنبوته، فورد عليه ما لم يكن في حسابه، ثم قال لي: أتقول إنَّ التوراة حق؟ فقلت: هذه المسألة تجري مجرى الأولى، إن كانت هذه التوراة التي تسألني عنها هي التي تتضمن البشارة بنبيي عليه السلام فتلك حق، وإن لم تكن كذلك فليست بحق ولا أقر بها، فبهت وأفحم ولم يدر ما يقول؟ ثم قال لي: أحتاج أن أقول لك شيئًا : وبينك، فظننت أنه يقول شيئًا من الخير،
بيني
فتقدمت إليه فسارني فقال لي : أمك كذا وكذا - يعني زانية وأم من علمك، لا يُكَنِّي، وقَدَّر أني أثبُ به، فيقول: وثبوا بي وشغبوا عليَّ، فأقبلت على من كان في
ذكره في "الكشاف" عند الكلام على قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ
ءَادَمَ } [آل عمران: ٥٩].
دلالة القرآن المبين
١٦٣
المجلس فقلت: أعزكم الله، ألستم قد وقفتم على مسألته إياي؟ وعلى جوابي إيَّاه؟ قالوا: بلى، قلت: أفليس عليه أن يرد جوابي أيضًا؟ قالوا بلى، قلت: فإنَّه لما سارني شتمني بالشتم الذي يوجب الحد، وشتم من علمني، وإنما قَدَّر أنني أثب عليه، فيدعي أننا واثبناه وشغبنا عليه، وقد عرفتكم شأنه بعد الانقطاع
فانصروني، فأخذته الأيدي من كل جهة فخرج هاربا من البصرة.
قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾ [الصف: ٩] تقدم نظيره في (سورة الفتح)، وتقدم مثل هذه الآية في (سورة التوبة)، والحكمة في تكرارها تأكيد شرك أهل الكتاب، وأن دينهم منسوخ بدين الإسلام.
٤٤- سورة الجمعة
قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمتعنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَنَيْهِ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( وَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم [الجمعة: ٢ - ٣] يفيد استمرار بعثته عليه الصلاة والسَّلام، وفضل الصحابة على من بعدهم ببركة صحبته صلى الله عليه وآله وسلّم.
٤٥- سورة المنافقون
قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنفِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 7]. دافع الله به عن الصحابة الذين هاجروا إلى المدينة، وكان الأنصار -وهم
١٦٤
فضائل النبي
أهل البلد يواسونهم فنهاهم المنافقون عن ذلك، مؤملين أن ينصرفوا إلى شئون معايشهم وما يصلح حالهم، فرد الله عليهم بأن خزائن السموات والأرض بيده تعالى، فهو متكفل برزقهم، لأنهم في صحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، قائمون بخدمته باذلون أنفسهم في نصرة دينه (۱).
وقوله تعالى: لَن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: ۸] . دفاع ثان عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ذلك أنَّ عبد الله بن أبي بن سلول قال لإخوانه المنافقين وهم راجعون من غزوة بني المصطلق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. يقصد بالأذل المهاجرين وبالأعز أنفسهم، فرد الله عليهم بأن العزة الله ولرسوله وللمؤمنين،
ولم يدافع عن صحابة نبي غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لكرامته عليه. (تنبيه): قوله وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ الآية، أصل في القول بالموجب المعروف في مبحث القوادح من علم الأصول.
٤٦- سورة الطلاق
النبي
قال تعالى: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ ) [الطلاق: (١] الآية قال الزمخشري: «خص ) صلى الله عليه وآله وسلّم بالنداء، وعم بالخطاب، لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا
(۱) دافع الله عنهم أيضًا في (سورة البقرة) كما سبق التنبيه عليه.
دلالة القرآن المبين
170
كيت وكيت، إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه وأنه مِدْرَه القوم ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر ،دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وسادا مسدَّ جميعهم». اهـ
ومثل هذا قول الله تعالى حكاية عن فرعون: قَالَ فَمَن رَبُّكُمَا يَمُوسَى [ طه : ٤٩] عمهما بالخطاب، وخص موسى بالنداء لأنه أفضلهما وأجلهما.
٤٧- سورة التحريم
قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رحيم )) [التحريم: ١] يفيد أمرين:
سبق.
أحدهما: تعظيم الله لنبيه حيث ناداه بوصف النبوة، وقد نبهنا على هذا فيما
ثانيهما: عتابه على تحريم ما أحل له ليرضى أزواجه، وهذا يشعر بعناية الله بنبيه، بحيث لا يحب له أن يضيق على نفسه في سبيل إرضاء أي: شخص، فكأنه يقول: لا تضيق على نفسك بتحريم سريتك لترضي أزواجك، بل هن أحق أن يسعين في رضاك ليسعدن، وانظر ما تقدم في (سورة طه).
قوله تعالى: إن نوبا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ﴾ [التحريم: ٤] يؤيد ما ذكرناه آنفا، حيث إن الله تعالى يقول لحفصة وعائشة : إن تتوبا إلى الله فقد مالت قلوبكما لتحريم مارية، وسر كما ذلك مع كراهة النبي له، وذلك ذنب يستوجب التوبة. وقوله تعالى: ﴿وَإِن تَظهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَنَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ
177
فضائل النبي :
وَالْمَلَيْكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرُ ﴾ [التحريم: ٤] يؤيد أيضًا ما تقدم، ويدل على أن عناية الله بنبيه لم يرق إليها رسول ولا ملك، فما نعلم أن الله تعالى نصر رسولا على أعدائه بهذه الصورة الرائعة التي وعد بها رسوله في هذه الحادثة، ولقد كان في نصر الله كفاية وغناء، لكنه سبحانه أراد أن يظهر مقدار حبه لنبيه ورعايته لجانبه، فجند لنصره جبريل وصالح المؤمنين والملائكة!
فهذه الآية دليل كافٍ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أفضل
المخلوقات وأحبهم إلى الله على الإطلاق.
٤٨- سورة القلم
قوله تعالى : ونَ وَالْقَاءِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ [القلم: ١] إقسام من الله تعالى بالقلم وما يكتب به على ما يأتي مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونِ ﴾ [القلم: ٢]. هذا أول الأشياء المقسم عليها، وهو نفي الجنون الذي زعمه المشركون، وزيدت الباء في بمجنون لتأكيد النفي.
والثاني: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: ٣] أي: غير مقطوع؛ لأنه ما من عمل خير يعمله أفراد أمته من الثقلين منذ بعثته إلى يوم القيامة إلا وله عليه أجر الهداية والتعليم.
نقل القسطلاني في المواهب اللدنية عن الإمام الشافعي قال: ما من عمل يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا والنبي أصل فيه. قال في "تحقيق النصرة: فجميع حسنات المؤمنين وأعمالهم الصالحة في
دلالة القرآن المبين
١٦٧
الحاصلة
صحائف نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم، زيادة على ما له من الأجر مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأنَّ كل عامل ومهتد إلى يوم القيامة يحصل له أجره، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر، والشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية وهكذا تضاعف كل مرتبة بعدد الأجور ا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وبهذا يعرف تفضيل السلف على الخلف، فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، كان له عليه الصَّلاة والسَّلام من الأجر ألف وأربعة وعشرون، فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألفين وثمانية وأربعين، وهكذا
كلما زاد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدًا كما قال بعض المحققين. قلت: وبيان ذلك بالتفصيل أنَّ الشيخ الأول له أجر على التعليم، وللشيخ الثاني أجران، وللثالث أربعة، وللرابع ثمانية، وللخامس ستة عشر، والسادس اثنان وثلاثون، وللسابع أربعة وستون وللثامن ثمانية وعشرون ومائة، وللتاسع - وهو التابعي - ستة وخمسون ومائتان وللعاشر -وهو الصحابي اثنا عشر وخمسمائة، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة وعشرون وألف (۱)، يضاف إلى هذا ما يناله من أجر عظيم بصلاة الله عليه وملائكته والمؤمنين. والثالث: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: ٤]وهذا أعظم مدح له عليه
(۱) وأيضًا ما من معصية تقع إلا وله صلَّى الله عليه وآله وسلّم ثواب النهي عنها والتحذير منها لقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما من عمل يقربكم إلى الجنة إلا وقد أمرتكم به، وما من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه الحديث. رواه الحاكم من حديث ابن مسعود وصححه.
١٦٨
فضائل النبي
الصَّلاة والسَّلام، حيث إن الله تعالى أثنى عليه بعظمة خلقه، مؤكدًا هذا الثناء بالقسم وإن واللام، وكون خبرها مجرورًا بعلى المفيدة تمكنه من هذا الخلق العظيم
واستقراره عليه، وناهيك بخلق يشهد الله تعالى بعظمته، والله در القائل
أيا مُصْطَفَى مِن قَبْلِ نَشْأَةِ آدَمَ والكَوْنُ لم تُفْتَحُ لَهُ الأَغْلَاقُ أيرُومُ مَخْلُوقٌ ثَناءَكَ بَعْدَما أَثْنَى على أَخْلاقِكَ الخَلاقُ
- سورة الحاقة
قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الحاقة: ۳۸ - ۳۹]. أقسم الله بالأشياء كلها الخلق والخالق النعم الظاهرة والباطنة، الأجسام
والأرواح، الإنس والجن الغيب والشهادة الدنيا والآخرة إنه أي: القرآن القَولُ رَسُول كَرِيم ﴾ [الحاقة ٤٠] هو النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، يقوله على وجه الرسالة من عند الله، وفي هذا دفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وثناء عليه، وقيل: الرسول الكريم هو جبريل عليه السلام.
قال الزمخشري : وقوله: ﴿ وَمَا هُوَ بِقَولِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنِ [الحاقة : ٤١ - ٤٢ دليل على أنه محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ المعنى على
إثبات أنه رسول لا شاعر ولا كاهن.
قلت: وقوله : تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحاقة: ٤٣] دليل على ذلك أيضا (١).
(۱) وقد دفع الله عن نبيه هذا الاتهام أيضًا في (سورة الطور) فقال تعالى: ﴿ فَذَكَرْ فَمَا
دلالة القرآن المبين
179
٥٠- سورة الجن
تشتمل على الإخبار بسماع الجن للقرآن ومدحهم له وإيمانهم به، وأنهم اجتمعوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ليسمعوا منه الدعوة، وازدحموا حتى ركب بعضهم فوق بعض ، وهذا يقتضي أنهم كانوا كثيرين، وقد قيل: كانوا اثني عشر ألفا، وقيل: سبعين ألفا.
فالعجب من بعض المبتدعة حيث زعم في حديث له بالمذياع : أنه لا يوجد دليل قطعي على إرسال النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجن! وكيف غفل عن هذه السورة وسورتي (الرحمن) و (الأحقاف)؟! وكيف فاته أنَّ الله أمر نبيه أن يتحدى بالقرآن الإنس والجن؟! ولو لم يكن رسولا إليهم لكان ذكرهم في التحدي عباً لأنَّ من المقطوع به أن الرسول يتحدى قومه خاصة، كما هو ثابت في قصة صالح وموسى وغيرهم مما سجله القرآن الكريم، وقد رددت عليه برسالة سميتها "قرة العين بأدلة إرسال النبي إلى الثقلين" أوردت فيها خمسة وعشرين دليلا من الكتاب والسنة والإجماع، وذكرت بعض الصحابة من
أنت بنعمتِ ريك بسبب إنعامه عليك بالنبوة وكمال العقل وعلو الهمة والعصمة يكاهن ولا مجنون ﴾ [الطور: ۲۹] أي لست كاهنا ولا مجنونا، ولكنك نبي معصوم مؤيد بالوحي أمْ يَقُولُونَ شَاعِرُ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون ﴾ [الطور: ٣٠] حوادث الدهر فيهلك كما هلك غيره من الشعراء قُلْ تَرَبَّصُوا ب ملاكي فَإِنِّي مَعَكُم مِّن المتر يصِينَ ﴾ [الطور: ٣١] هلاككم وقد أهلكهم الله يوم بدر، والمقصود أن التهمة التي نفاها الله عن نبيه في الموضعين واحدة.
۱۷۰
فضائل النبي
الجن، وخرجت بعض ما رووه من الأحاديث، ومنكر إرساله عليه الصلاة
والسَّلام إلى الجن كافر بلا نزاع.
قوله تعالى: وَأَنَا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبَا وَأَنَا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَعِدَ لِلسَّمْعَ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَا بَا رَصَدًا ﴾ [الجن: ٨ - ٩] يفيد اعتراف الجن المؤمنين بأنهم كانوا يسترقون السمع قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم منعوا بعدها من استراق السمع بالشهب المحرقة، والحرس الشديد من الملائكة؟ لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام بعث لإبطال الكهانة والتنجيم وغيرهما مما كان يعتقده العرب وغيرهم، وجاء لتنوير العقول وهداية القلوب فأيده الله بالملائكة والشهب وغيرهما مما لم يعطه لنبي قبله.
٥١- سورة المزمل
نادى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الوصف (۱) تسجيلا لحالته التي كان عليها حين رجع إلى خديجة رضي الله عنها بعد أن نزل عليه في غار حراء أول آية نزلت من القرآن أقرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: ١] الآية، وفؤاده
الله
يرجف وقال: «زملوني، لقد خشيت على نفسي. فقالت له خديجة رضي ا عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق. وقال عكرمة : معناه يا أيها الذي زمل أمرًا عظيما، أي: حمله، ومن الحكمة
(۱) ذكر الزمخشري هنا كلاما يخالف سبب النزول، ويدل على سوء أدب في حق الجناب النبوي الكريم، وقلده فيه البيضاوي من غير تبصر، ورد عليه العلامة ابن المنير فأجاد.
دلالة القرآن المبين
۱۷۱
-
في ندائه بهذا الوصف - إلى جانب ما ذكر - تأنيسه وإزالة ما علق بقلبه من هيبة
الوحي، وفي هذا من لطف الله به ورعاية جانبه ما لا يخفى.
٥٢- سورة المدثر
فتر الوحي نحو ثلاث سنوات كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم خلالها يعلو شواهق الجبال حزيناً مهموما (۱) ، فنودي - وهو بغار حراء: يا محمد أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، فرفع رأسه فإذا جبريل قاعد على عرش بين السماء والأرض، فرعب ورجع إلى خديجة رضي الله عنها وقال: «دثروني» فأنزل الله تعالى: يَاأَيُّهَا الْمُدَّيْرُ قُرفَانذِرُ ﴾ [المدثر: ١- ٢] الآية، ويقال هنا ما
(۱) جاء في بعض الروايات أنه كان عليه الصَّلاة والسَّلام يعلو شواهق الجبال يريد أن يلقي نفسه، ويرجع حين يظهر له جبريل عليه السَّلام. و هذه رواية وقعت في البخاري مرسلة، فهي ضعيفة، وعلى فرض صحتها، فهمه صلى الله عليه وآله وسلّم بالانتحار، لا يعيبه لوجوه: أحدها: أن الهم بالمعصية لا ينافي العصمة، وقد هم يوسف عليه السلام بقربان امرأة العزيز لكن لم يقربها العصمته.
ثانيها: أن الانتحار لم يكن محرما في ذلك الوقت، وإنما نزل تحريمه بعد ذلك في
المدينة، بقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [النساء: ٢٩]. ثالثها: أن قتل الإنسان نفسه شرع لبني إسرائيل في توبتهم من عبادة العجل. قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَومِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِأَتَخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِيكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِندَ بَارِيكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
[البقرة: ٥٤].
۱۷۲
فضائل النبي
قيل في يَاأَيُّهَا الْمُزَّمَلُ ﴾ [المزمل: ١] وفي الوضعين إشارة إلى أنه عليه الصلاة
والسلام تزمل بالنبوة وتدثر بالرسالة.
٥٣- سورة القيامة
كان النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ القرآن قبل فراغ جبريل من إلقائه
حرصا على حفظه وعدم نسيانه، فأنزل الله تعالى: لَا تُحَرَكَ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمَعَهُ، وَقُرْهَانَهُ فَإِذَا فَرَأَنَهُ فَاتَّبِعْ قُرْهَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: ١٦ - ١٩] وهذا يفيد أن الله تعالى لا يحب لنبيه أن يجهد نفسه بقراءة ما يلقيه عليه جبريل، فتجتمع عليه مشقة التلاوة ومشقة تلقي الوحي، فأمره باستماع ما يلقى إليه، وتكفل سبحانه بجمعه له في صدره وتحفيظه إياه.
٥٤- سورة عبس
كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم جالسا مع زعماء من قريش يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم أتباعهم فيتأيد الإسلام ويقوى، فدخل عليه عبد الله ابن أم مكتوم الضرير وقال : أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر الطلب فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كلامه؛ لأنه قطع حديثه وشغله عما كان يرجوه من إسلام أولئك الزعماء، وابن أم مكتوم سمع كلامه معهم وعرف اشتغاله بهم، فانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته ولم يعلمه عقابا له على سلوكه، فأنزل الله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَهُ يَزكَى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنَفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس: ١ - ٤] الآية.
دلالة القرآن المبين
۱۷۳
وأتى بضمير الغيبة تلطفا بنبيه وإجلالاً له، وهذا يقتضي أن الله تعالى يعاتبه عتاب محبة ووداد، ويفهمه أن تجاوزه عن سلوك الأعمى وتعليمه أولى من إتعاب نفسه مع أولئك الزعماء الذين أيأسه من إسلامهم في آية نزلت بعد هذه، فما أكرمه من خطاب وما أجمله من عتاب يتوجهان من المولى إلى سيد المقربين الأحباب.
وفي الآية تأويل آخر قرأته لبعض المعاصرين وحاصله مع توضيح وتتميم: أن جملة: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى حكاية لقول الكفار عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم ثم وجهوا الخطاب إليه على سبيل الاستهزاء: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَهُ يَزكَى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَفَعَهُ الذِكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى يقصدون أنفسهم فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزكَى وَأَمَا مَن جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى يقصدون
الأعمى فَأَنتَ عَنْهُ لَلَقَى [عبس: ١ - ١٠ ] إلى هنا انتهى كلامهم.
قال الله تعالى يرد عليهم كلا ﴾ [عبس: ۱۱] لا تقولوا ذلك، فمحمد لا يقبل على شخص لأجل غناه ولا يعرض عن آخر لأجل فقره أو عماه، وهو تأويل حسن جيّد يؤيده سياق الآية، فإن قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأعمى يناسب أن يكون من كلام الكفار ، قالوه تعييبا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو خلاف الواقع؛ لأنَّه لم يعبس لأجل مجيء الأعمى، ولكن لأجل قطع حديثه مع القوم، وقوله تعالى: وَمَايُدْرِيكَ لَعَلَهُ يَزَّكَّى يناسب أن يكون من كلامهم أيضا، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدري أن ابن أم
١٧٤
فضائل النبي
مكتوم تزكى بالإيمان، وأنه يتذكر بما يسمعه من القرآن، إذ هو رضي الله عنه من قدماء المسلمين وابن خالة خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين، والقرآن يستعمل عبارة وَمَايُدْرِيكَ ولَعَلَّ فيما لا يدري نحو وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكونُ قَرِيبًا [الأحزاب: ٦٣ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبُ [الشورى: ١٧].
والحديث الوارد في قصة ابن أم مكتوم ضعيف، رواه الترمذي عن عائشة وقال: حديث غريب ، والآيات على هذا من دفاع الله عن نبيه.
50- سورة التكوير
كان المشركون يعرفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم - منذ نشأته بينهم - بالصدق والأمانة والوفاء ومكارم الأخلاق، لا ينكرون ذلك ولا يحاولون إنكاره ، فلما أكرمه الله بالرسالة حسدوه واستنكفوا أن يتبعوه وقالوا: إنما يعلمه بشر، ورموه بالجنون، هذا وهم يعلمون أنهم فيما أبدوه من الاتهام مخالفون لما يعرفون من أخلاقه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وصفاته، فأنزل الله تعالى: فَلَا أقيم بالتخسيس ) الْجَوَارِ الكنيس ) وَاليْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا لَنَفَسَ إِنَّهُ لَقَولُ رسول كريم ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مكين قطاع ثُمَّ أَمِين ﴾ [التكوير : ١٥-٢١]. وهذا رد لقولهم: يعلمه بشر، حيث أثبت أن القرآن نزل به جبريل عليه السَّلام، وأطنب في مدحه ليبين لهم أن السفير بينهما عظيم الصفات، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عظيم الصفات باعترافهم أنفسهم.
وقوله تعالى: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونِ ﴾ [التكوير: ٢٢] نفي لتهمة الجنون،
دلالة القرآن المبين
۱۷۵
وعبر بصاحبكم تنبيها إلى أنهم - في اتهامهم -له مخالفون لما عرفوه عنه من رجاحة العقل، وهذا مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةً إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينُ ﴾ [الأعراف: ١٨٤] وقوله سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفَرَدَى ثُمَّ تَتَفَكَرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةً إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرُ لكُم بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: ٤٦].
قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْرَ اهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ [التكوير: ٢٣]تأكيد لنفي الجنون عنه، إذ تفيد هذه الجملة إقسام الله تعالى على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى السفير الذي يأتيه بالوحي رؤية حقيقية ليس عن جنون أطاف به، ولا عن نوبة إغماء أصابته.
فهذه الآيات كما ترى أتت لنفي تهمتين رددهما الكفار مرات، ولم تأت للمفاضلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجبريل عليه السلام، وقد وهم الزمخشري حيث فهم منها أفضلية جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فشذ بهذا الفهم عن الإجماع (۱)، وغفل عن الدلائل التي تقتضي أفضليته عليه
(۱) وقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكُ ) [الأنعام: ٥٠] لا يدل على أفضلية الملائكة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه قصد به الرد على المشركين الذين طلبوا منه مطالب على سبيل التعنت، حيث قالوا له: إن كنت رسولًا فنريد أن توسع علينا وتكثر أرزاقنا، وقالوا أيضًا: أخبرنا بما يحصل لنا في المستقبل حتى نتهيأ له ونجتنب ما يمكن اجتنابه مما يضرنا، وقالوا أيضًا: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج؟ فجاءت الآية ردًّا لهذه الأقاويل
١٧٦
فضائل النبي
الصَّلاة والسلام على جبريل وغيره كإقسام الله بحياته، وصلاته عليه، وإنذار الملائكة في كتابه، وندائه بوصف التعظيم إلى غير ذلك مما تراه في مواضعه من هذا الكتاب، ولو لم تكن إلا آية النصرة في (سورة التحريم) لكان فيها الكفاية. ٥٦ - سورة البروج
أخرج البزار بإسناد رجاله ثقات عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : وَشَاهِدٍ وَمَشهور ﴾ [البروج: ٣] قال الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم والمشهود يوم القيامة، فذلك قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّتِي بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء : ٤١] وتنكير شاهد ومشهود للإبهام في الوصف كأنه قيل وشاهد ومشهود لا يكتنه ،وصفها، قاله الزمخشري في
" الكشاف"، وفي هذا من التنويه بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يخفى.
على هذا الترتيب، ردت قولهم الأول بقوله: ولا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ التي يرزق منها عبادة حتى أستطيع أن أوسع عليكم وأكثر أرزاقكم، وردت قولهم الثاني بقوله: وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فأخبركم بالمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، وردت الثالث بقوله: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك حتى تنكروا مني الأكل والمشي في الأسواق وتزوج النساء، وذيلت هذه الردود :بقوله : وإِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى ﴾ [الأنعام: ٥٠] أي: ما أنا إلا رسول بشر أتبع ما يوحى إلي فأبلغكم إياه، وهو توحيد الله وعبادته، فلا صلة
للآية بالمفاضلة.
دلالة القرآن المبين
۱۷۷
٥٧- سورة البلد
قوله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلُّ بِهذا البلدي [البلد: ١-٢] يفيد إحلال مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وكان ذلك يوم فتحها، حيث أمر بقتل عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ لأنه كان يكتب الوحي ثم ارتد وطعن في القرآن وفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإحلال مكة
المكرمة من خصوصياته عليه الصَّلاة والسلام، ولم تحل لنبي قبله.
وقيل في معنى وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد : مقيم به نازل فيه، فكأنه تعالى عظم حرمة مكة من أجل أنه صلى الله عليه وآله وسلم مقيم بها، وقيل معنى وَأَنتَ حل هذا البلد ومن المكابدة والمشقة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد، كما يستحل الصيد في غير المحرم. عن شرحبيل قال: يحرمون أن يقتلوا بها صيدا، ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه - على هذا - تثبيت لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وحـ على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته صلى الله عليه وآله وسلّم. والمراد بقوله: وَوَالِدٍ وَمَاوَلَدَ ﴾ [البلد: ٣] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه، والتنكير للمدح والتعظيم، وإيثار «ما» على «من» لإفادة
معنى التعجب كما في وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [آل عمران: ٣٦] قاله الزمخشري.
۱۷۸
فضائل النبي
-OA
- سورة الضحى
اشتكى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أياما لم يقم فيها لصلاته، فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد قلاك، لم أره قربك منذ كذا، فنزل قوله تعالى: وَالضُّحَى )) وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّ عَكَ رَبُّكَ وَمَا على [الضحى: ١ - ٣] أقسم سبحانه على أنه ما ترك نبيه وما أبغضه، وهذا من كمال عنايته في رد ما قال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
قوله تعالى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى: ٤] يفيد ما أعد الله له في الآخرة من الكرامات والعطايا، ويفيد بدلالة الإشارة أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم يترقى دائما : لأنَّ اللحظة الآخرة خير له من الأولى.
قال الزمخشري: «فإن قلت كيف اتصل قوله: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى بما قبله؟ قلت: لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أنَّ الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ولا نعمة أجل منه، أخبره أنَّ حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك (1) من الكرامات السنية».
(۱) مثل شفاعته للعصاة من أمته في عدم دخول بعضهم النار، وفي إخراج بعضهم الآخر منها، والزمخشري لا يقول بهاتين الشفاعتين لأنه معتزلي، وأهل السنة مجمعون على
إثباتهما، ودلائل الكتاب والسنة المتواترة تؤيدهم.
دلالة القرآن المبين
۱۷۹
قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى: ٥] وعد من الله تعالى بأن يعطيه فيرضيه، وحذف مفعول يعطيك ليعم أنواع العطاء من الكمالات النفسانية والعلوم الإلهية، وظهور الأمر وإعلاء الدين، والنصر على الأعداء،
والشفاعة وغير ذلك مما لا يعلمه إلى معطيه سبحانه وتعالى (١). قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى [الضحى: ٧] معنى الضلال هنا عدم المعرفة، يقال: ضللت الدار، أي: لم أعرفها، والمعنى: أنه لم يكن يعرف الشريعة فهداه الله إليها بالوحي وهذا كقوله تعالى: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَبُ وَلَا
الإيمنُ ﴾ [الشورى: ٥٢] أي: ما كنت تدري القرآن ولا شرائع الإيمان. قوله سبحانه: وَأَمَّا نِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِتْ [الضحى: ١١] أمر له عليه الصلاة والسلام أن يحدث أمته بما أنعم الله عليه، ليعرفوه ويعتقدوه، ويزدادوا حبا له وتعظيما، فالتحدث بالنعمة في حقه واجب، وفي حق غيره من أفراد الأمة جائز إذا أمن العجب والرياء.
(۱) وقال الزمخشري : موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الفتح والظفر بأعدائه يوم بدر، ويوم فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم، وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وأنهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام، وفشو الدعوة واستيلاء المسلمين، ولما ادخر له من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله» . اهـ
۱۸۰
فضائل النبي
٥٩- سورة الم نشرح
قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح : ١] يفيد أن الله تعالى شرح صدر نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بنوره الإلهي، ليسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، وليكون مهبط الرحمات وموضع التجليات.
قال الزمخشري: معنى شرحنا لك صدرك»: فتحناه حتى وسع هموم النبوة، ودعوة الثقلين جميعًا، قوله تعالى: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظهرك [الشرح:۲-۳] المراد بالوزر: عبء التبليغ وثقل الدعوة، كان الاهتمام بهما يقض مضجعه حتى سهلهما الله تعالى عليه ويسرهما له، فإطلاق الوزر من باب الاستعارة التصريحية كما هو معلوم، وفي قراءة ابن مسعود: «وحللنا عنك وقرك، والوقر الحمل، و هذه القراءة تؤيد ما قررناه».
قوله تعالى: وَرَفَعْنَالَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: ٤] يفيد أن الله تعالى رفع ذكر نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم، فبشر به في الكتب السابقة وأخذ عهدًا على الأنبياء أن يؤمنوا به وينصروه إن ظهر في زمانهم، وقرن اسمه باسمه تعالى في الأذان والإقامة والتشهد في الصلاة، وفي خطب الجمعة والعيدين وفي خطبة النكاح، وفي الشهادة التي لا يكون الشخص مسلما إلا إذا نطق بها، وجعل الصلاة عليه عبادة فرضها على المسلمين. (تنبيه): قال العلامة الصاوي: لو أن رجلًا عبد الله تعالى وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافرا،
دلالة القرآن المبين
وهذا إجماع.
۱۸۱
وفي "صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «والذي نفس محمد بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموتُ ولم يؤمن بالذي
أرسلت به إلا كانَ من أصحابِ النَّار» (۱) .
٦٠- سورة البينة
.
كان الكفار من أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: لا نترك ما نحن عليه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، فلما بعث صلى الله عليه وآله وسلَّم حسدوه وأنكروه وتفرقوا عنه، فحكى الله عنهم ما كانوا يقولونه: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكَينَ (۲) عما هم عليه حتى تأتيهم البينة الحجة
.
(۱) هذا الحديث يفيد أن عقاب الآخرة موقوف على بلوغ الدعوة، وقد بينا في "خواطر دينية" أن إبلاغ الدعوة واجب يقوم به كل مسلم في حدود طاقته، لكن يقع معظمه على عاتق الحكام والعلماء والأغنياء، فهم المسئولون قبل كل أحد عن تأليف جماعات وإمدادها بما يلزم للتبشير بالإسلام في جميع بقاع العالم، وإن مشكلة الملونين في أمريكا وجنوب إفريقيا، ومشكلة المنبوذين في الهند، لا تجد الحل العادل السليم إلا في الإسلام، دين الأخوة والمساواة والسلام العام . (۲) تأمل هذه الآية تجدها سلكت أهل الكتاب والمشركين في نظام، ووسمتهم جميعا بسمة الكفر، لأنَّ أهل الكتاب اتفقوا على الكفر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، واليهود كفروا أيضا بعيسى، والنصارى ألهوه، وبعض الناس يعتقد أن الكافر هو
۱۸۲
فضائل النبي
الواضحة، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ بدل من البينة ينلُوا مُحْنَا مُطَهَّرَةً من الباطل فيها كُتُبُ قَيِّمَةٌ فيها أحكام مكتوبة مستقيمة ناطقة بالحق والعدل وَمَا نَفَرقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَ لَهُمُ البينة البينة: ١- ٤] وهذا كقوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا به [البقرة: ۸۹] ومن قال: إن المراد بـ رَسُول هنا : جبريل عليه السَّلام، فقد أخطأ خطاً كبيرًا؛ لأنَّ جبريل لم يتل عليهم صحفًا ولا غيرها، ولأنه أيضًا لم يكن موصوفًا لهم في التوراة والإنجيل باسمه ونسبه وبلده ومهاجره. 11 - سورة الكوثر
قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1] يفيد تشريف النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بهذا العطاء الذي أكد بـ«إن»، وبـ«نون العظمة»، والكوثر نهر في الجنة كما ثبت به الحديث في "صحيح مسلم"، وهو من خصوصياته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقيل في معنى الكوثر أقوال كثيرة تركناها لأمرين:
١ - أنا لا نعدل بالحديث الصحيح غيره.
الذي ينكر وجود الله تعالى، وهذا الاعتقاد خطأ والصواب لغة وشرعا أن الكافر يطلق على الأصناف المذكورة كلها، لأنَّ المشرك كفر بوحدانية الله، وأهل الكتاب كفروا برسالة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومنكر الله كفر بوجوده، واسمه
الخاص به: ملحد.
دلالة القرآن المبين
۱۸۳
٢- أن تلك الأقوال متداخلة ولا تفيد فائدة جديدة، وأقربها إلى الإفادة
قول من قال: الكوثر الخير الكثير، وهو قول ابن عباس.
قوله تعالى: إن شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: ٣] رد لقول المشركين في النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين مات ولده القاسم: بتر محمد، ولذا جاء مؤكدًا بـ«إن»، وضمير الفصل، وتعريف الأبتر، وذلك يفيد حصر البتر في شانته أي: مبغضه عليه الصَّلاة والسَّلام، و هذه السورة نزلت لتسليته صلى الله
عليه وآله وسلم وبيان ماله عند مولاه من المنزلة التي ليس فوقها منزلة.
وقال الزمخشري في تفسير هذه السورة بعد حكاية الخلاف في معنى الكوثر والصَّلاة والنحر : والمعنى أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك، ومعطي ذلك كله أنا إله العالمين، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان: إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم، فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه وشرفك وصانك من منن الخلق مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفا لهم في النحر للاوثان، إن من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم هو الأبتر لا أنت، لأنَّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر والمنار، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر : يبدأ بذكر الله ويثني بذكرك، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف، فمثلك لا يقال له أبتر،
وإنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة، وإن ذكر ذكر باللعن.
١٨٤
فضائل النبي :
٦٢- سورة النصر
بشر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه السورة بنصره على أعدائه وفتح مكة له وأمره بالتسبيح والاستغفار () استعدادًا للقاء مولاه وتهيؤا لما أعد له من أنواع الكرامات عنده سبحانه وتعالى.
٦٣- سورة المسد
لما نزل قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقرَينَ ﴾ [الشعراء: ٢١٤] خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى البيت ونادى بطون قريش، فاجتمعوا له، فأنذرهم عذاب الله وحذرهم عقابه، فقال له عمه أبو لهب : تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا ؟ !
فأنزل الله تعالى هذه السورة يخبر بهلاكه وهلاك زوجه، ولم يفرد الله سورة لذم أحد بالتعيين سواهما، وذلك لشدة عداوتهما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة إيذائهما له (٢).
(1) يؤخذ من هنا فضل التسبيح والتحميد والاستغفار ، حيث أمر الله به في مقابلة شكر نعمة الفتح والنصر، كما يؤخذ أيضًا أن من حكم الاستغفار أن يكون شكرًا على نعمه، فتضاف هذه الحكمة إلى حكمه التي بيناها في (سورة النساء).
(۲) يجتنب كثير من الناس هذه السورة في الصلاة معتقدين كراهة قراءتها؟ لأنها تذم عم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذا شيء لا أصل له، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يضيره ذم عم كان أكفر قريش بالله، وأشدهم عداوة لرسوله، ويعجبني في
دلالة القرآن المبين
٦٤ ٦٥- سورتا المعوذتين
١٨٥
لجأ اليهود إلى السحر (۱) آخر حيلة لهم في محاربة النبي صلى الله عليه وآله
هذا المقام صنيع الزمخشري - حين تكلم على حمالة الحطب) وحكى القراءتين برفع حمالة ونصبة، ووجه القراءة الثانية بأن النصب على الشتم فإنه قال: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجميل، من أحب شتم أم جميل ا.هـ، وكذلك أقول: قد توسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب، من أحب ذم أبي لهب.
(1) السحر نوعان نوع يتسلط على قلب الشخص أو عقله، فيورث عنده وسوسة أو خبلا، فيتخيل أمورًا لا وجود لها، ويعتقد أشياء لا حقيقة لها.
وهذا النوع مستحيل في حق الأنبياء عليهم السلام لقيام الدليل العقلي القاطع على عصمتهم من تسلط شيء على قلوبهم أو عقولهم، ونوع يتسلط على بدن الشخص فقط، مثل ربطه عن زوجه فلا يقدر على إتيانها مع تمام صحته.
وهذا النوع جائز في حق الأنبياء، لأنه من الأمراض البدنية التي لا تمس مكانتهم، ولا تنقص قدرهم. وهذا هو الذي حصل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ثبت في رواية للبخاري في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. ومعنى كلامها: أنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يرى أن له قدرة على إتيان النساء کسابق عادته، ولكنه إذا أراد المباشرة لا يأتيهن لعدم القدرة عليه، فهو مرض بدني لا علاقة له بالقلب ولا بالعقل، وهذا مثل الحمى.
فقد كان صلى الله عليه وآله وسلَّم يمرض بها، لكنه معصوم من خطر فتكها
١٨٦
فضائل النبي
وسلم، فسحره لبيد بن الأعصم اليهودي ليعقده عن زوجاته، وذلك يؤدي في نظرهم إلى إتعاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في بيته وإسقاطه في نظر نسائه، وربما يطلبن الطلاق من رجل لا يقوم بالوظيفة الزوجية، وظل صلَّى الله عليه وآله وسلّم معقودا عن أهله وهو في تمام صحته لا يدري ماذا جرى له؟ حتى نزلت هاتان السورتان، وأخبره جبريل عليه السلام بما حصل له فقر أهما وحل عقد السحر المعمول ،له وعاد إلى سابق نشاطه في قربان أهله، وتم نصر الله تعالى له ظاهرا وباطنا، ورفع منزلته حسّا ، ومعنى، فلم يكن أفضل منه عند مولاه رسول ولا ملك ، ولم يكن أقرب منه كليم ولا خليل، صلى الله عليه وآله
وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.
وهذرها، فكان تسلطها مقصورًا على بدنه.
والمشركون حين قالوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: وإِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا ، مسحُورًا ﴾ [الفرقان: ۸] قصدوا النوع الأول، يريدون أنه مغلوب على عقله، يتخيل أنه يوحى إليه وأنه رسول... إلخ.
وهذا كما قالوا عنه: ساحر وشاعر وكاهن ولهذا رد الله كلامهم فقال لنبيه: أنظر كيف ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: ٤٨] إلى الحق الذي ضلوا عنه، ونظير هذا قول فرعون في موسى: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونَ ﴾ [الشعراء: ٢٧].
دلالة القرآن المبين
خاتمة
۱۸۷
بعد الانتهاء من ذكر الآيات الواردة في فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكريمه، نلخص منها في هذه الخاتمة المزايا، أي: الخصائص التي اقتضت أفضليته على الأنبياء والمرسلين والملائكة؛ لأنها لم تجتمع
وهي نوعان:
الأول: نوع يتعلق بشخصه.
لأحد سواه،
الثاني: ونوع يتعلق بأمته أو ببعض أفرادها لأجله عليه الصَّلاة والسلام. فمن النوع الأول: دفاع الله عنه بمختلف الأساليب حسبما نبهنا عليه فيها مر، تبشير الأنبياء به، أخذ الميثاق عليهم أن يؤمنوا به وينصروه، إعطاؤه أمنيتة قبل السؤال، قتال الملائكة معه، نصره بالرعب يلقى في قلوب أعدائه، إيجاب طاعته وجعلها مثل طاعة الله طلب الله منه أن يعفو عن أصحابه ويستغفر لهم اتباعه سبب في محبة الله تعالى وغفرانه تسليته عن تكذيب الكفار له، الطعن فيه طعن في الدين نفي الإيمان عمن لم يسلم الحكمه تسليما، تنبيه الله له على الخطأ قبل الوقوع فيه، ومن ثم كان لا يخطئ حتى فيما يهم به، شهادة الله له بالتبليغ ، نداؤه وذكره بوصف النبوة والرسالة وجوده منع | الخسف والمسخ والقذف، وصفه باسمين من أسماء الله تعالى بل بأكثر (۱)، إيتاؤه القرآن العظيم،
(۱) ووصف خليله باسم واحد قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَاهُ حَلِيمُ} [التوبة: ١١٤] ووصف به إسماعيل أيضًا فَبَشَّرْنَهُ بِغُلَمٍ عَلِيمٍ } [الصافات: ١٠١] كذلك وصف كليمه باسم واحد وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَ هُمْ رَسُولٌ كَرِيم ﴾ [الدخان: ١٧] ووصف
۱۸۸
فضائل النبي
حفظ الله له من التبديل والتحريف، إقسام الله بحياته، كفايتة المستهزئين به، إسناد بيان القرآن إليه إعطاؤه المقام المحمود، إعجاز القرآن للثقلين، عتابه لجبريل واعتذار الملائكة في كتابه الذي هو القرآن تحريم ندائه باسمه أو كنيته إرساله رحمة للعالمين، يسر ،دینه عموم ،رسالته وجوب إيثاره بالنفس، ختمه للنبوة، زواجه بالهبة وبدون صداق، عدم وجوب القسم عليه بين نسائه، حرمة إيذائه ولو بمباح صلاة الله وملائكته عليه أمر المؤمنين بالصلاة عليه، حرمة التقدم بين يديه بقول أو فعل حرمة رفع الصوت فوق صوته، حرمة الجهر له بالقول في الكلام معه تزكية الله له جملة وتفصيلا، كل ما يصدر عنه بإذن الله ورضاه، تجنيد الله لنصرته على زوجيه جبريل وصالح المؤمنين والملائكة، ثناء الله عليه بعظمة خلقه، أجره على التبليغ مستمر لا ينقطع،
إحلال مكة له عام الفتح دوام ترقيه شرح صدره لتلقي التجليات، رفع ذكره، إعطاؤه الكوثر إلى غير ذلك.
ومن النوع الثاني: دفاع الله عن صحابته، شهادة أمته على الناس يوم الخطأ والنسيان والحرج عن أمته، إحلال الغنائم لهم، تفضيلهم
القيامة، رفع ا على الأمم، تبرئة زوجه ببضع عشرة آية، أزواجه أمهات المؤمنين، تحريم نكاحهن من بعده، يؤتين أجرهن مرتين، الثناء على صحابته في التوراة والإنجيل.
نوحا باسم واحد أيضًا إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: ٣] ووصف إسحاق باسم واحد أيضًا وَبَشَرُوهُ بِغُلَمٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات: ۲۸]، هذا آخر التعليقات. والحمد
الله رب العالمين.
دلالة القرآن المبين
۱۸۹
هذه بضع وستون مزية خص الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهي في القرآن الكريم، وقد ثبتت خصائص أخرى في الأحاديت الصحيحة والحسنة تضارع هذا العدد، ومن أراد استيفاءها فليراجع كتاب "الخصائص الكبرى" للحافظ السيوطي، فقد استوعبها استيعابا بالغا إلَّا أنَّه لم يقتصر على الأحاديث الثابتة بل حشر فيها كثيرًا من الأحاديث الضعيفة والواهية وبعض الموضوعات ناسيا ما التزمه في خطبة الكتاب من صونه عن الواهي والموضوع وفي نيتي أن ألخصه بتجريد ما فيه من الأحاديث الصحيحة والحسنة وطرح ما عداها، وفق الله إلى ذلك وأعان عليه، بل شرعت فيه وكتبت منه جملة صالحة
تجيء في قدر ثلثه لكن حال دون إتمامه عروض هذه المحنة عجل الله كشفها. وكان الفراغ من تسويد هذا الكتاب بعد عصر يوم السبت السابع والعشرين من شهر ربيع النبوي سنة ثلاث وتمانين وثلاث مائه وألف، وتم تبييضة بعد عصر يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر ذي القعدة الحرام من السنة نفسها.
والله المسئول أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وسببا لنيل شفاعة نبيه في
الموقف العظيم، وأن يُفرج كربتنا ويستر عورتنا.
والحمد الله أولا وآخرا ، والصَّلاة والسَّلام على نبيه بداية ونهاية،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
٢ - الأحاديثُ المُنتقاة
في فَضَائِلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ
هذا كتاب قد سعدتُ بِجَمْعِهِ في فَضْلِ خَيْرِ الخَلْقِ أَكْرَمِ مُرسَلِ نُورُ الوُجُودِ شَفيعنا يوم اللقا هادي الخَلائِقِ للصَّراطِ الأَكْمَل قد خصــه المولى بأقربِ خُلَّةٍ و حباه بالخلق العظيم الأفضل الجنابه أهـــدي كتابي راجيا أن يقبل المهـــى قبـول المفضل ويضيفني كَرَمـــا إلى أتباعه أهل الحديث وأهل ذكر منزَل
الأحاديث المنتقاة
المقدمة
۱۹۵
الحمد الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أحمده تعالى وأثني عليه وأشكره، وأستهديه سبحانه وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا هو المتفرّد بالخلق والإيجاد، المنزه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشركاء والأنْدَاد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، جعله نبيًّا وآدم مُنْجَدِلٌ في الطين، وأخذ الميثاق به على جميع النبيين، ثُمَّ بعثه مؤيَّدًا بالمعجزات الباهرات، وفَضَّله بأنواع الخصائص والمكرمات، فشرح صدره، ورفع ذكره، وأعلى قدره، وأعظم أجره، وختم به الرسل والأنبياء، وكتب لشريعته الخلود والبقاء إلى يوم الجزاء، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وزاده شرفا وكرامة لديه، وأعطاه من صُنوف الفضل ما لا يصل أحد إليه، ورضي عن آله وأصحابه وكل من اندرج في زمرة أتباعه وأحبابه.
أما بعد: فهذه أربعون حديثًا (مترجمة للإنجليزية والإندونيسية) مُنتقاة في فضائل مولانا رسول الله، خدمت بها الجناب النبوي وأتحفّتُ بها المحبين لمقامه العلي، وجعلتها وسيلة أنال بها شفاعته يوم يفر المرء من أخيه، وأُمه وأبيه، ومن الحميم الوفي. تقبلها الله بقبول ، وأذهب عنا كل كَرْبٍ وهَمَّ وحَزَن، بفضله وجوده، إنه ذو الفضل العظيم، وصاحب الجود الواسع العميم، لا يَرُدُّ من سَأله، ولا يُخَيِّبُ من أمَّلَه لا سيما وقد استشفعنا إليه بأكرم خليقته وأفضل بريَّته، سائلين منه سبحانه أن يحقق رجاءنا، ويقبل دعائنا ويمحو وِزْرَنَا ، ويجبُرُ كَسْرَنا، إنه قريب مجيب.
أبو الفضل عبد الله الصديق الغماري
حسن
١٩٦
فضائل النبي
۱- حديث: «مَتَى وَجَبَتِ النُّبُوَّة»
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، مَتَى وَجَبَتْ لك النبوَّةُ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحیح غريب.
قوله: «متى وَجَبَتْ لَكَ النبوَّةُ ؟»، هكذا في هذه الرواية، وهي أيضًا رواية
الحاكم وأبي نعيم والبيهقي، وصححها الحاكم أيضًا.
وفي رواية: متى كُتبتَ نبيَّا؟ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «كتبتُ نبيا وآدَمُ بَيْنَ الرُّوحُ والجَسَدِ»، وهذه رواية أبي عمرو إسماعيل بن نجيد في جزئه. وفي رواية: مَتَى كُنتَ نَبيَّا؟ ، وهي رواية ميسرة، الآتية في الحديث الثاني. ومثلها رواية ابن عباس عند البزار والطبراني وأبي نعيم، ورواية ابن أبي الجدعاء
عند ابن سعد وابن قانع، ورواية مطرف بن عبد الله بن الشخير عند ابن سعد. وفي روايةِ الشَعْبِي: أنّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: متى استُنْبِثْتَ؟ قال: «وآدَمُ بين الرُّوحِ والجَسَدِ، حين أُخِذَ مِنِّي المِيثَاقُ». رواها ابن
سعد أيضًا، لكن الراوي عن الشعبي: جابر الجعفي.
وعن الصَّنَابِحِي قال: قال عمر : متى جُعِلْتَ نَبيَّا؟ قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «وَآدَمُ مُنْجَدِلٌ في الطين». رواه أبو نعيم في "الدلائل".
وهذه الروايات متقاربة، والمراد بها الإخبار بوجوب نبوته، أي: ثبوتها لروحه الشريفة المخلوقة قبل الأرواح، ورواية «مَتَى كُتبتَ؟» معنى الكتابة فيها: الوجوب، والثبوت في الخارج أيضًا، فإنّ الكتابة تُسْتَعْمَلُ فيما هو واجب
الأحاديث المنتقاة
۱۹۷
ظاهر في الخارج، نحو: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [البقرة : ۱۸۳] :
اللَّهُ لَأَغْلِبَنَ ﴾ [المجادلة : ۲۱] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ﴾ [البقرة: ۱۷۸] وحاصل المعنى: أنَّ الله تعالى أفاض على روح نبيه الشريفة، أو حقيقته(۱) المحمدية وصف النبوة، في وقت كان آدم لا يزال طريحًا على الأرض، قبل نفخ الروح فيه، وإفاضة النبوة في هذا الوقت تستلزم تقدم خلقه على غيره كما هو ظاهر. ولهذا جاء من طريق عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَقَهُمْ ﴾ [الأحزاب: ٧] الآية، قال: «كُنْتُ أَوَّلَ النبيّين في الخَلْق وآخِرَهم في البَعْثِ»، فبدأ به قبلهم. رواه ابن أبي حاتم وغيره.
ورواه ابن سعد عن قتادة مرسلا ، بلفظ : «كنتُ أوّل النَّاسِ(۲) في الخَلْقِ وآخِرَهم في البَعْثِ». قال المناوي في شرح الجامع الصغير" ما نصه: «جعله الله حقيقةً تَقْصُرُ عقولنا عن معرفتها، وأفاض عليها وصف النبوة من ذلك الوقت،
ثم لما انتهى الزمان بالاسم الباطن إلى الظاهر، ظهر بكليته جسما وروحا» . اهـ وفي حديث الإسراء، من رواية أبي هريرة: وجَعَلَني فاتحا وخاتِما»، أي:
(۱) وهذا ما يقصده أصحاب السير والموالد بقولهم: «خُلِقَ نُورُه قَبلَ الأشياء»، لأنَّ روحه الشريف كان موجودًا متصفا بالنبوة قبل نفخ الروح في آدم كما تبين، والروح جسم نوراني لطيف، كما حققه ابن القيم وغيره، وكذا إذا قلنا أن المراد حقيقته، فإنها أمر نوراني تقصر عقولنا عن معرفته، إذ الحقائق تقصر العقول عن معرفتها، كما قاله التقي السبكي في رسالة "التعظيم والمنة".
(۲) المراد بالناس: النبيون بدليل الرواية السابقة، فهو عام أريد به الخصوص.
۱۹۸
فضائل النبي :
فاتحا لخلق الموجودات، وخاتِما لظهور النُّبُوَّات، ولذا كان من أسمائه صلى الله
عليه وآله وسلم «الفاتِحُ الخاتم».
وقد أجاد في تقرير هذا المعنى وإيضاحه الإمام الحافظ تقي الدين السبكي في رسالة: "التعظيم والمنة في لتؤمنن به ولتنصرنه" وهي مطبوعة في "فتاويه"، ونقل كلامه الحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى"، والقسطلاني في "المواهب اللدنية" وغيرهما. (تنبيه): عَرَضَ زكي مبارك في كتاب "التصوف الإسلامي" لموضوع الحقيقة المحمدية، وَزَعَم أنّ الصوفية تغالوا فيها، كتغالي النصارى في الحقيقة العيسوية، وتكلم على أحاديث: كُنتُ نبيًّا وآدمُ بَيْنَ الرُّوح والجسد»، فَزَعَمَ بطلانها، وأيَّد زَعْمَه بنقل كلام الذهبي في "الميزان" على بعض رجال هذه الأحاديث، وكل ما أبداه خطأ فاحش فإنّ الصوفية لم يتغالوا، بل ذكروا ما فهموه من الأحاديث بحسب ما ألهمهم الله، ومن عادة الذهبي أنه يصرح في "الميزان" ببطلان الحديث الصحيح، بل المتواتر أحيانًا(۱)، وهو يعلم صحته أو
(1) كحديث: مَن كَذَبَ عليَّ متعمدا، فهو حديث متواتر، وقد نص على وضعه في مواضع من "الميزان" في تراجم جماعة من الضعفاء والمجروحين، والمقصود أن الأحاديث
الضعيفة والموضوعة يؤخذ حكمها من الكتب الخاصة بها لا من كتب الرجال. وقد حصل في أول طلبي لهذا الشأن أني رأيت الحافظ الدميري ذكر في "حياة الحيوان" حديثا في الأشياء التي تورث النسيان، ومنها أكل التفاح الحامض، والمشي بين إمرأتين، وبين جملين، وقراءة الكتابة على شواهد القبور... إلخ، ونَصَّ على صحته، فظننته صحيحًا كما قال ثم وجدته منصوصا على وضعه في كتب
الأحاديث المنتقاة
۱۹۹
تواتره، ولا يقصد بطلانه إطلاقًا، ولكن يقصد بطلانه من طريق الراوي المترجم فقط، وهذه عادة كل من تكلم في الضعفاء، كابن حِبَّان، وابن عدي، والعقيلي، وهذا أمر معروف لمن مارس علم الحديث، فاعتماد زكي مبارك على "الميزان" في إبطال الأحاديث المذكورة، جهل كبير لا يليق إلا بأمثاله.
۲- حديث: «مَتَى كُنتَ نَبِيَّا»
عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله : مَتَى كُنْتَ نَبِيَّا؟ قال: «وآدَمُ بَيْنَ الروح والجسد». رواه الإمام أحمد والبخاري في "التاريخ"، والطبراني، والحاكم وصححه، وقال الحافظ: «سنده قوي». قلت: ورواه أبو الحسين بن بَشِّران، ومن طريقه ابن الجوزي في كتاب "الوفا بفضائل المصطفى" بلفظ : قلت يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: «لما خَلقَ الله الأرض، واستوى إلى السماء فسوَّاهُنَّ سَبْع سماوات، وخَلَقَ العرش، كتب على ساق العرش محمدٌ رسولُ الله خاتم النبيين، وخَلَقَ الله الجنَّة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمي، فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلمَّا غرَّهما الشيطانُ، تابا واستشفعا باسمي إليه». وإسناد هذه الرواية قوي أيضًا.
قوله: «متى كنت نبيا؟ ... » الحديث : تقدم شرح معنى كونه نبيا في الحديث
الموضوعات، فعلمت بعد البحث أنّ الدميري أراد أنه صحيح عن الراوي الذي حدث به، وأنه هو المتهم بوضعه.
۲۰۰
فضائل النبي
قبله بما لا مزيد عليه، غير أنّ بعض العلماء ذكر أنّ المراد بهذا الحديث وما في معناه: ثبوت نبوته في علم الله وتقديره، وأن المعنى: كنتُ نبيا في تقدير الله، وآدم بين الروح والجسد ، وكذلك قال في حديث: «كُنْتُ أَوَّلَ النبيِّينَ في الخَلْقِ»، أن المراد بالخلق التقدير لا الإيجاد أي: كنتُ أولهم في التقدير، هذا حاصل ما ذكره، وهو باطل لوجوه
الأول: أنَّ نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابتة في علم الله وتقديره منذ الأزل، فتخصيصها بوقت گون آدم بين الروح والجسد، لغو يجب تنزيه
الحديث عنه.
الثاني: أنَّ نبوة الأنبياء عليهم السلام، بل الموجودات كلها، ثابتة في علم الله وتقديره، فلم يبق للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في هذا خصوصيَّة على غيره، والحديث إنما أتى لبيان الخصوصية، فلابد أن يكون فيه معنى زائد لا يشاركه فيه غيره وإلا كان الحديث من قبيل العبث، وذلك باطل.
الثالث: أنَّ الصحابة الذين سألوه بقولهم : متى كنت نبيا؟ كانوا يعلمون أنَّ نبوته ثابتة في علم الله وتقديره، بل كانوا يعلمون أنَّ الأشياء كلها ثابته في علم الله وتقديره، فهم بالضرورة إنما أرادوا بسؤالهم قدرا زائدا على ما كانوا يعلمون. الرابع: أنَّ عُمَر رَضِيَ الله عنه - سأله : متى جعلت نبيا؟، وهذا اللفظ صريح في التصيير، أي: متى صرت نبيَّا، وذلك لا يتأتى إلا في موجودٍ يَصِحُ اتصافه بالصفة التي صُيّر إليها، كما تقول : جعلت قطعة الذهب خاتما، أي: صَيَّرْتُها كذلك، وقد كانت القطعة قبل ذلك موجودة، غير أنها لم توصف بالخاتمية، إلا بعد الجعل والتصيير.
الأحاديث المنتقاة
۲۰۱
الخامس: أن وجودَ الأشياء في علم الله وتقديره، لا يتصور فيه أسبقية بعضها على بعض، فلا يصح أن يقال: كنت أول النبيين في الخلق، لما يلزم عليه مما لا يليق بالله سُبحانه وتعالى، وإنما تَصِحُ الأولية في الخلق بمعنى: الإيجاد؛ لأنَّه صفة فعل يتصور معه أسبقيَّة بعض الحوادث على بعض، كما دلّ عليه القرآن والسنه، فتبيَّن من هذا بطلان ما ذكره البعض وتَعيَّن ما ذكرناه ) وهو أ أنَّ اللهَ أفاض على روح نبيه الشريفة أو على حقيقته المحمدية وصف النبوة، وخلع عليها خلعة القرب وآدم بين الروح والجسد، تمييزا له على سائر المخلوقات واصطفاء له من بين أنواع الموجودات، فهو خلاصة النوع الإنساني، وسيد الثقلين، وأبو الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإلى هذا أشار ابن الفارض على لسان الحضرة المصطفوية:
وإني وإن كنتُ ابن آدم صورة فلي فيه معنى شَاهِدًا بأبوتي يقصد بالمعنى الشَّاهد: النور الذي كان في جبين آدم عليه السَّلام، ثم انتقل
إلى شيث من بعده، وهكذا على ما ثبت في كتب السيرة النبوية، والله أعلم.
قوله: «وقال الحافظ سَنَده قوي»: إذا أُطلق الحافظ أو شيخ الإسلام فالمراد به في عرف أهل الحديث هو الحافظ ابن حجر ا العَسْقَلاني، الذي كان أُعْجُوبة الدنيا في كثرة الحفظ وسَعَة الاطلاع، والقدرة على الجمع بين الأحاديث المتعارضة، وكتبه ناطقة بذلك، كان يسمى أمير المؤمنين في الحديث، وهو كذلك
بحق، وتوفي سنه ٨٥٢ رحمه الله ورضي عنه وأعلى قدره في عليين. قوله: ورواه أبو الحسين ابن بشران»: اسمه علي بن محمد بن عبد الله بن بشران العدل البغدادي، أحد شيوخ البيهقي، ويروي عنه كثيرا في كتبه
۲۰۲
فضائل النبي
كـ" الأسماء والصفات" ، و"السنن"، و"الدلائل"، وغيرها، وفي مكتبتنا من كتب ابن بشران كتاب "الفوائد الحسان" يشتمل على أحاديث وآثار مُسندة. قوله: «لما خَلَق الله الأرض... الحديث اشتملت هذه الرواية على مسائل:
الأولى: أن الله تعالى كتب اسم نبيه على ساق العرش، وأبواب الجنة وأوراقها وقبابها وخيامها، إعلامًا لآدم والملائكة بمنزلته عنده، وفي ذلك من التنويه والرفعة ما لا يخفى.
الثانية: قوله: وخلق الله الجنّة التي أسكنها آدم وحواء»: قد يؤخذ منه أنها غير جنة الخلد المعهودة، بل هي جنة خلقت لسكنى آدم وحواء، وفي ذلك خلاف طويل، ليس هذا موضع تفصيله. الثالثة: قوله: «فأخبره أنه سيد ولدك فيه دليل على أنه سيد ولد آدم، والمراد به النوع الإنساني، فيشمل آدم أيضًا، والأحاديث بثبوت سيادته صلى الله عليه وآله وسلم متواترة، سَرَدَها بأسانيدها شقيقنا الحافظ المجتهد أبو الفيض السيد أحمد في كتاب "تشنيف الأذان" وهو مطبوع. الرابعة: قوله: «تابا واسْتَشْفَعا باسمي إليه»: فيه دليل على جواز التوسل به من وَجْهَين: (۱)
الأول: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حكاه وأقره.
الثاني: أن الدعاء لا يختلف باختلاف الشرائع والأديان، فإذا جاز نوع منه في عهد آدم مثلا، دل على جوازه في سائر العهود.
(۱) هذا أصل لما اعتاد أهل المغرب من إطلاق لفظ الأولى على الظهر
الأحاديث المنتقاة
۲۰۳
وهذا الحديث يُقَوِّي حديث توسل آدم الذي صَحَّحه الحاكم، وقال الذهبي أنه موضوع، والصَّحيح أنه ضعيف فقط، كما صرح به البيهقي في "دلائل النبوة وهذا الكتاب قال عنه الذهبي نفسه: «عليك به، فكُلُّه هُدَى ونور»، وقد بَسَطْتُ الكلام عليه في كتاب: "الرد المحكم المتين". قوله: «وإسناد هذه الرواية قوي أيضًا: لأنه عين إسناد الرواية الأولى التي صححها الحاكم وقواها الحافظ، غير أنّ هذه الرواية مُطَوَّلَة وتلك مختصرة، وهذا أمر معهود بين رواة الحديث، فإنّ الراوي تارة يكون عنده نشاط فيذكر الحديث بتمامه، وتارة يقتصر منه على ما يرى أن الحاجة داعية إليه، وتارة يُسند ، وأخرى يرسل، ومن هنا كان جمع طرق الحديث والوقوف على ألفاظه المتعددة (۱) شرطًا في فهمه حق الفهم، وهذه الطريقة سلكها الحافظ في "فتح الباري" فكان كتابه أكمل الشروح وأوفاها، واستعان بها على حل
فيجوز أن .
مشكلات من الأحاديث استعصت على غيره ممن سبقه، والله الموفق. (تنبيه): قوله: «وخَلَق العَرْش»: هذه الجملة حالية، والمعنى: والحال أنّ الله خلق العرش، ويصح أن تكون معطوفة، والعطف بالواو لا يقتضي الترتيب، أن يعطف بها متقدم على متأخر، كما هنا، لأنَّ العرش مخلوق قبل السماوات والأرض، بدليل قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ [هود: ٧]، وبدليل الحديث الآتي بعد صفحة، وعلى هذا، فكتابة اسم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم على ساق
(۱) ولقد قال الإمام أبو زرعة الرازي: «إذا لم نرو الحديث من عشرة طرق لم نفهم معناه».
٢٠٤
فضائل النبي
العرش كانت قبل خلق السَّماوات والأرض وقبل خلق الجنة التي سكنها آدم عليه السلام بمدة لا يعلمها إلَّا الله تعالى.
وقوله في آخر الحديث وآدم بين الروح والجسد»، يرجع إلى كتابة اسمه على أبواب الجنة وأوراقها وقبابها وخيامها، وكتابة اسمه صلى الله عليه وآله وسلم على ساق العرش وهو أعظم الأجرام على الإطلاق تناسب كونه صلى الله عليه وآله وسلّم أعظم المخلوقات كذلك.
- حديث: «خرجت من نِكاح ولم أخرج من سفاح
عن علي عليه السَّلام أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «خرجتُ مِنْ نكاح ولَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفاحٍ مِن لَدُنْ آدم إلى أنْ ولدَني أبي وأمي لَمْ يُصِبْني مِنْ سفاح الجاهليّةِ شَيء». رواه الحافظ محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني في " مسنده " ، قال : حدثنا محمد بن جعفر قال أشهد على أبي يحدثني عن أبيه، عن جده عن علي به. وهذا مسلسل بأهل البيت النبوي الشريف (۱). ورواه أيضا: الطبراني في "المعجم الأوسط"، وأبو
:
نعيم
في: "دلائل
(۱) روى الخطيب في "التاريخ" : عن محمد بن عبدالله بن طاهر قال: كنت واقفا على رأس أبي وعنده أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو الصلت الهروي، فقال أبي: ليحدثني كل رجل منكم بحديث، فقال أبو الصلت: حدثني علي بن موسى الرضا - وكان والله رضًا كما سُمّي : عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الإيمان قول وعمل»، فقال بعضهم: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سُعُوط المجانين، إذا سُعِط به المجنون برأ.
الأحاديث المنتقاة
۲۰۵
النبوة"، وابن عساكر في: "التاريخ"، ووَرَدَ نحوه من حديث ابن عباس،
وعائشة، وغيرهما.
قوله: «خرجْتُ مِنْ نِكَاحٍ ولَمَّ أَخْرُجْ مِنْ سِفاح»، «أخْرُج» بفتح الهمزة وضم الراء مبنيا للفاعل ، وهكذا تلقيتُه عن شقيقي الحافظ أبي الفيض أثناء حضورنا عليه بزاويتنا الصدِّيقية بطَنْجَة - عمرها الله بذكره - وهو المتجه من جهة المعنى
أيضًا، فاحتمال بنائه للمجهول كما فهم بعض الناس غلط.
والسفاح، بكسر السين الزنا، وهذا الحديث أحد الأدلة على طهارة نسبه صلى الله عليه وآله وسلَّم، وفي معناه أحاديث كثيرة عن ابن عباس بألفاظ وطرق عند ابن سعد، والطبراني، وأبي نعيم وابن عساكر، وعن عائشة عند ابن سعد، وابن عساكر، وعن أبي هريرة عند ابن عساكر، وعن أنس عند ابن مَرْدُويه، وعن غيرهم.
على أن طهارة نسبه الشريف لا تحتاج إلى بيان ولا يُعوِزُها بُرهان، إذ لم يتنازع فيها اثنان فهو صلى الله عليه وآله وسلَّم: الطاهر المُطَهَّرُ أُمَّا وأبا، الطَّيِّبُ المُطَيَّب أصلا ونسبا ، ومن شك في هذا فليس مسلما، وبالله التوفيق.
٤- حديث: اصطفاء الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم
عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إنَّ اللهَ اصطفَى كِنانةَ مِنْ وَلَدِ إسماعيل، واصطفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنانة، واصطفى مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشم، واصطَفَانِي مِنْ بَني هاشم». رواه مسلم،
والترمذي وقال: «حدیث حسن صحيح غريب».
٢٠٦
فضائل النبي
قوله: «إنّ الله اصطفى كِنانة من وَلَدِ إسماعيل ؛ الاصطفاء معناه: الاجتباء والاختيار، قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَءَ الَ عِمْرَانَ عَلَى العلمينَ ﴾ [آل عمران: ۳۳] ومن الاصطفاء: نبوة ورسالة، ومنه: تمييز وتفضيل، وكنانة - بكسر الكاف وتخفيف النون - أحَدُ أجدادِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. (نسبه الشريف): «سَيْدُنَا مُحَمَّدٌ بنُ عبدِ الله بنِ عَبدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ ابنِ عَبدِ مَنَافِ بنِ قُصَيِ بنِ كِلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بن لؤي بن غالِبِ بن فِهْرِ ابن مالك بن النَّضْرِ بنِ كِنَانَة بنِ خُزَيْمَة بنِ مُدْرِكَة بن إلياس بن مضر بن نِزَارِ ابنِ مَعِدْ بنِ عَدْنَان».
وباقي الحديث واضح، وفيه دلالة على طهارة نسبه وشرف أصله، وكونه خيارًا من خيار صلَّى الله عليه وآله وسلّم، واستدل الشافعية بهذا الحديث على أن غَيْرَ قريش من العرب ليس كُفنًا لهم، ولا غير بني هاشم كفنا لهم، إلا بني
عبد المطلب فإنهم وبني هاشم شيء واحد كما في حديث آخر .
تنافيهما، لأنَّ .
قوله: حدیث حسن صحيح غريب استشكل العلماء قول الترمذي في الحديث: حسن صحيح مع شرط الصحة أعلى من شرط الحسن كما هو معروف، وأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة، أحسنها جواب الحافظ ابن حجر وهو أن الحديث إن كان له إسنادان، فالجمع بينهما باعتبار الإسنادين، أي: حسن بإسناد، وصحيح بآخر. وإن كان له إسناد واحد، فالجمع: للتردد في الإسناد، هل بلغ الصحة أو لا؟ أي حسن أو صحيح، غاية ما في الأمر: أنه حذف الواو من الأول أو من الثاني اختصارًا.
الأحاديث المنتقاة
۲۰۷
أما الغرابة فلا تنافي الحسن ولا الصحة بل تُلاقيهما كما هو معروف، وهذا
حديث: «إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَاتِ» صحيح غريب، وكم له من نظير والله أعلم. (فائدة): العرب على ستّ طبقات شَعبٌ ، وقَبيلةٌ، وَعِمَارَةٌ، وَبَطْنٌ، وفَخِذ وفصيلة، فالشعب: يَجمَعُ القبائل والقبيلة: تجمع العمائر، والعمارة: تجمع
البطون، والبطن: يجمع الأفخاذ، والفَخِذُ: تجمع الفصائل.
فمُضَر شَعْبُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وكنانة قبيلته، وقُريش عمارته، وقصي بطنه، وهاشم فخذه، وبنو العباس فصيلته، وقيل بنو عبد المطَّلِب، وعبد مناف بطنه. أفاده الحافظ اليعمري في "سيرته".
ه - حديث: «إنِّي عَبْدُ اللهِ وَخاتَمُ النبيِّينَ»
عن العرباض بن سارية أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنِّي عبد الله وَخَاتِمُ النبيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ مُنجَدِلٌ في طيئَتِهِ، وسأُخْبِرُكُمْ عن ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارةُ عيسى ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات الأنبياءِ يَرَيْنَ ، وإِنَّ أُمَّ رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، رأتْ حِينَ وضعته نُورًا أَضَاءَتْ لَهُ قُصورُ الشَّامِ حَتَّى رَأَتْها». رواه أحمد، والبزار، والطبراني،
والبيهقي، وصححه ابن حبان والحاكم، وأقر تصحيحها الحافظ. قوله: «إنّي عبد الله وخَاتِمُ النبيِّينَ... إلخ»، هذا يُؤيد ما قدمناه من تقدم
خَلْق حقيقته أو رُوحه، واتصافها بالنبوة وآدم منجدل في الطين.
وفي رواية: «إنّي عند الله لَخَاتِمُ النبيّينَ...إلخ»، ومعنى العندية هنا: القرب المعنوي من بساط الحضرة الإلهية، أي: إني في بساط القرب مفاض على وصف
۲۰۸
فضائل النبي و
خاتم النبيين، وآدم لا يزال منجدلا في الطين، أي: لا يزال جسما مُصوَرًا من الطين،
لم تنفخ فيه الروح، وفي هذا من عِظَم قدر نبينا وعلو منزلته، ما لا يحتاج إلى بيان. (فائدة): جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السماوات والأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ». ومن جملة ما كَتَبَ في الذكر - وهو أُمُّ الكتاب - أن محمدًا خاتم النبيين، فهذا وجود كتابي، بمعنى أنّ الله
كتب اسمه الشريف ونعته المنيف حين كتب مقادير الأشياء في أم الكتاب. وثم وجود سابق على هذا الوجود، وهو الوجود العِلْمِي، أي: أنَّه كان معلوما الله تعالى منذ القدم، لضرورة إحاطة العلم القديم بجميع المعلومات، موجودات ومعدومات، وهذان الوجودان - أعني العلمي والكتابي- مجازيان وغير خاصين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإنما المختص به وجود حقيقته أو روحه وجودًا خارجيًا، وإفاضة وصف النبوة عليها كما سبق، والله أعلم. قوله: «وسأخبركم عن ذلك»، أي: سأخبركم عن تصديق ذلك، فالكلام على حذف مضافٍ كما تبين قوله: «دَعْوَةُ أبي إبراهيم، يُشير إلى قوله تعالى حكاية عنه : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: ١٢٩].
قوله: «وبشارة عيسى، يشير إلى قوله تعالى على لسانه: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ بعْدِي اسمه أحمد ﴾ [الصف: ٦]. قوله: «ورؤيا أمي»؛ هذه رؤية عين، وكذلك أمهات الأنبياء يرين»: أي: يرين ما يدل على نبوة أولادهن.
الأحاديث المنتقاة
۲۰۹
قوله: «وإنّ أمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأت حين وضعته نورًا أضاء له قصور الشام حتى رأتها : أي معاينة ولابن سعد من طريق ثور بن يزيد، عن أبي العجفاء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رَأتْ أُمُّي حِينَ وَضَعَتْني سَطَعَ مِنْهَا نُورًا أضاءَتْ لَهُ قُصورُ يُصرَى». ويُصرَى موضع بالشام. ولأبي نعيم من طريق عطاء بن يسار، عن أم سلمة، عن آمنة، قالت: «لقد رأيت ليلة وضعته، نورا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها». وروى الطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن السكن وغيرهم، عن عثمان ابن أبي العاص قال: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: «فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو ، حتى إني أقول لتَقَعَنَّ علي، فلما وَضَعَتْهُ آمنة خرج منها نور أضاء له البيت والدار حتى جعلت لا أرى إلا نورا».
ثم هو صلى الله عليه وآله وسلم خرج من السبيل المعتاد للولادة، طاهرا نظيفاً ما به قذارة، كما ورد عَمَّنْ شاهدوه، فادَّعَاء بعضهم أنه خرج من موضع فوق السرة أو دونها (۱) ، لا أصل له، ولا دليل يؤيده، والله أعلم.
وفي دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما الصَّلاة السَّلام، ورؤية والدته وغيرها للنور، دلالة صدق وشهادة حق على تقدم نبوته وسبق فضيلته كما هو ظاهر، وبالله التوفيق.
(۱) وكذلك النصارى يعتقدون أن عيسى عليه السَّلام خرج من جنب أمه، أو من موضع فوق سرتها، وذلك باطل لا أصل له بل هو مولود من المكان المعتاد لولادة البشر.
۲۱۰
فضائل النبي :
٦- حديث: «مَنْ لَقِيَني وهو جاحِدٌ بأحمد دَخلَ النَّار(۱) مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم:
بن
عن أنس أوحى الله إلى مُوسَى نَبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّه من لقيني وهو جاحِدٌ بأحمد أدخلته النَّارَ قَالَ: يارب ومن أحمد ؟، قال عزَّ وجلَّ: ما خَلَقْتُ خَلْقًا أكرمَ عليَّ منه، كَتَبْتُ اسْمَهُ مع اسمي في العرشِ قبلَ أنْ أخلق السماوات والأرض و إنَّ الجنة محرمة على جميع خلقي حتَّى يَدخُلَها هو وأُمته، قال موسى: ومنْ أُمَّتَهُ؟، قال عزّ وجل : الحَمادُونَ، يَحْمَدُونَ صُعُودًا وهبوطا، وعلى كُلِّ حالٍ، يَشدُّونَ أوساطهمْ، ويُطَهرون أطرافهم، صائمون بالنَّهار، رُهْبَانُ باللَّيل، أقْبَلُ اليسير وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إلهَ إِلَّا الله، قال: اجعلني نبي تلك الأُمةِ، قال: نَبيُّها منها، قال: اجعلني من أُمّة ذلك النبي، قال: اسْتَقدَمت واستأخر ولكن
سأجمعُ بينك وبينه في دار الجلال». رواه أبو نعيم في "الحلية".
منهم
قوله: «مَنْ لَقِيَني وهو جاحِدٌ بأحمد أدْخَلتُه النَّار»، أي: من لقيني من بني إسرائيل قوم موسى وهو كافر بأحمد؛ أدخلته النَّار؛ وذلك لأنَّ اللهَ أخبرهم في التوارة، وبشرهم به موسی علیه السّلام فمن جحد به بعد ذلك كان مُكَذِّبا الله ورسوله، وهو كفر يوجب الخلود في النار. قوله: «ما خَلَقْتُ خَلْقًا أكرم عليَّ منه » (۳)، أكرم أفعل تفضيل من الكرامة، أي:
'
(۱) نبه المصنف رحمه الله على هذا الحديث في سبيل" "التوفيق" قائلا: «الحديث السادس من "الأحاديث المنتقاة" فليضرب عليه من كان عنده ذلك الكتاب». (المشرف)
(۲) وأخرج بن عساكر في "التاريخ : عن عبد الرحمن بن غنم، عن النبي صلى الله عليه
الأحاديث المنتقاة
۲۱۱
ما خلقت خلقا له من الكرامة عندي مثله، وفي هذا دليل تفضيله على الملائكة، وهو
إجماع، إلا ما كان من ابن حزم فإنه فضل الملائكة عليه، وإلا ما كان من الزمخشري فإنه فضل جبريل عليه، وهذان قولان في غاية الشذوذ، لا يعتبر بهما.
يقابلهما في الشذوذ قول من فضل عَوَامَّ المؤمنين على عوام الملائكة، وليس في الملائكة عوام، بل كلهم رُسُل ،معصومون قال الله تعالى: جَاعِلِ الْمَلَكَةِ رسُلًا ﴾ [فاطر: 1] وقال جل شأنه: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ﴾ [التحريم: 1]. قوله: «كَتَبْتُ اسْمَهُ مَعَ اسمي في العرش...إلخ»، أي: كتبت: «لا إله
إلا الله محمد رسول الله ، وهذا وارد في حديث توسل آدم وغيره. قوله عزّ وجلَّ: «إنَّ الجنّة محرَّمةٌ على جميع خَلقي... إلخ، هذا من الخصائص التي أختصه الله بها ، فهو أول من يقرع باب الجنة ويدخلها، وأمته أول الأمم دخولاً الجنّة، وهذه الفضيلة إنما نالتها الأمة إكراما لنبيها صلَّى الله عليه وآله وسلّم. وللطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن، عن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الجنّة حُرِّمَت على الأَنْبِيَاء حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَت
على الأُمم حتى تدخلها أمتي»، وروى أيضا من حديث ابن عباس نحوه. قوله: «الحمادون» صيغة مبالغة، أي: كثيرو الحمد، ثم فَسَّر كثرة حمدهم بقوله: يَحمدون - بفتح الياء والميم - صعودًا إذا صعدوا جبلًا، وهبوطا إذا هبطوا
وآله وسلم قال: سلَّم علي مَلَك ثم قال لي: لم أزل أستأذن ربي عزَّ وجلَّ في لقائك، حتى كان هذا أوان أذِنَ لي، وإني أخبرك أنه ليس أحد أكرم على الله منك». وقد شرحت هذا الحديث في كتاب "الغرائب والوحدان".
۲۱۲
فضائل النبي
واديًا، ويحمدون على كل حال من شدة ورخاء وبؤس ونعماء، وهذا كان حال الصحابة والتابعين والسلف الماضين، ولا يزال موجودًا إلى الآن وإن كان قليلا. قوله: «يشدون أوساطهم» ، أي: يأتزرون على أوساطهم، ويطهرون أطرافهم أي: يتوضأون، ومُقتضى هذا أنَّ الوضوء من خصوصيات الأمة المحمدية، وفي ذلك خلاف صائمون بالنهار رُهْبَان بالليل»، أي: يقومون الليل ويحيونه بالصلاة والعبادة. أقبل منهم اليسير من العمل»، أي: تيسيرًا عليهم، ولا أكلفهم بالتكاليف الشاقه، كما قال تعالى في حق رسوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: ١٥٧]. قوله: «وأُدخلهم الجنة بشهادة أن
لا إله إلا الله»، أي: وأن محمد رسول الله، لأنها قرينتها.
لما علم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ببعض خصوصيات هذه الأمة طلب أن يكون نبيا لها، فأخبره الله تعالى أنّ نبيها منها، أي: عربي من ولد إسماعيل، وموسى إسرائيلي، فطلب أن يكون من أُمَّته، فأخبره أن وقت ظهوره متأخر
عنه، ولكن وَعَدَه أن يجمع بينهما في دار الجلال، وهي الجنة (۱). وفي معنى هذا الحديث ما رواه الزبير بن بكار، والطبراني من حديث ابن مسعود ولفظه: «صفته أحمد المتوكل، مولده مكة ومُهاجَرُه إلى طيبة، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولا يكافئ بالسيئة، أمته الحمادون، يأتزرون على أنصافهم، ويوضّئون أطرافهم، أناجيلهم في صدورهم، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال،
قربانهم الذي يتقربون به إلي دماؤهم، رهبان بالليل، ليون بالنهار».
(۱) وسُمِّيت في أحاديث أخرى حظيرة القدس» أيضًا.
الأحاديث المنتقاة
۲۱۳
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كلها متضافرة على التنويه بقدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان فَضْلِه وفَضيلَة أمته بالتبعية له، وقد أشار الله تعالى إلى بعض ذلك في سورة الفتح بقوله: تُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ [الفتح: ٢٩] الآية، والله أعلم.
- حديث: أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلّم :
عائشة
عن
رضي
الله عنها- قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «قال لي جبريل: قلبتُ مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد رجلًا أفضل من محمد ولم أجد بني أب أفضل من بني هاشم». رواه الطبراني، والبيهقي، وغيرهما، وقال الحافظ ابن حجر: «لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن.
قوله: «قال لي :جبريل: قلبت مشارق الأرض.... إلخ، هذا العموم لا يشمل جبريل عليه السَّلام، وإن كان الصحيح عند الجمهور أن المخاطب- بكسر الطاء يدخل في عموم خطابه، لقوله: «فلم أجد رجلا»، والملك لا يُسمى رجلًا كما لا يُسمى أنثى، وأيضًا، فإنه قال: «قلبت مشارق الأرض ومغاربها ، ولم يتعرض لسكان السماوات الذين جبريل منهم.
والحاصل أنّ هذا الحديث يدل على أفضلية النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على أهل الأرض، أما سكان السماوات، فلأفضليته عليهم أدلة أخرى منها الحديث رقم [١١](١).
(۱) والحديث المار قبل هذا تحت رقم (٦)، وحديث ابن عساكر الذي ذكرت تعليقات عليه.
٢١٤
فضائل النبي
ولا بن عساكر: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما ولدتنى بَغِيٌّ قطُّ منذ خَرَجْتُ من صُلْبِ آدم، ولم تَزَلْ تُنازَعُني الأمَمْ
كابرا عن كابر ، حتى خَرَجْتُ من أفضل حَيَّيْن من العرب: هاشم وزهرة». قوله: «لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن»، أي: لوامع الصحة ظاهرة... إلخ، وهذه اللوائح اللوامع هي موافقة الحديث للمنقول ومطابقته للأصول وإنعقاد الإجماع على مضمونه، والله أعلم.
- حديث: أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عن جبير بن مُطْعِم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إنَّ لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناسُ على قدمي، وأنا العاقِبُ، والعاقِبُ: الذي ليس بعده نبي». رواه البخاري، ومسلم. قوله: «إنَّ لي أسماء» أي كثيرة نقل ابن العربي في: "شرح الترمذي"، و" الأحكام" عن بعض الصوفية: «إنّ الله تعالى ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ألف اسم ، قال الحافظ السيوطي: «أَلَّفْتُ كتابًا في شرح أسمائه الكريمة أوردت فيه ثلاثمائة وأربعين اسما مأخوذة من القرآن والأحاديث والكتب القديمة . اهـ
وسَرَدَها القسطلاني في "المواهب اللدنية" فزادت على أربعمائة، تتبعها من كلام القاضي عياض في "الشفاء"، وابن العربي في "الأحكام"، و"القبس"، و ابن سيد الناس في سيرته، والسخاوي في "القول البديع".
قال القاضي عياض: وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسنى،
الأحاديث المنتقاة
٢١٥
بنحو من ثلاثين اسما . اهـ، وأسماؤه كلها أوصاف تدل على مدحه وفضله، ثم
ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أسمائه خمسة:
الأول: «محمد»، ومعناه: المحمود حمدًا متكررا.
الثاني: «أحمد»، ومعناه: أحمد الحامدين لربه، أي: أكثرهم حمدا، قال القاضي عياض: «كان صلى الله عليه وآله وسلم أحمدًا قبل أن يكون محمدًا، كما وقع في الوجود، لأنَّ تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدا وقعت في القرآن، وذلك أنه حَمَدَ ربَّه قبل أن يَحمَده الناس». اهـ. وذلك لأنه خُلق قبلهم كما سبق، ونحو هذا للسهيلي أيضًا في "الروض
الأنف"، وسلمه الحافظ في "الفتح" ، فاعتراض ابن القيم عليه ليس بجيد. الثالث: "الماحي"، ومعناه: الذي يمحو الله به الكفر من الجزيرة العربية ومن سائر البلاد التي وصلت إليها دعوته، وصاروا كُلُّهم أو أغلبهم مسلمين. الرابع: «الحاشر»، وهو مُفَسَّر في الحديث، وقوله: «قدمي»، ضُبط بتخفيف الياء وكسر الميم على الإفراد، وضُبِطَ بفتح الميم وتشديد الياء على التثنية، ومآل اللفظين واحد، أي: يُحشر الناس على أثر زماني لأني آخر الأنبياء ليس بعدي نبي. الخامس: «العاقب»، وهو مُفسر في الحديث، ومعناه: الذي جاء في عَقِب الأنبياء وكان آخرهم، فلا تُبوَّة بعده.
ومن أسمائه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في القرآن: «عبد الله، النبي، الرسول، رسول الله البشير النذير السراج المنير، الداعي إلى الله بإذنه، الشاهد، الشهيد النور الرؤوف الرحيم، المدثر، المزمل، خاتم النبيين»، إلى
غير ذلك مما استخرجه العلماء.
٢١٦
فضائل النبي
ولا شك أن كثرة الأسماء تدل على شرف المُسَمَّى ونبالة قدره، ومن أسماء الله التي سَمَّى بها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «رؤوف، رحیم، نور، شهید،
كريم، مبين».
(تنبيه): ذكر الحافظ أبو نعيم، وتبعه غير واحد: «أنّ الله تعالى لم يخاطب نبيه في القرآن باسمه المجرّد، بل خاطبه بالوصف الدال على الرفعة وعلوّ القدر، نحو: يا أيها النبي يا أيها الرسول يا أيها المدثر، يا أيها المزمل، ونادى
غيره من الأنبياء بأسمائهم يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، وهكذا.
وأمرنا ألا نناديه باسمه فقال: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بعضكم بعضا ﴾ [النور: ٦٣]، قال ابن عباس وغيره: «لا تقولوا: يا محمد، يا أبا
القاسم، ولكن قولوا: يا نبي الله يا رسول الله». انتهى باختصار. والوهابية وأشكالهم من الملحدين، يُعرضون عن هَدي القرآن ويخالفون أمر الله، ويأبون إلا أنْ يَذْكُروه باسمه المُجَرَّد كآحاد الناس، والعجب أن الواحد منهم يُسَوِّدُ نفسه، ويخلع عليها الأوصاف الجميلة، مع أن الله يقول: فَلَا تُزَكُوا أنفُسَكُمْ [النجم: ۳۲] فإذا جاء ذِكْرُ سيدُ الخَلْقِ، بخلوا على اسمه بالسيادة التي
يصفون بها أنفسهم، قاتلهم الله ما أكثر إساءة أدبهم على الله ورسوله!.
الأحاديث المنتقاة
- حديث: إثبات التمييز في بعض الجمادات
۲۱۷
عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إني لأعْرِفُ حَجَرًا بمكة كان يُسلَّم على قَبْل أنْ أُبعث، إني لأعرفه الآن». (۱) رواه مسلم في "صحيحه" وغيره.
وللترمذي: عن علي عليه السَّلام قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: «السلام عليك يا رسول الله».
قلت: قصة تسليم الحجر والشجر عليه، واردة من طرق.
قوله: «إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن»، قال النووي: في هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: ٧٤]، وقوله تعالى: ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلا يسبح بحمدِهِ ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وفي هذه الآية خلافٌ
مشهور، والصحيح أنه يُسبِّح حقيقة، ويجعل الله فيه تمييزا بِحَسَبِه كما ذكرنا. ومنه الحجر الذي فرَّ بثوب موسى صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام الذراع المسمومة، ومشي إحدى الشجرتين إلى الأخرى حين دعاهما النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وأشباه ذلك». اهـ
(۱) يسمى هذا الخارق: إرهاصا، لوقوعه قبل البعثة، ومعنى الإرهاص: الإعلام بأن من وقع له الخارق سيكون نبيا، ويؤخذ من الحديث: إلهام الجماد بنبوة النبي قبل
وقوعها، وهذا كما تتنبأ بعض الحيوانات بالزلزال قبل وقوعه.
۲۱۸
من
فضائل النبي
أن
وقال ابن العربي في: "الأحكام"، في الكلام على قوله تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إلا يسبح بحمده [الإسراء: ٤٤] ما لفظ المراد منه: «ليس يستحيل أن يكون للجمادات - فضلا عن البهائم - تسبيح بكلام، وإن لم نفقهه نحن عنها، إذ ليس من شرط قيام الكلام بالمَحَل عند أهل السنة هيئة آدمية، ولا وجود بَلَّةٍ ولا رُطُوبة، وإنما تكفي له الجَوْهَريَّة أو الجِسْمِيَّة، خلافًا للفلاسفة وإخوانهم القدريَّة، الذين يرون الهيئة الآدمية والبلة والرطوبة شرطًا في الكلام، فإذا ثبت هذا الأصل بأدلَّته التي تقرَّرَت في مَوْضِعه، وبأنّ كل عاقِل يعلم أن الكلام في الآدميين عَرَضٌ يَخلُقُه الله فيهم، وليس يفتقر العَرَضُ إِلَّا لوجود جَوْهَر أو جسم يقوم به خاصة، وما زاد على ذلك من الشروط فإنّما هي عادة، وللبارئ تعالى نقض العادة وخرقها بما شاء من قدرته لمن شاء من مخلوقاته وبريته، ولهذا حنّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسبح الحصى في كَفَّه وكَفِّ أصحابه، وكان بمكة حَجَر يسلم عليه قبل أن يُبْعَثَ، وكانت الصحابة تسمع تسبيح الطعام ببركته صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن لذلك كله هيئة، ولا وُجدت له رطوبة ولا بَلّة، وعلى إنكار هذه المعجزات وإبطال هذه الآيات، حامت بها ابتدعته من المقالات» . اهـ
والأحاديث التي أشار إليها هو والنووي صحيحة، والمقصود أن تسليم الحجر والشجر كما في هذا الحديث وحديث علي الذي بعده، معجزة عظيمة
أكرم الله بها نبيه وثبت بها فؤاده، وقوى بها حُجَّته.
ففي "مسند البزار" ، و"أبي يعلى"، و"دلائل النبوة" للبيهقي، وأبي نعيم،
الأحاديث المنتقاة
۲۱۹
بإسناد حسن، عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كان على الحَجُون كَئيبا لما آذاه المشركون، فقال: «اللهم أرني اليوم آية لا أُبالي من كذَّبَني بعدها، فأمر فنادى شجرة من جانب الوادي فأقبلت تحد الأرض تشق - خدا حتى وقفت بين يديه (1) فسلمت عليه، ثم أمرها فرجعت إلى موضعها، فقال: «لا أبالي من كَذَّبَني بعدها من قومي». وتعددت هذه القصة
لمناسبات كثيرة، كما ورد في كثير من الأحاديث، وسنشير إلى بعضها. وفي "صحيح البخاري: عن ابن مسعود قال: «كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام».
قال العلماء: في هذا تصريح بكرامة الصحابة، لسماع هذا التسبيح وفهمه، وذلك ببركته صلى الله عليه وآله وسلّم.
قوله: «وللترمذي عن علي عليه السَّلام... إلخ، رواه أيضًا: الدارمي، والحاكم وصححه وللبزار، وأبي نعيم: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما استقبلنى جبريل بالرسالة، جَعَلْتُ لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السَّلام عليك يا رسول الله» (۲). وسيأتي مزيدا لهذا في الحديث
الثالث عشر بحول الله تعالى.
(1) يسمى هذا الخارق آية تثبيت، لأنه ثَبَّتَ فؤاد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وقوى عَزْمَه، وكان تبشير ا له بانقياد الخلق إليه بعد ذلك وإجابتهم لدعوته.
(۲) وروى البيهقي: عن جابر بن عبد الله قال: «لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يمر بحجر ولا شجرة، إلا سجد له». وهذا في ابتداء نبوته؛ تثبيتا له أيضًا.
۲۲۰
تنبيهات
فضائل النبي
(التنبيه الأول): قوله في حديث الترجمة: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي»، اختلف في هذا الحجر، فقيل: هو الحجر الأسود، وفيه بعد، وقيل حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة، والناس يتبركون بلمسه، كذلك رواه الإمام أبو عبد الله ابن رشيد بضم الراء - في رحلته بإسناده إلى أبي حفص الميانشي، عمن لقيه بمكة من أهلها. (التنبيه الثاني): سُئل الحافظ السيوطي، عن رجل بيده حجر بلور يقعد على الطرقات ويقول: الأحجار سلمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهذا الحجر من جنسها، فقال له رجل كَذَبت فأيهما المخطئ؟، فأجاب:
.
ثبت من طرق صحيحة أن الأحجار سلمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن البلور بخصوص ، لم يَرِدُ فيه حديث». انتهى باختصار من كتاب "الحاوي للفتاوي" للسيوطي.
(التنبيه الثالث): ذكرتُ آنفًا أنّ الأحاديث التي أشار إليها النووي وابن عربي، فيما نقلته من كلامهما صحيحة، وهي كذلك، إلا حديث تسبيح الحصى في كفه وكف أصحابه فإنه حديث ضعيف، رواه البزار، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم، والبيهقي في "الدلائل"، وهو حديث مشهور على الألسنة، متداول بين الناس، وضَعفُه ليس بشديد، وهو في مثل هذا الباب مقبول، لا سيما مع تأيده بقوله تعالى: ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبَحُ بِحَدِهِ ﴾ [الإسراء:
٤٤]، وبحديث تسبيح الطعام، وبتسليم الحجر والشجر، والله أعلم.
الأحاديث المنتقاة
۲۲۱
۱۰- حديث: انشقاق القمر
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انشقّ القَمَرُ على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم فِرْقَتين، فرقةٌ فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله وسلم: «اشهدوا». رواه البخاري ومسلم.
ولهذه القصة طرق عن ابن مسعودٍ وأنس وابن عباس عند البخاري
ومسلم، وعن ابن عمر عند مسلم في "صحيحه"، وعن جُبَيْر بن مُطْعِم . أبي نعيم والبيهقي وغيرهما.
عند
قوله: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فِرْقَتين»، لهذا الحديث ألفاظ في الصحيحين هذا أحدهما.
ثانيهما: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بمِنَى، إذ انْفَلَقِ القمر فلقتين، فكانت فِلْقَةٌ وراء الجبل، وفِلْقَةٌ دونه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : «اشهدوا»، زاد الترمذي في روايته: «يعني: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: ١] ثم قال: «هذا حديث حسن صحيح». وفي رواية أبي داود الطيالسي عن ابن مسعود قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السُّفّار فإنَّ محمدًا لا يستطيع أَنْ يَسْحَرَ النَّاس كلهم، فقال: فجاء السُّفَّار فأخبروهم بذلك». وفي رواية البيهقي:
فسألوا السُّفَّار، وقد قَدِموا من كل وجه فقالوا: رأيناه».
وفي "الصحيحين عن أنس: «أنّ أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُريَّهم آية، فأراهم انشقاق القمر شقتين» وفي رواية: «مرتين»
۲۲۲
فضائل النبي
رواه الترمذي وزاد فيه: فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَأَنشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله : سحر مستمر [القمر: ۱-۲] يقول: ذاهب (۱). ثم قال: هذا حديث حسن
دو یوه په پلو
صحيح.
وفي "الصحيحين" عن ابن عباس قال: إنَّ القمر انشق على زمان الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
وفي "صحيح مسلم عن ابن عمر قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فِلْقَتين، فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم اشهد». ورواه الترمذي بنحو مختصر، وقال: «حدیث حسن صحيح.
وللبيهقي، عنه في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: ١] قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم انشقَّ فِلْقَتين، فلقة دون الجبل، وفلقة فوقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اشهدوا».
وهذا تفسير صحابي للآية، وتقدم تفسيرها بذلك عن أنس أيضًا، ويأتي تفسيرها عن حذيفة، وكل ذلك يؤكد أن انشقاق القمر وقع معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، أما الذين أوّلوا الآية على معنى: سَيَنشَق القمر عند اقتراب الساعة، فيَرُدُّه أمران:
الأول: مخالفته لتفسير الصحابة الذين شهدوا التنزيل، وشاهدوا انشقاق القمر.
(۱) أي: ذاهب في الناس، شائع بينهم قالوا هذه الكلمة لما سألوا المسافرين فأخبروا أنهم رأوه منشقا.
الأحاديث المنتقاة
الثاني:
۲۲۳
أن القمر لا ينشق عند قرب الساعة، بل يُجمع مع الشمس
ویگوران، لقوله تعالى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ [القيامة: 9]، إذَا الشَّمْسُ كُورَتْ
التكوير : ١]، أي: والقمر معها كما ثبت في الحديث.
وفي "سنن الترمذي ، عن جُبَير بن مُطْعِم، قال: انشق القمرُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حتى صار فلقتين، على هذا الجبل، وعلى هذا الجبل، فقالوا: سَحَرَنا محمد، فقال بعضهم : لئن كان سَحَرَنا، ما يستطيع أنْ يَسْحَرَ النّاس كلهم. وكذا هو في "مسند الإمام أحمد".
وفي رواية أبي نعيم والبيهقي عنه: انشق القمر ونحن بمكة(۱) وفي رواية أبي حذيفة الأرحبي: عن علي عليه السَّلام قال: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. رواه الطحاوي في "مشكل الآثار".
وورد حديث الانشقاق أيضًا عن حذيفه من طريق أبي عبد الرحمن السلمي ومسلم بن أبي عمران الأزدي، وللطبراني والحاكم وغيرهما من طريق ابن علية عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: خطب حذيفة بالمدائن فقال: إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر حديثا طويلا. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم أيضًا.
قال الحافظ بن عبد البر : قد رَوَى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، ورَوَى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير،
(۱) جبير بن مُطْعِم شاهد انشقاق القمر بمكة وهو مشرك، ثم أسلم بعد ذلك وأخبر بما
شاهده.
٢٢٤
فضائل النبي
إلى أن انتهى إلينا، وتأيد بالآية الكريمة . اهـ
وقال العلامة تاج الدين ابن السبكي في شرحه لـ"مختصر ابن الحاجب": والصحيح عندي: أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرآن، مروي في الصحيحين وغيرهما، من طرق من حديث شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن أبي
معمر، عن ابن مسعود ثم قال: وله طرق شتى بحيث لا يُمتَرى في تواتره . اهـ وقال القاضي عياض في "الشفاء": قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاءَ ايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌ ﴾ [القمر: ١-٢]، أَخْبَرَ تعالى بوقوع انشقاق القمر بلفظ الماضي، وإعراض الكَفَرَة عن آياته، وأجمع أهل السنة والمفسرون على وقوعه» . اهـ، ثم ذكر بعض الطرق وأجاب عن اعتراض بعض المبتدعة فأجاد.
وقال في "الشفاء" أيضًا: «أما انشقاق القمر، فالقرآن نصَّ بوقوعه وأخْبَر عن وجوده، ولا يُعدل عن ظاهره إلا بدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة، فلا يوهِن عَزْمَنا خلاف أَخْرَق مُنْحَل عُرَى الدين، ولا يُلتفت إلى سخافة مُبتدع يُلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه، وتنبذ بالعراء سُخفَه» . اهـ وقال الإمام الخطابي : انشقاق القمرِ آية عظيمة لا يكاد يَعْدِها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماوات خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركَّب من الطبائع، فليس فيما يُطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر» . اهـ
الأحاديث المنتقاة
٢٢٥
وقال الإمام النووي في شرح مسلم : قال القاضي -يعني: عياضًا في " شرح مسلم" م أيضًا - : انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رواها عدَّةٌ . من الصحابة رضي الله عنهم، مع ظاهر الآية الكريمة وسياقها، قال الزجاج في كتاب "معاني القرآن": وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة، وذلك لما أعمى الله قلبه، ولا إنكار للعقل فيها، لأن القمر مخلوق الله تعالى يفعل فيه ما يشاء، كما يُفنيه ويُكوره في آخر أمره، وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص به أهل مكة، فأجاب العلماء بأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة ) متغطون في ثيابهم، فَقَل من يتفكّر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر ومما هو مُشاهَد معتاد، أن كسوف القمر وغيره من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام وغير ذلك مما يحدث في السماء في الليل، يقع ولا يتحدث بها إلا الآحاد ولا علم عند غيرهم كما ذكرنا، وكان هذا الانشقاق آية حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها، فلم يتنبه غيرهم لها.
وهم
قالوا: وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهرا القوم غائبا عن قوم، كما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد، والله أعلم . اهـ (۱) وبقية الأجوبة مبسوطة بإيضاح في "الشفاء"
(۱) من اللطائف في هذا الباب، أنّ أبا بكر الباقلاني، لما أرسله صاحب الدولة إلى ملك الروم بالقسطنطينية (الآستانة)، وعَلِم ملك الروم أن هذا أجل علماء المسلمين، أحضر بعض بطاركته ليناظره، فقال له: تزعمون أن القمر انشق لنبيكم، فهل للقمر
٢٢٦
فضائل النبي :
و"المواهب" وشروحها.
وقال الحافظ العراقي في " ألفية السيرة": وانشق مرتين بالإجماع». قال الحافظ ابن حجر: قوله بالإجماع، متعلق بانشق، لا بمرتين، فإني لا أعلم من جزم بتعدد الانشقاق، قال: ولعل قائل: «مرتين»، أي: كما في بعض الروايات أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره، جمعا بين الروايتين». تنبيهات
(التنبيه الأول): في ضبط ألفاظ الحديث، قوله: شقتين، هو بكسر الشين، وكذلك فلقتين وفرقتين، ومعناها ،واحد، أي صار قطعتين متباينتين بحيث رؤي الجبل بينهما، والسُّفّار - بضم السين وفتح الفاء المشددة- جمع سافر، وهم القوم المسافرون، وبقية ألفاظ الحديث واضحة.
(التنبيه الثاني): ما يذكره بعض القصاص واشتهر بين كثير من العوام، من أنّ القمر دخل في جَيْبِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج من كمه، ليس له أصل، كما نقله بدر الدين الزركشي عن شيخه الحافظ ابن كثير، ووافقه غير واحد. وسئل الإمام النووي عن رجلين تنازعا في انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال أحدهما: انشق فرقتين دخلت إحداهما في كمه وخرجت من الكم الآخر، وقال الآخر : بل نزل إلى بين يديه فرقتين، ولم يدخل كمه؟
قرابة منكم حتى ترونه دون غيركم؟! فقال له وهل بينكم وبين المائدة أُخُوَّة أو نَسَب، إذ رأيتموها ولم تراها اليهود واليونان والمجوس الذين أنكروها وهم في چواركم؟! فانقطع ولم يُحر جوابًا.
الأحاديث المنتقاة
۲۲۷
فأجاب: الاثنان مخطئان، بل الصواب أنه انشق وهو في موضعه من
السماء، وظهرت منه إحدى الشَّقتين فوق الجبل والأخرى دونه، هكذا ثبت في الصحيحين من رواية ابن مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ» . اهـ
قلت: كوكب القمر مساحته مثل مساحة الكرة الأرضية، فمن المحال عقلا
أن تدخل شقة منه في كم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أو تنزل بين يديه. (التنبيه الثالث): شاهد انشقاق القمر في الليلة التي وقع فيها ملك بهو بال
من الهند (1).
واسمه «بهوج بال». ذكره الفَرَشْتَة (٢) في
في "تاريخه"، ونَقَله العلامة المحدث محمد أنور
الكشميري في: "فيض الباري في شرح صحيح البخاري". وجاء في السنة الأولى من "مجلة الإنسان" (ص ١٥٠، ١٥١ من العدد
الصادر في ٣٠ شوال سنه ۱۳۰۱ هـ) تحت عنوان: "انشقاق القمر أخبر بعض السواحين الجائلين في بلاد الصين أنه يوجد معبد عظيم في إحدى مدائن هذه المملكة مكتوب على بابه أنه قد تم بناؤه في تاريخ كذا، وأنه في ليلة تمام البناء شاهد الجميع انشقاق القمر نصفين في وسط السماء، وبالتحقيقات التي أجراها في ذلك التاريخ وجد أن تلك الليلة كانت موافقة
(۱) وشاهده أيضًا جماعة كثيرة من بلادٍ مختلفة، كما ذكره الحافظ ابن كثير في "تاريخه". (۲) الفَرَستة: لقب المؤلف واسمه الحكيم محمد قاسم البيجابوري، وتاريخه في أربعة أجزاء كتب بالفارسية وتُرجم إلى الأوربية، ألَّفه لإبراهيم عادل شاه ملك بيجابور، وكان
شيعيا، فرغ من تأليفه سنة ١٠١٥ هـ، كذا في: "نزهة الخواطر " ( ج ٥ ص ٣٨٥).
۲۲۸
فضائل النبي :
لليلة التي انشقّ فيها القمر بإشارته صلى الله عليه وآله وسلم، فمن يوصلنا إلى
زيادة إيضاح في هذه الآية الكبرى أعددنا له المكافأة شُكرانًا لا ينقطع مَدَى الدهرة (1) اهـ
الرابع: وَرَد أنّ الشمس رُدت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فروى
(1)
الطحاوي في "مشكل الآثار" من طريقين عن أسماء بنت عميس قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يوحَى إليه ورأسه في حِجْرِ علي، فلم يُصَلِّ العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أصَلَّيْتَ يا علي فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فارْدُدْ عليه الشمس»، قالت أسماء: فرأيتُها غربت ثم رأيتُها طلعت بعدما غربت، ووقعت على الجبال والأرض، وذلك في الصهباء بخيبر. قال الطحاوي: «هذان الحديثان ثابتان ورواتهما ثقات، ونُقل عن الإمام أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول: «لا ينبغي لمن سبيله العلم التَّخَلُّف عن حفظ حديث أسماء، لأنه من علامات النبوة» . اهـ
(۱) انظر المجلد الأول من مجلة "الانسان بدار الكتب تحت رقم (۸۷۳) دوريات. (۲) قال في الطريق الأول: حدثنا أبو أمية: ثنا عبيد الله بن موسى العبسي: ثنا فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين، عن أسماء بنت عميس. وقال في الطريق الآخر : حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيره: ثنا أحمد بن صالح - هو المصري الحافظ المشهور : ثنا ابن أبي فديك: حدثني محمد بن موسى، عن عون بن محمد، عن أم جعفر، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها.
الأحاديث المنتقاة
۲۲۹
ووافق الطحاوي على تصحيحه أيضًا القاضي عياض في "الشفاء"، ورواه
(1)
الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن كما نص عليه الحافظ أبو زرعة ابن
(۱) قال: حدثنا جعفر بن أحمد بن سنان الواسطي : ثنا علي بن المنذر : ثنا محمد بن فضيل: ثنا فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس. وعزاه الحافظ في "الفتح" إلى الحاكم والبيهقي أيضًا، ونص كلامه: «وروى الطحاوي، والطبراني في "الكبير"، والحاكم والبيهقي في "الدلائل": عن أسماء بنت عميس: أنه صلى الله عليه وآله وسلم دعا لما نام على ركبة علي ففاتته صلاة العصر، فردت الشمس حتى صلى علي ثم غَرَبت، وهذا أبلغ في المعجزة، وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده في "الموضوعات" وكذا ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض، في زَعْمِ وَضْعِه، والله أعلم». اهـ بلفظه.
وقال الحافظ أبو بشر الدولابي في كتاب "الذرية الطاهرة": حدثني إسحاق بن يونس: ثنا سويد بن سعيد عن المطلب بن زياد، عن إبراهيم بن حيان، عن عبد الله ابن الحسين، عن فاطمة بنت الحسين، عن الحسين بن علي رضي الله عنهم قال : كان رأس رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حِجْر علي، وكان يوحى إليه فلما سُرِّي عنه قال لي: «يا علي، صليت العصر ؟ فقلت: لا، قال: «اللهم إنك تعلم أنه كان في حاجتك وحاجة رسولك، فرُدَّ عليه «الشمس»، فردّها عليه، فصلى، فغابت الشمس. قال العلامة المحدث أبو عبد الله محمد بن يوسف الدمشقي الصالحي في جزء "مزيل اللبس عن حديث رد الشمس: اعلم أنّ هذا الحديث رواه الطحاوي في كتاب مُشكل الآثار، عن أسماء بنت عميس من طريقين، وقال: هذان الحديثان
"شرح
ثابتان ورواتهما ثقات، ونقله القاضي عياض في "الشفاء"، والحافظ ابن سيد الناس في "بشرى اللبيب"، والحافظ علاء الدين مغلطاي في كتاب "الزهر الباسم"،
۲۳۰
فضائل النبي :
وصححه الحافظ أبو الفتح الأزدي، وحسنه الحافظ أبو زرعة ابن العراقي، وشيخنا الحافظ جلال الدين السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة"، وقال الحافظ أحمد بن صالح وناهيك به : «لا ينبغى لمن سبيله العلم، التخلف عن حديث أسماء، لأنه من أصل علامات النبوة». وقد أنكر الحافظ على ابن الجوزي إيراده الحديث في "الموضوعات"، فقال الحافظ أبو الفضل ابن حجر في باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم : «أُحلَّت لكم الغنائم" من "فتح الباري" بعد أن أورد الحديث: «أخطأ ابن الجوزى بإيراده في "الموضاعات".اهـ، ثم قال: «إن هذا الحديث ورد من طريق أسماء بنت عميس، وعلي، وابنه الحسين، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهم»، ثم أوردها وتكلم على أسانيدها ثم قال: «قد عَلِمْتَ مما أسلفناه من حكم الحفاظ في هذا الحديث وتبين حال رجاله أنه ليس فيه متهم ولا من أجمع على تركه، ولاح لك ثُبوت الحديث وعدم بطلانه، ولم يبق إلا الجواب عما أُعِلَّ به، وقد أُعِل بأمور ..... فذكرها وأجاب عنها بأجوبة شافية.
وكذا في كتاب "الأمم لإيقاظ الهمم" للعلامة المحقق الشيخ إبراهيم الكوراني. قلت: حسن الحافظ السيوطي حديث أسماء في أواخر "الدرر المنتثرة" وعزاه في "الخصائص الكبرى" لابن شاهين وابن منده والطبراني، وقال: «بعض أسانيده على شرط الصحيح، وعزا حديث أبي هريرة لابن مردويه، وذكر في "الآلئ المصنوعة" جزءا لبعض المتقدمين في طرق هذا الحديث، أورَدَه بتمامه، فليراجع هناك، بل للحافظ السيوطي نفسه جزء كشف اللبس عن حديث رد الشمس"، وذكر الذهبي في ترجمة الحافظ الحسكاني: «أنّ له مجلسا -يعني مجلس إملاء- في تصحيح حديث رد الشمس لعلي، يدل على تشيعه وخبرته بالحديث»، تذكرة الحفاظ (ص ٣٦٨ ج ۳)، طبعة ثانية بحيدر أباد.
الأحاديث المنتقاة
۲۳۱
العراقي في: "شرح التقريب"، أما ابن الجوزي فذكره في "الموضوعات"، وتبعه ابن تيمية فحكم بوضعه أيضًا في رده على الروافض، لأجل ذكر علي فيه،
(۱)
ولو ذكر أبو بكر أو عمر بَدَلَه، كان أوّل المصححين له بكل قواه، وانحراف
ابن تيمية عن علي وأهل البيت ،معروف وحتى حكم عليه بالنفاق لأجل
ذلك
(۲)
ولا تنسَ أن الذهبي شامي من تلاميذ ابن تيمية وانظر كتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة" لابن عراق.
(۱) وقعت مناظرة في هذا الحديث بين أبي حنيفة، ومحمد بن علي بن النعمان، حيث سأله أبو حنيفة كالمنكر عليه عمن رويت حديث رد الشمس لعلي»؟! فأجابه: عمن رويت أنت: «ياسارية الجبل»؟، فأفحمه.
(۲) ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته من الدرر الكامنة" أن العلماء حَكَمُوا بنفاق ابن تيمية لما ثبت عليه من بغض علي وانحرافه عنه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: «لا يبغضك إلا منافق». قُلتُ: وقد اطلعت على رسالة له صغيرة، ذكر فيها أنّ الأحاديث الواردة في فضل علي لا تُثبت له ميزة على مُطلَق المؤمنين، فضلا عن الصحابة، وبين ذلك في بعض الأحاديث التي ذكرها، بكلام ظاهر عليه أثر الحقد والتحامل، وفي كتابه الذي سماه: "منهاج السنة" - وهو في الحقيقة منهاج البدعة - تحامل كبير على علي وانتقاص لعلي مقامه، خصوصا أوائل الجزء الثالث منه، فإنّ فيه مع . ذلك مساسا بفاطمة الزهراء عليها صلوات الله ووصمها بشائبة النفاق، وقد عاقبه الله على هذه الوقاحة والخبث فجعله إمام الناصبية والمبتدعة منذ وقته إلى الآن في كل زمان ومكان، فلا تجد عدوا لآل البيت ولا خارجًا على الجماعة إلا وليد أفكاره وتلميذ كتبه الملأى بالضلال
۲۳۲
فضائل النبي :
الخامس: في أوسط معاجم الطبراني، بإسناد حسن، كما قال أبو زرعة (1) ابن الحافظ العراقي، عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار ، وقال القاضي عياض في "الشفاء" بعد أن نقل حديث أسماء بنت عميس وكلام الطحاوي في تصحيحه، مانصه: وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي بروايته عن ابن إسحاق: لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير، قالوا: متى تجيء؟ قال: «يوم الأربعاء» قال: فلما كان ذلك اليوم أشْرَفَت قريش ينظرون، وقد ولى النهار ولم تجيء، فدعا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فَزيدَ له في النهار
(1)
ساعة وحبست عليه الشمس وهذان الحديثان ثابتان، ورواتها ثقات». اهـ ومن أراد زيادة على ما أوردناه فليراجع "الشفاء" و"المواهب"
وشروحهما و " الخصائص الكبرى" للسيوطي وغيرها، والله أعلم.
فدونك المجسمة والمشبهة ومن على شاكلتهم كلهم يعتمدون عليه ويرجعون في نصر بدعتهم إليه، ودونك أعداء الزيارة النبوية الذين يزعمون أنها معصية، لا حُجَّة لهم في زعمهم إلا كلامه، ودونك المتجرئين على القول في الدين بالهوى والغرض، لم يكتسبوا
جرأتهم إلا منه، وهكذا بقية صنوف البدع هو الذي فتح أبوابها وسهل أسبابها. (۱) وكذا قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" والحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى". (۲) لا يعارض هذا حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري": «لم تُحبس الشمس على أحد إلا ليوشع بن نون، لأنَّ معناه لم تُحبَس الشمس على أحد من الأنبياء غيري، إلا ليوشع، وقال الحافظ ابن حجر: «الحصر محمول على الماضي للأنبياء قبل نبينا، وليس
فيه أنها لا تُحبس بعد الماضي» . اهـ
قُلتُ: لأنَّ حرف «لر» معناه النفي في الماضي لا في المستقبل.
الأحاديث المنتقاة
۱۱- حديث: الإسراء والبراق
۲۳۳
عن أنس رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أُتي بالبراق ليلة أسري به، مُلَجَّمًا مُسَرَّجًا فاستَصْعَب عليه، فقال جبريل عليه السلام: أبمحمد تفعل هذا؟! فما رَكِبَك أحدٌ أكرم على الله منه، قال: فارفض عَرَقًا». رواه أحمد والترمذي والبيهقي وغيرهم، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. قوله: « أُتي بالبراق هو - بضم الباء وتخفيف الراء- دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافِرَه عند منتهى طرفه، كذا جاء مُفَسَّرًا في "صحيح مسلم" من حديث أنس أيضًا.
قوله: «فاستصعب عليه وفي رواية «اشْمَأَزَّ»، وفي رواية «شَمَسَ»، ومعنى الروايات واحد، وجَزَم السُّهَيْلِيُّ بأنَّ البُراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله، ويؤيده ماجاء في "سيرة ابن إسحاق" من رواية وثيمة في ذكر الإسراء: «فاستصعب البراق وكانت بعيدة العهد بركوبهم، ولم تكن رُكبت في الفترة». قوله: «فما رَكِبَك أحد أكرم على الله منه يدخل في هذا العموم جبريل نفسه، لأنه ممن ركب البراق، فيكون النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أكرم على الله منه، وعلى هذا انعقد الإجماع، إلا ما كان من مخالفة الزمخشري وابن حزم، وهو خلاف شاذ كما تقدم التنبيه عليه.
قوله: «فَارْفَضَّ عَرَقًا» أي: سال منه العرق لحيائه وخجله.
وقصة الإسراء مذكورة في القرآن وواردة في السنة المطهرة، رواها أكثر
٢٣٤
فضائل النبي
من عشرين صحابيا، وكذلك قصة المعراج ذُكرت في القرآن الكريم في قوله
تعالى: وَلَقَدْ رَوَاهُ نَزَلَةٌ أُخْرَى ) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى (١) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ ) ) ))
)
يَغْشَى السَدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: ١٣ - ١٨].
ووردت بها السنة المشرفة، إذ رواها الصحابة الذين رووا حديث الإسراء،
كما رواه سائر الصحابة.
وقد أُفرِدَت هذه القصة بالتأليف الكثيرة فللحافظ عبد الغني بن سعيد كتاب في جزأين جمع فيه أحاديث الإسراء، وللإمام أبي إسحاق النعماني كتاب حافل في الإسراء والمعراج، مشحون بالفوائد والنفائس، وللإمام العلامة فخر المالكية، بل فخر المتأخرين قاطبة ابن المنير كتابٌ في أسرار الإسراء والمعراج أجاد فيه كل الإجادة.
وللحافظ السيوطي رسالة "الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا" طبعت بالشام وهي مفيدة. الي غير ذلك مما لا يُحصى من المؤلفات، هذا غير ماجاء عنها في كتب التفسير والحديث والسيرة مما يطول تتبعه واستقصاؤه.
(۱) تفيد الآية: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وصل ليلة المعراج إلى سدرة المنتهى، وهي من عالم الآخرة الذي لا يفنى عند النفخ في الصور، ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم طوى في معراجه عالم الدنيا بكواكبه وسماواته إلى عالم الأخرى، البقاء فجمع بين العالمين، وتمت له السيادة على الفريقين، وتشرف برؤية الباري سبحانه، لأنه كان في مكان لا يلحقه فناء بخلاف موسى عليه السلام، فإنه لم ينل
الرؤية لكونه طلبها في الدنيا، وهي لا تصلح لها لأنها دار فناء.
الأحاديث المنتقاة
۲۳۵
ومع ورود هذة المعجزة العظيمة في القرآن والسنة وإجماع العلماء على وقوعها، نَجِدُ مُلْحِدَةُ العصر مثل هيكل يُنكرونها ويؤوّلون وقوعها على وجه يوافق عقولهم الضيقة، وأمزجتهم السخيفة، تقليدًا للمستشرقين أعداء الدين،
أو طلبا للشهرة باسم التجديد وحرية الفكر، قاتلهم اللهُ أَنَّى يؤفكون. ۱۲ - حديث: نبع الماء من أصابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أنس أيضًا، قال: «إنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه : كانوا بالزوراء، فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفّه فيه فجعل الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه. قال قتادة : كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة». رواه البخاري ومسلم.
قلت: قصة نبع الماء من أصابعه الشريفة تكررت عدة مرات، ووردت في أحاديث كثيرة.
قوله: «كانوا بالزوراء مكان عند السوق بالمدينة المنورة.
قوله: «فدعا بقدح» بفتح القاف والدال، إناء يوضع فيه الماء. قوله: «زُهاء الثلاثمائة» زهاء بضم الزاي وبالمد، أي: قدر الثلاثمائة. قال القرطبي: «قصة نبع الماء من أصابعه صلَّى الله عليه وآله وسلّم قد تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، حيث نبع الماء من بين عَظمِه وعصبه ولحمه ودمه». وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: «نَبعُ الماء من بين أصابعه صلَّى الله
٢٣٦
فضائل النبي
عليه وآله وسلَّم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى
بالعصا فتفجرت منه المياه، لأنَّ
الماء خروج من الحجارة معهود، بخلاف
خروج الماء من بين اللحم والدم . اهـ
وقال النووي في شرح مسلم : وفي كيفية هذا النبع قولان حكاهما
القاضي وغيره: أحدهما: - ونقله القاضي عن المزني وأكثر العلماء أن معناه أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه صلَّى الله عليه وآله وسلّم وينبع من ذاتها، قالوا: وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حَجَر، ويؤيد هذا أنه جاء في رواية: «فرأيت الماء ينبع من أصابعه».
والثاني: يحتمل أنَّ الله كثر الماء في ذاته، فصار يفور من بين أصابعه (۱ عه (1) لا من
(۱) وهذا الماء أشرف المياه، قاله سراج الدين البلقيني، وهو ظاهر. ويقرب من هذه المعجزة ما رواه ابن إسحاق في "المغازي"، عن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده عبد الله رضي الله عنه: أنَّ أبا طالب قال: كنت بذي المجاز -وهي سوق بقرب عَرَفة - فأدركني العطشُ فشَكُوتُ إلى ابن أخي - يعني النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- فقلتُ: يا ابن أخي عَطِشْتُ، وقلت له ذلك وأنا لا أرى عنده شيئًا، فَتَنَى وِرُكه ثم نزل عن الدابة - وكان صلى الله عليه وآله وسلّم رديفًا لأبي طالب وقال: «ياعم، عطشت؟» فقلتُ: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض أي ضرب الأرض بقدمه فإذا بالماء، فقال: «اشرب ياعم فشربتُ. ورواه ابن سعد وابن عساكر وغيرهما، وهذا حديث عزيز نادر، يرويه أبو طالب، ولا أعلم له حديثا آخر رواه إلا ما أخبرني به شقيقي الحافظ أبو الفيض رحمه الله تعالى أنه روى حديثا قال فيه: حدثني ابن أخي محمد - وصَدَقَ -
الأحاديث المنتقاة
۲۳۷
نفسها، وكلاهما معجزة ظاهرة وآية باهرة . اهـ
وقصة نبع الماء وَقَعَت في المدينة، وفي قباء، وفي غزوة بواط - بضم الباء،
موضع على أبراد من المدينة - وفي غزوة الحديبية، وتبوك، ورواها من الصحابة أنس وجابر وابن مسعود وعمران بن حصين وابن عبّاس وغيرهم و وأغلب طرقها في الصحيحين أو أحدهما.
(تنبيه) مما يشبه هذه القصة من حيث تكثير الماء، ما رواه الإمام مالك في "الموطأ" ومسلم في "الصحيح": عن معاذ رضي الله عنه : أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لهم: «إنَّكم ستأتون غدًا إنْ شاءَ الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَى النهار ، فمَنْ جاء فلا يَمسَ مِنْ مائها شيئًا حتى آتي قال: فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبضُ بشيء من ماء، فسألهما رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «هل مَسَسْتها من مائها شيئًا؟» قالا: نعم، فسبّهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غَرَفُوا مِن العَيْنِ قليلًا قليلًا، حتى اجتمع في شيء، ثُمَّ غَسَل صلَّى الله عليه وآله وسلّم به وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أنْ تَرى ما هاهنا قد مليء جنانًا» يعني: بساتين، زاد ابن إسحاق في روايته فانحرف الماء حتى كان يقول من سمعه إن له حسّا كحِس الصواعق، وذلك الماء فَوَّارة تبوك اليوم. ولهذه القصة نظائر في الصحيحين وغيرهما (۱) والله أعلم.
أنَّ: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة». (۱) في "صحيح البخاري" عن المسور بن مخرمة في غزوة الحديبية: أن النبي صلى الله عليه
۲۳۸
.
فضائل النبي
فدعا
۱۳- حديث: استجابة العذق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس رضي ال الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : بم أعرف أنَّك نبي ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «أرأيت لو دعوت هذا العِذْقَ من هذه النّخلةِ أتشهدُ أني رسول الله؟ قال: نعم فـ العِذْقَ، فجعل العذقُ ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض، فجعل ينقز حتى انتهى إليه فقام بين يديه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «ارجع إلى مكانك فرجع إلى مكانه، فأسلم الأعرابي. رواه أحمد، والبخاري في "التاريخ" والترمذي والحاكم وصححاه، وغيرهم.
وآله وسلم وأصحابه نزلوا بأقصى الحديبية على ثَمَدٍ قليل الماء، فلم يلبث الناس حتى نزحوه وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. العمد: بفتحتين، حفرة فيها ماء.
وفيه أيضًا عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أنّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم توضأ فَتَمَضْمَض ودعا ومج في بئر الحديبية منه، فجاشت بالماء.
وفي مغازي أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن الأسدي المدني يتيم عُروة بن الزبير، عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ في الدلو ومضمض فاه، ثم مج في الدلو، وأمر أن يُصب في البئر ، ونَزَع سهما مِنْ كِنانته وألقاه في البئر، ودعا الله تعالى، ففارت إلى أن ارتفعت حتى جعلوا يعترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها.
وهذه الرواية توضيح وتبيين لرواية البراء المختصرة، وقصة البئر هذه غير قصة الثَّمَد، فهما معجزتان وقعتا بالحديبية.
الأحاديث المنتقاة
۲۳۹
قلت: قصة إجابة الشجر وسجوده وسلامه تَعدَّدَتْ ووردت في غير حديث. قوله: لو دعوت هذا العِذق بكسر العين وسكون الذال المعجمة - معروف، وبقية ألفاظ الحديث واضحة، وفيه معجزة باهرة وآية ظاهرة، وهذا الحديث صححه الحاكم على شرط مسلم، وسلَّمه الذهبي. وفي "صحيح مسلم عن جابر قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نَزَلْنا واديًا أفيح، فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فلم ير شيئًا يَسْتَتِر به، فإذا شَجَرَتان في شاطيء الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى إحداها فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انقادي علي بإذن الله فانقادَتْ معه كالبعير المخشوش (۱) الذي يُصانع قائده، ثم صنع بالأخرى كذلك حتى إذا كان بالمنصف بفتح الميم، الموضع الوسط - بينهما
قال: «التيما - اجتمعا - علي بإذن الله»، فالتأمتا... الحديث.
وروى البزار، والبيهقي في "الدلائل" بإسناد جيد عن ابن عمر قال: كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «أين تريد؟» قال: إلى أهلي، قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هل لك إلى خير؟ قال: وما هو ؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله»
(۱) بالخاء والشين المعجمتين، هو الجَمَل الذي يوضع في أنفه عود من خشاش الأرض لينقاد، وإنما نبهت عليه لأني رأيت القائمين على طبع المجلد الأول من "التمهيد" بالمغرب، لم يهتدوا لوجه الصواب فيه.
٢٤٠
فضائل النبي
قال: هل لك من شاهد على ما تقول؟، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هذه الشجرة» فدعاها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وهي على شاطيء الوادي فأقْبَلَت تَخذُ الأرض خدا فقامت بين يديه، فاستشهدها ثلاث فشهدت، ثم رجعت إلى منبتها .
وروى البزار من طريق صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أرني آية؟ قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «اذهب إلى تلك الشجرة فادْعُها» فذهب إليها فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يدعوك، فمالت عن كل جانب منها حتى قلعت عُروقها، ثم أقبلت حتى جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فأمرها أن ترجع، فقام الرجل فقبَّل رَأْسَه ويَديه ورجليه، وأسلم. ورواه ابن الأعرابي في "جزء القُبل" من هذا الطريق، وقال في آخره: فقال الرجل: إنذن لي أنْ أُقبل رأسك ورجليك، فأذِنَ له فقبل رأسه (۱) ورجليه، ثم قال: ائذن لي أن أسجد لك، قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا يسجد أحد لأحدٍ». وعزاه الحافظ العراقي في "المغني" إلى الحاكم، وقال: «قال صحيح الإسناد» . اهـ وفي "المستدرك"، عن يعلى بن مُرَّة قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فرأيت منه شيئًا عجبا! نَزَلْنا منزلًا، فقال: «انطلق إلى هاتينِ الشَّجرتين فقل لهما: إنَّ رسولَ الله يأمركما أن تجتمعا»، فانطلقت، فقلتُ لهما ذلك، فانتزعت كل واحدة منهما من أصلها فمرت كل واحدة إلى صاحبتها
(۱) هذا الحديث يَرُدُّ على الذين يزعمون حُرْمَة التقبيل على وجه التعظيم، وقد أوردته مع أحاديث كثيرة في جزء "إعلام النبيل بجواز التقبيل".
الأحاديث المنتقاة
٢٤١
فالتقتا جميعا، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجته من ورائهما، ثم قال: «انطلق فقل لهما: التعود كلُّ واحدة إلى مكانها» فأتيتهما فقلتُ لهما ذلك، فعادت كل واحدة إلى مكانها. ثم ذكر معجزتين أُخريين شاهدهما (۱)، قال الحاكم: «حديث صحيح»، وسلمه الذهبي.
وفي الصحيحين عن مسروق قال: سألتُ ابن مسعود: من آذن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال آذنَتْه -أعْلَمَتُهُ - :
شجرة.
مهم
وبقيت أحاديث أخرى أيضًا، اكتفينا عنها بما أوردناه هنا وفي شرح
الحديث التاسع، وبالله التوفيق.
١٤- حديث: حنين الجذع
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان جِذْعُ يقومُ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلما وُضِعَ له النبرُ سَمعنا للجذع مثل أصواتِ العِشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فوضَعَ َيدَهُ عليه فسكت. رواه البخاري في "صحيحه"، وله طرق عن جابر وبريدة وعائشة وابن عمر وأنس وأُيّ بن كعب
وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأم سلمة وسهل بن سعد وغيرهم.
(۱) ذكرتُ هذا الحديث بتمامه وشرحته في "سمير الصالحين" جـ ٢ ، والله در البوصيري حيث قال:
جاءت لدعوته الأشجارُ ساجدة تمشي إليه على ساق بلا قَدَمِ كأنما سَطَرَتْ سَطْرًا مَا كَتَبَتْ فُرُوعُها مِن بَدِيعِ الخَطِّ في اللَّقَمِ
٢٤٢
فضائل النبي
وروى أبو حاتم الرازي الإمام العلم عن شيخه عمرو بن سواد، قال: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمدًا، فقلتُ: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمدا حنين الجذع، فهذا أكبر من ذاك. قوله: «كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم» أي: يتكئ عليه حال الخطبة وذلك قبل أن يُصنع له المنبر ، فلما صُنع له خَطَب عليه، فسُمِع للجِذْعِ - بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة مثل أصوات العشار - بكسر العين: جمع
عُشَراء وهي الناقة التي لحملها عشرة أشهر أو الحامل مطلقا. قوله: فوضع يده عليه ،فسَكَت في رواية للبخاري: فنزل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وضمها إليه - أي: السارية التي هي الجذع - فَجَعَلَت تَيْن أنين الصبي الذي يُسكّن ، قال : كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها، ولهذا الحديث طرق في البخاري" و"مسند أحمد"، ولا بأس أن نشير إلى عزو الطرق المشار إليها في المتن، مع بيان ما في بعضها من الزوائد.
فحديث بريدة رواه الدارمي من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه، وفيه من الزيادة ما نصه: فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده عليه وقال: «اخْتَرْ، أَنْ أَغْرَسَكَ في المكان الذي كنتَ فيه فتكون كما كنتَ، وإن شئتَ أنْ أغرسك في الجنة فتشربَ مِن أنهارها وعُيونها فيحسن نَبْتُك وتثمر فيأكل أولياء الله من ثمرتك» فسمع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له: «نعم قد فعلت»،
مرتين، فسُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: «اختار أن أغرسه في الجنة». وحديث عائشة رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم والبيهقي في
"الدلائل" بنحو حديث بريدة، وحديث بن عمر رواه البخاري وأحمد.
الأحاديث المنتقاة
٢٤٣
وحديث أنس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي وأبو يعلى وأبو نعيم والبيهقي، وفيه: «خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد بخواره، فنزل إليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فالتزمه فسكت فقال: والذي نَفْسِي بيده لو لم أَلْتَزِمُهُ لما زالَ هكذا إلى يومِ القِيامَةِ حُزْنًا على رسولِ الله
صلى الله عليه وآله وسلّم قال الترمذي: «حديث صحيح غريب».
ورواه البغوي من طريق الحسن عن أنس، وزاد بعده: فكان الحسن - يعني البصري- إذا حدَّث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تَحِنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم شوقا إليه لمكانه من الله، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
وحديث أبي بن كعب رواه الشافعي وأحمد والدارمي وابن ماجه و
أبو يعلى وسعيد ابن منصور وأبو نعيم والبيهقي. وحديث أبي سعيد الخدري، رواه عبد بن حميد وابن أبي شيبة والدارمي
وأبو نعيم. وحديث ابن عباس رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وراوه أيضًا ابن سعد وابن ماجه والدارمي وأبو نعيم والبيهقي. وحديث أم سلمة رواه أبو نعيم والبيهقي، وحديث سهل بن سعد رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وروى الزبير بن بكار في أخبار "المدينة" عن المطلب بن أبي وداعة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يسند ظهره إلى جذع في المسجد إذا خطب، فلما جعل له المنبر وجلس عليه، خار الجذع خُوار الثور، فأقبل عليه حتى
٢٤٤
فضائل النبي
التزمه فسكن، وقال: «لا تلوموه فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لم يفارق شيئا إلا وَجَدَ -أي: حزن عليه».
قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف
عن السلف» . اهـ
وقال القاضي عياض: حديث حَنِين الجذع مشهور منتشر والخبر به متواتر أخرجه أهل الصحيح ورواه من الصحابة بضعة عشر».اهـ، ثم ذكر عشرة من الصحابة.
وقال التاج ابن السبكي في رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب": والصحيح عندي أن حنين الجذع متواتر، رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر. ورواه أحمد من رواية أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر.
ورواه ابن ماجه وأبو يعلى الموصلي وغيرهما من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وإسناده على شرط مسلم.
ورواه الترمذي وصححه، وأبو يعلى وابن خزيمة والطبراني من رواية
إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عن أنس.
ورواه الطبراني من رواية الحسن عن أنس.
ورواه أحمد وابن منيع والطبراني وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن
عمار بن أبي عمار عن ابن عباس.
ورواه أحمد والدارمي وأبو يعلى وابن ماجه وغيرهم من رواية الطفيل بن
أبي بن كعب عن أبيه.
ورواه الدارمي من رواية أبي حازم عن سهل بن سعد.
الأحاديث المنتقاة
٢٤٥
ورواه أبو محمد الجوهري من رواية عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن
تميم الداري.
قال: ولست أدعي أن التواتر حاصل بما عددت من الطرق، بل من طرق
أخرى كثيرة يجدها المحدث ضمن المسانيد والأجزاء وغيرها».اهـ ولهذا أَدْرَجَه الحافظ السيوطي في كتابه الذي ألفه في المتواتر، لكن قال الحافظ في "الفتح": «إنه نُقل نقلاً مستفيضا يفيد القطع عند من يَطَّلع على
طرق الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة لهم في ذلك». اهـ
ولا شك أن معجزة خنين (1) الجذع أكبر من إحياء الموتى، كما قال الإمام الشافعي، لأنَّ خَنين الجماد وبكاءه كالطفل أبعد وأغرب من عودة الحياة إلى جسم كان حيا وستعود إليه الحياة عند بعثه، فالميت ليس بجماد صرف، بل من شأنه الحياة كما لا يخفى، والله أعلم.
١٥- حديث: مسح رأسه بيده
عن حَنْظَلة بن حُدَيم: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم مسح رأسه بيده
وقال له «بورك فيك قال الذيال - هو حفيد حنظلة، وراوي الحديث عنه فرأيتُ حنظلة يؤتى بالشاة الوارم ضرعها والبعير والإنسان به الورم فيتفل في يده ويمسح بصلعته ويقول: بسم الله على أثر يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم م فيمسحه، ثم يمسح موضع الورم فيذهب الورم. رواه الإمام أحمد والبخاري في
(۱) خنين الجذع، اشتهر بين المحدثين بالحاء المهملة، والصواب عندي أنه بالخاء المعجمة، وهو صوت البكاء الخارج من الخياشيم شبه به صوت الجذع، أما الحنين بالحاء
المهملة، فهو الشوق، وهو معنى باطني لا صوت له.
٢٤٦
فضائل النبي :
"التاريخ" والطبراني والبيهقي وغيرهم، وإسناد الحديث لا بأس به. بفتح الحاء والظاء بينهما نون ساكنة، وحذيم بضم
حنظلة
الحاء، وهو
حنظلة
حنظلة بن حذيم بن حنيفة التميمي له ولأبيه والجده صحبة. قوله: «مسح رأسه بيده... إلخ، وسبب ذلك: أن أباه حذيما وجده حنيفة وأعمامه أتوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في خصومة لهم ومعهم . غلام، فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لي بنين ذوي لحى وإن هذا أصغرهم، فادع الله له، فمسح رأسه بيده وقال له: «بورك فيك» أو «بارك الله فيك شك من الراوي - فكان من أثر مسحه ودعائه ما ذكر في الحديث.
والصلعة - بفتح الصاد- ما أنحسر عنه الشعر من مقدم الرأس، وضرع الشاة معروف، وهذا غير كثير في جانب بركته صلى الله عليه وآله وسلم، وما ورد من برء ذوي العاهات والأمراض بتفله عليه الصَّلاة والسَّلام، أو مسح يده أو دعائه، لشيء كثير . جدا لو جمع لجاء في كتاب حافل، ولعل الله يوفقنا إلى جمع ذلك بعد الانتهاء من هذا الكتاب بحول الله ()، ورجال هذا الحديث ثقات ومعناه صحيح.
(۱) وفي "صحيح مسلم" والسنن الأربعة إلا الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنها أخرجت جبة طيالسة ذات أعلام خضر، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يلبسها، فنحن نغسلها، فنستشفي بها.
وفي الصحيحين في غزوة خيبر : أنه صلَّى الله عليه وآله وسلم دعا عليا ليعطيه الراية
فجيء به يُقاد لرمد شديد أصابه ، فتفل في عينيه، فبرأ كأن لم يكن بها وجع. وفي "صحيح البخاري" عن سلمة بن الأكوع، قال: أصابتني ضربة في ساقي يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فنفث فيها
الأحاديث المنتقاة
١٦- حديث: قصعة من غدوة
٢٤٧
عن سمرة بن جندب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم نتداول في قصعة من غدوة حتى الليل يقوم عشرة ويقعد عشرة، قلنا: فمما كانت تمد؟! قال: من أي شيء تعجب ؟ ما كانت تمد إلا من ههنا وأشار بيده إلى السماء». رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وصححوه، وقصة تكثير الطعام وردت في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما.
سمرة بضم الميم، والقصعة : بفتح القاف، ومن اللطائف اللغوية قولهم: لا تكسر القصعة، ولا تفتح الجراب والغدوة ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وهذا الحديث صححه ا الحاكم على شرط الشيخين، ووافقة الذهبي،
وفيه معجزة كبيرة في تكثير الطعام القليل
ولهذا نظائر كثيرة، ففي الصحيحين عن جابر في غزوة الخندق قال: فانكفأتُ إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم
ثلاث نفئات، فما اشتكيتها بعد ذلك قط.
وروى أبو الشيخ في كتاب" الأخلاق النبوية، عن محمد بن مهاجر قال: كان متاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ع ا عند عمر بن عبد العزيز في بيت ينظر إليه كل يوم، قال: وكان ربما اجتمعت إليه قريش فأدخلهم في ذلك البيت ثم استقبل ذلك المتاع فيقول: هذا ميراث من أكرمكم الله به وأعزكم الله به، قال : وكان سريرا مرمولا بشريط، ومرفقة من أدم محشوة بليف، وجفنة، وقدح، وقطيفة صوف كأنها جرمقانية، ورحى، وكنانة فيها أسهم، قال: وكان في القطيفة أثر وسخ رأسه، فأصيب رجل، فطلبوا أن
يغسلوا بعض ذلك الوسخ فيعطبه، فذكر ذلك لعمر، فسعط فبرأ» . اهـ
٢٤٨
فضائل النبي
خصا شديدا، فأخرجت جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، فذبحتها وطحَنَتِ الشعير، ثم جئت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة بالتصغير - لنا وطحنت صاعا من شعير فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «يَا أَهْلَ الخَندَقِ إِنَّ جَابَرَ صنع سُورًا -أي: طعاما - يدعو إليه النَّاسَ فحيَّ هلا بكم فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تُنزِلَنَّ برمَتكُم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء».
فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثم عَمَد إلى برمتنا فبَصَق وبارك، ثم قال: «ادع خابزة فلتخبز معك واقدحي - أي: اغرفي- من برمتكم ولا تنزلوها» وهم ألف. فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو .
ووقعت قصص من هذا القبيل في غزوة الخندق وتبوك وغيرهما، وهي
مخرجة في الصحيحين، وبقية كتب الحديث والسيرة.
۱۷- حديث: شق صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: «هذا حظ الشيطان منك»، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني : ظئره - فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: ولقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره، رواه مسلم في
"صحيحه".
الأحاديث المنتقاة
٢٤٩
قوله: «فصرعه أي أضجعه على الأرض إضجاعًا لطيفا، كما في رواية
شداد بن أوس قوله: «عَلَقَة بفتحات، أي: قطعة دم منعقدة. قوله: «هذا حظ الشيطان منك يعني: : أن هذه العلقة أو المضغة السوداء -
كما في رواية أخرى هي محل وسوسة الشيطان من قلب الإنسان، فحيث أزيلت عنك ذهب حظ الشيطان ونصيبه منك.
قوله: ثم غسله في طست بفتح الطاء، ويجوز ضمها وكسرها، وبالسين المهملة ويجوز إعجامها.
قوله: «ظئره» هي المرضع، قوله: منتقع اللون» أي: متغير اللون، مثل النقع وهو الغبار.
وفي حديث شداد بن أوس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنت مسترضَعًا في بني سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان إذا أنا برَهْط ثلاثة معهم طشت من ذهب ملئ ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي، وانطلق الصبيان هرابًا مسرعين إلى الحي، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضباعًا لطيفًا، ثُمَّ شَقَّ ما بين مَفْرِقِ صَدْرِي إِلى مُنتهى عانتي، وأنا أنظر إليه، لم أجد لذلك مسَّا، ثُمَّ أخرج أحشاء بطني ثُمَّ غسلها بذلك الثلج فأنْعَمَ غسلها، ثم أعادها مكانها. ثم قام الثاني فقال لصاحبه : تَنَحَّ، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها، ثم قال بيده يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئًا، فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه، فختم به قلبي فامتلأ نورًا وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك
٢٥٠
فضائل النبي
الخاتم في قلبي دهرا.
ثم قال الثالث لصاحبه : تَنَح ، فأمر يده بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشقُ بإذن الله تعالى ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضًا ا لطيفًا، ثم قال للأول: زِنْهُ بعشرة مِن أُمته، فوزنوني بهم فَرَجَحْتُهُم، ثُمَّ قال: زِنْهُ ، أمته فرَجَحْتُهم، ثُمَّ قال زِنْه بألفٍ، فَرَجَحْتُهم، فقال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرَجَحَهُمْ، ثُمَّ ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا: يا حبيب، لم تُرغ إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك». الحديث، رواه أبو يعلى وأبو نعيم وابن عساكر.
بمائة من
وفي حديث أبي ذر عند الدارمي: «فما هو إلا أن وَلَّيا عني فكأنها أرى الأمر
معاينة».
وفي رواية ابن غنم عند الدارمي أيضًا أن جبريل عليه السلام قال: قلب وكيع -شديد فيه عينان ،تنظران وأذنان تسمعان». وللحديث طرق
أخرى (۱).
والحكمة في شَقّ صدره الشريف واستخراج العلقة من قلبه تطهيره من حالات الصبا، وتنشئته على الرجولة التامة، ولهذا نشأ صلى الله عليه وآله وسلم على أكمل ،الحالات، وأفضل الصفات لم يصل إلى شيء مما يميل إليه الصبيان، ولم يستهوه ما استهوى غيره من الشبان والفتيان، حتى أكرمه الله بنبوته وأصطفاه لرسالته صلى الله عليه وآله وسلّم.
(۱) منها حديث عتبة بن عبد السلمي عند الحاكم وصححه على شرط مسلم، وسلمه الذهبي.
الأحاديث المنتقاة
٢٥١
ثم شُقَّ صدره الشريف مرة ثانية عند بعثته عليه الصَّلاة والسلام ليتلقى الوحي بقلب قوي، واستعداد كامل.
ثم شق صدره الشريف مرة ثالثة ليلة الإسراء كما ثبت في "البخاري" وغيره، ليتهيأ للترقي إلى الملأ الأعلى والثبوت في المقام الأسنى، وليتقوى قلبه لمشاهدة العلي الأعلى، ولهذا لما لم يتفق لموسى عليه السلام مثل هذا التهيؤ والاستعداد لم تتفق له الرؤية(1).
(۱) قال الحكيم الترمذي: حدثنا محمد بن رزام الأيلي: ثنا محمد بن عطاء الهجيمي: ثنا محمد بن نصير، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم هذه الآية ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: ١٤٣] قال: ياموسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق، إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلي أجسادهم». أما نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم فالراجح عند أكثر العلماء كما قال النووي أنه رأى ربه ليلة الإسراء بعيني رأسه، وروى الترمذي من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه فقلت: أليس يقول الله: لا تُدْرِكُهُ الأبصر (الأنعام: ۱۰۳] قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين، وروى النسائي بإسناد صحيح، وصححه الحاكم أيضًا عن ابن عباس قال: «أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم».
وللطبراني في "الأوسط" بإسناد رجاله رجال الصحيح، غير واحد، فوثقه ابن حبان، عن ابن عباس أنه كان يقول: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه مرتين مرة ببصره، ومرة بفؤاده.
٢٥٢
فضائل النبي
وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال: رأى محمد ربه. وروى ابن خزيمة عن عبد الرزاق عن معتمر بن سليمان، عن المبارك بن فضالة قال : كان الحسن يحلف بالله لقد رأى محمد ربه.
وروى ابن خزيمة أيضًا عن كعب قال: إن الله قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد صلوات الله عليهما، فرآه محمد مرتين، وكلم موسى مرتين.
وروي أيضًا عن عروة بن الزبير إثبات الرؤية أيضًا، وروى ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد، عن عبدوس بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: أصول السنه عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاقتداء بهم، وذكر شيئا من العقيدة إلى أن قال: وأن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قد رأى ربَّه، فإنه مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. صحيح، رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه الحكم ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. والحديث عندنا على ظاهرة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.اهـ وروى الخلال في كتاب "السنة" عن المروزي: قلت لأحمد: إنهم يقولون إن عائشة قالت: من زعم أن محمد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فبأي معنى يُدفع قولها؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: رأيتُ ربي فقول النبي أكبر من قولها» . اهـ وهذا الحديث رواه ابن عباس، وأشار أحمد إلى طرقه في كلامه آنفا، وأفرد ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" بابا لرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه تعالى، وأطال الاستدلال لذلك، وأجاب عن كلام عائشة بأنها نَفَت الرؤية، وابن عباس وأنس وغيرهما أثبتوها، والإثبات مقدم على النفي.
وروي عن عبد الرزاق قال : ذكرت لمعمر حديث عائشة، فقال: ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس، قال ابن خزيمة ومحال أن يقال : ابن عباس أعظم على الله الفرية، ولا
الأحاديث المنتقاة
٢٥٣
وفي هذا الحديث لطائف:
منها: أنه تحقق بشق صدره وصدع قلبه إكرامه بالصبر الجميل، كما تحقق لجده إسماعيل الذبيح مثل ذلك لصبره على مقدمات الذبح فأثنى الله عليه بذلك، ولكن صبر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أشد واحتماله أقوى للفارق
أظن أحدا من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس أثبت الرؤية بالظن والرأي، ولا أنس ابن مالك، ولا أبو ذر . هذا ملخص كلام ابن خزيمة. وأما قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ ﴾ [الأنعام: ١٠٣] فلا يدل على نفي الرؤية لوجهين:
الأول: أن الأبصار لفظ عام، أي: لا تدركه عموم أبصار الناس، وخص منه بصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التمييز والإكرام، فتكون الآية من قبيل العام المخصوص، وهو كثير في القرآن والسنة.
الثاني: أن الإدراك معناه: الإحاطة، فالآية الكريمة تنفي الإحاطة، ونفي الإحاطة لا يستلزم نفي الرؤية، ألا ترى أن المؤمنون يرون ربهم في الجنة ولا يحيطون به، بل نحن نرى الشمس والقمر ولا نحيط بها، فكذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم رأى الله من غير أن يحيط به، وتعالى الله عن أن يحيط به أحد من خلقه.
وأما حديث أبي ذر : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك؟ فقال «نور أني أراه فأجاب عنه ابن خزيمة بأنه يجوز أن يكون سأله قبل حصول الرؤية، ثم حصلت بعد ذلك.
قلت: ويتأيد هذا بما ثبت عن أبي ذر نفسه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأي ربه بقلبه، وثبت ذلك عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أيضا رواه عنهما ابن خزيمة. وأنظر ما كتبناه في التعليق رقم (۱) على الحديث رقم (۱۱).
٢٥٤
فضائل النبي
العظيم بين الأمرين كما لا يخفى.
ومنها: غسل قلبه بطست من ذهب وفيه كما قال الحافظ - مناسبات منها: أنه من أواني الجنة ، ومنها: أنه لا تأكله النار ولا التراب ولا يلحقه الصدأ، ومنها: أنه أثقل الجواهر، فناسب قلبه عليه الصَّلاة والسَّلام لأنه من أواني أهل الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»، ولا يلحقه الصدأ، وأنه أثقل من كل قلب عُدِل به، وفيه
مناسبة أخرى وهي ثقل الوحي فيه». هذا كلام الحافظ في "الفتح". وقال السهيلي وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهاب الرجس عنه ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه،
فلوضاءته ونقائه». اهـ
ومنها ما ذكره العارف ابن أبي جمرة: أنه أعطي برؤيته شق صدره وقلبه الشريفين عدم الخوف من العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له صلى الله عليه وآله وسلم قوة الإيمان من ثلاثة أوجه: بقوة التصديق، والمشاهدة، وعدم الخوف من العادات المهلكات.
فكمل له عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عزّ وجل، وعدم الخوف مما سواه، ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان عليه الصلاة والسلام في العالمين - بفتح الميم أي: العالم العلوي والعالم السفلي- أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالا ،ومقالا، ففي العلوي كان كما أخبر عليه الصلاة والسَّلام أن جبريل عليه السَّلام لما وصل معه إلى مقامه قال: ها أنت وربك، هذا مقامي لا أتعداه، فزج فيه أي: في النور زجة ولم يتوان ولم يلتفت فكان هناك في الحضرة
الأحاديث المنتقاة
٢٥٥
كما أخبر عنه عزّ وجل بقوله: مَازَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَعَى } [النجم: ١٧]. وأما حاله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في هذا العالم، فكان إذا حمي الوطيس
في الحرب ركض بغلته في نحر العدو وهم شاكون سلاحهم، ويقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» . اهـ وهو نفيس، لكن ما ذكره عن جبريل من قوله: هذا مقامي لا أتعداه، لم أقف له على إسناد.
تنبيه: تحريم استعمال الذهب إنما حصل في المدينة بعد الهجرة، وشق الصدر حصل قبل ذلك، فلا يرد أن يقال: كيف صح غسل قلبه في طست من ذهب وهو
محرم ؟ لأنَّ استعمال الذهب إذ ذاك كان مباحًا، والله سبحانه وتعالى أعلم. ۱۸- حديث: فضل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فضلتُ على الأنبياء بست؛ أُعطيتُ جَوامِعَ الكَلِم، ونُصرتُ بالرعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلت لي الأرض طَهُورًا ومسجدا، وأُرسلتُ إلى الخَلْقِ
كافَّةً، وخُتِمَ بي النبيُّون». رواه مسلم في "صحيحه".
قوله: «فضّلتُ على الأنبياء بيت»، هذا العدد لا مفهوم له لأنَّ له فضائل غير هذه الست كما سيأتي قوله، «أُعطيتُ جوامع الكَلِمِ» أي: الكلم الجوامع
وهي الأحاديث القليلة اللفظ الكثيرة المعنى، كحديث إنها الأعمال بالنيات» فإن فيه من الأحكام والفوائد ما أفرد بالتأليف، وله نظائر كثيرة، ذكر جملة منها القاضي عياض في "الشفاء"، وأحاديث الأربعين النووية" كلها كَلِم جوامع وهي متداولة مشهورة.
٢٥٦
فضائل النبي
قوله: «ونُصرت بالرُّعب أي أن الله ينصره بقذف الرعب في قلوب أعدائه، زاد في رواية أخرى في الصحيحين من حديث جابر: «ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر». قوله: «وأُحِلَّت لي الغنائم زاد في رواية جابر: «ولم تحل لأحد قبلي»، والغنائم جمع غنيمه، وهي مايُغنم من العدو في الجهاد، وكان مَنْ قبلنا إذا غنموا غنائم جمعوها في مكان فتأتي نار من السماء فتأكلها، وكذلك جاء مُبيَّنا في
حديث الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. قوله: «وجعلت لي الأرض طهورًا بفتح الطاء- أي: يُتيمم بأجزائها،
واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث: كالوضوء.
قوله ومسجدًا أي موضعا للسجود لا يُختص مكان منها دون الآخر، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم»، وفي حديث ابن عباس عند البزار : ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، واستدل المالكية والحنفية بقوله: «وجعلت الأرض طهورا»، على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض من تراب ورمل وحجر ونحو ذلك، وخصَّصَ الشافعية التيمم بالتراب فقط، متمسكين برواية حذيفة في "صحيح مسلم": "وجعلت تربتها لنا طهورًا». قالوا: فهذا خاص يُحمل عليه غيره من الروايات التي وردت عامة ونوقشوا في هذا الاستدلال مناقشات قوية يترجح معها جانب القول الأول المؤيد بعموم قوله تعالى:
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا ﴾ [النساء: ٤٣] و بهديه عليه الصلاة والسَّلام في التيمم،
الأحاديث المنتقاة
٢٥٧
فإنه لم ينقل عنه أنه التزم التيمم بالتراب فقط، بل كان يتيمم بالأرض التي كان يصلي عليها ترابًا كانت أوسبخة أو رملا.
قوله: «وأرسلت إلى الخلق كافة أي الإنس والجن، بهذا نطق القرآن
وانعقد عليه الإجماع فمدعي خصوص رسالته بالعرب كافر بلا نزاع. وهل أرسل إلى الملائكة؟ حكى فخر الدين الرازي الإجماع على أنه غير
مرسل إليهم، وقال جماعة من الأشعرية أرسل إليهم رسالة تشريف لا تكليف، ورجح التقي السبكي أنه أرسل إليهم، وكذا رجحه البارزي وزاد عليه أنه أرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات، واستدل بشهادة الضّب له بالرسالة، وشهادة الحجر والشجر، وألف الحافظ السيوطي في الانتصار لهذا القول رسالة سماها "تزيين الأرائك في إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملائك" واستدل فيها بعشرة أدلة أقواها كما قال: «قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَ سُبْحَنَهُ، بَلْ عِبَادُ مُكْرَمُونَ } [الأنبياء: ٢٦] يعني: الملائكة
إلى أن قال: وَمَن يَقُل مِنْهُمْ - أي: الملائكة إنت إِلَهُ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّلِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٢٩] قال: فهذه الآية إنذار للملائكة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الذي أنزل عليه، وقد قال تعالى: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا القُرة انُ لِأُنذِرَكُم بِهِ، وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: ١٩] فثبت بذلك إرساله إليهم . اهـ (۱) ، وانظر بقية أدلته في الرسالة المذكورة فهي
(۱) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في التبكير إلى الجمعة: «فإذا خَرَجَ الإمامُ حَضَرَتِ الملائكة يستمعون الذِّكْرَ».
٢٥٨
فضائل النبي
مطبوعة ضمن كتابه "الحاوي في الفتاوي".
قوله: «وختم بي النبيون»، فهو خاتم الأنبياء، أي: آخرهم، لا نبي معه في
عصره ولا بعد عصره، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة. فالقاديانية الذين يزعمون نبوة غُلام أحمد القادياني، كفَّار مرتدون بإجماع
المسلمين، ولا تصح مناكحتهم ، ولا تؤكل ذبيحتهم، وهم دسيسة استعمارية خدموا مصالح الإنجليز في الهند وكان زعيمهم القادياني يُصرح على رؤوس الأشهاد بحبه لإنجلترا وولائه لها ويحض أتباعه على خدمتها ويحمد الله على أنه وجد في بلد تحت رايتها، إلى غير هذا من أقواله السخيفة المدونه في كتبهم. ومثلهم في الكفر والارتداد وخدمة مصالح الاستعمار فرقة البهائية الذين يزعمون أن الإسلام نُسخ بدينهم وينكرون البعث والنشور والحشر والجنة والنار والصلاة والصيام، ويجيزون إعارة النساء بعضهم لبعض، ويؤلهون زعيمهم ويحجون إلى عكا (۱) يطوفون بقبر إلههم عباس البهاء، وهي قبلتهم في صلاة خاصة تخالف صلاة المسلمين، إلى غير ذلك (٢) .
صلاتهم، وهي
من
فحضورهم لاستماع الخطبة دليل على أنهم مكلفون بذلك، وصح في أحاديث: أنهم يصلون معنا صلاة الجماعة، وإذا قال الإمام ولا الضالين كما قالوا: آمين وفي "صحيح البخاري" عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدر من الملائكة . فهذا يدل على أنهم مكلفون بشريعتنا.
(۱) وحديث طوبي لمن رأي عكا مكذوب باطل. (۲) والجهاد في دينهم منسوخ، فلا يجوز عندهم جهاد الكفار والمستعمرين، بل يجب
الأحاديث المنتقاة
٢٥٩
القبائح، وقد غرّوا كثيرا من الناس بمصر فدخلوا في ديانتهم، ولهم بالمحلة
الكبرى شعبة نشيطة، قاتلهم الله ولعنهم إلى يوم الدين.
١٩- حديث: خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «نصرتُ بالرَّعْبِ، وأُعطيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ، وبينما أنا نائم أُتيتُ بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي». قال أبو هريرة فذهب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم وأنتم تنتيلونها. رواه البخاري ومسلم.
قوله: (وأعطيتُ جوامع الكَلِمِ» تقدَّم شرحه، وقال الهروي: «يعني به : القرآن، جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة، وكلامه صلَّى الله عليه وآله وسلم كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني».
قوله: «وبينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي»، قال النووي: «هذا من أعلام النبوة، فإنه إخبار بفتح هذه البلاد لأمته، ووقع كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم والله الحمد والمنة» . اهـ قوله: «وأنتم تنتثلونها أي تستخرجون مافيها، يعني خزائن الأرض،
وما فتح على المسلمين من الدنيا بسبب الفتوحات الإسلامية. تنبيه: ذُكر في هذا الحديث والذي قبله سبعة خصال من خصوصياته،
وبقيت خصال أخرى:
إقناعهم بالدخول في دين البهائية، فإن اقتنعوا به ودخلوا فيه، تركوا البلاد لأهلها ورحلوا عنها بلا مقاومة، وهذا كلام سخيف.
٢٦٠
فضائل النبي و
منها: إعطائه الشفاعة رواه الشيخان من حديث جابر، والمراد بها الشفاعة العظمى.
ومنها: تسميته بأحمد ، وجعلت أمته خير الأمم، رواه أحمد من حديث علي
عليه السّلام.
ومنها: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة - يعني في الصلاة- رواها مسلم من حديث حذيفة.
ومنها: إعطاؤه الآيات من آخر (سورة البقرة) من كنز تحت العرش، رواه النسائي وابن خريمة عن حذيفة أيضًا. ومنها: غفران ما تقدَّم من ذنبه (۱) وماتأخر، وإعطائه الكوثر، وكونه
(۱) قد يشكل عد هذه من خصائصه صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ الأنبياء جميعهم مغفور لهم، بل هم معصومون، ومانسب إليهم من ذنوب فهو علي سبيل الكناية أو التعريض، أو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. ويجاب على هذا الإشكال بأنّ هذه الخصلة عدت من خصائصه باعتبار ظهور ثمراتها في الآخره، ذلك أن الأنبياء يعتريهم من هول الموقف وفزعه ما ينسيهم حالهم يوم يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أَجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: ۱۰۹] ويقول كبراؤهم حين تطلب منهم الشفاعة : إن الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي لأنَّ كل واحد منهم لا يأمن أن يؤاخذ بها عد عليه ذنباً، أما نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم فيكون في ذلك الموقف قوي القلب، رابط الجأش، لا يلحقه فزع، ولا يغشاه هول، تُطلب منه الشفاعة فيقول: «أنا لها، أنا لها»، ولا يعتذر كما أعتذر غيره ويستشهد به الرسل على تصديقهم في إبلاغ
الأحاديث المنتقاة
٢٦١
صاحب لواء الحمد يوم القيامة، رواها البزار عن أبي هريرة.
ومنها: إسلام شيطانه، رواها البزار عن ابن عباس، فهذه ست عشرة
خصلة.
قال الحافظ في "الفتح": ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع، وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى" أن الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم ستون خصلة». اهـ
قال الحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى": «ولم أقف على من عدها، وقد تتبعت الأحاديث والآثار فوجدت القدر المذكور وثلاثة أمثاله معه وقد
رأيتها أربعة أقسام:
۱ - قسم اختص به في ذاته في الدنيا.
۲ - وقسم اختص به في ذاته في الآخرة.
وقسم اختص به في أمته في الدنيا.
٤ - وقسم اختص به في أمته في الآخرة» . اهـ
ثم أوردها مفصلة على الأبواب فليراجعها من أراد، والله ولي التوفيق
والسداد.
قومهم، فيصدقهم ويؤيدهم، ويراجع ربه في أمته مرة بعد مرة حتى يقول له مالك خازن النار: «ما تركت لغضب ربك من أمتك بقية»، وما ذاك إلا لأنه عرف من قول الله تعالى: ليَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ ﴾ [الفتح: ٢]أنه لا يعاتبه يوم القيامة ولا يؤاخذه. فهذه الخصلة مما اختص بها في ذاته في الآخرة كما تبين.
٢٦٢
فضائل النبي
۲۰- حديث: «الله يُعطى وأنا أقسم»
عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «أنا أبو
القاسم، الله يُعطى وأنا أقسم». رواه الحاكم وصححه، وسلَّمه الذهبي. وفي "صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تَسَمَّوا باسمي ولا تَكَنُّوا بكنيتي فإني أنا أبو القاسم أقسم بينكم». وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن جابر قال : ولد لرجل منا غلام فسماه محمدا، فقلنا: لا نكنيك برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حتى تستأمره، قال: فأتاه فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «سموا باسمي ولا تَكَنُّوا بكنيتي فإنما بعثتُ قاسما أقسم بينكم» (۱).
فهذه الروايات الصحيحة تبين أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقسم بين أمته ما يرزقهم الله من معارف وعلوم وأموال وغيرها، وليس قسمه صلَّى الله عليه
وآله وسلّم خاصا بمال الفيء والغنائم، بل هو عام كما ذكرنا، والله أعلم. قوله: «تَسَمَّوا باسمي ولا تَكَنُّوا بكنيتي»، قال النووي: اختلف العلماء في
هذه المسألة على مذاهب كثيرة جمعها القاضي وغيره: أحدهما مذهب الشافعي وأهل الظاهر أنه لا يحل التكني بأبي القاسم
لأحد أصلًا سواء كان اسمه محمد أو أحمد أم لم يكن، لظاهر هذا الحديث. والثاني: أن هذا النهي منسوخ ، فإن هذا الحكم كان في أول الأمر، لهذا
(۱) وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أوتيكم من شيء ولا أمنعكموه إن أنا إلا خازن أضع حيث أمرت».
الأحاديث المنتقاة
٢٦٣
فالتفت
المعنى المذكور في الحديث، وهو أن رجلًا نادى بالبقيع : يا أبا القاسم . إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال : يارسول الله إني لم أعنك، إنما دعوت فلانا فقال: «تَسَمَّوا باسمي ولا تَكَنَّوا بكنيتي» ثم نسخ، قالوا: فيباح اليوم التكني بأبي القاسم لكل واحد سواء من أسمه محمد وأحمد وغيره، وهذا مذهب مالك، قال القاضی وبه قال جمهور السلف وفقهاء الأمصار، وجمهور العلماء، قالوا: وقد اشتهر أن جماعة تكنوا بأبي القاسم في العصر الأول، وفيما بعد ذلك إلى اليوم مع كثرة فاعل ذلك وعدم الإنكار. الثالث: مذهب ابن جرير أنه ليس بمنسوخ، وإنما كان النهي للتنزيه
والأدب، لا للتحريم.
الرابع: أن النهي عن التكني بأبي القاسم مختص بمن اسمه محمد أو أحمد، ولا بأس بالكنية وحدها لمن لا يسمى بواحد من الاسمين، وهذا قول جماعة من السلف وجاء فيه حديث مرفوع عن جابر. الخامس: أنه ينهى عن التكني بأبي القاسم . مطلقا
وينهى عن التسمية
بالقاسم لئلا يكنى أبوه بأبي القاسم، وقد غيّر مروان بن الحكم اسم ابنه عبد الملك حين بلغه هذا الحديث، فسماه عبد الملك، وكان أسمه أولا القاسم، وفعله بعض الأنصار أيضًا.
السادس: أن التسمية بمحمد ممنوعة مطلقا سواء له كنية أم لا، وجاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تسمُّون أولادكم بمحمَّدٍ ثُمَّ تلعنونهم؟!» وكتب عمر إلى الكوفة: «لا تسموا أحدًا باسم نبي»، وأمر جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم محمد حتى ذكر له جماعة أن النبي صلى الله عليه
٢٦٤
فضائل النبي :
وآله وسلم أذن لهم في ذلك وسماهم به، فتركهم.
قال القاضي: والأشبه أن فعل عمر هذا إعظام لاسم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، لئلا ينتهك الاسم كما سبق في الحديث: «تُسمونهم محمدًا ثُمَّ أنه تلعنونهم». وقيل: سبب نهي عمر . سمع رجلًا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب: فعل الله بك يا محمد، فدعاه عمر فقال : أرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُسَبُّ بك، والله لا تُدعى محمدًا ما بقيت، وسماه عبدالرحمن» (۱). اهـ وحديث: تسمون أولادكم محمدًا ثم تلعنونهم» رواه البزار وأبو يعلى وابن
(۱) انظر الفارق الكبير بين فعل عمر رضي الله عنه وبين فعل «إمام أهل السُّنَّة» - في زعم أتباعه - الشيخ محمود خطاب الشبكي؛ فقد ردَّ على خصم له اسمه محمد الأمير فقال: «إن اسمه على وزن مخنث، ولقبه على وزن الحمير »!!. لكن لم يكتب الرد باسمه بل تستّر باسم بعض أصحابه كعادته في أغلب ردوده حسبما حققه صديقنا العلامة الشيخ مصطفى الحمامي في كتبه التي كشف بها عن هذا الإمام المزعوم، وهذا الشخص في الحقيقة بعيد عن السُّنَّة وأهلها بعدا شاسعا؛ لأنه تعلم في الأزهر، والأزهر أقفر من علوم السُّنَّة منذ سنين.
وقد حضرت دروسه في البخاري قبل أن يحال إلى المعاش فوجدته لا يعرف من الحديث كثيرًا ولا قليلا، وإن أردت أن تعرف قيمة شرحه لـ"أبي داود" وقد هول به أتباعه كثيرًا - فاقرأ بعض الشروح المطبوعة بالهند كعون المعبود فعند ذلك لا تملك إلا أن تقرأ على شرحه قول القائل: سارَتْ مُشَرِّقَةً وسِرْتُ مُغَرِّبا شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ
وتخاطب إمام أهل السنة» بقول آخر: إذا لم تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعَهُ وجاوزه إلى ما تَسْتَطِيعُ
الأحاديث المنتقاة
٢٦٥
عدي والحاكم من حديث أنس، وهذا الحديث معدود في فضائل التسمية باسمه صلى الله عليه وآله وسلّم مع دلالته على احترام الاسم الشريف وتوقيره. وقال ابن سعد في "الطبقات" : أنا مطرف بن عبد الله اليساري: حدثنا محمد بن عثمان العمري، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما ضَرَّ أحدكم أن يكون في بيته محمد ومحمدان وثلاثة» وهذا مرسل. وأخرج ابن أبي عاصم من طريق ابن أبي فديك، عن جهم بن عثمان، عن ابن جُشَيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من تسمى باسمي يرجو بركتي غَدَت عليه البركة وراحت إلى يوم القيامة». وجَهُمْ جَهَلَه أبو حاتم، وضعفه الأزدي.
وروى ابن القاسم في سماعه"، وابن وهب في "جامعه" عن مالك قال: سمعت أهل مكة يقولون ما من بيت فيه اسم محمد إلا نما ورزقوا، ورزق جيرانهم. وللحافظ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي جزء مطبوع في فضل التسمية بمحمد وأحمد، وفي عزمي أن أعيد طبعه مع التعليق عليه بما يتم فوائده ويُكمل مقصده مع بيان علل الأحاديث ونقد أسانيدها، يسر الله وأعان عليه. قوله: «يقسم بين أمته ما يرزقهم الله من معارف.... إلخ، يؤيد هذا العموم ويؤكده أمران:
الأول: قوله إنما بعثت قاسما»، وهو إنما بعث لقسم ما أوتي من الهدى والنور والعلم والعرفان، فأما قسم الفيء والمغانم فهو أمر ثانوي، إنما حصل بعد فرض الجهاد، والأمر بقتال المشركين بعد الهجرة.
٢٦٦
فضائل النبي
الثاني: أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم نهى عن غيره أن يكتني بأبي القاسم وعلل النهي ب بأنه يقسم ولو كان المراد قسم الفيء والمغانم، لم يكن لهذا النهي والتعليل معنى، لأنَّ كل إمام وخليفة يقسم المغانم بين المجاهدين، كما كان يفعل عمر (1) وغيره من الخلفاء، وذلك هو المقرر في الشرع، فلولا أنه صلَّى الله عليه وآله وسلّم اختص في القسم بشيء لم يشركه فيه غيره، لم يكن للنهي معنى كما ذكرنا، ولهذا خص جماعة من الصحابة بأنواع من العلوم، فاختص زيد بن ثابت بالفرائض، ومعاذا بعلم الحلال والحرام، وأبيًا وابن مسعود بعلم القرآن، وحذيفة بعلم أحوال المنافقين وكشف أسرارهم، وأبا هريرة بجرابين من العلم بث أحدهما ولم يبث الآخر مخافة القتل كما في "صحيح البخاري"، وعليا بعلم القضاء وعلوم أخرى، وسماه باب مدنية العلم» وهكذا كل صحابي له من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم باب من العلم أو أبواب، على قدر استعداده (۲) : ا ثم هو صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته حي في قبره تعرض
(۱) قال أبو عبيد في "الأموال" : أخبرنا عبد الله بن صالح: أخبرنا موسى بن علي، عن أبيه، أن عمر خطبهم بالجابية مكان بالشام - فقال: من أراد القرآن فليأت أبيا، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيدا، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذا، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني خازنا وقاسما. (۲) قال العلامه الذائق المحقق أبو النجا محمد القوي، في شرحه على "سطور الأعلام في مبادئ الإيمان والإسلام" لولي الدين أبي زرعة العراقي ما نصه: اعلم أن الله أبرز عالمين عالما اختراعيًا، وعالما إبداعياً، أشار إليهما بقوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
[الأعراف: ٥٤] وقوله علمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام: ٧٣].
الأحاديث المنتقاة
٢٦٧
عليه أعمال أمته فيستغفر لهم ويشفع كما سيأتي في الحديث السادس والعشرون، والموفقون من أفراد الأمة يشاهدونه ويسمعون كلامه، ويرون نوره ساريًا في الوجود، ويرون كل خير واصلا إليهم عن طريقه، لا يرتابون في ذلك، لأنهم رأوه عيانًا، حققنا الله به حتى نزداد معرفة لقدر هذا النبي الكريم والرسول
العظيم، عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.
۲۱- حديث: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أنا سيد وَلَدِ آدَمَ يومَ القِيامَةِ، وأَوَّلُ مَن يَنْشَقُ عنه القبر، وأوَّل شافِعِ وأَوَّل مُشَفّع». رواه
مسلم في "صحيحه".
قال العلماء: قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم «يوم القيامة» مع أنه سيدهم في الدنيا أيضًا، لأنَّ في يوم القيامة تظهر سيادته لكل الناس لا ينازعه فيها منازع بخلاف الدنيا، فقد نازعه في ذلك ملوك الكفار وزعماء المشركين، وهذا مثل قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: ١٦ ) مع أن الملك له
فعالم الغيب هو عالم الملكوت وعالم الملكوت هو عالم الاختراع، وهو عالم الأمر وهو العالم العلوي، وهو عالم الفتقِ. وعالم الشهادة هو عالم الملك، وعالم الخلق وعالم
الإبداع وهو العالم السفلي، وهو عالم الريق. ولكل عالم من هذه العوالم سر أودعه الله فيه لشهود العظمة وظهور القدرة، وقد استودع الله مصطفاه صلَّى الله عليه وآله وسلّم تلك الأسرار الإلهية وجعله أمينا عليها، يفيض على من أراد الله من أهله لاستفاضتها، وما أُهل له، ويخاطب الناس
على قدر عقولهم . اهـ بلفظه من نسخة عليها خط الغيطي والشوبري.
٢٦٨
فضائل النبي
سبحانه وتعالى قبل ذلك، وإنما قيد بذلك اليوم الخضوع الكل وفقد المنازع. قوله: «أنا سيد ولد آدم السيد هو الذي يفزع إليه الناس في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم، ويتحمل عنهم مكارههم، ويدفعها عنهم، وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلَّم في حياته، فكان يصل الرحم ويحمل الكل ويكسب المعدوم ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق كما قالت خديجة رضي الله عنها، وكان إذا مات مسلم وعليه دين قضي عنه دينه، وإذا أتاه ملهوف أغاثه، وإذا قحط الناس أتوه مستشفعين مستغيثين، كما قال عمه أبو
طالب وأبيضَ يُستسقَى الغَمامُ بِوَجْهِهِ شمال اليتامَى عِصْمَةٌ للأرامل
وقال آخر:
وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا إِلَيْكَ فِرَارُنَا وَأَينَ فِرَارُ النَّاسِ إِلَّا إِلَى الرُّسُلِ وأما في الآخرة: فيفزع إليه أهل الموقف ليشفع إلى الله في إراحتهم من كرب ذلك اليوم وطوله وهوله، فيقول: «أنا لها، أنا لها» فيذهب إلى العرش فيستأذن فيؤذن له، فإذا رأى الله سجد وحمد الله بمحامد لم يحمده بها أحد، فيدعه الله ساجدًا حامدا ما شاء أن يدعه ثم يناديه: ارفع رأسك، وقل تسمع وسل تعط، واشفع تشفع فيكون أول من يشفع وأول من تقبل شفاعته، ولهذا قال: «أول شافع وأول مُشَفّع، بفتح الفاء المشددة. وقوله: «وأول من ينشق عنه القبر»، وذلك عند قيام الناس للموقف حين
يُنفخ في الصور نفخة ثانية، كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي
الأحاديث المنتقاة
٢٦٩
السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ (۱) ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامُ يَنظُرُونَ ﴾ [الزمر: ٦٨] وإنما أخبر بأنه سيد ولد آدم ليمتثل قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث [الضحى: ١١] وليبين لأمته ذلك حتى يعتقدوه ويعملوا بمقتضاه، فلا ينادونه أو يذكرونه باسمه المجرد كما يفعل الوهابية الجفاة وأمثالهم من مقلدة المستشرقين أعداء الله .
۲۲- حديث: «أنا أول الناس خروجًا إذا بُعثوا»
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «أنا أول الناس خروجًا إذا بُعثوا وأنا خَطيبهم إذا وَفَدوا وأنا مُبَشِّرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرمُ وَلَدِ آدمَ على ربي ولا فَخْرَ». رواه الترمذي وقال: «حدیث حسن غريب». ورواه أبو نعيم في "الدلائل" ولفظه: «أنا أوَّلهم خروجًا إذا بُعثوا وقائدهم إذا وَفَدوا وخَطيبهم إذا أنصتوا وأنا شافِعُهُم إِذا حُبِسوا وأَنا مُبَشرهم إذا أُبلسوا لواء الكرامة ومفاتيح الجنة ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم وَلَدِ آدمَ على ربي يطوف على ألف خادم كأنهنَّ بيض مكنون أو لؤلؤ منثور».
(۱) اختلف في المستثنى من هو ؟ فقيل هم الملائكة، وقيل: هم حمله العرش، وقيل: جبريل، وقيل: ميكائيل، وقيل: مَلَك الموت، وقيل: الجنّة والحور العين، وكل هذه أقوال ضعيفة أو باطلة، والصحيح أن المستثنى هم الأنبياء والشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وإذا نفخ في الصور لا يصعقون، تكريما لهم وتبجيلا لقدرهم.
۲۷۰
فضائل النبي
قوله: «أنا أول الناس خروجًا إذا بُعثوا» أي: أثيروا من قبورهم، وهذا
معنى قوله في الحديث السابق: وأول من ينشق عنه القبر». قوله: «وأنا خطيبهم إذا وَفَدوا» أي: على ربهم، لأنَّ العادة في وفود القوم
على الملك أن يتكلم أمامه زعيم القوم ورئيسهم.
قوله: «وأنا مُبشِّرهم أي بقبول شفاعتي عند الله، إذا أيسوا من وجود شافع بعد ترددهم على الأنبياء وقول كل نبي: «نفسي، نفسي»، وقوله: «لواء الحمد» أي راية الحمد يومئذ - يوم القيامة - بيدي، وذلك جريا على العادة -
عند العرب أن اللواء إنما يكون مع كبير القوم ليعرف مكانه، قال الحافظ السيوطي: «وهذا لواء معنوي، والمراد أنه يشهر بالحمد في ذلك اليوم».اهـ، أي: لأنه يحمد الله بمحامد لم يحمده بها أحد قبله، ولأن أهل الموقف كلهم؛ آدم ومن دونه يحمدون موقفه في الشفاعة العظمى التي اختصه الله بها، ولهذا سمي أيضًا صاحب المقام المحمود قوله: «وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فَخْر» أي: أكثرهم كرامة عنده، وأوفرهم منزلة لديه، ولا فَخْر) أي: لا أقول هذا فخرًا ولكن تحدثا بالنعمة
وقياما بواجب التبليغ وإعلاما للأمة ليزدادوا حبالي واتباعًا لسُنَّتي. قوله في الرواية الثانية وأنا خطيبهم إذا أنصتوا» أي: من هيبه الله
وجلال الموقف وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: ۱۰۸] يَقومُ الرُّوحُ وَالْمَلَيْكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾ [النبأ: ۳۸]. قوله: «إذا حبسوا أي: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وهم وقوف
شاخصة أبصارهم ينتظرون ما يفعل بهم وما يقال لهم.
الأحاديث المنتقاة
۲۷۱
قوله: «إذا بلسوا» أي : أصيبوا بالإبلاس وهو الإنكسار والحزن من غم
ذلك اليوم، قوله: «لواء «الكرامة هو ما يعطى في ذلك اليوم من المزايا
والمكرمات، ومفاتيح الجنة كناية عن عدم دخول أحد لها قبله.
قوله: «يَطُوف عليَّ ألْفُ خادِم» إلخ، هذا بيان لبعض ما يُعطاه في الجنة،
و «البيض - بفتح الباء - بيض النعام، ومعنى (مكنون»: مستور بريشه لايصل إليها غبار، ولونه أحسن ألوان النساء، واللؤلؤ» معروف، ومعنى «منثور»:
منتثر غير مجموع في نظام، وذلك أنهنّ بطوافهن عليه وقيامهن بخدمته أَشْبَهن لؤلؤا متفرقا غير مجتمع، والله أعلم.
۲۳- حديث: «مَثَلي ومثل الأنبياء»
عن جابر عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء كمثل رجل بَنَى دارًا فأتمها وأكملها إلا مَوْضِع لَبِنَة فَجَعَل النَّاسِ يَدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا مَوْضِعُ اللَّبِنة». قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فأنا مَوْضِعُ اللَّبِنة جئتُ فخَتَمْتُ الأنبياء». رواه مسلم في "صحيحه"، ورواه أيضًا من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.
ورواه الترمذي من حديث أبي بن كعب، وزاد في آخره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنتُ إمام النبيين وخطيبهم
وصاحب شفاعتهم غير فَخْرِ» ثم قال: «حديث حسن». قوله: «مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء» المراد من ضرب المثل تقريب المراد للعقل،
وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تُصور المعاني بصورة الأشخاص،
۲۷۲
فضائل النبي
لأنها أثبت في الذهن لاستعانته فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من
التمثيل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد
قال الزمخشري: «التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء المتوهم من المشاهد، فإن كان الممثل له عظيم كان الممثل به مثله، وإذا كان حقيرا كان
الممثل به كذلك» . اهـ
وقال الأصفهاني: الضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء للنظائر، شأن ليس بالخفي في إبراز خفيَّات الدقائق، ورفع الأستار عن الحقائق، تُرِيك المتخيل في صورة المتحقَّق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه
مشاهد» . اهـ
فالمراد من ضَرب المثل في هذا الحديث بيان حاله صلَّى الله عليه وآله وسلّم مع حال الأنبياء قبله ، وذلك أن الأنبياء السابقين بعثوا لقومهم خاصة، فكانت شرائعهم محمودة تُناسب حالهم وزمنهم ، فمثلهم في ذلك مثل دار بُنيت وتم بناؤها إلا أنه ينقصها موضع لبنة، حتى جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم خاتما للنبوة، وبعث بشريعته تامة عامة لا يعتريها نسخ ولا تبديل، فكان مكانه من تلك الدار موضع اللبنة الناقصة فيه تم بناؤها وحَسُن مظهرها، واستوفت أوجه الكمال، ولهذا لم يبقَ الناس بعده في حاجة إلى نبي أو رسول، ويُستفاد من الحديث جواز ضرب المثل في العلم وغيره.
وقوله في الرواية الثانية: كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم
غير فَخر بفتح الفاء وكسر الخاء، أي: غير مُفتخر بذلك، على ما سبق بيانه. وللدارمي بإسناد رجاله ثقات عن جابر: «أنا قائد المرسلين ولا فَخْرَ، وأنا
الأحاديث المنتقاة
۲۷۳
خاتم النبيين ولا فَخْرَ، وَأَنا أَوَّلُ شَافِعِ وَأَوَّلُ مُشفّعٍ وَلَا فَخْرَ».
وفي هذه الروايات دليل تفضيله على الأنبياء والملائك؛ لأنَّ هذه الفضائل
التي أعطيها لم تُعط لنبي ولا مَلَك، صلى الله عليه وآله وسلم، وزاده تشريفا
وتعظيما وتكريما .
٢٤- حديث: «حوضى مسيرة شهر»
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «حَوْضِي مَسيرَةُ شَهرٍ وزواياه سواء - أي: طوله كعرضه- وماؤه أبيضُ من الورق وريحه أطيب من المِسكِ وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدًا».
عن
رواه البخاري ومسلم وأحاديث الحوض كثيرة بالغة مبلغ التواتر. قوله: «حوضي مسيرة شَهْرٍ :أي: مسيرته شهر طولا عرضًا وهذا كناية
عظمه وسعته.
قوله: «ماؤه أبيض من الورق بكسر الراء، أي: الفضة، وفي رواية: اللبن. قوله: «کیزانه کنجوم السماء»، وفي رواية أخرى: «والذي نفس محمد بيده لانيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها». قوله: «فمن شرب منه لا يظمأ بعده أبدا أي ظمأ ألم، ولكن يظمأ ظمأ اشتهاء والتذاذ، والظمأ العطش.
قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث أن الشرب من الحوض يكون بعد الحساب والنجاة من النَّار، فهذا هو الذي لا يظمأ بعده وقيل: لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النَّار، ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة
٢٧٤
فضائل النبي
وقدر عليه دخول النار لا يُعَذِّب فيها بالظمأ، بل يكون عذابه بغير ذلك». اهـ (تنبيه) أحاديث الحوض متواترة والإيمان به واجب كما نص عليه القاضي عياض والنووي وغيرهما، وجمع الحافظ البيهقي في كتاب "البعث والنشور" طرق حديث الحوض فأفاد، وأوصل الحافظ السيوطي عدد من رواه من الصحابة إلى خمسة وخمسين صحابيا، ذكر أسمائهم واحدًا واحدا، مع عزو أحاديثهم وتخريجها في كتاب "الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة" وأنكره المعتزلة، كما أنكروا الشفاعة والميزان (۱) لجهلهم بالسنة النبوية، والله
أعلم.
٢٥- حديث: إسلام قرينه صلى الله عليه وآله وسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «مامنكم مِن أحدٍ إِلَّا وقد وُكِلَ به قَرينُه من الجنّ وقَرينُه من الملائكة» قالوا: وإِيَّاك يارسول الله؟ قال: «وإياي، إلا أنَّ الله أعانني عليه أ فأسْلَمَ فلا يأمرني إلا بخير». رواه مسلم في "صحيحه".
قوله: «فأسلم» قال النووي: «برفع الميم وفتحها، روايتان مشهورتان، فمن رفع قال معناه : فأسلم أنا من شره وفتنته، ومن فتح قال: إن القرين أسلم
(۱) وقلدهم مبتدع أزهري، فأنكر الميزان في محاضرة له، كما قال في كلمة له نشرت بـ"مجلة الرسالة: إن الشيطان قوة الشر الكامنة في النفس». وله غير هذا طامات ومصائب، أراد بها الشهرة والظهور على حساب العلم والدين، وكم له في الأزهريين
من نظير.
الأحاديث المنتقاة
۲۷۵
من الإسلام، وصار لا يأمرني إلا بخير واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابي: «الصحيح المختار الرفع، ورجّح القاضي عياض الفتح، وهو المختار لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «فلا يأمرني إلا بخير».
واختلفوا في رواية الفتح، قيل أسلم بمعنى: استسلم وانقاد، وقد جاء هكذا في غير "صحيح مسلم: «فاستسلم، وقيل معناه: صار مسلما مؤمنا، وهذا هو الظاهر ، قال القاضى واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه» . اهـ
قلت: الصحيح الراجح ما ربَّحَه عياض والنووي: أنه أسلم من الإسلام (1) لما رواه البزار عن أبي هريرة مرفوعا: «فضّلتُ على الأنبياء
(۱) روى الطحاوي في مشكل الآثار" حديث ابن مسعود كما في "صحيح مسلم"، وروى من طريق مجاهد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: . : «لا تدخلوا على المغيَّبات جمع مُغَيَّبة وهي المرأة التي غاب عنها زوجها بسفر أو بغيره - فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم». قالوا: ومنك يارسول الله ؟ قال: «ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم.
وروي أيضا عن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة، وكان معي على فراشي، فوجدته ساجدًا ... وذكرت الحديث، قالت: فلما انصرف قال «يا عائشة أخدعك شيطانك؟ فقالت: أمالك شيطان؟ قال: «ما من آدمي إلا وله شيطان فقلت: وأنت يارسول الله؟ قال: وأنا، ولكني دعوت الله فأعانني عليه
فأسلم". قال الطحاوي: «فوقفنا بهذا على أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم كان في هذا
٢٧٦
فضائل النبي
بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانَني الله عليه حتى أسْلَمَ». ونسيت الأخرى. وللبيهقي في "الدلائل" بإسناد ضعيف، عن ابن عمر مرفوعا: «فُضَّلْتُ على آدم بخصلتين كان شيطاني كافرًا فأعانني الله حتى أسلم، وكنَّ أزواجي
عونا لي، وكان شيطان آدم كافرًا وزوجه عونًا على خطيئته».
وعلى هذا دَرَج أصحاب الخصائص فعدُّوا من خصائصه صلَّى الله عليه
وآله وسلم إسلام قرينه. وفي الحديث الإخبار بوجود القرين مع كل واحد لنحترز من وسوسته وفتنته، والله المستعان على ذلك وبالله التوفيق.
المعنى كسائر الناس، وأن الله أعانه بإسلامه فصار في السلامة منه بخلاف غيره من
الناس».
ثم قال الطحاوي: «فإن قال قائل: قد رُوي في هذا الباب شيء يجب الوقوف عليه لرفع التضاد عما خُصَّ به من إسلام شيطانه -ثم أسند من حديث صفوان الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: «بسم الله وضعت جنبي اللهم أغفر ذنبي واخسأ شيطاني وفك رهاني وأثقل ميزاني واجعلنى في الندى الأعلى قيل له: هذا عندنا - والله أعلم - كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قبل إسلام شيطانه، فلما أسلم استحال أن يدعو صلَّى الله عليه
وآله وسلم فيه بذلك مع إسلامه الذي هو عليه».اهـ، وهو جمع جيد، والله أعلم.
الأحاديث المنتقاة
٢٦- حديث: حياتى خير لكم
۲۷۷
عن ابن مسعودٍ أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حياتي خير لكم تُحدِثون ويُحدث لكم، ووفاتي خير لكم تُعرَضُ علي أعمالكم فما رأيتُ
من خيرٍ حَمَدتُ الله وما رأيتُ من شر استغفرتُ اللهَ لكم» (1) .
قوله: «حياتي خير لكم» أي: فيها خيرًا لكم، «تحدثون» بضم التاء وسكون الحاء وكسر الدال - أي: أمور وأشياء مما لم يكن فيها حكم، ويُحدث لكم - بضم الياء وفتح الدال المخففة - أي: يُحدث الله لكم من الأحكام بقدر ما حدث منكم مما يقتضي ذلك.
قوله: «ووفاتي خير لكم أي فيها خير لكم، ثم بين ذلك الخير بقوله: تُعرَضُ على أعمالكم وهذا لفظ عام يشمل عرض الأعمال من جميع الأمة إلا
(۱) رواه البزار بإسناد جوده الحافظ العراقي، وصححه الحافظ الهيثمي والجلال السيوطي والشهاب القسطلاني، ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب "الصلاة على النبي صلى الله عليه من حديث بكر بن عبد الله المزني مرسلًا بإسنادين أحدهما الحافظ ابن عبد الهادي المقدسي، وله مع هذا طرق كثيرة، وعرض
صحح
الأعمال عام لجميع المسلمين إلا طائفة من العصاة والمبتدعين سبق القضاء بنفوذ الوعيد فيهم لا تعرض أعمالهم عليه، فإذا دعاهم يوم القيامة إلى حوضه، قيل له: لا تدري ما أحدثوا من بعدك، فيقول: «سحقاً لمن بدل بعدي، سحقا لمن بدل بعدي» كما جاء في الصحيحين من طرق، وبهذا يتفق الحديثان، ولا يبقى بينهما تعارض البتة، أما ترجيح أحدهما على الأخر مع إمكان الجمع فغير جائز لأنه إلغاء لأحد الدليلين لغير مقتضى، وهو حرام كما نص عليه العلماء.
۲۷۸
فضائل النبي
من كان مرتداً أو كافرا، عياذا بالله تعالى، وهذا يستلزم حياته في قبره، لأن العرض يقتضي ذلك عقلا، فما رأيت من خير حمدت الله عليه وسررت به، وما رأيتُ مِن شر استغفرتُ الله لكم»، أي: طلبت المغفرة لكم من الله، وفيها تحريض على ترك المعاصي بطريق لطيف، لأنَّ من علم أن عمله يُعرض على نبيه، اجتهد أن يسره وألا يُحوجه إلى الاسغفار من عمله، وقد ذكرت هذا الحديث بإسناده، وأوردت بعض الطرق المؤيدة له في كتاب "الرد المحكم المتين" فليراجع
۲۷- حديث: إلا سببي ونسبي
(1)
عن جابر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للناس حين تزوج ابنة علي -رضي الله عنه - : ألا تُهنوني ؟!، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ينقطعُ يومَ القيامة كلُّ سَبَبٍ ونَسَب إِلَّا سَبَبِي ونسبي». رواه الطبراني والدراقطني، وقال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح،
غير الحسن بن سهل وهو ثقة قلت وصححه أيضًا التاج السبكي في أول "طبقات الشافعية الكبرى، وللحديث مع هذا طرق عن عمر وابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم، وقد أوردت هذه الطرق في كتابي "الرد المحكم "المتين" وجمعت بينهما وبين حديث الصحيحين «يافاطمة اعملي فإنِّي لا أُغنى عنكِ من الله شيئًا».
(۱) ثم أفردته بجزء سميته "نهاية الأمال في صحة وشرح حديث عرض الأعمال" وهو مطبوع، ولما اطلع عليه شقيقنا الحافظ أبو الفيض -رحمه الله - كتب إلي يقول: قلمك فيه مثل قلم الحافظ الذهبي».
الأحاديث المنتقاة
۲۷۹
قوله: ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب» وذلك لقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَيذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: ۱۰۱]، قوله: إلا نسبي وسببي» أي: فإنه موصول غير مفصول، وهذا من خصائصه صلَّى الله عليه وآله وسلّم كما ذكره الحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى" ولهذا حرص عمر بن خطاب - رَضِيَ الله عنه - على زواج ابنة على - رَضِيَ اللهُ عنه- واسمها أم كلثوم، ليكون له من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سـ صهارة ينال بها القرب منه يوم القيامة، وفي هذا دليل على فضل أهل البيت وأن نسبهم موصول في الدنيا والآخرة، وأن في الانتساب إليهم ومصاهرتهم شرفا وفضلا. وليس بين هذا الحديث وحديث فاطمة (۱) اعملي.... إلخ. تعارض أصلا فاطمة(۱)
سبب
(۱) لفظ الحديث: «يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت أنقذي نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئًا». وهذا طرف من حديث طويل، ثبت في الصحيحين وغيرهما، وحاصل الجمع بينه وبين حديث الترجمة من وجوه ثلاثة: الأول: أن هذا الحديث أخبر بالحقيقة، فإنه صلَّى الله عليه وآله وسلّم لا يغني عن أحد من الله شيئًا ولا يملك لأهله ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرا، وهذا لا ينافي أن الله يملكه نفع أقاربه وجميع أمته بالشفاعة الخاصة والعامة، وقد فعل فأعطاه عدة شفاعات، كما ثبت في الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما، فهو لا يملك إلا ما يملكه له مولاه عزَّ وجلَّ، وقد ملكه الله الشفاعة وغيرها من المكرمات، ذكر هذا
المعنى الحافظ المحب الطبري في "ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى".
الثاني: أن هذا الحديث كان قبل أن يعلمه الله أنه ينفع يوم القيامة رحمه وأقاربه
۲۸۰
كما
فضائل النبي
بينته في "الرد المحكم المتين من ثلاث أوجه، وبينت فساد ما يزعمه
بالانتساب إليه دون غيره، ذكره السيد السمهودي في "جواهر العقدين"، ويؤيده أن الحديث ورد عند نزول قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [الشعراء: ٢١٤] وكان ذلك بمكة في أوائل بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
الثالث: أن يكون المقصود من الحديث تحذيرهم من الشرك، وأنه لا يملك لهم من الله شيئًا إن أشركوا، أو استمر من كان منهم مشركًا على إشراكه، لأنَّ المشرك لا حظ له
في الشفاعة، ويؤيد هذا أمور:
أحدها: أن أغلب أقاربه كانوا إذ ذاك مشركين، كما يعلم سبب ورود الحديث. ثانيها: أنه وجه الخطاب إلى جميع أقاربه مؤمنيهم ومشركيهم، فوجب أن يكون على وتيرة واحدة وهي التحذير من الشرك كما هو واضح. ثالثها: ما ثبت في الصحيح في قصة وفاة أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «أي عم قل: لا إله إلا الله كلمة أُحاج لك بها عند الله». فأفاد هذا الحديث أنه يملك نفعه ويحاج عنه إذا هو مات على التوحيد.
وقد روى أحمد والحاكم والبيهقي من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر: «ما بال رجالٍ يقولون: إنَّ رحِمَ رسول الله لا تنفع يوم القيامة؟! بلى والله إن رحمي موصولةٌ في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فَرَط لكم على الحوض». فهذا الحديث ورد بالمدينة، وقد أنكر فيه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على من زعم أ
أنه
لا ينفع رحمه ولا يملك الشفاعة لهم وقرر أن رحمهم موصولة في الدنيا والآخرة، وأنه بجانب هذا ينفع أمته أيضًا، حيث يكون فرطًا لهم على الحوض وهذا يؤيد ما قررناه، والحمد لله.
الأحاديث المنتقاة
۲۸۱
الوهابية الجهلة أعداء أهل البيت النبوي الشريف، فليراجعه من أراد، والله ولي
التوفيق والسداد.
۲۸- حديث: إنزال الملائكة تقاتل معه
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيتُ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وعن يساره يوم أُحُدٍ رجلين عليهما ثياب بيض يُقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني: جبريل وميكائيل
عليهما السلام. رواه البخاري ومسلم.
قوله: «عليهما ثياب بيض بكسر الباء - وفي رواية أخرى ثياب بياض قال النووي: «في هذا الحديث بيان كرامة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على الله تعالى، وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه وبيان أن الملائكة تقاتل) وأن قتالهم لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب خلافًا لمن زعم اختصاصه، فهذا صريح في الرد عليه، وفيه فضيلة الثياب البيض ، وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء بل يراهم الصحابة والأولياء، وفيه منقبة لسعد ابن أبي وقاص الذي رأي الملائكة» . اهـ ولقد رأى جماعة من الصحابة جبريل عليه السَّلام في صورة دحية منهم : ابن عباس وعائشة وأم سلمة، وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين حتى اكتوى، ثم لما زال الكي عادت إلى السّلام عليه كما بينته في كتاب "الحجج البينات في إثبات الكرمات" وبالله التوفيق.
(۱) وأنهم متعبدون بشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أحد الأدلة على أنه أرسل إلى الملائكة.
۲۸۲
فضائل النبي
۲۹- حديث آتى باب الجنّة يوم القيامة
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «آتي بابَ الجنَّةِ يومُ القِيامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فيقولُ الخازنُ: مَن أنتَ؟ فأقول: محمد، فيقول: بِكَ أُمِرْتُ
ألا أفتح لأحد قبلك». رواه مسلم في "صحيحه".
قوله: «فيقول بك» أي: بسببك، ولأجلك أمرت، أي: أمرني الله ألا أفتح باب الجنة لأحد قبلك، لا من الأنبياء ولا من غيرهم، فهو أول من يقرع باب الجنة، وأول من يدخلها، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره العلماء. وهذا الحديث رواه مسلم في كتاب الإيمان في "صحيحه"، وراوه الإمام أحمد أيضًا، وهو أول حديث في الجامع الصغير"، و"الجامع الكبير" للحافظ السيوطي، والله أعلم.
٣٠- حديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إن جبريل عليه السَّلام، كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسله. رواه البخاري
ومسلم.
وفي الصحيحين أيضًا عن جابر بن عبدالله قال : ما سُئل رسول الله صلَّى الله
عليه وآله وسلم شيئًا قط فقال : لا .
الأحاديث المنتقاة
۲۸۳
قوله: «أجود ما يكون في شهر رمضان رُوي برفع أجود ونصبه، قال النووي: «والرفع أصح وأشهر»، وفي هذا الحديث -كما قال النووي- فوائد، منها: «بيان عظم جوده صلَّى الله عليه وآله وسلّم واستحباب إكثار الجود في شهر رمضان، وزيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم، ومنها: استحباب مدراسة القرآن». اهـ وفي "زاد المعاد" لابن القيم ما نصه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعظم الناس صدقه بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئًا أعطاه الله تعالى ولا يستقله، ولا يسأله أحد شيئًا عنده إلا أعطاه، قليلا كان أو كثيرًا، وكان عطائه عطاء من لا يخشى الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الأخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة.
وكان إذا عَرَضَ له مُحتاجُ أَثَره على نفسه، تارة بطعامه وتارة بلباسه، وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء، ثم يعطي البائع الثمن والسلعه جميعا، كما فعل بجابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أفضل منه أكثر وأكثر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافيء عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعًا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن.
وكانت صدقاته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله، فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقه ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك
٢٨٤
فضائل النبي
نفسه من السماحة والندى.
وكان هديه صلى الله عليه وآله وسلّم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف، ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم أشرح الخلق صدرًا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبًا، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبًا في شرح الصدور، وأضيف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره للنبوة، والرسالة وخصائصها وتوابعها، وشرح صدره حسّا وإخراج حظ الشيطان منه».اهـ وهو نفيس جدا.
قوله: «ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا قط، فقال: لا» معناه كما قال العلماء: أنه إذا كان عنده شيء أعطاه للسائل، وإن لم يكن عنده سكت أو وعد بالعطاء، ولا يقول: لا، لما في هذه الكلمة من قطع طمع السائل وكسر خاطره، وما كان من خُلقه صلَّى الله عليه وآله وسلّم قطع رجاء من أمله أو رده خائبا :
حاشاه أن يحرِمَ الرَّاجي مكارمه أو يرجع الجارُ منه غير مُحترَمِ
وإذا كان الفرزدق يقول في علي زين العابدين عليه السّلام: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
فما ظنك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!
فإن قيل: هذا ينافي قوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحْمِلَهُمْ قلت لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ [التوبة : ٩٢] حيث أثبتت الآية الكريمة ضد ما أفاده هذا الحديث.
الأحاديث المنتقاة
٢٨٥
فالجواب: أنه لا منافاة بينهما لأنَّ الآية لم تُثبت له قول «لا» المجردة الدالة على عدم الإعطاء، وإنما أثبتت قول: «لا» المقرونة بالفعل المضارع الدال على الحال، أي: لا أجد الآن ما أحملكم عليه، وأرجو في المستقبل، فهو في معنى العِدة كما لا يخفى، والله أعلم.
۳۱- حديث: أكثروا من الصلاة علي
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أكثروا من الصَّلاةِ عليَّ يوم الجمعة؛ فإنَّه يوم مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلّي عليَّ إِلَّا عُرِضَتْ على صلاته حتى يفرغ منها». قال: قلت وبعد الموت؟ قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله حرَّم على الأرضِ أن تأكل أجساد الأنبياء».
رواه ابن ماجه والطبراني بإسناد جيد، ورواه ابن المقري من طريق آخر، وزاد في آخره من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فنبي الله حي يرزَقُ». ولأحمد وأبي داود وابن ماجه من حديث أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مِنْ أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خُلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليَّ مِن الصَّلاةِ فيه فإنَّ صلاتكم معروضة على» قالوا: يارسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرَمتَ ؟ - يعني: بليت فقال: «إنَّ الله عزّ وجلَّ حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء». صححه ابن حبان والحاكم.
قوله: «أكثروا مِن الصَّلاةِ عليَّ يومَ الجمعة فإنَّه يوم مشهود تشهده
٢٨٦
فضائل النبي
الملائكة أي: يأتون أبواب المساجد ويكتبون الأول فالأول حتى إذا خرج
الإمام طووا الصحف وقعدوا يستمعون الذكر (۱).
قوله: «وإن أحدًا لن يصلي علي إلا عُرضت علي صلاته» من أول ما ينطق بها حتى يفرغ منها بأن تبلغه الملائكة إليه فيدعو للمصلين عليه ويستغفر لهم، كما جاء في حديث عمر عند ابن بَشِّكُوال، والحكمة في تخصيص كثرة الصلاة عليه بيوم الجمعة أنه أفضل الأيام كما صح في الحديث، وهو أفضل المخلوقات، فكانت بينهم مناسبة ظاهرة.
قوله: «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» كناية عن عدم
لحوق البلى لأجسادهم الشريفة، مهما تطاول عليهم الزمان. قوله: «فنبي الله حي يرزق هذا مأخوذ من القرآن الكريم، فإن الله تعالى
قال: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )
114)
فَرِحِينَ بِمَا ءَ اتَنهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا هِم ﴾ [آل عمران: ۱٦٩ - ۱۷۰] ، والأنبياء أولى بهذا من الشهداء إجماعا. وفي الصحيح: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم مرَّ ليلة الإسراء على
موسى وهو قائمٌ يُصَلِّي في قبره». أخرجه مسلم عن أنس.
ولأبي يعلى بإسناد . صحیح
يُصلُّون».
عن أنس مرفوعا: «الأنبياء أحياء في قبورهم
(١) أي: الخطبة، وهو يفسر ذكر الله في آية الجمعة، فالسعي إلى خطبة الجمعة واجب، ولا
عبرة بمن قال خلاف ذلك، والحديث يفيد أن الملائكة متعبدون بحضور خطبة الجمعة.
الأحاديث المنتقاة
۲۸۷
وفي الباب أحاديث ذكر الحافظ البيهقي جملة منها في جزء "حياة الأنبياء"، وهو مطبوع ، بل بلغت في الكثرة إلى حد التواتر كما نص عليه الحافظ السيوطي في "مرقاة الصعود حاشية سنن أبي داود"، وفي إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء"، وأدرجها شيخ بعض شيوخنا العلامة المحدث أبو عبد الله السيد محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "نظم" المتناثر من الحديث المتواتر". وذكر القرطبي، ووافقه ابن القيم: أن حياة الأنبياء في قبورهم مقطوع بها، وذلك لتواتر أحاديثها كما بينا، ولانعقاد الإجماع عليها حكاه ابن حزم في "المحلى"، والحافظ السخاوي في "القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع"، وانظر كتابي " الرد المحكم "المتين" فقد حررت فيه هذا البحث تحريرا
وافيا.
قوله في حديث أوس: «فيها خلق آدم... إلخ، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة مرفوعا: خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه دخل الجنة وفيه أخرج منها». ولأحمد وابن ماجه بإسناد حسن عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعا: «إن الجمعة سيّد الأيام وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى
يوم
ويوم الفطر وفيه خمس خلال خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يَسْأل الله فيها العبد شيئًا إلا أعطاه إياه ما لم يَسْأل حراما، وفيه تقوم الساعةُ، ما من مَلَكِ مقرب ولا سماء ولا أرض ولا
رياح ولا جبال ولا بحر، إلا وهنَّ يُشْفِقْنَ مِن يومِ الجُمُعَةِ».
۲۸۸
فضائل النبي
ولابن خزيمة وابن حِبَّان عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة وما من دابة إلا وهي تفزع يوم الجمعة إلا هذين الثقلين الجن والإنس
قوله: «أَرَمتَ» - بفتح الهمزة والراء - أي: صرت رميما، وإنما قالوا ذلك لعدم علمهم بما خص الله الأنبياء بعد وفاتهم، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أن الأنبياء لا يبلون، فهو صلَّى الله عليه وآله وسلم حي في قبره الشريف تعرض عليه أعمال أمته ومنها صلاتهم عليه، وإذا سلَّم عليه أحد رد عليه السلام كما ثبت في أحاديث أخرى.
وروى البيهقي في جزء "حياة الأنبياء" عن سليمان بن سحيم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في النوم فقلت: يارسول الله هؤلاء الذين
يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: «نعم، وأرد عليهم».
وروى أبو نعيم عن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: لقد رأيتني ليالي الحرة، وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر، وللزبير بن بكار في "أخبار المدينة"
عن سعيد نحوه.
قوله: صححه ابن حِبَّان والحاكم قلت : قال الحاكم بعد أن روى هذا الحديث: صحيح على شرط البخاري»، وسلَّمه الحافظ الذهبي، والله أعلم.
الأحاديث المنتقاة
تنبيهات
۲۸۹
(التنبيه الأول): قال القاضي عياض: اعلم أنَّ الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فرضٌ على الجملة غير مُحدَّدٍ بوقت؛ لأمر الله تعالى بالصلاة عليه، وحمله الأئمة والعلماء على الوجوب (۱) وأجمعوا عليه».اهـ
والواجب منها تكفي فيه مرة واحدة، وما زاد عليها فهو مندوب مرغب فيه لأنه من شعار الإسلام، وأما الصلاة عليه في التشهد الأخير من الصلاة فذهب الشافعي إلى وجوبها وقال تبطل الصلاة بتركها»، ووافقه محمد بن المؤاز من أئمة المالكية، وذهب جمهور العلماء إلى أنها سُنَّة لا تبطل الصلاة
بتركها.
تتأكد
في
التنبيه (الثاني: تُسَنُّ الصلاة في سائر الأزمان والأمكنة، لكن : حالات خاصة وردت بها السُّنَّة مثل يوم الجمعة كما ذكر في حديث الترجمة. قال الحافظ ابن حجر: تتأكَّد الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم
في مواضع ورد فيها أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جياد عقب: (۱) إجابة المؤذن، (۲) وأول الدعاء، (۳) وأوسطه، (٤) وآخره، وأوله آكد، (٥) وآخر القنوت (٦) وفي أثناء تكبيرات العيد، (۷) وعند دخول
(۱) قال بعض العارفين:
اللهُ عَظَمَ قَــدرجــاه محمد وأناله فَضْلًا لَدَيْهِ عَظِيما في محكم التنزيل قال لخلقه صَلُّوا عليه وسَلَّموا تسليما
(۱) هذا أصل لما اعتاد أهل المغرب من إطلاق لفظ الأولى على الظهر
۲۹۰
فضائل النبي
المسجد، (۸) والخروج منه، (۹) وعند الاجتماع (۱۰) والتفرق، (۱۱) وعند السفر، (۱۲) والقدوم، (۱۳) والقيام لصلاة الليل، (١٤) وختم القرآن، (١٥) وعند الكرب والهم، (١٦) وقراءة الحديث، (۱۷) وتبليغ العلم،
(۱۸) والذكر، (۱۹) ونسيان الشيء.
وورد أيضًا في أحاديث ضعيفة:
(۲۰) عند استلام الحجر ، (۲۱) وطنين الأذن، (۲۲) والتلبية، (۲۳) وعقب الوضوء، (٢٤) وعند الذبح، (٢٥) والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضا». اهـ ومن المواضع التي تتأكد فيها أيضًا:
(٢٦) التشهد الأول في الصلاة، (۲۷) وبعد التكبيرة الثانية في صلاة الجنازة، (۲۸) وفي خطب الجمعه ،والعيدين (۲۹) وعند ذكره، (۳۰) وعند الخروج إلى السوق أو إلى دعوة (۳۱) وعند رؤية المساجد والمرور عليها، (۳۲) وعند كتابة اسمه الشريف، (۳۳) وفي أول النهار وآخره، (٣٤) وعقب الذنب، (٣٥) وإذا أريد تكفيره ، (٣٦) وعند حصول الفقر أو خوف حصوله، (۳۷) وعند خطبة النكاح (۳۸) وعند دخول المنزل، (۳۹) وعند عروض الحاجة وأريد قضاؤها، (٤٠) وعند النوم، (٤١) وإذا أراد الشخص الصدقة ولم يكن عنده مال، (٤٢) وفي الصلاة إذا مر ذكره حال القراءة في غير التشهد (٤٣) وعند كل كلام خير ذي بال. وقد ذكر الحافظ ابن القيم في "جلاء الأفهام" والحافظ السخاوي في "القول البديع" هذه المواضع مع إيراد ما ورد فيها من الآثار، وكلا الكتابين
الأحاديث المنتقاة
مطبوعان.
۲۹۱
الثالث: قال أبو العالية : معنى صلاة الله تعالى على نبيه ثناؤه وتعظيمه»، ونقل القاضي عياض عن بكر القشيري قال: الصلاة على النبي من الله تشريف وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبي رحمة».
وقال الحليمي في "شعب الإيمان " -وهو كتاب نفيس ينقل عنه البيهقي كثيرًا في كتاب "الأسماء والصفات" -: «أما الصلاة في اللسان فهي التعظيم، وذكر كلاما في هذا المعنى إلى أن قال: «فإذا قلنا اللهم صل على محمد، فإنها نريد اللهم عظم محمدًا في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كافة المقربين الشهود». اهـ قال الحافظ : «ولا يعكّر عليه عطف آله وأزواجه وذريته عليه، فإنه لا
يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم، إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به» . اهـ وأما تفسير الصلاة عليه بالرحمة أو المغفرة فقد أبطله ابن القيم وخطأ
قائله من عدة وجوه قوية ذكرها في "جلاء الأفهام".
قال القاضي عياض: وفي معنى السَّلام عليه ثلاثة وجوه: الأول: السلامة لك ومعك ويكون السَّلام مصدرًا كاللذاذ واللذاذة. الثاني: السَّلام على حفظك ورعايتك مثول له وكفيل به، ويكون السلام هنا اسم الله تعالى.
الثالث: أن السَّلام بمعنى المسالمة له والانقياد كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ
۲۹۲
فضائل النبي
لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: ٦٥] . اهـ
الرابع: قال الشيخ مصطفى التركماني في شرح مقدمة أبي الليث ما نصه: فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى أمرنا أن نصلي عليه، ونحن نقول: اللهم صل على محمد، فنسأل الله تعالى أن يصلي عليه ولا نصلي عليه نحن بأنفسنا، أن يقول العبد: أصلي على محمد؟ قلنا: لأنه صلى الله عليه وآله وسلّم طاهر لا عيب فيه، ونحن فينا المعايب والنقائص، فكيف يثني من فيه معايب على طاهر ؟! فنسأل الله تعالى أن يصلي عليه لتكون الصلاة من رب طاهر على
يعني
نبي طاهر، كذا في المرغيناني . اهـ
ومن حكمة ذلك أيضًا كما ذكره أبو اليمن ابن عساكر وغيره: «أننا لا نبلغ
قدر الواجب من ذلك ولا نعرف ما يليق به فوكَلْنَاها إلى الله تعالى لأنه يعلم
ما يليق بنبيه، فهو كقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا أُحصي ثناء عليك». ومباحث الصلاة عليه صلَّى الله عليه وآله وسلم من حيث فضلها ومواضعها وفوائدها وغير ذلك واسعة منتشرة، أفردت بتأليف عديدة، ومن أحسنها وأجمعها "جلاء الأفهام في الصَّلاة والسَّلام على خير الأنام" لابن القيم، وأجمع منه كتاب القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع" للحافظ السخاوي، وهو كتاب نفيس لا يستغنى عنه ، وقد جمع النبهاني مقاصد هذين
الكتابين وغيرهما في كتاب سعادة الدارين" فجاء كتابا حافلا،
مؤلّفه، وجزاه عن صنيعه خير الجزاء، وبالله التوفيق.
الله
الأحاديث المنتقاة
۲۹۳
۳۲- حديث: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم شيئًا قط
عن
بيده»
عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضَرَبَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم شيئًا قطُّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم الله عزّ وجل». رواه مسلم في "صحيحه".
قوله: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا قط بيده ولا
امرأة ولا خادما» فيه دليل على حسن خلقه وكرم طبعه وكثرة حلمه. وفي الصحيح عن أنس : كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم أحسن الناس خُلقا».
وقال أنس أيضًا : خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع سنين
فما أعلمه قال لي: لم فعلت كذا وكذا، ولا عاب علي شيء قط».
والخبر عن حلمه صلى الله عليه وآله وسلم وصبره وعفوه عند المقدرة أكثر من أن يحصر، ويكفي دليلا على ذلك قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }
[القلم: ٤].
قوله: «إلا أن يجاهد في سبيل الله فيكون الضرب حينئذ في طاعة الله
ومرضاته.
قوله: «إلا أن يُنتَهَك شيء من محارم الله وهذا اسثناء منقطع، والمعنى: لكن إذا انتهك شيء من محارم الله انتصر الله تعالى، وانتقم ممن ارتكب ذلك فيكون منتقها الله لا لنفسه.
٢٩٤
فضائل النبي
وفي الحديث استحباب الرفق واللين والحث على العفو والحلم واحتمال
الأذى، وترك ضرب الزوجة والخادم وإن كان مباحًا، والانتصار لدين الله تعالى، وعدم التساهل مع من ارتكب محرّما ونحوه، وأنه للأئمة ينبغي والقضاة والولاة أن يتخلقوا بهذا الخلق الكريم، فلا ينتقموا لأنفسهم ولا
يتساهلوا في حق الله تعالى، إلى غير ذلك مما بينه العلماء، والله أعلم.
۳۳- حديث: «ما مَسَسنت حريرًاً ولا ديباجًا الْيَنَ من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن أنس قال: «ما مَسَسْتُ حريرًا ولا ديباجا اليَنَ من كفَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولا شَمَمْتُ مِسْكًا ولا عنيرًا أطيب من ريح رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم». رواه البخاري ومسلم.
وفي "صحيح مسلم " عن أنس أيضًا قال: «دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال عندنا - نام نوم القيلولة- فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العَرَق، فاستيقظ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «يا أمّ سليم، ما هذا الذي تَصْنَعين؟!» قالت: هذا عَرَقٌ نجعله لطيبنَا وهو أ أطيب
الطيب».
قوله: «ما مسست حريرًا ولا ديباجا... إلخ، فيه دليل على لين مسه وطيب ريحه وعرقه، قال النووي: قال العلماء: كانت هذه الريح الطيبة صفته صلى الله عليه وآله وسلَّم وإن لم يَمَسَّ طيبًا ومع هذا فكان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات مبالغة في طيب ريحه لملاقاة الملائكة، وأخذ الوحي الكريم ومجالسة المسلمين». اهـ
الأحاديث المنتقاة
۲۹۵
وفي "صحيح مسلم" أيضًا من طريق آخر عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أزهر اللون كأن عَرَقَه اللؤلؤ، إذا مشى تكفَّاً، ولا مَسَسْتُ ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شَمَمْتُ مِسْكَة ولا عَنْبَر أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
وقوله: «دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عندنا...» إلخ، معناه ظاهر وله طريق آخر في الصحيح أيضًا، وللدارمي والبيهقي وأبي نعيم عن جابر قال: كان في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خصال: لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عَرَقه أو عرفه - بفتح
العين، أي ريحه ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له».
وأخرج أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال : يارسول الله إني زوجت ابنتي وأحب أن تعينني، قال: «ما عندي شيء ولكن إئتني بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة»، فأتاه بهما، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يَسْلت العَرَق من زراعيه حتى امتلأت القارورة، قال: «فخذها ومر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة وتتطيب به، فكانت إذا تطيبت به يشم أهل المدينة رائحة ذلك الطيب، فسُمُّوا بيت المطيبين».
وروى عبدان في "الصحابة"، والخطيب في "المؤتلف" من طريق أبي بكر ابن عياش، عن حبيب بن حدرة عن حريش - بفتح الحاء المهملة - قال: كنت مع أبي حين رجم النبيُّ ماعزًا فلما أخذته الحجارة أُرعِدْتُ فَضَمَّني النبي صلى الله
٢٩٦
فضائل النبي
عليه وآله وسلَّم إليه، فسال عليّ من عَرَقِه»، قال: «مثل ريح المسك». وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم صلاة الأولى (۱) - أي: الظهر - ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه فاستقبله ولدان جمع وليد، أي: صبيان فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدي فوجدتُ ليده بردًا أو ريحا كأنها أخرجهما من جؤنة عطار».
والجؤنة - بضم الجيم وبالهمز وعدمه - سليلة مستديرة يجعل العطار فيها
ما عنده من الطيب.
وروى ابن الأعرابي في جزء "القبل" عن أسامة بن شريك قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وعنده أصحابه على رؤوسهم الطير، فجاء الأعراب فسألوا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، ثم قام وقام الناس فجعلوا يقبلون يده فأخذتها فوضعتها على وجهي فإذا هي أ ، أطيب من ريح المسك وأبرد من الثلج. إسناده قوي. وفي "صحيح مسلم عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يَدْخُل بيت أم سُلَيم فينام على فراشها وليست فيه، فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأُتِيَت بكسر التاء الأولي فقيل لها هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم نام في بيتك على فراشك، فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم بوزن عظيم - على الفراش ففتحت عتيدَتها - بفتح العين، صندوق
(۱) هذا أصل لما اعتاد أهل المغرب من إطلاق لفظ الأولى على الظهر
الأحاديث المنتقاة
۲۹۷
صغير تجعل المرأة فيه ما يعز من متاعها - فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره
في قواريرها ففزع - فاستيقظ - النبي فقال: «ما تصنعين يا أم سُلَيم؟!» فقالت: يارسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: «أصبت».
وفي هذا الحديث استحباب التبرك بآثاره صلَّى الله عليه وآله وسلم وقد
وردت في ذلك أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، والله أعلم.
34- حديث: وجوب محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لا يؤمن عبدٌ حَتَّى أكونَ أَحَبَّ إليه مِن وَلَدِهِ ووالِدِهِ والنَّاسِ أجمعين». رواه البخاري ومسلم.
قوله: «لا يؤمن أحدكم حتَّى أكون أحبَّ إليه من وَلَدِه.... إلخ، قال القاضي عياض وابن بطال وغيرهما: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ومحبة رحمة وشفقة كمحبة الولد ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر
الناس، فجمع صلى الله عليه وآله وسلم أصناف المحبة في محبته» . اهـ وقال الخطابي : الميرد بالحديث حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار، لأن حب الإنسان لنفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه، فمعنى الحديث: لا تصدق في
حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه
هلاكك» . اهـ
وقال ابن بطال : معنى الحديث: أن من أستكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين،
۲۹۸
فضائل النبي و
لأنَّ به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استنقذنا من النَّار وهدينا من الضلال» . اهـ وقال القاضي عياض في شرح مسلم : (ومن محبته صلى الله عليه وآله
سنته (۱) وسلم نصرة . والذب عن شريعته وتمني حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه»، قال: «وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك، يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ومنزلته على والد وولد وتحسين ومُفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن» . اهـ
ولا
وفي "صحيح البخاري": عن عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم: لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لن يؤمن أحدكم أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلى من نفسي التي بين جنبي، فقال له النبي: «الآن يا عمر»(۲). رواه البخاري في كتاب الإيمان والنذور.
وروى ابن إسحاق في "السيرة" ، والبيهقي في "الدلائل": «أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالوا: خيرا، هو
(۱) فالمقلدون الذين يقدمون أقوال أئمتهم على الحديث ويتمحلون في تأويل النصوص وتحريفها لتوافق مذهبهم؛ لا يحبون النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وإن ادعوا محبته
بلسانهم.
(٢) أي: الآن تم إيمانك يا عمر.
الأحاديث المنتقاة
۲۹۹
بحمد الله كما تحبين فقالت أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت كل مصيبة
بعدك جَلَل». أي: صغيرة.
وقال علي رضي الله عنه: «كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحب
إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ». قال سهل بن عبد الله التستري: من لم ير ولاية الرسول عليه في جميع الأحوال ويرى نفسه في ملكه صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يذوق حلاوة سنته، لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب
إليه من نفسه... الحديث» . اهـ
وقال القرطبي: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمانا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، إلا أنهم متفاوتون فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبًا في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر لما وقر في قلوبهم من محبته . عبته صلى الله عليه وآله وسلم، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات». انتهى. وما أحسن قول ابن أبي المجد: ألا يا يُحِبُّ المصطفى زِدْ صَبابَة وضَمَّحَ لسانَ الذَّكرِ مِنْكَ بِطِيبه ولا تعبان بالمبطلين فإنَّما علامَةُ حُبُّ اللَّهِ حُبُّ حَبِيبِهِ
۳۰۰
فضائل النبي
والكلام في محبته صلَّى الله عليه وآله وسلم بحر واسع نقتصر من جواهره
على ما التقطناه، وما توفيقنا إلا بالله
٣٥- حديث: من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم دخل النار عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيُّ، وَلَا نَصْرَانِ، ثُمَّ يَمُوتُ ولم يُؤْمِنُ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كان من أصحابِ النَّارِ». رواه مسلم في "صحيحه". قوله: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد...» إلخ، معناه واضح
وفيه دليل على أمور:
أحدها: جواز القسم على الأمور المهمة لتأكيدها وتثبيتها في ذهن السامع. ثانيها: أن الإيمان به موقوف على بلوغ الدعوة، فلو فرض وجود شخص في بعض المجاهل لم تبلغه دعوة الإسلام؛ يكون معذورًا على الصحيح المقرر في علم الأصول.
ثالثها: نسخ الملل كلها برسالته صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ثابت
بالقرآن والسنه المتواترة وإجماع الأمة فمنكره كافر بلا خلاف. رابعها: أن الإيمان به صلَّى الله عليه وآله وسلم شرط أساسي في النجاة من النَّار، فكل من لم يؤمن به دخل النار خالدا فيها أبدًا، قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخَسِرِينَ [آل عمران: ٨٥] وبهذا نطقت السنة المتواترة وانعقد عليه إجماع الأمة، فلا حظ ليهودي ولا
نصراني في دخول الجنة أبدًا، ومن شك في هذا فليس مسلما، وبالله التوفيق.
الأحاديث المنتقاة
۳۰۱
٣٦- حديث: «ما حرَّم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما حرم الله»
عن المقدام بن مَعْدِي كَرِبٌ :قال حرَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشياء يوم خَيْبَر من الحمار الأهلي وغيره، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «يوشك أن يقعد الرجلُ منكم على أريكته يُحدَّثُ بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استخلَلْناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرَّم الله». رواه أبو داود والحاكم والبيهقي
بإسناد صحيح. وفي رواية للبيهقي: «ألا إني أوتيتُ الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحَرِّموه ، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي.... الحديث. وفي "مسند أبي يعلى عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عسى أ ، أن يُكَذِّبَني رجلٌ منكم وهو متكئ على أريكته يبلغه الحديث عني فيقول: ما قال رسول الله هذا دَع هذا وهاتِ ما في القرآن». وللحديث
طرق.
قوله: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أشياء يوم خَيْبَرَ من الحمار الأهلي وغيره ، وروى أحمد عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع والمجثّمة - بضم الميم وفتح الثاء المشددة، كل حيوان يُمسك ويجعل غرضًا للرمي حتى يموت- والحمار الإنسي». صححه الترمذي.
۳۰۲
فضائل النبي
ولأحمد والترمذي بإسناد لا بأس به عن جابر قال: «حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم - يعني يوم خيبر - لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب - بكسر الميم وفتح اللام من الطير». زاد في حديث العرباض بن سارية عند أحمد بإسناد لا بأس به: «تحريم المخلسة». وهي بضم الميم وسكون اللام الفريسة يستنقذها الرجل من الذئب أو السبع فتموت في يده قبل أن يذكيها، فبان بهذه الروايات ما أبهمته
رواية حديث الترجمة.
قوله: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته» أي: سريره، «يُحدث»: بالبناء للمجهول، أي: يحدثه أحد بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله ... هذا من أعلام النبوة فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم، وظهر مبتدعة ملحدة يُنكرون الحديث النبوي عملا واحتجاجًا، ويَزْعُمون أن الحُجَّة
في القرآن خاصة، فإن ذكرت لهم قوله تعالى: وَمَا الكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: ٧] قالوا: يعني في القرآن لا في غيره، وهكذا كل آية فيها الأمر بطاعة الرسول يحملونها على طاعته في القرآن فقط.
ومنهم من يحتح لهذا الرأي الفاسد بحديث: «ماجاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله». وهذا حديث مكذوب. قال الإمام الشافعي: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير ولا
كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول».
وقال يحيى بن معين: «هو حديث موضوع، وضعته الزنادقة».
الأحاديث المنتقاة
۳۰۳
وقال عبدالرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: ما أتاكم
عني فاعرضوه على كتاب الله.
وقال البيهقي في "المدخل": «هذا حديث باطل لا يصح، وهو ينعكس
.
على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن». وقال الحافظ بن عبدالبر في كتاب "العلم": «هذه الألفاظ لا تصح عن النبي صلى الله عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه».
و عارضه ابن حزم فقال: «عرضنا هذا الحديث على كتاب الله فخالفه، لأنا وجدنا كتاب الله تعالى يقول: وَمَا الكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فانتهوا ﴾ [الحشر: ٧] ووجدنا فيه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }
[آل عمران: ۳۱] و وجدنا فيه من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: ٨٠]. وقد أوردت طرق هذا الحديث الباطل، وبينت عِللها في كتاب "الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج" في الأصول.
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول : اتفق من يُعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه . ه صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه أي أوتيت القرآن وأوتيت مثله . من السنة التي لم ينطق بها القرآن، وذلك كتحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم كل ذي ناب من
السباع ويجلب من الطير وغير ذلك مما لم يأت عليه الحصر» . اهـ قلت: وقد انعقد إجماع الأئمة والعلماء على العمل بالسنة المطهرة
٣٠٤
فضائل النبي
والاحتجاج بها في أصول الدين وفروعه إلا ماكان من بعض المبتدعة الزنادقة الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسوله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، فإنهم خرجوا عن إجماع المسلمين ولمزوا السنة وناقليها وأعرضوا عنها، فتصدى الأئمة للرد عليهم، وبيان زيغهم وضلالهم، فللإمام الشافعي في ذلك كلام طويل جميل، ذكره في "الرسالة" ونقله البيهقي في "المدخل"، وعلق عليه بما يؤيده من الأحاديث والآثار، فزاده حسنًا على حسن.
وللإمام أحمد بن حنبل كتاب خاص في الرد عليهم، وفي كتاب "العلم" للحافظ ابن عبد البر باب خاص في هذا المعنى، ذكر فيه من نصوص الأئمة ما فيه الكفاية، وللحافظ السيوطي رسالة مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" وهي مطبوعة، ذكر أنه ألفها بسبب رافضي زنديق سمعه يقول: إن السنة لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن ،خاصة وهي رسالة مفيدة قيمة، وللقاضى عياض في "الشفاء" فصل حسن في هذا المعنى، وكذا في "المواهب اللدنية"
وغيرها.
والمقصود أنَّ السُّنَّة أصل من أصول الدين، لا يتم الإسلام إلا بالإحتكام إليها والاستسلام لها كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ (١) وَيُسَلِّمُوا
(۱) قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم ابن دحيم في "تفسيره : حدثنا شعيب بن شعيب: حدثنا أبو المغيره: حدثنا عتبة بن ضمرة: حدثني أبي عن رجلين اختصما إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقضى للمُحِق على المبطل، فقال
الأحاديث المنتقاة
٣٠٥
المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه ما تريد؟ قال: نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قضي له قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقضى لي عليه، فقال أبو بكر: أنتها على ما قضى به النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فأبى صاحبه أن يرضى وقال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر الصديق، فقال أنتما على ما قضى به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأبى أن عمر، فقال كذلك، فدخل عمر . فخرج والسيف في يده فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله تبارك وتعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) الآية .
يرضى، فسأله
وقال أيضًا: حدثنا الجوزجاني: حدثنا أبو الأسود، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم رجلان فقضى لأحدهما، فقال الذي قضى عليه : رُدَّنا إلى عمر ، فقال رسول الله صلي آله عليه وآله وسلم نعم انطلقوا إلى عمر ، فانطلقا فلما أتيا عمر قال الذي قضي له: يابن الخطاب إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قضى لي، وإن هذا قال: ردنا إلى عمر، فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر للذي قضي عليه: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر : مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما، فخرج مشتملا على سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: يا رسول الله، قتل عمر صاحبي، ولولا ما أعجزته لقتلني. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل مؤمن»، فأنزل الله تعالى : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ، فبرأ الله عمر من قتله.
ورواه ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيرهما من طريق وهب، عن ابن لهيعة، عن
٣٠٦
فضائل النبي :
تسليما ﴾ [النساء: ٦٥] .
وروى الإمام الشافعي - رَضِيَ الله عنه - يوما حديثا وقال أنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبدالله؟ فاضطرب وقال: يا هذا أرأيتني نصرانيا؟! أرأيتني خارج من كنيسة؟! أرأيت في وسطي زنارا؟! أروي عن
أبي الأسود قال: اختصم رجلان... فذكر القصة وفي آخرها فأهدر دمه، ورويت من غير هذين الطريقين أيضًا. وجاء في بعض الطرق بيان أن الذي قضي له يهودي، وأن الذي قضي عليه منافق اسمه: بشر، فإن قيل: ثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير عن أبيه أنه خاصم رجلًا من الأنصار، قد شهد بدرًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للزبير: «اسق ثم أرسل إلى جارك»، فغضب الأنصاري وقال: يارسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ثم قال للزبير : «اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك فاستوفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم للزبير حقه، وكان قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة للأنصاري وله، قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يحكموك فهذا الحديث ينافي ما تقدم.
قلنا: لا تنافي بينهما، لأنَّ الزبير لم يجزم بأن الآية نزلت بسبب هذه الحادثة وعلى فرض وجود الجزم بذلك كما جاء صريحا عن سعيد بن المسيب، عند أبي حاتم فيجوز تعدد الأسباب لنزول الآية الواحدة، على أن ابن جرير الطبري اختار أن تكون الآية نزلت في المنافق واليهودي، ثم تتناول بعمومها قصة الزبير قال ابن العربي في "الأحكام": «وهو الصحيح» . اهـ
الأحاديث المنتقاة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثا ولا أقول به؟! . اهـ وأقوال الأئمة في هذا كثيرة جدا.
۳۰۷
قوله: «وإن ما حرَّم (۱) رسول الله مثل ما حرم الله»، أي: في وجوب
الاجتناب كما قال في الحديث الآخر : وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه». قوله: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومِثْلَهُ معه»، وفي رواية أخرى: «ومثليه معه» بالتثنية، أي: أوتيت مثل القرآن من السُّنَّة كما تقدم في كلام الشوكاني، وذلك أن الوحي نوعان: متلو وهو القرآن الكريم، وغير متلو وهو الحديث الشريف، فطاعتها واجبة على كل مسلم.
قوله: «يبلغه الحديث عنّي فيقول: ما قال الرسول هذا ...» إلخ، فيه دليل
(1) لا يعارض هذا قوله تعالى: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِوَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم: ١] أن التحريم يطلق بمعنيين:
أحدهما: منع الشيء شرعًا بحيث يأثم فاعله، وهذا هو المراد في الحديث، لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لما وجد الصحابة يوم خيبر يطبخون لحوم الحمر الأهلية، أمرهم باهراق ما في القدور وأخبرهم أنها لا تحل لهم فصارت حراما كتحريم الميتة المنصوصة في القرآن.
والثاني: الامتناع من الشيء مع إباحته لسبب غير شرعي، وهذا هو المراد في الآية فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم امتنع من قربان مارية ليرضي زوجته حفصة، فعاتبه الله على أن منع نفسه مما أباحه الله له ابتغاء مرضاة أزواجه، وهذا مثل قوله تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ﴾ [القصص: ۱۲] فإن موسى عليه السلام كان رضيعا
لا يتعلق به تكليف لكنه امتنع من قبول المراضع، حتى جاءت أمه فالتقم ثديها.
۳۰۸
فضائل النبي
على أن نفي ورود الحديث لا يكون عذرًا في ترك العمل به، بل يعد تكذيبا له إلا إن دلّت القواعد الحديثية على عدم صحته، فحينئذ يكون المرء في حل من
تركه.
ومن هنا تعلم ضلال ما عليه مبتدعة اليوم - وفيهم كثير من الأزهريين من تخلصهم من السُّنَّة وفرارهم من العمل بها وحض غيرهم على إلغائها بقولهم: هذا حديث غير صحيح، أو يخالف العقل -أي عقلهم القاصر - أو . يخالف العلم الحديث، أو هذا آحاد والمطلوب التواتر، أو طرق الحديث مضطربة أو هذا من الإسرائيليات، ونحو هذا مع الأعذار الواهية التي يتخذونها ذريعة إلى ردّ السُّنَّة النبوية، مع أنَّ أهل الأزهر لا يعرفون الحديث ولا يميزون بين صحيحه وسقيمه ولا بين مقبوله ومردوده، بل هم أبعد الناس عن هذا العلم الشريف وأجهلهم به، ولو اطلعت على مذكراتهم في المصطلح والرجال وشرح أحاديث الأحكام، لرأيت فيها من فضائح الجهل ما يُضحك الثكلى ويسلّي الحزين ، ولهذا أكثر فيهم من يبغض الحديث الشريف ويناصبه العداء، ويدعوا إلى إهماله وعدم الاهتبال به، ويصرح بذلك في غير خجل ولا استحياء، ولا عجب في ذلك فقديما قيل: من جهل شيئًا عاداه، وإنما العجب أن يتعيشوا على حساب الدين في وقت يحاربون فيه سنة صاحب
الدين، إن هذا لهو منتهى العجب ! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
الأحاديث المنتقاة
۳۷- حديث: أوتيت مفاتيح كل شيء
۳۰۹
عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أُوتِيتُ مفاتيح كلِّ شيءٍ إلا الخمسَ : إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْتَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضِ تَمُوتُ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: ٣٤] . رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح. وفي الصحيحين عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاما ما ترك فيه شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، إنه ليكون منه الشيء قد كنت نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. قوله: «أوتيتُ مفاتيحَ كلّ شيءٍ أي من العلوم والمعارف وسائر المغيبات، قال القاضي عياض في "الشفاء" في «فصل ما أطلع عليه من الغيوب» مانصه: «والأحاديث في هذا الباب بحر لا يُدرك قعره، ولا ينزف غمره، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع، الواصل إلينا خبرها على التواتر لكثرة رواتها واتفاق معانيها على الإطلاع على الغيب». اهـ ثم أورد جملة منها فليراجع.
وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله قد رفع لي الدنيا فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة كأنما أنظر إلى كفّي هذه». وقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بكثير من أحوال هذا العصر ومخترعاته، جمعها شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله
۳۱۰
فضائل النبي
في كتاب "مطابقة الاختراعات العصرية بما أخبر به سيد البرية".
قوله: «إلا الخمس: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ عَدَاوَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضِ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ خبير [لقمان: ٣٤].
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر مرفوعًا: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم أحد ما يكون في الغد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا يعلم أحدٌ متى تقوم الساعة إلا الله، ولا تدري نفس بأي
أرض تموتُ إلا الله، ولا يدري أحد متى يجيء المطر إلا الله». ومقتضى هذا أنه لم يكن صلَّى الله عليه وآله وسلّم يعلم الخمس، وإليه ذهب الجمهور، ولكن قال الحافظ السيوطي في "الخصائص الكبرى": «ذهب بعضهم إلى أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أوتي علم الخمس أيضًا وعلم وقت
الساعة والروح وأنه أمر بكتم ذلك. انتهى، و به جزم كثير من المتأخرين. وللإمام منصور البغدادي في هذا الموضوع كتاب اسمه "إقامة شواهد المنقول والمعقول على إحاطة علم نبينا الرسول"، وسأل الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الحي الحلبي العلامة المحدث عبد الملك بن محمد التجموعتي
.
قاضي سجلماسة عن هذه المسألة فأجابه برسالة خاصة سماها "ملاك الطلب وجواب أستاذ حلب" جزم فيها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم
الخمس.
وللشيخ أحمد رضا علي خان البريلوي الهندي في هذا الموضوع ثلاث
الأحاديث المنتقاة
۳۱۱
رسائل: "مالئ الجيب بعلوم الغيب"، و"اللؤلؤ المكنون في علم البشير ما كان
وما يكون"، و"إنباء المصطفى بما أسر وأخفى".
وقال العلامة أبو عبد الله محمد الحبيب بن عبد القادر السجلماسي الحسني في "شرح منظومة الأسماء الحسنى" للهلالي: يجب علينا أن نعتقد أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم لم يخرج من الدنيا حتى حصل له العلم بجميع المعلومات، للحديث الصحيح: أوتيت علم كل شيء وتجلى لي كل شيء». وما ورد مما يخالفه منسوخ بهذا، و به تظهر مزيَّته وفضيلته العلمية على سائر الأنبياء، بعد اشتراكهم في علم الغيب المستثنى لهم في آية فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧] قال فيهم بعض المفسرين: يريد أو ولي، لأنَّ الولي وارث العلم من النبوة».اهـ وفي "شرح أنموذج اللبيب" للعلامة شمس الدین محمد بن محمد بن عمر الروضي المالكي ما نصه: «الصحيح كما قاله المحققون أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوتي علم كل شيء حتى الخمسة وحتى عالم الروح وأمر بكتم
ذلك» . اهـ
ونحوه في "شرح جوهرة اللقاني لمؤلفها، و"شرح الأربعين النووية" للشبرخيتي وغيرهما، وفي فيض القدير بشرح الجامع الصغير" للمناوي في الكلام على حديث: «خمس لا يعلمهم إلا الله...» إلخ، ما نصه: «خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الإحاطة والشمول، كليًّا وجزئيا، فلا ينافي فيه إطلاع الله بعض خواصه على كثير من المغيبات حتى من هذه الخمس، لأنها جزئيات
۳۱۲
فضائل النبي
معدودة، وإن كان للمعتزلة في ذلك مكابرة» . اهـ
قلت: والذي أرجحه وأميل إليه أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يخرج من علمه الله هذه الخمس، لأنه لم يزل يترقى في العلوم والمعارف كل
الدنيا حتى
يوم، بل كل لحظة .
وعموم الأحاديث يشهد بذلك، منها حديث البخاري عن أسماء بنت أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما من شيء لم أكن أريته قبل إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار».
وهذه الخطبة كانت بالمدينة.
ومنها حديث سمرة بن جندب قال: كسفت الشمس، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ثم قال: «إني والله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من
أمر دنياكم وأخراكم». حديث صحيح رواه أحمد وغيره.
ولا ينافية قوله في حديث الترجمة إلا الخمس لأنه كان قبل أن يعلمها، ثم علمها بعد ذلك، وهذا كما نهى عن تفضيله على موسى ويونس وإبراهيم عليهم السلام، ثم أخبر أنه أفضل الأنبياء، ورد على من دعاه سيدًا بأن السيد الله، ثم أخبر أنه سيد ولد آدم وأمره الله تعالى في القرآن أن يقول للكفار : مَا كَانَ لي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَالَا الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) [ ص: ٦٩] ثم أخبر بعد ذلك أن الله أطلعه على
خصامهم.
ففي - حديث ابن عباس ومعاذ وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت ربي في أحسن صورة فقال يا محمد، قلت: لبيك رب وسعديك، قال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدرى يارب، قال فوضع يده بين
الأحاديث المنتقاة
۳۱۳
كتفي حتى وجدت بردها في صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت». وذكر الحديث وهو في سنن الترمذي"، و"مسند أحمد" وغيرهما بطرق متعددة، وهو حديث صحيح (۱)، وقد تكلمت عليه في "قمع الأشرار عن جريمة الانتحار" مع "الأربعين الغمارية" وشرحه الحافظ ابن رجب في جزء مطبوع اسمه "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" وهذا الحديث أحد الأدلة على علمه بالخمس أيضًا، لأنَّ قوله «فتجلى لي كل شيء»
عام بل هو أقوى صيغ العموم، كما تقرر في الأصول.
قوله في حديث حذيفة: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم مقاما ما ترك فيه شيئًا إلى قيام الساعة. يعني من الفتن والحوادث وغيرهما «إلا ذكره»، الحديث.
نحوه قول عمر : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنّة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه». رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ووصله الطبراني. وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح. وكذلك قال أبو الدرداء، رواه أبو يعلى والطبراني وغيرهما، والله أعلم.
(۱) نقل الترمذي عن البخاري أنه قال: «حديث صحيح».
٣١٤
فضائل النبي
۳۸- حديث: إهدار دم من سب النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس قال: إن أعمى كانت له أم ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم تُكثر الوقيعة في رسول صلى الله عليه وآله وسلم وتشتمه فقتلها الأعمى، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أشهدُ أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ». رواه أبو داد والنسائي والبيهقي وهذا
لفظه.
وفي "سنن أبي داود" و"البيهقي"، واللفظ للأول عن أبي برزة قال: «كنت عند أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عنهُ - فتغيظ على رجل، فاشتد عليه فقلت: ائذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه، قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل، فأرسل إلي وقال : ما الذي قلت آنفًا ؟! قلت ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». سححه ححه الحاكم، وابن تيمية. قوله: «إن أعمى كانت له أم ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تک تكثر الوقيعة فيه... إلخ، وفي سنن أبي داود" ، و "سنن ابن بطة" ، . الشعبي، عن علي عليه السَّلام: أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمها، وجاء في رواية: أن الرجل كان أعمى.
قال ابن تيمية في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول": «وهذا الحديث نص في جواز قتلها، يعني: اليهودية، لأجل شتم النبي صلى الله عليه وآله
الأحاديث المنتقاة
۳۱۵
وسلم، ودليل على قتل الذمي، وقتل المسلم والمسلمة إذا سبا بطريق الأولى». اهـ وقال أبو بكر ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقتل، وممن قال ذلك مالك بن أنس، والليث، وأحمد وإسحاق وهو من مذهب الشافعي . اهـ وقال القاضي عياض في "الشفاء": اعلم أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السبّ له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له، فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب، يُقتل كما نبينه ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمطه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة إلى هلم جرا. انتهى.
وقال الإمام محمد بن سحنون: «أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمنتقض له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفرة وعذابه كفر. انتهى.
وقال الإمام ابن عتاب الكتاب والسُّنَّة موجبان أن من قصد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بأذى أو نقص مُعرّضًا أو مُصرَّحًا وإن قل فقتله واجب». انتهى.
٣١٦
فضائل النبي
بهم
وسمع رجل قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إذ مر بهـ رجل قبيح الوجه واللحية، فقال لهم: تريدون تعرفوا صفته؟ هي في صفة هذا المار في خلقه ولحيته، فأفتى الإمام ابن أبي زيد القيرواني بقتله وعدم قبول توبته. وأفتى الإمام أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم:
الحمال يتيم أبي طالب» أنه يقتل، وفتاوى العلماء ونصوصها في هذا كثيرة (١).
(۱) من ذلك ما حصل بتونس سنه ٧٨٤هـ وهو أن رجلًا قال لآخر أنا عدوك وعدو نبيك، فعقد له مجلس فأفتى بعض المالكية بأنه مرتد وأخذ كفره من قوله تعالى: مَن كَانَ عَدُوا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: ۹۸] وأفتى بعضهم بأن كفره كفر تنقيص، فلا يستتاب، وأخذ ذلك مما في "الشفاء" من أن امرأة سبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من يكفيني عداوتها؟» فقتلت.
ومن كون خالد - رضي الله عنه - قتل من قال له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: صاحبكم، ومن إفتاء ابن عتاب بقتل من قال: إن سألت أو جهلت فقد سأل وجهل نبيك». واعترضه بعضهم بأن الحديث نص في أن كل ساب عدو، ولا شك فيه، وإنما الكلام في عكس هذه القضية، وهي لا تنعكس كنفسها لكن تنعكس إلى جزئية سالبة وهي: بعض العدو ليس بساب بل قوله: أنا عدوك وعدو نبيك، ربما أشعر بترفيع المقول له ذلك لأنا نجد الوُضعاء يجعلون لنفسهم منزلة بذلك، يقول الواحد منهم: أنا عدو الأمير والأمير عدو لي، وقصده به رفع نفسه لأنه في رتبة من يعادي الأمير، وبأن إفتاء ابن عتاب إنما هو لأنَّ ما ذكر في قضيته صريح في التنقيص، فالتحقيق أن قائل ما مر مرتد لا مُنقص».اهـ. والمرتد عند المالكية يستتاب، أما المنقص فإنه يقتل بلا استتابة قال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي: : «أما على قواعدنا فالذي يظهر أنه مرتد».
الأحاديث المنتقاة
۳۱۷
قوله: كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل... إلخ، لهذا الأثر طرق عند النسائي وغيره، وروى قاسم بن أصبغ في مصنفه"، ومن طريقة ابن حزم عن أبي برزة قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق قلت: ألا أقتله؟ فقال أبو بكر رَضِيَ الله عنه: ليس هذا إلا لمن شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم. ورويا أيضًا عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه كان على الكوفة لعمر بن عبد العزيز فكتب إلى عمر: إني وجدت رجلًا بالكوفة يسبك وقامت عليه البيئة، فهممت بقتله أو قطع يده أو قطع لسانه أو رجليه، ثم بدا لي أن أراجعك فيه، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: سلام عليك، أما بعد: والذي نفسي بيده لو قتلته لقتلتك به، ولو قطعته لقطعتك به، ولو جلدته لأقدته منك، فإذا جاءك كتابي هذا فاخرج به إلى الكناسة، فسبه كالذي سبني أو اعف عنه فإن ذلك أحب إلي فإنه لا يحل قتل امرئ مسلم يسب
أحدا من
الناس إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. وروى محمد بن عبد الملك بن أيمن ومن طريقه ابن حزم، عن علي بن المديني قال: دخلت على أمير المؤمنين فقال لي: أتعرف حديثا مسندًا فيمن سب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فيقتل؟ قلت: نعم وذكرت له حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن عُروة بن محمد، عن رجل من بلقين قال: كان رجل يشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «من يكفيني عدوا لي؟» فقال خالد بن الوليد: أنا، فبعثه النبي
صلَّى الله عليه وآله وسلم فقتله.
فقال أمير المؤمنين: ليس هذا مسندا، هو عن رجل!
۳۱۸
فضائل النبي
فقلت: يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وهو اسمه، وقد أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فبايعه وهو مشهور معروف، قال: فأمر لي بألف
دينار.
"
وقال ابن حزم: هذا حديث مسند صحيح، وقد رواه علي بن المديني عن عبد الرزاق كما ذكره، ثم قال ابن حزم بعد ذكر ما تقدم من الآثار ما نصه: فصح بما ذكرناه أن كل من سب الله تعالى أو استهزء به أو سبَّ مَلَكًا من الملائكة أو استهزأ به أو سب نبيًّا من الأنبياء أو استهزء به، أو سب آية من آيات الله تعالى أو استهزء بها - والشرائع كلها والقرآن من آيات الله تعالى- فهو بذلك كافر مرتد له حكم المرتد، وبهذا نقول . اهـ
.
قلت: يدخل في هذا ما بلغني عن بعض السبكيين ممن انضم أخيرًا إلى القصيمي - قصمه الله - أنه قال في مجلس يضم كثيرًا من الناس: إن القرآن ناقص، لأنه لم يشر إلى المخترعات الحديثة، وإنه كان الواجب أن يقول: وإن لكم في اليورانيوم لعبرة بدل قوله وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَمِ لَعِبْرَةً ﴾ [النحل: ٦٦] مثلا. وهذا كما ترى كفر صريح يوجب قتل صاحبه والعياذ بالله. (تنبيه): كثير ما يحصل بين الناس أن يذكر أحدهم نبيا من الأنبياء أو ملكا من الملائكة على سبيل ضرب المثل كأن يقول : إن قيل في السوء فقد قيل في النبي، وإن كذبت فقد كذب الأنبياء، أو صبرتُ كصبر أيوب، أو لا أفعل كذا ولو نزل علي جبريل، أو أنا أسلم من ألسنة الناس، ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله؟ ، أو كل الناس أذنبوا حتى الأنبياء، ونحو هذا مما يدور بين الناس في محاورتهم ومخاصماتهم.
الأحاديث المنتقاة
۳۱۹
قال القاضي عياض في "الشفاء" بعد أن ذكر كثيرًا من الأمثلة من هذا القبيل ما نصه: فحق هذا - إن دُرئ عنه القتل - الأدب والسجن، وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به، ومألوف عادته لمثله أو ندوره أو قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به . اهـ ثم نقل فتاوى عمر بن عبد العزيز ومالك وسحنون وغيرهما، فليراجع كلامه، فإنه أجاد فيه غاية الإجادة. وللحافظ السيوطي رسالة "تنزية الأنبياء عن تشبيه الأغبياء" ألفها بسبب
حادثة وقعت من القبيل المذكور، وهي مطبوعة في كتابه "الحاوي للفتاوي". ومن قلة الأدب مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ما سمعته من عالم أزهري - وهو في الواقع جاهل - سمعته يقول في مجلس خليط: إن محمدًا أخطأ وسجل الله عليه الخطأ في القرآن أعادها مرتين أو ثلاثا، فأخذ بعض الحاضرين حماسة الإيمان ورد عليه بأن هذا لا يليق، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يُخطئ، فأصر على مقالته وأعادها، وقال: إنه يأسف على تصريحه هذا ولكن دعاه إليه التعليم.
قلت ما كان أحوجه أن يأسف على قلة أدبه وكثرة جهله وفرط حقده
وتعصبه، ومقام النبوة أعلى وأجل عن مثل هذا التعبير الشنيع. قال ابن السبكي في جمع الجوامع : والصواب: أن اجتهاده صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يخطى»، قال شارحه الجلال المحلي: «تنزيها لمنصب النبوة الخطأ في الاجتهاد وقيل قد يخطئ ولكن ينبه عليه سريعا، لما تقدم في
عن
الآيتين: مَا كَانَ لِنَتِي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ [الأنفال: ٦٧] عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ
۳۲۰
فضائل النبي
أذنتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: ٤٣] (١) ولبشاعة هذا القول عبر المصنف بالصواب».اهـ أي: ليفيد أن مقاله غير صواب، كما قال العلامة العطار في حاشيته على
"جمع الجوامع"، والله أعلم.
٣٩- حديث: «إني لأراكم من وراء ظهري
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «هل ترون قبلتي ههنا؟ فوالله ما يَخفَى عليَّ رُكوعِكُمْ ولا سُجُودِكُم إِنِّي لأراكم من وراء
ظهري». رواه البخاري ومسلم.
ولمسلم عن أنس : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجودِ فإني أراكم مِن أمامي ومن خَلْفي». وللحديث طرق.
قوله: «هل ترون قبلتي هاهنا ... إلخ، في رواية لأبي هريرة في الصحيح قال: صلى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يوما ثم أنصرف فقال: يافلان ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي
لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي».
وفي حديث أنس في الصحيح أيضًا: «أقيموا الركوع والسجود فوالله إني
لأراكم من بعدي - أو : من ظهري - إذا ركعتم وإذا سجدتم».
قال العلماء في معنى هذه الأحاديث: إن الله تعالى خلق له صلَّى الله عليه وآله
(۱) بينت في كتاب فضائل النبي في القرآن أن الآيتين لا تقتضيان نسبة الخطأ إليه صلَّى الله عليه وآله وسلم، فليراجع.
الأحاديث المنتقاة
۳۲۱
وسلم إدراكًا خلف رأسه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وآله وسلَّم بأكثر من هذا وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره، فوجب القول به ونقل القاضي عياض عن الإمام أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: أن هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقة». اهـ من "شرح النووي على مسلم".
ولم يثبت في شيء من الأحاديث أن هذه الرؤية كانت بعينين صغيرتين بين كتفيه كسم الخياط لا تحجبها الثياب كما ذكره الزاهدي بختيار محب بن محمود، شارح القدوري" في رسالته الناصرية، ومثل هذا لا يقبل فيه إلا ما صح نقله، وإلا قصر في إثبات كونه معجزة؛ كما قال القسطلاني: «حملها على الإدراك بغير آلة» كما تقدم، وأما ما أورده ابن الجوزي في بعض كتبه بغير إسناد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إني لا أعلم ما خلف جداري هذا» فلا
أصل له كما نقل الحافظ السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر.
ويؤخذ من روايات حديث الترجمة: الأمر بإحسان الصلاة والخشوع فيها وإتمام الركوع والسجود، وجواز الحلف بالله لغير ضرورة، ولكن المستحب تركه، إلا لحاجة كتأكيد أمر وتفخيمه أو تمكينه من النفوس كما هنا، فإنه لما كانت الرؤية من الخلف أمرًا خارقا للعادة أكدها باليمين، وجاء في إحدى روايات أنس في الصحيح: «أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني في الركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف عني فإني أراكم أمامي ومن خلفي. فيؤخذ من هذه الرواية تحريم سبق الإمام بهذه الأشياء، فمن فعل ذلك أثم وصحت صلاته عند الجمهور،
۳۲۲
فضائل النبي :
وعن ابن عمر تبطل صلاته، وهو مذهب الظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد؛
لأن النهي يقتضي الفساد
(تنبيه): روى البيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء. وروى البيهقي وابن عدي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.
فهي معجزة أخرى تتعلق ببصره الشريف، وتضعيف ابن دحية لهذين الحديثين لا يضر، لأنهما مؤيدان بما ورد في معناهما مما هو خارق للعادة، فقد تواتر رؤيته للملائكة والشياطين، وصح رفع بيت المقدس حتى صار ينظر إليه وهو يخبر عنه صبيحة ليلة الإسراء، ورؤيته الجنّة والنار وهو في الصلاة، إلى غير
ذلك.
وأيضًا فإن شقيقنا الحافظ أبا الفيض رحمه الله قال: أخبرنا أبو البركات عوض محمد العفري: أنا (۱) إسماعيل بن زين العابدين البرزنجي: أنا صالح بن محمد العمري: أنا محمد بن سنة: أنا الشريف الوولاتي: أنا الشهاب أحمد المقري : أنا عمي مفتي تلمسان سعيد بن أحمد المقري: أنا أبو عبد الله محمد بن محمد التنسي التلمساني: أنا والدي محمد بن عبد الله التنسي: أنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن مرزوق الحفيد ، عن أبيه، عن جده الخطيب قال: أنا أبو المجد أحمد بن أبي عبد الله محمد بن القاضي أبي الفضل عياض، عن أبيه، عن جده الحافظ أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي قال:
(1) أنا مختصرة من أخبرنا وثنا أو نا مختصرة من حدثنا، فليعلم ذلك.
الأحاديث المنتقاة
۳۲۳
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد العدل من كتابه: حدثنا أبو الحسن المقرئ الفرغاني: حدثتنا أم القاسم بنت أبي بكر ، عن أبيها: حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن محمد الحسني: حدثنا محمد بن محمد بن سعيد: حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان: حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق حدثنا همام: حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لما تجلي الله عزّ وجلَّ لموسى عليه السَّلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ».
قال القاضي عياض: ولا يبعد على هذا أن يختص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بما ذكرناه من هذا الباب - يعني رؤيته في الظلمات وغير ذلك بعد
الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى» . اهـ
وهذا الحديث أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"
٤٠- حديث: لو كان موسى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتَّبَاعي
عن جابر قال: أتى عمر رضي الله عنه ام الله عنه النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تُعجبنا أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: «أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيَّةً ولو كان موسى حَيَّا ما وَسِعَهُ إِلَّا اتباعي». رواه أحمد بإسناد حسن وابن حبان بإسناد صحيح، ورواه أحمد عن ابن عباس بإسناد حسن أيضًا، وله مع هذا طرق.
قوله: «أمتهو كون أنتم أي متحيرون، كما قال الحسن، والتهوك: التحير. قوله: «كما تهوكت اليهود والنصارى وذلك لأن كتبهم دخلها التحريف بالزيادة والنقصان، فتحيّروا في دينهم واختلفوا فيه، ولكن ديننا محفوظ كما قال
٣٢٤
فضائل النبي
تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] ولفظ الذكر في الآية الشريفة يشمل القرآن والحديث، كما بينه الحافظ المجتهد أبو محمد ابن حزم في كتاب "الأحكام".
قوله: «لقد جئتكم بها ) أي : الشريعة ، بيضاء نقية» كنَّى ببياضها ونقائها عن يسرها وسماحة تعاليمها وما اشتملت عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. قوله: ولو كان موسى حَيَّا ما وَسِعَهُ إِلَّا اتباعي» لأنَّ الله تعالى أخذ عليه وعلى جميع الأنبياء عهدًا أن يؤمنوا به وينصروه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ النَّبِيِّينَ لَمَا اتَيْتُكُم مِّن كِتَبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَ كُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقُ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾ [آل عمران: ۸۱] فهو صلى الله عليه وآله وسلّم نبي
الأنبياء وخاتمهم. والقاديانية لعنهم الله - يروون هذا بلفظ: «ولو كان موسى وعيسى حيين ما وسعهما إلا اتباعي ليستدلُّوا على أن عيسى مات وأنه لا ينزل، والحديث باللفظ المذكور باطل لا أصل له بل هو من جملة أكاذيبهم الكثيرة،
أخزاهم الله.
وللطبري في "التفسير"، وأبي داود في "المراسيل"، من طريق يحيى ابن جعدة: أنَّ ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما تقول اليهود، فلما نظر إليها ألقاها وقال: «كفى بها حماقة قوم - أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الآية [العنكبوت: ٥١].
الأحاديث المنتقاة
٣٢٥
والحديث يقتضي النهي عن الأخذ من كتب الإسرائيليات، وذلك فيما يتعلق بالأمور الدينية من أصول وفروع، أما ما يتعلق بالمواعظ والآداب وأخبار الأوائل فلا بأس بذلك، ما لم يخالف ما ثبت بدليل صحيح، وقد كان جماعة من الصحابة يحدّثون عن أهل الكتاب كعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وأبي هريرة (1) وكان عمر يقول لكعب الأحبار: خوفنا يا
كعب، وكذلك كان عبد الله بن الزبير يسمع من كعب أيضًا ويحدث عنه. أما تحديث التابعين عن أهل الكتاب فكثير، وحصل بين الحافظ السخاوي والبرهان البقاعي نزاع في جواز النقل من كُتب الأناجيل ونحوها، وألف كل منهما في ذلك بحسب رأيه، وأشار السخاوي إلى شيء من ذلك في كتاب "الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التواريخ"(") وهو مطبوع، والله أعلم.
(۱) بل قال إبراهيم بن أبي يحيى أنا معاذ بن عبد الرحمن، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني قرأت القرآن والتوراة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اقرأ هذا ليلة وهذا ليلة». قال الذهبي في
"تذكرة الحفاظ ": "هذا إن صح ففيه الرخصة في تكرير التوراة وتدبرها » . اهـ قلت: إبراهيم ابن أبي يحيى ضعيف جدا، كذَّبه جماعة من ! الحفاظ وكان معتزليا جهميا قدريًا، وقد أطال الذهبي في ترجمته في "الميزان" ، وهو مع ضعفه حافظ كبير، وله موطاً أكبر من موطأ مالك بكثير، وقد روى عنه الشافعي ووثقه، وقال الربيع:
إذا قال الشافعي: حدثني من لا أتهم، أراد إبراهيم بن أبي يحيى. (۲) وذكر فيه أنه ألف كتابا أسماه "الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل" لكن لم يشر إلى ما حصل بينه وبين البقاعي.
٣٢٦
فضائل النبي
٤١- حديث: «ليهبطنَّ ابن مريم»
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ليهبطَنَّ ابن مريم حَكَما عَادِلًا وإمامًا مُقْسِطًا وليسلكنَّ فجا حاجًا أو مُعْتَمِرًا وليأتينَّ قَبْرِي حتَّى يُسَلَّمَ عليَّ ولأَرُدَنَّ عليه. يقول أبو هريرة: أي بني أخي إن رأيتموه
فقولوا: أبو هريرة يقرئك السلام. رواه الحاكم وصححه، وسلمه الذهبي. قوله: «ليهبطنَّ ابن مريم) أي: من السماء على منارة بيضاء شرقي دمشق بين ملكين، فيفك حصار الدجال عن فلسطين ويقتله، ويُلقي الله الرعب في قلوب اليهود من المسلمين فيقتلونهم، ويكون عيسى إذ ذاك «حَكَما عادلا وإمامًا مُقْسِطًا يحكم بالشريعة الإسلامية ويحيي ما اندرس منها، ويقاتل اليهود والنصارى على الإسلام ولا يقبل الجزية، ويكون حكمه بالكتاب والسنة، ولا يُقلد أحدًا من المذاهب خلافًا لما زعم بعض متهوسي الحنفية: أنه
يكون على مذهبهم، بل المذاهب في وقته تبطل.
قوله: «وليسلكنَّ فجا بفتح الفاء طريقا واسعا أو اسم موضع في - طريق مكة «حاجًا أو معتمرًا، وليأتين قبري حتى يسلم علي تحقيقا لتبعيته لي، واتباعه الشريعتي، ولأردن عليه السَّلام، واللام في «ليهبطن، وليسلكن، وليأتين، ولأردن» تدل على قسم مقدر، أي: والله ليهبطن، والله ليسلكن، والله ليأتين، والله لأردن، فهذه الأفعال مؤكدة بشيئين: القسم في أولها، ونون التوكيد المشدّدة في آخرها، وذلك غاية ما يُطلب في التوكيد كما لا يخف.
ويؤخذ من الحديث أمور:
الأول: فضيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكون عيسى -عليه الصلاة
الأحاديث المنتقاة
۳۲۷
والسلام- وهو رسول كريم من أولي العزم ينزل تابعا له وملتزما لشريعته. قال العلماء والحكمة في تخصيص نزوله: الرد على اليهود حيث زعموا أنهم قتلوه وصلبوه، وكذبوا في زعمهم ذلك. الثاني: إثبات نزول عيسى عليه السَّلام، وهذا أمر تواترت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نص عليه الحفاظ منهم: ابن جرير الطبري، وأبو الحسين الأبري، والقرطبي، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم وجهل الشيخ محمد عبده هذا لكونه لا يعرف السُّنَّة، فادَّعى أن
(1)
(۱) وبيان ذلك: أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أبو هريرة، وحذيفة بن أسيد، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو، وجابر، ومجمع بن جارية، وعثمان ابن أبي العاص، ووائلة بن الأسقع، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعائشة، وأنس، وغيرهم من الصحابة.
ورواه عن هؤلاء نحو ثلاثين تابعيًّا منهم: سعيد بن المسيب، وسعيد بن ميناء، وعطاء بن ميناء، وجبير بن نفير ويعقوب بن عاصم، وأبو الزبير، وأبو نضرة، ومؤثر بن عفازة، وربعي بن حراش والحسن البصري، وطاوس، وعلقمة، وأبو قلابة، وأبو صالح.
ورواه عن هؤلاء نحو ثلاثين أيضًا منهم الزهري وقتادة، والمقبري، وهشام بن عروة، وسليم بن حيان وفرات القزاز وعلي بن زيد، وابن جريج، وأبو حازم
الأشجعي، وأيوب السختياني، وسعيد بن خثيم.
ورواه عن هؤلاء نحو خمسة وثلاثين شخصًا منهم: سفيان بن عينية، والليث إمام أهل مصر، والأوزاعي إمام أهل الشام، وأبو داود الطيالسي صاحب "المسند"، وشعبة أمير المؤمنين في الحديث، ومعمر صاحب "الجامع"، ويحيى بن جابر الطائي
۳۲۸
فضائل النبي
حديث نزول عیسی آحاد وأنكره بناء على ذلك حسبما نقله عنه تلميذه في "تفسير المنار"، وقلده مبتدعة الأزهر ومن على شاكلتهم مثل: المراغي وشلتوت وعبد الوهاب النجار، وقد ألفت كتابا سميته "إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان فضَحْتُ به جهل شلتوت في فتوى له نشرها بمجلة "الرسالة" الملحدة، وافق فيها القاديانيين الكفار، فلما رآه وَلَج في العناد، أردفته بكتاب آخر أسميته "إرغام المبتدع الجهول باتباع سنة الرسول". الثالث: استحباب إتيان قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزيارته والسلام عليه، وهذا مما لا خلاف فيه، قال القاضي عياض: «وزيارة قبره صلى الله عليه
قاضي حمص، وعاصم أحد أئمة القراء، وأبو جعفر المنصور أمير المؤمنين. ورواه عن هؤلاء خلق كثير يبلغون نحو أربعين منهم: عبد الرزاق صاحب "المصنف"، وعلي بن المديني الإمام العلم شيخ البخاري، وقتيبة بن سعيد، وروح، ويزيد بن هارون، وبشر بن معاذ، ومعاذ العنبري، وغندر، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن بشار، وهؤلاء كلهم أئمة مشاهير.
ثم رواه عن هؤلاء وغيرهم أصحاب الكتب المعتبرة في الحديث، ودونوه في كتبهم مثل: أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان، والدارقطني، والحاكم والبيهقي، والطحاوي، والطبراني، وغيرهم ممن لا يكادون يحصون.
فهذا تواتر على جميع الاصطلاحات المقررة في علم الأصول، ولكن أنى لمحمد عبده ومقلديه أن يعرفوا هذا وهم أبعد الناس عن علم السنة وأنواعها، وليتهم إذا جهلوا سكتوا فقد كان السكوت أستر لحالهم، لكن قاتل الله حب الظهور فإنه قاصم للظهور، كما قال الصوفية.
الأحاديث المنتقاة
۳۲۹
وآله وسلَّم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مُرغب فيها». اهـ بل ذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنها واجبة كما حكاه الشوكاني في "نيل الأوطار"، والذي صرّح بالوجوب من المالكية أبو عمران الفاسي، قال الحافظ . عبد الحق الإشبيلي المالكي في كتاب "تهذيب الطالب": «يريد أنها
واجبة وجوب السنن المؤكدة . اهـ
وقالت الحنفية: «أنها قريبة من الواجبات حكاه الشوكاني أيضًا، وحكى ابن هبيرة اتفاق الأئمة على استحبابها.
وشد بلال المؤذن الرحلة من الشام إلى المدينة بقصد الزيارة كما رواه ابن عساكر بإسناد جيد وإن حاول ابن عبد الهادي تضعيفه تعصباً لرأي ابن تيميه الذي خالف الإجماع بإنكاره مشروعية الزيارة الشريفة، وزعم أن السفر إليها معصية لا تقصر فيه الصلاة، ورد عليه العلماء قوله هذا وبدعوه، وأفرد التقي السبكي في الرد عليه كتابًا خاصًا سماه "شفاء السقام بزيارة خير الأنام" وهو مطبوع، وليس لابن تيمية حجة فيما زعم إلا حديث الصحيحين: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، لكن القصر في الحديث إضافي باعتبار المساجد لا حقيقي، بدليل ما ثبت بإسناد حسن، كما قال الحافظ: «لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» (۱).
(۱) رواه الإمام أحمد في "المسند" عن شهر بن حوشب ، قال : سمعت أبا سعيد الخدري - وذكر عنده صلاة في الطور - فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا
۳۳۰
فضائل النبي
فالزيارة وغيرها خارجة عن النهي كما ترى والأحاديث يفسر بعضها بعضا والجمع بينها واجب، وإلغاء أحدها بغير دليل حرام كما نبهنا عليه فيما مر، وانظر "الشفاء" للقاضي عياض وشروحه، و"المواهب اللدنية" وشرحها، و"نيل الأوطار" للشوكاني وغيرها.
(تنبيه): قال العلامة ابن الحاج في "المدخل": «من لم يُقَدَّر له زيارته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بجسمه فلينوها كل وقت بقلبه، وليحضر قلبه أنه حاضر بين
ينبغي للمطي.... إلخ. وحسنه الحافظ الهيثمي أيضًا في كتاب "مجمع الزوائد" وهو كما ترى صريح في أن النهي عن شد الرحال للمساجد لأجل الصلاة لا لأجل شيء آخر، لأن المساجد متماثلة لا فضل فيها المسجد على آخر، إلا المساجد الثلاثة. ويؤيده ما رواه أحمد أيضًا بإسناد رجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي، عن عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام قال: لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وهو آت من الطور فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور صليت فيه، قال: لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تشد
الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى». وروى الطبراني عن الأرقم - وكان بدريًا - قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأودعه، وأردت الخروج إلى بيت المقدس، فقال لي: «أين تريد؟» قلت: أريد بيت المقدس، قال: «وما يخرجك إليه، أو في تجارة؟ قلت: لا ولكني أصلي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: صلاة هاهنا -يعني في مكة - خير من ألف صلاة ثم». قال الحافظ الهيثمي: رجاله ثقات. ورواه أحمد أيضا بإسناد فيه يحيى بن عمران، قال أبو حاتم: مجهول، ووثقه ابن
حبان، وهذا حديث يفيد أن السفر بغرض غير الصلاة كالتجارة غير محظور.
الأحاديث المنتقاة
۳۳۱
يديه، مستشفع به إلى مَنْ مَنَّ به عليه» . اهـ
وهذه زيارة روحية حضورية لا ينالها إلا من له مزيد تعلق واختصاص
بالجناب النبوي الشريف، حققنا الله بهذا المقام بمنه وفضله.
الرابع: أنه صلى الله عليه وآله وسلّم حي في قبره الشريف، وقدمنا أن هذا ثابت بالقرآن والسنة المتواترة ،والإجماع وقطعنا على الوهابية طريق الزيغ
والابتداع. فإن قيل: قد قال الله تعالى خطابا لنبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر: ٣٠]. وقال: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرِ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدُ أَفَإِيْن مِتَ فَهُمُ الْخَلِدُونَ ﴾ [الأنبياء: ٣٤].
قلنا: وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتُ بَلْ أَحْيَاهُ وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: ١٥٤] وقال: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: ١٦٩] الآية.
والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جمع الله له بين درجتي النبوة والشهادة، فإنه مات شهيدا من أثر أكلة خيبر كما جاء في الصحيح، وأما حديث أبي هريرة: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام». رواه أحمد وأبو داود، فهو مع كونه ليس في قوة الأحاديث الدالة على حياة الأنبياء - مجاب عنه بثلاثة عشر جوابًا، سردها الحافظ السيوطي في كتاب "إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء" وهو مطبوع ضمن كتاب "الحاوي للفتاوي". بل ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحديث يدل على دوام حياته بطريق
۳۳۲
فضائل النبي
بليغ كما بينته في كتاب "الرد المحكم المتين مع ذكر بعض الأجوبة للبيهقي والسبكي، فليراجع.
الخامس: يؤخذ من قول أبي هريرة: إن رأيتموه.... إلخ، ما كان عليه الصحابة من قوة الإيمان وشدة التصديق بما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولهم في هذا الباب آثار وأحوال تزيد في إيمان سامعها، وتقوي يقينه، وبذلك فازوا و ربحوا وحازوا العز والتمكين في الدنيا مع ما ادخر لهم من عظيم المثوبة في الآخرة.
.
رَضِيَ الله عنهم وأرضاهم ، وحشرنا في زمرتهم تحت لواء نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم، والحمد لله رب العالمين.
٤٢- حديث: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أحسن الناس عن أبي هريرة قال: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحسنَ النَّاسِ، كان رَبِّعَةً وهو إلى الطول أقرب بعيد ما بين المنكبين، أَسِيلَ الخَدَّين، شديد سواد الشعر، أكْحَلَ العَينين أَهْدَبَ، إذا وَطِئ بقدمه وَطِئ بكلّها، ليس له أخمص، إذا وَضَعَ رِداءه عن مَنْكَبيه فكأَنَّه سَبيكةُ فِضَّةٍ، وإذا ضَحِكَ يتلألأ في الجدر، لم أرَ قبله ولا بعده مثله». رواه البزار والبيهقي.
ولا بن سعد وأحمد وابن حِبَّان والبيهقي عن أبي هريرة قال: «ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع في مشية منه كأن الأرض تطوى له إنا لنجهد وإنه غير
مكترث .
الأحاديث المنتقاة
۳۳۳
قوله: «كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحسن الناس» أي: خَلْقًا - بفتح الخاء - وخُلْقًا - بضمها - وفي حديث البراء في "صحيح البخاري": «كان
أحسن الناس وجها وأحسنهم خَلْقًا - أي: بفتح الخاء وقيل: بضمها. قوله: «كان ربعة اتفقت الروايات على ذلك في الصحيحين وغيرهما، والربعة - بفتح الراء وسكون الموحده الوسط بين الطول والقصر، كذلك جاء مفسرًا في حديث أنس والبراء وغيرهما. قوله: «وهو إلى الطول أقرب أي: يقرب من الطول قليلا، لكن ليس بالطويل البائن كما سيأتي.
قوله: «بعيد ما بين المنكبين أي عريض أعلى الظهر، زاد في حديث لأبي
هريرة أيضًا عند ابن سعد: رحب الصدر»، أي: واسعه. قوله: «أسيل الخدين بفتح الهمزة وكسر السين أي: لين الخدين مع طول
فيهما.
قوله: «أهدب» أي: طويل الأشفار
قوله: «إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها ليس له أخمص الأخمص: ما دخل من باطن القدم، فلم يصب الأرض، والمعنى: أن في قدمه الشريفة خمصا يسيرًا، بحيث لم يرتفع عن الأرض جدًّا، ولم يستوِ أسفل القدم، وهذا أحسن ما يكون كما قال ابن الأعرابي، وبهذا يجمع بين روايات من أثبت الأخمص ومن نفاها، فمن أثبت أراد الخموصة اليسيرة المعتدلة، ومن نفى أراد الخموصة الشديدة. قوله: «إذا وضع ردائه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة» وفي حديث محرش
الكعبي
، قال: «اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجعرانة ليلا فنظرت
٣٣٤
فضائل النبي
إلى ظهرة كأنه سبيكة فضة». رواه أحمد والبيهقي.
وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي والبيهقي: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أبيض، كأنها صيغ من فضة». ومعنى هذه الروايات ظاهر. قوله: «وإذا ضحك يتلألأ في الجدر» أي يظهر من أثر ضحكه إشراق
ينعكس على الحيطان، كما ينعكس نور الشمس في المرآة.
ومن هذا الحديث أخذ شقيقنا الحافظ أبو الفيض -رحمه الله - اسم كتابه "بوارق الأنوار المنيفة بظهور النواجذ الشريفة" جمع فيه الأحاديث التي ورد فيها أنه صلى الله عليه ضحك حتى بدت نواجذه، وهو مطبوع
وفي "صحيح البخاري" عن كعب بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. وفيه أيضًا عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها مسرورًا تبرق أسارير وجهه».
ووقع في حديث جبير بن مطعم عند الطبراني: «التفت إلينا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بوجهه مثل شقة القمر». قوله: «لم أرَ قبله ولا بعده مثله»، إذ ليس في الناس من يماثله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو كما قال الإمام البوصيري:
منزه عن شَرِيك في محاسنه فجَوهَرُ الحُسنُ فيه غيرَ مُنقَسِـمِ
وقال آخر:
وأَجْمَلُ مِنكَ لتَرَقَطَّ عَيْنِي وَأَكْمَلُ مِنْكَ لم تَلِدِ النِّسَاءُ خُلِقْتَ مُبَرَّ مِن كُلِّ عَيْبٍ كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كما تَشاءُ
الأحاديث المنتقاة
۳۳۵
رواه البزار والبيهقي، ورواه أيضًا الذهلي في "الزهريات"، ويعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه" وغيرهما، وإسناد الحديث حسن، والله تعالى
أعلم.
شبه
قوله في الرواية الثانية كأن الشمس تجري في وجهه، قال الطيبي: جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه صلَّى الله عليه وآله وسلّم، وفيه عكس التشبيه للمبالغة»، قال: ويحتمل أن يكون من باب تناهي التشبيه، جعل وجهه مقرا ومكانا للشمس.
وفي "تاريخ يعقوب بن سفيان من طريق يونس بن أبي يعفور، عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأة من همدان قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم. فقلت لها شبهيه قالت كالقمر ليلة البدر لم أر قبله ولا
بعده مثله.
وروى الدارمي والطبراني وأبو نعيم والبيهقي، عن أبي عبيدة، قال: قلت للربيع - بضم الراء وكسر الياء المشددة - بنت معوذ - بضم الميم وكسر الواو المشددة-: صفي لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم؟ قالت: لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وسئل البراء بن عازب أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم
مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. رواه البخاري.
وفي "صحيح مسلم عن جابر بن سمرة: أن رجلا قال له: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم مثل السيف؟ - أي في الطول واللمعان-
قال: لا، بل مثل الشمس والقمر مستديرا.
٣٣٦
فضائل النبي
ولا تنافي بين هذا وبين الرواية السابقة أسيل الخدين، لأن المراد بها طول
خفيف لا يمنع الاستدارة.
قوله: «كأن الأرض تُطْوَى له.... إلخ، هذا بيان لسرعة مشيه.
ولابن سعد عن أبي هريرة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في جنازة فكنت إذا مشيت سبقني، فالتفتُ
تطوى له الأرض وخليل الله إبراهيم.
إلى رجل جنبي
فقلت:
وسرعة المشي تدل على شدة الحزم وقوة العزيمة، بخلاف المشي الضعيف فإنه يدل على التخاذل وخور العزيمة، وقولهم : سرعة المشي تذهب بهاء المرء»، ليس بحديث، والله أعلم.
٤٣- حديث: وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عن عمر بن عبد الله مولى غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي بن أبي طالب قال: كان علي عليه السَّلام، إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالطويل المغط ولا بالقصير المتردّد، وكان رَبِّعَةٌ من القوم، لم يكن بالجَعْدِ القَطَطِ ولا بالسَبِطِ، كان جَعْدًا رجلًا، ولم يكن بالمطهم، ولا بالمكلثم وكان في وجهه تدوير، أبيض مُشْرَب، أَدْعَجُ العينين، أهدَبُ الأشفار جليل المُشَاش والكَتَدِ، أجردُ ذُو مسربَة، شَثْنُ الكفَّيْن والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما ينحط في صَبَبٍ، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوَّة وهو خاتم النبيين، أجود الناس صدرا، وأصدق النَّاسِ لَهَجَةٌ، وأليَنَهم عَريكَةً، وأكرمهم عِشْرَةً، مَن رآه بديهةً
الأحاديث المنتقاة
۳۳۷
هابه، ومن خالطه معرفةً أحبَّهُ، يقول ناعِتُه : لم أر قبله ولا بعدَه مِثلَه».
رواه الترمذي في "السنن" و"الشمائل" وغيره، والله أعلم. قوله: «غُفْرة) بضم الغين المعجمه وسكون الفاء ويقال: «غفيرة»
عن
بالتصغير وهي بنت رباح، وأخت بلال المؤذن، وأخيه خالد. قال البخاري: هم أخوان وأخت ومولاها عمر بن عبد الله، مدني يكنى: أبا حفص، روى له أبو داود والترمذي، وفيه ،ضعف، وشيخه إبراهيم بن محمد ابن الحنفية ثقة من رجال الترمذي وابن ماجه ، لكن روايته عن جده علي عليه السلام مرسلة فيما ذكر أبو زرعة الرازي، وهذا لا يضر هنا، لأنَّ وصف علي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تلقاه الحسن والحسين ومحمد بن ا الحنفية أبيهم عليهم السلام، ولقنوه لأولادهم وأهل بيتهم فهو من أقوى الموصولات، كما لا يخفى على أن معناه وارد في عدة أحاديث. قوله: «الممَّغِط» - بضم الميم الأولي وفتح الميم الثانية المشددة وكسر الغين المخففة - اسم فاعل هو المتناهي الطول، فهو بمعنى البائن في الرواية الأخرى، وهو الذي فارق غيره في الطول وظهر عليه، وقيل الممغط - بفتح الميم الثانية وتخفيفها وتشديد الغين المعجمه المفتوحة - اسم مفعول من التمغيط، وأصله مَغَط الحبل إذا مده، والمقصود أنه لم يكن بالطويل البائن الطول ولا بالقصير المتردد - بكسر الدال الأولى المشددة - أي: المتناهي في القصر، كأنه رد بعض خلقه على بعض وتداخلت أجزاؤه قاله ابن الأثير، وكان ربعة من القوم» تقدم شرحه. وروى ابن أبي خيثمة والبيهقي عن عائشة قالت: «لم يكن رسول الله صلى الله
من
۳۳۸
فضائل النبي
عليه وآله وسلَّم بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطول، ونسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الربعة».
قوله: «لم يكن بالجعد القطط بفتح القاف وكسر الطاء الأولي، وقد تفتح،
.
ولا بالسبط بفتح أوله وكسر الموحدة والجعودة في الشعر ألا يتكسر ولا يسترسل، والقطط شدة الجعودة، والسبوطة في الشعر ضد الجعودة، وهو الامتداد الذي ليس فيه تعقد ولا نتوء، والمراد أن شَعرَه صَلَّى الله عليه وآله وسلم وسط بين الجعودة والسبوطة، ولهذا قال: كان جعدا رجلًا - بفتح الراء وكسر الجيم، وقد تسكن وتفتح - يعني ليس شديد الجعودة ولا سبطا فهو وسط بينهما، ولم يكن بالمطهم بفتح الهاء المشددة- هو البادن الكثير اللحم المنتفخ الوجه من السمن ولا بالمكلثم - بضم الميم الأولي وفتح الكاف والثاء المثلثة بينهما لام ساكنة - أي: المدور الوجه، ولذا قال: وكان في وجهه تدوير، فهذه الجملة بيان لقوله ولا بالمكلثم والمعنى أن وجهه الشريف كان وسطا بين التدوير والإسالة، ويعبر عن ذلك بالسهولة، وهذا أحسن عند العرب
وأحلى.
قوله: «أبيض بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أبيض مُشْرَب - بضم الميم وسكون الشين وفتح الراء المخففة، أو بفتح الشين وتشديد الراء المفتوحة- روايتان معناهما واحد، أي: مخلوط بحمرة.
الأحاديث المنتقاة
۳۳۹
كما جاء في حديث علي أيضًا عند سعيد بن منصور والطيالسي والحاكم،
قال: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أبيض مُشْرَبًا بياضه بحمرة». وفي حديث أنس عند البخاري: «أزهر اللون ليس بأبيض أمهق». أي: شديد البياض، لأنه مذموم عند العرب، فمن أثبت البياض للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم أراد به المشوب بالحمرة ، وهو اللون الأزهر الممدوح، وربما سموه أسمر كما قال أنس: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أسمر». رواه أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح وصححه ابن حبان.
ومن نفى البياض أراد البياض الشديد الذي يسمى مهقا وصاحبه أمهق، وهو مذموم وبهذا تتفق الروايات.
قوله: «أدْعَجُ العينين» أي: شديد سواد الحدقة مع سعة العين، كما في
"الصحاح". قوله: «أهدب «الأشفار جمع شُفر - بضم الشين، وقد تفتح- وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر والأهدب بالدال المهملة - من طال شعر أجفانه، والمعنى ظاهر. وروى ابن سعد والحرث ابن أبي أسامة عن ابن عباس وغيره: أن الصبيان كانوا يصبحون شعنا رمضا ويصبح رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم - وهو صبي - دهينا كحيلا.
- -
قوله: «جَليل) أي: عظيم المشاش - بضم الميم وتخفيف الشين المعجمة- رؤوس العظام كالمرفقين والركبتين، والكتد - بفتح الكاف والتاء وقد تكسر - مجتمع الكتفين، والمعنى: أنه عظيم رؤوس العظام، عظيم مجتمع الكتفين،
٣٤٠
فضائل النبي
وذلك يدل على القوة والشجاعة.
قوله: «أجرد» أي غير أشعر أي لم يكن على جسمه شعر كثير، فهو ذو مسربة - بفتح الميم وسكون السين المهملة وضم الراء- وهو شعر دقيق بين الصدر والسرة.
وفي رواية البيهقي: «له شعرات من سرته تجري كالقضيب ليس على صدره ولا بطنه غيرها.
وروى الطيالسي والطبراني عن أم هانئ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ذكرت القراطيس المثنى بعضها على بعض.
شَن - بفتح الشين المعجمة وسكون الثاء المثلثة، وقد يقال شتن، بالتاء المثناة يعني: غليظ الكفين والقدمين من غير قصر ولا خشونة، لما ورد أنه كان سائل الأطراف لين الكف.
قال المناوي: «ولما فسَّر الأصمعي الشئن في الحديث بالغلظ مع الخشونة، أورد عليه أنه ورد في صفته أنه لين الكف فحلف ألا يفسر شيئًا في
الحديث». اهـ
وتفسير الحديث لا يكفي فيه معرفة اللغة، بل لابد من جمع الطرق والروايات وغير ذلك مما هو مبسوط في موضعه.
قوله: «إذا مشى تقلع يعني مشى بقوة، ورفع برجليه رفعا بائنا متداركا
إحداهما بالأخرى كأنه يمشي مشي
القلعة بالتحريك، وهي القطعة العظيمة
من السحاب، وقوله: «كأنما ينحط في صَبَب» بيان لقوله تقلع، والصَّبَب -
بفتح الصاد والباء الأولي - الحدور، ضد الصعود، والمعنى ظاهر.
الأحاديث المنتقاة
٣٤١
قوله: «وإذا التفتَ التَفَتَ معًا» أي: جميعًا، أي: إذا التفت إلى إنسان لكلام
أو غيره التفت إليه بكله وأقبل عليه بكليته، ولا يلتفت إليه بلي لعنق كفعل المختالين المتكبرين. قوله: «بين كتفيه خاتم النبوة بكسر التاء، أشهر وأفصح من فتحها والمراد به أثر بين كتفيه، نُعت به في الكتب السابقة، وكان علامة عندهم على أنه النبي الموعود، حتى لا يشتبهوا في أمره، واختلفت الروايات في وصف هذا الخاتم قدرًا وشكلا ولونا، واستوعبها الحافظ قطب الدين الحلبي في "شرح السيرة"
وتبعه العلامة مغلطاي في "الزهر الباسم" ونحن نشير إليها بحول الله. ففي الصحيحين عن السائب بن يزيد قال: «قمت خلف ظهر النبي صلى الله
11
عليه وآله وسلم فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زِرِّ الحَجَلة». وفي "صحيح مسلم عن جابر بن سَمُرَة قال: رأيت خاتم النبوة بين كتفيه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده».
وفي رواية الترمذي: «غدة حمراء مثل بيضة الحمامة».
وفي "صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: «نظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى جُمعا، عليه خيلان كأمثال الثاليل». النغض بضم النون وسكون الغين المعجمه - فرع الكتف، والجمع - بضم الجيم وسكون الميم الكف إذا جمع، والخيلان: الشامات السود، والثاليل حبوب تعلو ظاهر الجسد.
ولأحمد والبيهقي عن أبي رمثة قال: «انطلقت مع أبي إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فنظرت إلى مثل السلعة بين كتفيه».
٣٤٢
فضائل النبي
وفي رواية لابن سعد: «مثل التفاحة».
وللبخاري في "التاريخ" عن أبي سعيد قال : «الختم الذي بين كتفي النبي
صلى الله عليه وآله وسلَّم لحم ناتئة».
وفي رواية الترمذي: «كان في ظهره بضعة ناشزة».
وفي رواية أحمد: «لحم ناشز بين كتفيه».
وفي حديث ابن عمر عند ابن حِبَّان: «مثل البندقة من اللحم».
وفي حديث أبي زيد بن أخطب عند الطبراني: «محجمة ناتئة». قال العلماء: اختلفت أقوال الرواة في خاتم النبوة وليس ذلك باختلاف حقيقة، بل كل واحد شبه بما عرض له.
قال القرطبي في شرح مسلم": اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر عند كتفه الأيسر ، قدره إذا قلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر جمع اليد، قال السهيلي: والصحيح أنه كان عند نغض كتفه الأيسر، لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه دخوله». اهـ
وقد روى ابن عبد البر بسند ،قوي، كما قال الحافظ، عن ميمون بن مهران، عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان فرأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه الأيسر حذاء قلبه له خرطوم كالبعوضة»، وله شاهد مرفوع من حديث أنس: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم». الحديث رواه أبو يعلى وغيره، والصحيح أن الخاتم كان عند شق صدره الشريف، كما قال عياض، ولم يولد به من قبل، والله أعلم. قوله: «وهو خاتم النبيين جملة متممة لما قبلها، فهو خاتم نبوة الأنبياء، لا
الأحاديث المنتقاة
٣٤٣
نبي بعده، قال المناوي وابن سلطان وغيرهما من شراح "الشمائل": «لا ينافي هذا نزول عيسى عليه السَّلام، لأنه إنما ينزل متابعا لشريعته مستمداً من القرآن
والسنة» . اهـ
قوله: «أجود الناس صدرًا» أي : أرحبهم صدرًا وأكرمهم قلبا فلا يمل من الناس، ولا يضجر منهم على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، بل يخاطب كلا منهم على قدر منزلته ويبذل لهم ما يسألونه من رفد وعطاء، ويعلمهم مما علمه الله مبتدئا تارة ومجيباً أخرى، وتقدم شيء من جوده وسعة صدرة في شرح الحديث الثلاثين.
قوله: «وأصدق الناس لهجة» عُرف بهذا منذ طفولته، حتى كان يُدعى بين قومه بالأمين، فهو صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصدق الناس لسانا وأفصحهم
بيانًا.
قوله: «وألْيَنَهم عَريكة أي: أسهلهم طبيعة لوفور حلمه وكثرة تواضعه،
وخفض جناحه للفقير والمسكين ، وفرط شفقته على اليتيم والمحروم. قوله: «وأكرمهم عِشْرَة) بكسر العين وسكون الشين، اسم من المعاشرة وهي المصاحبة، فمصاحبته صلى الله عليه وآله وسلّم أكرم مصاحبة، لأنه أشد الناس وفاء، وأكثرهم عن الزلات إغضاء، يرعى حقوق المعاشرة، ويراعي روابط المودة يكون مع أصحابه كأحدهم لا يتميز عنهم بشيء، ولا يشق عليهم في شيء.
وفي رواية: «وأكرمهم عشيرة أي قبيلة وهي صحيحة أيضًا، فإن قبيلته أكرم القبائل، ونسبه أشرف الأنساب، كما تقدم في شرح الحديث الرابع والسابع.
٣٤٤
فضائل النبي و
قوله: «من رآه رؤية «بديهة» فجأة من غير سابق مخالطة ومعرفة، «هابه» لما عليه من المهابة الإلهية، لأنَّ قلبه الشريف ممتليء بعظمة مولاه ومحبته
وإجلاله وذلك يورث المهابة المذكورة، ومن خالطه» وعاشره «معرفة»، أي:
مخالطة معرفة «أحبه» حبًا شديدًا حتى يقدمه على أهله ونفسه، ويبذل كل
.
شيء في سبيل طاعته ورضاه، كما كان الصحابة يفعلون، فإنهم كانوا يبذلون أنفسهم دونه. وهذا واجب على كل مسلم بنص القرآن، قال الله تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَولَى بالمؤمنين مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٦] وقال سبحانه: لا مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ }
[التوبة: ١٢٠].
ويعادون بل يقاتلون آباءهم وأبنائهم وعشيرتهم، دفاعا عنه، وحفظاً
لحرمته، فمدحهم الله على ذلك ووصفهم بالإيمان.
يقول ناعته»، أي واصفه إذا أراد الإجمال في نعته، لأنَّ التفصيل غير متيسر : الم أر قبلَهُ ولا بعده مثله؛ لأنه جمع بين حسن الجمال، ووقار الجلال،
وبلغ الغاية في خصال الكمال، فهو كما قال البوصيري رحمه الله : مُنَزَّهُ عَنْ شَرِيكَ في مَحَاسِنِهِ فجَوْهَرُ الْحُسْنِ فِيهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ قال الحافظ أبو نعيم وقد اختلفت ألفاظ الصحابة في نعته وصفاته، وذلك لما رُكَّب في الصدور من جلالته وحلاوته وعظيم مهابته وطلاوته، ولما جُعِل في جسده الشريف من النور الذي يتلألأ ويغلب على بشرته، فأعياهم
الأحاديث المنتقاة
٣٤٥
ضبط صفته، ونعت حليته حتى قال بعضهم: «كان مثل الشمس طالعة»، وقال بعضهم: «كان يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، وقال بعضهم: «لم أر قبله ولا بعده مثله»، فلذلك السبب كان اختلافهم في وصف خِلْقَته». اهـ
وإلى هنا تم هذا الشرح المبارك إن شاء الله تعالى.
وقد رأينا أن نختمه بحديث جامع في صفاته وشمائله صلى الله عليه وآله وسلم فنقول: أنبأنا سعيد بن أحمد الفراء الدمشقي أنا علاء الدين بن محمد بن عمر الحسيني: أنا أبي: أنا محمد بن عبد الرحمن الكزبري: أنا أبي: أنا أبو المواهب الحنبلي: أنا أبي أنا الشمس محمد بن عبد الله الأنصاري: أنا محمد بن خليل اليشبكي: أنا أبو الفضل الحافظ: أنا أبو إسحاق التنوخي: أنا محمد بن جابر بن محمد الوادآشيء: أخبرنا أبو المواهب ربيع بن أبي عامر يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع: أنا الحسن بن علي الغافقي.
(ح) وقال التنوخي: أنا يحيى بن محمد بن سعد كتابة: أنا أبو جعفر أحمد بن علي بن حكم. (ح) وأنبأنا محمد بن إبراهيم السقا أنا أبي: أنا ثعيلب: أنا الشهاب الملوي: أنا عبد الله بن سالم البصري: أنا محمد البابلي أنا سالم بن محمد: أنا النجم الغيطي: أنا القاضي زكريا الأنصاري: أنا الشمس محمد بن علي القاياتي: أنا السراج عمر بن علي بن الملقن الأنصاري: أخبرنا أبو الفتوح يوسف بن محمد الدلاصي: أنا التقي أبو الحسن يحيى بن أحمد بن محمد بن تامتيت اللواتي: أنا
أبو الحسن يحيى بن محمد بن علي الأنصاري المعروف بابن الصائغ
٣٤٦
فضائل النبي
الحافظ
قال هو والغافقي وأبو جعفر ابن حكم أخبرنا عياض بن موسى | قال: حدثنا القاضي أبو علي الحسين بن محمد الحافظ بقراءتي عليه: حدثنا
الإمام أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي فيما قرأت عليه: أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن عبد الله بن الحسن النيسابوري، والشيخ الفقيه أبو عبدالله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدي، والقاضي أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الوخشي. قالوا: حدثنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الخزاعي: أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي: أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورَة
الحافظ.
قال: حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا جميع - بالتصغير - بن عمر بن عبد الرحمن العجلي إملاء من كتابه، قال: حدثني رجل من بني تميم، من ولد أبي لة زوج خديجة أم المؤمنين - رَضِيَ الله عنها - يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سألت خالي هند بن
هالة :
أبي هالة.
(ح) قال القاضي أبو علي وقرأت على الشيخ أبي طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد ابن خُداداد الكرجي الباقلاني، وأجاز لنا الشيخ الأجل أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون. قالا حدثنا أبو علي الحسن بن إبراهيم بن أحمد بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسي قراءة عليه فأقر به: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي بن
الأحاديث المنتقاة
٣٤٧
الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بابن أخي طاهر العلوي، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أخيه موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين.
قال الحسن بن علي واللفظ لهذا السند سألت خالي هندا بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وكان وصافا، وأنا أرجوا أن يصف لي منها شيئًا أتعلَّق به قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فخما مفَخَما، يَتَلالأُ وجُهُهُ تلألو القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذَّب، عظيم الهامة، رجل الشعر، وإن انفرقت عقيصتُه فرق، وإلا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفَرَه، أزهر اللون، واسع الجبين، أزَج الحواجب سوابع من غَيّر ،قرن بينهما عِرْقُ يدره الغضب، أقنى العرنين له نور يعلوه، ويحسبه من لم يتأمله أشم.
كث اللحية، أدعج سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان،
دقيق المسربة كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة.
معتدل الخلق، بادنا متماسكا سواء البطن والصدر، مشبح الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس، أنور المتجرد موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين ما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، أو قال: سائن الأطراف، وسائر الأطراف، سبط العصب، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء.
٣٤٨
فضائل النبي
إذا زال زال تقلعًا، ويخطو تكفوا ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، يبدأ من لقيه بالسلام. قلت: صف لي منطقه. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له ،راحة ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، دمنا ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئًا، لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه.
ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. قال الحسن: فكتمتها عن الحسين بن علي زمانًا، ثم حدثته، فوجدته قد سبقني إليه، فسأل أباه عن مدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومخرجه ومجلسه وسكوته فلم يدع منه شيئًا. قال الحسين: سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزاً دخوله ثلاثة أجزاء، جزءًا لله، وجزءًا ،لأهله، وجزءًا لنفسه، ثم جزء جزئه بينه وبين
الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ولا يدخر عنهم شيئًا.
الأحاديث المنتقاة
٣٤٩
فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمته على قدر فضلهم في الدين، منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسألته عنهم وأخبارهم الذي ينبغي لهم ويقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة»، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره.
قال في حديث سفيان بن وكيع يدخلون ،روادا، ولا يتفرقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة يعني فقهاء- قلت: فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه إلي غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم
مواساة ومؤازرة.
فسألته .
، عن مجلسه عما كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي
٣٥٠
فضائل النبي
كل جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، ومن جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى.
وفي الرواية الأخرى: صاروا عنده في الحق سواء.
مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثى فلتاته هذه الكلمة من غير الروايتين يتعاطفون بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير ويُرفدون ذا الحاجة ويرحمون الغريب.
فسألته عن سيرته صلَّى الله عليه وآله وسلم في جلسائه؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه، وقد ترك نفسه من ثلاث «الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه وترك الناس من ثلاث كان لا يذم أحد، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنها على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: «إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه»، ولا يطلب الثناء إلا من مكافيء، ولا
يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه، فيقطعه بانتهاء أو قيام.
الأحاديث المنتقاة
٣٥١
هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع.
وزاد الآخر: قلت: كيف كان سكوته صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: كان سكوته على أربع على الحلم والحذر، والتقدير، والتفكر، فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكيره ففيما يبقى ولا يفنى، وجمع له الحلم في الصبر فكان لا يغضبه شيء يستفزه، وجمع له في الحذر أربع أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاد الرأي بما يصلح أمته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة».
وهكذا رويناه في "الشفاء" من طريق الترمذي في "الشمائل"، والحافظ أبي
علي ابن شاذان المتوفي ببغداد سنة ٤٢٦ هـ.
وأخرجه أيضًا ابن سعد في "الطبقات" والطبراني في "الكبير" وأبو نعيم
والبيهقي كلاهما في "الدلائل".
ومعانيه واردة في جملة أحاديث في الصحاح والسنن وغيرها وشرحه
مستوفى في شروح "الشمائل" وشروح "الشفا"، وغيرها.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد سيد المرسلين
وخاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين وخيار صحابته من الأنصار والمهاجرين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
١ - السَّيفُ البَتّار
لَمَن سَبَّ النَّبِيِّ المُختار
مَنْ عَابَ أو سَبَّ النبيَّ فحُكْمُهُ سَيْف يُجلل رأسه تقريعًا هذا قضاء المسلمين جميعهم لا خُلْفَ بينَهُم ولا تَفْريعا
السيف البتار
٣٥٧
مقدمة المؤلف
الحمد الله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين ورضي ) الله عن صحابته
والتابعين. وبعد: فقد كتب عالمان في حادثة وقعت في زمنهما كتابين مفيدين، أحدهما: القاضي تقيُّ الدين السبكي، ألف كتاب: "السَّيْفُ المَسْلُولُ على من سب الرسول". والآخر: الحافظ ابن تيمية، وسمَّى كتابه: "الصَّارمُ المَسْلُولُ على شاتِم
الرسول"، وهو مفيد جدا لكنه ليس عندي الآن. وهذا مؤلف ثالث كتبتُهُ لحادثة أو جَبَتْهُ، وسميتُه : "السَّيفُ البتّارُ لمن سب
النبي المختار"، كتابنا هذا. والله أسأل أن يقبلَهُ مني ويجعله سببًا لنيل رضاه، إنه جواد كريم رؤوفٌ
رحيم.
٣٥٨
فضائل النبي
آراء العلماء فيمن سب النبي وأدلتهم على ذلك
قال الإمام ابن المنذر في كتاب "الإقناع": «أجمع عوام أهل العلم على وجوب القتل على من سب النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، هذا قول مالك،
والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وإسحاق، ومن تبعهم» . اهـ
قال القاضي عياض في "الشفا": «وهو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا تُقبل توبته عند هؤلاء. وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه،
والثوري، وأهل الكوفة، والأوزاعي في المُسلِم، وقالوا: هي رِدَّةٌ». اهـ وحكى ابن حزم في "المحلى" عن أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وسائر أصحاب الحديث وأصحابهم: أنَّ من
سب النبي - صلى الله عليه وآله وسلَّم- كافرٌ مُرتد.
وقال محمد بن سحنون: «أجمع العلماء على أنَّ شاتم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله تعالى، وحكمه عند الأمة
القتل . اهـ
ولمن صرح بوجوب قتل شاتم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: أبو بكر
الصديق، وابن عمر وعمر بن عبدالعزيز، رضي الله عنهم أجمعين. أما أبو بكر: فروى أبو داود، والنسائي، عن أبي برزة -رضي | الله عنه -
قال: كنت عند أبي بكرٍ رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه؟ قال: فأذْهَبَتْ كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إليَّ وقال : ما الذي قلت آنفًا ؟! قلتُ: ائذن لي أضرب عنقه،
السيف البتار
٣٥٩
قال: أكنتَ فاعلا لو أمرتك؟ قلتُ: نعم، قال: لا والله، ما كانت لبشر بعد
محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
وروى ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني: نا محمد بن بشار: أنا معاذ بن معاذ العنبري: نا شعبة، عن توبة العنبري قال: سمعت أبا السوار القاضي عبدالله بن قدامة يحدث عن أبي بَرْزَةَ أغْلَظَ رجلٌ لأبي بكر، فقلتُ: ألا أقتله ؟ فقال أبو بكر: ليس هذا إلا لمن
قال:
شتم النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
وأما ابن عمر رضي الله عنهما : فروى بن المنذر في كتاب "الأوسط"، عن حصين، عن مجاهد قال: قيل لابن عمر: إنَّ رجلا سبَّ النبي -صلَّى الله عليه
وآله وسلم- فقال: «لو سمعته لقتلته، ما صالحناهم على سب نبينا».
وروى الخلال في "الجامع" في "كتاب الملل"، باب من شتم النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، عن حصين، عمن حدثه عن ابن عمر: أنه مرَّ به راهب فقيل له: هذا يسُبُّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقال ابن عمر: «لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبُّوا نبينا». وأما عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: فروى ابن حزم في "المحلى" مـ طريق قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون: نا ابن وهب، عن خالد، عن حميد، عن عمر بن عبدالله، عن عبد الحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب: أنه كان على الكوفة لعمر بن عبدالعزيز ، فكتب إلى عمر بن عبدالعزيز: «إني وجدت رجلًا بالكوفة يسُبُّك، وقامت عليه البيِّنة فهممت بقتله أو قطع يديه
أو قطع لسانه أو جلده، ثم بدا لي أن أراجعك فيه».
من
٣٦٠
فضائل النبي
فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: سلام عليك، أما بعد: والذي نفسي بيده لو قتلته لقتلتك به، ولو قطعته لقطعتك به، ولو جلدته لأقدتُه منك، فإذا جاءك كتابي هذا فاخرج به إلى الكناسة فسُبَّه كالذي سبني، أو اعف عنه فإنّ ذلك أحب إلي، فإنه لا يحل قتل امرئ مسلم يسب أحدا من الناس، إلا رجلًا سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم».
ويؤيد هذه الآثار أحاديث
.
۱ - قال ابن حزم: حدثنا حمام: نا عباس بن أصبغ: نا محمد بن عبدالملك بن أيمن نا أبو محمد حبيب البخاري -وهو صاحب أبي ثور، ثقة مشهور نا محمد بن سهل سمعت علي بن المديني يقول: «دخلت على أمير المؤمنين، فقال لي: أتعرف حديثا مسندًا فيمن سبَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيقتل؟ قلت: نعم، فذكرتُ له حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن عروة بن محمد، عن رجل من بلقين: كان رجل يشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوًّا لي؟»
فقال خالد بن الوليد: أنا. فبعثه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إليه فقتله». فقال له أمير المؤمنين: ليس هذا مسندًا، هو عن رجل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، بهذا يعرف هذا الرجل وهو اسمه، وقد أتى نبي الله فبايعه، وهو مشهور معروف قال: فأمر لي بألف دينار». قال ابن حزم: «هذا حديث مسند
صحيح.
۲- حديث قتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وهو في "الصحيحين" وفي كتب السيرة، روى البخاري عن
السيف البتار
٣٦١
جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ لِكَعْب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟»، فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: «نعم»، قال: فائذن لي أن أقول شيئًا، قال: «قل». فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانَا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضًا والله لَتَمَلُّنَّهُ، قال: إِنَّا قد اتَّبَعْناه فلا نحب أن
ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تُسلِفَنَا، قال: نعم، ارهنوني. قالوا: أي شيء تريد ؟ قال: ارهنوني نسائكم. فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيُسب أحدهم فيقال: رُهِن بوَسَق أو وسقين؟! هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأمة - يعني السلاح فواعده أن يأتيه ليلًا، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج الساعة؟! أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم!، قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إنّ الكريم لو دعي إلى طعنة بليل
لأجاب. قال : ويُدخل محمد بن مسلمة معه رجلين فقال: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشُمَّه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا -أي: أطيب قال: عندي أعطر نساء العرب، فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم. ثم أشم أصحابه ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم فقتلوه. فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فأخبروه». هذا لفظ رواية البخاري.
فشمه
٣٦٢
فضائل النبي
وكان كعب قد نَقَضَ العهد وحرَّض قريشًا على قتال المسلمين بعد
انتصارهم ببدر، وقال لما بَلَغَه قتل صناديد قريش: الئن كان محمدا قتل هؤلاء لبطن الأرض خير من ظهرها».
- حديث قتل أبي رافع اليهودي: روى البخاري في "صحيحه" عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار، فأمر عليهم عبدالله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ويُعين عليه، فدخل عليه عبدالله بن
عتيك بيته ليلًا فقتله». وكان قتله بعد كعب بن الأشرف لعنهما الله.
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: « إن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تتنزجر، قال: فلما كان ذات ليلة، جَعَلت تقع في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجلها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فجمع الناس فقال: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامٍ»، قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يَتَدَلَّدَلُ حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال : يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وازجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذتُ المِغْوَلَ فوضعتُهُ في بطنها واتَّكَاتُ عليها حتى قتلتُها ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «ألا
اشهدوا أنَّ دَمَها هَدَرٌ». رواه أبو داود والنسائي، ورجاله ثقات.
السيف البتار
٣٦٣
ه ما رواه أبو داود عن الشعبي عن علي عليه السلام: «أن يهودية كانت تستُم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت
فأبطل رسول الله دمها رجال إسناده رجال الصحيح.
حكم من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم
تبيَّن مما أوردناه، أن الحكم بقتل صاحب "آيات شيطانية" صحيح جدا، وهو مبني على أساس من الأدلة متين، ومن استبعد هذا الحكم أو استكثره فهو إما جاهل بأحكام الدين وقواعده، وإما أنَّ في عقيدته دَخَلًا وخَلَلًا، أما الذي أيد ذلك المجرم وجاحَش عنه ممن ينتمي إلى الإسلام، فهو مرتد يجب قتله - إن لم يتب- وهذا حكم الإسلام.
سئل الإمام أبو الحسن القابسي فيمن قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الحتمال، يتيم أبي طالب»؟، فأفتى بقتله.
هي
وسئل أبو محمد بن أبي زيد القيرواني صاحب "الرسالة" المشهورة عن رجل سمع . جماعة يتذاكرون في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، إذ مر عليهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال لهم: تريدون أن تعرفوا صفته؟ صفة هذا المار في خَلْقِه وخُلُقِه وهيئة لحيته» ؟ فأفتى بقتله ولا تقبل توبته. وقال الشيخ أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون: «من قال: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أسود يقتل». والحوادث من هذا القبيل كثيرة، ذكر
جملة منها القاضي عياض في "الشفا" رحمه الله ورضي عنه.
وقال حبيب بن الربيع القروي: مذهب مالك وأصحابه أن من قال في
٣٦٤
فضائل النبي
حق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ما فيه نقص قتل دون استتابة». وقال ابن عتاب: نص الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله
حكم
القتل في
عليه وآله وسلَّم بأذى أو نقص مُعرّضًا أو مُصرّحًا، وإن قل، فقتله واجب». قال القاضي عياض: فهذا كله أي ما فيه أذية أو تنقيص له مما عده العلماء سبا - يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم». اهـ نقذ والحوادث التي حكاها القاضي عياض وغيره مرتكبيها، مسلمين كانوا أو نصارى، إذ كانت الحدود قائمة وحكم الإسلام نافذ، أما في هذا العصر المتأخر، حيث أحكام الإسلام معطلة ولا يمكن تنفيذها، بل صار الإسلام غريبا في بلاده بين أهله، تقابل أحكامه منهم باستنكار واشمئزاز لا يلقاه العلماء المخلصون الغير على دينهم. خذ مثلا طه حسين؛ كذَّب القرآن الكريم، وجَرَّأ طلبتُهُ على الطعن فيه، وصَرَّحَ بإباحة الزنا، وعُيّن بعد ذلك عميدًا لكلية الآداب، ثم عميدا للجامعة، ثم وزير المعارف، ثم مُنح لقب باشا، ثم عُيّن رئيسًا لَمَجْمَعِ اللغة العربية، ثم منح لقب عميد الأدب العربي، فكان كفره وإلحاده سبب نيل هذه المناصب
الخطيرة.
وله نظراء في المغرب لا يقلُّون عنه في الكفر والإلحاد، طعنوا في القرآن وسَمّوا بعض قِصَصَهُ خرافةً، كما سَمُّوا الأحاديث الصحيحة خرافة أيضًا، وهم مع ذلك يتولون مناصب خطيرة توجيهية في التعليم وتثقيف الجيل، حتى أنهم قرروا في المدارس نظرية داروين الخرافية في النشوء والارتقاء، مع ظهور بطلانها واتفاق المدارس العربية والأوروبية على تركها، فهي لا توجد اليوم إلا
السيف البتار
٣٦٥
في مدارسنا، بسبب هؤلاء الملحدين أفراخ الشيوعية، ولهم مجلات تنشر إلحادهم وطعنهم في النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولا يمسهم أحد بسوء لأنَّ القانون الأوروبي يحميهم وهو القانون المعمول به في البلاد الإسلامية كلها ما عدا الحجاز.
والنصارى لعنهم الله - يُرضيهم الطعن في ديننا ويحرضون عليه، ولا
يجدون فرصة لذلك إلا انتهزوها.
لما كنت في لندن، وجدت في كثير من شوارعها أماكن اللهو والقمار والرقص، ووجدت مكتوبًا على أبوابها : «مكة» بالأحرف اللاتينية. اتخذوا اسم هذا البلد الذي هو قبلة المسلمين عنوان الميسر والفجور، وعداوة الإنجليز للإسلام أشد من غيرهم من الكفار لعنهم الله أجمعين.
الحرية في الإسلام ليست التهجم على الدين
الحرية التي يلوكها الجهلاء والملحدون لها حد، إذا تجاوزته كانت جريمة
يعاقب عليها القانون.
فليس من الحرية التهجم على الدين بالطعن والتزييف وجرح شعور
لأنَّ
المسلمين، يَعْتَرِض عليه إلا كافر ملعون، وسَبُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم طعن في الدين وهدم له من أساسه، قال الله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن موَاضِعِهِ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع وَرَاعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنَا فِي الدين ﴾ [النساء : ٤٦].
الدين وَضْعُ إلهي والطاعن فيه معترض على الله تعالى، ولا
٣٦٦
فضائل النبي
قال ابن كثير في هذه الآية: ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين
يريدون بكلامهم خلاف ما يُظْهِرون: وَطَعْنَا فِي الدِّينِ يعني بسبهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم». اهـ وكان الأنصار يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «راعنا يا رسول الله» أي: «أرعنا سمعك»، وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا بلغة اليهود، معناها: «الرعونة»، وهي: «الحمق»، فمعنى راعن: أحمق»، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين، قالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا، فأعلنوا به الآن. فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد»، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ، ففطن لها - وكان يعرف لغتهم فقال لهم: «لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأضر بن عنقه»، فأنزل الله تعالى: يَتأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا } [البقرة: ١٠٤] لكيلا يجد اليهود
لذلك سبيلا إلى شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
وتوعد الله تعالى من يؤذي رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقوله:
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: ٦١].
وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ﴾ [الأحزاب: ٥٧].
قال المفسرون: «إيذاء الله : بنسبة الولد والشريك إليه، وإيذاء رسوله بسبه
أو نسبة عيب له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».
وليس من الحرية أيضًا اغتياب مسلم أو نسبته إلى الفاحشة، لأنَّ الغيبة
السيف البتار
٣٦٧
محرمة بنص القرآن في قوله تعالى: وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا ﴾ [الحجرات: ١٢] والأحاديث كثيرة في تقبيحها وعظم إثمها، وسُئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما هي الغيبة؟ فقال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال: «إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد
بهته.
وأوجب الإسلام على مَنْ نَسَبَ مسلما إلى فعل الفاحشة أن يُجلد ثمانين جلدة، مع الحكم بفسقه ورد شهادته إلى أن يتوب، والحكمة في تحريم الغيبة والقذف حفظ كرامة المسلم، وصون عرضه مِنْ أن يصيبه ما يخدشه أو يثلمه.
معنى قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: ٢٥٦] كثير من الناس يفهمون هذه الآية على
غير وجهها الصحيح، وأنا أبين معناها فأقول:
أما
معنى الآية الكريمة : أنّ اليهودي أو النصراني لا يكره على الإسلام، بل يُترك على حاله، لأنه متمسك بدين كان صحيحًا قبل نسخه بالإسلام الشرك وسائر ما يُعبد من دون الله فليست هذه بدين يعتبره الإسلام، وإنما اعتقادات و عادات جاهلية ورثها الأبناء عن الآباء، فهؤلاء لا يُقَرُّون على
هي
ما اعتادوه، بل يجب قتالهم حتى يسلموا، ولا تقبل منهم جزية. وبهذا ثبت الحديث المتواتر عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا
٣٦٨
فضائل النبي
بحقها». وهو تنفيذ لقوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلَوَةَ وَ اتَوُا الزَّكَوْةَ فَخَلُوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ ﴾ [التوبة: ٥]. لكن استثنى الحديث المجوس، فقال: «سُئُوا بهم سُنَّةَ أهل الكتاب»، وقال
علي عليه السَّلام: «كان لهم كتاب». والخلاصة: أنَّ أهل الكتاب والمجوس يُقَرُّون على دينهم إذا أعطوا الجزية ولا يُكْرَهُونَ على الإسلام، لأنَّ لهم في الأصلِ دينًا يَعْتَرِفُ به الإسلام. أما غيرهم من بقية أنواع الكفار فليس لهم دين يُقرون عليه، وإنما يعبدون أشياء تلقوها عن أبائهم كما قالوا إنا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى أَثَرِهِم مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: ٢٣].
وقال الله تعالى فيهم: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءُ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ ﴾ [يوسف: ٤٠].
وقال قوم إبراهيم عليه السَّلام عن معبوداتهم : قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا
عيدين [الأنبياء : ٥٣].
فهؤلاء يجب قتالهم حتى يُسلموا، لأنَّ بقاءَهُم فسادٌ في الأرضِ والله لا يحبُّ الفساد، وكذلك الأفكار الهدامة التي حدثت في هذه العصور مثل الشيوعية
وغيرها، لا يجوز تركها، بل يجب قتال أصحابها وقتلهم، وبالله التوفيق. والمسلم إذا ارتد يجب قتله - بعد استتابته - إن لم يتب للحديث الصحيح: «من بدل دينه فاقتلوه».
السيف البتار
موقف الدول الإسلامية من الكتب التي تهاجم الإسلام
٣٦٩
سكوت الدول الإسلامية عن كتاب آيات شيطانية" أبان عن تقصير كبير وفقدان الغيرة الدينية من قلوبهم، لا سيما وفي هذه الدول من تَدَّعِي السهر على حماية العقيدة الإسلامية، مع أنّ الطعن في الرسول هدم للدين من
أساسه.
كان الواجب عليهم أن يحتجوا على الدولة الإنجليزية التي طبعت الكتاب ونشرته، ويقرروا منع تداوله في بلادهم، ويبينوا للعالم ما في الكتاب من كذب وافتراء، هذا أقل ما يجب، ولم يفعلوه ، فما حجتهم عند الله تعالى؟!
والعجيب أن بعض الدول الكافرة منعت دخول ذلك الكتاب في بلادها مراعاة لشعور المسلمين الذين لم يحركوا ساكنا ولا نطقوا في هذا الموضوع ببنت شفه، وصدق الشيخ محمد عبده الذي قال: «لعن الله مادة سَاسَ يسوسُ وما تصرف منها»، ونأسف غاية الأسف على ذهاب الغيرة الإسلامية من قلوب
المسلمين ومن وجدانهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد حصلت حادثة من هذا النوع، أظهر فيها مسلم من قوة الإيمان ما لا يوجد عند كبراء المسلمين وزعمائهم الذين يتصدرون المجالس ويتشدقون بالخطب الحماسية الجوفاء.
قرأت في جريدة الأهرام المصرية خبر شاب هندي اسمه عبدالقيوم، سمع الحاكم الإنجليزي للهند يشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقتله،
والإنجليز كانوا في الهند ظلمة جبارين، فاستكثروا هذه الجرأة واستعظموها
۳۷۰
فضائل النبي
وقدموه للمحاكمة، وحكم بإعدامه.
فلما سمعت أمه الحكم عليه زغردت فرحًا، وقالت: ابني يموت شهيدًا، وصَدَقَتْ، فإنه مات شهيدًا رضي الله عنه وعنها، وهكذا تكون الغيرة الإيمانية والحمية الإسلامية، لا دعاوى تقال وألفاظ تذهب مع الريح هباء منثورا.
النبي أفضل الخلق على الإطلاق
رأيتُ المبتدع الألباني اعترض على الدكتور سعيد رمضان البوطي في قوله: النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أفضل الخلق»، وسأل مستنكرًا: ما دليله على هذه الدعوى؟! وزعم أن في المسألة خلافًا، أحال به على "شرح العقيدة الطحاوية". وهذه المسألة أفردتها بكتاب سميته "دلالة القرآن المبين على أن أفضل العالمين"، وقد طبع منذ مدة والحمد لله، ولكن سأبين هنا بطلان كلام هذا المبتدع الجاهل، وأثبت أفضلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأدلة من الكتاب والسنة بحول الله وتوفيقه.
النبي
وأول خطأ في كلام هذا المبتدع دعواه وجود الخلاف في المسألة، وأنه
.
موجود في "شرح العقيدة الطحاوية"، والخلاف الموجود في الكتاب المذكور: هو في المفاضلة بين الأنبياء والملائكة بوجه عام، ولم يتعرض لأفضلية النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، لأنها تُجمع عليها بين العلماء، ولم يَشذَّ عن إجماعهم
إلا اثنان : ابن حزم والزمخشري، وشذوذهما لا يؤثر، بل الإجماع حُجَّة عليهما. وبلغني عن هذا المبتدع أنه يُنكر الإجماع، مثل بقية مبتدعة العصر،
السيف البتار
۳۷۱
مستندين إلى قول نُسِبَ إلى الإمام أحمد في نفي الإجماع، وهو خطأ عليه، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين : ولم يكن يعني أحمد - يُقَدِّم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسًا ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا، وقد كَذَّبَ أحمد من ادعى هذا الإجماع،
وكذلك الشافعي قال في رسالته": ما لا يُعلَم فيه خلافا فليس إجماعا». فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.
وقال غيره: أنكر الإمام أحمد الإجماع الذي يحكيه الأصم وبشر المريسي على أرائهما مع جهلهما بأقوال الصحابة والتابعين وعلماء السلف، والإمام أحمد نفسه حكى الإجماع في مسائل معروفة عند الحنابلة.
ولا تغتر باستبعاد الشوكاني في إرشاد الفحول" لإمكان الإجماع وإمكان نقله، متأثرا بكلام النظام المعتزلي، وزاد فنقل عن الإمام أحمد أنه قال: «من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب»، ولفظ : «وجود» لم يقله أحمد، بل أُضيف إليه ممن
يُنكرون الإجماع، والشوكاني كان زيديًا معتزليا - والزيدية معتزلة - ولما ترك مذهبه وانضم إلى أهل السنة، بقي عنده بقايا من أثر الاعتزال، منها إنكار الإجماع. ونظير هذا: أنَّ كعب الأحبار كان من علماء اليهود - . وهم لا يعتقدون عصمة الأنبياء - فلما أسلم بَقِيَتْ معه عادته تلك، فكان في قصصه عن الأنبياء
ينسب إلى بعضهم ما ينافي العصمة، من غير شعور منه بما فيها من خطر. وأوضح دليل على وقوع الإجماع ما نشاهده من اجتماع أصحاب المذاهب على قول الإمام في المسائل الفرعية مثل اجتماع المالكية على أن فرائض
۳۷۲
مع
فضائل النبي
الوضوء سبعة، واجتماع الشافعية على أنها ستة، واجتماع الحنفية على أنها أربعة، انتشارهم من القارة الإفريقية إلى آسيا والهند، وفيهم علماء كبار بلغوا درجة الاجتهاد، بل صرح كثير منهم أن اجتهادهم وافق طريقة الإمام التي اختاروا السير عليها. فاجتماعهم على قول إمام دليل على أن اجتماع المجتهدين على
حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالإمكان وأجدر بالوقوع. ولا التفات إلى ما أبداه النظام ومن شايعه من إيرادات مُتَمَحْلَة، حتى قالوا: من يُدرينا، لعل أحد المجتهدين رجع عن قوله، أو وافق ظاهرا لا باطنا؟! ونحو هذه السخافات، ولهذا البحث بقية في كتب الأصول. وبعد، فإنّ الدليل على أفضلية النبي على الخلق أمور:
أولا: قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةُ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: ۱۰۷]، رحمة لمن آمن به في الدنيا والآخرة، ورحمة لمن كفر به أن يُعافى مما كان يصيب الأمم السابقة من العذاب في الدنيا بالخسف والمسخ ونحو ذلك، ورحمة للملائكة: أنهم أمِنُوا العاقبة بثناء الله عليهم في القرآن - ولم يكونوا يأمنونها فهو بهذا أفضل منهم.
ثانيا: قول الله تعالى في حق الملائكة: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنَّا إِلَهُ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٢٩]، والدليل في هذه الآية من وجهين:
الأول: بيَّنه ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: «إِنَّ الله عزَّ وجلَّ فضَّل محمدًا صلى الله عليه وآله وسلَّم على أهل السماء وعلى الأنبياء»، قالوا: يا ابن عباس،
السيف البتار
۳۷۳
ما فضله على أهل السماء ؟، قال: «لأنَّ الله عزّ وجل قال لأهل السماء: وَمَن يَقُل مِنْهُمْ إِنّى إِلَهُ مِن دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّلِمِينَ ، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم إنَافَتَحْنَا لَكَ فَتَحَامُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ ﴾ [الفتح: ۱ - ۲]. قالوا: يا ابن عباس، ما ـ ما فَضْلُه .
.
على
الأنبياء؟، قال: «لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قومه [إبراهيم: ٤]، وقال لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: روما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِلنَّاسِ ) [سبأ: ۲۸] فأرسله الله عز وجل إلى الإنس
والجن». رواه البيهقي في "دلائل النبوة" (٤٨٦/٥).
الثاني: بينه الحافظ السيوطي حيث قال: فهذه الآية إنذار للملائكة على لسان النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في القرآن الذي أنزل عليه، وقد قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا الْقُرْعَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغ [الأنعام: ١٩]، فثبت بذلك إرساله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى الملائكة». انتهى من "تزيين الأرائك في إرسال النبي إلى الملائك"، والرسول أفضل من المرسل إليهم.
ثالثا: قول الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكَرَهِم يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: ٧٢] أخرج البيهقي عن ابن عباس قال: «ما خلق الله خلقا أحب إليه من محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، وما سمعت الله عزّ وجلَّ أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال:
لَعَمرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَيهِمْ يَعْمَهُونَ ، وحياتك إنهم لفي سكرتهم يعمهون». "دلائل النبوة" (٤٨٨/٥).
٣٧٤
فضائل النبي
قال الإمام السيوطي في "الإكليل": واستدل بها أحمد بن حنبل على أن من أقسم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لَزِمَتْهُ الكفَّارة».
قلت: وجه الدلالة من الآية أنَّ الله تعالى لم يقسم بحياة نبي ولا مَلَك، وفَسَّرَ الزمخشري الآية على إضْمَارِ فعلٍ مُقَدَّر، أي: قالت الملائكة للوط: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَيهِمْ يَعْمَهُونَ ، وقد ضَعَفَه ابن القيم، والأصل: عدم
التقدير.
رابعا: المقام المحمود الذي خصَّصَهُ الله به دون الملائكة والأنبياء، قال الله تعالى: وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا
[الإسراء: ٧٩].
روى أحمد، وابن جرير، والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في قوله تعالى : عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا محمودا ، وسئل عنها ؟ قال : «هي الشفاعة». قال الترمذي: «هذا حديث حسن". قال ابن جرير: «قال أكثر أهل التأويل ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم
ما هم فيه من شدة ذلك اليوم . اهـ
وقال ابن كثير : أي : افعل الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما
محمودا، يحمدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى». اهـ
وأحاديث الشفاعة العظمى مُخرَّجَة في "الصحيحين" وغيرهما، مع بيان
السيف البتار
أنها من خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي متواترة. خامسا: وإن ذهبنا إلى القول الذي تفرد به مجاهد في المقام المحمود: «أنه
عن
إجلاس النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على العرش»، فهو أيضًا خاص به لم ينله نبي ولا ملك، وهذا ظاهر لا خفاء فيه. سادسا: روى الترمذي، من طريق عبدالرزاق، عن مَعْمَر ، عن ق قتادة، أنس: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أُتي بالبراق ليلة أُسري به، مُلَجَّا مسَرَّجا، فاستصعب عليه، فقال له جبرائيل أبمحمد تفعل هذا؟! فما رَكِبَكَ أحد أكرم على الله منه ، فارفَضَّ عرقًا» . حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. قال السهيلي: إنّ البراق استصعب عليه صلى الله عليه وآله وسلَّم لبُعْدِ عهده بركوب الأنبياء قبله». وهذا الحديث يُفيد أفضلية النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم على جبريل عليه السّلام، لأنه رَكِبَ البراق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في حديث حذيفة رضي ا الله عنه، وقد خاطَبَ البراق بقوله: «ما ركبك أحد أكرم على الله منه، والمخاطب - بكسر الطاء داخل في عموم خطابه، كما تقرر في علم الأصول، وأما ما يُقال: «أن جبريل عليه السلام كان آخذا بركاب النبي
صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو على البراق» فمِنْ وَضْع الجهلة القُصَّاص. وقد حصل بيني وبين الشيخ محمد الشربيني - من تلاميذ الشيخ الألباني - نزاع في هذه المسألة، حيث زعم صحة هذه الخرافة، وأثبت له بطلانها بما نقلته من كتاب "فتح الباري" للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
ومثل هذا التعبير لا يليق بمقام جبريل عليه السَّلام لأنَّ الله تعالى أثنى
٣٧٦
فضائل النبي
عليه ثناءا كبيرا في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَولُ رَسُول كَرِيرِ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينِ التكوير: ١٩ - ٢٠] ، فلا يجوز أن يقال في حقه كان خادما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو ممسكًا بركابه أو مثل هذه العبارات، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه كان يعظم جبريل عليه السَّلام، ويفرح بلقائه ويتواضع معه.
سابعا: روى مسلم في "صحيحه" : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا إني أبرأ إلى كل خل من خلة ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، إن صاحبكم خليل الله». وله طرق في "الصحيح". فالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم خليل الله بنص الحديث، وهذه رتبة لم ينلها أحد من الملائكة، فهو أفضل منهم، والخلة أفضل من المحبة لأنَّ الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المؤمنين، ولم يتخذ من خلقه خليلا إلا
إبراهيم - عليه السَّلام - والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهما أفضل الخلق. ثامنا: إجماع أهل السنة على أفضليته صلى الله عليه وآله وسلم على الملائكة، ومخالفة ابن حزم والزمخشري لا يعتبر بها لشذوذهما كما سبق التنبيه
عليه.
تاسعا: في صحيح البخاري"، عن رفاعة بن رافع الزرقي وكان من أهل بدر - قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة .
۳۷۷
السيف البتار
ورواه البيهقي بإسناد البخاري، ولفظه: «سأل جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: «خيارنا»، وقال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة هم خيار الملائكة».
أفاد الحديث تفضيل الملائكة الذين شهدوا بدرًا على من لم يشهدها منهم،
أفضل منهم.
وأنهم كانوا تبعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من جملة جنوده، فهو أ وأختم بهذا الأثر الذي رواه البيهقي عن بِشر بن شِغَاف الضبي قال: «كنا جلوسا مع عبدالله بن سلام يوم الجمعة فقال: إن أعظم أيام الدنيا يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه تقوم الساعة، وإنَّ أكرم خليقة الله على الله: أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلَّم، قلت: رحمك الله فأين الملائكة؟ قال: فنظر إلى وضحك، فقال: يا ابن أخي، وهل تدري ما الملائكة ؟! إنها الملائكة خلق كخلق الأرض، وخلق السماء، وخلق السحاب، وخلق الجبال، وخلق الرياح، وسائر الخلائق، وإن أكرم الخلائق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم». وذكر بقية الأثر. "دلائل النبوة" ( ٥/ ٤٨٥)
وهذا آخر ما يَسَّرَهُ الله تعالى وفتح به، وأسأل الله الذي وفقني له وألهمنيه، أن يقبله مني، ويجعله سببا لنيل شفاعة نبيه وخليله صلَّى الله عليه وآله وسلم، تم تحريرا يوم الأحد فاتح شوال سنة ١٤٠٩هـ.
والحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصَّلاة والسلام على أفضل خلقه سيدنا محمد وآله الكرام، ورضي الله عن صحابته الأئمة الأعلام.
- التَّفْعَةُ الإلهية
في الصَّلاةِ على خَيْرِ البَريَّة
النفحة الإلهية
المقدمة
۳۸۱
أحمدك اللهم حمدًا يليق بربوبيتك، وأشكرك قياما بحق عُبوديتك، وأشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدك ورسولك وصَفيك وخَليلك، أرسلته للخلق عامة، وبعثته بشيرا ونذيرا من اتبعه وأطاعه فهو الفائز السعيد، فصل اللهم عليه صلاة وسلاما دائمين بدوام توالي أفضالك عليه، وارض عن آله الطاهرين وعن صحابته الأنصار والمهاجرين، ووفقنا لسلوك نهجهم القويم، واحشرنا في زمرتهم تحت لوائه في الموقف العظيم.
أما بعد: فهذا جزء في الصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يشتمل على ثلاثة وأربعين حديثا في فضلها، ثُمَّ مُبشِّراتٍ فيها فوائد ودعوات، ثُمَّ صيغ صلوات، وسميته "النَّفْحَةُ الإلهية في الصَّلاةِ على خَيْرِ البَرِيَّة".
وقدمته هديَّةٌ إلى جناب النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، راجيا أن أفوز بشفاعته وأكون في جملة خَدَمَتِهِ، والله المسؤول أن يقبله مِنِّي ويُنيلني
مرادي، فعليه اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي .
۳۸۲
فضائل النبي
الحديث الأول
عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بي يومَ القِيامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةٌ». رواه الترمذي
وحسنه.
الحديث الثاني
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنَّ الله سَيَّارَةٌ مِن الملائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذُّكْرِ، فَإِذا أَتَوْا عليهم حَفُّوا بهم ثم
بعثوا رائدهم إلى ربَّ العِزَّة تبارك وتعالى فيقولون: ربَّنا أتينا على عِبادٍ مِن عِبادِكَ يُعَظَّمونَ آلاءَك ويَتْلُونَ كِتابَكَ ويُصَلُّون على نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم ويسئلونك لآخِرَتِهم ودنياهم فيقول تبارك وتعالى: غَشُوهُم رَحْمَتِي. فيقولون: يا ربِّ إِنَّ فيهم فلانًا الخَطَّاء إنما اغتبقهم اغتباقا فيقول تبارك وتعالى: غَشُوهُم رَحْمَتي فهم القوم لا يَشْقَى بهم جَليسُهُمْ». رواه البزار بإسناد حسن.
الحديث الثالث
عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّ جبريل عليه السلام أتانى فبَشَّرني فقال: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ يقول: مَن صَلَّى عليك صَلَّيْتُ عليه، ومَن سَلَّمَ عليكَ سَلَّمْتُ عليه». رواه الإمام أحمد، وصححه الحاكم.
النفحة الإلهية
الحديث الرابع
۳۸۳
عن أنس بن مالك، ومالك بن أوس رضي الله عنهما قالا: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يَتَبَرَّزُ ولم يَجِد أحدًا يَتْبَعُهُ فَفَزِعَ عمرُ رضي الله عنه فاتبعه بِمَطْهَرَةٍ -يعني إداوة - فوجده سَاجِدًا في شربة فتنحى عمر فجلس وراءه حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ فقال: «أَحْسَنْتَ يا عمرُ حيثُ وَجَدْتَنِي سَاجِدًا فَتَنَجَّيْتَ عَنِّي، إن جبريل عليه السلام أَتَانِي فقال: مَنْ صَلَّى عليك وَاحِدَةٌ صَلَّى الله عليه عَشْرًا وَرَفَعَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ». رواه البخاريُّ في "الأدب المفرد" ورواه الضياء في "المختارة" من حديث عمر رضي الله عنه وإسناده جيد صحيح. الحديث الخامس
عن الحسن بن علي عليهما السّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حيثما كنتم فصَلُّوا عليَّ فإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي». رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وإسناده حسن. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" بإسناد صحيح من طريق حسن بن حسن بن علي رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حيثما كنتم، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي».
الحديث السادس
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذَنَ ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةٌ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا
٣٨٤
فضائل النبي :
تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ الله تعالى وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ الله ،
الوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ». رواه مسلم في "صحيحه".
الحديث السابع
عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَى مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ». قَالُوا: وَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَيْكَ صَلاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ ؟ -يقولون: بَلِيتَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ من أَجْسَاد الأنبياء». رواه أحمد وأبو داود والنسائي
وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.
الحديث الثامن
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَكْثِرُوا من الصَّلَاة عَلَيَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يوم مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ أَحَدًا لن يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا». قُلْتُ: وَبَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: «وَبَعْدَ المَوْتِ إِنَّ الله حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ»، فَنَبِيُّ اللَّهِ حَيٌّ يُرْزَقُ. رواه ابن ماجه والطبراني وابن المقري بإسنادين أحدهما جيد.
الحديث التاسع
عن علي عليه السَّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: البَخِيلُ مَن ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فلم يُصَلِّ عَلَيَّ». رواه النسائي ورواه أحمد من حديث
الحسين بن علي عليهما السلام. وصححه الحاكم.
النفحة الإلهية
الحديث العاشر
٣٨٥
عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم فَوَجَدْتُهُ مَسْرُورًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَدْرِي مَتَى رَأَيْتُكَ أَحْسَنَ بِشْرًا وَأَطْيَبَ نَفْسًا مِنَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: «وَمَا يَمْنَعُنِي وَجِبْرِيلُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي السَّاعَةَ، فَبَشَّرَنِي أَنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً يُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُمْحَى عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَيُرْفَعُ لَهُ بِها عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَتُعْرَضُ عَلَيَّ كَمَا قَالَهَا، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا دَعَا». رواه عبد الرزاق في "المصنف"، والإمام أحمد في "المسند".
الحديث الحادي عشر
عنه أيضًا قال: جاء رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال: جَاءَنِي الملك فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الله تعالى يَقُولُ لك: أَمَا تَرْضَى أَنْ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أحد من أمتك إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا؟ وَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْكَ أحد من أمتك إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ». رواه ابن حبان في "صحيحه".
الحديث الثاني عشر
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صلاة واحدة بَلَغَتْني صَلَاتُهُ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَكُتِبَتْ لَهُ سِوَى ذَلِكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ». رواه الطبراني في "الأوسط"، وإسناده لا بأس به.
٣٨٦
فضائل النبي
الحديث الثالث عشر
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُجُمُعَةٍ، فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلُّ يَوْمِ مُجُمُعَةٍ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةٌ كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةٌ». رواه البيهقي في "حياة الأنبياء" وإسناده حسن.
الحديث الرابع عشر
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَكْثِرُوا الصَّلاةَ عَلَيَّ فى الليلةِ الزَّهْرَاءِ واليومِ الأَغَرُ فَإِنَّ صَلَاتَكُم تُعْرَضُ عليَّ فَأَدْعُوا لكم وأَسْتَغْفِر». رواه الحافظ أبو القاسم بن بشكوال.
الحديث الخامس عشر
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أكثروا الصلاة عليَّ فإن الله وكَلَ بي ملكا عند قبري فإذا صلَّى على رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد إنَّ فلان بن فلانٍ صلى عليك». رواه
الديلمي في "مسند الفردوس".
الحديث السادس عشر
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أكثروا الصَّلاةَ عليَّ في يوم الجُمُعَةِ فَإِنَّه ليس يُصَلِّي أَحدٌ يومَ الجُمُعَةِ إِلَّا عُرِضَتْ عليَّ صَلاتُهُ». رواه الحاكم وصححه.
النفحة الإلهية
الحديث السابع عشر
۳۸۷
عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله تبارك وتعالى مَلَكًا أَعْطَاهُ أَسْمَاء الخَلَائِقِ، فهو قائم على قَبْرِي إِذا متُ فَلَيس أَحَدٌ يُصَلِّي عليَّ إِلَّا قال: يا محمد صلى عليك فلانُ ابنُ فُلانٍ فيصَلِّي الرب تبارك وتعالى على ذلك الرجل بكلّ واحدة عشرا». رواه البزار والحارث ابن أبي أسامة وأبو الشيخ والطبراني، وهو حديث حسن.
الحديث الثامن عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: مَن صَلَّى عليَّ عند قبري سمعتُه ومَن صلَّى عليَّ مِن بعيد أُعْلِمْتُهُ». رواه أبو الشيخ، وإسناده جيد كما نقل الحافظ السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى.
الحديث التاسع عشر
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن صَلَّى عليَّ مِائَةٌ في يومِ الجُمُعَةِ وليلةِ الجُمُعَةِ قَضَى اللَّهُ له مائة حاجةٍ، سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا، ثُمَّ يوكَّل الله بذلك مَلَكًا يدخل على في قبري كما تدخل عليكم الهدايا، إنَّ عِلْمي بعد موتي كعلمي في الحياة». رواه ابن منده في "فوائده" والأصبهاني في "الترغيب" والديلمي في "مسند
الفردوس" والبيهقي في "حياة الأنبياء". وليس في سنده متروك. ورواه ابن منده عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله
۳۸۸
فضائل النبي
وسلم قال: من صلى علي في كل يوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة، سبعين منها لآخرته وثلاثين منها لدنياه». قال الحافظ أبو موسى المديني: «حديث
غریب حسن .
الحديث العشرون
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أُصلِّيها في السفر والحضر يعني صلاة الضحى وأن لا أنام إلا على وتر، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. رواه بقي بن مخلد ومن طريقه ابن بشكوال.
الحديث الحادي والعشرون
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيُّهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ صَدَقَةٌ، فَلْيَقُلْ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، وَصَلَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، فَإِنَّهَا زَكَاةً». وَقَالَ: «لَا يَشْبَعُ مُؤْمِنُ خَيْرًا حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الْجَنَّةُ». رواه ابن حبان في "صحيحه".
الحديث الثاني والعشرون
عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا اجْتَمَعَ قومٌ ثُمَّ تَفَرَّقُوا عن غيرِ ذِكْرِ الله، وصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، إلَّا قاموا عن أَنْتَنِ جِيفَةٍ». رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"،
وإسناده على شرط مسلم.
النفحة الإلهية
۳۸۹
الحديث الثالث والعشرون
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم إلا كان عليهم من الله ترة يوم القيامة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم». رواه أحمد والترمذي وحسنه.
الحديث الرابع والعشرون
عن أبي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: من صَلَّى عَلَيَّ مِنْ أُمَّتِي واحدة مخلصًا من قلبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَرَفَعَه بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ وَكَتَبَ لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَا عَنْهُ بِهَا عَشْرَ سيئات». رواه النسائي والطبراني ورجال إسناده ثقات.
الحديث الخامس والعشرون
عن أبي أمامة رضي ! وسلَّم: «مَنْ صَلَّى عليَّ صلَّى عليه عشرًا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِها حَتَّى يُبْلِغْنِيهَا». رواه
الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله
الطبراني.
الحديث السادس والعشرون
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: صَلُّوا عليَّ فإِنَّ الصَّلاةَ عليَّ كفَّارة لكم ومَن صَلَّى عَليَّ صَلاةٌ صَلَّى الله عليَّ
عشرا». رواه ابن أبي عاصم في كتاب "الصلاة النبوية".
۳۹۰
فضائل النبي
الحديث السابع والعشرون
الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا
عائشة
عن
رضي
صلاة إلا بطهور وبالصلاة علي». رواه الدارقطني وغيره.
الحديث الثامن والعشرون
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من صلى عليَّ حين يُصبح عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة». رواه
الطبراني بإسنادين أحدهما جيد.
الحديث التاسع والعشرون
عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صَلُّوا عليَّ صلَّى الله عليكم». رواه ابن عدي والنميري من طريقه.
الحديث الثلاثون
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن ذكرتُ عنده فليُصَلِّ على ومَن صَلَّى عليَّ مرَّةً صَلَّى الله عليه عشرا». رواه الإمام
أحمد.
الحديث الحادي والثلاثون
عن الحسين بن علي عليهما السَّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن ذُكرتُ ع ، عنده فخَطِئ الصَّلاةَ عليَّ خَطِئ طريق الجنَّةِ». رواه الطبري
والطبراني.
النفحة الإلهية
۳۹۱
الحديث الثاني والثلاثون
عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن صلى على صلاةً صلَّى الله عليه بها عشر صلوات فليقل عبد أو ليُكثر». رواه
الطبري وقال: «هذا خبر عندنا صحیح سنده».
الحديث الثالث والثلاثون
عن أنس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن صَلَّى عليَّ في يومِ الجُمُعَةِ ألف مرة لم يَمُتْ حَتَّى يرى مَقْعَدَهُ مِن الجَنَّةِ». رواه أبو حفص بن شاهين واللفظ له، والضياء المقدسي في "المختارة" ولفظه: «من صلى علي في يوم ألف مرة...» الحديث.
الحديث الرابع والثلاثون
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن صلَّى على كنتُ له شفيعًا يومَ القيامة». رواه أبو حفص بن شاهين
وغيره.
الحديث الخامس والثلاثون
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ مَا صَلَّى عَلَيَّ فليكثر عَبْد أَو ليقل». رواه
الضياء المقدسي في "المختارة".
۳۹۲
فضائل النبي
الحديث السادس والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: مَن صَلَّى عليَّ يوم الجمعة ثمانين مرَّة غَفَر الله له ذنوبَ ثمانين سنة» قيل: يارسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: «تقول: اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وتعقد واحدةً». رواه الدارقطني، وحسنه الحافظ
العراقي.
الحديث السابع والثلاثون
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله من كتب عني علما فكتب معه صلاةً عليَّ لم يزل في أجرٍ ما قُرِئَ ذلك
وسلم:
الكتاب». رواه الدارقطني وغيره.
الحديث الثامن والثلاثون
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن صلَّى صلاةٌ لم يصلُّ فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تُقبل منه».
رواه الدارقطني والبيهقي.
من
الحديث التاسع والثلاثون
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: صلى عليّ في كتاب لم تزل الملائكةُ تصلي عليه ما دام اسمي في ذلك
الكتاب». رواه الطبراني وغيره.
النفحة الإلهية
الحديث الأربعون
۳۹۳
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ عَشْرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مِائَةً، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِائَةٌ كَتَبَ الله بَيْنَ عَيْنَيْهِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَأَسْكَنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الشُّهَدَاءِ». رواه الطبراني وغيره.
الحديث الحادي والأربعون
عن رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من قال: اللهمَّ صلّ على محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبَتْ له شفاعتي رواه أحمد وابن أبي الدنيا وغيرهما، وهو
حدیث حسن.
الحديث الثاني والأربعون
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: «يا أيها الناس اذكروا اللهَ، جاءت الرَّاحِفةُ تتبعها الرَّادِفةُ، جاء الموتُ بما فيه». قال أبي بن كعب فقلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئت». قلتُ: الربع؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: فالنصف؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت فالثلثين؟ قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير لك». قلت: أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال : «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، ويُغْفَرُ لك ذَنْبُكَ». رواه الترمذي والحاكم وصححاه.
٣٩٤
فضائل النبي
الحديث الثالث والأربعون
عن جابر رضي الله عنه قال: رقى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المنبر، فلما رَقَى الدرجة الأولى قال: «آمين»، ثُمَّ رَقَى الثانية فقال: «آمين»، ثُمَّ رَقَى الثالثة فقال: «آمين»، فقالوا: يا رسول الله سمعناك تقول: «آمين» ثلاث مرات؟ قال: «لما رقيتُ الدرجة الأولى جاءني جبريل عليه السلام فقال: شَقِي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يُغْفَر له، فقلت: آمين. ثُمَّ قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين. ثُمَّ قال: شقي عبد ذكرت عنده فلم يُصَلِّ عليك، فقلت: آمين». رواه البخاري في "الأدب المفرد" وهو حديث صحيح بل مشهور.
النفحة الإلهية
المبشرات
(1)
٣٩٥
قل
قال الإمام تاج الدين أبو حفص عمر بن علي الفاكهي المالكي في كتابه "الفجر المنير في الصلاة على البشير النذير : أخبرني الشيخ الصالح موسى الضرير أنه ركب في البحر الملح قال : وقد قامت علينا ريح تسمى: الإقلابية، ، من ينجو منها من الغرق، فنمت فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو يقول لي: قل لأهل المركب يقولوا ألف مرة: اللهم صل على محمد صلاةً تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وتَقْضِي لنا بها جميع الحاجات، وتُطهرنا بها من جميع السيئات، وترفعنا بها أعلى الدرجات، وتبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات».
قال: فاستيقظت وأخبرت أهل المركب بالرؤيا، فصلينا نحو ثلاثمائة ففرج الله عنا وأسكن تلك الريح ببركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم. نقلها الإمام مجد الدين الفيروزابادي في كتاب "الصلاة والبشر في الصلاة على خير البشر"، ونقل عقبها عن الإمام الحسن بن علي الأسواني قال: من قالها في كل مهم ونازلة وبلية ألف مرة فرج الله عنه.
قلت: هذا مأخوذ من أمر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لأهل المركب بقراءتها العدد المذكور، وقد جعلها مولانا الأستاذ الإمام الوالد رضي الله عنه من أذكار وظيفة طريقتنا الصديقية.
فضائل النبي
(۲)
٣٩٦
حكى الإمام أبو عبد الله القسطلاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وشكا إليه الفقر، فقال له: «قل: اللهمَّ صلي على محمد وعلى آل محمد، وهب لنا اللهمَّ مِن رزقك الحلال الطيب المبارك ما تصون بها وجوهنا عن التعرض لأحد من خلقك، واجعل لنا اللهم إليه طريقا سهلًا من غير تعب ولا نصب، ولا منة ولا تبعة، وجنبنا اللهم الحرام حيث كان وأين كان وعند من كان، وحل بيننا وبين أهله واقبض عنا أيديهم واصرف عنا قلوبهم؛ حتى لا نتقلب إلا فيما يرضيك، ولا نستعين بنعمتك إلا على ما تحب يا أرحم الراحمين».
(۳)
قال الحافظ قطب الدين الحلبي: رأيت أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن عطية وقال لي: رأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله أسألك شفاعتك فقال: «أكثر مِن الصَّلاة عليَّ». صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
(٤)
روى الحافظ أبو موسى المديني وعبد الغني بن سعيد وأبو القاسم ابن بشكوال في كتبهم في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أبي بكر بن محمد بن عمر قال: كنت عند أبي بكر بن مجاهد - أحد أئمة القراء- فجاء الشبلي - من كبار -الصوفية - فقام إليه أبو بكر بن مجاهد فعانقه وقبل بين
النفحة الإلهية
۳۹۷
عينيه. فقلت: ياسيدي تفعل بالشبلي هكذا وأنت وجميع من ببغداد يتصورون أنه مجنون؟ فقال لي: فعلت كما رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فعل به، وذلك أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وقد أقبل الشبلي؟ فقال: «هذا يقرأ بعد صلاته لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوكَ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمُ ) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: ۱۲۸ - ۱۲۹] ويتبعها بالصلاة على». صلى الله عليه وآله وسلم.
(0)
قال الإمام القسطلاني شارح البخاري في "مسالك الحنفا": روينا عن الطبراني أنه رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام في صفته التي اتصلت بنا، فقال له: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، يا رسول الله قد ألهمني الله كلمات، أقولهنَّ؟ قال: «وما هنَّ؟» قال: «اللهم لك الحمد بعدد من حمدك، ولك الحمد بعدد من لم يحمدك، ولك الحمد كما تحب أن تحمد اللهم صل على محمد بعدد من صلى عليه، وصل على محمد كما تحب أن يُصلَّى عليه». فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حتى بدت ثناياه، ورؤي النور يخرج
من التفلج الذي بين ثناياه صلى الله عليه وآله وسلّم.
فضائل النبي
(٦)
۳۹۸
روى البيهقي في مناقب الشافعي" من طريق محمد بن حمدان الطرائفي، عن أبي عبدالله الدينوري قال: سمعت أبا عبدالله الشافعي، يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله بما جزي الشافعي عنك حيث يقول في كتاب "الرسالة": «وصلى الله على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون»؟، قال: «جزي عني أنه لا يوقف
للحساب». ومثل هذا مارواه الحافظ ابن مسدي في "مسلسلاته" عن أبي الحسين يحيى ابن الحسين الطائي قال : سمعت ابن بنان الأصبهاني يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في المنام فقلت يا رسول الله، محمد بن إدريس الشافعي ابن عمك هل خصصته بشيءٍ؟ ، أو هل نفعته بشيء؟ قال: «نعم سألت الله ألا يحاسبه قلت يا رسول الله بم؟ قال: «لأنه كان يصلي علي صلاة لم يصلّ عليَّ أحدٌ مثلها». قلت: فما تلك الصلاة؟ قال: «كان يقول: اللهم صل على محمدٍ كلَّما ذكره الذاكرون وصلّ على محمَّدٍ كلَّما غَفَلَ عَن ذِكْرِهِ
الغافلون.
قلت: هذه الصلاة بليغة جامعة لأنها تعمم عالم الملائكة والإنس والجن، إذ ما من أحد من هذه العوالم إلا وهو إما ذاكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وإما غافل عنه.
۳۹۹
(V)
النفحة الإلهية
روينا من طرق عن الحافظ السخاوي قال في "القول البديع في الصلاة على النبي الشفيع": «أخبرني غير واحدٍ عن القاضي برهان الدين بن جماعة إذنًا، عن الإمام أبي عمرو بن المرابط سماعا أنَّ الحافظ أبا أحمد الدمياطي أخبره عن الشيخ علي بن عبد الكريم الدمشقي فيما شافهه به قال: رأيت في المنام محمد ابن الإمام الحافظ زكي الدين المنذري بعد موته عند وصول الملك الصالح وتزيين المدينة له، فقال لي: فرحتم بالسلطان؟ قلت: نعم، فرح الناس به. فقال : أما نحن فدخلنا الجنة وقبلنا يده - يعني النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- وقال: أبشروا، كل من كتب بيده: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم» فهو معي في الجنة».
قال الحافظ السخاوي: هذا سند صحيح والمرجو من فضل الله حصول
ذلك».
(^)
روى الخطيب وابن بشكوال والتيمي والحافظ في "الترغيب" عن أبي سليمان محمد بن الحسين قال: قال رجل من جواري يقال له الفضل، وكان كثير الصوم والصلاة: كنت أكتب الحديث ولا أصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأيته في المنام فقال لي: «إذا كتبت أو ذكرت فلم لا تصلي علي؟» ثم رأيته صلى الله عليه وآله وسلّم مرة من الزمان فقال لي: «بلغتني صلاتك فإذا
صليت علي أو ذكرت فقل: صلى الله عليه وآله وسلم».
فضائل النبي
(9)
٤٠٠
روى الخطيب وابن بَشْكُوال وأبو اليمن وابن عساكر، عن محمد بن يحيى الكرماني قال: كنا يوما بحضرة أبي علي بن شاذان - من الحفاظ - فدخل علينا شاب لا يعرفه منا أحد فقال: أيكم أبو علي بن شاذان؟ فأشرنا إليه، فقال: أيها الشيخ رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي: «سَلْ عن مسجد أبي علي بن شاذان فإذا لقيته فأقرئه منّي السَّلام». ثُمَّ انصرف الشاب فبكى أبو علي وقال : ما أعرف لي عملا أستحق به هذا إلا أن يكون صبري على قراءة الحديث، وتكرير الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلما جاء ذكره. قال الكرماني: ولم يلبث أبو علي بعد ذلك إلا شهرين أو ثلاثة حتى مات رحمه الله تعالى.
قلت: مات ببغداد سنة ٤٢٦ هجرية وانفرد في وقته بإسماع كتاب "الشمائل المحمدية" للترمذي.
(1+)
روى التيمي في "الترغيب"، وأبو اليمن بن عساكر، عن الإمام أسعد
الزنجاني قال : كان عندنا بمصر شخص زاهد يسمى أبا سعيد الخياط وكان لا يختلط بالناس ولا يحضر المجالس ، ثُمَّ إنه داوم على حضور مجلس ابن رشيق فتعجب الناس فسألوه، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في منامي
فقال: «احضر مجلسه فإنه يكثر فيه الصلاة عليَّ». صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وروى أبو عبد الله النميري المالكي في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي
النفحة الإلهية
٤٠١
عليه الصَّلاة والسَّلام" وابن بَشِّكُوال الحافظ في "القربة إلى ربِّ العالمين بالصلاة على محمد سيد المرسلين: أن الخياط هذا لما حضر مجلس أبي محمد الحسن بن رشيق - وكان من أهل الحديث أكرمه وقال له: هل للشيخ شيء يقدم؟ فقال اقرؤوا، ثم قال: رأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام
فقال: «احضر مجلس ابن رشيق فإنه يصلي عليَّ فيه كذا وكذا مرة».
وروى ابن بَشْكُوال أنَّ ابن رشيق هذا رؤي بعد موته في حالة حسنة فقيل له: بم أوتيت هذا؟ فقال بكثرة صلاتي على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.
(11)
روى أبو اليمن ابن عساكر عمن حدثه عن أبي العباس بن عبد الدايم - وكان كثير النقل لكتب العلم على اختلاف -فنونه - أنه حدثه من لفظه قال: كنت إذا كتبت في كتب الحديث وغيرها: «النبي» أكتب لفظ الصلاة دون تسليم، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي: «لم تحرم نفسك أربعين حسنة ؟ قلت وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا جاء ذكري تكتب صلى الله عليه وآله وسلَّم وهي أربعة أحرف كل حرف بعشر حسنات»
وعدهن صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بيدي.
(۱۲)
روى الحافظ ابن الصلاح بإسناده إلى الحافظ حمزة الكتاني قال: كنت أكتب الحديث وكنت عند ذكر النبي أكتب صلى الله عليه، ولا أكتب: وسلم. فرأيت
٤٠٢
فضائل النبي
النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في المنام فقال لي: «مالك لا تتم الصلاة عليّ؟» فما كتبت بعد ذلك: صلى الله عليه، إلا كتبت: وسلَّم.
(۱۳)
روى ابن بشكوال عن الحسن بن موسى الخضري المعروف بابن عجينة قال: كنت إذا كتبت الحديث أتخطى فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أريد بذلك العجلة، فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي: «مالك لا تصلي علي إذا كتبت كما يصلي علي أبو عمرو الطبري؟!» قال فانتبهت وأنا فزع فجعلت الله على نفسي ألا أكتب حديثًا إلا كتبت: صلى الله عليه وآله وسلم.
(١٤)
قال الحافظ ابن الملقن في كتاب "الحدائق": كان شاب يطوف في البيت ويشتغل بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل له: هل عندك في هذا شيء؟ قال: نعم، خرجت مع أبي ،حاجين، فمرض في بعض المنازل ومات فاسود وجهه وازرقت عيناه وانتفخ بطنه فبكيت وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات أبي في غربته هذه الموتة !! فلما كان الليل غلبني النوم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وعليه ثياب بيض ورائحته عطرة فدنا من أبي ومسح على وجهه فصار أشد بياضًا من اللبن، ثم مسح على بطنه فصار كما كان، ثم أراد الانصراف قال: «إنَّ أباك كان يكثر المعاصي والذنوب وكان يكثر
النفحة الإلهية
٤٠٣
الصلاة على فلما نزل ما نزل استغاث بي فأغثته وأنا غياث لمن أكثر الصلاة على
في دار الدنيا».
(10)
روى ابن الملقن في "الحدائق" عن علي بن عيسى الوزير قال: كنت أكثر الصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلما صرفت عن الوزارة رأيت في المنام كأني راكب حمارًا ورأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فترجلت له فقال لي: «ارجع إلى مكانك فأصبحت وقلدت الوزارة ببركة الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلّم.
(17)
قال أبو سعيد الواعظ في كتابه "التعبير": بلغنا أنَّ رجلا رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام فشكا إليه ضيق حاله فقال له: «اذهب إلى علي بن عيسى وقل له يدفع لك ما تصلح به أمرك فقال: يارسول الله بأي علامة؟ قال: «قل له: بعلامة أنك رأيتني على البطحاء وكنت على نشز من الأرض فنزلت وجئتني فقلت: ارجع إلى مكانك». وكان علي بن عيسى قد عزل فردت إليه الوزارة، فلما انتبه ذلك الرجل جاء إلى علي بن عيسى وهو يومئذ وزير فذكر قصته فقال: صدقت. ودفع إليه أربعمائة دينار فقال: اقض بهذه دينك ودفع إليه أربعمائة دينار أخرى فقال: اجعلها رأس مالك، فإذا أنفقت ذلك فارجع إلى.
فضائل النبي
(۱۷)
٤٠٤
قال عبد الواحد بن زيد - أحد كبار الزهاد كان لنا جار يخدم السلطان وهو معروف بالفساد والغفلة عن الله تعالى، فرأيته ليلة في المنام ويده في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله إنَّ هذا العبد السوء من المعرضين عن الله تعالى فكيف وضعت يدك في يده؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قد عرفت ذلك وها أنذا ماض به لأشفع له عند الله تعالى». فقلت: يا رسول الله بأي وسيلة بلغ ذلك؟ قال: «بكثرة صلاته علي فإنه في كل ليلة حين يأوي إلى فراشه يصلي علي ألف مرة وإني لأرجو الله تعالى أن يقبل شفاعتي فيه».
قال عبد الواحد: فلما أصبحت إذا أنا بذلك الغلام قد دخل المسجد باكيا وكنت أقص على أصحابي ما رأيته له، فلما دخل سلم وقال: يا عبدالواحد مد يدك فقد أرسلني إليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأتوب على يدك، وذكر لي ما جرى بينك وبينه الليلة في شأني. فلما تاب سألته عن رؤياه فقال: أتاني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخذ بيدي وقال: «لأشفعن لك إلى ربي لأجل صلاتك علي. فلما انطلقت معه شفع لي وقال: «إذا أصبحت فائت عبد الواحد وتب على يديه واستقم.
(۱۸)
روى البيهقي أنَّ الإمام الشافعي رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟
قال: غفر لي، فقيل له : بماذا؟ قال: بخمس كلمات كنت أصلي بهن على رسول الله
النفحة الإلهية
٤٠٥
صلَّى الله عليه وآله وسلّم. فقيل له : وما هذه ؟ قال : كنت أقول: اللهم صل على
محمد عدد من صلى عليه وصل على محمد بعدد من لم يصل عليه، وصل على محمد كما تحب أن يصلى عليه، وصل على محمد كما تنبغي الصلاة عليه.
(۱۹)
روى ابن بشكوال عن الزعفراني قال: سمعت خالي الحسن بن محمد يقول: رأيت الإمام أحمد بن حنبل في النوم فقال لي: يا أبا علي لو رأيت صلاتنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في الكتب كيف تزهر بين أيدينا.
(۲۰)
روى النميري عن سفيان بن عيينة قال: كان لي أخ مؤاخ فمات، فرأيته في النوم . فقلت: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي قلت: بماذا؟ قال: كنت أكتب الحديث فإذا جاء ذكر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كتبت: صلى الله عليه
وآله وسلم، أبتغي بذلك الثواب فغفر لي بذلك.
(۲۱)
روى أبو اليمن ابن عساكر عن جعفر بن عبد الله قال: رأيت أبا زرعة - أئمة الحفاظ في المنام وهو في السماء يصلي بالملائكة فقلت له: بم نلت ذلك؟ قال: كتبت ألف ألف حديث إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أصلي عليه. صلى الله عليه وآله وسلّم.
من
٤٠٦
فضائل النبي
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «من صلى علي مرة صلَّى الله عليه
عشرا».
قلت بمقتضى هذا الحديث الصحيح يكون الله تعالى قد صلى على أبي زرعة الرازي المذكور عشرة آلاف ألف مرة وهذه بشارة عظيمة لأهل الحديث جعلنا الله منهم، لأنهم أكثر الناس صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نطقا وكتابة، ومما يزيدهم شرفًا ورفعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمامهم يوم القيامة وبه يدعون لقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بإسمهم [الإسراء: ۷۱]، ولا إمام لهم في الدنيا إلَّا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو إمامهم في الآخرة.
(۲۲)
روى النميري وابن مسدي وابن بشكوال وغيرهم من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح الصوفي قال: رؤي بعض أصحاب الحديث في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. فقيل له بأي شيء؟ قال: بصلاتي في كتابي على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
(۲۳)
روى ابن بشكوال من طريق إسماعيل بن علي بن المثنى، عن أبيه قال: رؤي بعض أصحاب الحديث في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قيل: بماذا؟ قال : بكثرة ما كتبت بهاتين الإصبعين: صلى الله عليه وآله وسلم.
٤٠٧
(٢٤)
النفحة الإلهية
روى الخطيب وابن بشكوال من طريقه عن سفيان بن عيينة قال: حدثنا خلف صاحب الخلقان قال: كان لي صديق يطلب معي الحديث فمات، فرأيته في المنام وعليه ثياب خضر جدد يجول فيها . فقلت له: ألست كنت تطلب معي الحديث؟ فما هذا الذي أرى ؟! فقال : كنت أطلب معكم الحديث فلا يمر علي حديث فيه ذكر النبي إلا كتبت في أسفله: صلى الله عليه وآله وسلم، فكافأني بهذا الذي ترى. صلى الله عليه وآله وسلّم.
(٢٥)
روى أبو القاسم التيمي في "الترغيب"، عن أبي الحسن الميموني قال: رأيت الشيخ أبا علي الحسن بن عيينة في المنام بعد موته وكأن على أصابع يديه شيئًا مكتوبا بلون الذهب أو بلون الزعفران فسألته عن ذلك وقلت: يا أستاذ أرى على إصبعيك شيئًا مليحًا مكتوبًا، ما هو ؟ قال: يا بني هذا لكتابتي لحديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أو قال: لكتابتي: «صلى الله عليه وآله وسلم» في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
(٢٦)
روى ابن بشكوال عن عبد الواحد بن زيد قال: خرجت حاجا فصحبني رجل فكان لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقلت له في ذلك فقال : أخبرك عن ذلك، خرجت منذ سنيات
٤٠٨
فضائل النبي
إلى مكة ومعي أبي فلما انصرفنا قلنا في بعض المنازل فبينما أنا نائم أتاني آت فقال لي: قم فقد أمات الله أباك وسود وجهه. فقمت مذعورًا فكشفت الثوب عن وجه أبي فإذا هو ميت أسود الوجه، فدخلني من ذلك رعب فبينما أنا على ذلك من الغم غلبتني عيناي فنمت فإذا على رأسي أربعة سودان معهم أربعة أعمدة من حديد عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله، فأقبل رجل حسن الوجه يمشي في ثوبين أخضرين فقال لهم تنحوا» فرفع الثوب عن وجهه فمسح وجهه بيديه ثم أتاني فقال: قم قد بيض الله وجه أبيك» فقلت: من أنت بأبي أنت وأمي ؟ قال: «أنا محمد رسول الله»، صلى الله عليه وآله وسلم فكشفت الثوب عن وجه أبي فإذا هو أبيض الوجه، فأصلحت من .
و دفنته.
شأنه
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن النعمان التلمساني في "مصباح الظلام" وكان هذا الرجل يكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
(۲۷)
روى أبو نعيم وابن بشكوال عن سفيان الثوري قال: بينما أنا حاج إذ دخل علي شاب لا يرفع قدمًا ولا يضع أخرى إلا وهو يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. فقلت له : أبعلم تقول هذا؟ قال: نعم. ثم قال: من أنت؟ قلت: سفيان الثوري. قال: العراقي؟ قلت: نعم. قال: هل عرفت الله؟ قلت: نعم. قال: كيف عرفته؟ قلت: بأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويصور الولد في الرحم. قال: يا سفيان ما عرفت الله حق معرفته. قلت: كيف
النفحة الإلهية
٤٠٩
تعرفه أنت؟ فقال: بفسخ الهم ونقض العزم و هممت ففسخ همي وعزمت فنقض عزمي فعرفت أن لي ربًّا يدبرني قلت : فما صلاتك على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم؟ قال: كنت حاجًا ومعي والدتي فسألتني أن أدخلها البيت ففعلت فوقعت وتورم بطنها وأسود وجهها فجلست عندها وأنا حزين، فرفعت يدي إلى السماء فقلت: يا رب هكذا تفعل بمن دخل بيتك؟ فإذا بغمامة قد ارتفعت من تهامة وإذا رجل عليه ثياب بيض، فدخل البيت وأمر يده على بطنها فابيض فسكن المرض ثم مضى ليخرج، فتعلقت بثوبه فقلت له: من أنت الذي فرجت عني؟ قال: «أنا نبيك محمد الذي تصلي عليه قلت: يا رسول الله فأوصني. قال: «لا ترفع قدمًا ولا تضع أخرى إلا وأنت تصلي على محمد وعلى آل محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم.
قلت: كان هذا الشاب من الأولياء الواصلين.
(۲۸)
قال العارف الكبير أبو المواهب الشاذلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل فمي وقال: «أقبل هذا الفم الذي يصلي علي ألفًا بالنهار وألفًا بالليل». ثم قال: وما أحسن إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1] لو كانت وردك بالليل، ثم قال لي: ويكون دعائك: اللهم فرج كرباتنا اللهم عثراتنا اللهم اغفر زلاتنا وتصلي علي وتقول وسلام على المرسلين والحمد لله
رب العالمين».
أقل
فضائل النبي
(۲۹)
٤١٠
قال الشريف محمد النعماني من أصحاب العارف الكبير الشيح محمد الحنفي-: رأيت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خيمة عظيمة والأولياء يجيئون فيسلمون عليه واحدًا واحدًا وقائل يقول: هذا فلان هذا فلان. فيجلسون إلى جانبه صلَّى الله عليه وآله وسلم حتى جاءت كبكبة عظيمة وخلق كثير وقائل يقول: هذا محمد الحنفي. فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجلسه بجانبه ثم التفت صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقال لهما : إني أحب هذا الرجل إلا عمامته الصماء، أو قال: الزعراء وأشار إلى سيدي محمد الحنفي. فقال له أبو بكر: أ يا رسول الله أن أعممه؟ قال: «نعم» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه عمامة نفسه
أتأذن
لي
وجعلها على رأس سيدي محمد وأرخى لها عذبة عن يساره وألبسها له. فلما قصها على الشيخ محمد الحنفي بكى وبكى الناس، وقال للشريف محمد: إذا رأيت جدك صلَّى الله عليه وآله وسلم فاسأله لي في أمارة يعلمها من
أعمالي. فرآه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعد أيام وسأله أمارة فقال له: «بأمارة الصلاة التي يصليها علي في الخلوة بعد غروب الشمس كل يوم وهي: اللهم صلي على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم عدد ما علمت وزنة ما علمت وملء ما علمت فقال الشيخ الحنفي صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
النفحة الإلهية
٤١١
وأرخى لعمامته عذبة وعمل كل من في المجلس مثله وصار إذا ركب
يرخي العذبة وترك الطيلسان الذي كان يركب به إلى أن مات رحمه الله تعالى. قلت: إرخاء العذبة سنة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وورد النهي عن الاقتعاط وهو التعمم بدون عذبة وهي . في حق كبار العارفين لمزيد تعلقهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وشدة تأسيهم به في كل ما يصدر عنه من قول وعمل في العبادات والعادات لعلمهم أن الله تعالى لا يختار لنبيه إلا أكمل الحالات وأن كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وآله وسلّم يقع من الله بعين الرضا والقبول وقد صرح علماء الأصول أن من فعل أمرًا عاديا كان النبي يفعله كأكلة أو لبسة معينة وقصد بفعله الاقتداء به صلَّى الله عليه وآله وسلم كان مثابًا من هذه الجهة واعتبر آتيا بالسنة.
وممن كان على هذا الحال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان شديد التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم في كل شيء، حتى أنه وهو مسافر في بعض المرات نزل في مكان من الطريق ليس محلا للنزول فسأل المسافرون معه نافعا مولاه عن سبب نزوله غير المعهود فأخبرهم بأنه يروي أنه كان مع النبي في بعض أسفاره ونزل في هذا المكان وقضى حاجته فهو يحب أن يفعل مثله.
(۳۰)
روى أبو سعيد الواعظ في كتاب "التعبير" عن أبي الوفاء القاري الهروي قال: رأيت المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام بفرغانة سنة ستين
٤١٢
فضائل النبي
وثلثمائة وكنت أقرأ عند السلطان وكانوا لا يسمعون ويتحدثون، فانصرفت إلى المنزل مغتما فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه تغير لونه فقال لي صلى الله عليه وآله وسلّم: «أتقرأ القرآن كلام الله عزّ وجلَّ بين قوم يتحدثون ولا يسمعون قراءتك ؟! لا تقرأ بعد هذا إلا ما شاء الله فانتبهت وأنا ممسك اللسان أربعة أشهر فإذا كانت لي حاجة أكتبها على الرقاع، فحضر ني أصحاب الحديث وأصحاب الرأي فأفتوا بأني آخر الأمر أتكلم فإنه قال: «إلا ما شاء الله» استثناء فنمت بعد أربعة أشهر في الموضع الذي كنت نمت فيه أولا فرأيت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام يتهلل وجهه فقال لي: «قد
وهو
.
تبت؟ قلت: نعم يا رسول الله قال: من تاب تاب الله عليه أخرج لسانك» فمسح لساني بسبابته وقال: «إذا كنت بين قوم وتقرأ كتاب الله فاقطع قراءتك حتى يسمعوا كلام الله. فانتبهت وقد انفتح لساني بحمد الله ومنه.
(۳۱)
روى الشيخ أبو حفص عمر بن الحسن السمرقندي عن بعض مشايخه عن أبيه قال: سمعت رجل في الحرم وهو كثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان في الحرم وعرفة ومنى فقلت له: أيها الرجل إن لكل مقام مقال فما بالك لا تشتغل بالدعاء ولا بالتطوع بالصلاة سوى أنك تصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم؟! فقال: إني خرجت من خراسان حاج إلى هذا البيت وكان والدي معي فلما بلغنا الكوفة اعتل والدي وقويت علته فمات، فغطيت وجهه بإزار ثم غبت عنه وجئت إليه فكشفت وجهه لأراه فإذا
النفحة الإلهية
٤١٣
صورته كصورة الحمار فحين رأيت ذلك عظم عندي وحزنت حزنا شديدًا وقلت لنفسي كيف أظهر للناس هذا الحال الذي صار إليه والدي وقعدت عنده مهموما فأخذتني سنة من النوم فرأيت في منامي كأن رجلا دخل علينا وجاء إلى والدي وكشف وجهه فنظر إليه ثم غطاه ثم قال لي: «ما هذا الحزن العظيم الذي أنت فيه ؟ فقلت وكيف لا أغتم وقد صار والدي بهذه المحنة فقال: «أبشر إن الله عزَّ وجلَّ قد أزال عن والدك هذه المحنة». ثم كشف الغطاء عن وجهه فإذا هو كالقمر الطالع فقلت للرجل: بالله من أنت فقد كان قدومك مباركًا ؟ فقال: «أنا المصطفى». فلما قال ذلك فرحت فرحًا عظيما وأخذت بطرف ردائه فلففته على يدي وقلت بحق الله يا رسول الله إلا أخبرتني بالقصة. فقال: «إن والدك آكل الربا وإن من حكم الله عزَّ وجل أن من أكل الربا أن يحول الله صورته عند الموت كصورة الحمار إما في الدنيا وإما في الآخرة ولكن كان من عادة والدك أن يصلي علي في كل ليلة قبل أن يضطجع على فراشه مائة مرة فلما عرضت له هذه الأعمال من أكل الربا جائني الملك
الذي يعرض علي أعمال أمتي فأخبرني بحالة والدك فسألت الله فشفعني فيه». قال: فاستيقظت فكشفت عن وجه والدي فإذا هو كالقمر ليلة بدره فحمدت الله وشكرته وجهزته ودفنته وجلست عند قبره ساعة فبينا أنا بين النائم واليقظان إذا بهاتف يقول لي : أتعرف هذه العناية التي حفت والدك ما كان سببها؟ قلت: لا. قال: كان سببها الصلاة على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم.
٤١٤
فضائل النبي
كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
اللهمَّ صَلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
كما باركت على سيدنا وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا
إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد
اللهم صل على سيدنا محمد النبيِّ الأُمِّي وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك وأهل بيته، كما صليت على سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.
النفحة الإلهية
٤١٥
اللهم صل على سيدنا محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم، وترحم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما ترحمت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم، جزى الله عنا سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم بما هو أهله.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وصل على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي.
اللهم صل على سيدنا محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة. اللَّهُمَّ اجْعَلْ صلواتِكَ ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمامِ المُتَّقِينَ وخاتم النَّبيِّينَ عبدك ورسولِكَ إمامِ الخير وقائد الخير ورسول الرَّحمةِ، اللهُمَّ
ابعثه المقام المحمود الذي يغبطه فيهِ الأَوَّلُونَ والآخرون.
اللهم صل على سيدنا محمد حتى لا تبقى صلاةٌ.
اللهم صل على سيدنا محمد حتى لا تبقى بركة.
اللهم صل على سيدنا محمَّد حتى لا يبقى سلامٌ .
اللهمَّ صَلِّ على سيدنا محمد حتى لا تبقى رحمةٌ .
اللهم صل على سيدنا محمد كما أمرتنا أن نصلي عليه، وصل عليه كما ينبغي
أن يُصَلَّى عليه.
٤١٦
فضائل النبي
اللهمَّ صَلِّ على سيدنا محمد وأبلغه الوسيلة والدرجة الرفيعة من الجنة
اللهم اجعل في المصطفين محبته وفي المقربين مودته وفي الأعلين ذكره. اللهم تقبل شفاعة سيدنا محمد الكُبرى، وارفع درجته العُليا، وأعطِهِ سؤلهُ
في الآخرة والأولى، كما آتيت إبراهيم وموسى.
اللهم صل على سيدنا محمد كما تحب وترضى له.
اللهم إني أسألك يا الله يا رحمن يارحيم ياجار المستجيرين، يا أمان الخائفين، یا عماد من لا عماد له يا سند من لا سند له يا ذخر من لا ذخر له، يا حرز الضعفاء، يا كنز الفقراء، يا منقذ الهلكى، يا منجي الغرقى، يا محسن يا مجمل يا منعم يا مفضل یا عزیز یا جبار يا منير أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار، وشعاع الشمس وحفيف الشجر، ودوي الماء ونور القمر، يا الله أنت الله لا شريك لك، أسألك أن تُصلّي على سيدنا محمد عبدك ورسولك وعلى آل سيدنا
محمد.
اللهم صل علي سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاء، ولحقه آداء، واعطه الوسيلة والمقام الذي وعدته، واجزه أفضل ما جازيت نبيا
عن أمته، وصل على جميع إخوانه النبيين والصالحين يا أرحم الراحمين. اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي، الطاهر الزكي، صلاة تُحل بها العُقد، وتُفك بها الكُرَب.
اللهم صل على سيدنا محمد صلاةً تُنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وتقضي لنا بها جميع الحاجات، وتُطهرنا بها من جميع السيئات، وترفعنا بها أعلى الدرجات، وتبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات.
النفحة الإلهية
٤١٧
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وهب لنا اللهم من رزقك الحلال الطيب المبارك ما تصون به وجوهنا عن التعرض إلى أحدٍ من خَلْقِكَ، واجعل اللهم لنا إليه طريقا سهلا من غير تعب ولا نصب ولا مِنَّةٍ ولا تبعة لأحدٍ، وجنبنا اللهم الحرام حيث كان وأين كان وعند من كان، وحل بيننا وبين أهله و اقبض عنا أيديهم، واصرف عنا قلوبهم، حتى لا نتقلب إلَّا
فيما يرضيك، ولا نستعين بنعمتك إلا على ما تحب يا أرحم الراحمين. اللهم صل على سيدنا محمَّدٍ كلَّما ذكره الذاكرون، وصل على سيدنا محمد كلَّما غفل عن ذكره الغافلون.
اللهم صل على سيدنا محمد عدد من صَلَّى عليه، وصل على سيدنا محمد بعدد مَنْ لم يصل عليه، وصل على سيدنا محمد كما أمرت أن يُصَلَّى عليه، وصل علي سيدنا محمَّدٍ كما تُحب أنْ يُصَلَّى عليه، وصل على سيدنا محمد كما تنبغي
الصلاة عليه.
اللهمَّ صَلِّ على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلّم عدد ما
عَلِمْتَ وزنة ما عَلِمْتَ وملء ما عَلِمْتَ.
اللهم
صل أفضل صلاة على أفضل مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم عدد معلوماتك و مداد كلماتك كلما ذكرك وذكره الذاكرون
وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وسلّم. اللهم صل صلاة كاملة وسلم سلاماً تاماً على نبي تنحل به العقد، وتنفرج
٤١٨
فضائل النبي
به الكرب وتقضى به الحوائج وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم، ويُسْتَسْقَى الغمام بوجهه الكريم وعلى آله وصحبه.
اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته صلاة تشرح بها صدري وتيسر بها أمري وتجبر بها كسري
وتغني بها فقري وتنور بها قبري وتحل بها عقدة لساني.
اللهم رب الحل والحرام ورب البلد الحرام ورب الركن والمقام ورب المشعر الحرام بحق كل آية أنزلتها في شهر رمضان بلغ روح محمد تحية وسلامًا. يقرأ أربع مرات ليلا : عند النوم بعد قراءة (سورة الملك).
اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليما.
اللهم.
صل على عبدك المكمل ورسولك المبجل وخليلك المفضل سيدنا
محمد الذي منحته المقام المحمود والحوض المورود وأخذت لأجله على الأنبياء المواثيق والعهود مفتاح الكائنات وختام النبوات ومجلى الأسماء والصفات صلاة تفرج عنها بها الكرب وتقضي لنا بها الحاجات وتفتح لنا بها أبواب القرب وتيسر بها أسباب المكرمات وعلى آله المطهرين من الأرجاس وصحابته المخاطبين ب كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: ١١٠] وسلم تسليما
كثيرًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك سيدنا محمد الذي نطق له الحجر وسجد له الشجر وانشق بإشارته القمر وزال ببركة مسحه عن ذوي العاهات الضرر، نبع من أصابعه الشريفة الماء النمير ونزل بدعائه المطر الغزير وانزاح
النفحة الإلهية
٤١٩
بغوثه الكرب عن الخلق الكثير صلاةً وتسلامًا يكونان سببا في كشف كربتنا وتفريج غمتنا والتعجل بزوال شدتنا.
اللهم اجعل صلاتنا عليه وسيلة إليك واقبل استشفاعنا به لديك فإنه رسولك الطاهر المطهر وحبيبك الشفيع المشفع هنا وفي المحشر، وارض اللهم
عن آله الطيبين الطاهرين وصحابته من الأنصار والمهاجرين.
عليه.
اللهم وسلم على سيدنا محمد صلاةً وسلاما دائمين بدوام توالي أفضالك
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام
المتقين وقائد الغر المحجلين وشفيع المذنبين.
اللهم اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على سيدنا محمد رسول الخير وإمام الهدى وعين الرحمة ونبي التوبة.
اللهم اجعل أفضل صلواتك وأزكاها، وأجل تسليماتك وأنماها، علي من أرسلته رحمة عامة وبعثته نعمة مهداة سيدنا محمد الذي شرحت صدره ورفعت ذكره، وقرنت اسمه باسمك، وجعلت طاعته من طاعتك، وخلعت عليه من وصفك ونعتك، اللهم إنا نتوسل به إليك ونستشفع به لديك أن تفرج كربتنا وأن تقيل عثراتنا وأن تغفر زلاتنا. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد أحب المحبوبين إليك، وزده شرفا وكرما لديك. اللهم صل وسلم صلاة وسلامًا يفوقان العد ويجاوزان الحد على منتهى الكمالات الإنسانية وملتقى التنزلات الإلهية سيدنا محمد أصل الوجود
٤٢٠
فضائل النبي
والوسيلة العظمى في وصول الخير إلى كل موجود، اللهم فرج كرباتنا ببركته وارض عن أزواجه وأهل بيته وذريته يارب العالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على إنسان عين الوجود وقطب دائرة الشهود سيدنا محمد القاسم لما تفيض على عبادك من أنواع العطاء والمخصوص منك
بعظيم المدح والثناء صلاة وسلاما وبركة تناسب قدره وتؤدي عنا شكره. اللهم صل وسلم على من جعلته نبيا وآدم منجدل في الطين ثم أرسلته رحمة للعالمين سيدنا محمد صاحب الحنيفية السمحة والدين المتين وعلى آله وذريته الطاهرين.
اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على سيدنا محمد النبي وأزواجه أمهات
المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد... اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «الدُّعاء كله محجوب حتّى يكون أوّله ثناء على الله تعالى وصلاةٌ على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ثُمَّ يدعو فيستجاب لدعائه».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «إذا طنت أُذن أحدكم
فليُصَلّ علي، وليقُل : ذَكَرَ اللَّهُ بِخيرٍ مَن ذَكَرَنِي».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «إذا فَرَغَ أحدُكم مِن طهوره فليقل: أشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثُمَّ ليصل على فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرحمة».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «إذا نسيتم شيئًا فَصَلُّوا عليَّ تَذْكُروه إن شاء الله تعالى».
النفحة الإلهية
٤٢١
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «زينوا مجالسكم بالصلاة
علي فإنَّ صلاتكم على نور لكم يومَ القِيامَةِ».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «إنكم تعرضون علي بأسمائكم وسيماكم، فأحْسِنُوا الصَّلاةَ عليَّ».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الذي كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: «اللهمَّ اغْفِرْ لي ذنوبي وافْتَح لي أبواب رحمتك». وإذا خرج من المسجد صلَّى على محمد وسلَّم وقال: «اللهمَّ اغْفِر لي ذُنوبي وافْتَحْ لي أبواب
فَضْلِك».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «لا تَجْعَلُوا بيوتكم قُبورًا، ولا
تَجْعَلُوا قبري عِيدًا، وَصَلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم». اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «لا وضوء لمن لم يُصَلَّ عليَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «مَا مِن أحدٍ يُسَلَّم عليَّ إِلَّا رَدَّ الله تعالى إلى روحي حتَّى أرد عليه السلام». اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «ما من عبد مؤمِنٍ : فيصلي عليَّ إِلَّا كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر
درجات».
يذكرني
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «مِن الجَفَاءِ أَنْ أُذْكَرَع
رَجُلٍ فلا يُصَلِّي علي.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «مَن سَرَّهُ أَن يَلْقَ اللَّهَ رَاضِبًا
٤٢٢
فضائل النبي
فليُكْثِرُ الصَّلاةَ عليّ».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «مَن صَلَّى عَلَيَّ صلاةً كَتَبَ اللهُ
له قيراطا، والقيراط مثل أُحُدٍ».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «مَن صَلَّى عليَّ يومَ الْجُمُعَةِ
كانت شفاعة له عندي يومَ القِيامَةِ».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «من قال حين يسمع المؤذن: اللهم رب هذه الدَّعْوةِ التامَّةِ والصَّلاة القائمة صلّ على محمد عبدك ورسولك
وأَعْطِهِ الوَسِيلَةَ والشَّفاعَةَ يومَ القِيامَةِ؛ حلَّت له شفاعتي».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «مَن نَسي الصَّلاة عليَّ خطئ طريق الجنة».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «إذا صَلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ويُصَلِّ على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ يَدْعُو بعد بما شاء».
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «إِنَّ الله ملائكةٌ سَيَّاحِينَ يُبلِّغونِي عن أُمَّني السلام». اللهم صل وسلم على سيدنا محمد القائل: «لا يَجْلِسُ قَوْمٌ تَجْلِسًا لا يُصَلُّون فيه على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إِلَّا كان عليهم حَسْرَة وإِن دَخَلُوا الجنَّةَ؛ لما يَرَوْنَ مِن الثَّوابِ». اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الوارد عنه: «من دعا بهؤلاء الدعوات في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ مَكْتوبةٍ حَلَّت له الشَّفاعة منِّي يومَ القِيامَةِ: اللهمَّ أَعْطِ محمَّدًا
النفحة الإلهية
٤٢٣
الدرجة والوسيلة، اللهم اجعل في المصطفين محبته، وفي العالمين درجته، وفي
المقربين داره». اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الذي كان علي عليه السَّلام إذا وصفه قال: لم يكن بالطَّوِيلِ المُمَّغِطِ ولا بالقَصِيرِ المُتَرَدَّدِ، كان رَبِّعَةً مِن الرِّجَال، كان جَعْدَ الشَّعْرِ، ولم يكن بالجَعْدِ القَطَطِ ولا بالسَّبْطِ، كان جَعْدًا رَجِلًا، ولم يكن بالمطهم ولا المُكَلِّثَمِ، كان في الوجه تَدْوِيرٌ، أَبيضَ مُشْرَبًا حُمْرَةٌ، أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ، أَهْدَبَ الأَشْفَارِ، جَلِيلَ المُشَاسُ والكَتَدِ، أَجْرَدَ ذَا مَسْرُبَةٍ، شَثْنَ الكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ ، إِذا مَشَى تَقَلَّعَ كَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، وإِذا التَفَتَ التَفَتَ مَعًا، بَيْنَ كَيْفَيهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ وهو خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، أَجْوَدَ النَّاسِ كَفَّا وَأَجْرَأَ النَّاسِ صَدْرًا، وأَصْدَقَ النَّاسِ لَهَجَةً، وأوْفَى النَّاسِ بِذِمَّةٍ، وأليَنَهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً، مَن رَآهُ بَدِيهَةٌ هَابَهُ، ومَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةٌ أَحَبَّهُ، يقول نَاعِتُهُ: لم أَرَ مثله قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ. صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، وسلم على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وقع الفراغ منه يوم الجمعة التاسع من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف هجرية، وقدَّمته وسيلة بين يدي لعل الله تعالى ببركة رسوله وبشفاعته يُعَجِّل بتفريج هذه الحربة التي طالت واشتدت، وليس من
يكشفها غيره إنه قريب مجيب.
ه - نَقْدُ قَصِيدَةِ البُرْدَةِ
نقد قصيدة البردة
٤٢٧
نقد قصيدة البردة
هذه القصيدة من نظم الأديب الشاعر أبي عبد الله محمد بن سعيد
البوصيري - بكسر الصاد- الصنهاجي.
وهي من أبدع ما نظم في المديح النبوي ضمت جملا من السيرة وطائفة من المعجزات والفضائل النبوية في أسلوب عذب رائق وقد أقبل الناس عليها منذ أنشأها ناظمها إقبالًا كبيرًا فلا يحصى كم من شارح لها ومخمس لأبياتها وناظم على منهاجها.
وانتقدها كثيرون لأبيات منها رأوا فيها غلوا ومبالغة، لكنهم بالغوا في الانتقاد وغلوا فيه أيضًا حتى زعموا أنها تشتمل على شرك صريح، وأنا أريد أن أتكلم في هذه المقالة على الأبيات المنتقدة وهي في نظري أربعة، وأبين ما يجاب به عنها من غير تكلف ولا تعسف أما الشرك فقد احترز عنه الناظم في
قوله:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكُمْ بمَا شِئْتَ مَدْحًا فيه واحْتَكِمِ فهذا البيت ينفي الشرك عن أبيات هذه القصيدة ويوجب تأويل ما أوهم
الشرك عند بعض الناس.
وأول الأبيات الأربعة، قوله:
وكيفَ تَدْعُو إلى الدُّنيا ضَرورة من لولاه لم تُخْرَجِ الدُّنيا من العَدَمِ قال المنتقدون هذا يرده القرآن، فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ﴾ [الذاريات: ٥٦] أفادت الآية أن الله لم يخلق الدنيا لأجل
٤٢٨
فضائل النبي
النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وكلام الناظم صحيح، وفي القرآن ما يؤيده، والمنتقدون واهمون لأنَّ الله خلق الجن والإنس لعبادته وخلق الدنيا والآخرة لأجلهم وجعل الدنيا مكانا لعبادتهم، قال تعالى: خَلَف لكم ا أي: لأجلكم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا )) [البقرة: ۲۹]، وجعل الآخرة مكانًا لجزائهم، فلولا المكلفون ما خلقت الدنيا والآخرة والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم سيد المكلفين، ومن عادة العرب أن يخاطبوا سيد القوم بما يشترك معه القوم فيه على سبيل التكريم، فصح قوله لولاه لم تخرج الدنيا من العدم»، على قاعدة العرب في مخاطبة السادة والأمراء وذوي القدر العظيم، وفي القرآن الكريم
آيات وجه فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم مع أن الأمة تشترك
معه، وهي من هذا الباب.
وثاني الأبيات قوله:
وقَدَّمَتكَ جَميعُ الأنبياء بها والرُّسُلِ تَقْدِيمَ تَخُدُومٍ عَلى خَدَمِ هذا خطأ لا شك فيه لأنَّ الأنبياء بعضهم مع بعض ليس فيهم خادم ومخدوم وليس تفضيل بعضهم يقتضي أن يكون المفضول خادمًا للفاضل بل هم سواء في النبوة وفي حديث المعراج المتواتر ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحيى وعيسى ويوسف وموسى وهارون وغيرهم حين تلقوه، حياه
كل واحد منهم بقوله : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» الحديث.
نقد قصيدة البردة
٤٢٩
رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان، والحاكم وقد أصلحت هذا
البيت بقولي:
وقَدَّمَتكَ جَميعُ الأنبياء بها وكَرَّمُوكَ لفَضْلٍ فيك مِن قِدَمِ
وطبعت "البردة" بهذا الإصلاح في دبي بالإمارات العربية.
ومما يناسب هذا ما شاع عند كثير من الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركب البراق ليلة المعراج، وجبريل صلَّى الله عليه وآله وسلم آخذ بركابه، وهذا غير صحيح، وبخس بمقام جبريل عليه السلام وإقدام على نقص قدره، والله تعالى يقول في حقه: إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيرٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مكين مُطَاع ثُمَّ آمِين ﴾ [التكوير : ۱۹ - ۲۱] فجبريل رسول إلى الأنبياء جميعا، ومن هذه الآية أخذ الزمخشري في الكشاف" أفضلية جبريل عليه
السَّلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مخطئ في ذلك. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يعرف قدر جبريل ويفضله على نفسه ويقول عنه: أخى جبريل
وفي "مسند أحمد" عن حذيفة في حديث الإسراء قال: «والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادا عودهما على بدئها .
وفي "معجم الطبراني "الأوسط" عن أبي ليلى: أن جبريل أتى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بالبراق فحمله عليه بين يديه. الحديث.
ومن الغلو المذموم أيضًا: زعمهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغ
٤٣٠
فضائل النبي
سدرة المنتهى تأخر جبريل، وقال: لو تقدمت خطوة لاحترقت، وهذا كذب
قبيح، والواقع أن جبريل عليه السَّلام لم يفارق النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم
تلك الليلة لحظة واحدة، كان معه في سدرة المنتهى وفي غيرها.
بل ذكر القرآن من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جبريل عليه السَّلام عند سدرة المنتهى، قال الله تعالى وَلَقَدْرَ اهُ تَزَلَةٌ أُخْرَى ) عِندَ سِدرة المنتهى ﴾ [النجم: ١٣ - ١٤ ] . وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح». ولميره في صورته إلا مرتين، عند سدرة المنتهى مرة،
ومرة أولى في قوله: ﴿ ثُمَّ دَنَا فَنَدَى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ [النجم: ٨ - ٩] ومن الغلو القبيح جدا ما يذكره بعض الصوفية أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يتلقى الوحي من وراء حجاب فيأتي به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وكشف الحجاب مرة، فإذا الذي يلقي إليه الوحي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: منك وإليك.
والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم غني بفضائله العديدة عن هذا الكذب
السخيف المؤدي إلى الكفر بمعتقده، والعياذ بالله.
وثالث الأبيات قوله :
يا أَكْرَمَ الخَلْقِ مالى مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِواكَ عندَ حُلُول الحادِثِ العَمِمِ
وهذا عند بعض الناس شرك، وليس كذلك، فإن قوله:
ولن يَضِيقَ رَسولَ الله جاهك بي إذا الكَريمُ تَجَلَّى باسْمِ مُنْتَقِمِ
نقد قصيدة البردة
٤٣١
قرينة واضحة على أنه أراد مالى من ألوذ به في الشفاعة الله في ذلك الموقف
العظيم، وهذا المعنى صحيح.
فإن الناس في يوم القيامة يلجأون إلى آدم ليشفع لهم في الإراحة من طول الموقف وكربه، فيعتذر ويقول نفسى، ويحيلهم إلى نوح فيعتذر ويحيلهم إلى إبراهيم فيعتذر ويحيلهم إلى موسى فيعتذر ويحيلهم إلى عيسى فيحيلهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فيقول: «أنا لها أنا لها»، فيذهب ويسجد تحت العرش، فينادي: «يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع هكذا جاء في الصحيحين، وهو الذي أراده الناظم، والإسراع بالإكفار معصية كبيرة، ربما تؤدى إلى كفر صاحبها.
ومع ذلك فقد أصلحت هذا البيت بقولى:
يا أكْرَمَ الخَلْقِ مالى مَنْ يُشَفّع في سواك عند حلول الحادِثِ العَمِمِ يُشَفّع م مبني للمجهول والفاء مشدّدة :أي مالي من تقبل شفاعته في سواك، وهذا توضيح لكلام الناظم وليس إصلاحا له.
ورابع الأبيات قوله:
فإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنيا وضَرَّتَها ومِن عُلُومِكَ عِلْمَ النَّوْحِ والقَلَمِ وفي هذا مبالغة لا دليل لها، ويظهر أن الناظم استند في الشطر الأول من البيت إلى حديث جابر: «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر» وهو حديث طويل جاء فيه: أن الله خلق من نوره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم العرش والكرسى والملائكة وجميع المخلوقات. وقد ذكره بطوله ابن العربي الحاتمي في كتاب "تلقيح الأذهان ومفتاح
٤٣٢
فضائل النبي
معرفة الإنسان"، والديار بكري في تاريخ الخميس من تاريخ أنفس نفيس" في
السيرة .
وقال السيوطي في "الحاوي": «إنه غير ثابت»، وهو تساهل قبيح، بل الحديث ظاهر الوضع، واضح النكارة، وفيه نفس صوفي حيث يذكر مقام
الهيبة ومقام الخشية، إلى آخر مصطلحات الصوفية.
والعجيب أن السيوطي عزاه إلى عبد الرزاق، مع أنه لا يوجد في "مصنفه" ولا "تفسيره" ولا "جامعه". وأعجب من هذا أن بعض الشناقطة صدق هذا العزو المخطئ فركب له إسنادًا من عبد الرزاق إلى جابر. ويعلم الله أن هذا كله
لا أصل له.
فجابر رضی الله عنه برئ من رواية هذا الحديث، وعبد الرزاق لم يسمع به، وأول من شهر هذا الحديث ابن العربي الحاتمي، فلا أدري عمن تلقاه، وهو ثقة، فلابد أن أحد المتصوفة المتزهدين وضعه .
ومثل هذا الموضوع أيضًا: ما روي من طريق أهل البيت عن علي عليه السلام مرفوعا: «كنت نورًا بين يدي ربي قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف
عام». وحديث: لولاك ما خلقت الأفلاك».
وكتب المولد النبوي ملأى بهذه الموضوعات وأصبحت عقيدة راسخة في أذهان العامة. وأرجو أن يوفقني الله إلى تأليف حول المولد النبوي خال من
أمرين شائنين الأحاديث المكذوبة، والسجع المتكلف المرذول.
والشطر الثاني من البيت، لعل الناظم استند فيه إلى حديث اختصام الملأ الأعلى الذى رواه أحمد والترمذي ونقل تصحيحه عن البخاري وفيه قول
نقد قصيدة البردة
٤٣٣
النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «رأيتُ رَبِّي الليلةَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فقال: يا فيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى ؟ قلت: لا أَدْرِي فَوَضَعَ يَدَهُ بِين كَتِفَي حَتَّى
محمد
وَجَدْتُ بَرْدَهَا فِي صَدْرِي، فَتَجَلَّى لي كلُّ شيءٍ وَعَرَفْتُ». الحديث. لكنه لا يفيد ما ادعاه الناظم من أنَّ علم اللوح والقلم بعض علوم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ففي هذه الدعوى مبالغة ليس عليها دليل. وقد أصلحت هذا البيت بقولي:
فإنَّ جُودَك في الدُّنيا وضَرَّتها وفي كِتابِكَ عِلْمَ النَّوْحِ والقَلَمِ والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أجود ولد آدم، وهو في الآخرة أجودهم
أيضًا بما له من شفاعات في أمته.
وكتابه القرآن فيه علوم الأولين والآخرين، وهو معجزته الكبرى وكيف لا وهو كتاب أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، وقال في حقه ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: ٣٨].
والمقصود أنَّ الغُلُوّ في المدح مذموم لقوله تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾ [النساء: ۱۷۱] وأيضًا فإن مادح النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بأمر لم يثبت عنه، يكون كاذبًا عليه، فيدخل في وعيد «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه لتعلقها
بصاحب الشريعة ونبي
الأمة، الذي حرم
الكذب عليه وجعله من الكبائر
العظيمة، حتى قال أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين بكفر الكاذب عليه
٤٣٤
فضائل النبي
صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي وقصة المعراج من مبالغات وغلو لا أساس له من الواقع يجب أن تُحرق لئلا يحرق أصحابها وقارئوها في نار جهنَّم، نسأل الله السلامة والعافية .
٦ - إِرْشَادُ الطَّالِبِ النَّجِيبِ إلي ما في المولد النبوي من الأكاذيب
إرشاد الطالب النجيب
٤٣٧
لتمهيد
لا يخفى أنَّ موضوع المولد النبوي مستحدثٌ في الملَّة قصد بإنشائه إتمام ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جميع الجهات.
فبعد انتهاء العلماء من الكتابة في سيرته الشريفة وشمائله وأخلاقه وكيفية معاملته الجلسائه عليه الصَّلاة والسَّلام وحسن استقباله لزائره ولطف معاملته حتَّى يُظن أن ليس أحدٌ أكرمَ عليه منه ، اتجه كثير من العلماء إلى ناحية مولده عليه الصلاة والسَّلام فكتبوا فيها المؤلفات التي شغلت جانبا مهما من الجوانب النبوية التي طهرها الله بالعصمة وكرمها بالسداد والتوفيق.
والكتب في المولد النبوي كثيرة يعشر حصرها، وأول من ألف فيها - فيما أعلم - العلامة العزفي السَّبتي، ثم الحافظ أبو الخطاب بن دِحْيَة ألف كتابًا في المولد النبوي وقدَّمه إلى الملك الصالح أيُّوبَ (۱) الذي كان يحتفل بالمولد النبوي
في ربيع الأول احتفالًا كبيرًا يدعو إليه العلماء والأعيان والعامة. ثم تتابع العلماء في هذا الباب فكتبوا موالد مختلفة بالطول والقصر والبسط والإيجاز، غير أنَّ المتأخرين توسعوا في ذكر الموضوعات والأخبار الواهية، وهذا ما حدا بي إلى تأليف هذا الكتاب إسهاما مني في خدمة الجناب
النبوي الكريم.
(۱) الملك أيوب : هو من المماليك كان حوالي القرن السادس وكان ملكاً صالحا.
إرشاد الطالب النجيب
مقدمة
٤٣٩
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا
محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.
وبعد: فإن الذين كتبوا في المولد النبوي، أفسدوا مؤلفاتهم بأمرين: أحدهما: التزامهم السَّجّع المتكلف المرذول، الذي يُضيع المعنى ويُذهب
حلاوة العبارة وجزالتها.
والآخر: ذِكرُهم الأحاديث الموضوعة والآثار الواهية في أنَّ النبيَّ أسبق
المخلوقات في الوجود، وفيما يتعلق بمولده من سوابق ولواحق. ولما كان الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر العظيمة باتفاق المسلمين، ولأنَّ أولئك المؤلّفين لم يدركوا كذب تلك الأحاديث التي جلبوها، وكثر اغترارُ الناس بها وجعلوا قراءتها والتَّغني بها ديدنهم في حفلات المولد التي تقام في البلاد الإسلامية؛ رأيت أن أنبه عليها وأطهر الجناب النبوي من نسبتها إليه، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أجل من أن يُمدح بالكذب
والخرافات.
وفي القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة ما يدل على عظيم قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أعظم دلالة ، واقرأ كتابنا "فضائل النبي في القرآن" تجد ما تقر به عينك وينشرح له صدرُك ويطمئن به قلب كل مؤمن محب للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم. وإن من كمال تعظيمه وتمام محبَّته أن ننفي عن جنابه الكذب وتبعد عن
٤٤٠
فضائل النبي
إلصاقه به فلهذا كتبت هذه الرسالة التي سميتها : "إرشاد الطالب النجيب إلى
ما قيل في المولد النبوي من الأكاذيب".
والله المسؤول أن يقبله وينفع به إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
إرشاد الطالب النجيب
طهارة نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
٤٤١
روى ابن سعد وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «خرجتُ من نكاح غير سفاح».
وروى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما وَلَدَني من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح
الإسلام". وروى ابن سعد، وابن أبي شيبة في "المصنف" عن محمد بن علي بن حسين: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّما خرجتُ مِن نكاح ولم أخرجُ مِن سفاحٍ مِن لَدُن آدم، لم يُصبني من سفاح الجاهلية من شيء ولم أخرج
إِلَّا من طَهَرةِ».
وروى أبو نعيم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يَلْتقِ أبوايَ في سفاح، لم يزل الله ينقلني من أضلاب طيبة إلى أرحام
طاهرة صافيا مهذبا لا تتشعَبُ شُعبتانِ إِلَّا كنتُ في خيرهما».
قلت: ما أفادته هذه الأحاديث هو من المعلوم بالضرورة؛ لأنَّ الله إنما يختار لنبوته من هو طاهر النسب كريم الآباء والأمهات، وههنا أثر غريب تنبه عليه: روى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّجِدِينَ ﴾ [الشعراء: ۲۱۹]: «يعني: تقلبك من صُلب نبي إلى صُلبِ نبي حتى أخرجك نبيا». ولعله لا يصح عن ابن عباس وسياق الآية يخالفه، ولم يكن في آبائه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نبي غيرُ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
٤٤٢
فضائل النبي
ومسألة أخرى ننبه عليها أيضًا تقدَّم في الحديث: «لم يزل الله ينقلني من
أصلاب طيبة إلى أرحام طاهرة».
فهم قوم من هذا الحديث أنه يتنافى مع كون آزر كافرا، والكافر خبيث غير طيب فادَّعوا أنَّ آزر عمُّ إبراهيم عليه السَّلام، وهم واهمون، والحقيقة أنَّ آزر والد إبراهيم كما جاء في عدة آيات وصفه بالأبوة، ولا داعي لتأويلها بالعم لأنه لما ولد له إبراهيم كان من أهل الفترة طيّب الصلب لا تكليف عليه وإنما كفر بعد ذلك حين قال له ابنه: يَابَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَنَ إِنَّ الشَّيْطَانَ ﴾ [مريم: ٤٤] الآيات، فلا يكون كفره المتأخّر مُبطِلًا لطهارة صلبه السابقة.
تقدم نُبوَّته صلى الله عليه وآله وسلم
الله عنه، عن
روى أحمد والحاكم عن العرباض بن سارية السلمي رضي | النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّي عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسوف أنبئكم بتأويل ذلك؛ دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ورُؤْيا أمّي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أم النبيين يَريْن». قال الحاكم: «صحيح الإسناد».
وروى أحمد والطبراني عن ميسرة العجرد قال: قلت: يا رسول الله متى كتبت نبيَّا؟ قال: وآدم بينَ الرُّوح والجسد». قال الحافظ الهيثمي: «رجاله
رجال الصحيح.
وروى الطبراني بإسناد حسن عن أبي مريم الكندي قال: أقبل أعرابي حتى أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وعنده خلق من الناس فقال: ألا تعطيني
إرشاد الطالب النجيب
٤٤٣
شيئًا أتعلمه وأحمله وينفعني ولا يضرك ؟ فقال الناس: مه، اجلس. فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «دعوه فإِنَّمَا يَسأَلُ الرَّجلُ ليعلم» فأفرجوا له حتى جلس فقال: أيُّ شيءٍ كان أول نبوتك؟ قال: «أخذ الله الميثاق منّي كما أخذ من النبيين ميثاقَهُم، ثم تلى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ ميتَقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّشَقًا غليظا ﴾ [الأحزاب: ٧].
وبشرى المسيح عيسى بن مريم، ورأتْ أمُّ رسولِ الله في منامها أنَّه خرج من بين رجلَيْها سراج أضاءتْ له قصورُ الشَّام ووراء ذلك قَرْيَتَين أو ثلاثا». وروى الترمذي عن أبي هريرة قالوا يا رسول الله متى وجبت لك
النبوة؟ قال: «وآدم بين الرُّوح والجسد». صححه الترمذي.
يؤخذ من هذه الأحاديث أمور: 1 - أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان معروفًا باسمه وصفته قبل خلق آدم عليه السَّلام، وهذا شيءٌ خاص به فإنَّ الله لم يخبر باسم نبي قبل وجوده وانظر إلى قول الله تعالى: إنّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: ٣٠] إني خالق بشرا من طين [ ص: ٧١]، لم يخبرهم باسمه ولم يعرفوه إلا بعد
وجوده.
٢ - أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استُخرِج من ظهر آدم ونبي وأخذ ميثاقه
وآدم لم ينفخ فيه الروح، وهذا خاص به أيضًا.
واستخراج ذرية آدم من ظهره كان بعد تمام خَلقه عليه السلام.
٤٤٤
فضائل النبي
أنَّ
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد أن ذكر أن أكثر السلف على استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الرُّوح فيه: «وعلى هذا يدل أكثر الأحاديث، فيُحتمل على هذا أن يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم خُصَّ باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه، فإنَّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو المقصود من خلق النّوع الإنساني وهو عينه وخلاصته وواسطة عقده، فيكون حينئذ من حين صور آدم طينًا استخرج منه محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم ونبي وأخذ منه الميثاق. يؤيد ذلك ما روي عن قتادة أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: كنتُ أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث».
وفي رواية: «أولَ النَّاسِ في الخلق» خرجه ابن سعد وغيره.
وخرجه الطبراني من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا، والمرسل أشبه.
وفي رواية عن قتادة مرسلة: ثم تلى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَقَهُمْ وَمِنكَ
وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ [الأحزاب: ٧]. فبدأ به قبل نوح الذي هو أول الرُّسل فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أول الرُّسل خلقا وآخرهم بعنا فإنه استخرج من ظهر آدم لما صور ونبي حينئذ وأخذ ميثاقه ثم أُعيد إلى ظهره.
ولا يقال : فقد خُلق آدم قبله، لأنَّ آدم حينئذٍ كان مَوَاتًا لا روح فيه ومحمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلّم كان حيا حين استخرج ونبئ وأُخذ ميثاقه فهو أوَّل النبيين خلقا وآخرهم بعنا، فهو خاتم النبيين باعتبار أنَّ زمانه تأخر عنهم».اهـ كلامه وهو نفيس.
إرشاد الطالب النجيب
٤٤٥
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نشأ على التوحيد بل قد يُؤخذ من
٣- أنَّ النبي حديث العرباض أنه ولد نبيًّا.
قال الحافظ ابن رجب : «فإنَّ نُبوته وجبت له من حين أُخذ الميثاق منه حين استخرج من صلب آدم فكان نبيًّا من حينئذ لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرةً عن ذلك، وذلك لا يمنع كونه نبيًّا قبل خروجه كمن يولى ولاية ويؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته وإن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت.
قال حنبل: قلتُ لأبي عبد الله - يعني أحمد - مَن زعم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان على دين قومه قبل أن يُبعث؟ قال: هذا قول سوء، ينبغي
لصاحب المقالة أن يُحذر كلامه ولا يجالس.
قلت له : إنَّ جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة.
قال: قاتله الله، وأي شيء أبقى؟! إذ زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان على دين قومه وهم يعبدون الأصنام قال الله تعالى حاكيًا عن عيسى
حين
عليه السَّلام: وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِى أَسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: ٦] وذكر أ أنَّ أُمَّه ولدت رأت نورًا أضاءت له قصورُ الشَّام أوليس هذا عندما ولدت رأت هذا؟ وقبل أن يُبعث كان طاهرًا مطهّرًا من الأوثان أوليس كان لا يأكل ما ذُبح على النُّصب ؟ » . اهـ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «ومراد الإمام أحمد الاستدلال بتقدم البشارة بنبوته من الأنبياء الذين قبله وبما شوهد عند ولادته من الآيات على أنَّه كان نبيا من قبل خروجه إلى الدنيا وولادته، وهذا هو الذي يدل عليه حديث
٤٤٦
فضائل النبي
العرباض بن سارية فإنه ذكر فيه أن نبوته كانت حاصلة من حين كان آدم منجدلا في طينته والمراد بالمنجدل الطريحُ الملقى على الأرض قبل نفخ الروح
فيه . اهـ
وهذا الكلام في غاية النفاسة لأنه صدر عن الإمام أحمد ومقلده الحافظ
ابن رجب رضي الله عنهما.
بشرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمَّتِينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَنَيْهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [الجمعة: ٢].
وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: ۱۱۰]، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حريص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: ۱۲۸]، وقل سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: ۹۳]، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرِ مِن قَبْلِكَ
الْخُلد أَفَ إِبْن مِّتَ فَهُمُ الْخَلِدُونَ ﴾ [الأنبياء: ٣٤]. وفي الحديث المتواتر: «أنا سيد ولد آدم . وهذا أمر لا يحتاج إلى استدلال؛ لأنه معلوم بالضرورة العقلية، وإنما ذكرته لأبين بطلان الأحاديث المكذوبة التي أمتلأت بها كتب المولد النبوي؛ لأنَّ بعض الناس يتشبثون بها ويعتقدون صحتها وينكرون على من يبين حالها وينبه على إثم من ينسبها إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولا يعرفون أنَّ العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز رواية الحديث
إرشاد الطالب النجيب
٤٤٧
الموضوع، ولا يجوز العمل به في الفضائل والترغيب والترهيب، وأن التساهل
فيه يوجب الإثم الكبير.
بيان الأحاديث المكذوبة
منها: وهو أشهرها، حديث: «أوَّلُ ما خلق الله نور نبيك من نُوره يا جابر». عزاه السيوطي في "الخصائص "الكبرى" لـ"مصنف عبد الرزاق" وقال عنه في "الحاوي" في (سورة المدثر) من الفتاوى القرآنية: «ليس له إسنادُ يُعتمد عليه» وهذا تساهل كبير من السيوطي كنت أنزهه عنه.
أما أولا : فالحديث غير موجود في مصنف عبد الرزاق" ولا في شيء من
كتب الحديث.
وأما ثانيا : فإنَّ الحديث لا إسناد له أصلا.
وأما ثالثا: فإنه ترك بقية الحديث وهي مذكورة في "تاريخ الخميس" للديار بكري ومن قرأها يجزم بأنَّ الحديث مكذوبٌ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
وجاء شخص موريتاني فيلالي من ذريَّة الشيخ محمد بن ناصر الدرعي فألف كتابا سماه "التوجيه والاعتبار إلى معرفة القدر والمقدار" وموضوعه الكلام على النور المحمدي أتى فيه بطامة كبرى حيث قال في أوله: «ومن أدلة سبقيَّته وأصليته حديث الإمام عبد الرزاق في مصنفه" الشهير عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم أحد أعلام المدينة، عن محمد بن المنكدر شيخ الزهري، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: قلت يا رسول الله : بأبي
٤٤٨
فضائل النبي
أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء. قال: «يا جابر، إنَّ الله تعالى خَلقَ قبل الأشياء نور نبيّك مِن نوره...» وذكر بقية الحديث. وقد تعجبتُ من وقاحة هذا الشخص وجرأته حيث صنع هذا الإسناد الصحيح لحديث لا يوجد في مصنف عبد الرزاق" ولا غيره من كتب الحديث المسندة.
وهذه جرأة غريبة تشبه جرأة الخوارج في وضعهم أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو يقول: «مَن كَذَبَ عليَّ فليتبوَّأْ مَقْعَدَه فِي جَهَنَّم» فأجاب: نحن لا نكذب عليه ولكن نكذب له ؟!!
ولعل هذا الموريتاني يعتقد أنه كذب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم!!.
وقد استند صاحب «البردة» إلى هذا الحديث المكذوب حين قال:
فإِنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيا وضَرَّتَها ومِن عُلُومِكَ عِلْمَ النَّوْحِ والقَلَمِ وهذا غلو مذموم لا أصل له ولا دليل عليه وقد أصلحته بقولي: فإنَّ جودَك في الدُّنيا وضرتها وفي كتابك عِلْمَ اللَّوْحِ والقَلَمِ وهو صلى الله عليه وآله وسلم أجود ولد آدم، كان أجود بالخير من الريح المرسلة وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وجوده في الآخرة بشفاعته العظمى وشفاعاته المتعددة، وكتابه القرآن العظيم فيه علوم الأولين
والآخرين. ومنها: حديث: كنت نورًا بين يدي ربي قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام وقد نسب هذا الحديث لرواية علي زين العابدين عن أبيه عن جده
إرشاد الطالب النجيب
وهو كذب مركب.
٤٤٩
ومنها: حديث: «يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الَّذي خلق اللهُ عزَّ وجلَّ نوري أوَّل كلِّ شيءٍ فسجد لله وبقي في سجوده سبعمائة عام ولا فخر. يا عمر أندري من أنا؟ أنا الذي خلق الله القلم واللوح والعرش والكرسي والعقلَ الأَوَّلَ ونور الإيمان من نُوري...»، وكلمة العقل نزعة فلسفية واضحة.
ومنها: حديث الولاك ما خلقتُ الأفلاك» وهذا كذب على الله تعالى أيضًا. ومنها: حديث أوحى الله إلى أني حرمتُ النارَ على صُلب أنزلك وبطن حملك وحجْرٍ كفلك».
ومنها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين ولد أخذته الملائكة وطافت به المشرق والمغرب ثم ردته. ومنها: أنه ولد مختونا ، وهذا كذب، وإنما ختنه جده عبد المطلب يوم سابع ولادته صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
ومنها: حديث المعرفة رأس مالي والحب أساسي والذكر أنيسي والشوق مركبي والعلم سلاحي والزهد حرفتي والحزن رفيقي والعجز فَخْري والصبر
ردائي والرضا غنيمتي واليقين قوتي والطاعة حسبي».
ومنها: حديث «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين».
ومنها: حديث سألتُ جبريل عن عمره؟ قال: لا أدري غير أن نجما يظهرُ في السماء الرابعة مرَّةٌ في كلِّ سبعين ألف سنة رأيته سبعين ألف مرة. قلت:
وربي أنا ذلك النجم».
٤٥٠
فضائل النبي
ومنها ما ذكروا أنَّ أمَّه حين جاءها الطَّلق حضرت عندها آسية امرأة
فرعون وأم موسى وأم عيسى.
والعجب أن السيوطي ذكر في الخصائص الكبرى" ثلاثة آثار في ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ظاهرة الوضع وعقب عليها بقوله: «فيها نكارة شديدة ولم أورد في كتابي هذا أشدَّ نكارة منها ولم تكن نفسي لتطيب
بإيرادها لكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك». اهـ
وفي هذا نظر من وجوه
أحدها: أنَّ تلك الآثار وهي أثر عمرو بن قتيبة عن أبيه، وأثر ابن عباس، وأثر العباس بن عبد المطلب، كذبها واضح، ووصفها بالنكارة الشديدة تساهل
شدید.
ثانيها: أنه ذكر في كتاب "الخصائص الكبرى" أخبارًا موضوعةً سوى هذه الآثار التي أشرنا إليها. ثالثها: أنَّ اتباعه لأبي نعيم عذر غير مقبول أبدا؛ لأنَّ أبا نعيم لم يلتزم الصحة فيما روى، ولأنَّ الطبراني وأبا : وغيرهما ممن يروون الحديث
نعيم
بإسناده يعتقدون أنهم برءوا من عُهدته بإحالتهم على إسناده، والسيوطي لا يروي بالإسناد فيجب عليه تجنب الأخبار الموضوعة، ولا يجوز له أن يتبع أبا
نعيم وأمثاله.
والحقيقة أن السيوطي كثير التساهل إلى حد كبير، يُورد أحاديث في "الخصائص" أو في "الجامع الصغير" نصَّ على وضعها في "اللآلى المصنوعة" أو في "ذيل اللآلي" ولا أدري ما عذره في ذلك، إلا أن يكون عنده شَرَه
إرشاد الطالب النجيب
وشغف بجمع ويغفر له.
ومن
٤٥١
الأحاديث كيفما كان حالها؟ وهذا هو الظاهر والله يسامحه
، الأكاذيب القبيحة التي تؤدي إلي كفر معتقدها، قول بعض جهلة المتصوفة : كان جبريل يتلقى الوحي من وراء حجاب وكشف له الحجاب مرَّة فوجد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يلقي إليه الوحي فقال: منك وإليك. وهذا يردُّه قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الكِتَبُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى: ٥٢].
ومن الكذب القبيح أيضًا في المعراج قولهم : إن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله
وسلم كان راكبًا على البراق وجبريل عليه السَّلام آخذ بركابه.
وهذا قبيح وسوء أدب في حقٌّ مَلَكِ كريم مدحه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّهُ لقولُ رَسُول كريم الذى قوةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينِ ﴾ [التكوير: ١٩ – ٢٠] وجبريل عليه
السَّلام كان راكبًا على البراق والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم خلفه. وقالوا أيضًا: إن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لما وصل إلى سدرة المنتهى
تأخر جبريل عليه السّلام وقال: لو تقدمت لاحترقت. وإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما انفرد في سدرة المنتهى استوحش فسمع صوت أبي بكر فاستأنس.
وهذه عدة أكاذيب لا أصل لها، وجبريل عليه السلام لم يفارق النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في سدرة المنتهى بل كان معه فيها وفي جميع المواضع التي زارها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج، وكان معه حين فرضت
٤٥٢
فضائل النبي :
عليه الصلاة وما فارقه حتى رجع إلى الأرض، ولم يستوحش النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في سدرة المنتهى وكيف يستوحش وهو في حضرة الخالق ويأنس بصوت المخلوق؟ !!
ويقولون أيضًا: كان جبريل خادما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذه قلة أدب في حق رسول عظيم قد فضله بعض العلماء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والواجب أن يكون كلام المسلم عن الأنبياء والملائكة في غاية
الأدب والاحترام، ولا يأتي بكلمة فيها جفوة أو نقص مثل هذه الكلمة.
ومثل قول صاحب "البردة" :
وقدمتك جميع الأنبياء بها والرُّسُلِ تقديمَ تَحـدوم على خَدَمِ وهذا قبيح، والأنبياء إخوة ليس فيهم خادم ومخدوم، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتّى ودينهم واحدٌ» ولما عرج إلى السماء كان كل نبي لقيه في السموات يُحيّيه بقوله: «مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح».
وقد أصلحت هذا البيت بقولي:
وقدمتك جميع الأنبياء بها وأكرموك الفضل فيك من قِدَمِ (تنبيه): جاء في "الخصائص "الكبرى" تحت باب «ذكره في التوراة
والإنجيل ) ( جـا صـ (۳۳) طبع دار الكتب الحديثة بمصر ما نصه : وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَوحَى الله إلى موسى نبيٍّ بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد
إرشاد الطالب النجيب
٤٥٣
بأحمد أدخلته النار. قال: يا رب ومن أحمد ؟ قال: ما خلقت خلقا أكرم على منه كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السموات والأرض، إِنَّ الجنَّةَ محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته. قال: ومَن أمَّتُه؟ قال: الحمادون يحمدون صعودا وهبوطا وعلى كلّ حالٍ، يشدون أوساطهم ويطهرون أطرافهم صائمون بالنَّهار رهبان بالليل أقبل منهم اليسير وأُدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله . قال: اجعلني نبي تلك الأمة. قال نبيها منها. قال: اجعلني من أ ذلك النبي. قال: استقدمت واستأخر، ولكن سأجمعُ بينك وبينه في دار
الجلال».
أمة
وإيراد السيوطي لهذا الحديث أحد الأدلة الكثيرة على شدة تساهله الذي لا يعذر فيه، وقد ذكر السيوطي نفسه هذا الحديث في "الموضوعات". ثم هو لا يوجد في "الحلية"!.
وحديث آخر موضوع ذكره في "الخصائص" تحت ترجمة: «باب ذكره في الأذان على عهد آدم وهو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: نزلَ آدم بالهندِ واستوحش فنزل جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: «الله أكبر الله أكبر»، «أشهد أن لا إله إلا الله» مرتين «أشهد أنَّ محمدا
رسول الله مرَّتين قال :آدم من محمد ؟ قال: آخر ولدك من الأنبياء». وذكر في هذا الباب حديثاً موضوعاً أيضًا، وهو حديث علي عليه السلام قال: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها البراق، فذهب يركبها فاستصعب فقال لها جبريل: اسكني فوالله ما ركبك عبد
٤٥٤
فضائل النبي
أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فركبها حتى انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبريل من هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانًا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خُلقتُ قبل ساعتي هذه. فقال الملك : الله أكبر الله أكبر . فقيل له من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك : أشهد أن لا إله إلا الله. فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدي لا إله إلّا أنا، فقال الملك: أشهد أن محمدًا رسول الله. فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدي أنا أرسلت محمدا، قال الملك: حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة ثم قال: الله أكبر فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر. ثم أخذ الملك بيد محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقدمه فأم أهل السماء، فيهم آدم ونوح».
وقد اختصر منه السيوطي، وهو حديث موضوع في سنده راوِ كذاب تفرد به كما يقول البزار ، وهذا لا يخفى على السيوطي فلا أدري ما أقول؟ وقد قلدناه في بعض الأحاديث ثقة به واعتمدناها ثُمَّ تبيَّن لنا أنها موضوعةٌ، وصرح هو
نفسه بوضعها في "ذيل اللآلي" فتأسفنا غاية الأسف والأمر الله. ويمكن أن يكون ثلث الأحاديث الموجودة في "الخصائص" بين واه
وموضوع، والبقيَّة فيها ضعيفٌ كثير، وطالما دافعنا عنه ولكن أعيانا أمره
ونسأل الله أن يغفر لنا وله.
إرشاد الطالب النجيب
لخاتمة
٤٥٥
في ذكر أحاديث لا أصل لها أو موضوعة: ۱ - «الدين المعاملة». لا أصل له والدين يُبنى على ثلاث دعائم: عبادة
ومعاملة وسلوك.
۲- من عرف نفسه عرف ربه». كلام يحيى بن معاذ الرازي الصُّوفي. - اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا».
- من تعلم لغة قوم أمن مكرهم».
ه - «كلوا وتكلموا، واهدموا الحدود وخالفوا اليهود».
٦ - «تحدثوا على الطعام ولو بثمن أسلحتكم».
من اعتصم بعد النبي كفر».
- «جاءكم الطهور».
۹ - «الوضوء سلاح المؤمن».
۱۰ - «الوضوء على الوضوء نور على نور. ۱۱ - من أكل طعام أخيه ليسره لم يضره .
۱۲ - الناس على دين ملوكهم .
۱۳ - لا تسيدوني في الصلاة».
۱ - اللَّهمَّ اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحا».
١٥ - ليس منا من لم يتعاظم بالعلم».
١٦ - إذا وقفتم في الصَّلاة فلا تَقبِضُوا أيديكم فإنَّ ذلك تكفير اليهود».
٤٥٦
۱۷ - «لكل بلد رؤيته».
۱۸ - من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم». ۱۹ - اتوسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم.
۲۰ - «الولد سر أبيه».
۲۱ - الأدب من الأب والصلاح من الله . ۲۲ - «أُمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر».
۲۳ - «حب الوطن من الإيمان».
٢٤ - «الدنيا جيفة وطلابها كلاب». ٢٥ - الساكت عن الحق شيطان أخرس». ٢٦ - ( لا تكرهوا الفتن فإنَّ فيها حصاد المنافقين». ۲۷ - تركت فيكم أمرين ناطق وصامت». ۲۸ - «جذبةٌ من جَذبات الحقِّ تُوازن عملَ الثّقلين».
۲۹ - «الحمد لله رداء الرحمن».
٣٠ - «الحي أفضل من الميت».
۳۱- خذوا شطر دينكم عن الحميراء».
۳۲- «خير تجارتكم البز، وخير صناعتكم الخز».
۳۳- «القلب بيتُ الرب».
- «قلب المؤمن دليله».
٣٥- «كل طويل اللحية قليل العقل».
٣٦- من تكلم عند الأذان خيف عليه زوال الإيمان».
فضائل النبي
٤٥٧
إرشاد الطالب النجيب
۳۷ - من أسمك فليتمر».
۳۸- من أكل فولة بقشرها أخرج الله منه داءً مثلها». ۳۹- «مَن أكل مع مغفورٍ غُفر له».
٤٠ - من انتهر صاحب بدعةٍ ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا».
٤١ - من آذى جاره ورثه الله داره
٤٢ - قلب المؤمن حلو يحب الحلاوة». ٤٣ - «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور».
٤٤ - ( اقتلوا من لا غَيرة له».
٤٥ - «من قلد عالما لقي الله سالما».
٤٦ - «أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
فهرس الموضوعات
٤٦١
۱۱
۱۱
۱۳
۱۳
الفهرس
فهرس الموضوعات
۱ - دَلَالَةُ القُرْآنِ المبين على أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ العَالَمين
خطبة الكتاب.......
سبب تأليف الكتاب ..
مقدمة .
مكانة القرآن الكريم .
دلالة القرآن على أنَّ النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل المخلوقات إطلاقا،
والرد على مَن فضَّل عليه الملائكة .........
10
عدم القطع بأفضلية الأنبياء على الملائكة وأنَّ هذه مسألة ظنيَّةٌ مُختلف فيها. ١٥ شذوذ من زَعَمَ بأَنَّ سيدنا إبراهيمَ عليه السَّلام أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام..
١٦
مناقشة الشعراني مع شخص من الجامع الأزهـر حــول أفضلية النبي عليـه الصَّلاة والسلام على الملائكة، وذكر رؤية الشعراني للنبي عليه الصلاة والسَّلام تؤيد ما ذَهَبَ إليه.
۱۸
JA.....
من الأسباب التي دعت إلى تأليف الكتاب.. أفضلية النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذات أهمية في الدين؛ لأن تصحيح العقيدة يتوقف عليها، لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه الجهل بالدين أصوله
وفروعه......
الأساس الذي به يتفاضل الرُّسل والأنبياء.
.......
خصال الكمال والمزايا التي وهبها الله للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ..
۱۹
۱۹
۱۹
٤٦٢
فضائل النبي
إثبات المزايا التي شرف الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم واجب
.............
۲۰
ذكر بعض الأحاديث التي دلّ ظاهرها على عدم أفضلية النبي صلى الله عليـه
وآله وسلم والجواب عليها ..
........
۲۱
۲۲
تجلى الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بصفـة العلـم فكشف لـه عـن كـل معلوم، وبناء عليه يكون أعلم من جبريل عليه السَّلام . حديث يرد ما أفاده كلام الغزالي في أواخر كتاب التفكـر مــن "الإحياء" مــن أعلمية الملائكة المقربين على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (ت) . شهادة جبريل عليه السلام بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أفض
الأنبياء............
تنبيه حول حدیث فعرفت فضل علمه بالله علي. ١ - (سورة البقرة) .
جعل الله الإيمان بما أنزل إليه شرطًا في حصول التقوى .
دفاع الله عن صحابة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام.. دفاع الله عن نبيه فيما وُجّه إليه من التهم....
۲۲
۲۳
۲۳
٢٤
٢٤
Yε.........
٢٤
٢٦
۲۷
۲۷
حماية الله لمقام نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام مَن أن يُمَسَّ بسوء ............
الدليل على ضعف حديث: «ألا ليتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَاي؟»
علم إبراهيم وإسماعيل بنبينا وبصفاته
.......
تخصيص الله لأمة حبيبه عليه الصَّلاة والسلام بأن جعلهـم شـهـداء عـلى
الناس .
۲۸
........
٤٦٣
الفهرس حول الله له القبلة تحقيقا لرغبته صلَّى الله عليه وآله وسلم في هذا الأمر .... ۲۸ إخبار الله بأنَّ نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم معروف لأهل الكتاب......... ۲۸ امتنان الله على المؤمنين بأنَّ أرسل إليهم نبيَّه صلَّى الله عليه وآله وسلّم . رد الله على الكفار عند ادعائهم بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليس مرسلًا
من.
عند الله..
الدليل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حي في قبره
۲۹ *****
۲۹
۳۰
ادخار الله تعالى آخر آيتين من سورة البقرة لنبيه عليه الصَّلاة والسلام...... ٣١ تكريم الله لأمة حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم بأن رفع عنهم الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه . ۲ - (سورة آل عمران)...
۳۱
۳۲
قصة نصارى نجران مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول زعمهم بأن عيسى عليه السّلام لا يشبهه أحد من الخلق...
۳۲
رد الله تعالى على زعم اليهود والنصارى بأنهم على دين إبراهيم عليه
السلام...
۳۳
تكريم الله لنبيه بأن أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا به وينصروه إن ظهر في
زمانهم.........
۳۳
الرد على المفسرين الذين قالوا: إنَّ الله أخذ الميثاق على كل نبي في النبي الذي
yupo....
يأتي بعده..... تكريم الله لأمة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام بأن جعلها خير أمة أخرجت للناس،
ثم تكريمه لهم بأن أمدهم بالملائكة عند قتال الكفار
٣٦
٤٦٤
فضائل النبي
تنبيهات : التنبيه الأول: حول إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقتال
الملائكة معه ودفاعها عنه........
۳۸
التنبيه الثاني حول زعم بعض المعاصرين بأن الإمداد بالملائكة إنما هو عبارة عن قوة روحية، والجواب عليه.........
۳۹
التنبيه الثالث: إشارة القرآن إلى أنَّ الإمداد بالملائكة لم يقع لأحد غير نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلّم..
٤٠
جعل الله تعالى اتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم سببا في نيل حُبه
ومَغْفِرته .
٤١
إقران الله تعالى اسمه باسم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في كثير من الآيــات
القرآنية .
٤١
عتاب الله للصحابة (الرُّماه) الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم
يوم أُحد وتركوا أماكنهم ..
٤٤
٤٥
الفوائد المأخوذة من قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ . تبرئة الله لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مِن زَعْمِ المنافقين الذين قالوا: إِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم أخذ قطيفة حمراء فُقدت من غنائم بدير .......... ٤٥ دفاع الله عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم عندما أراد اليهود منه أن يُقدِّم قُربانا
الله يدل على صدقه..
٣- سورة النساء)...
رأي المالكية فيمن طعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم..
من قبائح اليهود حسدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
٤٦
٤٧
......
٤٧٠
..........
٤٨٠
الفهرس
الحكمة من تعدد زوجات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم .
التنويه على وجوب طاعة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم..
٤٦٥
٤٩
۵۱
......
.......
الحكمة في أنَّ الله تعالى أمر عباده بقوله: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ولم
يقل: «وأطيعو الرسول..
٥٢
استغفار الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم سبب في توبة الله على العبد ورحمته
به....
الدليل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم لا يُخطئ.
٥٢
۵۳
كلام ابن عطاء الله السكندري حول تخصيص الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بأن جعل حُكْمَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كَحُكْمِهِ سبحانه وتعالى .
۵۳
....
00
إخبار الله تعالى بعموم رسالة نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم . السر في أنَّ الله حضّ على طاعة رسوله عليه الصَّلاة والسلام ورغب فيها، مع أنه سبحانه وتعالى لم يفعل ذلك مع غيره من الأنبياء.....
٥٥
تنبيه حول الخطاب في قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةِ
فَمِن نَفْسِكَ ..
٥٦
٥٦
المستفاد من قوله تعالى: فَقَيل في سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ .. قصة النصراني الذي سرق درعا ودقيقا من بيت قتادة وخبأهما عند يهودي ٥٦ دليل على آخر على بطلان زعم من قال: بأن النبي يُخطئ .. الحكمة في أمر الله له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالاستغفار .
OV
۵۷
بيان فضل الله عليه وعصمته من محاولة المنافقين بأن يضلوه صلَّى الله عليه وآله
٤٦٦
فضائل النبي
وسلم........
تنبيهات التنبيه الأول حول جواز اجتهاده صلَّى الله عليه وآله وسلّم .
التنبيه الثاني: حول قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ الله .
۵۸
۵۸
....
۵۹
سؤال مشركوا مكة لليهود عن صفات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.... ٦١ توعد الله لليهود الذين أنكروا نبوّته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم .
٤ - (سورة المائدة).
تشريف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بأن أكمل له ولأمته الدِّين . الدليل على أن بعثته صلى الله عليه وآله وسلَّم ناسخةٌ لجميع الأديان .
تقسيم العلماء لما في كتب اليهود والنصارى إلى ثلاثة أقسام .
٦١
٦١
٦٢
٦٢
٦٣
.....
حكم نقل المواعظ والرقائق من كتب اليهود والنصارى .. النور من أسماء الله تعالى سمَّى به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تشريفا لــه
وتعظيمًا.
٦٣
كثرة أسمائه صلَّى الله عليه وآله وسلّم تدل على شرف المسمى ونباهة قدره، إذ كل اسم منها يُنبئ عن ناحية من نواحي العَظَمَةِ فيه صلى الله عليـه وآلـه
٦٣
وسلّم.. تسلية الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم عن مسارعة المنافقين إلى إظهار الكفر
الذي يُبطنونه .
٦٤
TE....
نداء الله لنبيه باللقب المشعر بالتعظيم له عليه الصَّلاة والسَّلام . حراسة الله وعصمته لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من أن يناله أحـــد
بمكروه......
٦٥
الفهرس
٤٦٧
تنبيهات التنبيه الأول حول تعبير الحق سبحانه وتعالى بقوله:
يعصمك .
77
التنبيه الثاني: حول قول مستشرق ألماني ( تركُ محمد للحراسة مع تخوفه من المشركين واليهود اعتمادًا على هذه الآية دليل على صدقه ....
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بحاجةٍ إلى من يشهد له . يوم
بالبلاغ.
ه - (سورة الأنعام)..
77.....
القيامة
TV.........
TA..............
TA......
۷۰۰۰۰۰
من دلائل عناية الله بنبيه رد ما يورده عليه المشركون وأهل الكتاب .......٦٨ الدليل على خُسران منكر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ولو كان مؤمنا بموسى وعيسى عليهما السّلام. حفظ الله لأمة حبيبه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مِن أن يُنزل عليهم البلاء والوباء كالأمم السابقة.. أعظم المعجزات وأوضحها دلالة: القرآن الكريم، لأنَّ الخوارق في الغالب مغايرة للوحي الذي : تلقاه النبي، وتأتي المعجزة شاهدة، والقرآن هو نفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز، فدلالته في عينه ولا يفتقر إلى دليل أجنبي عنه، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه (ت) . طلب المشركون من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يجعل بينه وبينهم حَكَما
من أحبار اليهود أو أساقفة النصارى .
نكتة حول قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الكِتَبَ .
نكتة حول قوله تعالى : الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ .
VI...........
VY.........
VY........
۷۳۰۰
٤٦٨
فضائل النبي
٦- (سورة الأعراف)....
۷۳۰
الدليل على أنَّ ما أحله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أو حـرمـه يجب
التزامه ..
تسمية الله للقرآن بالنور دليل على إشراقه وسماحة تعاليمه..
VY.........
Vε.....
المعجزة المادية المتحققة في وصف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم
Vo.........
بـ«الأُمي». دفاع الله عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم يوم أن وصفه أهل مكة بالجنون عندما صعد إلى الصفا من أجل أن يدعوهم إلى الإيمان ..................٧٥ ٦- سورة الأنفال)..
V......
أخذ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الحصى ورماه في وجه الكفار يوم بدر فأصابت عيونهم جمعيًا وشغلتهم . عناية الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلّم وعصمته من الكفار الذين أراد قتله
V..........
VA......
بضربة رجل واحد . سنة الله في إهلاك المكذبين الذين تحدوا رسله ولما بُعث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم رفع الله القذف والمسخ والخسف وسائر أنواع العذاب التي عَذَّب بها الأمم السابقة إكراما له، وجعل وجوده عليه الصَّلاة والسَّلام مانعا من نزول العذاب بأمته رغم طلبهم له ورفع ذلك وعدم الأخذ به مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم.. العلة في عدم تأكيد النفي في جانب استغفارهم، وأكد بلام الجحود في جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم .
VA..........
A......
الفهرس
٤٦٩
إحلال الغنائم لأمة حبيبه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهذا مما فُضّل به نبينا صلى الله
عليه وآله وسلَّم على الأنبياء........
٨- سورة التوبة.....
۸۰
A.......
توبيخ الله وإنكاره على الذين تباطؤوا عن الجهاد ودعوة النبي صلى الله عليه
A........
AT.......
وآله وسلم لهم ... فضح الله لأمر المنافقين الذين تكلموا في حقٌّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلام لا يليق .. كلام نفيس جدا للزمخشري في قوله تعالى: هُوَ أذن (ت) .........۸۳ العيب في النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم جعله الله بابا من أبواب الكفر ....٨٤ اختصاص الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلّم بإعلامه مكائد أعدائه له .....٨٥ ما نزل في قبيلتي مزينة وجهينة من الآيات التي تمدحهم، وإفادة أنَّ دعاءه عليه الصَّلاة والسلام مسموع عند الله سماع قبول. معاتبة الله لأهل المدينة وما حولها من الأعراب عندما تخلفوا عن تبوك .....٨٦ الواجب على المؤمنين تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم............٨٦
۹ - سورة يونس ....
AO......
AV.........
رد الله على المشركين الذي كذَّبوا بالقرآن وزَعَموا أنه مفترى و تنويع ا الله
للتحدي بالقرآن .
.......
١٠ - سورة الرعد..
AY...........
AA........
رد الله على أهل الكتاب الذين عابوا على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كثرة
الزوجات......
AA.......
٤٧٠
فضائل النبي
تأرق النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من دراهم نسيها ولم ينفقها، فأي زهد
يوازي هذا أو يُقاربه ؟!....
19..........
رد الله تعالى على الكفَّار والمشركين الذين أرادوا من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أن يأتيهم بكل ما يطلبوه .نه.......
١١- سورة الحجر .
19..........
۹۰
تولی الله حفظ كتابه من التبديل والتحريف وفي هذا تكريم لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بدوام معجزته وخلود شريعته .
تنبيه: حول استدلال ابن حزم بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحفظون على حفظ السنة ..
41.......
تشريف الله لنبيه بأن أقسم بحياته صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعل ذلك مع نبي أو رسول أو ملك.....
AY........
أقسم الله بالشمس والقمر والنجم والضحى والنهار والليل ونحو ذلك، فهل هذا يُقلّل من قيمة القسم بنبيه عليه الصَّلاة والسَّلام ؟
رأي الإمام أحمد في القسم بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم .
١٢ - سورة النحل .
9.
4ε.......
40......
الدليل على إبطال نحل المبتدعة الذين يردون ما صح عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في تفسير بعض ما أبهمه القرآن ........
الشبه
40.........
التي زعم الكفار بسببها أنَّ القرآن مفترى: «وجود الناسخ
من
والمنسوخ فيه.
47.......
إبطال دعوى الكفار بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخذ القرآن من حدادٍ
الفهرس
رومي....
٤٧١
9V.......
9A.......
۱۳ - سورة الإسراء.........
من المعجزات التي أكرم الله بها حبيبه صلى الله عليه وآله وسلَّم معجزة الإسراء
والمعراج.
9A........
الدليل على أنَّ الإسراء كان في اليقظة حقيقة لا جولة روحية ولا رؤيا
منامية.......
99......
تكذيب من ادعى بأنَّ السيدة عائشة لم تفتقد جسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أن أسري به ..
الرؤيا في رحلة الإسراء منامية أم بصرية بالعين..
11....
1.\......
من الدلالات التي تؤكد على أنه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وأنَّ
أمته خير الأمم.......
...........
...............
من خصائص الأمة تعبد الملائكة بحضور الصَّلاة معنا. منة الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم بإنزال القرآن وحفظه من
التبديل .
1.E..........
تسلية الله لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلم وتسجيل بعثتة ونزول كتابه في الكتب
السابقة .
1.0..
تنبيه حول عبارات الذم والمدح لأهل الكتاب في القرآن................. ١٠٥
1.7.....
١٤ - سورة الكهف.. التنويه على أنَّ إنزال القرآن من أعظم النعم، وأنه أجل الكتب السماوية ..١٠٦
١٥- سورة مريم ......
1.7.........
٤٧٢
فضائل النبي :
الآية التي أنزلها الله تعالى يحكي اعتذار جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا بيان عِظَم قدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من
وجوه ...
استدلال الزمخشري بقوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ على تفخيم شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم .
١٦ - سورة طة..
1.V........
1.V...........
عناية الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم ينزل عليه القرآن من أجل أن
يشقى ويتعب نفسه .
۱۰۷.....
خطاب الله اللطيف المشعر بأنه صلَّى الله عليه وآله وسلّم حبيب رب العالمين، الله
وأنه أفضل الخلق أجمعين....
V...........
صلاته صلى الله عليه وآله وسلَّم مأمور بها ليرضى هو، لا ليُكَفِّر الله عنه
سيئاته .
١٧ - سورة الأنبياء .
1A.....
۱۰۹۰۰۰۰۰
الدليل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أُرسل إلى الملائكة ...........
۱۱۳۰۰۰۰
۱۸ - سورة الحج .... من تفضيل الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم أن جعل دينه سهلًا واختيار أُمته
على سائر الأمم. ۱۹ - سورة المؤمنون.
11.....
11..........
........
دفاع الله عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم باستفهامه وإنكاره على كفار قريش يوم خالفوا ما علموه من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمانته ..۱۱۳
الفهرس ۲۰ - سورة النور........
٤٧٣
118......
11.........
تبرأة الله لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والدلالة على شدَّة عناية الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلّم. تولى الله سبحانه وتعالى تبرأة السيدة عائشة ولم يجعل تبرأتها تأتي من طريق صبي ولا نبي كما فعل مع سيدنا يوسف والسيدة مريم عليهما السلام ....١١٦ تنبيه حول اتخاذ المستشرقين من حادثة الإفك مَعْمَزًا يعيبون به النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم......... إخبار الله تعالى بأن الهداية في طاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم ۱۱۹ عظم الجناية في ترك مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بغير إذنه . ١٢٠ نهي الله تعالى عن مناداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه المجرد ....۱۲۱
۲۱ - سورة الفرقان .
......
۱۱۸۰۰۰۰۰
۱۲۲....
من الأدلة الدالة على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم مرسل إلى الإنس
والجن ..
۱۲۲....
۱۲۳۰
تكفل الله تعالى بالرد والدفاع عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم.. تعظيم الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعله رسولا إلى العالم كله..۱۲۳
۲۲ - سورة الشعراء.. إشفاق الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته إياه عليه الصلاة
والسلام بأن لا يقتل نفسه عماً لأجل أن يؤمنوا..
مدح القرآن وبيان منزلته والمنزَّل عليه .
۲۳ - (سورة النمل) .
.........
IYE...............
IYE........
IYO........
٤٧٤
فضائل النبي
رد الله على المشركين لقولهم في النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وفي القرآن ١٢٥
٢٤ - (سورة القصص ) .
١٢٥ .........
IT......
وعد الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بالعودة إلى بلده التي يحبها ....... ١٢٥ ٢٥ - سورة العنكبوت... إقامة الحجة على اليهود الذين أنكروا نبوته صلى الله عليه وآله وسلّم.....١٢٦ ٢٦- سورة الأحزاب).... وجوب تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وإيثاره على النفس .........١٢٦ الحكمة في تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على الأنبياء في أخذ
الميثاق .
IPT........
۱۲۷......
عناية الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم ومن معه من الصحابة يوم
الخندق .
IYA.........
طهارة أهل بيت النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الرجس؛ لأنَّ الله لما بين تكريم نسائه بين تكريم أولاده وعصبته فجمع له الفضل من جميع أطرافه
.....
۱۲۹.......
عليه الصَّلاة والسلام. تعليق لا بن القيم في غاية الحسن ونهاية الإجادة على قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
1.......
أمرهم (ت)... تسمية الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء تدل على رفعة قدره وعلو مكانته فسماه «سراجًا منيرًا) .
ITY.........
الزواج بلفظ الهبة ومن غير صداق من خصوصياته عليه الصَّلاة والسَّلام ١٣٢
الفهرس
٤٧٥
ذكر عدة أشياء من حقوق النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على أمته ......۱۳۲ تنبيه حول الأدب الذي أدب الله به الثقلاء.
......
ITE.........
تشريف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بأن أخبرنا عن نفسه أنه سبحانه وتعالى يُصَلِّي على نبيه وكذا ملائكته، كما أمرنا بالصَّلاة على نبيه صلى الله عليه
١٣٤٠٠٠٠
وآله وسلّم.. تنبيه: حول أنَّ جميع الملائكة بمختلف وظائفهم يصلون جميعا على النبي
صلَّى الله عليه وآله وسلّم..
۲۷ - (سورة سبأ ...
مما يفيد عموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلّم .
۲۸ - (سورة فاطر) .
........
١٣٥.
1......
I.....
ITV..........
تسلية الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بنعيه على قريش سوء تلقيهم لآيات الله
وتكذيبهم بها .
۱۳۷۰۰۰۰۰۰
اصطفاء الله تعالى لأمَّة حبيبه صلَّى الله عليه وآله وسلم بأن أورثهم
الكتاب........
تنبيه حول
أنَّ
ITA...........
عصاة المسلمين لا يدخلون النَّارَ وأنَّ مالهم الجنة .........١٣٩
۲۹ - (سورة يس ) .
19.......
رد الله تعالى على الكفار وإقسامه على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من المرسلين، والحكمة من التأكيد بقول الله تعالى : عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۱۳۹۰ تسلية الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعد تكذيب وإذاء وجفاء المشركين
١٤٠.....
.........J
٤٧٦
۳۰ - (سورة الصافات).
فضائل النبي
١٤٠
تسلية النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم والتنفيس عنه بأن دعاه بالإعراض عن
قولهم واستهزائهم به، وأن الله سوف ينصره عليهم قريبًا .
تسلية بعد تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد
۳۱- (سورة الزمر ) .............
18+..........
181.........
121.....
الرد على قول الكفار الذين قالوا بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُعَلِّمُه
بشر.
۳۲- سورة الشورى).
فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم على أولي العزم.
۳۳ - (سورة الزخرف) .
.......
\E\..........
121.......
١٤١.....
1EY.........
تسلية الله لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم وتوعده للكافرين الذين لم
يُصدقوه .
٣٤- (سورة الأحقاف)...
من خصوصياته صلى الله عليه وآله وسلَّم إرساله إلى الجنّ ..
1EY.....
١٤٣٠
1εr........
1εT.........
٣٥- سورة القتال) .
الإيمان والعمل الصالح لا يقبلان إلا بعد التصديق والإيمان بالنبي صلى الله
عليه وآله وسلم........
١٤٣٠
أمر الله لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلّم بالتحدث بنعمة الله عليه بعصمته من
الذنوب، وتشريف الأمَّة باستغفار نبيها لها..
٣٦- (سورة الفتح)..
1εE.......
1εε.....
الفهرس
٤٧٧
إنعام الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم بالفتح الظاهر بنزول سورة الفتح
التي تؤيد هذا، وذلك بعد الحديبية .
......
1εε........
وصف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم بالرسالة والشهادة والبشارة
والنذارة .
120....
.......
120.....
مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مبايعة الله سبحانه وتعالى . تسجيل شهادة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول، وتسجيل صفات أصحابه في التوراة والإنجيل.
187........
تنبيه: حول نصرة الله لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلّم بالظاهر والباطن ....١٤٦
۳۷- (سورة الحجرات) .
........
النهي عن التقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بقول أو فعل واعتبار التقدم بين يديه تقدما بين يدي الله سبحانه وتعالى..
187.........
١٤٧٠
حرمة رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وحرمة الجهر بالكلام حين مناجاته...... نهي عمر بن الخطاب عن رفع الصوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل السيدة عائشة عندما كانت تسمع دقا في البيوت المجاورة
للمسجد..
1EV......
تنبيهات التنبيه الأول حول أنه ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة....
YEV.......
التنبيه الثاني: حول الإعلام بعزّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشرف
منزلته...
1EA.........
٤٧٨
فضائل النبي
التنبيه الثالث حول نهي الإمام مالك لأبي جعفر المنصور أن يرفع صوته في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم ، وتوجيهه له باستقبال المواجهة
الشريفة عند الدعاء ....
.......
YEA............
توجيه الذم إلى وفد بني تميم الذين جاؤوا وقت الظهيرة فنادوه غير مراعين
راحته صلَّى الله عليه وآله وسلّم..
۳۸ - سورة النجم .
.......
129........
101....
نفي الضلال عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم والإشارة إلى أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يُهتدى به كما يُهتدى بالنجم .
101........
الدليل على تزكية علمه صلى الله عليه وآله وسلم، ورؤيته لجبريل على صورته
الأصلية.
١٥٢.......
........
ما يفيد بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم رأى جبريل على صورته الأصلية
١٥٣.
١٥٣.
مرة أخرى ومكان حصول هذه الرؤية.. مؤكدات المعراج الذي تحدَّث عنه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.. تنبيهان التنبيه الأول حول مخالفة تأويل المفسرين للرؤية في الآيات المذكورة
على رؤية الله تعالى........
التنبيه الثاني: حول قصة الغرانيق .
۳۹ - (سورة القمر)..
انشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
100........
100.......
10%.......
107.......
الرد على من أنكر انشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .........١٥٦
الجواب على قول من قال: لو وقع الانشقاق لنقل متواترا، واشترك أهل
الفهرس الأرض في رؤيته، ولم يختص به أهل مكة..
٤٧٩
10A........
تنبيه حول أنَّ انشقاق القمر آيةٌ عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات
الأنبياء......
٤٠ - (سورة الرحمن).
...
109......
109.......
من أدلة إرسال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم توجيه البشارة والإنذار إلى
الثقلين......
٤١ - (سورة المجادلة) .
109...........
109..........
أمر الله للمسلمين بأن لا يكثروا من المسائل على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم......... ٤٢ - (سورة الحشر).
٤٣ - (سورة الصف) .
17...
17..
171........
الدليل على أن عيسى عليه السَّلام بشر بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم . لطيفة حول خديعة أحد القسيسين لمن توسم فيه الجهل بالمسائل الدينية . ١٦١
الحكمة من تكرار قوله تعالى: هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ...... ٤٤ - (سورة الجمعة) .
١٦٣
........
١٦٣٠
الدليل على استمرار بعثته صلَّى الله عليه وآله وسلم وفضل الصحابة .....١٦٣
٤٥ - (سورة المنافقون).
دفاع الله عن الصحابة الذين هاجروا إلى المدينة..
17........
17.......
دفاع الله عن صحابة نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم عندما قال المنافقون: لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها . الأل
ITE.........
٤٨٠
فضائل النبي
تنبيه: حول قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ) الآية .
٤٦ - (سورة الطلاق).
١٦٤٠
ITE.......
تخيصص النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بالنداء، وتعميم الخطاب في قوله
تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ في أول سورة الطلاق
٤٧ - (سورة التحريم)...
١٦٤......
١٦٥ ...
الدليل على أن الله تعالى اعتنى بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم عناية لم يرق إليها
رسول ولا مَلَك.
١٦٥........
٤٨ - (سورة القلم).
177.......
نفي الجنون الذي زعمه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم
وإقسام الله على ذلك .
جميع
177.....
حسنات المؤمنين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبينا صلى الله عليه وآله
وسلّم..
أعظم ما مدح به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم...
٤٩ - (سورة الحاقة) .
177........
١٦٧........
17A........
إقسام الله تعالى بالأشياء كلها على أن ما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلّم
رسالة من عند الله ..
٥٠ - (سورة الجن ) .
17A......
179.........
الإخبار بسماع الجن للقرآن ومدحهم له وإيمانهم به واجتماعهم بالنبي صلى الله
179....
عليه وآله وسلّم.. التعجب من زعم بعض المبتدعة الذي قال : بأنه لا يوجد دليل قطعي على
الفهرس
٤٨١
إرسال النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الجنّ..
١٦٩........
اعتراف الجن المؤمنين بأنهم كانوا يسترقون السمع قبل بعثة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وأنهم منعوا بعدها ..
٥١ - (سورة المزمل ) ..
٥٢ - (سورة المدثر ) ..
٥٣ - (سورة القيامة)..
۱۷۰۰۰
۱۷۰........
WV.........
۱۷۲.......
الحق عز وجل لا يحب لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجهد نفسه بقراءة ما
يلقيه عليه جبريل . ٥٤- سورة عبس)...
۱۷۲۰
۱۷۲.....
عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم على ما حدث منه صلى الله عليه وآله وسلم تجاه ابن أم مكتوم وأن هذه المعاتبة إنما هي معاتبة محبة ومودة .....۱۷۲
تأويل آخر لقوله تعالى : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى .
درجة الحديث الوارد في قصة ابن أم مكتوم.
٥٥- (سورة التكوير ............
.
۱۷۳.۰۰۰
IVE.........
IVE.........
IVE......
رد الله تعالى على قول المشركين إنما يعلمه بشر . نفي الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تهمة الجنون ............. ١٧٤ وَهِمَ الزمخشري حينما فهم أن الآيات جاءت من أجل تبين أفضلية جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قول الله تعالى: ﴿ قُل لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إني ملك ﴾ [الأنعام: ٥٠] لا يدل على أفضلية الملائكة على النبي صلى الله عليه
IVO......
٤٨٢
وآله وسلم (ت) ...
٥٦ - سورة البروج.
فضائل النبي
IVO.....
IV.......
الدليل على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم هو الشاهد والمشهود يوم
القيامة.
٥٧ - (سورة البلد ) .
IV.....
۱۷۷۰۰۰۰۰۰۰
إحلال مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم يوم فتحها ...............۱۷۷
رأي آخر في قوله تعالى: وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ .. التعجب من حالهم في عداوته صلَّى الله عليه وآله وسلّم..
.......
۱۷۷۰۰۰۰۰۰۰
۱۷۷۰۰۰۰
تنكير الإقسام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم دليل على تعظيمه ....۱۷۷
٥٨ - (سورة الضحى).
IYA........
إقسام الله تعالى على أنه ما ترك حبيبه صلَّى الله عليه وآله وسلم ومـا
أبغضه .
IVA......
ما أعده الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكرامات والعطايا في
الآخرة...
۱۷۸....
بيان من الله بأنَّ حاله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الآخرة أعظم وأجل، وهو
السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله .
.......
IYA.............
وعد الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعطيه فيرضيه ...............۱۷۹
معنى قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى ..
أمر الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحدث أمته بما أنعم الله عليه ...۱۷۹
٥٩ - (سورة ألم نشرح)..
۱۸۰۰۰۰
الفهرس
٤٨٣
شرح الله صدر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليسع مناجاة الحق ودعوة
الخلق..
رفع الله تعالى لذكر نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم..
۱۸۰.......
۱۸۰.......
تنبيه حول أن من عَبَدَ الله تعالى مع عدم تصديقه برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فهو كافر ..
......
٦٠ - (سورة البينة) .
۱۸۰۰
JAY.........
حسد وإنكار الكفَّار من أهل الكتاب على بعثة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم.....
٦١ - سورة الكوثر ..
۱۸۱.......
۱۸۲......
تكريم الله لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأن أعطاه نهر في الجنة اسمه
الكوثر.
۱۸۲.۰
رد الله تعالى على قول المشركين بتر محمد حين مات أبو القاسم ابن النبي
صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
٦٢ - سورة النصر .
۱۸۳۰۰۰۰۰ TAE.........
البشرى التي ساقها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة
النصر..
IAE.........
٦٣ - سورة المسد ) ..
العِلَّة في إنزال سورة المسد.....
١٨٤٠٠
IAE........
كراهة قراءة (سورة المسد) في الصلاة لا أصل له (ت) ..................١٨٤
٦٥،٦٤ - سورتا المعوذتين ..
1A0.......
٤٨٤
فضائل النبي
لجوء اليهود إلى السحر من أجل محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ...١٨٥
خاتمة ...
۱۸۷......
الخصائص التي اقتضت أفضليته على الأنبياء والمرسلين والملائكة .......۱۸۷ دفاع الله عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم بمختلف الأساليب ...........۱۸۷ دفاع الله عن صحابته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وإعطاء أمته الخصائص ا
فضَّلهم بها على سائر الأمم..
التي
TAA..........
٢- الأحاديث المتتقاةُ فِي فَضَائِلِ رسول الله و
المقدمة .....
۱ - حديث: «مَتَى وَجَبَتْ النُّبُوَّةُ»..
190....
197..............
جعل الله نبيَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فاتحا لخلق الموجودات، وخاتما لظهور
النبوات..
14V.....
تنبيه حول زعم زكي مبارك أنَّ الصوفية تغالوا في كون النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أول المخلوقات.
۲ - حديث: «مَتَى كُنْتَ نَبِيَّا».
19A........
199.....
الرد على زَعْمِ بعض العلماء بأنّ المراد بالخلق: التقدير لا الإيجاد، أي: كنتُ
أولهم في التقدير ..
فائدة حول المقصود بقولهم: «الحافظ».
1
فائدة: حول شيخ البيهقي أبو الحسين ابن بشران..
Y.......
Y......
.........
ذكر المسائل التي اشتملت عليها رواية: «لما خَلَق الله الأرض.... ........۲۰۲
من الأدلة على جواز التوسل بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
....
۲۰۲۰
الفهرس
٤٨٥
الرد على الذهبي الذي قال عن حديث توسل آدم: بأنه موضوع .
تنبيه حول قوله : وخَلَقَ العَرْش)) .
۳- حديث: «خرجتُ من نكاح ولم أخرُجُ مِنْ سِفاح .
۲۰۳۰۰
۲۰۳۰
YE..........
طهارة نس